الإبهاج في شرح المنهاج ج / 2 ص -3-
الباب الثاني في الأوامر والنواهي
الباب الثاني: في الأوامر والنواهي وفيه فصول:
الأول: في لفظ الأمر وفيه مسئلتان:
الأولى: أنه حقيقة في القول الطالب للفعل
واعتبرت1 المعتزلة العلو وأبو الحسين الاستعلاء و يفسدهما
قوله تعالى حكاية عن فرعون:
{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
الكلام عند أصحابنا يطلق على اللساني والنفساني واختلفوا
هل هو حقيقة فيهما أو في أحدهما على مذاهب قيل في اللساني
فقط وذهب المحققون منا كما نقله الإمام في أول اللغات إلى
أنه مشترك بينهما وذهب آخرون إلى أنه حقيقة في النفساني
فقط وكلا القولين منقول عن الشيخ ويدل على أنه حقيقة في
النفساني قوله تعالى:
{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}2 وقوله تعالى:
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }3 وقال عمر يوم السقيفة كنت زورت في نفسي كلاما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض نسخ المتن واعتبر بدون تاء وكلاهما صحيح فإن
الفعل إذا أسند إلى جمع التكثير جاز تأنيثه وتذكيره فإثبات
التاء لتأوله بالجماعة وحذفها لتأوله بالجمع.
شرح ابن عقيل 1/409,408.
2 سورة المجادلة آية: 8 .
3 سورة الملك آية:13 .
ج / 2 ص -4-
وقال الأخطل1:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
قال أصحابنا ولسنا نستدل
بهذه الأدلة على إثبات الكلام النفسي فان هذه الأدلة قابلة
للتأويل ولكنا لما دللنا بالبراهين القاطعة المودعة في
الكتب الكلامية على إثبات معنى في النفس يزيد على العلوم
والقدر والإرادات دللنا بهذه الألفاظ على أنه سمي كلاما
فهي أدلة على إثبات التسمية لا على إثبات الحقيقة.
وأما قول الإمام هنا المختار أنه حقيقة في اللساني فقط
فغير مغاير لما نقله في اللغات عن المحققين لأنه قال هناك
الكلام بالمعنى القائم في النفس مما لا حاجة في أصول الفقه
إلى البحث عنه وإنما الذي يبحث عنه اللساني وقوله هنا فقط
أي ولا يكون حقيقة في الشيء والقصة والشأن والطريق كما ذهب
إليه أبو الحسين وحاصل الأمر أن الكلام هنا ليس إلا في
اللساني قوله في لفظ الأمر أي لفظ أمر لا في مدلولها الذي
هو افعل ولا في نفس الطلب وهذا اللفظ يطلق مجازا على الفعل
وغيره مما سيأتي ان شاء الله تعالى فسمي الأمر لفظ وهو
صيغة افعل ومسمى صيغة افعل هو الوجوب أو غيره على الاختلاف
فيه فقوله القول جنس يدخل فيه الأمر وغيره نفسانيا كان أو
غيره ويستفاد من هذه العبارة أن الطلب بالإشارة والقرائن
المفهمة لا يكون أمرا حقيقة وقوله الطالب فصل يخرج به
الخبر وشبهه وقوله للفعل فصل ثان يخرج به النهي إذ هو طالب
للترك وهذا مدخول من جهة أن النهي طلب فعل أيضا ولكن فعل
هو كف فلو قال فعل غير كف كما فعل ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو من بني تغلب
شاعر مصقول الألفاظ حسن الديباجة في شعره إبداع اشتهر في
عهد بني أمية وأكثر من مدح ملوكهم وهو أحد الثلاثة المتفق
على أنهم أشعر اهل عصرهم :جرير والفرزدق والأ خطل.
توفي سنة 90هـ.
دائرة المعارف الإسلامية 1/515 الإعلام للزركلي 5/318.
ج / 2 ص -5-
الحاجب لسلم من هذا الاعتراض ويعترض عليه أيضا بقول القائل
أوجبت عليك كذا وأنا طالب منك كذا فإنه يصدق عليه التعريف
مع كونه خبرا فكان ينبغي أن يقول بالذات كما فعل في تقسيم
الألفاظ.
واعلم أن هذا التعريف يدخل فيه النفساني فكان ينبغي أن
يأتي بفصل يخرجه وليس لقائل أن يقول النفسانى نفس الطلب لا
الطالب فقد خرج بقوله الطالب لأنا نقول يصدق على النفساني
أنه طالب.
ولئن قلت: إنه ليس بطالب حقيقة.
قلت: وكذا اللساني إنما الطالب حقيقة المتكلم وقد زاد
الإمام في الحد قيدا آخر عند قوله إن الحق أن الأمر اسم
لمطلق اللفظ الدال على الطلب لا اللفظ العربي الدال على
الطلب بدليل أن الفارسي إذا طلب من عبده شيئا يلقنه يسميه
العربي أمرا وأنه لو حلف لا يأمر فأمر بالفارسية حنث فقال
الحق أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على الطلب المانع من
النقيض لا لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب.
قال: وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب وهذا ماش على
ما اقتضته طريقته من أن لفظ الأمر هو صيغة افعل والتحقيق
أنهما مسألتان كما سبق ومما يدل عليه ذهاب الجمهور ومنهم
القاضي إلى أن المندوب مأمور به مع قول الجمهور إن صيغة
افعل حقيقة في الوجوب وقول القاضي إنها مترددة بين الوجوب
والندب والإباحة والتهديد صرح به في مختصر التقريب بل صرح
في مختصر التقريب بما قلناه.
وهذه عبارته: الأمر الحقيقي معنى قائم بالنفس وحقيقة
اقتضاء الطاعة ثم ذلك ينقسم إلى ندب ووجوب لتحقيق الاقتضاء
فيهما.
وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس نحو قول
القائل افعل فمترددة بين الدلالة على الوجوب والندب
والإباحة والتهديد فيتوقف فيها حتى يثبت بقيود المقال أو
قرائن الحال تخصصها ببعض المقتضيات هذا ما نرتضيه من
المذهب انتهى قوله.
ج / 2 ص -6-
واعتبرت شرطت المعتزلة في الأمر العلو وقالوا لا يصدق إلا
به أي بأن يكون الطالب أعلى مرتبة من المطلوب منه فآما إن
كان مساويا له فهو إلتماس وإن كان دونه فهو سؤال.
وقد تابعهم على ذلك من أصحابنا الشيخان أبو إسحاق
الشيرازي1 وأبو نصر بن الصباغ2 كما نص عليه في عدة العالم
وشرط أبو الحسين من المعتزلة الاستعلاء دونه العلو والفرق
بين الاستعلاء والعلو واضح فالعلو أن يكون الآمر في نفسه
أعلى درجة والاستعلاء أن يجعل نفسه عاليا بكبرياء أو غيره
وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك فالعلو من الصفات العارضة
للناطق والاستعلاء من صفات كلامه
وهذا الذي قاله أبو الحسين صححه الآمدي وابن الحاجب وكذلك
الإمام إلا أنه في أوائل المسألة الخامسة قال وقال أصحابنا
لا يشترط العلو ولا الاستعلاء لنا قوله حكاية عن فرعون
وأخذ يستدل للأصحاب بهذه الصيغة فظن ظانون الاضطراب في
كلامهم والظاهر أن صيغة لنا إنما أتى بها من أصحابه
تنبيه ما نقله المصنف هنا عن أبي حيان لا يناقض ما اختاره
في تقسيم الألفاظ لأن الكلام هنا في مدلوله اللغوي وأما
هناك فالكلام في مدلوله الاصطلاحي ألا ترى إلى ذكره هناك
المتواطىء والمشكك والاسم والفعل والحرف وكل هذه أسماء
مصطلح عليها بين العلماء
وقد رد المصنف على المذهبين أعني مذهب المعتزلة وأبى
الحسين بأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول.
2 هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد: كنيته أبو
نصر وعرف بابن الصباغ لأن أحد أجداده كان صباغا كان بارعا
في الفقه والأصول ثقة حجة صالحا ورعا حتى فضله بعض العلماء
على أبي اسحاق الشيرازي.
من مؤلفاته: الكامل في الخلاف بين الحنفية والشافعية و
العمدة في أصول الفقه.
توفي ببغداد سنة 477هـ.
طبقات ابن السبكي 3/23 الفتح المبين 1/371.
ج / 2 ص -7-
يفسرهما قوله تعالي حكاية عن قول فرعون لقومه:{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}1 فأطلق الأمر على ما يقولونه في مجلس المشاورة ومن المعلوم انتفاء
العلو إذا كان فرعون في تلك الحالة أعلى رتبة منهم وقد
جعلهم آمرين له وانتفاء الاستعلاء إذ لم يكونوا مستعلين
عليه والأصل في الإطلاق الحقيقة فدل ذلك على عدم اعتبار كل
واحد من العلو والاستعلاء ومما يدل على ذلك قول عمرو بن
العاص لمعاوية رضي الله عنهما:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وابن هاشم هذا رجل من
بني هاشم خرج من العراق على معاوية رضي الله عنه فامسكه
فأشار عليه عمرو بقتله فخالفه معاوية لشدة حلمه وكثرة عفوه
فأطلقه فخرج عليه مرة أخرى فأنشده عمرو البيت في ذلك لا في
علي رضي الله عنه وإنما نبهنا على ذلك مخافة أن يتوهمه
متوهم.
وقال دريد بن الصمة2 لنظرائه ولمن هو فوقه:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
وهل يستبان الرشد إلا ضحى الغد
وقال الآخر مخاطبا يزيد
بن المهلب أمير خراسان والعراق:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
وقد قيل في إبطال مذهب
أبي الحسين على الخصوص في الكتاب العزيز في غاية التلطف
ونهاية الاستجلاب بتذكير النعم والوعيد بالنقم كما في قوله
تعالى:
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ}3 وقوله:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}4 إلى غير ذلك من الآيات
المنافية لاشتراط الاستعلاء وإلا يلزم أبا الحسين أن
يخرجها عن كونها أوامر بل يلزمه أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف 110 والشعراء 35.
2 هو: دريد بن الصمة الجشمي البكري من هوازن ومن الشعراء
المعمرين في الجاهلية كان السيد بني جشم وقائدهم غزا نحو
مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها أدرك الإسلام ولم يسلم
قتل على دين الجاهلية في غزوة حنين سنة 8هـ. الأغاني
10/3-40 طبعة دار الكتب الأعلام للزركلي 3/16, 17.
3 سورة البقرة آية 21.
4 سورة آل عمران آية 31.
ج / 2 ص -8-
يخرج كل صيغة لا يدل معها دليل على وجود الاستعلاء الذي هو
هيئة قائمة بالأمر وأكثر الأوامر لا يوجد فيها ذلك.
قال: وليس حقيقة في غيره دفعا للإشتراك وقال بعض الفقهاء
إنه مشترك بينه وبين الفعل أيضا لأنه يطلق عليه مثل وما
أمرنا وما أمر فرعون
الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا المراد الشأن مجازا.
قال البصري: إذا قيل أمر فلان ترددنا بين القول والفعل
والشيء والشأن والصفة وهو آية الاشتراك قلنا لا بل بتبادر
القول.
