الإبهاج في شرح المنهاج ج / 1 ص -338-
الفصل الثامن في تفسير حروف يحتاج إليها
قال رحمه الله الفصل الثامن في تفسير حروف يحتاج إليها
وفيه مسائل:
الأولى: الواو للجمع المطلق بإجماع النحاة ولأنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب مثل
تقابل زيد وعمرو وجاء زيد وعمرو قبله ولأنها كالجمع
والتثنية وهما لا يوجبان الترتيب.
هذا الفصل معقود لتفسير حروف يشتد حاجة الفقيه إلى معرفتها
لكثرة وقوعها في الدلائل وقد أودعه مسائل:
الأولى: في حكم الواو العاطفة وبدأ بها
لأنها أصل الباب وفيها مذاهب:
أحدها: أنها للترتيب وهو الذي اشتهر من
أصحاب الشافعي كما قال إمام الحرمين وهو قضية كلام
الماوردي حيث استدل على الترتيب في الوضوء بآية الوضوء
وقال قد عطف بحرف الواو ذلك موجب للترتيب لغة وشرعا.
الثاني: أنها للمعية وعلية الحنفية كما
قال إمام الحرمين ثم قال وقد ذل الفريقان يعني القائلين
بالترتيب والمعية.
والثالث: وهو المختار أنها لمطلق الجمع لا
تدل على ترتيب ولا معية فإذا قلت جاء زيد وعمرو فقد أشركت
بينهما في الحكم من غير تعرض لمجيئهما معا أو لمجيء أحدهما
بعد الآخر فهي للقدر المشترك بين الترتيب والمعية وهذا ما
نقله القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية عن أكثر أصحابنا
ونقل عن الفراء
ج / 1 ص -339-
أنا
للترتيب حيث يمتنع الجمع مثل اركعوا واسجدوا ويشبه ألا
يكون هذا مذهبا رابعا مفصلا لأن الموضوع للقدر المشترك بين
معنيين إذا تعذر حمله عليه للقرينة موضوعا له بل لتعذر
الحمل على صاحبه وانحصار الأمر فيه ونقل بعضهم عن الفراء
أنه للترتيب وقد استدل في الكتاب على المذهب المختار
بثلاثة أوجه:
أحدها: إجماع النحاة قال أبو علي الفارسي
أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق وذكر
سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه أنها للجمع المطلق.
الثاني: أنها تستعمل حيث يمتنع الترتيب
فإنك تقول تقاتل زيد وعمر والتفاعل يقتضي صدور الفعل من
الجانبين معا وذلك ينافي الترتيب وتقول جاء زيد وعمرو هنا
أن تكون الواو للترتيب وإلا لزم التناقض وإذا استعملت في
غير الترتيب وجب ألا تكون حقيقة في الترتيب رفعا للاشتراك
وهذا الدليل لا يثبت المدعى وإنما ينفي كونها للترتيب.
والثالث: أن النحاة قالوا واو العطف في
المختلفات بمثابة واو الجمع وياء التثنية في المتغقات
ولذلك أنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة
وتثنيتها استعملوا واو العطف ثم إن واو الجمع والتثنية لا
يوجبان الترتيب فكذلك واو العطف وهذا الدليل كالذي قبله لا
ينفي القول بالمعية وهنا أمور:
أحدها: أنه أطلق الواو والصواب تقييده
لواو العطف لتخرج واو مع واو الحال مثل سرت والنيل فإنهما
يدلان على المعية بلا شك.
وثانيها: حكايته الإجماع قلد فيه الإمام
والإمام حكاه عن الفارسي وكذلك نقله السيرافي والسهيلي
وفيه نظر فإن الخلاف موجود عند النحويين في ذلك كما هو
عندهم غيرهم.
وقد سبق النقل عن الفراء وكذلك قال شيخنا أبو حيان في
الارتشاف
ج / 1 ص -340-
ونقله
السهيلي1 والسيرافي2 إجماع النحويين بصريهم وكوفيهم على
ذلك غير صحيح.
وثالثها: وهو المقصود الأعظم والمهم
الأكبر ذكر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام
عن بعض الباحثين المتعلقين بعلم المعقول أنه فرق بين مطلق
الماء والماء المطلق بما حاصله أن الحكم المعلق بمطلق
الماء يترتب على حصول الحقيقة من غير قيد والمرتب على
الماء المطلق مرتب على الحقيقة بقيد الإطلاق ولا يلزم من
توقف الحكم على مطلق الحقيقة توقفه على الحقيقة المقيد
بقيد الإطلاق قلت وقد جرى البحث مع والدي رحمه الله في
قاعدة مطلق الشيء والشيء المطلق ولا شك أنه إذا أخذ المطلق
قيدا في الشيء كان المراد بالأول حقيقة الماهية وبالثاني
هي تقيد الإطلاق فالأول لا يقيد والثاني يقيد لا.
وقولنا يقيد لا يقيد التجرد عن جميع القيود إلا قيد لا وقد
لا يراد ذلك بل يراد التجرد عن قيود معروفة ولذلك أمثلة
منها مطلق الماء والماء المطلق.
فالأول: ينقسم إلى الطهور والطاهر غير
الطهور والنجس وكل الطاهر غير الطهور والنجس ينقسم بحسب ما
يتغير به ويخرجه ذلك عن أن يطلق عليه أسم الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحمن عبد الله أحمد الخثعمي السهيلي كان عالما
باللغة والسير ضريرا.
من كتبه الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام
والتعريف والإعلام في ما أبهم في القرآن من الأسماء
والأعلام.
توفي سنة 581 هـ.
تذكرة الحفاظ 4/137 الأعلام 4/86.
2 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي نحوي عالم
بالأدب وكان معتزليا متعففا لا يأكل إلا من عمل يده.
