أصول الفقه لابن مفلح التقليد
العمل بقول غيرك بلا حجة.
مأخوذ من التقليد لغة (1): وضع شيء بعنقه محيطًا به، وهو
القلادة، فكأنه يُطوِّقه إِثم ما غشه أو كتمه.
فالرجوع إِلى الإِجماع، والعامي إِلى المفتي، والقاضي إِلى
العدول (2): ليس بتقليد؛ لقيام الحجة عليها، قال الآمدي (3):
وِإن سمي تقليدا عرفا فلا مشاحة في اللفظ.
قال بعض أصحابنا: المشهور أن أخذ عامي بقول مفتٍ تقليد.
قال في التمهيد (4): المفتي غير معصوم (5)، والتقليد حقيقة
للشر، فهذا الفرق، وإلا فهما سواء (6).
وقد نقل أبو الحارث (7): من قلد الخبر رجوتُ أن يَسْلم.
......................
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة 5/ 19 - 20، والصحاح/ 527.
(2) نهاية 243 ب من (ب).
(3) انظر: الإحكام للآمدي 4/ 221.
(4) انظر: التمهيد 2/ 269. نسخة جامعة الإِمام.
(5) بخلاف قول الرسول والإِجماع.
(6) يعني: من حيث يجب على العامي الرجوع إلى العالم، كما يجب
على العالم الرجوع إِلى قول الرسول وإلى الإِجماع.
(7) انظر: المسودة/ 462.
(4/1531)
والمفتي (1): العالم بأصول الفقه وما يستمد
منه والأدلة السمعية مفصلة واختلاف مراتبها -كما سبق (2) - أي:
غالبا، ذكره جماعة من أصحابنا وغيرهم.
وفي الواضح (3): يجب معرفة جميع أصول الفقه وأدلة الأحكام.
قال أصحابنا وغيرهم: يجب أن يحفظ من القرآن ما يتعلق بالأحكام،
وذكره في الواضح (4) عن المحققين، وأن كثيرا من العلماء أوجب
حفظ جميعه.
قال أصحابنا: ويعرف المجمع عليه والمختلف فيه. ولم يذكره في
التمهيد (5) وغيره.
واعتبر بعض أصحابنا وبعض الشافعية: معرفة أكثر الفقه.
والأشهر: لا؛ لأنه نتيجته.
والمستفتي: إِن كان مجتهدًا أو محصلاً لعلم معتبر للاجتهاد فقد
سبق (6)، أو عاميًا.
__________
(1) انظر: العدة/ 249 ب، والإِحكام للآمدي 4/ 222.
(2) في هذا الكتاب.
(3) انظر: الواضح 1/ 85أ.
(4) انظر: المرجع السابق 1/ 57 ب.
(5) انظر: التمهيد 2/ 267. نسخة جامعة الإمام.
(6) في ص 1469، 1515 وما بعدها.
(4/1532)
والمستفتَى فيه: المسائل الاجتهادية. (1)
مسألة
لا يجوز التقليد في معرفة الله والتوحيد والرسالة، ذكره القاضي
(2) وابن عقيل (3) وأبو الخطاب (3)، وذكره عن عامة العلماء.
وأجازه العنبري (4) وغيره وبعض الشافعية (5) (6)، وسمعه ابن
عقيل (7) من أبي القاسم بن التبان (8) المعتزلي، وأنه يكفي (9)
بطريق فاسد، وأن قوما من أهل الحديث والظاهر (10) أوجبوا
التقليد فيما لم يُعلم بالحس، وأبطلوا
__________
(1) نهاية 164 ب من (ظ).
(2) انظر: العدة/ 183أ، والمسودة/ 457.
(3) انظر: المسودة/ 457.
(4) انظر: اللمع/ 73، والتبصرة/ 401، والإحكام للآمدي 4/ 223.
(5) انظر: المعتمد/ 941.
(6) نهاية 244 أمن (ب).
(7) انظر: المسودة/ 457، 458.
(8) هو صاحب أبي الحسين البصري شيخ المعتزلة، وهو أحد شيوخ ابن
عقيل الحنبلي الذين أخذ علم الكلام عنهم.
انظر: العبر 4/ 29، ومعرفة القراء الكبار 1/ 380، وذيل طبقات
الحنابلة 11/ 42، والمنتظم 9/ 212 وهو فيه: ابن البيان. وفي
المسودة/ 457: ابن البقال.
(9) يعني: معرفة الله.
(10) في (ب): والظاهرية.
(4/1533)
حجج العقول، واحتج أحمد بها وعامة الفقهاء
والأصوليين.
وظاهر خطبته في الإِرشاد: جوازه.
وفي شرح المنهاج (1) لمؤلفه -عن الفقهاء-: يجوز مطلقًا؛ لأنه -
عليه السلام - لم يسأل أحدا أسلم.
وأطلق الحلواني (2) وغيره (3) -من أصحابنا وغيرهم-: منع
التقليد في أصول الدين.
لنا: أَمْره -تعالى- بالتفكر والتدبر والنظر.
وفي صحيح (4) ابن حبان: لما نزل في آل عمران: (إِن في خلق
__________
(1) لعله يعني: شرح "منهاج الوصول إِلى علم الأصول" للبيضاوي،
فإِن مؤلفه -وهو البيضاوي- قد شرحه. والمنهاج مطبوع، والشرح لم
أجده.
والبيضاوي: هو أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمَّد الشافعي،
فقيه أصولي مفسر عالم بالعربية، توفي سنة 685 هـ
من مؤلفاته: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ومنهاج الوصول إِلى
علم الأصول، وشرحه، والإِيضاح في أصول الدين. انظر: طبقات
المفسرين للداودي 1/ 242، وبغية الوعاة 2/ 50، وطبقات الشافعية
للسبكي 8/ 157، وشذرات الذهب 5/ 392.
(2) انظر: المسودة/ 457.
(3) نهاية 466 من (ح).
(4) في الرسالة المستطرفة / 20: وهو المسمى بالتقاسيم
والأنواع، وترتيبه مخترع ليس على الأبواب ولا على المسانيد،
والكشف عنه عسر جداً، وقد رتبه على الأبواب الأمير علاء الدين
الفارسي، المتوفى سنة 739 هـ، وسماه: الإِحسان في تقريب صحيح
ابن حبان.
(4/1534)
السماوات) -الآيات- (1) قال: (ويل لمن
قرأهن ولم يتدبرهن، ويل له، ويل له) (2).
والإِجماع على وجوب معرفة الله تعالى، ولا تحصل بتقليد؛ لجواز
كذب الخبر واستحالة حصوله لمن (3) قَلَّد (4) في حدوث العالم
ولمن (5) قَلَّد في قِدَمه، ولأن التقليد لو أفاد علماً: فإِما
بالضرورة -وهو باطل- أو النظر، فيستلزم الدليل، والأصل عدمه،
والعلم يحصل بالنظر، واحتمال الخطأ لعدم تمام مراعاة القانون
الصحيح.
ولأنه ذم التقليد بقوله: (إِنا وجدنا آباءنا على أمة) (6)، وهي
فيما يطلب العلم، فلا يلزم الفروع.
ولأنه يلزم الشارع؛ لقوله: (فاعلم أنه لا إِله إِلا الله) (7)،
فيلزمنا،
__________
(1) سورة آل عمران: الآيات 190 - 195.
(2) أخرجه ابن حبان -في صحيحه- وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا
في التفكر، وابن المنذر، وابن مردويه، والأصبهاني في "الترغيب"
وابن عساكر عن عطاء عن عائشة مرفوعًا. فانظر: الدر المنثور 2/
110 - 111، وتفسير ابن كثير 1/ 440 - 441، وفتح القدير 1/ 412.
(3) في (ب): كمن.
(4) في (ح): قلده.
(5) في (ب): وكمن.
(6) سورة الزخرف: آية 22.
(7) سورة محمَّد: آية 19.
(4/1535)
لقوله: (فاتبعوه) (1).
قالوا: لو وجب لما نهى - عليه السلام - ناسا من أصحابه عن
الكلام في القدر.
رد: رواه الترمذي (2) من حديث أبي هريرة من رواية صالح المري
(3)، وهو ضعيف.
__________
(1) سورة الأنعام: آية 153، 155. وفي سورة الأعراف: آية 158
(واتبعوه). ولعل ما في الأعراف هو المراد؛ لأن المقصود -هنا-
اتباع الرسول.
(2) أخرجه الترمذي في سننه 3/ 300، وقال: غريب لا نعرفه إِلا
من هذا الوجه من حديث صالح المري، وصالح له غرائب يتفرد بها.
قال: وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس. قلت: أما حديث عمر فأخرجه
أبو داود في سننه 5/ 84، 91 مرفوعاً بلفظ: (لا تجالسوا أهل
القدر ولا تفاتحوهم). وأخرجه أحمد في مسنده 1/ 30، وابن حبان
في صحيحه (انظر: موارد الظمآن/ 451)، والحاكم في مستدركه 1/ 85
وسكت عنه. وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه في سننه/ 33
مرفوعاً بلفظ: (من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة،
ومن لم يتكلم فيه لم يسأل عنه). وفي الزوائد: إِسناد هذا
الحديث ضعيف.
وأما حديث أنس فأخرجه الترمذي وابن ماجه. فانظر: تحفة الأحوذي
6/ 336.
(3) هو: أبو بشر صالح بن بشير البصري، زاهد واعظ، روى عن الحسن
وابن سيرين وغيرهما، توفي سنة 173 هـ. ضعفه ابن معين
والدارقطني، وقال أحمد: هو صاحب قصص؛ ليس هو صاحب حديث، ولا
يعرف الحديث. وقال الفلاس: منكر الحديث جداً. وقال النسائي:
متروك. وقال البخاري: منكر الحديث.