قد عرفت أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وذلك باتفاق.
قال المصنف: فلا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك وقال
بعض الفقهاء إنه مشترك بين القول المخصوص والفعل ونقل
الأصفهاني في شرح المحصول عن ابن برهان أنه قال كافة
العلماء ذهبوا إلى أنه حقيقة في الفعل والشأن والقصة
والمقصود والغرض ولم أر ذلك في كلام ابن برهان واستدل
القائل بأنه حقيقة في الفعل بأنه يطلق عليه كما في قوله
تعالى:
{وَمَا
أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}1 أي فعلنا وقوله تعالى:
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}2 أي فعله والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب في الكتاب بأن المراد
بالأمر هنا هو الشأن الشامل للقول والفعل ويكون مجازا من
باب إطلاق الخاص وإرادة العام والمجاز خير من الاشتراك
وهذا الجواب وان كان صحيحا فلا يحتاج إليه من يقول المراد
بالأمر في هاتين الآيتين هو القول.
أما الأولى فلأنه لو أريد الفعل للزم أن يكون فعله سحابة
واحدة وهو في السرعة كلمح البصر وذلك باطل ضرورة ثبوت تعدد
أفعاله وحدوث بعضها بالرفق والتدريج وإذا حمل على القول لا
يلزم منه محذور.
وأما الثانية فإرادة القول فيها ظاهرة يدل عليها قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } وأبو الحسين وهو المشار إليه بقول البصري زعم ان لفظ الأمر مشترك
بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القمر آية 50.
2 سورة هود آية 97.
ج / 2 ص -9-
القول المخصوص كما سبق وبين الشيء كقولنا تحرك هذا الجسم
لأمر أي لشيء والصفة كقول الشاعر:
لأمر ما يسود من يسود
أي لصفة من صفات الكمال
والشأن والطريق كذا نص عليه في المعتمد إذ قال ما نصه وأنا
اذهب إلى أن قول القائل أمر مشترك بين الشيء والصفة والشأن
والطريق وبين جملة الشأن والطريق وبين القول المخصوص انتهى
ومقتضى ذلك أنه مشترك عنده بين خمسة أشياء لكنه في شرح
المعتمد فسر الشأن والطريق بمعنى واحد فيكون الأقسام عنده
أربعة فلذلك حذف المصنف الطريق وذلك من محاسنه.
واستدل البصري على ما ذهب إليه بأن من سمع قول القائل هذا
أمر فلان تردد ذهنه بين هذه المعاني ما لم يضف إلى قرينة
معينة لواحد منها تعين المراد منه وذلك أنه الاشتراك أي
علامته.
وأجاب عنه المصنف بمنع تردد الذهن عن عدم القرينة بل
يتبادر فهم القول المخصوص منه إلى الذهن وقوله في الكتاب
إذا قيل أمر فلان أمر هنا بإسكان الميم لا غير وما نقله
المصنف عن أبي الحسين من أن الأمر موضوع للفعل بخصوصه حتى
يكون مشتركا غلط فالذي نص أبو الحسين عليه أنه غير موضوع
له وانما يدخل في الشأن فقال مجيبا عن اعتراض لخصومه ما
نصه اسم الأمر ليس يقع على الفعل من حيث هو فعل لا على
سبيل المجاز ولا على سبيل الحقيقة وإنما يقع على جملة
الشان حقيقة وهو المراد بقول الناس أمور فلان مستقيمة
انتهى.
قال: الثانية: الطلب بديهي التصور وهو غير العبارات المختلفة وغير الإرادة خلافا
للمعتزلة.
لنا: أن الإيمان من الكافر مطلوب وليس بمراد لما عرفت وأن
الممهد لعذره في ضرب عبده يأمره ولا يريد.
ولما ذكر أن مدلول الأمر القول الطالب للفعل احتاج إلى
بيان الطلب تتميما لإيضاح مدلول الأمر فقال الطلب بديهي
التصور وهذا قد صار إليه
ج / 2 ص -10-
الجمهور واستدلوا عليه بأن كل عاقل مارس الحدود والرسوم أو
لم يمارس شيئا البتة يأمر وينهى ويفرق بالبديهة بين طلب
الفعل وطلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر وهذا
الدليل قد أكثر الإمام التعويل عليه وهو مدخول من وجوه:
أحدها: أنه لا يلزم من الحكم بالتفرقة بين الشيئين
بالبديهة معرفة كنه حقيقتهما بل قد لا يعرف الحكم بالتفرقة
ماهية ذلك الشيء فضلا عن أن يعرفه بالبديهة ألا ترى أن كل
أحد يعلم من نفسه أنه موجود بالبديهة ويفرق بين الإنسان
والملك والطائر والفرس ولا يدري ماهية نفسه ولا ماهية
الملك ولا الطائر والفرس معرفة خاصيته بالجنس والفصل.
الثاني: أن قوله يفرق بين طلب الفعل وطلب الترك بالبديهة
وكذا بينهما وبين الخبر يلزم منه أن تكون هذه الأشياء
بديهة على ما قرر وإذا كان كذلك فلم حد ماهية الأمر قبل
ذلك.
الثالث: أن بحثه عن هذا المعنى هو بحث عن هذا الكلام وهذا
متناقض ثم هو اعني الطلب مغاير للعبارات المختلفة باختلاف
النواحي والأمم ومغاير للإرادة أما مغايرته للعبارات فواضح
فإن ماهية الطلب معنى قائم بقلب المتكلم لا يختلف بذلك
بخلاف العبارات المختلفة.
هذا شرح قول المصنف.
وقوله: المختلفة ليس لإخراج شيء صفة جاءت للتوضيح أي أن
شأن العبارات أنها مختلفة ولو قال بدل ذلك لاختلافها لكان
أصرح وأحسن وأما مغايرته للإرادة والخلاف فيه مع المعتزلة
فلوجهين:
أحدهما: أن الإيمان من الكفار مطلوب بالإجماع ومنهم من
أخبر الله تعالى بأنه لا يؤمن فكان إيمانه ممتنعا لإخبار
الله تعالى بعدمه كما عرفت في مسألة تكليف المحال والممتنع
لا يكون مرادا لله تعالى لأن الإرادة صفة مخصصة لحدوث
الفعل بوقت حدوثه والشيء إذا لم يوجد لكونه ممتنعا امتنعت
إرادته لعدم تخصصه بوقت الحدوث ويلزم من هذا مغايرة الطلب
الذي هو مدلول
ج / 2 ص -11-
الأمر
للإرادة لتحققه دونها هذا تقريره وهو ضعيف لأن حاصله
الاستدلال على عدم الإرادة بعدم الوقوع وذلك مصادرة على
المطلوب.
والوجه الثاني: أن الطلب قد يتحقق بدون الإرادة وذلك لأنه
قد يجتمع مع كراهيته ويستحيل أن تجتمع إرادته مع كراهته
فالأمر غير الإرادة وبيان ذلك أن السيد الذي لامه السلطان
على ضرب عبده إذا اعتذر إلى السلطان عنه بتمرد العبد
وعصيانه عن امتثال أوامره وكذبه السلطان فأراد إظهار صدقه
بالتجربة فإنه إذا أمره بشيء عند السلطان لا يريد ذلك
الفعل قطعا لاستحالة ألا يريد تمهيد عذره حالة كونه مريدا
له فإنه ما أمره إلا لتمهيد عذره وفي إرادة فعله عدم إرادة
تمهيد عذره فيستحيل إرادته ولأن العاقل لا يريد ما فيه
مضرة من غير ضرورة ملجئة إليه.
وهذا الدليل كما يدل على أن الأمر غير الإرادة كذلك يدل
على أنه غير مشروط بها.
وقد اعترض على هذا الدليل بوجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنه وجد الأمر في الصورة المذكورة وان
كانت صورته صورة الأمر والصورة لا توجب أن يكون أمرا
حقيقيا كما في التهديد.
وأجيب عنه بأن تمهيد العذر إنما يحصل بالأمر لا بغيره فدل
على أنه أمر وهذا جواب ضعيف فإن قوله التمهيد إنما يحصل
بالأمر إن أراد النفسي فممنوع لأن مجرد سماع العبد اللساني
يحصل التجربة وإن أراد اللساني فالفرق بينه وبين الإرادة
مسلم.
وثانيهما: ذكره الآمدي فقال هذا لازم على أصحابنا في
تفسيرهم الأمر بأنه طلب الفعل من جهة أن السيد أيضا أمر في
مثل هذه الصورة لعبده مع علمنا بأنه يستحيل منه طلب الفعل
من عبده لما فيه من تحقيق عقابه وكذبه والعاقل لا يطلب ما
فيه مضرته وإظهار كذبه.
قال صفي الدين الهندي وهو اعتراض ضعيف لأنا لا نسلم أنه
يستحيل من العاقل أن يطلب ما فيه مضرته إذا لم يكن مريدا
له.
ج / 2 ص -12-
قال:
وهذا لأن طلب المضرة لا ينافي غرضه بل قد يوافقه كما هو
واقع فيما ذكرنا من الصورة وإنما المنافي لغرضه وقوع
المضرة والطلب لا يوجبه فالحاصل أن طلب المضرة من حيث إنه
طلب لا ينافي غرض العاقل لا بالذات ولا بالغرض بخلاف
الإرادة فإنها وان لم تنافه بالذات لكنها منافية له بالغرض
لكونها توجب وقوع المضرة ضرورة أن الإرادة صفة تقتضي وقوع
المراد نعم الطلب والإرادة في الأكثر يتلازمان فيظن أنه
يستحيل أن تجتمع مع الكراهة كما يستحيل أن تجتمع الإرادة
معها.
فائدة استدل القاضي أبو الطيب الطبري في شرح الكفاية وتبعه
الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع على أن الأمر مغاير للإرادة
بأن من حلف ليقضين زيدا دينه غدا وقال إن شاء الله ولم
يقضه لا يحنث في يمينه مع كونه مأمورا بقضاء دينه فلو كان
الله تعالى قد شاء ما أمره به وجب أن يحنث في يمينه وهذا
ظاهر إذا كان الدين حالا وصاحبه مطالب به أما إن كان مؤجلا
فإنا لا نسلم وجوب الوفاء في غد إذا لم يكن عند محل الأجل
وأما إذا كان حالا وصاحبه غير مطالب له ففي وجوب الوفاء
على الفور إختلاف معروف في المذهب مذكور في صدر كتاب
التفليس من ابن الرفعة عن الروياني وإمام الحرمين فان لم
نوجبه فقد يمنع الوجوب أيضا فينبغي أن يقتصر على الاستدلال
بمن عليه دين حال وصاحبه مطالب به والمديون متمكن من
الإيفاء ليخرج أيضا ما إذا لم يتمكن كالمعسر فإنه لا يجب
عليه مع عدم التمكن.
قال: واعترف أبو علي وابنه بالتغاير وشرطا الإرادة في
الدلالة ليتميز عن التهديد. قلنا: كونه مجازا كاف.