من مؤلفاته الإقناع في النحو أكمله بعده ابنه يوسف وأخبار
النحويين البصريين وصيغة الشعر وغير ذلك.
توفي سنة 368 هـ.
وفيات الأعيان 1/130 الأعلام 2/110, 111.
ج / 1 ص -341-
والثاني: وهو الماء المطلق لا ينقسم إلى هذه الأقسام وإنما يصدق على أحدها
وهو الطهور وذلك لأنه أخذ فيه قيد الإطلاق وهو التجرد عن
القيود اللازمة التي يمتنع بها أن يقال له ماء إلا مقيدا
كقولنا ماء متغير بزعفران أو أشنان أو نحوه وماء اللحم
وماء الباقلا وما أشبه ذلك.
ومنها اسم الرقبة وحقيقتها يصدق على السليمة والمعيبة
والمطلقة لا يصدق إلا على السليمة فلا يجزى في العتق عن
الكفارة إلا رقبة سليمة لإطلاق الشارع إياها والرقبة
المطلقة مقيدة بالإطلاق بخلاف مطلق الرقبة.
ومنها الدرهم المذكور في العقود قد يقيد بالناقص والكامل
وحقيقية منقسمة إليهما وإذا أطلق يتقيد بالكامل المتعارف
ونحوها في الرواج بين الناس.
ومنها الثمن والأجرة والصداق وغيرها من الأعراض المجعولة
في الذمة ينقسم إلى الحال والمؤجل وإذا أطلقت إنما تحمل
على الحال فالإطلاق قيد اقتضى ذلك.
ومنها حقيقة القرابة يدخل فيها الأب والإبن وغيرهما من
القرابات وعند الإطلاق لا يدخل فيها الأب والإبن لأنهما
أعلى من أن يطلق فيهما لفظ القرابة لما لهما من الخصوصية
المقتضية لمزيد على بقية القرائب فيقال إنهما أقرب الأقارب
وأفعل التفضيل يستدعي المشاركة فلولا ما قلناه من تحقق
معنى القرابة فيهما لما صدق عليهما أنهما أقرب الأقارب
وإنما امتنع إطلاق القرابة عليهما لما يقتضيه الإطلاق من
التقييد بالقرابة العامة التي لا مزيد فيها على مجرد
القرابة.
هذا ما حرره والدي أيده الله تعالى حال البحث وكان أصل
البحث في مسألة القرابة فلذلك أوردناه وقد أوردت عليه إذ
ذاك سؤالات وألف مختصرا لطيفا في ذلك وأجاب عنها فلنذكرها
على وجه السؤال والجواب.
فإن قلت اللفظ إنما وضع لمطلق الحقيقة لا للحقيقة المطلقة
فتقييدكم إياه
ج / 1 ص -342-
عند
الإطلاق بالحقيقة المطلقة من أين قلت من جهة إطلاق المتكلم
فصار إطلاقه قيدا في اللفظ.
فإن قلت من المعلوم أنه ليس في اللفظ فهل يقولون إن ذلك
قرينة حالية أو لفظية وهي متوسطة بين القرائن الملفوظ بها
والقرائن الحالية وهي هيئة صادرة من المتكلم عند كلامه
وذلك أن الكلام قد يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان
وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتغير معناه بالتقييد.
فإنك إذا قلت قام الناس كان كلاما يقتضي إخبارك بقيام جميع
الناس فإذا قلت إن قام الناس خرج عن كونه كلاما بالكلية
فإذا قلت قام الناس إلا زيدا لم يخرج عن كونه كلاما ولكن
خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا وقد علمت
أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين:
أحدهما: ألا يبتدئه بما يخالفه وله شرط
ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا عبرة بكلام الساهي
والنائم فهذه ثلاثة شروط.
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كاف في الإفادة
لأن الواضع وضعه لذلك؟
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله متهيأ لأن يفيد ذلك
المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمقيد
في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم تعلم من قائله هل قصده وهل
ابتدأه أو ختمه بما يغيره هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام
الناس؟
قلت قد تقدم الجواب عن هذا في أول باب اللغات وكذلك ما
قبله وبالله التوفيق.
وإنما دعا إلى ذكر هذا البحث جميعه الاعتراض على قول
المصنف الجمع المطلق وأنه كان الأسد أن يقول مطلق الجمع
فساق النظر إلى ذكر هذه المباحث الجليلة.
ج / 1 ص -343-
قال
قيل أنكر ومن عصاهما ملقنا ومن عصى الله ورسوله.
قلنا ذلك لأن الأفراد أشد تعظيما قيل لو قال لغير المدخول
بها أنت طالق وطالق طلقت واحدة بخلاف أنت طالق طلقتين.
قلنا الإنشاءات مترتبة بترتيب اللفظ وقوله طلقتين تفسير
لطالق.
احتج القائلون بأن الواو للترتيب بوجهين:
الأول: ما روى مسلم في صحيحه أن رجلا خطب
عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله فقد
رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله"1 وهذا يدل على أنها للترتيب إذ لو كانت للجمع لما حسن الذم.
أجاب بأن ذلك ليس لأنها للترتيب بل لأن الإفراد بالذكر أشد
في التعظيم ومما يدل على هذا أنه لا يترتب بين عصيان الله
وعصيان نبيه صلى الله عليه وسلم بل معصية الله معصية
الرسول صلى الله عليه وسلم لتلازمهما.
فإن قلت ما الجمع بين إنكاره صلى الله عليه وسلم على هذا
الخطيب مع قوله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث من كن
فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه
مما سواهما"2.
وقال في حديث آخر: "فإن
الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم"
فقد جمع بينهما في ضمير واحد وقد قلت أجيب بوجهين:
أحدهما: النبي صلى الله عليه وسلم أنكر
ذلك على الخطيب لكونه عدل عن الأولى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم كتاب الجمعة 6/158 بشرح النووي من حديث عدي بن
حاتم منفردا به وذكره الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على
شرط الشيخين كما رواه أبو داود والنسائي 6/71 شرح السيوطي.