انظر: ميزان الاعتدال 2/ 289، وتهذيب التهذيب 4/ 382.
(4/1536)
ورواه أحمد وابن ماجه (1) (2) من رواية
عمرو بن شعيب عن أبيه) (*) عن جده (**)، وفيه: (ما لكم تضربون
كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم).
فإِن صح فنهي عن جدال بباطل؛ لقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن)
(3)، ولقوله: (إِلا بالتي هي أحسن) (4)، أو فيما لا ينبغي، كما
في مسلم (5): أنه سمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فغضب، فقال:
(إِنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).
ولهذا روى ابن ماجه والترمذي (6) -وصححه- عن أبي هريرة: "أن
مشركي قريش أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في
القدر".
__________
(1) انظر: مسند أحمد 2/ 178، وسنن ابن ماجه/ 33. وفي الزوائد:
هذا إِسناد صحيح، رجاله ثقات. وراجع: تحفة الأحوذي 6/ 336.
(2) نهاية 244 ب من (ب).
(*) هو: شعيب بن محمَّد بن عبد الله.
(**) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3) سورة النحل: آية 125.
(4) سورة العنكبوت: آية 46.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه/ 2053 من حديث عبد الله بن عمرو
مرفوعًا.
وأخرج -نحوه- أحمد في مسنده 1/ 401، 421 من حديث ابن مسعود.
(6) انظر: سنن ابن ماجه/ 32، وسنن الترمذي 3/ 311. وأخرجه مسلم
في صحيحه/ 2046، وأحمد في مسنده 2/ 444، 476، والطبري في
تفسيره 27/ 65، والواحدي في أسباب النزول/ 228.
(4/1537)
قالوا: لو كان فعلته الصحابة، ونقل
كالفروع.
رد: هو كذلك؛ لئلا يلزم نسبتهم إِلى الجهل به (1) وهو باطل؛
لأنه غير ضروري، ولم يُنْقل لعدم الحاجة.
قالوا: لو كان أنكرت (2) على العامة تركه.
رد: المراد دليل جملي -ويحصل بأيسر نظر- لا تحريرُ دليلٍ
وجوابٌ عن شبهة.
قالوا: النظر مظنة وقوع في شبهة وضلالة، فيحرم.
رد: بالمنع.
ثم: يحرم التقليد إِن استند (3) إِلى نظر (4)، أو يتسلسل.
أجيب: يجوز أن يستند إِلى كشف (5) ومشاهدة.
رد: بمنعه طريقًا شرعيا؛ لعدم دليله، والمعارضة بمثله، خلافا
للغزالي وغيره، وسبق (6) في الأعيان قبل الشرع.
__________
(1) يعني: بالله تعالى.
(2) نهاية 165 أ. من (ظ).
(3) يعني: اعتقاد من يقلده.
(4) لأن المحذور اللازم من النظر لازم في التقليد، مع احتمال
كذب من قلده فيما أخبره به.
(5) نهاية 467 من (ح).
(6) ص 175 من هذا الكتاب.
(4/1538)
وسبق (1) في مسألة التحسين: أن النظر لا
يتوقف على وجوبه، فلا دور.
مسألة
لا يجوز للعامي التقليد في أركان الإِسلام الخمسة ونحوها مما
تواتر واشتهر (2)، ذكره القاضي (3)، وذكره أبو الخطاب (4) وابن
عقيل (5) إِجماعًا، لِتساوي الناس في طريقها، وإلا لزمه -ساغ
فيه اجتهاد، أوْ لا- عندنا وعند الشافعية والأكثر.
ومنعه قوم من المعتزلة البغداديين (6) ما لم يتبين له صحة
اجتهاده بدليله، وذكره ابن برهان (7) عن الجبائي، وعنه:
كقولنا.
ومنعه أبو علي (8) الشافعي فيما لا يسوغ فيه اجتهاد.
وبعضهم: في المسائل الظاهرة (9).
__________
(1) في 165 من هذا الكتاب.
(2) نهاية 245 أمن (ب).
(3) انظر: العدة/ 184 أ.
(4) انظر: التمهيد 2/ 271. نسخة جامعة الإِمام.
(5) انظر: المسودة/ 458.
(6) انظر: المعتمد/ 934، والإحكام للآمدي 4/ 228.
(7) انظر: المسودة/ 459.
(8) الطبري. انظر: المسودة/ 459.
(9) في (ب): الظاهرية.
(4/1539)
واختار الآمدي (1) لزومه في الجميع، وذكره
عن محققي الأصول.
لنا: (فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون) (2)، وهو عام؛
لتكرره بتكرر الشرط، وعلة الأمر بالسؤال الجهل.
وأيضًا: الإِجماع؛ فإِن العوام يقلدون العلماء -من غير إِبداء
مستند- من غير نكير.
وأيضًا: يؤدي إِلى خراب الدنيا بترك المعايش والصنائع.
ولا يلزم التوحيد والرسالة؛ لِيُسْره وقلّته، ودليله العقل.
قالوا: عنه - عليه السلام -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)
(3).
__________
(1) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 228.
(2) سورة النحل: آية 43.
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه/ 81: حدثنا هشام بن عمار ثنا حفص
بن سليمان ثنا كثير بن شنظير عن محمَّد بن سيرين عن أنس بن
مالك قال: قال رسول الله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم). في
الزوائد: إِسناده ضعيف لضعف حفص بن سليمان. وأخرجه ابن عبد
البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 8/ 11 من عدة طرق عن أنس
مرفوعًا. وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/ 54 وما
بعدها من حديث علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وجابر وأنس
وأبي سعيد من طرق، ثم قال: "هذه الأحاديث كلها لا تثبت"، وبين
وجه ذلك، ثم قال: قال أحمد بن حنبل: لا يثبت عندنا في هذا
الباب شيء.
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 119 - 120 من حديث ابن
مسعود رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ومن حديث أبي سعيد
وابن عباس رواهما الطبراني=
(4/1540)
رد: لم يصح.
ثم: طلبه بطريقه الشرعي، فتقليد المفتي منه، فإِن العلم لا يجب
عند أحد، بل النظر.
__________
=في الأوسط، ومن حديث الحسين بن علي رواه الطبراني في الصغير،
وضعفها الهيثمي، وبين وجه ذلك. قال ابن عبد البر: يروى عن أنس
من وجوه كثيرة كلها معلولة؛ لا حجة في شيء منها عند أهل العلم
بالحديث من جهة الإسناد. وقال البزار: روي عن أنس بأسانيد
واهية، وفي الباب عن أبي وجابر وحذيفة والحسين بن علي ... وقال
البيهقي: متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وروي من أوجه كلها ضعيفة.
وقال العراقي: قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه.
وأخرجه ابن الجوزي في منهاج القاصدين من جهة أبي بكر بن داود،
وقال: ليس في حديث (طلب العلم فريضة) أصح من هذا.
وقال السيوطي: سئل النووي عن هذا الحديث، فقال: إِنه ضعيف -أي:
سندا- وإن كان صحيحًا، أي: معنى. وقال تلميذه جمال الدين
المزي: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن. وهو كما قال؛
فإني رأيت له خمسين طريقًا، وقد جمعتها في جزء. انتهى كلام
السيوطي.
وراجع: سنن ابن ماجه/ 81، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 8 - 11،
والعلل المتناهية 1/ 54 - 66، ومجمع الزوائد 1/ 191 - 120،
والمقاصد الحسنة/ 275 - 277، واللآلئ المصنوعة 1/ 193، وكشف
الخفاء 2/ 56 - 57، وفيض القدير 4/ 267.
(4/1541)
مسألة
للعامي استفتاء من عَرَفه عالماً عدلاً، أو رآه منتصبا
مُعظَّما.
ولا يجوز في ضده عند العلماء، وذكره الآمدي (1) اتفاقًا.
قال في الروضة (2) وغيرها: "يكفيه قول عدل"، ومراده: خبير.
وعند بعض الشافعية (3): إِنما يعتمد على قوله (4): "أنا أهل
للفتوى"؛ لإِفادة التواتر في المحسوس (5)، واشتهار ما لا أصل
له.
واعتبر بعض أصحابنا (6) الاستفاضة؛ لا مجرد اعتزائه إِلى العلم
ولو بمنصب تدريس أو غيره، ومراده: في زمانه، وقاله بعض
الشافعية (7).
وذكر (8) ابن عقيل (9): يجب سؤال أهل الثقة والخبرة عنه؛ لأنه
لا
__________
(1) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 232.
(2) انظر: روضة الناظر/ 384.
(3) انظر: البرهان/ 1341، والمجموع 1/ 94.
(4) نهالة 245 ب من (ب).
(5) يعني: وكونه مجتهدًا ليس بمحسوس.
(6) انظر: المسودة/ 464.
(7) انظر: المجموع 1/ 94.
(8) في (ح): وكذا ذكر.
(9) انظر: الواضح 1/ 61 أ- 62 أ.
(4/1542)
يجور (1) الرجوع إِلى غيره إِلا بعد علمه
بأنه أهل، بدليل النبي والحاكم والمقوِّم والمخبِر بعيب.
ثم قال: يكفي خبرُ واحدٍ كحكم شرعي.
وذكر بعض (2) أصحابنا (3): يقلد من عَلِمه (4) أو ظَنَّه أهلا
بطريق ما اتفاقًا.
واعتبر ابن الباقلاني (5): ثقتين.
وذكر ابن عاقيل (6) عن قوم: لا يلزمه، فيسأل من شاء، وعن
الشيعة: منع تقليد غير المعصوم.
وهما باطلان.