اعترف أبو على وابنه أبو هاشم وتابعهما القاضي عبد الجبار
وأبو الحسين بأن الأمر مغاير لإرادة المأمور به ولكن شرطوا
إرادة المأمور به في دلالة الأمر عليه وقالوا لا ينفك
الأمر عن الإرادة محتجين بأن الصيغة كما ترد للطلب ترد
للتهديد مع خلوه عن الطلب فلا بد من مميز بينهما ولا مميز
سوى الإرادة
ج / 2 ص -13-
والجواب أن المميز حاصل بدون الإرادة لأن صيغة الأمر حقيقة
في القول المخصوص ومجاز في غيره وهذا كاف في التمييز لأنها
إن وجدت بغير قرينة حملت على مدلولها الحقيقي أو بقرينة
حملت على ما دلت القرينة عليه.
واعلم أن محل الخلاف إنما هو في إرادة الامتثال واما إرادة
الدلالة الصيغة على الأمر احتراز عن التهديد والتسخير
وغيرهما من المحامل فالنزاع فيها ليس مع المعتزلة بل مع
غيرهم من المتكلمين والفقهاء وأما إرادة إحداث الصيغة
احترازا عن النائم ومن جرى لسانه إليه من غير قصد فتلك شرط
من غير توقف وقد حكى قوم فيها الاتفاق ولكن حكى ابن المطهر
هذا المتأخر المنسوب إلى الرفض في كتاب له مبسوط في أصول
الفقه وقفت عليه من مدة ولم يحضرني حالة التصنيف عن بعضهم
أنه لم يشترط إرادة إيجاد الصيغة وهذا شيء ضعيف لا يعتمد
عليه وكيف يجعل ما يجري على لسان النائم والساهي أمرا
يترتب عليه مقتضاه اللهم أن يلتزم أن مقتضاه لا يترتب عليه
وحينئذ يجيء الخلاف النحوي في أنه هل من شرط الكلام القصد
فابن مالك يشترطه وشيخنا أبو حيان لا يشترطه.
ج / 2 ص -15-
الفصل الثاني: في صيغة أفعل
قال: الفصل الثاني في صيغته وفيه مسائل:
الأولى: أن صيغة أفعل ترد لستة عشر معنى
الأول: الإيجاب أقيموا الصلاة.
الثاني: الندب: فكاتبوهم ومنه: كل مما يليك.
الثالث: الإرشاد: واستشهدوا.
الرابع: الإباحة: كلوا.
الخامس: التهديد: اعملوا ما شئتم ومنه: قل تمتعوا.
السادس: الامتنان: كلوا مما رزقكم الله.
السابع: الإكرام: ادخلوها.
الثامن: التسخير: كونوا قردة.
التاسع: التعجيز: فأتوا بسورة.
العاشر: الإهانة: ذق.
الحادي عشر: التسوية: اصبروا أو لا تصبروا.
الثاني عشر: الدعاء: اللهم اغفر لي.
الثالث عشر: التمني:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى.
ج / 2 ص -16-
الرابع
عشر: الاحتقار: بل ألقوا
الخامس عشر: التكوين: كن فيكون
السادس عشر: الخبر: فاصنع ما شئت وعكسه:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} "لا تنكح
المرأة المرأة".
تقدم أن الأمر اسم للقول للطالب للفعل وهذا شروع في ذكر
صيغته وهي أفعل ويقوم مقامها اسم الفعل كصه والمضارع
المقرون باللام مثل ليقم زيد.
وقد نقل عن الشيخ أبي الحسن أنه لا صيغة للأمر تخص به وأن
قول القائل افعل متردد بين الأمر والنهي وإن فرض حمله على
غير النهي فهو متردد بين جميع محتملاته ثم اختلف أصحابه في
تنزيل مذهبه فقال قائلون اللفظ صالح لجميع المحامل صلاح
اللفظ المشترك للمعاني التي هيئت اللفظة لها.
وقال آخرون ليس المعنى بتوقف أبي الحسن في المسألة إلا أنا
لا ندري على أي وضع جرى قول القائل افعل في اللسان فهو
مشكوك فيه على هذا الرأي ثم نقل عن أبى الحسن ناقلون انه
يستمر على القول بالوقف مع فرض القرائن.
قال إمام الحرمين وهو زلل بين في النقل ثم قال إمام
الحرمين الذي أراه في ذلك قاطعا به أن أبا الحسن لا ينكر
صيغة مشعرة بالوجوب الذي هو مقتضى الكلام القائم بالنفس
نحو قول القائل أوجبت أو ألزمت أو ما شاكل ذلك وإنما الذي
تردد فيه مجرد قول القائل افعل من حيث ألقاه في وضع اللسان
مترددا وإذا كان كذلك في الظن به إذا اقترن بقول القائل
افعل لفظا وألفاظ من القبيل الذي ذكرناه مثل أن يقول افعل
حتما أو افعل واجبا نعم قد يتردد المتردد في الصيغة التي
فيها الكلام إذا اقترنت بالألفاظ التي ذكرناها فالمشعر
بالأمر النفسي الألفاظ المقترنة بقول القائل أفعل أم هي في
حكم التفسير لقول القائل افعل وهذا تردد قريب ثم ما نقله
النقلة يختص بقرائن المقال على مافيه من الخبط فأما قرائن
الأحوال فلا ينكرها أحد.
ج / 2 ص -17-
وهذا
هو التنبيه على سر مذهب أبى الحسين والقاضي وطبقة
الواقفية1.
هذا كلام إمام الحرمين ثم قال المصنف صيغة افعل ترد لستة
عشر معنى:
الأول: الإيجاب كقوله تعالى:
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ}2.
الثاني: الندب كقوله تعالى:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}3 فإن الكتابة مستحبة لهذه الآية وحكى صاحب التقريب قولا للشافعي
أنها واجبة إذا طلبها قوله ومنه أي ومن المندوب التأديب
كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بي أبى سلمة:
"كل مما
يليك" رواه البخاري ومسلم فإن الأدب مندوب إليه وقد جعله بعضهم قسيما
للمندوب والحق أن افتراقها افتراق العام والخاص لما
ذكرناه.
واعلم أن التمثيل بالأكل مما يليه ليس بجيد فان الذي نص
عليه الشافعي رضي الله عنه في غير موضع أن من أكل مما لا
يليه عالما بنهي النبي صلى الله عليه وسلم كان آثما عاصيا
وذكره شارح الرسالة أبو بكر الصيرفي وأقره عليه والشافعي
نص عليه على هذه المسألة في أخوات لها غريبات أخرجهن والدي
رحمه الله وأطال الله بقاه وصف فيهن كتابه المسمى بكشف
اللبس عن المسائل الخمس ونص المنصوص وقد ذكرنا عيون ذلك
المختصر في ترجمة البويطي من كتابنا طبقات الفقهاء.
الثالث: الإرشاد: كقوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}4والفرق
بين الندب والإرشاد أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة
والإرشاد لمنافع الدنيا ولا يتعلق به ثواب البتة لأنه فعل
متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواقفة: فرقة من فرق الخوارج ينتمون إلى فرقة تسمى
العجاردة.
انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص24وما بعدها طبعة صبيح
بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.
2 سورة البقرة آية 43.
3 سورة النور آية 33.
4 سورة البقرة آية 282.
ج / 2 ص -18-
وقد
يقال إنه يثاب عليه لكونه ممتثلا ولكن يكون ثوابه أنقص من
ثواب الندب لأن امتثاله مشوب بحظ نفسه ويكون الفارق إذا
بين الندب والإرشاد إنما هو مجرد أن أحدهما مطلوب لثواب
الآخرة والآخر لمنافع الدنيا والتحقيق أن الذي فعل ما أمر
به إرشادا إن أتى به لمجرد غرضه فلا ثواب له وإن أتى به
لمجرد الامتثال غير ناظر إلى مصلحته ولا قاصد سوى مجرد
الانقياد لأمر ربه فيثاب وإن قصد الأمرين أثيب على أحدهما
دون الآخر ولكن ثوابا أنقص من ثواب من لم يقصد غير مجرد
الامتثال.
واعلم أن صيغة افعل حقيقة في الوجوب مجاز في غيرها على
الصحيح كما ستعرفه إن شاء الله تعالى والعلاقة التي بين
الواجب والمندوب والإرشاد حتى أطلقت عليهما صيغة افعل هي
المشابهة المعنوية.
الرابع: الإباحة كقوله تعالى:
{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}1
الخامس: التهديد:
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}2. ومن
التهديد الإنذار كقوله تعالى:
{قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}3 وقد جعله جماعة قسما آخر ولا شك في ثبوت الفرق بينهما إذ التهديد
هو التخويف والإنذار هو الإبلاغ لكن لا يكون إلا في
التخويف فقوله تعالى:
{قُلْ تَمَتَّعُوا} أمر بإبلاغ هذا الكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر وقال صفي الدين
الهندي وغيره الفرق بينهما أن الإنذار يجب أن يكون مقرونا
بالوعيد كما في الآية المذكورة والتهديد لا يجب فيه ذلك بل
قد يكون مقرونا وقد لا يكون وقيل في الفرق بينهما إن
التهديد في العرف أبلغ من الوعيد والغضب من الإنذار وكلها
فروق صحيحة والعلاقة بين التهديد والوجوب المضادة لأن
المهدد عليه إما حرام أو مكروه كذا قيل وعندي أن المهدد
عليه لا يكون إلا حراما وكذلك الإنذار وكيف وهو مقترن
بالوعيد بل قد ذهب قوم إلى أن الكبائر هي المتوعد عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية 51.
2 سورة فصلت آية 40.
3 سورة إبراهيم آية 30.
ج / 2 ص -19-
السادس: الامتنان:
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}1 والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة مجرد إذن وأنه لا بد من
اقتران الامتنان بذكر احتياج الخلق إليه وعدم قدرتهم عليه
ونحو ذلك كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي
رزقه والعلاقة بين الامتنان والوجوب المشابهة في الإذن أن
الممنون لا يكون إلا مأذونا فيه.
السابع: الإكرام:
{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}2
فإن قرينة قوله بسلام آمنين يدل عليه والعلاقة أيضا الإذن.
الثامن: التسخير: مثل:
{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}3
والفرق بينه وبين التكوين أن التكوين سرعة الوجود عن العدم
وليس فيها انتقال إلى حالة ممتهنة بخلاف التسخير فإنه لغة
الذلة والامتهان في العمل والعلاقة فيه وفي التكوين
المشابهة المعنوية وهي تحتم الوقوع وقد سمى الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين هذا القسم بالتكوين.
التاسع: التعجيز:
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}4
والعلاقة المضادة إذ لا يكون التعجيز إلا في الممتنع
العاشر: الإهانة:
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}5
الحادي عشر: التسوية:
{فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا}6
الثاني عشر: الدعاء: مثل القائل: اللهم اغفر لي وقوله
تعالى:
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا}7
الثالث عشر: التمني: مثل قول امرىء القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي8
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 88.
2 سورة الحجر آية46.
3 سورة البقرة آية 65.
4 سورة البقرة آية 23.
5 سورة الدخان آية 49.
6 سورة الطور آية 16.
7 سورة الأعراف آية 89.