2 حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد والترمذي
والنسائي وابن ماجه من حديث أنس – رضي الله عنه – أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما
سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في
الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" الفتح الكبير 2/49.
ج / 1 ص -344-
والأفضل لا سيما وهو في مقام الخطابة المقتضى للتعليم وأما
النبي صلى الله عليه وسلم فلم لا يفعل إلا الأولى فإنه في
مقام تشريع وتبيين ففعل الأولى له بتبيينه الأولى ليدل على
الجواز.
والثاني: أن حسن الكلام إيجازا وإطنابا
مما يختلف باختلاف المقام فرب مقام يقتضي الإطناب وبسط
العبارة ورب آخر لا يقتضي ذلك والخطيب كان في مقام الترغيب
والدعاء إلى طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
فناسب بسط العبارة والمبالغة في الإيضاح.
الوجه الثاني: للقائلين بأن الواو للترتيب أن الرجل إن قال
لزوجته التي لم يدخل بها أنت طالق طالق طلقت واحدة على
المذهب الصحيح ولو كانت الواو لمطلق الجمع لكان مثل قوله:
أنت طالق طلقتين حتى يقعا.
أجاب بأن قوله: وطالق معطوف على الإنشاء فكان إنشاء آخر
أتى به بعد تمام الأول وعمله عمله لأن معاني الإنشاء
مقاربة لألفاظها فيكون قول ثانيا وطالق إنشاء لإيقاع طلقة
أخرى في غير وقت قابل للطلاق لأنها بالأولى بانت إذ هي غير
مدخول بها بخلاف قوله: طلقتين أو ثلاثا فإنه تفسير للكلام
الأول وبيان لما قصد به لا إنشاء ثان.
خاتمة قد عرفت دعوى إمام الحرمين أن المشتهر في أصحاب
الشافعي أن الواو للترتيب وما قاله الماوردي وهذا لعله أخذ
من مسألة الترتيب في الوضوء وإن كان ذلك فهو لا يكفي في
تسويغ النقل على هذه الصورة فإن للأصحاب مستندا آخر غير
كون الواو للترتيب وقد قيل إن الناقلين لكون الواو للترتيب
عن الشافعي إنما هم قوم من الحنفية من غير ثبت بل بمجرد ظن
من مسألة الترتيب في الوضوء ولذلك قال الأستاذ أبو منصور
البغدادي معاذ الله أن يصح هذا النقل عن الشافعي بل الواو
عنده لمطلق الجمع.
قلت وهو اللائق بقواعد مذهبه وعليه تدل الفروع وقد اتفق
الأصحاب قاطبة على أن قول القائل وقفت على أولادي وأولاد
أولادي مقتض للتسوية والتشريك بينهم دون الترتيب ولا نعلم
أحدا قال بالترتيب وإن أتى في بعض
ج / 1 ص -345-
وثانيا
بأن ما يؤكد الجملة مما ذكر وأن به التأكيد لم يصطلح
النحاة على تسميته تأكيدا ولم يدخله في باب التأكيد وليس
كل ما يحصل به التأكيد يكون تأكيدا في الاصطلاح بل لو قال
القائل أؤكد عليك لم يكن تأكيدا مع صراحته فيه واشتماله
على لفظه.
إذا عرفت ذلك فقالت النحاة التوكيد على نوعين لفظي ومعنوي
الأول اللفظي قال في الكتاب وهو أن يؤكد بنفسه أي بتكرار
ذلك اللفظ الأول ومثل له بقوله صلى الله عليه وسلم "والله لأغزون
قريشا" ثلاثا والحديث مروي في سنن أبي داود من حديث مسعر عن سماك عن عكرمة
مرفوعا واللفظ
"والله
لأغزون قريشا"
ثم قال
"إن شاء الله"
ثم قال
"والله لأغزون
قريشا إن شاء الله" ثم قال
"والله لأغزون قريشا" ثم سكت ثم قال
"إن شاء الله" ورواه أبو
داود من طريق أخرى مرسلا وهو بهذا اللفظ غير صريح في
التأكيد لاحتمال أن كل جملة مقصودة بإنشاء الحلف في نفسها
ألا ترى إلى استثنائه في كل منها وسكوته في البعض وقد ذكر
النحاة من شواهده قول الشاعر:
أيا من لست أقلاه
ولا في البعد أنساه
لك الله علي ذاك
لك الله لك الله1
هذا شرح ما ذكره المصنف
في اللفظي وقد قال النحويون إن إعادة اللفظ بعينه على
ضربين:
الأول أن يكون ذلك في الجمل وهو إما مقرون بعاطف كقوله
تعالى:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الدِّينِ}2
وقوله تعالى:
{أَوْلَى
لَكَ فَأَوْلَى*ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}3 وإما مجرد منه كالبيت الذي ذكرناه.
والضرب الثاني أن يكون في المفردات وهو إما أن يكون اسما
كقولك قام زيد زيد وقوله تعالى:
{كَلَّا
إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً}4
أو فعلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم تنسب هذه الأبيات إلى قائل معين.
2 سورة الانفطار آية 17 18.
3 سورة القيامة آية 34 35.
4 سورة الفجر آية 21.
الفروع خلاف فمنشأة اختيار من صاحب ذلك الوجه أن الواو
للترتيب ومن ذلك قول الأصحاب فيما يقال إن دخلت الدار
وكلمت زيدا فأنت طالق لا بد من وجودهما في وقوع الطلاق ولا
يقع بهما إلا طلقة ولا فرق بين أن يتقدم الكلام أو يتأخر
وفي التتمة ما يقتضي إثبات خلاف فيه لأنه قال من جعل الواو
للترتيب فلا بد عنده من أن يتقدم الدخول على الكلام.
