الإبهاج في شرح المنهاج ج / 1 ص -360-
الفصل التاسع في كيفية الاستدلال بالألفاظ
قال الفصل التاسع في كيفية الاستدلال بالألفاظ وفيه مسائل
الأولى
لايخاطبنا الله بالمهمل لأنه هذيان احتجت الحشوية بأوائل السور قلنا أسماء وبأن الوقف على
قوله:
{وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
واجب وإلا يتخصص المعطوف بالحال قلنا يجوز حيث لا لبس مثل
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وبقوله تعالى كأنه رؤوس قلنا
مثل في الاستقباح.
هذا الفصل معقود لبيان كيفية الاستدلال بخطاب الله تعالى
وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام وفيه مسائل
الأولى والثانية منها يجريان محرى المبادئ للمقصود أما
الأولى فنقول لا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بالمهمل أي
بما ليس له معنى لأنه نقص والنقص محال على الله تعالى هذا
كلام المصنف.
وأما الإمام ففي عبارته قلق وذلك أنه قال لا يجوز أن يتكلم
الله بشيء ولا يعني به شيئا والخلاف فيه مع الحشوية لنا
وجهان:
أحدهما: أن التكلم بما لا يفيد شيئا هذيان
وهو نقص والنقص محال على الله تعالى.
والثاني: أن الله تعالى وصف القرآن بكونه
هدى وشفاء وبيانا وذلك لا يحصل فيما لا يفهم معناه انتهى.
ووجه القلق أن أول كلامه يدل على أن الخلاف في جواز التكلم
بشيء لا يعني به شيئا وإن كان ذلك الذي تكلم به له معنى
يفهم منه وثانيه وثالثه وهما دليلاه يدلان على أن الخلاف
في جواز التكلم بما لا يفيد شيئا
ج / 1 ص -361-
وعبارة
المصنف توافق ما أدته عبارة الإمام ثانيا وثالثا لا ما
اقتضته أولا وبها صرح الآمدي إذ قال لا يتصور اشتمال
القرآن الكريم على ما لا معنى له أصلا وقد عرفت أن الخلاف
في المسألة نع الحشوية وهم طائفة ضلوا عن سواء السبيل
وعميت أبصارهم يجرون آيات الصفات على ظاهرها ويعتقدون أنه
المراد سموا بذلك لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري رحمه
الله تعالى فوجدهم يتكلمون كلاما ساقطا فقال ردوا هؤلاء
إلى حشا الحلقة وقيل سموا بذلك لأن منهم المجسمة أو هم هم
والجسم محشو فعلى هذا القياس فيه الحشوية بسكون الشين إذ
النسبة إلى الحشو وقيل المراد بالحشوية الطائفة الذين لا
يرون البحث في آيات الصفات التي يتعدد إجراؤها على ظاهرها
بل يؤمنون بما أراده الله مع جزمهم المعتقد بأن الظاهر غير
مراد ولكنهم يفوضون التأويل إلى الله سبحانه وتعالى وعلى
هذا فإطلاق الحشوية عليهم غير مستحسن لعدم مناسبته
لمعتقدهم1 ولأن ذلك مذهب طوائف السلف من أهل السنة رضي
الله عنهم.
إذا عرفت ذلك فقد استدل المصنف على امتناع ذلك بأنه هذيان.
قال الجاريردي شارح الكتاب وهو مصادرة على المطلوب لأن
الهذيان هو اللفظ المركب المهمل وهو الذي ادعى امتناعه
وهذا اعتراض منقدح ولكن المصنف أخذ هذا الدليل من الإمام
والأمام إنما استدل به على ما صدر به المسألة من قوله: لا
يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا وقد بينا أن هذه الدعوى
في الحقيق غير دعوى المصنف فليس استدلال الإمام بكونه
هذيانا مصادرة على المطلوب نعم هو ضعيف من جهة أنه قد يقال
لا نسلم أن الكلام المفيد بالوضع الذي فاه به الناطق إذا
لم يعن به شيئا هذيان وإنما يكون هذيانا إذا لم يكن له
مدلول في نفسه وقد يقال إن قصد المتكلم بالكلام معناه شرط
في كونه كلاما مفيدا وقد سبق البحث في هذا.
واحتجت الحشوية على ما ذهبوا إليه بثلاثة وجه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع في ذلك الإرشاد ص 39 – 128.
ج / 1 ص -362-
الأول: زعموا أنه ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى "آلم المص كهيعص طه
حم" وأمثالها فإنا لا نفهم لها معنى والجواب أن أقوال أئمة
التفسير في ذلك كثيرة مشهورة قال الإمام والحق أنها السماء
للسور وتبعه المصنف وهو ما عليه جماعة من المفسرين.
الثاني: قوله تعالى:
{وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا}1
وجه الاحتجاج أن الوقف على قوله:
{إِلَّا اللَّهَ} واجب
وحينئذ فالراسخون مبتدأ ويقولون خبر عنه والدليل على أن
يجب الوقف على ذلك أنه لو لم يجب لكان الراسخون معطوفا
عليه وحينئذ يتعين أن يكون قوله تعالى:
{يَقُولُونَ}
جملة حالية والمعنى قائلين وإذا كانت حالية وفإما أن يكون
حالا من المعطوف والمعطوف عليه أو من المعطوف فقط والأول
باطل لامتناع أن يقول الله تعالى آمنا به والثاني خلاف
الأصل لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في
المتعلقات وإذا انتفى هذا تعين ما ادعيناه من وجوب الوقف
على قوله:
{إِلَّا اللَّهَ}
وإذا وجب الوقف على ذلك لزم أنه تكلم بما لا يعلم تأويله
إلا هو وهو المدعى.
واعلم أن هذا الدليل لا يوافق دعوىالمصنف لأنه يقتضي أن
الخلاف في الخطاب بلفظ له معنى لا نفهمه ودعواه فيما ليس
له معنى مطلقا ثم إن هذا أعني كون القرآن يشتمل على ما لا
يقدر على فهمه مما لا ينازع فيه فالناس في كتاب الله تعالى
على مراتب ودرجات بحسب تفاوتهم في الأفهام والتضلع من
العلوم فرب مكان يشترك في فهمه الخاص والعام وآخر لا يفهمه
إلا الراسخون ويتفاوت العلماء إلى ما لا نهاية له على حسب
استعدادهم وأقدارهم إلى أن يصل الأمر إلى ما لا يفهمه أحد
غير النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع معه الخطاب فهو
يفهم ما خوطب به لا يخفى منه خافية.
وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه بأنه إنما يمتنع تخصيص
المعطوف بالحال إذا لم تقم قرينة تدل عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 7.
ج / 1 ص -363-
وأما
عند قيام القرينة الدافعة للبس فلا يمتنع حينئذ وذلك قوله:
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}1 فإن نافلة حال من يعقوب فقط لأن النافلة ولد الولد وما نحن فيه
كذلك إذ العقل قاض بأنه سبحانه وتعالى لا يقول آمنا به.
الثالث: قوله تعالى:
{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}2
فإن العرب لا تعلم ما هي رؤوس الشياطين وأجاب بأنا لا نسلم
أنه مهمل وإنما هو مثل كانت العرب العرباء تتمثل به في
الاستقباح وهو مقيد بهذا الاعتبار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 72.
2 سورة الصافات آية: 65.