8 البيت لامرئ القيس – حندج – بضم الحاء والدال بينهما نون
سا كنة – بن حجر بن الحارث=
ج / 2 ص -20-
وقد
يقال لم جعل المصنف هذا الشاعر متمنيا ولم يجعله مترجيا مع
أن التمني مختص بالمستحيل وانجلاء الليل غير مستحيل
والجواب أن المحب ينزل ليله لطوله منزلة ما يستحيل انجلاؤه
ولهذا قال الشاعر:
ليل المحب بلا آخر
الرابع عشر: الإحتقار:
كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام يخاطب السحرة:{أَلْقُوا
مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}1
يعني أن السحر وإن عظم ففي مقابلة ما أتى به موسى عليه
السلام حقير والفرق بينه وبين الإهانة أن الإهانة إنما
تكون بالقول أو الفعل أو بتركهما دون مجرد الاعتقاد
والاحتقار إما مختص بمجرد الاعتقاد أو لا بد من الاعتقاد
بدليل أن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه
يقال إنه احتقره ولا يقال أهانه ما لم يصدر منه قول أو فعل
ينبي عن ذلك.
الخامس عشر: التكوين: كن فيكون. وقد سما الغزالي إلى هذا
القسم بكمال القدرة وتبعه الآمدي.
السادس عشر: الخبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا لم تستح فاصنع ما شئت"2
أي صنعت ما شئت.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام هو هذا تهكم إذ معناه
اعرضه على نفسك فإن استحيت منه لو اطلع عليه فلا تفعله وإن
لم تستح فاصنع ما شئت من هذا الجنس وعلى هذا التفسير يحتاج
هذا القسم إلى مثال وأمثلة كثيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بن عمر المتوفى سنة 80 ق.هـ وهو من معلقته المشهورة التي
مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
1 سورة الأعراف 116, ويونس 80 والشعراء 43 وفي الأصل بل
ألقوا وهو زائد عن النص القرآني لذا حذفته من الأصل. 1هـ.
محققة.
2 رواه البخاري كتاب الأدب باب: إذا لم تستح فاصنع ماشئت
8/35 وأبو داود في كتاب الأدب باب في الحياء 2/552.
ج / 2 ص -21-
قوله
وعكسه أي قد يستعمل الخبر ويراد به الأمر مثل قوله:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}1 المعنى والله أعلم ليرضع الوالدات أولادهن وهذا أبلغ من عكسه لأن
الناطق بالخبر مريدا به الأمر كأنه نزل المأمور به منزلة
الواقع قوله:
"لا تنكح المرأة المرأة"2 يعني أن الخبر قد يأتي مرادا به النهي كما قد يقع مرادا به الأمر
وذلك أعني مجيئه مرادا به النهي كما في الحديث الذي رواه
ابن ماجة بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تزوج المرأة المرأة ولا
تزوج المرأة نفسها" فإن صيغته
خبر لوروده مضموم الجيم ولو كان نهيا لكان مجزوما مكسورا
لالتقاء الساكنين والمراد به النهي فهذا شرح الأقسام الستة
عشر التي في الكتاب وهي في الحقيقة أكثر لاشتمال بعض
أقسامها على نوعين كما عرفت وقد زاد إمام الحرمين في
البرهان الأمر بمعنى الإنعام كقوله تعالى:
{كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}3
قال هذا وإن كان فيه معنى الإباحة فان الظاهر منه تذكير
النعمة وزاد أيضا الأمر بمعنى التعويض كقوله:
{فَاقْضِ
مَا أَنْتَ قَاضٍ}4 وزاد صفي الدين الهندي تاسع عشر وهو التعجب ومثل له بقوله تعالى:
{قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً}5 وهذا
المثال جعله الآمدي وابن برهان من قسم التعجيز ورأيت في
طبقات الفقهاء لأبى عاصم العبادي في ترجمة أبى إسحاق
إبراهيم بن محمد الفارسي زيادات أخر منها التعجب كما قال
الشيخ الهندي لكن مثل له بقوله تعالى:
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}6
ومنها الأمر بمعنى التكذيب مثل قوله تعالى:
{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}7
وقوله:
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ هَذَا}8
ومنها الأمر بمعنى المشورة مثل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة 233.
2 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب: لانكاح إلا بولي
1/605 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه – بلفظ لا تزوج
بإسناد ضعيف كما رواه الدار قطني بإسناد على شرط مسلم
انظر: سبل السلام 3/119-121.
3 سورة البقرة آية 172.
4 سورة طه آية 72.
5 سورة الإسراء آية 50.
6 سورة الإسراء آية 48.
7 سورة آل عمران آية 93.
8 سورة الأنعام آية 150.
ج / 2 ص -22-
{فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}1 وزاد أبو عاصم أيضا في غير هذه الترجمة الأمر بمعنى الاعتبار مثل
قوله:
{انْظُرُوا
إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}2
والأمر بمعنى التسليم مثل:
{فَاقْضِ مَا
أَنْتَ قَاضٍ} وهذا قد تقدم عن إمام الحرمين وقد وصلت الأقسام بزيادات أبى عاصم
وإمام الحرمين والقسم الذي ذكره الهندي إلى اثنين وعشرين.
قال: الثانية: أنها حقيقة في الوجوب مجاز في البواقي وقال
أبو هاشم:
إنه للندب وقيل للإباحة وقيل مشترك بين الوجوب والندب وقيل
للقدر المشترك بين الوجوب والندب وقيل للقدر المشترك
بينهما وقيل لأحدهما ولا نعرفه وهو قول الحجة وقيل مشترك
بين الثلاثة وقيل بين الخمسة.
أجمعوا على أن صيغة أفعل ليست حقيقة في جميع المعاني التي
أوردناها وإنما الخلاف في بعضها وقد اختلفوا فيه على
مذاهب:
أحدها: أنه حقيقة في الوجوب فقط مجاز في البواقي وهو
المحكي عن الشافعي رضي الله عنه.
وقال إمام الحرمين: في التلخيص المختصر من التقريب
والإرشاد وأما الشافعي فقد أدعى كل من أهل المذاهب أنه على
وفاقه وتمسكوا بعبارات متفرقة له في كتبه حتى اعتصم القاضي
بألفاظ له من كتبه واستنبط منها مصيره إلى الوقف وهذا عدول
عن سنن الإنصاف فان الظاهر والمأثور من مذهبه حمل مطلق
الأمر على الوجوب انتهى ونقله الشيخ أبو إسحاق في شرح
اللمع وابن برهان في الوجيز عن الفقهاء واختاره الإمام
واتباعه منهم المصنف.
قال الشيخ أبو اسحاق وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على
أصحاب أبى إسحاق يعني المروزي ببغداد ثم اختلف القائلون
بهذا المذهب في أن اقتضاها الوجوب هل هو بوضع اللغة أم
بالشرع على مذهبين وصحح الشيخ أبو إسحاق أنه بوضع اللغة
ونقله إمام الحرمين عن الشافعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصا فات آية 102.
2 سورة الأنعام آية 199.
ج / 2 ص -23-
والثاني: أنها حقيقة في الندب. قال الغزالي ومنهم من نقله
عن الشافعي وقد نقله في الكتاب عن أبي هاشم والغزالي نقله
عن كثير من المتكلمين دهماؤهم المعتزلة أي دهماء الكثير من
المتكلمين وجماعة من الفقهاء.
قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع الذي تحكي الفقهاء عن
المعتزلة أنها تقتضي الندب وليس هذا مذهبهم على الاطلاق بل
ذلك بواسطة أن الأمر عندهم يقتضي الإرادة والحاكم لا يريد
الا الحسن والحسن ينقسم إلى واجب ومندوب فيحمل على المحقق
من الاسم وهو الندب فليست الصيغة عندهم مقتضية للندب الا
على هذا التقدير.
قلت: ويلزمهم أو أكثرهم على هذا التقدير القول بالإباحة
لأن المباح عند أكثرهم حسن كما سبق في أوائل الكتاب.
الثالث: أنها حقيقة في الإباحة التي هي أدنى المراتب.
الرابع: أنها مشتركة بالاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب
وهو المحكي عن المرتضى من الشيعة وقال الغزالي صرح الشافعي
في كتاب أحكام القرآن بتردد الأمر بين الوجوب الندب.
الخامس: أنها حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب
فيكون متواطئا وهو رأي الإمام أبى منصور الماتريدي.
السادس: حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب وإما فيهما
جميعا بالاشتراك اللفظي لكنا لا ندري ما هو الواقع من هذه
الأقسام الثلاثة:
ويعرفون ان لا رابع وهذا محكي عن طائفة من الواقعية كالشيخ
والقاضي واختاره الغزالي والآمدي هذا هو تحرير هذا المذهب
وقول المصنف في حكايته وقيل لأحدهما ولا نعرفه غير مرضي
بوجهين:
أحدهما: تصريحه يتردد هذا المذهب بين شيئين وليس كذلك بل
بين ثلاثة كما سقناه.
وثانيهما: أنه على تقدير صحة هذا بأن يكون بعض الناس ذهب
إلى تردد بين
ج / 2 ص -24-
شيئين
فليس قول الغزالي إنما اختار الغزالي ما أوردناه وهذه
عبارة المستصفي وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب وقال
قوم بل للندب وقال قوم يتوقف فيه ثم منهم من قال هو مشترك
كلفظ العين ومنهم من قال لا ندري أيضا أنه مشترك أو وضع
لأحدهما واستعمل في الثاني مجازا والمختار أنه يتوقف فيه
انتهى.
وقد حكى الشيخ الهندي عن الشيخ والقاضي وإمام الحرمين
والغزالي التوقف في أنه حقيقة في الوجوب فقط أو الندب فقط
أو فيهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي وهذا مغاير لهذا
الذي سقناه عن الغزالي لتردده بين أربعة لا ثلاثة والذي في
المستصفي ما رأيته وأما الشيخ والقاضي فقد ذكرنا النقل
عنهما في أول هذا الفصل من كلام إمام الحرمين وأما إمام
الحرمين فالذي صرح باختياره ما نصه من أنكر أن العرب ما
فصلت بين قول القائل افعل وبين قوله لا تفعل فليس من
التحقيق في شيء فإنا على اضطرار نعلم الفصل في ذلك كما
نعلم الفصل بين قول القائل فعل وبين قوله ما فعل ولا معنى
لبسط ذلك مع وضوحه فإذا سقط هذا رددنا القول إلى الإباحة
التي هي تخيير ولا اقتضاء فيها ولا طلب وقلنا لا شك في فصل
العرب بين قول من يقول لا حرج عليك فعلت أو تركت وبين قول
افعل فان الصيغة الأخيرة مقتضاها طلب لا محالة وليس في
الإباحة من الطلب شيء فقد لاح سقوط الإباحة عن متضمن
الصيغة ولم يبق الا الندب والندب من ضرورة معناه التخيير
في الترك وليس في قول القائل افعل تخيير في الترك أصلا وقد
تعين الآن أن نبوح بالغرض الحق ونقول افعل طلب محض لا مساغ
له لتقدير الترك فهذا مقتضى اللفظ المجرد عن القرائن فان
قيل هذا مذهب الشافعي واتباعه وهو المصير إلى اقتضاء اللفظ
إيجابا قلنا ليس كذلك فان الوجوب عندنا لا يعقل دون
التقييد بالوعد على الترك وليس ذلك مقتضى تمحيص الطلب فإذا
الصيغة لتمحيص الطلب والوجوب مدرك من الوعيد هذا لفظه ثم
قال وأنا أبني على منتهى الكلام شيئا يقرب ما اخترته من
مذهب الشافعي فأقول ثبت في موضوع الشرع أن التمحص في الطلب
موعد على تركه وكلما يكون كذلك فلا يكون إلا واجبا انتهى.