ويمنع عندنا وعند الجمهور من لم يُعرف بعلم أو جهل؛ لأنه الأصل
والظاهر الجهل، فالظاهر أنه منه.
ولا يلزم الجهل بالعدالة؛ لأنا نمنعه، ثم سلَّمه في الروضة (7)
والآمدي (8)
__________
(1) نهاية 468 من (ح).
(2) نهاية 165 ب من (ظ).
(3) انظر: البلبل/ 185.
(4) في (ب) و (ظ): علم.
(5) انظر: البرهان/ 1341، والمسودة/ 472.
(6) انظر: الواضح 1/ 61أ، والمسودة/ 471، 513.
(7) انظر: روضة الناظر/ 385.
(8) انظر: الإحكام للآمدي 4/ 232.
(4/1543)
وغيرهما؛ لأن الغالب عدالة العلماء.
قال في التمهيد (1) وغيره: من عرف ذلك -يعني: علم الاجتهاد-
وكان عدلا لزمه الاجتهاد وجاز له أن يفتي.
وفي الواضح (2): صفة من تسوغ فتواه العدالة.
وكذا أطلق بعض أصحابنا وغيرهم: يلزم ولي الأمر منع من ليس
أهلا.
وكذا قال الشافعي (3) وغيره: لا ينبغي أن يفتي إِلا من كان
كذلك.
وقال ربيعة (4): بعض من يفتي أحق بالسجن من السُّرَّاق.
وفي الروضة (5): العدالة شرط لجواز اعتماد قوله (6). ومعناه في
العدة (7).
وفي المغني (8): أن من شهد مع ظهور فسقه لم يُعَزَّر؛ لأنه (9)
لا يمنع صدقه.
__________
(1) انظر: التمهيد/ 221 ب.
(2) انظر: الواضح 1/ 57 أ.
(3) نقله عنه الخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 157.
(4) انظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي/ 11.
(5) انظر: روضة الناظر/ 352.
(6) نهاية 246 أمن (ب).
(7) انظر: العدة/ 250 أ.
(8) انظر: المغني 10/ 233.
(9) يعني: فسقه.
(4/1544)
وكلامه -هو وغيره- يدل [على] (1) أنه لا
يحرم أداء فاسق مطلقًا.
ويفتي فاسق نفسه، ذكره أصحابنا والشافعية (2) وغيرهم.
قال بعض أصحابنا (3): لا تشترط عدالته في اجتهاده، بل في قبول
فتياه وخبره.
مسألة
لا يشترط في المفتي الذكورية والحرية كالراوي، ولا مانع (4)
شهادة.
ويفتي أخرس بإِشارة مفهومة أو كتابة.
وذكر بعض أصحابنا (5) قولاً: لا يفتي على عدوه -وقاله (6)
الماوردي (7) - كالحكم عليه.
......................
__________
(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ح).
(2) انظر: المجموع 1/ 76.
(3) انظر: البلبل/ 174.
(4) كذا في النسخ. ولعل الصواب: ولا عدم مانع شهادة.
(5) انظر: المسودة/ 555.
(6) انظر: المجموع 1/ 75.
(7) هو: أبو الحسن علي بن محمَّد بن حبيب البصري الشافعي، فقيه
أصولي مفسر، توفي سنة 450 هـ.
من مؤلفاته: النكت في التفسير، والحاوي في الفقه، والأحكام
السلطانية.=
(4/1545)
وللحاكم أن يفتي.
وذكر بعض أصحابنا (1) قولاً: لا، وقولاً: فيما يتعلق بالحكم،
ويجوز في نحو طهارة وصلاة.
وللشافعية (2) -فيما يتعلق بالحكم- وجهان.
..........................
ولا يفتي في حال لا يحكم فيها كغضب وغيره.
فظاهره: يحرم [كالحكم] (3).
وذكر بعض أصحابنا: إِن أفتى وأصاب صح وكره. وقيل (4): لا يصح.
...................
وله أخذ رزق من بيت المال.
وإن تعيَّن أن يفتي -وله كفاية- فوجهان.
ومن أخذ لم يأخذ أجرة، وإلا أخذ أجرةَ خطِّه.
وقيل: في أجرة خطه وجهان.
__________
=انظر: وفيات الأعيان 2/ 444، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 267،
وطبقات المفسرين للداودي 1/ 423، وشذرات الذهب 3/ 276.
(1) انظر: المسودة/ 555.
(2) انظر: المجموع 1/ 76.
(3) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ح).
(4) نهاية 469 من (ح).
(4/1546)
وإن جعل له أهل بلد رزقًا -ليتفرغ لهم-
جاز.
وفي الرعاية (1): هو بعيد.
وله قبول هدية، والمراد: "لا ليفتيه بما يريده"، وإلا حرمت،
زاد بعضهم (2): أو لنفعه بجاهه أو ماله. وفيه نظر.
ونقل المروذي: لا يقبل هدية إِلا أن يكافِئ.
قال أحمد (3): الدنيا داء، والسلطان داء، والعالم طبيب، فإِذا
رأيت الطبيب يجر الداء إِلى نفسه فاحذره.
قال بعض أصحابنا (4): فيه التحذير من (5) استفتاء من يرغب في
مال وشرف بلا حاجة.
واعتبر (6) بعض أصحابنا (7) في القاضي: الورع، وبعضهم: والزهد.
..................
__________
(1) انظر: الرعاية الكبرى 3/ 216 ب.
(2) انظر: المرجع السابق، وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي/ 35.
(3) انظر: المسودة/ 550.
(4) انظر: المسودة/ 550 - 551.
(5) نهاية 246 ب من (ب).
(6) نهاية 166 أمن (ظ).
(7) انظر: المسودة/ 550.
(4/1547)
قال أحمد (1): لا ينبغي أن يفتي حتى يكون
له نية، ووقار وسكينة، قويا على ما هو فيه ومعرفته، والكفاية
وإِلا مضغه الناس، ومعرفة الناس.
قال ابن عقيل: هذه الخصال مستحبة، فيقصد الإِرشاد وإِظهار
أحكام الله؛ لا رياء وسمعة والتنويه باسمه، والسكينة والوقار
ترغِّب المستفتي، وهم ورثة الأنبياء فيجب أن يتخلقوا بأخلاقهم،
والكفاية لئلا ينسبه الناس إِلى التكسب بالعلم وأخذ العوض
عليه، فيسقط قوله، ومعرفة الناس يحتمل: حال الرواة، ويحتمل:
حال المستفتين، فالفاجر لا يستحق الرخص، فلا يفتيه بالخلوة
بالمحارم مع علمه بأنه يسكر، ولا برخص السفر لِجُنْدِ وقتنا
لمعرفتنا بسفرهم، والتسهيل على معتدات على صفات وقتنا؛ لئلا
يضع الفتيا في غير محلها.
كذا قال، والخصلة الأولى واجبة.
وعن عمران (2) مرفوعًا: (إِن أَخْوَف ما أخاف على أمتي كل
منافق عليم اللسان). حديث حسن، رواه (3) أحمد والدارقطني،
وقال: موقوف أشبه.
__________
(1) انظر: العدة/ 250 ب-251أ.
(2) هو: الصحابي أبو نجيد عمران بن حصين الخزاعي.
وفي الآداب الشرعية للمؤلف 3/ 313: عن عمر.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 22، 44 من حديث عمر.
وفي العلل للدارقطني 1/ 49 أ: سئل عن حديث عبد الله بن بريدة
عن عمر عن النبي: (أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان)،
فقال: "هو حديث رواه حسين المعلم، واختلف عنه: فرواه معاذ بن
معاذ عن حسين المعلم عن ابن بريدة عن عمران=
(4/1548)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
__________
=ابن حصين عن النبي، ووهم فيه، ورواه عبد الوهاب بن عطاء وروح
بن عبادة وغيرهما عن حسين عن ابن بريدة عن عمر بن الخطاب، وهو
الصواب.
وفي العلل -أيضاً- 1/ 71 أ: سئل عن حديث- أبي عثمان النهدي عن
عمر قوله: "أخوف ما أخاف عليكم كل منافق عليم اللسان"، فقال:
رواه المعلي بن زياد عن أبي عثمان عن عمر موقوفًا غير مرفوع،
وكذلك رواه حماد بن زيد عن ميمون الكردى عن أبي عثمان عن عمر
قوله، وخالفه ديلم بن غزوان -ويكني: أبا غالب- عن ميمون الكردي
عن أبي عثمان عن عمر عن النبي، وتابعه الحسن بن أبي جعفر
الجعفرى عن ميمون الكردي فرفعه -أيضًا- إلى النبي، والموقوف
أشبه بالصواب. أ. هـ.
وعن عمر: عهد إِلينا نبينا، فقال: (إِن أخوف ما أخشى عليكم
بعدي منافق عالم اللسان). أخرجه إِسحاق بن راهويه في مسنده.
انظر: المطالب العالية 3/ 92.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (انظر: موارد الظمآن/ 51) عن عمران
بن حصين مرفوعًا: (أخوف ما أخاف عليكم جدال منافق عليم
اللسان).
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 187 عن عمران بن حصين
مرفوعًا: (إِن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان).
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورجاله رجال
الصحيح. وأورد -أيضاً- عن عمر بن الخطاب قال: حذرنا رسول الله
كل منافق عليم اللسان. قال الهيثمي: رواه البزار وأحمد وأبو
يعلى، ورجاله موثقون. انتهى كلام الهيثمي. وأخرجه إِسحاق بن
راهويه في مسنده (انظر: المطالب العالية 3/ 89)، وانظر: المقصد
العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي / 11 أ، وهو فيه باللفظ الذي
ذكره المؤلف.
وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 13 عن ابن عمر مرفوعًا.
وانظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 135 - 136، والفقيه والمتفقه
1/ 234.
(4/1549)
وعن عمر: كنا (1) نتحدث: إِنما يُهْلِك هذه
الأمة كل منافق عليم اللسان". رواه أبو يعلى (2)، وفيه: مؤمل
بن إِسماعيل (3)، مختلف فيه.
وقال معاذ: "احذر زلة (4) وجدال المنافق" (5).
......................
__________
(1) في العلل للدارقطني 1/ 43 أ: سئل عن حديث الأحنف بن قيصى
عن عمر قال: "كنا نتحدث: إِنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم"،
فقال: يرويه حماد بن سلمة، واختلف عنه: فرواه مؤمل عن حماد عن
حميد ويونس عن الحسن عن الأحنف عن عمر، وخالفه عبد الأعلي بن
حماد، فرواه عن حماد عن علي بن زيد عن الحسن، وهو أشبه
بالصواب.
(2) هو: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، حافظ ثقة
محدث، ولد سنة 210 هـ، وسمع ابن معين، ومنه ابن حبان وأبو بكر
الإِسماعيلي، توفي سنة 307 هـ.
من مؤلفاته: المسند الكبير.
انظر: تذكرة الحفاظ/ 707، والعبر 2/ 134، وطبقات الحفاظ/ 360.
(3) هو: أبو عبد الرحمن العدوي -بالولاء- البصري، نزيل مكة،
روي عن عكرمة بن عمار وشعبة وسفيان، وعنه أحمد ومؤمل بن إِهاب،
توفي سنة 206 هـ. قال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة كثير
الخطأ، قيل: دفن كتبه وحدث حفطا فغلط. وعن ابن معين: ثقة.
وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر في التقريب: صدوق سيئ
الحفظ.
انظر: الكاشف 3/ 190، وتهذيب التهذيب 10/ 380، وتقريب التهذيب
2/ 290.
(4) كذا في النسخ. ولعل الصواب: زلة العالم وجدال المنافق.
(5) أخرج نحوه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 135 -
136. وانظر: الفقيه والمتفقه 1/ 234.
(4/1550)
ومن عدم مفتيا -ببلده وغيره- فله حكم ما
قبل الشرع (1).
مسألة
يلزم المفتي تكرير النظر عند تكرر (2) الواقعة، جزم به القاضي
(3) وابن عقيل (4)، وقال: وإِلا يكون مقلدا لنفسه؛ لاحتمال
تغيير اجتهاده، قال: وكالقبلة يجتهد لها ثانيًا (5).
واعترض: فيجب تكريره أبدًا.
رد: نعم. وغلط بعضهم فيه.
وذكر بعض أصحابنا: لا يلزم؛ لأن الأصل بقاء ما اطلع عليه وعدم
غيرِه.
وللشافعية الوجهان (6).
ولزوم السؤال ثانيًا فيه الخلاف.
وعند أبي الخطاب (7) والآمدي (8): إِن ذكر المفتي طريق
الاجتهاد لم يلزمه، وإلا لزمه.
__________
(1) نهاية 470 من (ح).
(2) نهاية 247 أمن (ب).
(3) انظر: العدة/ 184 ب، 245، والمسودة / 467.
(4) انظر: المسودة / 467.
(5) في (ح): ثابتاً.
(6) ذكرهما ابن برهان وغيره على ما في المسودة/ 467. وانظر:
المجموع 1/ 83، والبرهان/ 1343، والمحصول 2/ 3/ 95، والإِحكام
للآمدي 4/ 233.
(7) انظر: التمهيد 2/ 268. نسخة جامعة الإِمام.
(8) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 233.
(4/1551)
مسألة
لا يجوز خلو العصر عن مجتهد عند أصحابنا وطوائف.
قال بعض أصحابنا (1): ذكره أكثر من تكلم في الأصول في مسائل
الإِجماع، ولم يذكر ابن عقيل خلافه إِلا عن بعض المحدثين.
وقال الآمدي (2): جوزه آخرون، وهو المختار؛ لأنه لو امتنع لكان
لغيره، والأصل عدمه.
وفي الصحيحين (3): (إِن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه،
ولكن يقبض العلماء، حتى إِذا لم يُبْق عالمًا اتخذ الناس رؤساء
جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وجه الأول: سبق (4) في الإِجماع: (لا تزال طائفة من أمتي (5)
ظاهرين على الحق).
رد: الخبر الأول أدل على المقصود، ولو تعارضا سلم الأول.
وأيضاً: التفقه فرض كفاية، ففي تركه اتفاق الأمة على باطل.
__________
(1) انظر: المسودة / 472 - 473.
(2) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 233.
(3) تقدم في ص 391.
(4) في ص 384.
(5) نهاية 166 ب من (ظ).
(4/1552)
رد: منعه الآمدي (1) إِن أمكن تقليد العصر
السابق.
ثم: فرض عند إِمكانه، فإِذا مات العلماء لم يمكن.
ويتوجه أن هذا مراد أصحابنا وغيرهم، فلا اختلاف؛ لقوله: (لا
تقوم الساعة (2) حتى لا يقال (3) في الأرض: الله الله (4)،
وقوله: (إِن الله يبعث ريحاً، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال
حبَّة من إِيمان إِلا قبضته) (5). رواهما مسلم.
__________
(1) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 236.
(2) نهاية 247 ب من (ب).
(3) في (ظ): حتى لا يبقى في الأرض من يقول: الله الله.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه/ 131 من حديث أنس مرفوعًا. وأخرجه
الترمذي في سننه 3/ 333 - 334 وقال: حديث حسن، وحدثنا محمَّد
بن المثنى أخبرنا خالد بن الحارث عن حميد عن أنس نحوه، ولم
يرفعه، وهذا أصح من الحديث الأول. وأخرجه أحمد في مسنده (انظر:
الفتح الرباني 24/ 44)، وأخرجه الحاكم في مستدركه 4/ 494 بلفظ:
(حتى لا يقال في الأرض: لا إِله إِلا الله)، وقال: هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه -أيضًا- من حديث ابن
مسعود مرفوعًا: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله
الله)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه/ 109 من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
وأخرج أحمد في مسنده 2/ 66 نحوه من حديث عبد الله بن عمرو.
وأخرج مسلم في صحيحه/ 2250 - 2255، والترمذي في سننه 3/ 346 -
349 نحوه من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا. قال الترمذي: غريب
حسن صحيح لا نعرفه إِلا=
(4/1553)
ولأحمد وأبي داود (1) عن عمران مرفوعًا:
(لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم
حتى يقاتل آخرهم الدجال (*)).
وأما قوله في التمهيد (2): قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا
يخلو العصر من حجة لله) (3) -وذكره القاضي (4) أيضًا- وقوله:
(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يردوا عليّ) (5)
فلا يصح.
وقول بعض أصحابنا (6) وبعض الشافعية (7): "عدم المجتهد المطلق
من زمن طويل، مع أنه الآن أَيْسَر" فيه نظر.
__________
=من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وأخرج حديث النواس
-أيضًا- أحمد في مسنده 4/ 181 - 182.
(1) انظر: مسند أحمد 4/ 437، وسنن أبي داود 3/ 11.
(*) اقرأ بعض أخباره في صحيح البخاري 9/ 59 - 61، وصحيح مسلم/
2247 وما بعدها، 2266.
(2) انظر: التمهيد/ 140 ب، 144 أ.
(3) قال في التمهيد / 144أ: هذا الحديث غير معروف في أصل. وقال
الشيرازي في التبصرة/ 376: لا نعرف هذا الحديث.
(4) انظر: العدة/ 176 أ.
(5) ذكره في التمهيد/ 140 ب.
(6) انظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي/ 17.
(7) انظر: المجموع 1/ 77.
(4/1554)
مسألة
ذكر القاضي (1) وأصحابه وصاحب الروضة (2) (3) وغيرهم: لا يجوز
أن يفتي إِلا مجتهد، وقاله أبو الحسين (4) وجماعة.
قال القاضي (5): ومعناه عن أحمد، فقال: ينبغي للمفتي أن يكون
عالماً بوجوه القرآن والأسانيد الصحيحة والسنن، وقال: ينبغي أن
يكون عالمًا بقول من تَقَدَّم، وقال: لا يجوز الاختيار إِلا
لعالم بكتاب وسنة.
قال بعض أصحابنا (6): الاختيار ترجيحُ قولٍ، وقد يفتي
بالتقليد.
ثم ذكر القاضي (7) رواية عبد الله فيمن في مصره أصحاب رأي
وأصحاب حديث لا يعرفون الصحيح: لمن يسأل؟ قال: أصحاب الحديث.
قال: فظاهره يجوز تقليدهم (8).
__________
(1) انظر: العدة/ 249 ب.
(2) انظر: روضة الناظر/ 384.
(3) نهاية 471 من (ح).
(4) انظر: المعتمد/ 929.
(5) انظر: العدة/ 250 أ.
(6) انظر: المسودة/ 515.
(7) انظر: العدة/ 250أ، والإِحكام لابن حزم/ 1035، والمحلى 1/
89.
(8) يعني: وإن لم توجد فيهم الشرائط السابقة.
(4/1555)
قال بعض (1) [أصحابنا] (2): ولم يتأوله
(3)، فظاهره أنه جعلها على روايتين، قال: وقد يقال (4):
للحاجة.
وفي الواضح (5): "أن ظاهر رواية عبد الله أن صاحب الحديث أحق
بالفتيا"، وحملها على أنهم فقهاء، أو أن السؤال يرجع إِلى
الرواية.