قال الثانية لا يعني خلاف الظاهر من غير بيان
لأن اللفظ بالنسبة إليه مهمل قالت المرجئة يفيد إحجاما.
قلنا فيرتفع الوثوق عن قوله تعالى.
قد يريد الله بكلامه خلاف ظاهره إذا كانت هناك قرينة يحصل
بها البيان ولا يمكن أن يعني لكلامه خلاف ظاهره من غير
بيان والخلاف في المسألة مع المرجئة قوم جوزوا ذلك وقالوا:
المراد بظواهر الآيات والأخبار الدالة على عقاب الفاسقين
ووعيد العصاة والمذنبين الترهيب فقط كيلا يختل نظام العالم
بناء على معتقدهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان كما أن
الطاعة لا تنفع مع الكفر وإنما سموا مرجئة لأنهم يرجئون
العمل أي يؤخرونه ويسقطونه عن الاعتبار والإرجاء التأخير
قال الله تعالى:
{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}1.
وقد احتج المصنف بأن اللفظ بالنسبة إلى المعنى الذي لا
يفهم مهمل لعدم إفادته له من غير بيان وقد تبين أن الخطاب
بالمهمل ممتنع.
وقالت المرجئة لا نسلم أنه بالنسبة إليه مهمل إذ المهمل ما
لا يفيد وهذا ليس كذلك لأنه يفيد الإحجام عن المعاصي
والإقدام على الطاعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة لأعراف آية: 111 والشعراء آية: 36.
ج / 1 ص -364-
وأجاب
بأنا لو فتحنا هذا الباب لارتفع الوثوق من جميع أخبار الله
تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا خبر إلا
ويحتمل أن يكون منه أمرا وراء الأفهام ومعلوم أن ذلك ظاهر
الفساد.
قال الثالثة الخطاب إما أن يدل على الحكم
بمنطوقه فيحمل على الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي ثم المجازي.
هذه المسألة في بيان كيفية دلالة الخطاب على الحكم الشرعي
وأقسام دلالته عليه فالخطاب الدال على الحكم إما أن يدل
عليه بمنطوقه أي بصيغته أو بمفهومه.
الحالة الأولى أن يدل عليه بمنطوقه فإما أن يكون له مسمى
شرعي أو لا.
الأول: يحمل على المسمى الشرعي ما لم يصرف
عنه صارف لأن عرف الشارع يعرف المعاني الشرعية لا اللغوية
ولأنه مبعوث لبيان الشرعيات وقيل إذا دار بين الشرعي
واللغوي فهو مجمل لصلاحيته لكل منهما.
وقال الغزالي إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي كقوله صلى
الله عليه وسلم
"إني إذن أصوم"
فإنه إذا حمل على الشرعي يدل على صحة الصوم بنيته من
النهار وإن ورد في النهي كان مجملا وذلك مثل لنهيه صلى
الله عليه وسلم عن صوم يوم النحس فإنه لا يمكن حمله على
الشرعي وإلا كان دالا على صحته لأنه يستحيل النهي عما لا
يتصور وقوعه.
وقال الآمدي في الإثبات يحمل الشرعي وفي النهي على اللغوي
والصحيح الذي عليه الجمهور ما ذهب إليه المصنف وقول
الغزالي والآمدي إن النهي مستلزم للصحة غير صحيح.
والثاني: وهو الذي ليس له مسمى شرعي إما
أن يكون له مسمى عرفي أو لا.
والأول: يحمل على العرفي إن علم اطراد ذلك
العرف في زمن ورود
ج / 1 ص -365-
الخطاب
لأن الظاهر من حال الخطاب أن يكون مما يتبادر إلى أذهان
المخاطبين.
والثاني: يحمل على اللغوي الحقيقي لتعينه
حينئذ وكذا إذا كان له مسمى عرفي ولم يمكن حمله عليه لمانع
وإن لم يمكن حمله على اللغوي لقرينة صارفة عنه فيتعين
حينئذ حمله على المعني المجازي ويكون الترتيب المذكور في
الحقائق جاريا في مجازاتها.
واعلم أن من القواعد المشتهرة على ألسنة الفقهاء أن ما ليس
له حد في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف قال والدي
في شرح المهذب وليس مخالفا لما يقوله الأصوليون من أن لفظ
الشارع يحمل على المعنى الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي.
قال والجمع بين الكلامين أن مراد الأصوليين إذا تعارض
معناه في العرف ومعناه في اللغة قدمنا العرف ومراد الفقهاء
إذا لم يعرف حده في اللغة فإنا نرجع فيه إلى العرف ولهذا
قالوا كل ما ليس له حد في اللغة ولم يقولوا ليس له معنى
فالمراد أن معناه في اللغة لم ينصوا على حده بما يبينه
فيستدل بالعرف عليه.
فائدة تنزيل اللفظ على المعنى الشرعي قبل العرفي في مسائل:
منها لو حلف لا يبيع الخمر أو المستولدة فإن أراد أنه لا
يتلفظ بلفظ العقد مضافا إليها فإذا باعه حنث وإن أطلق لم
يحنث لأن البيع الشرعي لا يتصور فيها وفيه وجه أنه يحنث
قال به المزني قال الرافعي هنا وسيأتي خلاف في أنه هل
يتعين حمل لفظ العبادات كالصوم والصلاة على الصحيح منها
وهذا الخلاف الذي وعد بذكره لم أره حكاه بعد ولا خلاف أنه
لو حلف لا يحج يحنث بالفاسد لأنه منعقد يجب المضي فيه
كالصحيح.
ومنها لو حلف لا يركب دابة عبد زيد لا يحنث بالدابة
المجعولة باسمه إلا أن يريد فإن ملكه السيد دابة فالصحيح
أنه يتخرج على أنه هل يملك وقال ابن كج لا يحنث وإن قلنا
يملك لأن ملكه ناقص السيد متمكن من إزالته.
ج / 1 ص -366-
وأما
الرجوع إلى العرف ففي مسائل تخرج عن حد الحصر وقد أتينا في
كتابنا الأشباه والنظائر منها بالعد الكثير.
قال أو بمفهومه وهو إما أن يلزم عن مفرد لوقف عليه عقلا أو
شرعا مثل ارم واعتق عبدك عني ويسمى اقتضاء أو مركب موافق
وهو فحوى الخطاب كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب
وجواز المباشرة إلى الصبح على جواز الصوم جنبا أو مخالف
كلزوم نفي الحكم عما عدا المذكور ويسمى ذلك دليل الخطاب.
الحالة الثانية أن يدل الخطاب على الحكم بمفهومه فإن أن
يكون ما دل عليه بالمفهوم لازما عن مفرده أو عن مركب
واللازم عن المفرد قد يكون المقتضي لكونه لازما هو العقل
وقد يكون الشرع واللازم عن المركب قد يكون موافقا للمنطوق
فيما اقتضاه من الحكم وقد يكون مخالفا فهذه أقسام.
الأول: اللازم عن المفرد الذي اقتضى العقل
كونه لازما عن المفرد بأن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه
بالمطابقة مثل قولك ارم فإنه يدل بمفهومه على لزوم تحصيل
القوس والمرمى لتوقف الرمي الذي هو مفرد عليهما عقلا إذ
يحيل العقل الرمي بدونهما:
الثاني: اللازم عن المفرد باقتضاء الشرع
كونه لازما كقولك لمالك العبد اعتق عبدك عني فإنه يدل على
استدعاء تمليك العبد إياه لأن العتق شرعا لا يكون إلا في
مملوك.