ج / 2 ص -25-
وحاصل
هذا الذي اختاره حمل الصيغة على الاقتضاء والطلب وقصار
المستفاد منها من جهة اللسان الطلب الجازم وكون هذا الطلب
موعدا عليه شيء آخر ثابت في أوامر الشرع بالدليل الخارجي
فالوجوب مستفاد بهذا التركيب من اللغة والشرع فقد وافق
القائلين بالوجوب وإن كان قد خالفهم في هذا التركيب ونقل
المازري في شرح البرهان هذا الذي اختاره إمام الحرمين عن
الشيخ أبى حامد الإسفرايني وقال إنه صرح به وسبقه إلى
اختياره فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل
فاقتضاه منه اقتضاء جزما ولكن إذا ثبت هذا من جهة اللسان
ثبت بعده الوعيد وهذا هو الذي اختاره الشيخ أبو حامد وإمام
الحرمين هو المختار عندنا فان الوعيد لا يستفاد من اللفظ
بل هو أمر خارجي عنه ولكننا نقول المنقول عن الشافعي أن
الصيغة تقتضي الوجوب ومراده الصيغة الواردة فى الشرع إذ لا
غرض له في الكلام في شيء غيرها ولم يصرح الشافعي بأن
اقتضاها للوجوب مستفاد منها فلعله يرتضي هذا التركيب ويقول
به ويكون ما ذهب إليه الشيخ أبو حامد وإمام الحرمين هو
الذي ذهب إليه إمامهما.
واعلم أن هذا المذهب المختار مغاير للمذهبين اللذين
حكياهما عند حكاية القول بالوجوب في ان ذلك هل هو بالشرع
أو اللغة فتصير المذاهب أربعة:
الوجوب بالشرع والوجوب باللغة والوجوب بضم الشرع إلى اللغة
وعدم الوجوب.
فان قلت: كيف يقال بأن الوجوب مستفاد من وضع اللغة؟
قلت: هو بعيد كما أشرنا إليه ولكنه هو مذهب مصرح به كما
عرفت وممن ذكره الشيخ أبو اسحاق والقاضي أبو بكر في مختصر
التقريب لإمام الحرمين وقال إن الأكثرين من القائلين بأن
الصيغة تقتضي الوجوب عليه وأنه كذلك بأصل الوضع لأنه قد
ثبت في إطلاق أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصيا
وتقريعه وتوبيخه بالعصيان عند مجرد ذكر الأمر ولا يستوجب
التوبيخ لا بترك واجب فاقتضى ذلك دلالة الأمر المطلق على
الوجوب وقال المازري:
ج / 2 ص -26-
صرح
بعض أصحابنا بأن الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه
الاقتضاء الجازم فقد ثبت هذا المذهب إلا أنه عندنا ساقط.
قال القاضي في مختصر التقريب: ولسنا نسلم أن في إطلاق
اللغة ما يقتضي ان مخالف الصيغة المطلقة المعراة عن
القرائن يسمى عاصيا ويستوجب التوبيخ ويقول لهم بم تنكرون
على من يزعم أنهم وإن وبخوا تارك الامتثال بسمة العصيان
فإنما وبخوه عند تركه امتثال أمر شاهد قرائن أحوال الأمر
به دالة على اقتضاء الوجوب فليس يمكنكم أن تزعموا أنهم
يوبخون بالعصيان في الأمر المجرد عن القرائن.
قال واسم الأمر يصدق على المجرد والمقترن فمن أين لكم أن
ما أطلقوه ينصرف إلى الصيغة المطلقة.
قال ثم نقول على وجه التنزل لسنا نسلم أن يثبت سمة العصيان
وصف ذم على الاطلاق إذ قد يرد ذلك في غير موضع استحقاق
الذم فإنك تقول أشرت على فلان بكذا فعصاني وعصى مشورتي وإن
لم يكن لمشورتك موجبا على من أشرت عليه المذهب.
السابع: أنها بين الثلاثة أعني الوجوب والندب والإباحة
واختلف القائلون به فقالت طائفة بالاشتراك اللفظي وقال
آخرون بالمعنوي وكلام المصنف محتمل للأمرين.
الثامن أنها مشتركة من الخمسة أعني الوجوب والندب والإباحة
والكراهة والتحريم وهو المشار إليه بقول المصنف وقيل بين
الخمسة ومراده الأحكام الخمسة فإن الإمام في المحصول هكذا
حكى هذه المذاهب المذكوره في الكتاب.
التاسع: أنه أمر مشترك بين الوجوب والندب والإباحة
والإرشاد والتهديد حكاه الغزالي.
العاشر: أن أمر الله تعالى للوجوب وأمر النبي صلى الله
عليه وسلم للندب إلا ما كان موافقا لنص أو مبينا لمجمل
حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن شيخه
ج / 2 ص -27-
أبى
بكر الأبهري وكذلك حكاه عنه المازري في شرح البرهان وقال
إن النقل اختلف عنه فروي عنه هذا وروي عنه موافقة من قال
إنه للندب على الإطلاق هذا ما حضرنا من المذاهب في هذه
المسألة.
وقد ادعى الإمام إذ حكى الاتفاق على أن صيغة افعل ليست
حقيقة في جميع المحامل المتقدمة أن الخلاف إنما وقع في
أمور خمسة الوجوب والندب والإباحة والتنزيه والتحريم وأنت
إذا تأملت ما حكيناه من المذاهب علمت أن حصر الخلاف في ذلك
ليس بجيد.
ج / 2 ص -28-
أدلة القائلين بأن صيغة "افعل" حقيقة في الوجوب
قال: لنا
وجوه: الأول قوله تعالى:
{مَا
مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}
ذم على ترك المأمور فيكون واجبا.
استدل على ما ذهب إليه من أن صيغة أفعل حقيقة في الوجوب
لوجوه خمسة:
الأول: قوله تعالى لإبليس:{مَا
مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1 ووجه الحجة منه أن الصيغة وإن كانت صيغة استفهام لكن الاستفهام
غير مراد منها لاستحالته على من يستحيل عليه الجهل بل
المراد منها الذم والتوبيخ وأنه لا عذر له في الإخلال
بالسجود بعد ورود الأمر به ولو لم يكن الأمر للوجوب لما
حسن الذم والتوبيخ ورد الآمدي هذا الدليل بأنه لا يلزم من
كون هذا الأمر اقتضى الوجوب أن يكون كل أمر كذلك والجواب:
أنه لا قائل بالفصل.
واعلم أن الشيخ أبا إسحاق في شرح اللمع أورد من جهة
المعتزلة أن ما ذكرتموه من الآيات يدل على أوامر الله
ورسوله يدلان على الوجوب ونحن لا ننازع في ذلك إنما ننازع
في مقتضى اللفظ لغة وأجاب بأنهم متى سلموا ذلك حصل المقصود
إذ المطلوب معرفة مقتضى أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله
عليه وسلم وغرضنا من ايراد هذا السؤال أنه قد يؤخذ منه أن
المعتزلة أو ان الشيخ أبا إسحاق اعتقد انهم لا يخالفون في
أن أوامر الله وأوامر رسوله عليه السلام يقتضي الوجوب وذلك
عجيب فإن النقل عنه بخلاف ذلك.
قال: الثاني:
{ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ}
قيل: ذم على التكذيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية 12.
ج / 2 ص -29-
قلنا:
الظاهر أنه للترك والويل للتكذيب. قيل: لعل قرينة أوجبت.
قلنا: رتب الذم على ترك مجرد افعل.
الدليل الثاني قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ}1 ووجه التمسك انه تعالى ذم أقواما على ترك ما قيل لهم فيه افعلوا إذ
الآية بسياقها تدل على الذم فلو لم تكن الصيغة للوجوب لما
حسن ذلك وانما قلنا إن سياق الآية يدل على الذم لأنه ليس
المراد من قوله لا يركعون الإعلام والإخبار لأن ترك الركوع
من المكذبين معلوم لكل أحد فيكون ذما لهم واعترض عليه
بوجهين.
أحدهما: أنا لا نسلم أن الذم على ترك مقتضى الأمر بل على
تكذيب الرسل ويؤيده قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أجاب عنه بأن الظاهر أن الذم على ترك مقتضى الأمر ان رتب الذم على
الترك والترتيب يشعر بالغلبة والويل على التكذيب فحينئذ
إما ان يكون المكذبون هم التاركين فلهم الويل بسبب التكذيب
ولهم العقاب بترك المأمور به إذ الكفار مأمورون بالفروع
وإما ان يكونوا غيرهم فيجوز ان يستحق قوم الويل بسبب
التكذيب وآخرون العقاب بسبب ترك المأمور به.
هذا تقرير الجواب واعترض النقشواني على الاستدلال بالآية
من وجه آخر فقال لا نسلم انه ذمهم على ترك الركوع فقط بل
ذمهم على كونهم بحيث لو قيل لهم اركعوا لا يركعون والمراد
به انهم غير قابلين للإنذار ونصح الأنبياء وغير ملتفتين
إلى دعوتهم قد انطوت جبلتهم على ما يمنعهم من ذلك والرجل
قد يتصف بهذه السجية قبل ان يقال له اركع فلا يركع ونحن
معترفون بأن هذه الملكة مما يوجب العذاب.
هذا اعتراضه وهو ضعيف وجوابه ما ذكرناه من ان الظاهر ان
الذم على ترك مدلول قوله:
{ارْكَعُوا}
وما ذكره خروج عن حقيقة اللفظ من غير دليل.
والوجه الثاني: وهو يتجه على الدليلين المذكورين هذا الذي
نحن فيه والذي تقدم وتوجيهه سلمنا ان الذم على الترك لكن
فعل الأمر اقترنت به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المرسلات آية 48.
ج / 2 ص -30-
قرينة
تقتضي إيجابه فان الصيغة إذا اقترنت بها قرينة صرفتها إلى
ما دلت عليه اجماعا أجاب عنه بأنه رتب الذم على مجرد ترك
المأمور به وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالغلبة فيكون نفس
الترك علة وما ادعيتم من القرينة الأصل عدمه.
فإن قلت: هذا الاحتمال وان كان على خلاف الأصل فهو قادح في
القطع والمسألة قطعية.
قلت: أما من قال ان المسألة ظنية كأبي الحسين البصري وغيره
فيجب بمنع كونها قطعية واما من قال بأنها قطعية فيجب بأن
كل واحد مما يذكر من الأدلة وإن كان لا يفيد القطع لكن
المجموع يفيده.
قال: الثالث: تارك المأمور به مخالف له كما أن الآتي به
موافق على صدد العذاب لقوله:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل
الموافقة اعتقاد حقيقة الأمر والمخالفة اعتقاد فساده.
قلنا: ذلك دليل الأمر لأنه قبل الفاعل ضمير والذين مفعول.
قلنا: الإضمار خلاف الأصل ومع هذا فلا بد من مرجع قيل
الذين يتسللون.