قال االرافعي ومن الأصحاب من جعل الواو للترتيب وذكر
الرافعي في آخر باب القسم والنشوز أنه لو قال لوكيله خذ
مالي ثم طلقها لم يجز تقديم الطلاق ولو قال خذ مالي وطلق
فهل يشترط تقديم أخذ المال أو لا يشترط ويجوز تقديم الطلاق
كما لو قال طلقها وخذ مالي فيه وجهان:
رجح صاحب التهذيب منهما الأول.
قلت وليس الوجهان في المسألة ناظرين إلى ما نحن ناظرين فيه
من اقتضاء الواو للترتيب وإنما القائل بوجوب تقديم المال
ناظر إلى أن الموكل قدمه في كلامه والوكيل يراعي المصلحة
فليقدم أخذ المال والمخالف ناظر إلى عدم اقتضاء الواو
للترتيب ويدل على هذا أنه لا خلاف أنه يجوز تقديم المال في
عكسه وهو ما إذا قال طلقها وخذ مالي بل لو صرح بثم التي
وضعت للتراخي لجاز له تقديم أخذ المال على الطلاق قال
الرافعي لأنه زيادة خير.
فإن قلت قد نقل الرافعي في التدبير عن صاحب التهذيب فيما
إذا قال لعبده إن مت ودخلت الدار فأنت حر لا بد أن يقع
دخوله الدار بعد موت السيد ولم يحك ما يخالفه فقد جعلوها
هنا للترتيب.
قلت هذا مشكل والظاهر أنه مبنى على أن الواو للترتيب وإلا
فأي فرق بين هذه المسألة والمسألة التي قدمناها فيما إذا
قال إذا دخلت الدار وكلمت زيدا ولم يقل أحد بالترتيب إلا
ما أخرجه صاحب التتمة.
وعلى الجملة إن وضح معنى في هذه المسألة فقد حصل الغرض من
أن الفرع غير مبني على اقتضاء الواو للترتيب وإلا فما قاله
الأصحاب في مسألة إن دخلت الدار وكلمت زيدا يناقضها وهو
أصح.
ج / 1 ص -346-
قال الثانية الفاء للتعقيب إجماعا ولهذا ربط به الجزاء إذا لم يكن فعلا.
وقوله لا تفتروا على الله كذبا فيستحكم مجاز..
الفاء للتعقيب أي يدل على وقوع الثاني عقيب الأول من غير
مهلة ولكن في كل بحبسه كقولك دخلت بغداد فالبصرة وقولك قمت
فمشيت فالأول أفاد التعقيب على ما يمكن والثاني أفاده على
الأثر إذ هو ممكن واستدل في الكتاب على أنها للتعقيب
بإجماع أهل اللغة على ذلك وقد قلد في نقل هذا الإجماع
الإمام وليس بجيد فقد ذهب الجرمي إلى أنها للترتيب إلا في
الأماكن والمطر فلا ترتيب تقول.
عفا مكان كذا فكان كذا وإن كانت عفاهما في وقت واحد ونزل
المطر مكان كذا فمكان هكذا وإن كان نزولهما في وقت واحد
وزعم الفراء أن ما بعد الفاء يكون سابقا إذا كان في الكلام
ما يدل عليه وجعل من ذك قوله تعالى:
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً
أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}1
ومعلوم أن مجيء البأس سابق للهلاك وزعم الفراء أيضا أن
الفعلين إذا كان وقوعهما في وقت واحد ويؤولان إلى معنى
واحد فإنك مخير في عطف أيهما شئت على الآخر بالفاء تقول
أحسنت إلي فأعطيتني وأعطيتني فأحسنت إلي.
قوله ولهذا أعلم أن الإمام نقل أن منهم من احتج على أن
الفاء للتعقيب بأنها لو لم تكن للتعقيب لما دخلت على
الجزاء إذا لم تكن بلفظ الماضي والمضارع لكنها تدخل فهي
للتعقيب بيان الملازمة أن جزاء الشرط قد يكون بلفظ الماضي
كقولك من دخل داري أكرمته أو بلفظ المضارع من دخل يكرم وقد
يكون لا بهاتين اللفظتين وحينئذ لا بد من ذكر الفاء كقولك
من دخل داري فله درهم.
وأما قول الشاعر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 4.
ج / 1 ص -347-
من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله سيان1
فقد أنكره المبرد وزعم
أن الرواية الصحيحة من يفعل الخير فالرحمن يشكره وإذا أوجب
دخول الفاء على الجزاء وثبت أن الجزاء لا بد وأن يحصل عقيب
الشرط علمنا أن الفاء للتعقيب قوله وقوله: {لا تَفْتَرُوا}
جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال قد جاءت الفاء بمعنى
التعقيب في قوله:
{لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}2 والإسحات لا يقع عقيب الافتراء بل يتراخى إلى الآخره وجوابه أن
الفاء قد ثبت بما قررناه من الدليلين أنها حقيقة في
التعقيب فوجب حمل ما ذكرتموه على المجاز وذلك لأن الإسحات
لما كان متحقق الوقوع جزاء للافتراء نزل منزلة الواقع
عقيبه.
فرع قضية اقتضاء الفاء التعقيب أنه إذا قال مثلا إن دخلت
الدار فكلمت زيدا فأنت طالق فلا بد من وقوع الطلاق من وقوع
كلامها لزيد عقيب دخولها.
وحكى الأصحاب وجهين فيما إذا قال لعبده إذا مت فشئت فأنت
حر أصحها عند الأكثرين اشتراط اتصال المشيئة بالموت لكون
الفاء تقتضي التعقيب وهما جاريان في سائر التعليقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قاله كعب بن مالك ويروى:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله مثلان
2 سورة طـه آية: 61.