وهذان القسمان اللازمان عن المفرد يسميان في اصطلاح
الأصوليين بدلالة الاقتضاء وإليه أشار بقوله ويسمى اقتضاء.
ومن الأصوليين من جعل دلالة اللفظ على مقدر يتوقف عليه صدق
الكلام داخلا في قسم الاقتضاء أيضا كدلالة قوله صلى الله
عليه وسلم:
"رفع عن أمتي الخطأ
ج / 1 ص -367-
والنسان1"
على رفع الإثم وعبارة لا تنافي ذلك ولا تقتضيه لأنها لا تقتضي
انحصار الافتضاء في المذكور فيه.
نعم تقتضي أن يكون ذلك من قبيل ما دل عليه اللفظ بمنطوقه
لأنه لم يعده في أقسام المفهوم بل في المنطوق الغزالي على
الاقتضاء بجملة أقسامه من المفهوم.
الثالث: اللازم عن اللفظ المركب وهو موافق
لمدلول ذلك المركب في الحكم ويسمى فحوى الخطاب لأن فحوى
الكلام ما يفهم منه قطعا وهذا كذلك ويسمى أيضا لحن الخطاب
لأن لحن الكلام عبارة عن معناه ومنه قوله تعالى:
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}2 أي معناه وربما سماه الشافعي رضي الله عنه بالجلي واختلفوا في أن
دلالة النص عليه هل هي لفظية أم قياسية والذي عليه الجمهور
أنها قياسية قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وهو الصحيح
لأن الشافعي سماه القياس الجلي.
وهذا الثالث: أعني مفهوم الموافقة تارة يكون أولى بالحكم
من المنطوق كدلالة تحريم التأفيف من قوله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
على تحريم الضرب وسائر أنواع الأذى الذي هو أبلغ من
التأفيف وتارة يكون مساويا له كدلالة جواز المباشرة من
قوله تعالى:
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ}3 على
جواز أن يصبح الرجل صائما جنبا لأن لو لم يجز ذلك لما جاز
للصائم مد المباشرة إلى طلوع الفجر بل كان يجب قطعها مقدار
ما يسع فيه الغسل قبل طلوع الفجر وإنما ذكر المصنفين
مثالين ليعلم أن مفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم
كالمثال الأول وقد يكون مساويا كالثاني وهذا هو المختار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي
1/659 بلفظ
"إن الله تجوز عن أمتي الخطأ والنسيان" وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين.
سبل السلام 3/176, 177.
2 سورة محمد آية: 30.
3 سورة البقرة آية: 187.
ج / 1 ص -368-
ومنهم
من اشترط الأولوية في مفهوم الموافقة وهو قضية ما نقله
إمام الحرمين عن كلام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة حيث
قال في البرهان نحن نسرد معاني ككلامه في الرسالة ثم قال
أما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت
عنه موافق الحكم في المنطوق من جهة الأولى انتهى وهو مقتضى
كلام الشيخ أبي إسحاق في شرح اللمع وغيره وعليه جرى ابن
الحاجب لكنه قال بعد ذلك في مفهوم المخالفة شرطه ألا يظهر
أولوية ولا مساواة في المسكوت عنه فيكون موافقة فاضطرب
كلامه.
الرابع: اللازم عن المركب وهو مخالف لمدلول المركب في
الحكم وهذا هو مفهوم المخالفة ويسمى دليل الخطاب وهو أصناف
ذكر المصنف منها أربعة وذهب أبو حنيفة إلى نفس القول
بمفهوم المخالفة مطلقا ووافقه جمع من الأصوليين.
قال إمام الحرمين وأما منكروا الصيغ لما يتطرق إليها من
تقابل الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون
فيه أوضح فهو بالتوفيق أولى وشيخنا أبو الحسن مقدم
الموافقة وقد فعل النقلة عنه رد الصيغة والمفهوم وفي كلامه
ما يدل على المفهوم والقول به فإن تعلق في مسألة الرؤية
بقوله تعالى:
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}1 وقال لما ذكر الحجاب في إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في
السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس
من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في
مفاوضاته مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وآل سر مذهبه إلى
إنكار التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له
المنع من العمل بقضايا الظوهر في مظان الظنون وقد باح
القاضي رضي الله عنه بجحد الصيغ وصرح بنفي المفهوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المطففين آية: 15.
قال الرابعة تعليق الحكم بالاسم
لا يدل على نفيه عن غيره وإلا لما جاز القياس خلافا لأبي
بكر الدقاق.
هذه المسألة في مفهوم الاسم ومفهوم الصفة اللذين هما من
جملة أصناف
ج / 1 ص -369-
دليل
الخطاب أما مفهوم الاسم فنقول تقييد الحكم أو الخبر بالاسم
علما كان أو اسم جنس مثل قولك قام زيد أو قام الناس لا يدل
على نفي الحكم عما عداه خلافا لأبي بكر الدقاق والحنابلة
وقد سفه علماء الأصول الدقاق ومن قال بمقالته وقالوا هذا
خروج عن حكم اللسان والسلال عن مفاوضات الكلام فإن من قال
رأيت زيدا لم يقتض ذلك أنه لم ير غيره قطعا.
قال إمام الحرمين وعندي أن المبالغة في الرد عليه صرف لأنه
لا يظن بذي العقل الذي لا ينحرف كلامه عن سنن الصواب أن
يخصص بالذكر ملقيا من غير غرض وحاصل ما اختاره إمام
الحرمين أن التخصيص يتضمن غرضا مبهما ولا يتعين انتفاء غير
المذكور ثم قال وأنا أقول وراء ذلك لا يجوز أن يكون من غرض
المتكلم في التخصيص نفي ما عدي المسمى بلقبه فإن الإنسان
لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم ير غيره فإن
هو أراد ذلك قال إنما رأيت زيدا أو ما رأيت زيدا هذا كلامه
وحكى ابن برهان في كتابه في أثناء المسألة مذهبا ثالثا عن
بعض علمائنا وهو التفرقة بين أسماء الأنواع وأسماء الأشخاص
فقال إن تخصيص اسم النوع بالذكر دل على نفي الحكم عن غيره
ومثل له ابن برهان بما إذا قال في السود من الغنم زكاة وإن
تخصيص اسم الشخص مثل قام زيد فلا يدل ثم قال ابن برهان
وهذا ليس بصحيح لأن أسماء الأنواع نازلة في الدلالة منزلة
أسماء الأشخاص إلا أن مدلول أسماء الأنواع أكثر وهما في
الدلالة متساويان إذا عرفت هذا فقد استدل في الكتاب على
مذهب الجمهور بأن تعليق الحكم على الاسم لو دل لكان الدليل
على ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه كالنص الدال على أن
البر ربوي مثالا وإلا على نفي الحكم عن الفرع المقيس
كالأرز في مثالنا والفرض أن القياس قاض بإلحاقه فمتى عمل
بالمفهوم بطل القياس وقد ضعف هذا الدليل بأن التعارض بين
مفهوم اللقب والقياس غير متصور لأن من شرط القياس مساواة
الفرع للأصل وشرط مفهوم المخالفة ألا يكون المسكوت عنه
أولى ولا مساويا فلا مفهوم إذا مع المساواة ولا قياس مع
عدم
ج / 1 ص -370-
المساواة وأبدى والدي رحمه الله في تضعيفه وجها أحسن من
هذا لا مزيد على بلاغته فقال للدقاق أن يقول المفهوم يدل
على الإباحة فيما عدا البر والقياس إنما يدل على التحريم
فيما شارك البر في المعنى كالأرز والحمص دون ما لم يشاركه
من الرصاص والنحاس وغيرهما فغاية ما يفعل القياس حينئذ أن
يخصص المفهوم ولا بدع في تخصيص المفهوم بالقياس بل ولا في
تخصيص المنطوق.