قلنا: هم المخالفون فكيف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم وإن سلم
فيضيع قوله:
{أَنْ تُصِيبَهُمْ}.
قيل: فليحذر لا يوجب.
قلنا: يحسن وهو دليل قيام المقتضى.
قيل: عن أمره لا يعم.
قلنا: عام لجواز الاستثناء.
الدليل الثالث: أن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر
ومخالف ذلك الأمر على صدد العذاب فبارك المأمور به على صدد
العذاب إنما قلنا تارك المأمور به مخالف للأمر لأن موافقة
الأمر هي الإيمان بمقتضى الأمر والمخالفة ضد
ج / 2 ص -31-
الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه
فثبت أن تارك المأمور به مخالف وإنما قلنا مخالف الأمر على
صدد العذاب لقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}1 أمر مخالف الأمر بالحذر عن العذاب والحذر عنه إنما يكون بعد قيام
المقتضى لوقوعه بدليل أنه يصح الأمر بالحذر عن الشيء بدون
وجود المقتضى له ألا ترى أنه يقبح أن يقال لمن جلس تحت سقف
قوي غير مائل إحذر أن يقع عليك ولا يقبح أن يقال ذلك لمن
جلس تحت سقف مائل في معرض الوقوع وما ذلك إلا لأن المقتضي
للوقوع قائم فيه فلولم يكن ترك المأمور به مقتضيا لوقوع
العذاب لما حسن الأمر بالحذر عن العقاب ولا معنى لقولنا:
إن الأمر يقتضي الوجوب إلا ذلك.
وفي هذا التقدير نظر سيأتي إن شاء الله تعالى.
واعترض الخصم بأربعة اوجه:
أحدها: منع المقدمة الأولى أي لا نسلم ان موافقة الأمر
عبارة عن الإتيان بمقتضاه وإنما هي اعتقاد حقيقته كونه حقا
مستوجب القبول فالمخالفة هي إنكار حقيقته يعني اعتقاد أنه
فاسد.
قلنا: هذا ليس موافقة للأمر بل موافقة للدليل الدال على
حقيقة ذلك الأمر وهو المعجزة الدالة على صدق الرسول
فاعتقاد حقية الأمر موافقة الدليل لا موافقة الأمر فإن
موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه فإذا دل
الدليل على حقية الأمر كان الاعتراف بحقيته مستلزما لتقرير
مقتضى ذلك الدليل والأمر لما اقتضى دخول فعل المأمور به في
الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر دخوله وإدخاله في
الوجود يقرر دخوله فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل
مقتضاه.
وثانيها: منع المقدمة الثانية وتقريره لا نسلم أنه تعالى
أمر المخالف بالحذر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية 63.
ج / 2 ص -32-
بل أمر
بالحذر عن المخالف فيكون فاعل فليحذر ضميرا والذين في محل
النصب بأنه مفعوله أجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن الإضمار خلاف الأصل.
والثاني: أن الضمير لا بد له من اسم ظاهر
يعود إليه وهو مفقود هنا قال الخصم لما لا يعود على الذين
يتسللون والتقدير فليحذر الذين يتسللون منكم لواذا عن
الذين يخالفون عن أمره.
أجاب المصنف عنه بوجهين:
أحدهما: أن الذين يتسللون هم المخالفون
وذلك أن المخالفين لما ثقل عليهم المقام في المسجد وسماع
الخطبة لاذوا بمن يستأذن للخروج حتى إذا أذن له خرجوا معه
من غير إذن فنزل قوله:
{قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ
لِوَاذاً} وإذا كان كذلك فلو أمر المتسللون بالحذر عن المخالفين لكانوا قد
أمروا بالحذر عن أنفسهم وذلك غير ممكن.
الثاني: انا ولو سلمنا ان مرجع الضمير
الذين يتسللون كما ادعوه لكان أمرا للمتسللين بالحذر عن
المخالفين ويصير تقدير الآية حينئذ فليحذر الذين يتسلون
منكم لواذا الذين يخالفون عن أمره فيضيع إذ ذاك قوله:
{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} لأن فاعل
{فَلْيَحْذَرِ} حينئذ الضمير والذين مفعوله والحذر لا يتعدى إلى مفعولين حتى يكون
ان تصيبهم مفعولا له ثانيا له فيصير حينئذ ضائعا لا تعلق
له بما قبله ولا بما بعده.
فإن قلت: لم لا يكون لأجله إذا الحذر لأجل إصابة الفتنة أو
العذاب الأليم؟
قلت: لو كان كذلك لكان مجامعا للحذر لأن الفعل يجب ان
يجامع علته واجتماعهما محال كذا أجاب به الشيرازي شارح
الكتاب وقد قال الجاريردي الشارح أيضا يمكن ان يجاب عن
قولهم:
أولا: ان الفاعل ضمير يعود على المتسللين
بأنه لو كان كذلك لوجب اظهاره فيقال فليحذروا لأنه عائد
على جمع.
ج / 2 ص -33-
وثالثها: وهو اعتراض على المقدمة الثانية أيضا وتقريره سلمنا أن قوله فليحذر
أمر المخالفين بالحذر وأنه لا ضمير في الآية لكن لم قلتم
انه يوجب الحذر وهل غاية ذلك الا ورود الأمر به واقتضاء
الأمر الوجوب هو محل النزاع والاستدلال بما ذكرتموه مصادرة
على المطلوب.
أجاب: انا لا ندعي وجوب الحذر من قوله فليحذر وإنما ندعي
أنه يفيد حسن الحذر عن مخالفة الأمر وحسن الحذر دليل على
قيام المقتضى للوقوع في المحذور وإلا لكان الحذر عبثا
ولقائل أن نقول قد يحسن الحذر مع التردد في قيام المقتضى
لمجرد ذلك التردد عملا بالأحوط كالدائر بين أمرين يتردد في
قيام اقتضاء أحدهما وقوع الضرر ولا يتوقع ضررا من الآخر
فانه يحسن أن يحذر من الأول والأمر ستردد بين الوجوب وعدمه
فيحسن التحذير منه ولو لمجرد التنازع في مقتضاه.
ورابعها: أنا سلمنا صحة ما ذكرتم من
المقدمتين إلا أن قوله تعالى:
{عَنْ أَمْرِهِ}
في الآية المذكورة لفظ مجرد فيفيد أن أمرا واحدا للوجوب لا
إن كل أمر للوجوب أجاب بأنه عام لجواز الاستثناء إذ يصح أن
يقال ليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا في الأمر الفلاني
ومعيار العموم جواز الاستثناء كما ستعرفه إن شاء الله
تعالى هذا شرح ما في الكتاب.
وقد اعترض النقشواني على الاحتجاج بالآية فقال الأمر هنا
بمعنى الشأن وهو الاجتماع على محاربة الكفار لأنه مذكور
معرف بالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر قبل
هذا منكرا في قوله تعالى:
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}
وذلك الأمر هو الشأن وهو الاجتماع على المحاربة وهو الذي
دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكان بعضهم يتسلل
لواذا فأراد بالمخالفة ههنا الانحراف وهو التسلل لواذا في
المعنى وإذا كان ذلك محمولا على الانحراف استقام دخول عن
فيه فيقال انحراف عن كذا ولا يقال ترك عن كذا فإذا كان
الأمر محمولا على الشأن والمخالفة على الانحراف لم يبق في
الآية احتجاج على المقصود والإنصاف يوجب حمل الأمر
والمخالفة على ما ذكرنا اتساقا للكلام ورعاية على أصول
العربية.
ج / 2 ص -34-
قال:
الرابع: تارك المأمور به عاص لقوله تعالى:
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}-
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} والعاصي يستحق النار لقوله تعالى:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}
قيل: لو كان العصيان ترك الأمر لتكرر قوله:
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
قلنا: الأول: ماض أو حال.
والثاني: مستقبل قيل: المراد الكفار بقرينة الخلود.
قلنا الخلود: المكث الطويل.
الدليل الرابع: تارك المأمور به عاص وكل عاص يستحق العقاب
فتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
بيان الأول: بقوله تعالى:
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}1
وقوله:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}2 وكذا قوله:
{وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً}3
وما قدمناه من شعر العرب.
وبيان الثاني بقوله تعالى:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}4 ومن
من صيغ العموم.
واعلم ان المصنف جعل الكبرى مهملة ان قال والعاصي يستحق
النار فلم يسورها بكل وشرطها ان تكون كلية فالصواب في
مصطلح القوم ان يقول وكل عاص كما أوردناه وبه عبر الإمام
واعترض الخصم بوجهين:
أحدهما: أنا لا نعلم الصغرى وهي ان تارك المأمور به عاص
وبيانه قوله تعالى:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور به لكان قوله:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} معناه انهم يفعلون ما يؤمرون وكان قوله ويفعلون ما يؤمرون تكريرا
أجاب عنه بان التكرار إنما يلزم ان لو كان لا يعصون الله
ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون بالنسبة إلى زمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية 94.
2 سورة الطلاق آية 6.
3 سورة الكهف آية 96.
4 سورة الجن آية 23.
ج / 2 ص -35-
واحد
وليس كذلك بل لا يعصون للزمان الماضي والحال لقرينة قوله
ما أمرهم ويفعلون للمستقبل لقرينة قوله ما يؤمرون فتقدير
الآية لا يعصون الله ما أمرهم في الماضي والحال ويفعلون ما
يأمرهم به في المستقبل هذا تقرير الاعتراض وجوابه وهنا
مناقشتان:
إحداهما: في قوله: لو كان العصيان ترك الأمر وذلك لان
النزاع إنما هو في ان تارك الأمر عاص أم لا لا في ان
العصيان هل هو ترك الأمر أم لا وكيف يقال ذلك والعصيان قد
يقع بترك الفعل الذي يجب اتباعه فكان الصواب ان يقول قيل
لو كان تارك الأمر عاصيا.
والثانية: قوله معنى الآية لا يعصون الله ما أمرهم في
الماضي قال القرا في بعيد من جهة ان النحاة نصوا على ان لا
لنفي المستقبل واستعمالهما بمعنى لم قليل مجاز فيجتمع
المجاز في الفعل المضارع وفي لا ايضا فكان الأحسن في
الجواب ان يقال لا نسلم التكرار بل قال بعض العلماء: ان
قوله تعالى:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}
إخبار عن الواقع منهم أي عدم المعصية دائما وقوله تعالى:
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} إخبار عن سجياتهم التي طبعوا عليها يعني ان سجيتهم الطاعة فيكون
أحدهما خبرا عن الواقع مهم والآخر خبر عن السجية التي
فطروا عليها فلا تكرار والفعل المضارع قد كثر استعماله في
الحالة المستمرة كقولهم زيد يعطي ويمنع ويصل ويقطع وقول
خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم انك لتصل
الرحم وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر أي ذلك شانك في كل
وقت وهو مجاز واحد في المضارع مشهور فيكون أولى من مجازين
في الفعل والحرف وأحدهما قليل جدا.
الوجه الثاني: انا لا نسلم كلية المقدمة الثانية ونقول ليس
المراد بقوله:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} كل عاص بل للكفار فقط ويدل على ذلك قوله:
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} فان غير الكافر لا يخلد في النار أجاب عنه بأن الخلود في اللغة
المكث الطويل الصادق على الدائم وغيره وليس هو الدائم فقط
بل هو حقيقة في القدر المشترك حذرا من الاشتراك والمجاز.