قال الثالثة في الظرفية ولو تقديرا مثل:
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ولم يثبت مجيئها للسببية.
لفظة في للظرفية تحقيقا نحو الماء في الكوز أو تقديرا مثل
قوله تعالى حكاية:
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} لتمكن المطلوب على الجذع تمكن الشيء في المكان ومن النحاة من يقول
في هنا بمعنى على واختاره الشيخ جمال
ج / 1 ص -348-
الدين
بن مالك1 لكن الذي عليه الجمهور وهو مذهب سيبويه الأول.
وقول المصنف في للظرفية ولو تقديرا يحتمل أمورا:
أحدها: أنها تكون حقيقة في للظرفية محققة
مجازا في المقدرة وهذا مذهب سيبويه والمحققين.
والثاني: أن تكون مشتركة بينهما.
والثالث: وهو الأقرب إلى الصواب أن تكون
حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز وحينئذ تكون
من قبيل المشكك أن معنى الظرفية في المحققة أوضح.
قوله ولم يثبت مجيئها للسببية.
اعلم أن الإمام نقل عن بعض الفقهاء أنها للسببية لقوله
عليه السلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل وضعفه بأن
أحدا من أهل اللغة ما ذكر ذلك مع أن المرجح في هذه المباحث
إليهم وهذا الذي ذكره الإمام ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه شهادة نفي وقد رد هو على ابن
جني في مسألة الباء بذلك فكيف يرد به هنا.
والثاني: أن ذلك شائع ذائع في لسان العرب
في القرآن والسنة وشعر العرب أما القرآن ففي قوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ
فِي مَا أَفَضْتُمْ}2 و
{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الله بن مالك الطائي أبو عبد الله جمال
الدين أحد الأئمة في علوم العربية وصاحب الألفية المشهورة.
ولد في جيان بالأندلس ونتقل إلى دمشق حتى توفي بها سنة 672
هـ
بغية الوعاة ص 53 الأعيان 7/111.
2 سورة النور آية: 14.
3 سورة الأنفال آية: 68.
ج / 1 ص -349-
وأما
السنة فالحديث الذي أورده وما روي أيضا من قوله صلى الله
عليه وسلم: "دخلت امرأة النار في هرة"1.
وأما العرب فقال الشاعر:
بكرت باللوم تلحانا
في بعير ضل أو حانا
ومثله:
لوى رأسه عني ومال بوده
أغاينج خود كان فينابزورها
أغاينج بالغين المعجمة
والنون المكسورة والخود بفتح الخاء المعجمة المرأة
الجميلة.
وهذا هو الذي اختاره ابن مالك والإنصاف في لفظه في أنها
حقيقة في الظرفية مجاز في السببية وقد ذكر بعضهم للفظة في
موارد أخرى.
قال الشيخ أبو حيان وتأول أصحابنا كل ذلك وردوه إلى معنى
الوعاء.
قال الرابعة من لابتداء الغاية والتبيين والتبعيض وهي
حقيقة في التبيين دفعا للاشتراك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وابن وأحمد في مسنده من
حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – قال:
"دخلت امرأة النار في هرة ربطها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش
الأرض حتى ماتت"
الفتح الكبير 2/110.
لفظة من ترد لابتداء الغاية وللتبيين وللتعيض فأما ورودهما لابتداء الغاية
فهو إما في المكان وهو مجمع عليه ومنه قوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}1 وأما في الزمان مثل: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ}2
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}3 وفي الحديث:
"فمنظرنا من الجمعة إلى الجمعة وفيه من نصف النهار إلى
صلاة العصر".
وقال الثانية تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن
كل التجارب وقال الراجز:
تنتهض الرعدة في ظهري من لدن الظهر إلى العصر
وهذا قد أثبته الكوفيون
وصححه ابن مالك وشيخنا أبو حيان منعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مفتتح سورة الاسراء.
2 سورة التوبة آية: 108.
3 سورة الروم آية: 4.
ج / 1 ص -350-
البصريون قال شيخنا وتأولهم مجيئها لذلك مع كثرته في لسان
العرب نثرها ونظمها كثرة تسوغ القياس ليس لشيء.
واعلم أن من قد تدخل لابتداء الغاية في غير المكان والزما
ن نحو قرأن من أول سورة البقرة إلى آخرها وفي الحديث "من
محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم"
وأما ورودها للتبيين فكقوله سبحانه وتعالى:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}1 وقوله:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}2.
وبهذا قال ابن بابشاذ وابن النحاس وعبد الدايم القيرواني
وابن ملك.
قال شيخنا أبو حيان وقد أنكر ذلك أكثر أصحابنا وزعموا أنها
لم ترد لهذا المعنى وقالوا هي في قوله:
{مِنَ الْأَوْثَانِ}
لابتداء الغاية وانتهائها لأن الأوثان نحاس مصوغ أو ذهب أو
غير ذلك فليس الرجس ذاتها ولا النجس الذي صنعت منه وإنما
وقع الاجتناب على عبادتها ووصف الرجس المعبود منها ومن في
الآية كهي في قولك أخذته من التابوت ألا ترى أن اجتناب
عبادة الوثن ابتداؤه وانتهاؤه وأما وعد الله الذين آمنوا
فنقدر أن الخطاب عام للمؤمنين وأما ورودها للتبعيض فنحو
أخذت من الدراهم ومنه قوله تعالى:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللَّهُ}3
وهو كثير وقد زعم الأخفش الصغير4 والمبرد5 وابن السراج6
والسهيلي وطائفة أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية: 30.
2 سورة النور آية: 55.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 هو علي بن سليمان بن الفضل أبو المحاسن المعروف بالأخفش
الأصغر نحوي من العلماء من أهل بغداد أقام بمصر مدة ثم قدم
حلب ثم رجع إلى بغداد حتى توفي بها سنة 315 هـ.