فائدة في كتاب الأستاذ أبي إ سحاق في أصول الفقه أن شيخه
ابن الدقاق هذا ادعى في بعض مجالس النظر ببغداد صحة ما
قاله من مفهوم اللقب فألزم وجوب الصلاة فإن الباري تعالى
أوجب الصلاة فهل له دليل يدل على نفي وجوب الزكاة والصوم
وغيرهما قال فبان له غلطة وتوقف فيه.
قال وبإحدى صفتي الذات مثل في سائمة الغنم زكاة يدل ما لم
يظهر للتخصيص فائدة أخرى خلافا لأبي حنيفة وابن سريج
والقاضي وإمام الحرمين والغزالي.
هذا مفهوم الصفة وهو مقدم المفاهيم ورأسها وقد قال إمام
الحرمين ولو عبر معبر عن جميع المفاهيم بالصفة لكان ذلك
منقدحا فإن المعدود والمحدود موصوفان بعددهما وحدهما وكذا
سائر المفاهيم وقول المصنف وبإحدى هو معطوف على قوله تعليق
الحكم بالاسم أي وتعليق الحكم بإحدى صفتي الذات أو أحد
أوصافها يدل على نفي الحكم عن الصفة الأخرى مثال مفهوم
الصفة قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة"1 وهو حديث معناه ثابت في الصحيح فإن الغنم ذات والسوم والعلف وصفان
يعتورانها وقد علق الحكم بأحدهما وهو السوم وكذلك قوله
تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}2
وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري بمعناه في كتاب أبي بكر الصديق في كتاب
الزكاة باب زكاة الغنم 2/146. ولفظه
"في صدقة الغنم
في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة"
كما رواه أبو داود –
كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة 1/358.
2 سورة النساء آية: 25.
ج / 1 ص -371-
اختلفوا في هذا المفهوم فذهب الجمهور وكبيرهم الشافعي وأبو
الحسن وأبو عبيدة معمر بن المثنى وجمع كثير من الفقهاء
والمتكلمين إلى أنه يدل على النفي واختباره المصنف ثم
اختلاف هؤلاء في أنه هل يدل على نفي الحكم عما عداه مطلقا
سواء كان من جنس المثبت فيه أم لم يكن أو يختص بما إذا كان
من جنسه مثاله إذا قلنا في الغنم السائمة زكاة هل يدل على
نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقا سواء كانت معلوفة الغنم أم
الإبل والبقر أو يختص بالنفي عن معلوفة الغنم وهذا الخلاف
حكاه الشبخ أبو حامد في كتابه في أصول الفقه عن أصحابنا
وقال الصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فحسب وذهب أبو
حنيفة والقاضي وأبو بكر وأبو العباس بن سريج إمام أصحابنا
والقفال الشاشي والغزالي وجماعة إلى أنه لا يدل واختاره
الآمدي وفرق أبو عبد الله البصري فقال بالمفهوم في الخطاب
الوارد لبيان المجمل كقوله عليه السلام زكوا عن سائمة
الغنم فإنه ورد بيانا لقوله تعالى:
{وَآتُوا
الزَّكَاةَ} والوارد للتعليم كقوله عليه السلام:
"إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة"1 الحديث والوارد فيما انتفى عنه الصفة إذا كان داخلا تحت المتصف
بها نحو الحكم بالشاهدين والشاهد الواحد فإن الشاهد الواحد
داخل تحت الشاهدين وفرق إمام الحرمين بين الوصف المناسب
وغير المناسب فقال بمفهوم الأول دونه.
الثاني: وقد اطلعه في الكتاب تبعا للإمام النقل عنه في
إنكار مفهوم الصفة وليس بجيد.
وقال الإمام أنه لا يدل على النفي بحسب وضع اللغة لكنه يدل
عليه بحسب العرف العام هذا تحرير الخلاف في المسألة وأما
محل النزاع فهو كما أشار إليه المصنف بقوله ما لم يظهر أي
إنما يدل على القائلين به إذا لم يظهر لتعليق الحكم بالصفة
المذكورة فائدة أخرى مغايرة لنفي الحكم عما عداها ككونه
جوابا عن سؤال سائل عن حكم إحدى الصفتين أو خارج مخرج
الغالب أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولفظ ابن ماجه
"والمبيع قائم بعينه" وفي رواية لأحمد
"والسلعة كما هي".
المنتقى من أحاديث الأحكام لابن تيمية ص 457, 458.
ج / 1 ص -372-
غير
ذلك مثل قوله:
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ}
فإن قوله:
{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له لأن النهي عن موالاة الكافرين عام فيمن وإلى المؤمنين
ومن لم يوالهم وإنما معنى قوله:
{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم
عليهم ففي هذه الأشياء لا يدل على نفي الحكم عما عدا الصفة
المذكورة كما نقله المتأخرون من الأصوليين وقد نازع إمام
الحرمين فيما إذا خرج مخرج الغالب بعد أن عن الشافعي ما
قلناه من أنه لا مفهوم حينئذ وأطال الكلام فيه والشيخ عز
الدين ابن عبد السلام قال القاعدة تقتضي العكس وهو أن
الوصف إذا خرج مخرج الغالب يكون له مفهوم بخلاف ما إذا لم
يكن غالبا وذلك لأن الوصف الغالب على ثبوته لها عن ذكر
اسمه فإذا أتى بها مع أن العادة كافية فيها دل على أنه
إنما أتى لتدل على سلب الحكم عما عداه لانحصار غرضه فيه
وأما إذا لم يكن عادة فقد يقال إن غرض المتكلم بتلك الصفة
أن يفهم السامع أن هذه الصفة ثابتة لهذه الحقيقة.
وقد أجاب القرافي عن هذا بأن الوصف إذا كان غالبا لازما
لتلك الحقيقة في الذهن بسبب الشهرة والغلبة فذكره إياه مع
الحقيقة عند الحكم عليها لعله لحضوره في ذهنه لا لتخصيص
الحكم به وأما إذا لم يكن غالبا فالظاهر أنه لا يذكر مع
الحقيقة إلا لتقييد الحكم به لعدم مقارنته للحقيقة في
الذهن حينئذ فاستحضاره معه واستجلابه لذكره عند الحقيقة
عند الحكم إنما يكون لفائدة والغرض عدم ظهور فائدة أخرى
فيتعين التخصيص وهذا الجواب الصحيح.
فإن قلت هذا لا يتضح بالنسبة إلى كلام الله تعالى لعلمه
بالغالب وغير الغالب على حد سواء.
قلت هذا السؤال أورده الشيخ صدر الدين بن المرجل في كتابه
الأشباه والنظائر وقد ذكر اختلاف الأصوليين في أن العام هل
يشمل الصورة النادرة فقال هذا الخلاف لا يبين لي حرمانه في
كلام الله تعالى لأنه لا يخفى عليه خافية فهو يعلم ذلك
النادر وقال وإنما يتبين لي دخوله في كلام الآدميين وقد
ج / 1 ص -373-
أجبت
عنه في كتابي الأشباه والنظائر بما لو عرض على ذوي التحقيق
لتلقوه بالقبول.