ج / 2 ص -36-
فان
قلت فما تفعل في قوله أبدا.
قلت: لا ينافي إذ قد يطلق ويراد به المدة الطويلة كما في
قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} والكفار يتمنون الموت في جهنم الا ترى إلى قولهم فيها يا مالك ليقض
علينا ربك ولقائل ان يقول أما تقسيم الخلود بالمكث الطويل
بخلاف الغالب من استعمال الشرع وعلى اللفظ على الغالب أولا
لا سيما وقد أردفه بقوله أبدا وقولكم أن أبدا قد يستعمل في
الزمن الطويل قلنا صحيح ولكن قرينة اجتماعها مع الخلود
ينفي ذلك هنا وإلا فكأنه قال قاطنين فيها مكثا طويلا زمنا
طويلا فيكون قد قرر اللفظ لمجرد التأكيد الذي هو غير محتاج
إليه هنا.
فإن قلت التأكيد لا بد منه على التقديرين لأنه إن أراد
بالخلود الدائم كما ذكرتم فما أتى بقوله أبدا إلا للتأكيد.
قلت: التأكيد على تقدير إرادة الدائم مناسب مناسبة شديدة
لأن المحكوم به أولا أعنى المكث الدائم شيء عظيم يليق
بخطبة التأكيد فكان التأكيد دليلا على ما قلناه من أن
المراد بالخلود الدائم للاحتجاج إلى التأكيد والحالة هذه
ويدل ذلك أيضا من الآية قوله: {فَإِنَّ
لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ولم يقل فإنه يدخل نار جهنم بل أتى بلام الاختصاص والملك بالموضوع
للدوام والبقاء وصدر الجزاء بأن المؤكدة للجزاء حيث قال
فان له ولم يقل فله ثم أكد ثانيا عند ختام ذكر الجزاء
بقوله أبدا ولم يبق علينا إلا أن الدائم لا يستحقه غير
الكافر والآية في المعاصي وهو أعم ألا أن يكون هذا العام
قد أريد به الخاص وأما النقشواني فقال ليس العصيان عبارة
عن ترك الأمر فقط بل عن ذلك مع زعم بطلان مقتضاه وهو ترجيح
جانب العقب على الترك أو عدم الإيمان بمقتضاه وهو معنى
قوله تعالى في الملائكة:
{لا
يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} أي
يجزمون بمقتضاه ويمتثلون ويمتنع منهم عدم الإتيان بمقتضاه
قال وكذلك في قوله تعالى:
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} معناه ما ذكرنا لأن موسى عليه السلام يقول أزعمت أن ما أشرت به
عليك وأمرتك به باطل غير سديد حتى تركته وأراد أن يعاقبه
فكان جواب
ج / 2 ص -37-
هارون
عليه السلام بان تركي لم يكن بناء على زعم البطلان بل بناء
على مصلحة أخرى ثم ان موسى عليه السلام لما سمع ذلك قبل
معذرته وعلم انه ليس بعاص ما أمره مع انه كان تاركا لما
أمره قال ولو كان العصيان باقيا لكان سبب العقارب باقيا
ولما كان يمتنع عن عقابه بالقدر الذي ذكره قال وبهذا استحق
العاصي الخلود في النار بهذه الآية وكان ضالا ضلالا مبينا
بدليل قوله:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
مُبِيناً} وترك المأمور به مع زعم بصحة مقتضاه لا يوجب ذلك هذا كلامه وهو
مدخول أما قوله العصيان ترك الأمر مع زعم بطلان مقتضاه
قلنا هذا خلاف الشائع الذائع في اللغة العربية ويلزم على
هذا ان لا يطلق على من خالف أوامر الله ورسوله انه عاص ما
لم ينضم إلى ذلك هذا القيد وهو واضح البطلان واما قوله:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ} فليس معناه الا انهم يمتثلون أوامره واما قضية هارون عليه السلام
فهو لم يعص أخاه موسى عليه السلام وانما موسى استفهمه لما
رآه لم يفعل ما أشار به كان يقول ما كان يمنعك من ذلك هل
عصيت أمري فقال هارون لا ولكن المانع اني خشيت ان تقول
فرقت بين بني إسرائيل فقبل موسى عليه السلام عذره وعلم أنه
لم يعصه لا باعتقاده بطلان مقتضى أمره ولا بالمخالفة لأن
أمره لم يكن مطلقا بل مقيدا بعدم المانع وإن لم يكن
التقييد موجودا في اللفظ كما تقول لوكيلك اشتري اللحم ثم
تقول ما منعك من شرائه هل عصيت أمري فيقول لك لا بل كان
السوق غير قائم أو اللحم غير موجود والله اعلم.
قال: الخامس: أنه عليه السلام احتج لذم أبي سعيد الخدري
على ترك استجابته وهو يصلي بقوله تعالى:
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}.
الدليل الخامس: ما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه
وسلم دعا أبا سعيد وهو في الصلاة فلم يجبه فقال:
"ما منعك ان تجيب وقد سمعت الله يقول"
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} وهذا الاستفهام ليس على حقيقة لأنه عليه السلام كان يعلم أنه في
الصلاة فدل على أنه لمجرد الذم والتوبيخ ولولا اقتضاء
الامر للوجوب لما كان ذلك وقد وقع في الكتاب ان أبي سعيد
ج / 2 ص -38-
هذا هو
الخدري وكذا وقع في المحصول وغيره من كتب الأصول ظنا من
مصنفها أنه لا أبو سعيد في الصحابة إلا الخدري وهذا الظن
نشأ لهم من شهرة الخدري وعدم ظروف ذكر غيره على أسماعهم
وأبو سعيد هذا إنما هو أبن المعلي وليس هو بخدري1 والقرافي
رحمه الله نبه على ذلك ومن كتبه إستفدناه وهو صحيح وقد
سألت شيخنا الحافظ الذهبي رحمه الله هل روى هذا الحديث من
طريق الخدري في شيء من الكتب والأجزاء فقال لا ووقع الحديث
في بعض الكتب منسوبا إلى أبي بن كعب وليس بجيد ايضا وقد
نجزت الدلائل الخمس وهي إنما تفيد ثبوتها أن الأوامر
الصادرة من الشارع للوجوب لأنها حقيقة الوجوب بأصل الوضع
كما هو المدعي فلا بد من إقامة الدليل على أنها في اللغة
كذلك لكن لما كان الغرض المهم معرفة مدلولان أوامر الشارع
خص الاستدلال بها وقد قدمنا أن المختار عندنا ما ذهب إليه
امام الحرمين وليس الشرح موضع تقريره والذب عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخدري هو: سعد بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي صحابي
جليل كان من الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم – وشهد
معه كثيرا من الغزوات.توفي سنة 74هـ بالمدينة المنورة
خلاصة تهذيب الكمال 1/371.
أما أبو سعيد بن المعلى: فهو: رافع بن المعلى بن لوذان بن
حبيب بن عدي الأنصاري. مات سنة 73هـ
خلاصة تهذيب الكمال 3/99.
وهذا الحديث رواه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى في تفسير
سورة الفاتحة والأنفال. فتح الباري 9/244- 377 كما رواه
الإمام أحمد في مسنده 2/412 -413.والترمذي في فضائل القرآن
والطبري في تفسير سورة الأنفال 11/466.
ج / 2 ص -39-
أدلة القائلين بالندب
قال: احتج المخالف بأن الفارق بين السؤال والندب هو الرتبة
والسؤال للندب فكذا الأمر.
قلنا: السؤال وان لم يتحقق.
ذكر المصنف لبعض المخالفين دلائل.
أولها لأبى هاشم القائل بأن الأمر للندب لا جرم إن في بعض
النسخ احتج أبو هشام لكن ذلك غير مستقيم لان الثالث
والثاني عن أحد التقريرين كما سيأتي ان شاء الله تعالى لا
تعلق لها لأبي هاشم وتقرير ما احتج به أبو هاشم أنه لا فرق
بين السؤال والأمر إلا الرتبة فإن رتبة الأمر أعلى من رتبة
السائل والسؤال للندب فكذلك الأمر لأن الأمر لو دل على شيء
غير الندب من إيجاب أو غيره لكان بينهما فرق آخر وهو خلاف
ما نقوله.
هذا تقرير الاحتجاج يعبر بعض الشارحين بأن الأمر لو دل على
الإيجاب وهي عبارة صحيحة في الرد على القائلين بالوجوب إلا
أن أبا هاشم لم يأت بهذا الوجه لإبطال مذهب الوجوب بل
لتقرير مذهبه فكان الأحسن أن يقال بأن الأمر لو دل على شيء
غير الندب كما أوردناه ولا يخص الوجوب بالذكر.
وأجاب المصنف: أن السؤال من حيث الوضع يدل على الإيجاب
أيضا لأن صيغة أفعل عند القائل لأنها للإيجاب موضوعة لوجوب
الفعل مع المنع من الترك وقد استعملها السائل لكان لا يلزم
من السؤال الوجوب أن الوجوب حكم شرعي يستدعي إيجاب الشبع
ولذا لا يلزم المسؤول القبول.
فان قلت: إذا دل السؤال على الإيجاب لزم افتراقهما من وجه
آخر إذ إيجاب الأمر يدل على الوجوب بخلاف إيجاب السؤال.
ج / 2 ص -40-
قلت:
إيجاب الأمر أيضا غير مستلزم للوجوب لجواز أن يوجد بدون
الوجوب كما إذا أمر السيد عبده بما لا يقدر عليه حسا
وشرعا.
وقد أجاب الأسفرايني أحد شراح هذا الكتاب عن السؤال بأن
المعنى تكون الفارق بينهما الرتبة هو كون إيجاب الأمر
يقتضي الوجوب بخلاف السؤال وهذا فيه نظر إذ هما مدلولان
متغايران على ان هذه المباحث كلها إنما هي على تقدير ثبوت
اعتبار الرتبة حتى يكون فارقه لكنها عند المصنف غير معتبرة
أن العلو والاستعلال لا يعتبران كما تقدم فلدي أجاب به
المصنف على تسليم ثبوت الفرق نعم الفرق بين السؤال والأمر
عنده فرق ما بين العام والخاص فإن السؤال أمر صادر يتذلن
والأمر أعم.
وأما قول بعض الشارحين قد يترتب الوجوب على السؤال كسؤال
المضطر وقد لا يترتب وقد يترتب على الأمر وهو ما إذا كان
صادرا ممن هو له وكان مقدورا للمكلف وقد لا يترتب وفي
تمثيله لترتيب الوجوب على السؤال بحالة الاضطرار نظر لان
وجوب إطعام المضطر ليس لسؤاله بل لكونه مضطرا حتى لو لم
يسأل وعرف انه مضطر وجب إطعامه من غير سؤال.
ج / 2 ص -41-
أدلة القائلين بأنها للقدر المشترك
قال: بأن الصيغة لما استعملت فيهما والاشتراك والمجاز خلاف
الأصل فيكون حقيقة في القدر المشترك.
قلنا: يجب المصير إلى المجاز لما بيننا من الدليل.