وفيات الأعيان 1/332 الأعلام 5/103.
5 هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزجي أبو
العباس المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمنه وأحد
أئمة الأدب والأخبار ولد بالبصرة سنة 210 هـ
من مؤلفاته الكامل في اللغة والأدب شرح لامية العرب طبقات
النحاة البصريين توفي ببغداد سنة 286 هـ
وفيات الأعيان 1/495 الأعلام 8/15.
6 هو محمد بن السري بن سهل أبو بكر أحد أئمة الأدب
والعربية من أهل بغداد ويقال ما................=
ج / 1 ص -351-
من لا
تكون إلا لابتداء الغاية وصححه ابن عصفور ويعرف كونها
لابتداء الغاية بصحة وضع الذي مكانها وكونها للتبعيض بصحة
وضع البعض.
ثم قال المصنف تبعا للإمام إنها حقيقة في التبيين لأنه
مشترك بين المعاني المتقدمة كلها إذ يتبين في الأول ابتداء
الخروج.
وفي الثاني: في مثل:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}
تبين المجتنب.
وفي الثالث: مثل أخذت من الدراهم تبيين المأخوذ منه فيكون
متواطئا حقيقة في القدر المشترك وإلا فإن كان حقيقة في كل
واحد يلزم الاشتراك أو في البعض دون البعض يلزم المجاز
فليكن حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك ودفعا للمجاز
ولم يذكر المصنف المجاز ولا بد منه وقد ذكروا ل من موارد
أخرى لا نطيل بتعدادها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله من مؤلفاته
الأصول في النحو والشعراء شرح كتاب سيبويه توفي سنة 361
هـ.
الوافي بالوفيات 3/86 الأعلام 7/6.
قال الخامسة الباء تعدي اللازم وتجزي المتعدي لما نعلم من الفرق بين مسحت المنديل
بالمنديل ونقل إنكاره عن ابن جني ورد بأنه شهادة نفي.
للباء حالتان إحداهما أن تدخل على فعل لا يتعدى بنفسه
كقولك كتبت بالقلم ومرت بزيد فلا تقتضي إلا مجرد الإلصاق
وهذه الحالة هي التي عبر عنها في الكتاب بقوله الباء تعدي
اللازم والتعبير بالإلصاق أحسن ولم يذكر لها سيبويه1 معنى
غيره وأما التعبير بتعدية اللازم فليس بجيد فإنها قد
لاتكون كذلك كما في المثالين المذكورين وقد تكون كذلك كما
قوله تعالى:
{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته.
2 سورة البقرة آية: 17.
ج / 1 ص -352-
وكذلك:
{بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فيصير الفاعل مفعولا به فتكون الباء بمعنى الهمزة في قولك أذهب.
الثانية: أن تدخل على فعل يتعدى بنفسه وهو
مراد المصنف بقوله تجزي المتعدي أن تقضي التبعيض كقوله
تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}
وخالفت الحنفية في ذلك لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أن
يقال مسحت يدي بالمنديل ومسحت المنديل بيدي فإن الأول يفيد
التبعيض والثاني يفيد الشمول وهذا الاستدلال ضعيف.
أما أولا فلأنه مناقض لما ذكره في المجمل والمبين كما
سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما ثانيا فلأن مسح يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما يمسح
به بالباء فتقدير مسحت المنديل مسحت المنديل بيدي فالمنديل
ممسوح فيه واليد آلة وتقدير مسحت بالمنديل مسحت وجهي
المنديل فالوجه ممسوح والمنديل آلة فلا تكون الباء فيه
للتبعيض وإنما هي للتعدية وفهم التبعيض منه إن سلم إنما هو
لكون المنديل فيه آلة والعمل في جاري العوائد إنما يكون
ببعض الآلة كما تقول أخذت بثوب زيد وإنما أخذت ببعض ثوبه
ومنه:
{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ}.
وقد ذكرنا أن سيبويه لم يذكر لها معنى غير الإلصاق.
قال البصريون لا يكون إلا بمعنى الإلصاق والاختلاط حقيقة
أو مجازا إذا لم تكن زائدة وقد يتجرد الإلصاق وقد ينجر
معها معان أخر فالإلصاق حقيقة وصلت هذا بهذا أو مجازا مررت
بزيد والتصق المرور بمكان بقرب زيد وذكروا أن المعاني التي
تنجر مع الإلصاق ستة أنواع النقل ويعبر عنه بالتعدية كما
سبق في قول:
{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ويكون الفعل قبلها لازما ومتعديا نحو صككت الحجر بالحجر أصله صك
الحجر الحجر والإلصاق في هذا واضح والسببية نحو مات زيد
بالجوع والاستعانة نحو كتبت بالقلم.
وأدرج ابن مالك هذا في السببية والمصاحبة ويصلح معها مع
نحو جاءكم الرسول بالحق والحال نحو وهبتك الفرس بسرجه أي
مسرجا
ج / 1 ص -353-
والظرفية وهي التي يصلح مكانها في نحو زيد بالبصرة
والقسمية نحو بالله لأقومن ألصقت فعل القسم المحذوف بالقسم
به.
هذا كلام شيخنا في الارتشاف وهذه الأقسام سبعة وقد ذكر
أنها ستة فما أدرى ما أراد وذكر ابن مالك أنها تأتي
للتعليل قال وهو يحسن غالبا في موضع اللام كقوله تعالى:
{إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}1.
قال شيخنا أبو حيان ولم يذكر أصحابنا هذا وكأن السبب
والتعليل عندهم واحد وذكر ابن مالك أيضا أنه تكون للبدل
قال وهي التي يصلح مكانها بدل نحو قوله:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا2
أي بدلهم وللمقابلة وهي
الداخلة على الأثمان والأعواض نحو اشتريت الفرس بألف وقد
يسمى باء العوض وذهب الكوفيون إلى أن الباء قد تأتي بمعنى
عن وذلك بعد السؤال نحو:
وإن تسألوني بالنساء فإنني
خبير بأحوال النساء طبيب3
أي عن النساء.