فقلت الخلاف جار في كلام الله تعالى لا للمعنى الذي ذكره
ابن المرحل بل لأن كلام الله تعالى منزل على لسان العرب
وقانونهم وأسلوبهم فإذا جاء فيه لفظ عام تحته صورة نادرة
وعادة العرب إذا أطلقت ذلك اللفظ لا تمر تلك الصورة ببالها
يقول هذه الصورة ليست داخلة في مراد الله تعالى من هذا
اللفظ وإن كان عالما بها لأن هذا اللفظ يطلق عند العرب ولا
يراد هذه الصورة كما يجيء في القرآن ألفاظ كثيرة يستحيل
وقوع معانيها من الله تعالى كالترجي والتمني وألفاظ
التشكيك ولك ذلك منتف في جانبه تعالى وإنما تجيء ليكون
القرآن على أسلوب كلام العرب.
قال لنا أنه المتبادر من قوله عليه السلام:
"مطل الغنى ظلم"
ومن قولهم الميت اليهودي لا يبصر وإن ظاهر التخصيص يستدعي
فائدة وتخصيص الحكم فائدة وغيرها منتف بالأصل فيتعين وإن
الترتيب يشعر بالعلية كما ستعرفه والأصل ينفي علة أخرى
فينتفي بانتفائها قيل لو دل لدل إما مطابقة أو التزاما
قلنا دل التزاما لما ثبت أن الترتيب يدل على العلية
وانتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي قيل ولا
تقتلوا أولادكم خشية إملاق ليس كذلك قلنا غير المدعى.
استدل على أن مفهوم الصفة حجة بثلاثة أوجه:
الأول: أن يتبادر إلى الفهم حيث كان كما
أن من سمع ما رواه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه
وسلم:
"مطل
الغنى ظلم"1 فهم أن مطل من ليس بغنى ليس ظلما وقد فهم ذلك من الحديث أبو عبيدة
وهو من أئمة اللغة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الحوالات باب في الحوالة 3/123
ومسلم 5/34 باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة وأبو داود
كتاب البيوع باب في المطل 2/222 كما رواه الترمذي تحفة
الأحوذي 4/535 والنسائي 7/278 كتاب البيوع باب مطل الغني.
ج / 1 ص -374-
وكذلك
الشافعي وهو إمام اللغة وابن بجدتها والتسمك بقول الشافعي
وأبي عبيدة أولى من التمسك بقول أعرابي جلف وكذلك أهل
العرف يتبادر إلى فهمهم من قول القائل الميت اليهودي لا
يبصر أن الميت الذي ليس هو بيهودي يبصر بدليل أنهم يسخرون
من هذا الكلام ويضحكون منه وإنما ذكر المصنف هذين المثالين
ليبين أن المتبادر إلى الفهم في الأول عند أهل اللغة وفي
الثاني عند أهل العرف فيجتمع التبادر من الجهتين وهذا من
محاسنه.
وقد اعترض إمام الحرمين على التمسك بفهم الشافعي وأبي
عبيدة فقال هذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على
اللسان عن نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع
مطالبون بالدليل والأعرابي الجلف طبعه فيقع التمسك بمنظومه
ومنثوره.
الوجه الثاني: أن ظاهر تخصيص الحكم بالصفة
يستدعي فائدة صونا للكلام عن اللغو وتلك الفائدة ليست لا
نفي الحكم عما عداه لأن غيرها منتف بالأصل فتتعين هي ولأن
الكلام فيما إذا لم يظهر للتخصيص فالذكر فائدة أخرى.
فإن قلت هذا يلزمكم في مفهوم اللقب.
قلت اللقب له فائدة تصحيح الكلام إذ الكلام بدونه غير مفيد
بخلاف الصفة.
الثالث: أن الحكم المرتب على الخطاب
المقيد بالصفة معلول تلك الصفة كما ستعرفه إن شاء الله
تعالى في كتاب القياس من أن تريتب الحكم على الوصف يشعر
بالعلية والأصل عدم علة أخرى لأنا لز جوزنا التعليل
بعليتين فلا شك أن الأصل عدمه وإذا لم يكن له علة غير
الوصف لزم انتفاء الحكم فيما انتفى عنه الوصف لأن انتفاء
العلة يستلزم انتفاء المعلول.
قال قيل إن احتج الخصم بوجهين:
أحدهما: أنه لو دل تخصيص الحكم بإحدى
الصفتين على نفيه عما عداها
ج / 1 ص -375-
لدل
عليه إما بالمطابقة او بالالتزام ضرورة انحصار الدلالة
فيهما فإن المراد بدلالة الالتزام هنا دلالة اللفظ على
لازم مسماه واللازم أعم من الجزء والوصف فيشتمل دلالة
التضمن لكنه لا يدل بالمطابقة لأن ثبوت الحكم في إحدى
الصفتين ليس عين ثبوته في الأخرى لأن قوله: "زكوا عن الغنم السائمة"
غير موضوع لنفي الزكاة عن المعلوفة فالدال على أحدهما بالمطابقة لا
يدل على الآخر بها وإنما قلنا إنه لا يدل بالالتزام لأنه
إن كان التضمن فواضح لأن نفي الحكم عما عدا المذكور ليس
جزءا لثبوته في المذكور وإن كان الالتزام المعرف في تقسيم
الألفاظ فلأن شرطه سبق الذهن من المسمى إليه والسامع قد
يتصور وجوب الزكاة بنفي أو إثبات بل قد يغفل عن تصور
المعلوفة.
وأجاب في الكتاب بأنه يدل عليه بالالتزام لما ثبت من أن
ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وأن الأصل عدم علة
أخرى فانتفاء الحكم عما عدا تلك الصفة من لوازم ثبوته لها
لأن انتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي فالدال
على ثبوت الحكم للصفة المخصوصة بالذكر مطابقة يدل على نفيه
عما عداها التزاما.
قوله المساوي أراد به ألا يكون له علة أخرى احترازا عما
يكون له علة أخرى كالحرارة فإنها معلولة للنار وللشمس فلو
كانت له علة أخرى لم يلزم من انتفاء هذه العلة انتفاء
المعلول لجواز ثبوته بالعلة الأخرى هذا تقرير الجواب
ولقائل أن يقول إنما يتأتى هذا عند من لا يشترط في دلالة
الالتزام اللزوم البين ويكتفي باللازم الخارجي سواء كان
لزومه بواسطة أو بغير واسطة.
الوجه الثاني: أنه لو دل لما كان حكم
المنطوق به ثابتا مع عدم الصفة لكنه ثابت كما في قوله
تعالى:
{وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}1 فإن قتل الأولاد محرم في الحالتين.
وأجاب بأن هذا غير المدعى لأنا لم ندع أن مفهوم الصفة حجة
إلا فيما إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الاسراء آية: 31.
ج / 1 ص -376-
لم
يظهر له فائدة أخرى كما تقدم وهنا قد ظهرت له فائدة وهي
خروجه مخرج الغالب لأن غالب أحوالهم أنهم لا يقتلون
أولادهم إلا عند خشية الفقر.