ثم ذكر القاضي (6) قول أحمد: "لا يكون فقيهًا حتى يحفظ
أربعمائة ألف"، وحمله -هو وغيره- على المبالغة والاحتياط،
ولهذا قال أحمد: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - ينبغي أن تكون ألفًا أو ألفًا ومائتين.
وذكر القاضي (7): أن ابن شاقلا اعتُرِض عليه به، فقال: إِن كنت
لا أحفظه فإِني أمَّتي بقول من يحفظ أكثر منه.
قال القاضي (7): لا يقتضي هذا أنه كان يقلِّد أحمد؛ لمنعه (8)
الفتيا بلا علم (9).
__________
(1) انظر: المسودة/ 515.
(2) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ب).
(3) يعني: لم يتأول القاضي كلام أحمد.
(4) نهاية 248 أمن (ب).
(5) انظر: الواضح 1/ 59 ب.
(6) انظر: العدة/ 250 ب، 251 أ.
(7) انظر: العدة/ 250 ب.
(8) يعني: ابن شاقلا.
(9) نهاية 167أمن (ظ).
(4/1556)
قال بعض أصحابنا (1): ظاهره تقليده إِلا أن
يُحمل على أخذه طرق العلم منه.
ثم ذكر (2) عن ابن بطة: "لا يجوز أن يفتي بما يسمع من مفتٍ"،
وعن ابن بشار (3): ما أعيب على رجل حفظ لأحمد خمس مسائل استند
إِلى سارية المسجد يفتي بها.
قال القاضي (4): هذا منه مبالغة في فضله.
قال بعض أصحابنا (5): هو صريح بالإِفتاء بتقليد أحمد، قال:
فصار لأصحابنا فيها وجهان، قال: فإِن لم يجز لحاجة مطلقًا،
وإلا فالأقوال ثلاثة.
وقال ابن هبيرة (6): من لم يجوِّز إِلا توليه قاض مجتهد إِنما
عني قبل استقرار هذه المذاهب، وانحصر الحق فيهم.
وقال (7): المجتهد اليوم لا يتصور اجتهاده في هذه المسائل التي
تحررت
__________
(1) انظر: المسودة/ 516.
(2) يعني: ذكر القاضي. انظر: العدة/ 250 ب.
(3) هو: أبو الحسن علي بن محمَّد بن بشار الحنبلي، عالم زاهد،
حدث عن أبي بكر المروذي وصالح وعبد الله ابني أحمد، وروى عنه
أبو علي النجاد وغيره، توفي سنة 313 هـ. انظر: طبقات الحنابلة
2/ 57 - 63.
(4) انظر: العدة/ 250 ب.
(5) انظر: المسودة/ 517.
(6) انظر: الإِفصاح 2/ 343.
(7) انظر: المسودة/ 541.
(4/1557)
في المذاهب؛ لأن المتقدمين فرغوا منها، فلا
يؤدي اجتهاده إِلا إِلى أحدهم (1). كذا قال.
وفي التلخيص: عَزَّ المجتهد، والمقلد لا يصح قضاؤه، يبقى
المجتهد في مذهب إِمام ألجأت الضرورة إِلى الاكتفاء به (2)،
وقد عَزَّ.
واختاره الآمدي (3)؛ للإِجماع على قبوله، فيدل أنه ليس كعامي،
ولبعده عن خطأ، وأن بعضهم جوزه مطلقًا -كالحنفية (4) - لأنه
ناقل كالراوي.
رد: ليس -إِذاً- مفتيا، بل مخبر، ذكره جماعة، منهم: ابن عقيل
وأبو الخطاب (5) وصاحب المغني (6)، وزاد -ومعناه لغيره-:
فيحتاج يخبر عن معيَّن مجتهد، فيعمل بخبره لا بفتياه.
وكذا عند الحليمي والروياني (7) من الشافعية (8): لا يفتي
مقلد.
__________
(1) نهاية 248 ب من (ب).
(2) نهاية 472 من (ح).
(3) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 236.
(4) انظر: تيسير التحرير 4/ 249، وفواتح الرحموت 2/ 404.
(5) انظر: التمهيد 2/ 268. نسخة جامعة الإِمام.
(6) انظر: المغني 10/ 38.
(7) هو: أبو المحاسن عبد الواحد بن إِسماعيل بن أحمد، فقيه
شافعي أصولي عالم بالخلاف، قتله الباطنية الملاحدة بجامع آمل
سنة 502 هـ.
من مؤلفاته: البحر، والحلية في الفقه، والفروق.
انظر: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2/ 277، ووفيات الأعيان 2/
369، وطبقات الشافعية للسبكي 7/ 197، وشذرات الذهب 4/ 4.
(8) انظر: المجموع 1/ 80.
(4/1558)
وعند القفال (1) المروزي (2) منهم: من حفظ
مذهب إِمام أفتى به.
وعند أبي محمَّد (3) الجويني (4): [يفتي] (5) المتبحر فيه.
وذكر الماوردي (6) منهم -في عامي عرف حكم حادثة بدليلها-:
يفتي، أو إِن كان من كتاب أو سنة، أو المنع مطلقًا -وهو أصح-
فيه أوجه.
مسألة
للمقلد تقليد المفضول من المجتهدين عند أكثر أصحابنا كالقاضي
(7)
__________
(1) انظر: المرجع السابق، والمسودة/ 544.
(2) هو: أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله، القفال الصغير،
فقيه شافعي أصولي، توفي سنة 417 هـ. من مؤلفاته: الفتاوى.
انظر: العبر 3/ 124، ووفيات الأعيان 2/ 249، والنجوم الزاهرة
4/ 265، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 53، وشذرات الذهب 3/ 207.
(3) انظر: المجموع 1/ 80، والمسودة/ 544.
(4) هو: عبد الله بن يوسف بن عبد الله، والد إِمام الحرمين،
مفسر فقيه شافعي أصولي أديب، درس وأفتى بنيسابور، وبها توفي
سنة 438 هـ.
من مؤلفاته: شرح رسالة الشافعي، والفروق.
انظر: تبيين كذب المفترى/ 257، ووفيات الأعيان 2/ 250، وطبقات
المفسرين للداودي 1/ 253، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 73.
(5) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ظ).
(6) انظر: المجموع 1/ 80، والمسودة/ 545.
(7) انظر: العدة/ 184 ب.
(4/1559)
وأبي الخطاب (1) وصاحب الروضة (2)، وقاله
الحنفية (3) والمالكية (4) وأكثر الشافعية.
وذكر ابن عقيل (5): يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح، ومعناه قول
الخرقي (6)، وقاله ابن سريج (7) والقفال وجماعة من الفقهاء
والأصوليين.
ولأحمد روايتان.
لنا: أنهم استفتُوا زمن الصحابة والسلف، وأفتوا، وشاع ولم
ينكر.
وسبق (8): (فاسألوا أهل الذكر) (9)، (أصحابي كالنجوم) (10).
واستدل: قاصر عن الترجيح (11).
__________
(1) انظر: التمهيد 2/ 273. نسخة جامعة الإِمام.
(2) انظر: روضة الناظر / 385.
(3) انظر: تيسير التحرير 4/ 251، وفواتح الرحموت 2/ 404.
(4) انظر: المنتهى/ 165، وشرح تنقيح الفصول/ 442.
(5) انظر: الواضح 1/ 62أ.
(6) انظر: مختصر الخرقي (مع المغني 1/ 323)، وروضة الناظر/
375، 385.
(7) انظر: اللمع / 75، والإِحكام للآمدي 4/ 237، والمجموع 1/
95.
والقفال: هو المروزي.
(8) في ص 1518، 1540.
(9) سورة النحل: آية 43.
(10) سبق في ص 1452، 1500، 1518.
(11) نهاية 249أمن (ب).
(4/1560)
رد: يظهر بالشهرة والمراجعة.
قالوا: أقوالهم له كالأدلة للمجتهد.
رد: دليلنا إِجماع، وهذا (1) قياس، ثم: ترجيحه عسر.
....................
أما لو بأن له الأرجح لزمه تقليده، زاد بعض أصحابنا (2) وبعض
الشافعية (3): في الأظهر.
وفي التمهيد (4): إِن رجح دينُ واحدٍ قَدَّمه في أحد الوجهين،
وفي الآخر: لا؛ لأن العلماء لا تنكر على العامي تركه.
وذكر في تقديم الأدين على الأعلم وعكسه مذهبين.
ولنا وجهان، قيل لأحمد: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق
(5)؛ فإِنه صالح، مثله يوفَّق للحق.
قال في الرعاية (6): ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إِليه.
__________
(1) نهاية 167 ب من (ظ).
(2) انظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي/ 70، والمسودة/ 464.
(3) انظر: المجموع 1/ 95.
(4) انظر: التمهيد 2/ 273. نسخة جامعة الإِمام.
(5) هو: أبو الحسن -ويقال: أبو الحكم- عبد الوهاب بن عبد الحكم
البغدادي، حافظ محدث ثقة صدوق، توفي سنة 250 هـ. انظر: تاريخ
بغداد 11/ 25، وتذكرة الحفاظ/ 526، وتهذيب التهذيب 6/ 448،
وطبقات الحفاظ/ 229.
(6) انظر: الرعاية الكبرى 3/ 216 ب، وصفة الفتوى والمفتي
والمستفتي/ 56.
(4/1561)
مسألة
فإِن استووا تخير، ذكره أبو الخطاب (1) وجماعة من أصحابنا
وغيرهم.
وذكر بعض أصحابنا (2) والمالكية (3) والشافعية (4): هل يلزمه
التمذهب بمذهب والأخذ برخصه وعزائمه؟ على وجهين:
أشهرهما: لا -كجمهور العلماء (5) - فيتخير، وعند بعض أصحابنا
(6) وبعض الشافعية (7): يجتهد في أصح المذاهب فيتبعه.