وقال الأخفش ومثله فاسأل به خبيرا واستدل ابن مالك لهذا
القول بقوله تعالى:
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}4 أي عن الغمام وكان الأستاذ أبو علي يقول اسأل بسببه خبيرا وسبب
النساء أي لتعلموا حالهن.
وذهب الكوفيون أيضا إلى أن الباء تكون بمعنى على وهو الذي
عزاه إمام الحرمين إلى الشافعي واستدل عليه بقوله:
{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 54.
2 قائلة: قريظ بن أنف أحد بني العنبر.
حماسة أبي تمام ص 4.
3 قائل هذا البيت هو عبدة بن الطبيب في معلقته.
المعلقات العشر للتبريزي.
4 سورة الفرقان آية: 25.
ج / 1 ص -354-
إِلَيْكَ} أي على دينار وزعم بعض النحاة أن الباء تدخل على الاسم حيث يراد
الشبيه نحو لقيت بزيد الأسد ورأيت به القمر أي لقيت بلقائي
إياه الأسد أي شبهه
والصحيح أنها للسبب أي بسبب لقائه وبسبب رؤيته وزعم أيضا
أنها تدخل على ما ظاهره أن المراد به غير ذات الفاعل أو ما
أضيف إلى ذات الفاعل نحو قول طفيل الغنوي:
إذا ما غزا لم يسقط الروع رمحه
ولم يشهد الهيجاء بالموت معصم
الألوث الضعيف ويقال
الرجل الذي يمسك بعرف فرسه خوف السقوط معصم بضم الميم
بعدها عين مهملة ساكنة ثم صار مهملة مكسورة وقيل المعصم
الذي يتحصن بالجبال فيمتنع فيها فظاهره أن فاعل يشهد غير
الوث معصم والفاعل في الحقيقة هو ألوث معصم وتكون الباء
زائدة كما في قوله تعالى:
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}1
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} و
{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} و
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ}
فهذا من أجمع ما ذكره النحاة من موارد الباء.
وأما ورودها للتبعيض فقد ذكره ابن مالك ومن شواهده شرب
التريف ببرد ماء الحشرج أي من برد وقال ذلك في التذكرة
الفارسي وهو مذهب الكوفيين تبعهم فيه الأصمعي والقتبي في
قوله: شربن بماء البحر وتأوله ابن مالك على التضمين أي
روين بماء البحر.
وقال إمام الحرمين ذهب بعض فقهائنا إلى أن الباء إذا اتصل
بالكلام مع الاستغناء عنه اقتضى تبعيضا وزعموا أنه في قوله
تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يتضمن ذلك وهذا خلاف من الكلام لا حاصل له وقد اشتد نكير ابن جني
في سر الصناعة على من قال ذلك فلا فرق بين أن نقول مسحت
رأسي ومسحت برأسي والتبعيض يتلقى من غير الباء كما ذكرته
في الأساليب انتهى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية: 25.
ج / 1 ص -355-
قوله
ونقل أي احتج من زعم أنها ليست للتبعيض بأن أبا الفتح بن
جني من أئمة اللغة وقد اشتد نكيره على من قال إنها للتبعيض
وقال إنه شيء لا يعرف في اللغة وأجاب المصنف تبعا للإمام
بأن ما ذكره ابن جني شهادة على النفي فلا تقبل وهو حيد عن
سبيله الإنصاف إذ الواصل في فن إلى نهايته والبالغ فيه إلى
أقصى غاياته يقبل قوله: فيه نفيا وإثباتا وقد وافق ابن جني
على ذلك صاحب البسيط فقال لم يذكر أحد من النحويين أن
الباء للتبعيض.
وقال بعضهم لو كانت للتبعيض لقلت زيد بالقوم تريد من القوم
وقبضت بالدراهم أي منها ثم إن المصنف تبعا للإمام أيضا شهد
على النفي في مسألة في حيث قال ولم يثبت مجيئها للسببية
فليست شهادتهما في لغة العرب على النفي أولى بالقبول من
شهادة أبي الفتح بن جني وصاحب البسيط معاذ الله أن يكون
ذلك نعم كان الطريق في الرد على ابن جني أن يعرض عليه
مواضع من كلامهم ورد ذلك فيها كما في قوله تعالى:
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي منها.
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها
آخذا بقرونها
شرب التريف ببرد ماء الحشرج1
وقال غيره:
شربت بماء
الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم2
الدحرضان بضم الدال
بعدها حاء مهملة ساكنة ثم راء مهملة مضمومة ثم ضاد معجمة
مفتوحة وهما ماءان يقال لأحدهما وسيع وللآخر الدحرض وهما
مما غلب فيه أحد القرينين على الآخر كالقمرين والعمرين
وقال الآخر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قائله عمر بن أبي ربيعة وقيل لجميل بن معمر.
لسان العرب مادة حشرج.
2 قائله عنترة بن شداد راجع لسان العرب مادة دحرض.
ج / 1 ص -356-
شربن بماء البحر ثم ترفعت
متى لحج خضر لهن تثيج
وقد ذكرنا أن الكوفيين
والأصمعي والقتبي وابن مالك ذكروا ذلك.
قال السادسة
إنما للحصر لأن إن للإثبات وما للفي فيجب الجمع على ما أمكن.
وقد قال الأعشى وإنما العزة للكاثر وقال الفرزدق.
وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي.
وعورض بقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قلنا المراد الكاملون.