هذا جواب المصنف والحق أن هذا ليس مما نحن فيه لأن دلالته
على حرمة القتل عند انتفاء خشية الإملاق من باب الأولى فهو
من فحوى الخطاب لا من دليله.
فإن قلت هب أن هذه الآية لا تدل لما ذكرناه ولكن آية أخرى
مؤيده ة له وهي قوله تعالى:
{مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}1
فلو كان مفهوم الصفة حجة للزمكم القول بأن لهم شفيعا لا
يطاع.
قلت هذا الصفة لها فائدة أخرى غير التخصيص فلا يكون من محل
النزاع وقال والدي أيده الله في تفسيره هذه الآية ست فوائد
لهذه الصفة
احداها: أنها الذي يتشوق إليه نفوس من
يقصد أن يشفع فيه فكان التصريح بنفيها نفيا قاطعا لأطماع
الظالمين ومظالمهم ليقطعوا إياسهم لأن من كان متشوقا إلى
شيء فصرح له بأنه لا يبلغه كان أنكى له من أن يدل عليه
بلفظ عام شامل له أو مستلزم إياه فلم يقصد بهذه الصفة
التخصيص وإنما قصد ما ذكرناه.
الثانية: أن من الشفعاء من لا يقبل شفاعته
فلا غرض فيه أصلا ومنهم مقبول الشفاعة وهو المقصود فنص
عليه تحقيقا لمن قصد نفيه وهي صفة مخصصة وقدم هذه الفرض
على ما يقتضيه مفهوم الصفة من وجود غيره لقيام الدليل على
عدمه وهذه الفائدة مغايرة للأولى لأن هذه في آحاد الشفعاء
وتلك في صفة شفاعتهم.
الثالثة: ما يدل عليه مادة يطاع والغالب
في الشفاعة استعمال لفظ القبول والنفع وما أشبههما أما
الطاعة فإنما تقال في الأمر فكان ذكرها ههنا لنكتة بديعة
وهي أنه لما ذكر الظالمين وشأن الظالمين في الدنيا القوة
والمتكلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر آية: 18.
ج / 1 ص -377-
لهم
بمنلة من يأمر فيطاع نفى عنهم ذلك في الآخرة تبكيتا وحسرة
فإن النفس إذا ذكرت ما كان عليه وزال عنها وخوطبت به كان
أشد عليها.
الرابعة: أنه أشارة إلى قول ذلك اليوم
العصيب وأن شدته بلغت مبلغا لا ينفع إلا شفيع له قوة ورتبة
أن يطاع لو وجد وهو لا يوجد وهذه قريبة من التي قبلها إلا
أنها بحسب الحاضر وتلك بحسب الماضي.
الخامسة: التنبيه على ما فضل الشفيع لأجله
كقول المغلوب الذي ليس عنده أحد ما عندي أحد ينصرني تنبيها
على أن مقصوده النصرة.
السادسة: فائدة ذكرها الزمخشري وفهمها
يتوقف على تحرير كلامه وفيه نظر طويل وقد تكلم عليه الشيخ
الإمام والدي أبلغ كلام وأحسنه ولولا خشية التطويل والخروج
عن مقصد الشرح لاستوعبنا ذكره فإنه مما يشح به اللبيب
ويثبط به ذو الذهن السليم.
قاعدة أصل وضع الصفة أن تجيء إما للتخصيص أو للتوضيح ويكثر
مجيئها للتخصيص في النكرات وللتوضيح في المعارف نحو مررت
برجل عاقل وبزيد العالم وقد تجيء لمجرد الثناء كصفات الله
تعالى أو لمجرد الذم نحو الشيطان الرجيم أو للتوكيد مثل
نفخة واحدة أو للتحنن مثل زيد المسكين.
وهذه الأقسام لا مفهوم لها وقد يعبر عن التخصيص بالشرط عن
التوضيح بالتعريف والمعنى واحد ولما احتمل كون كل منهما
مرادا وقع في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة أماكن اختلف
فيها العلماء وفي الحكم المرتب عليها لأجل اختلافهم فيها
فمن تلك قوله تعالى:
{ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ}1 فقوله:
{لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}
متردد بين أن يكون للتوضيح أو للتخصيص فإن كان فيه دلالة
لمذهب الشافعي رضي الله عنه أن العبد لا يملك شيئا ويكون
معنى الآية أن هذا شأن العبد كما في قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 75.
ج / 1 ص -378-
مملوكا
قبل ذلك فإنه للتوضيح لا محالة وإن كان قوله:
{لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} للتخصيص كان فيه دلالة مذهب مالك.
والقديم عندنا أن العبد يملك بالتمليك لأن معنى الآية أن
العبد قد يملك وقد لا يملك والوصف خصص المثال بمن لا يملك
شيئا ولا يقدر عليه.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية لما استعار
منه:
"بل عارية مضمونة" ن كان للتوضيح كان فيه دليل المذهب الشافعي أن العارية مضمونة وأن
هذا شأنها وإن كان للتخصيص كان مستندا لأبي حنيفة في أنها
غير مضمونة ما لم يشترط.
ومنها إذا قال لزوجته إذ تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت
علي كظهر أمي ثم تزوجها فظاهر منها فهل يصير مظاهرا من
الزوجة الأولى فيه وجهان:
أحدهما: أنه يصير مظاهرا ويكون لفظ
الأجنبية للشرط وهو للتخصيص فكأنه علق ظهاره من الزوجة على
ظهاره من تلك في حال كونها أجنبية وذلك تعليق على ما لا
يكون ظهارا شرعيا فلا يصح من الأولى.
ومنها إذا حلف لا يأكل من لحم هذا الجمل فصار كبشا فأكله
ففيه خلاف منهم من خرجه على هذه القاعدة ومنهم من خرجه على
تغليب الإشارة والعبارة ومن هنا ينعرج القول إلى مسائل
الإشارة والعبارة.
وقد ذكرنا في كتبابنا الأشباه والنظائر عند ذكر هذه
القاعدة من مسائلها ما تقر به عين ناظره والله أعلم.
قال الخامسة التخصيص لاشرط مثل:
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فإنه ينتفي المشروط بانتفائه قيل تسيمة إن حرف شرط اصطلاح قلنا
الأصل عدم النقل قيل يلزم ذلك لو لم يكن الشرط بدل قلنا
حينئذ يكون أحدهما وهو غير المدعي قيل:
{وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً} ليس كذلك قلنا لا نسلم بل انتفاء الحرمة لامتناع الإكراه.
هذا مفهوم الشرط وهو أقوى من مفهوم الصفة ولذلك قال به بعض
من
ج / 1 ص -379-
لا
يقول بمفهوم الصفة كابن سريج وبالغ إمام الحرمين في الرد
على منكريه وأما الفزاني فإنه صمم على إنكاره فقال الصحيح
عندنا ما ذهب إليه القاضي من إنكاره.
واعلم أن محل الخلاف في مفهوم الشرط فيما إذا قال من جاءني
أكرمته وأمثالها من صيغ الشرط نحو متى وإذا أن هذه الصيغة
الدالة بمنطوقها على إلزام من يجيء هل هي دالة بمفهومها
على عدم إكرام من لم يجيء هذا محل النزاع وكذلك في مفهوم
الصفة وغيره فالخلاف إنما هو في دلالة حرف الشرط على العدم
عند العدم لا على أصل العدم عند العدم فإن ذلك ثابت بالأصل
قبل أن ينطق الناطق بكلامه وكذا في سائر المفاهيم مثال
مفهوم الشرط قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}1 دل بالمنطوق على وجوب النفقة على أولات الأحمال فهل يدل بالمفهوم
على العدم عند العدم حتى يستدل به على منع وجوب النفقة
للمعتدة الحائل.