والثاني: يلزمه.
واختار الآمدي (8): منع الانتقال فيما عمل به.
وقال بعض أصحابنا: "في لزوم الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير
النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أمره ونهيه، وهو خلاف
الإِجماع"، وتوقف أيضًا في جوازه، وقال أيضًا: إِن خالفه لقوة
دليل أو زيادة علم أو تقوى فقد (9)
__________
(1) انظر: التمهيد 2/ 273. نسخة جامعة الإِمام.
(2) انظر: صفة الفتوى/ 72.
(3) انظر: المنتهى/ 166.
(4) انظر: الإِحكام للآمدي 4/ 238.
(5) نهاية 473 من (ح).
(6) انظر: المسودة / 465.
(7) انظر: المجموع 1/ 95 - 96.
(8) انظر: الإحكام للآمدي 4/ 238.
(9) نهاية 249 ب من (ب).
(4/1562)
أحسن، ولم يقدح في عدالته بلا نزاع، وقال
أيضًا: بل يجب في هذه الحال، وأنه نص أحمد.
وكذا قال (1) القدوري (2) الحنفي: ما ظَنَّه أقوى عليه تقليده
فيه، وله الإِفتاء به حاكياً مذهب من قلده.
وذكر ابن هبيرة: من مكايد الشيطان أن يقيم أوثانا في المعنى
تعبد من دون الله، مثل أن يتبين الحق فيقول: ليس هذا مذهبنا
تقليدًا لمعظَّم عنده قد قَدَّمه على الحق.
وقال ابن حزم (3): أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا لمفتٍ تقليد
رجل، فلا يحكم ولا يفتي إِلا بقوله.
.....................
ولا يجوز (4) للعامي تتبع الرخص، وذكره ابن عبد البر إجماعًا
(5).
ويفسق عند أحمد والقطان وغيرهما (6).
__________
(1) انظر: تيسير التحرير 4/ 255، والمسودة/ 512.
(2) هو: أبو الحسين أحمد بن محمَّد بن أحمد، فقيه انتهت إِليه
رئاسة الحنفية بالعراق، ولد ببغداد سنة 362 هـ، وتوفي بها سنة
428 هـ. من مؤلفاته: المختصر في الفقه الحنفي.
انظر: وفيات الأعيان 1/ 21، والجواهر المضية 1/ 93. والنجوم
الزاهرة 5/ 24.
(3) انظر: المحلى 10/ 509، والفروع 6/ 451، وتيسير التحرير 4/
253.
(4) انظر: تيسير التحرير 4/ 254، وفواتح الرحموت 2/ 406.
(5) انظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 112.
(6) انظر: المسودة/ 518.
(4/1563)
وحمله القاضي (1) على غير متأول أو مقلِّد.
وفيه نظر.
وذكر بعض أصحابنا في فسق من أخذ بالرخص روايتين، وإن قوي دليل
أو كان عاميًا فلا. كذا قال.
وقال الحنفية (2) كالقاضي، إِلا أن يتمذهب بمذهب فيأخذ به في
الصحيح.
مسألة
فأما المفتي فيجب أن يعمل بموجَب اعتقاده فيما له وعليه
إِجماعًا، قاله بعض أصحابنا.
قال بعض الشافعية (3): من اكتفى من فتياه بموافقة قولٍ أو (4)
وجهٍ في المسألة -من غير نظر (5) في ترجيح ولا تقيّد به- فقد
جهل وخرق الإِجماع.
وذكر عن أبي الوليد الباجي (6): أنه ذكر عن بعض أصحابهم: أنه
كان
__________
(1) انظر: المرجع السابق/ 519.
(2) انظر: تيسير التحرير 4/ 253، وفواتح الرحموت 2/ 406، وذكر
فيهما: أن الأصح: لا يلزمه.
(3) انظر: المسودة/ 537.
(4) في (ب) و (ح): قول أوجه.
(5) نهاية 168 أمن (ظ).
(6) انظر: المسودة/ 537.
(4/1564)
يقول: الذي لصديقي عليَّ أن أفتيه بالرواية
التي توافقه.
قال أبو الوليد: وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإِجماع
(1).
مسألة
إِذا استفتى واحدا أخذ بقوله، ذكره ابن البنا وغيره.
والأ شهر: يلزمه بالتزامه، وقيل: ويظنه حقا، و [قيل: و] (2)
يعمل به، وقيل: يلزمه إِن ظنه حقًا.
وإن لم يجد مفتيا آخر لزمه، كما لو حكم عليه (3) به حاكم.
وقال بعضهم: لا يلزمه مطلقًا إِلا مع عدم غيره.
...............
وإن اختلف عليه فتيا مفتيين تخير عند القاضي (4) وصاحب الروضة
(5) والتمهيد (6)، وذكره ظاهر كلام أحمد؛ فإِنه سئل عن مسألة
في الطلاق، فقال: "إِن فعل حنث"، فقال السائل: "إِن أفتاني
إِنسان: لا أحنث"، قال:
__________
(1) نهاية 250 أمن (ب).
(2) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ب).
(3) نهاية 474 من (ح).
(4) انظر: العدة/ 184 ب.
(5) انظر: روضة الناظر/ 385.
(6) انظر: التمهيد/ 2/ 273. نسخة جامعة الإِمام.
(4/1565)
"تعرف حلقة المدنيين؟ "، قلت: "فإِن أفتوني
حلّ"، قال: نعم.
وذكر ابن البنا وجها: يأخذ بقول الأرجح -واختاره بعض أصحابنا
(1) - ووجها: بأغلظهما -وللشافعية (2) هذه الوجوه- ووجها:
الأخف- وقاله عبد الجبار (3) - ووجها: يسأل مفتيا آخر.
وذكرها -أيضًا- بعض أصحابنا (4)، وذكر -أيضًا- وجها: بأرجحهما
دليلاً.
مسألة
[للمفتي] (5) رد الفتوى (6) وفي البلد غيره أهل لها شرعًا،
خلافاً للحليمي (7) الشافعي، وإلا لزمه، ذكره أبو الخطاب (8)
وابن عقيل (9) وغيرهما.
__________
(1) انظر: المسودة/ 463، 465
(2) انظر: اللمع/ 75، والبرهان/ 1344، والمنخول/ 483، والمجموع
1/ 97.
(3) انظر: المعتمد/ 940.
(4) انظر: صفة الفتوى/ 80 - 81.
(5) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ب).
(6) انظر: الواضح 1/ 160، والمسودة/ 512.
(7) انظر: المسودة/ 512.
(8) انظر: التمهيد 2/ 268. نسخة جامعة الإِمام.
(9) انظر: الواضح 1/ 60أ.
(4/1566)
ولا يلزم (1) جواب ما لم يقع، وما لا
يحتمله السائل ولا ينفعه.
سئل أحمد عن يأجوج ومأجوج (2): أمسلمون هم؟ فقال للسائل:
أَحْكَمتَ العلم حتى تسأل عن ذا؟
وسئل عن مسألة في اللعان، فقال: سَلْ -رحمك الله- عما ابتليت
به.
وسأله مهنا عن مسألة، فغضب، وقال: خذ -ويحك- فيما تنتفع به،
وإياك وهذه المسائل المحدثة، وخذ فيما فيه حديث.
وسئل عن مسألة، فقال: ليت (*) أنا نُحْسن ما جاء فيه الأثر.
ولأحمد (3) عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإِن عمر نهى
عنه (4) ".
__________
(1) انظر: الآداب الشرعية للمؤلف 2/ 76 وما بعدها.
(2) انظر -في التعريف بهم-: تفسير القرطبي 1/ 561.
(*) كذا في النسخ. ولعلها: ليتنا.
(3) رواه أحمد من رواية ليث عن طاوس عن ابن عمر. انظر: الآداب
الشرعية للمؤلف 2/ 77.
(4) وأخرجه الدارمي في سننه 1/ 47 عن ابن عمر قال: لا تسأل عما
لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.
وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 170 - وانظر:
ص 174، 175 منه- والخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 7 - 8.
(4/1567)
وله (1) -أيضًا- عن ابن عباس: أنه قال عن
(2) الصحابة: ما كانوا يسألون إِلا عما ينفعهم (3).
واحتج الشافعي (4) على (5) كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه
بقوله: (لا تسألوا عن أشياء) الآية (6).
وكان - عليه السلام - ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة
السؤال (7). وفي لفظ: (إِن الله كره لكم ذلك) (8). متفق
عليهما.
وفي حديث اللعان: "فكره - عليه السلام - المسائل (9)
__________
(1) قال المؤلف في الآداب الشرعية 2/ 77 - 78: بإِسناد حسن.
(2) نهاية 250 ب من (ب).
(3) وأخرجه الدارمي في سننه 1/ 48، وابن عبد البر في جامع بيان
العلم وفضله 2/ 173.
(4) انظر: الأم: 5/ 127.
(5) في (ب): عن.
(6) سورة المائدة: آية 101.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه 9/ 95، والدارمي في سننه 2/ 219،
وأحمد في مسنده 4/ 250 - 251 من حديث المغيرة. ووجدته في صحيح
مسلم/ 1341 بلفظ: سمعت رسول الله يقول: (إِن الله حرم ثلاثاً،
ونهى عن ثلاث ... ، ونهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة
المال).
(8) أخرجه البخاري في صحيحه 2/ 124، 8/ 4، ومسلم في صحيحه 1341
من حديث المغيرة مرفوعاً.
(9) نهاية 168 ب من (ظ).
(4/1568)
وعابها" (1).