تقييد الحكم بإنما مثل إنما قام زيد هل يفيد حصر الأول في
الثاني بمعنى أنه تفيد إثبات الحكم في المحكوم عليه ونفيه
عن غيره فيه مذهبان:
أحدهما: تفيد الحصر وبه قال القاضي وأبو
إسحاق الشيرازي والغزالي وعليه الإمام وأتباعه منهم صاحب
الكتاب.
والثاني: لا بل تفيد الإثبات واختاره
الآمدي واحتج الأولون بوجهين:
أحدهما:
أن كلمة أن تقتضي الإثبات وما تقتضي النفي فعند تركيبهما
يجب بقاء كل منهما على أصله لأن الأصل عدم التغيير وحينئذ
يجب الجمع بينهما بقدر الإمكان فلا بد من إثبات شيء ونفي
آخر لامتناع اجتماع النفي والإثبات على شيء واحد وحينئذ
إما أن نقول كلمة إن تقتضي ثبوت غير المذكور وكلمة ما
تقتضي نفي غير المذكور وهو باطل إجماعا أو نقول كلمة إن
تقتضي ثبوت المذكور وكلمة ما تقتضي نفي غير المذكور وهذا
هو الحصر وهو المراد وقد ضعف هذا الوجه بأن المعروف عند
النحويين أن ما ليست نافية بل زائدة كافة موطئة لدخول
الفعل وذكر في إفادتها الحصر وجه آخر
ج / 1 ص -357-
أسند
إلى علي بن عيسى الربعي1 وهو أن كلمة أن لتأكيد إثبات
المسند للمسند إليه ثم لما اتصلت بها ما المؤكدة لا
النافية لما ذكرنا تضاعف تأكيدها فناسب أن تضمن معنى القصد
لأن قصر الشيء على الشيء ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد
ألا ترى إلى قولك جاء زيد لا عمرو وكيف يكون جاء زيد
إثباتا للمجيء صريحا وقولك لا عمرو إثباتا ثانيا لمجيئه
ضمنا وهذا الوجه أشد من الأول إلا أن للمعترض عليه أن يقول
وجه مناسبة إضمار معنى القصر لائحة ولكن ذلك إنما يقال بعد
ثبوت كونها للحصر والكلام فيه ومجرد هذه المناسبة لا يدل
عليه.
الوجه الثاني: من الوجهين المذكورين في الكتاب أن العرب
استعملتها في الحصر كقول الأعشى عبد الله بن الأعور
المازني الصحابي رضي الله عنه:
ولست
بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر2
ولست بفتح التاء ضبطه
الجوهري وقال الفرزدق وهو همام بن غالب التابعي رحمه الله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن عيسى بن الفرج بن صالح أو الحسن الربعي عالم
بالعربية أصله من شيراز له مؤلفات في النحو منها كتاب
البديع وشرح مختصر الجرمي وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي.
توفي ببغداد 420 هـ.
وفيات الأعيان 1/343 الأعلام 5/134.
2 ما قاله الشارح عن قائل هذا البيت ليس بصحيح فإن قائله
هو الأعشى ميمون بن قيس بن جندل بن سراحيل من الطبقة
الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات أدرك الرسول – صلى
الله عليه وسلم – توفي سنة 7 هـ.
وهذا البيت من قصيدة له يهجو بها علقمة بن علامة ويمدح
عامر بن الطفيل مطلعها:
شاقك من قتلة أطلالها
بالشط فالوتر إلى حاجر
الصبح المنير في شعر أبي
بصير الأعلام 3/1090.
ج / 1 ص -358-
أنا الذائد الحامي الذمار
وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي1
قوله وعورض إشارة إلى
حجة الخصم وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ}2 قالوا فلو أفادت الحصر لكان من لا يحصل له الوجل عند ذكر الله
تعالى لا يكون مؤمنا وأجاب بأن المراد بالمؤمنين الكاملون
في الإيمان جمعا بين الأدلة وعلى هذا يكون قد أفادت الحصر
كما هو المدعي.
واعلم أن الذي نقله شيخنا أبو حيان عن البصريين المذهب
الثاني وكان مصمما عليه ويتغالى في الرد على من يقول
بإفادتها الحصر الذي اختاره والدي أبقاه الله.
الأول: وله كلام مبسوط في المسألة اشتد فيه نكيره على
الشيخ أبي حيان وقال إنه استمر على لجاج وأن اللبيب لا
يقدر أن يدفع عن نفسه فهم أن إنما للحصر ومن أحسن ما وقع
له في الاستدلال على أنها للحصر قوله تعالى:
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ}3 فقال هذه الآية تفيد أن إنما للحصر فإنها لو لم تكن للحصر لكانت
بمنزلة قولك وإن تولوا فعليك البلاغ وهو عليه البلاغ تولوا
أو لم يتولوا أو إنما الذي رتب على توليهم نفي غير البلاغ
ليكون تسلية له ويعلم أن توليهم لا يضر.
قال وهكذا أمثال هذه الآية مما يقطع الناظر بفهم الحصر
منها كقوله:
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}
{إنما أنت منذر} {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} {إِنَّمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} {إِنَّمَا
مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا} {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ} {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ} {إِنَّمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قائله فرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي من شعراء
الطبقة الأولى الإسلاميين توفي بالبصرة سنة 110 هـ.
معجم الشعراء للمرزباني ص 465.
2 سورة الأنفال آية: 2.
3 سورة آل عمران آية: 20.
ج / 1 ص -359-
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ
أَغْنِيَاءُ} {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ} {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ} {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ}
{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
قال فيكاد فهم الحصر من جميع هذه الآيات يسبق إلى القلب
قبل السمع لا يرتاب فيه ولا يتمارى.
فائدة إذا قلنا إنما للحصر فهل ذلك للمنطوق أو بالمفهوم
فيه مذهبان:
والأول: هو قضية كلام من استدل على ذلك بالوجه المركب من
العقل والنقل الذي تقدم ذكره ومنهم صاحب الكتاب والله
أعلم. |