والذي اختاره المصنف تبعا للإمام والجماهير وهو مذهب
الشافعي رضي الله عنه أنه يدل ودليله أن النحويين قالوا إن
كلمة إن حرف شرط ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط
واعترض الخصم على هذا الدليل بثلاثة وجه
أحدها: أن تسمية إن حرف شرط من الاصطلاحات
المجازية كتسميتهم الحركات المخصوصة بالرفع والجر والنصب
وإن لم يكن هذه الأسماء موجودة في أصل اللغة وأجاب بأن
الأصل أن تكون تسميتهم له حرف شرط مطابقته للوضع اللغوي
وألا يلزم النقل وهو خلاف الأصل وهذا الجواب ذكره الإمام
وغيره وفي النفس منه شيء فإن المصنف لا يكابر في أن هذه
الاصطلاحات حادثة بعد أصل الوضع ولكن سبيل الانفصال عن
السؤال أن يقال نحن إنما كلامنا في المعلق على شيء بأداة
يفهم منها العرب ما يطلق عليه المصطلحون الشرط وهذا الذي
يفهم من الشرط ليس مكسبا من تسميته شرطا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية: 6.
ج / 1 ص -380-
والحاصل أن المصطلح إنما هو للتسمية للمعنى السابق المفهوم
عند العرب والخلاف في مفهوم الشرط إنما هو في ذلك المعنى
الذي كانت العرب إذا أطلقت أداة الشرط تفهمه هل هو الحصول
عند الحصول والعدم عند العدم أو مجرد الحصول عند الحصول.
الاعتراض الثاني: أنا لا نسلم أنه يلزم من
انتفاء الشرط انتفاء المشروط على الإطلاق وإنما يلزم ذلك
إذا لم يكن للشرط بدل يقوم مقامه أما إذا كان ذا بدل فلا
يلزم ذلك كالوضوء فإنه شرط في الصلاة ولا يلزم من انتفائه
انتفاؤها لجواز أن توجد بالتيمم وأجاب بأن المدعى أن الشرط
يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم وما
ذكرتموه لا ينقض هذه الدعوى لأن الشرط في الحالة التي
ذكرتموها وهي الصلاة أحد الأمرين وأحد الأمرين لا ينتفي
إلا بانتفائهما جميعا وما لم ينتفيا لا ينتفي الشرط لأن
مسمى أحدهما باق وهذا غير مدعانا إذ المدعي فيما هو شرط
بعينه ويمكن أن يقال وهذا غير مدعانا أي أن الشرط يلزم من
انتفائه انتفاء المشروط لأن الشرط والحالة هذه أحدهما ولم
ينتف ولو انتفى لم تصح الصلاة وهذا حسن من تقريره على لفظه
غير ونسخ الكتاب مختلفة لأن غيرا تصحف بعين.
الاعتراض الثالث: أنه لم لو كان مفهوم
الشرط حجة لكنا قوله تعالى:
{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً}1 دالا
على أنهن إذا لم يردن التحصن يجوز إكراههن على البغاء
وأجاب بأنا لا نسلم أنه ليس كذلك أي لا نسلم عدم انتفاء
الحرمة عند عدم إرادة التحصن بل حرمة الإكراه عند عدم
إرادة التحصن منتفية لامتناع تصور الإكراه حينئذ فإن
الإكراه إنما يتصور على ما يريده الإنسان المكره لأنه حمل
الشخص على مقابل مراده فإذا لم يتصور الإكراه جاز أن يقول
ليس بحرام لأنه ليس بمتصور والحرمة فرع كونه متصورا.
فإن قلت ما فائدة قوله:
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}حينئذ
قلت لعل المراد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية: 33.
ج / 1 ص -381-
التنصيص على قبح فعلهم والنداء بتشنيع أمرهم واعلم أن
الشرط قد يأتي ولا مفهوم له وهو فيما إذا ظهرت له فائدة
غير تخصيص الحكم كما قلنا في مفهوم الصفة وكما في قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} فإن له فائدة وهي ما أشرنا إليه وكما في قوله تعالى:
{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقول القائل لابنه: أطعني إن كنت ابني والمراد التنبيه على السبب
الباعث للمأمور به لا تقييد الحكم فكل هذا ليس من محل
النزاع.
قال السادسة التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد
والناقص.
اختلفوا في أن تعليق الحكم بعدد مخصوص هل يدل على انتفاء
الحكم فيما عدا ذلك العدد زائدا كان أم ناقصا فذهب طوائف
إلى أنه يدل وهو المنقول عن الشافعي مما نقله الماوردي في
باب بيع الطعام قبل أن يستوفي وإمام الحرمين والغزالي.
وقال آخرون إنه لا يدل وهو رأي القاضي وإمام الحرمين وبه
قطع المصنف وأما الإمام فاختار أن الحكم المقيد بعدد إن
كان معلول ذلك العدد ثبت في الزائد لوجوده فيه كما لو حرم
جلد مائة أو حكم بأن القلتين يدفعان حكم النجاسة وإلا لم
يلزم كما لو أوجب جلد مائة والناقص عن ذلك العدد إن كان
داخلا فيه وكان الحكم إيجابا أو إباحة ثبت فيه كما لو أوجب
أو أباح جلد مائة وإن كان تحريما فلا يلزم وإن لم يكن
داخلا فيه كالحكم بشهادة شاهدين واحد فإنه لا يدخل في
الحكم بشهادة شاهدين فالتحريم قد ثبت فيه بطريق الأولى
والإيجاب والإباحة لا يلزمان.
قال فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد
أو نقص إلا بدليل منفصل ومن حجج القائلين بهذا المفهوم أنه
لما نزل قوله تعالى:
{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ}1
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"والله
لأزيدن على السبعين" فقد فهم
سيد العرب العرباء من الآية حكم ما زاد على السبعين بخلافه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 80.
ج / 1 ص -382-
ومن
الناس من أجاب عن هذا بأن العدد كما لا يدل على نفي الحكم
عما عداه لا يدل على إثباته بل هو مسكوت عنه فلعل النبي
صلى الله عليه وسلم قال ذلك رجاء لحصول الغفران لهم بناء
على حكم الأصل إذ كان جواز المغفرة ثابتا قبل نزول هذه
الآية.
قال الغزالي الأظهر أن الخبر غير صحيح لأنه صلى الله عليه
وسلم أعرف الخلق بمعاني الكلام ولفظ السبعين إنما جرى
مبالغة في اليأس وقطعا للطمع في الغفران فإن العرب تستعمله
في ذلك كقول القائل اشفع أو لا تشفع لو شفعت سبعين مرة لما
أفاد.
وقول الغزالي إن الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح متلقى من
إمام الحرمين فإنه قال هذا لم يصححه أهل الحديث وإمام
الحرمين تلقى ذلك من القاضي أبي بكر فإنه قال في مختصر
التقريب هذا الحديث ضعيف غير مدون في الصحاح وهذا باطل فإن
الحديث ثابت صحيح مدون في البخاري ومسلم.