قال البيهقي (2): "كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إِذا
لم يكن فيها كتاب أو سنة؛ لأن الاجتهاد إِنا يباح ضرورة"، ثم
روى عن معاذ: "أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله (3) "،
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن -مرسلاً- معناه.
وقال ابن عباس لعكرمة: "من سألك عما لا يعينه فلا تفته" (4).
وسأل المروذي لأحمد (5) عن
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 6/ 99 - 100، ومسلم في صحيحه/ 1129
من حديث سهل بن سعد.
(2) في المدخل. فانظر: الآداب الشرعية للمؤلف 2/ 79.
(3) وأخرجه -كذلك- الخطيب في الفقيه والمتفقه 2/ 12. وأخرجه
إِسحاق بن راهويه في مسنده مرفوعًا وموقوفًا على معاذ، فانظر:
المطالب العالية 3/ 106. وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان
العلم وفضله 2/ 174 عن معاذ مرفوعًا. وأخرج الدارمي في سننه 1/
46 ... حدثنا أبو سلمة الحمصي أن وهب بن عمرو الجمحي حدثه أن
النبي قال: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها). وفي فتح الباري
13/ 266 - 267: وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن
أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعًا ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه: (لا
تعجلوا بالبلية قبل نزولها ...) وهما مرسلان يقوي بعض بعضا،
ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعًا: (لا يزال في
أمتي مَنْ إِذا سئل سُدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل ...)
الحديث.
(4) انظر: الآداب الشرعية للمؤلف 2/ 80، وفيه: قال عكرمة: قال
لي ابن عباس: انطلق فأفت الناس، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن
سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإِنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة
الناس. ورواه الحاكم في تاريخه، وفيه: انطلق فأفت الناس، وأنا
لك عون.
(5) كذا في النسخ. ولعلها: أحمد.
(4/1569)
شيء (1) من أمر العدل، فقال: لا تسأل عن
هذا؛ فإِنك لا تدركه.
وذكر ابن عقيل: أنه يحرم إِلقاء علم لا يحتمله.
وذكر ابن الجوزي: أنه لا ينبغي.
وقال البخاري (2): قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون
أن يكذَّب الله ورسوله".
وروي معناه (3) مرفوعًا من غير طريق.
__________
(1) نهاية 475 من (ح).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 33، وقال: حدثنا عبد الله بن
موسى عن معروف بن خَرَّبُوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك. قال
العراقي في تخريج أحاديث الإِحياء (المغني عن حمل الأسفار) 1/
36: ورفعه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي
نعيم.
(3) قال المؤلف في الآداب الشرعية 2/ 164: روى أبو الحسن
التميمي من أصحابنا في كتاب العقل له بإِسناده عن ابن عباس عن
النبي قال: (نحن معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم).
وكذا أورده أبو الخطاب في التمهيد/ 9 ب. وأبو الحسن التميمي
متهم بالوضع، فانظر: المغني في الضعفاء 2/ 396 - 397، وميزان
الاعتدال 2/ 624 - 626.
ثم قال المؤلف في الآداب 2/ 164 - 165: روى الحافظ ضياء الدين
في المختارة من رواية أحمد بن زياد العتكي ثنا الأسود بن سالم
أنا أبو عبد الرحمن يزيد بن يزيد الزراد عن محمَّد بن عجلان عن
نافع عن ابن عمر عن النبي قال: (أمرنا معشر الأنبياء أن نكلم
الناس على قدر عقولهم). ثم قال الحافظ الضياء: الزراد لم يذكره
ابن أبي حاتم ولا الحاكم أبو أحمد في كتابه الكنى. أ. هـ. وهذا
الحديث (أمرنا أن نكلم) =
(4/1570)
وفي مقدمة مسلم: قال ابن مسعود: "ما أنت
بمحدِّث قوما حديثًا لا تبلغه عقولهم إِلا كان فتنة لبعضهم"
(1).
وعن معاوية مرفوعًا: "نهى عن الغلُوطات". رواه أحمد وأبو داود
(2).
قيل (3): بفتح الغين، واحدها غلوطة، وهي المسائل التي يغالط
بها.
وقيل: بضمها، وأصلها الأُغْلوطات.
__________
=أورده الغزالي في إِحياء علوم الدين 1/ 57. قال العراقي في
تخريج أحاديثه (المغني عن حمل الأسفار): حديث: (نحن معاشر
الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر
عقولهم)، رويناه في جزء من حديث أبي بكر بن الشخير من حديث عمر
أخصر منه، وعند أبي داود من حديث عائشة: أنزلوا الناس منازلهم.
أ. هـ. وبهذا اللفظ -الذي ذكره العراقي عن أبي داود- أخرجه أبو
داود في سننه 5/ 173 - 174 من حديث ميمون بن أبي شبيب عن
عائشة. قال أبو داود: ميمون لم يدرك عائشة. أ. هـ. وأخرج
البيهقي في شعب الإِيمان عن المقدام بن معد يكرب مرفوعاً:
(إِذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم ما يعزب عنهم ويشق
عليهم).
انظر: تدريب الراوي 2/ 138.
(1) انظر: صحيح مسلم/ 11. قال العراقي في تخريج أحاديث
الإِحياء 1/ 36 (المغني عن حمل الأسفار): ورواه العقيلي في
الضعفاء وابن السني وأبو نعيم في الرياء من حديث ابن عباس
بإسناد ضعيف.
(2) انظر: مسند أحمد 5/ 435 - وفيه: قال الأوزاعي: الغلوطات
شداد المسائل وصعابها- وسنن أبي داود 4/ 65. وأخرجه ابن عبد
البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 170، والخطيب في الفقيه
والمتفقه 2/ 11 بلفظ: الأغلوطات. وانظر: الآداب الشرعية للمؤلف
2/ 82.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث 3/ 378.
(4/1571)
ونهى عنها السلف، ويعزر فاعله، ذكره بعض
أصحابنا.
مسألة
قيل لأحمد (1): الرجل يسأل (2) عن مسألة، أَدُلُّه على إِنسان:
هل عليَّ شيء؛ قال: إِن كان متبعًا (3) فلا بأس، ولا يعجبني
رأي أحد.
ونقل الأثرم عنه: قوم يفتون هكذا يتقلدون قول الرجل، ولا
يبالون بالحديث.
ونقل أبو طالب: عجبا لقوم عرفوا الإِسناد وصحته، يدعونه
ويذهبون إِلى رأي سفيان وغيره، قال الله: (فليحذر الذين
يخالفون عن أمره) الآية (4)، الفتنة: الكفر.
وقال لأحمد بن الحسن: ألا تعجب، يقال للرجل: "قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -" فلا يقنع، و"قال فلان" فيقنع.
قال ابن الجوزي -عن أصول ظاهرة البرهان-: لا يهولنك مخالفتها
(5) لقول معظَّم في النفس وَلِطَغَام (6).
__________
(1) انظر: المسودة/ 513.
(2) نهاية 251أمن (ب).
(3) في (ظ): ونسخة في هامش (ب): متعينا.
(4) سورة النور: آية 63.
(5) يعني: كونها مخالفة لقول .. إِلخ.
(6) الطعام: أراذل الناس.
(4/1572)
قال رجل لعليّ: أتظن أنا نظن أن طلبة
والزبير على الخطأ، وأنت على الصواب؟ فقال: إِنه ملبوس عليك،
اعرف الحق تعرف أهله (1).
وقال رجل لأحمد: "إِن ابن المبارك قال كذا"، قال: إِن ابن
المبارك لم ينزل من السماء.
وقال أحمد: من ضيق علم الرجل أن يقلد.
وذُكر لأحمد كلمات عن إِبراهيم بن أدهم (2)، فقال: وقعنا في
بنيات (3) الطريق، عليك بما كان عليه النبي - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه.
وقال ابن الجوزي: التقليد للأكابر أفسد العقائد، ولا ينبغي أن
يناظر بأسماء الرجال، وإِنما ينبغي أن يتبع الدليل، فإِن أحمد
(4) أخذ (5) في الجد
__________
(1) ذكر ذلك ابن عقيل في فنونه على ما سيذكره المؤلف في الصفحة
التالية. وانظر: تلبيس إِبليس/ 81 - 82.
(2) هو: أبو إِسحاق العجلي، وقيل: التميمي، البلخي، سكن الشام،
وروى عن يحيى بن سعيد الأنصاري والثوري وغيرهما، وعنه الأوزاعي
والثوري -أيضًا- وغيرهما، توفي سنة 162 هـ. وثقه النسائي وابن
معين والعجلي.
انظر: الكاشف 1/ 75، وتهذيب التهذيب 1/ 102.
(3) بنيات الطريق: هي الطرق الصغار تتشعب من الجادة، وهي
الترهات. انظر: الصحاح/ 2287. وفي (ظ): بنيان.
(4) انظر: تلبيس إِبليس/ 82، والفنون/ 606.
(5) نهاية 169 أمن (ظ).
(4/1573)
بقول زيد (1)، وخالف الصديق (2).
وفي واضح ابن عقيل: من أكبر الآفات الإِلف لمقالة من سلف أو
السكون إِلى قولِ معظَّم في النفس لا بدليل، فهو أعظم حائل عن
الحق (3) وبلوى تجب معالجتها (4).
وقال في فنونه عمن قال في مفردات أحمد: "الانفراد ليس بمحمود"،
قال: "الرجل ممن يؤثر الوحدة"، ثم ذكر قول علي السابق (5)،
وانفراد الشافعي، وصواب عمر في أسرى بدر (6)، فمن يعيّر بعد
هذا بالوحدة؟
__________
(1) أعطى زيد بن ثابت الجد ثلث المال مع الأخوة، ونصفه مع
الأخ، أخرج هذا سعيد في سننه 3/ 1/ 20، والدارمي في سننه 2/
258، وعبد الرزاق في مصنفه 10/ 265 - 266، 267، والبيهقي في
سننه 6/ 245، 246 - 248.