وقل الغزالي السبعين للمبالغة في قطع اليأس متلقى من
القاضي أيضا فإنه قال من شد طرفا من العربية لم يخف عليه
أن المقصود منه قطع موارد الرجاء دون التعليق على السبعين
وكيف يخفى مدرك هذا وهو مقطوع به عن أفصح من نطق بالضاد
والحق أن الجواب الأول أسد من هذا وقد ذكره القاضي أيضا في
مختصر التقريب وأما ما تعلق به القاضي في إنكار للحديث
فغير معتصم لأن السبعين وإن نطقت العرب بها للمبالغة تارة
فقد نطقت بها للتقيد بالعدد المخصوص تارة أخرى بل العدد
المخصوص هو حقيقتها وقول القاضي المقصود قطع موارد الرجاء
دون التعليق على السبعين لا يصح مع ثبوت الحديث.
خاتمة قال والدي رحمه الله التحقيق عندي أن مفهوم العدد
إنما يكون حجة عند القائل به عند ذكر نفس العدد كاثنين
وعشرة أما المعدود فلا يكون مفهومه حجة كقوله صلى الله
عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان فلا يكون عدم تحريم ميتة
ثالثة مأخوذا من مفهوم العدد لكن الناس يمثلون لمفهوم
العدد بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا
ج / 1 ص -383-
بلغ الماء
قلتين"1 والذي لا يتجه غيره هو ما ذكرناه وذلك لأن العدد شبه الصفة لأن
قولك في خمس من الإبل في قوة قولك في إبل خمس تجعل الخمس
صفة للإبل وهي إحدى صفتي الذات لأن الإبل قد تكون خمسا وقد
تكون أقل أو أكثر فلما قيدت وجوب الشاة بالخمس فهم أن
غيرها بخلاف فإذا قدمت لفظ العدد كان الحكم كذلك والمعدود
لم يذكر معه أمر زائد يفهم منهم انتفاء الحكم عما عداه
فصار كاللقب واللقب لم لا فرق فيه أن يكون واحدا أو مثنى
ألا ترى أنك لو قلت رجال لم يتوهم أن صيغة الجمع عدد ولا
يفهم منها ما يفهم من التخصيص بالعدد فكذلك المثنى لأنه
اسم موضوع لاثنين كما أن الرجال اسم موضوع لما زاد فمن ثم
لم يكن قوله:
"ميتتان" يدل على نفي ميتة ثالثة كما أنه لو قال أحلت لنا ميتة لم يدل على
عدم حل ميتة أخرى نعم هنا بحث ينشأ منه تفصيل وهو أن
المثنى من جنس تارة يراد به ذلك الجنس ويكون جانب العدد
مغمورا معه وتارة يراد العدد من ذلك الجنس ويظهر هذا بأنك
إذا أردت الأول تقول جاءني رجلان لا امرأتان فلا ينافي أن
يكون جاءه رجال ثلاثة وإذا أردت الثاني تقول جاءني رجلان
لا ثلاثة فلا ينافي ذلك أنه جاءه نسوة وكذلك المفرد تقول
جاءني رجل لا امرأة و جاءني رجل لا رجلان فإن كان في
الكلام قرينة لفظية أو حالة تبين المراد اتبعت وعمل بحسبها
وإلا فلا دليل فيه لواحد منها وقوله أحلت لنا ميتتان سبق
لبيان حل هاتين الميتتين وليس فيه إشعار لحكم ما سوى ذلك
وقوله:
"إذا بلغ الماء
فلتين لم يحمل الخبث" فيه شرط
يستغنى به عن التمسك بمفهوم العدد لكن الإمام وغيره مثلوا
به في العدد وكان لما ذكرته من البحث لأن قرينة الكلام
بقوله إذا بلغ يقتضي أنه أراد التقييد بهذا القدر المخصوص
فكانت صفة العدد فيه هي المقصودة فلذلك صح التمسك به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ما ينجس
الماء 1/15 والنسائي في كتاب المياه باب التوقيت في الماء
1/142 وابن ماجه في كتاب الطهارة باب مقدار الماء الذي لا
ينجسه شيء ولفظه
"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"
وفي بعض الروايات "لم يحمل خبثا".
ج / 1 ص -384-
قال السابعة النص إما أن يستقل بإفادة الحكم أو لا
والمقارن له إما نص آخر
مثل دلالة قوله:
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مع
دلالة:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} على أن تارك الأمر يستحق العقاب كدلالة قوله:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} مع قوله:
{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر أو إجماع كلالة ما دل على أن الخال
بمثابة الخالة في إرثها إذا دل نص عليه.
النص المستدل به على حكم قد يدل بمنطوقه وقد يدل بمفهومه
وهذان القسمان تقدما وهما داخلان تحت قول المصنف يستقل
فإفادة الحكم وذلك كقوله:
"زكوا عن الغنم السائمة" فإن منطوقه مستقل بإيجاب زكاتها ومفهومه مستقل بعدم إيجاب زكاة
المعلوفة وقد يدل لا بمنطوقه ولا بمفهومه بل بانضمامه إلى
آخر وهذا هو الذي لا يستقل بل يحتاج إلى مقارن فتقول ذلك
الآخر المقارن إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا أو
قرينة حال التكلم واقتصر في الكتاب على ذكر القسمين
الأولين أعني النص والإجماع الأول النص وهو على وجهين:
أحدهما: أن يدل أحد النصين على مقدمة من
مقدمتي الدليل والآخر على مقدمة أخرى منه فيتم بهما الدليل
مثاله قوله تعالى:
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}1 فإنه
يدل على أن تارك الأمر عاص فإذا ضمه المستدل إلى قوله
تعالى:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}2 فإن هذا يدل على أن العاصي يستحق العقاب وقد دلت الأولى على أن
تارك المأمور به يستحق العقاب وثانيهما يدل أحدهما على
ثبوت حكم لشيئين والآخر على ثبوت بعض ذلك لأحدهما على
التعيين فيتعين الباقي للآخر مثاله قوله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}3 مع قوله:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طـه آية: 93.
2 سورة الجـن آية: 23.
3 سورة الأحقاف آية: 15.
ج / 1 ص -385-
الرَّضَاعَةَ} يدل على أن مدة الفصال حولان فيتعين أن يكون الباقي وهو ستة أشهر
مدة الحمل فعلم من مجموع النصين أن أقل مدة الحمل ستة
أشهر.
الثاني: الإجماع كدلالة ما روى من قوله
صلى الله عليه وسلم:
"الخال وارث من لا وارث له" على أن الخال يرث في بعض الأحوال وانعقد الإجماع على أن الخالة
بمثابته في الإرث والحرمان فيدل هذا النص بواسطة انضمام
الإجماع إليه على أن الخالة أيضا ترث في حالة يرث الخال
الثالث: القياس كإثبات الربا في الأرز
بواسطة ثبوته بالنص في البر
الرابع: شهادة حال المتكلم كما إذا جاء في
الشرع لفظ تردد بين الشرع وغيره فإنا نحمله على الشرعي لأن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات مثل ما روي
من قوله صلى الله عليه وسلم:
"الاثنان
فما فوقهما جماعة" فإنه يحمل
على جماعة الصلاة لا على أقل الجمع لأن الأول أمر شرعي
وهذا لغوي وقرائن حاله صلى الله عليه وسلم يرجع الحمل على
الشرعي لما ذكرناه من كونه مبعوثا لبيان الشرعيات والله
أعلم وبه التوفيق.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله الباب الثاني في
الأوامر والنواهي. |