(2) جعل أبو بكر الجد أبا. أخرج هذا سعيد في سننه 3/ 1/ 20 -
22، والدارمي في سننه 2/ 254 - 256، وعبد الرزاق في مصنفه 10/
263، 265، والبيهقي في سننه 6/ 246. وانظر: فتح الباري 12/ 18
وما بعدها.
(3) نهاية 476 من (ح).
(4) نهاية 251 ب من (ب).
(5) في الصفحة السابقة.
(6) فقد أشار بقتلهم، ونزل القرآن بما يوافق رأيه. ورد ذلك من
طرق، أخرجه مسلم في صحيحه/ 1383 - 1385، والطبري في تفسيره 14/
61 - 63، والحاكم في مستدركه 3/ 21 - 22، والواحدي في أسباب
النزول/ 136 - 138، وأحمد في مسنده 1/ 244، 250، 5/ 227 ط: دار
المعارف.
وانظر: ص 1472.
(4/1574)
وقال: من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده
تَلَوُّن يراعي به أحوال الرجال، (أفإِن مات أو قتل انقلبتم
على أعقابكم) (1)، وكان الصديق ممن ثبت مع اختلاف الأحوال، فلم
تنقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام.
وقال: عاب كِيَا في بعض المجامع مذهب أبي حنيفة، وأخذ يقول:
"المجموع والكثرة، والله أكرم أن يجمع هؤلاء على ضلالة"، فقال
له حنبلي: دليلك في هذا بالكثرة ان استدل به الحنفية وراء
النهر أفلست ووجب عليك الانقياد إِلى مذهبه، فإِن تعاند دليلك
هناك نقلته إِلى الأديان، فمضيت إِلى قسطنطينية (2)، فصرت
نصرانيًا، وهكذا الجهال يفرحون بسوق الوقت، حتى لو اجتمع ألف
أقرع (3) يزعقون (4) على بقرة هراس لقوى قلبه بما يعتقد أولئك،
وينفر قلبه من أدلة المحققين، بهيمية في طباع الجُهَّال لا
تزول بمعالجة.
__________
(1) سورة آل عمران: آية 144.
(2) وهي المعروفة اليوم بـ "استانبول". وانظر: معجم البلدان 4/
347. وقد كانت -زمن هذا القول- تحت سيطرة النصارى.
(3) في لسان العرب 10/ 39: وقولهم: "ألف أقرع" أي: تام، يقال
سقت إِليك ألفا أقرع من الخيل أو غيرها، أي: تاما، وهو نعت لكل
ألف، كما أن "هنيدة" اسم لكل مائة.
(4) يعني: يصيحون. انظر: معجم مقاييس اللغة 3/ 8.
(4/1575)
مسألة
كان السلف يهابون الفتيا ويشددون فيها ويتدافعونها.
وأنكر أحمد وغيره على من يهجم في الجواب، وقال: "لا ينبغي أن
يجيب في كل ما يستفتى"، وقال: إِذا هاب الرجل شيئًا لا ينبغي
أن يحمل على أن يقول.
قال أصحابنا وغيرهم: يحرم تساهل المفتي وتقليد معروف به.
قال في الواضح (1): وِإن كان في المسألة خلاف (2) استحب
إِعلامه إِن كان أهلا للرخصة، كطالب للتخلص من الربا، فيدله
على من يرى التحيل للخلاص منه، والخلع بعدم وقوع طلاق.
وذكر غيره: يحرم الخلع حيلة.
مسألة (3)
ينبغي أن يحفظ الأدب مع المفتي ويُجِلَّه، فلا يقول أو يفعل ما
جرت عادة العوام به، كإِيماء بيده في وجهه، و"ما مذهب إِمامك
في كذا؟ "، أو "ما تحفظ في كذا؟ "، أو "أفتاني غيرك أو فلان
بكذا"، أو "كذا (4) قلتُ أنا؛ أو
__________
(1) انظر: الواضح 1/ 59 ب،60أ.
(2) نهاية 252 أمن (ب).
(3) انظر: المسودة/ 545، 554.
(4) يعني: لا يقول هذا بعد أن يجيبه.
(4/1576)
وقع لي"، أو "إِن كان جوابك (1) موافقًا
(2) فاكتب، وإلا فلا" -لكن إِن علم غرض السائل لم يجز أن يكتب
بغيره (3) - أو يسأله (4) على ضَجَر أو هَمِّ (5) أو قيام
ونحوه، ولا يطالبه بالحجة، وذكر بعض الشافعية (6): لا يمنع
منه، وأنه يلزمه ذكر دليل قاطع، وِإلا فلا.
قال ابن عقيل في المنثور (7): ومن أراد كتابة في فتيا أو شهادة
لم يجز أن يكبر خطه؛ لتصرفه في ملك غيره بلا إِذنه [ولا حاجة]
(8)، كما لو أباحه قميصه، فاستعمله فيما يخرج عن العادة بلا
حاجة.
وكذا في عيون المسائل -في الفتيا والشهادة-: لا يجوز أن يوسع
الأسطر ولا يكثر إِن أمكنه الاختصار.
ويتوجه -مع قرينة- خلاف لنا.
__________
(1) يعني: إِذا استفتى في رقعة.
(2) يعني: لمن أجاب فيها.
(3) يعني: بل يقتصر على مشافهته بالجواب. انظر: المجموع 1/ 88.
(4) نهاية 169 ب من (ظ).
(5) نهاية 477 من (ح).
(6) انظر: المجموع 1/ 99.
(7) لم أعثر على هذا الكتاب. وانظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/ 84.
(8) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ح).
(4/1577)
مسألة
قال ابن عقيل في فنونه: لا يجوز إِطلاق الفتيا في اسم مشترك
إِجماعًا، فلو سئل: أيجوز الأكل بعد طلوع الفجر؟ فلا بد أن
يقول يجوز بعد الفجر الأول لا الثاني.
قال: ومن هنا إِرسال أبي حنيفة من سأل أبا (1) يوسف عمن دفع
ثوبا إِلى قَصَّار، فقصره وجحده: "هل له أجرة إِن عاد سَلَّمه
لِرَبِّه؟ "، وقال: "إِن قال: نعم، أوْ: لا، فقد أخطأ"، فجاء
إِليه، فقال له: "إِن كان قصره قبل جحوده؛ لا بعده؛ لأنه قصره
لنفسه" (2)، واختبر (3) أبو الطيب الطبري أصحابا له في بيع رطل
تمر (4) برطل تمر (5)، فأجازوا، فَخَطأهم، [فمنعوا، فخطأهم]
(6)، فخجلوا، فقال: "إِن تساويا كيلا جاز"، فهذا يوضح خطأ
المطلق في كل ما احتمل التفصيل.
كذا قال، ويتوجه عمل بعض أصحابنا بظاهر.
وقال: حادثة نَبَّهت على التحوز من الخديعة في الفتيا: صبي
بسرته (7)
__________
(1) نهاية 252 ب من (ب).
(2) انظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه/ 15 - 16.
(3) في (ظ): واحترز.
(4) في (ظ): بر.
(5) في (ظ): بر.
(6) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ظ).
(7) في لسان العرب 5/ 124: البُسْرة: رأس قضيب الكلب. وفي (ب)
و (ح): بشرفه.
(4/1578)
ظاهرة، وجلدته مقلّصة، فشاهده الفقهاء،
وأفتى أقوام: "لا يجب خَتْنه"، فوقع في نفس الحنبلي أن يمد يده
ويحرك الجلد، فامتد، واستخف بهم حيث دلّسوا.
قال: وأوجب الشرع والعقل التحرز من العوام بالتقية، كما يلزمه
التحرز من مضار الآخرة، حكي أن حنفيا وطئ رجعيته، فتحدثت -هي
وابن لها من غيره- في قتله وإباحة ماله، فعلم حنبلي، فأعلمهم
بإِباحتها، وهل يسوغ لعاقل أن يهمل هؤلاء ولا يفزع منهم كل
الفزع، ويتجاهل كل التجاهل في الأخذ بالاحتياط [منهم] (1)؟،
وإن أهملهم بعين الازدراء ضيع نفسه، فإِنه عندهم أهون، وهم
أكثر، وعلى الإِضرار به أقدر، وهل طاحت دماء الأنبياء
والأولياء إِلا بأيدي هؤلاء وأمثالهم، حيث رأوا من التحقيق ما
ينكرون، ولا إِقالة لعالم زَلَّ في شيء (2) مما يكرهون.
وقيل له: ينبغي أن تفتي بظاهر ما تسمع.
فقال: لا، فإِني لو سئلت عمن قال لرجل: "يا عالم (3)، يا فاضل،
يا كريم": أمدحٌ هو؟ لم أُفْتِ، فإِن كان فيه معان تنطبق عليها
هذه الأوصاف، وإلا فهي مَجَانَة واستهزاء.
__________
(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ب).
(2) نهاية 253 أمن (ب).
(3) نهاية 478 من (ح).
(4/1579)
والأولى: ما قاله (1) في مفرداته (2)، وقيل
له عن جماع الأعرابي: لم يستفصله النبي عليه السلام: هل كان
سفرا أو حضرا؟، فقال: شاهده وظاهره يقتضي أنه حاضر، فعلامة ذلك
ودلائله أغنته.
....................
__________
(1) نهاية 170 أمن (ظ).
(2) لم أعثر على هذا الكتاب.
(4/1580)
|