احتج من ذهب إلى أن الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين
الوجوب والندب بأنها وردت للوجوب تارة وللندب أخرى فوجب ان
تكون حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو رجحان الفعل عن
الترك وإلا فان كان حقيقة فيها لزم الاشتراك أو في أحدهما
لزم المجاز فيهما على خلاف الأصل ويمكن ان يقرر هذا الدليل
على وجه آخر يصير به دليلا لأبي هاشم على أنه حقيقة في
الندب وذلك بان تزيد على ما ذكرنا أن هذه الصيغة دالة على
أصل الرجحان وجواز الترك ثابت بمقتضى البراءة الأصلية التي
لم يوجد ما يزيلها في رجحان وجود العقل مع جواز الترك ثابت
حينئذ ولا نعني بالندب إلا ذلك.
والجواب إنا قد بينا أن الامر حقيقة في الوجوب كما سبق
فالمصير إلى كونه مجازا في الندب وغيره من الوارد واجب
لئلا يلزم الاشتراك والمجاز أولى به.
واعلم أن التقرير الأول هو الأقرب إلى كلام صاحب الكتاب
والثاني هو ما أورده الإمام وفيه نظر لأن كوننا لا نحكم
عليه بالوجوب للبراءة الأصلية غير جعلنا إياه حقيقة في
الندب وحكمنا عليه بعد الوجوب لا يقتضي أنه حقيقة في
الندب.
ج / 2 ص -42-
أدلة القائلين بالتوقف
قال: بأن
تعرف مفهوما لا يكون بالعقل ولا بالنقل لأنه لم يتواتر
والآحاد لا تفيد القطع قلنا المسألة وسيلة إلى العمل فيكفي
فيها الظن وأيضا يتعرف بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كما
سبق.
احتج من ذهب إلي الوقف بأنه لو ثبت في إحداهما لثبت بدليل
الامتناع إثبات اللغة بالتشهي وذلك الدليل إما عقلي أو
نقلي والأول لا يمكن إذ لا محال للعقل في اللغة والثاني
إما متواتر وهو منتف وإلا لكان ضروريا حاملا لكل أحد من
هذه الطوائف وكان النزاع يرتفع من بينهم واما الآحاد وهي
لا تفيد القطع إنما تفيد الظن وهو في المسائل العلمية غير
كان والمسألة علمية إذ هي من قواعد أصول الفقه ولم يجر
الشارع العمل بالظن في أصول الفقه كما نقله عن العلماء
قاطبة الابياري شارح البرهان حكاه عنه القرافي وانما ذلك
للاهتمام بالقواعد وإذا انتفت طرق المعرفة تعين أوقف وهذا
الذي نقله الأبياري رأيته في كلام القاضي في مختصر التقريب
والإرشاد في غير موضعين أجاب بوجهين.
أحدهما: ان هذه المسألة وسيلة إلى العمل
فيكفي فيها حصول الظن كما يكفي حصول الظن في مقاصدها في
العمليات وحاصل هذا الجواب منع كون المسألة علمية وقد
اختلف الأصوليون في أن هذه ظنية يقينية.
الثاني: أن هذا الحصر ممنوع وسند المنع أنه يجوز ان يعرف
بدليل مركب من العقلي والنقلي كما سبق في الدليل الرابع أن
تارك المأمور به عاص وكل يستحق النار ينتج العقل من هاتين
الثقليتين أن تارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى
للوجوب إلا ذلك وكما سبق أيضا في الدليل الثالث وهو تارك
المأمور
ج / 2 ص -43-
به
مخالف وكل مخالف معذب فتارك المأمور به معذب وكما سبق في
باب اللغات الجمع المحلي بالألف واللام يدخله الاستثناء
والاستثناء ما لولاه لدخل فيدل على أن الجمع المحلي للعموم
فقول المصنف كما سبق يحتمل عوده إلى كل واحد من هذه الثلاث
وقد أجيب عن هذا الدليل بجواب ثالث وهو التزام حصوله
بالتواتر ولا يلزم منه رفع الخلاف لأنه إنما يلزم ذلك أن
لو كان العقلي هنا ضروريا لكنه نظري فيحتمل أن يصل إلى
بعضهم بكثرة المطالعة في كلامهم وتواريخهم ولا يصل إلى
الآخر لعدم أو قلة اشتغاله بذلك وأجاب بعضهم بأن مات ذكره
المتوقف من الدليل لازم عليه وذلك لأن العقل لا يقتضى
الوقف والنقل القطعي غير متحقق والظني لا يفيد فما كان
جوابه فهو جوابنا لكن في هذا نظر إذ المتوقف لم يحكم بشيء
فلا دليل عليه واعلم أن المنع الثاني ذكره المصنف قدمه
الإمام على الأول وهو أولى على قاعدة أهل النظر مما فعله
المصنف فكان ينبغي أن يقول لا نسلم الحصر سلمنا نختار
معرفته بالآحاد والجدليون يعللون مثل ذلك بأن الثاني هنا
مثلا فيه تسليم للحصر فلا يحسن منعه بعد ذلك والله اعلم.
قال: الثالثة: الأمر بعد التحريم للموجوب
وقيل
للإباحة لنا أن الأمر يفيده ووروده بعد الحرمة لا يدفعه
قيل: إذا حللتم فاصطادوا قلنا: معارض بقوله:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ}.
هذه المسألة مفرعة على ثبوت أن صيغة افعل تقتضي الوجوب
فاختلف القائلون بذلك فيما إذا أوردت بعد الخطر هل هي
باقية على دلالتها أو ورودها بعد الخطر قرينة للإباحة أم
كيف الحال على أربعة مذاهب.
الأول: أنها على حالها في اقتضاء الوجوب وهو اختيار الإمام
وأتباعه منهم المصنف وبه قالت المعتزلة وصححه الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي في شرح اللمع والإمام أبو المظفر بن
السمعاني في القواطع ونقله ابن الصباغ في عدة العالم عن
اختيار القاضي أبي الطيب ونقله ابن برهان في الوجيز عن
القاضي لكن لم يقل لذلك مطلقا وإنما الذي قاله كما حكاه
عنه إمام الحرمين في البرهان لو كنت من القائلين بالصيغة
لقطعت بان الصيغة
ج / 2 ص -44-
المطلقة بعد الخطر مجراه على الوجوب وكذا قال في مختصر
التقريب الذي نختاره أن الأمر بعد سبق الخطر كالأمر من غير
سبقه وإن فرضنا الكلام في العبارة فهي بعد الحظر كهي من
غير خطر يسبق وقد فرط من أصلنا المصير إلى الوقف وها نحن
عليه في صوره التنازع كما ارتضيناه في صورة الاطلاق من غير
تقدم خطر انتهى.
والثاني: أنها تكون للإباحة ورجحه ابن
الحاجب ونقله ابن برهان في وجيزه عن أكثر الفقهاء
والمتكلمين واين التلمساني في شرح المعالم عن نص الشافعي
وكذا نقل عن نصه عبد العزيز بن عبد الجبار الكوفي كما نقله
الاصبهاني في شرح المحصول وقال القاضي في مختصر التقريب
أنه أظهر أجوبة الشافعي وحكاه الشيخ أبو حامد الاسفرايني
في باب الكتابة من تعليقته عن الشافعي وقال الشيخ أبو
اسحاق للشافعي كلام بدل عليه وقال ابن السمعاني عليه دل
ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن.
والثالث: اختاره الغزالي وهو إن كان الخطر
الشائق عارضا بعلة وعلق صيغة افعل بزواله مثل فإذا حللتم
فاصطادوا فعرف الاستعمال يدل على انه لرفع الذم فقط حتى
يرجع حكمه إلى ما قبله وان احتمل ان يكون رفع هذا الخطر
بندب أو إيجاب لكن هذا هو الأغلب كقوله عليه السلام:
"كنت نهيتكم عن
لحوم الأضاحي فادخروا" وأما إذا
لم يكن الخطر عارضا بعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها فيبقى
موجب الصيغة على اصل التردد بين الإيجاب والندب وتريد ههنا
احتمال الإباحة وتكون هذه قرينة تروح هذا الاحتمال وإن لم
تعينه وأما إذا لم ترد صيغة افعل ولكن قال إذا حللتم فأنتم
مأمورون بالاصطياد فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل
الإباحة قال وقوله أمرتكم بكذا يضاهي قوله افعل في جميع
المواضع إلا في هذه الصورة وما يقال بها وهذا المذهب أخذه
الغزالي مما حكاه إمامه البرهان وفي التلخيص عن بعضهم أنه
إن ورد الخطر مؤقتا وكان منتهاه صيغة في الاقتضاء فهي
للإباحة قال والغرض من مساق الكلام رد الخطر إلى غاية وهي
ج / 2 ص -45-
كقوله:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ثم زاد الغزالي ما ذكره وقد قال في التلخيص عن هذا المذهب أنه أسد
مذهب لهؤلاء.
والرابع: الوقف وهو مذهب امام الحرمين واختاره جماعة
واستدل المصنف على ما اختاره بأن الأمر يفيد الوجوب إذ
التفريع على القول بذلك ووروده بعد الحرمة غير صالح لأن
يكون معارضا فإنه كما لا يمتنع الانتقال من التحريم إلى
الإباحة لا يمتنع الانتقال منه إلى الوجوب لمنافاة كل واحد
منهما للتحريم فإذا جاز الانتقال إلى أحد المتنافين جاز
الانتقال إلى الآخر واحتج القائل بالإباحة بأنها وردت لذلك
مثل قوله تعالى: {وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}1
وقوله تعالى:
{فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا}2
وقوله تعالى:
{فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}3
وفي الحديث:
"كنت نهيتكم عن زيارة
القبور فزوروها"4
"كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا"5 وأجاب في الكتاب بأن هذه الأدلة معارضة بقوله تعالى:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ}6
فإنه يفيد الوجوب لأن الجهاد وأجب وكذلك قوله تعالى:
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}7 وحلق الرأس نسك وليس بمباح محض كذا ذكره الإمام وكذلك قوله عليه
السلام:
"فإذا أدبرت
الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي"8 وإذا
تعارضا من هذه الجهة بقي دليلنا على اصله ولمن يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 2.
2 سورة الجمعة آية 10.
3 سورة البقرة آية 222.
4 رواه الحاكم عن أنس وابن ماجة عن ابن مسعود الفتح الكبير
2/334.
5 رواه الترمذي من حديث بريدة بلفظ"
كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذوو الطول على
من لاطول له فكلوا مابدا لكم وأطعموا وادخروا".
6 سورة التوبة آية 5.
7 سورة البقرة آية 196.
8 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود من
حديث عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم – فقالت يارسول الله إني أستحاض فلا
أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم
"إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا
أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي"
المغني لابن قدامة 1/312.
ج / 2 ص -46-
بالإباحة أن يمنع استفادة الوجوب في هذه السور من الصيغة
الواردة بعد الخطر ويقول أن الوجوب مستفاد من خارج فان
قتال المشركين واجب وكذلك الصلاة بالنسبة إلى المرأة ثم
لما منع منه حصل الإحجام عنه فكان ورود الأمر مفيدا أن
نسبب الأحجام زائل وأن هذا الأمر صار مباحا ومتى صار مباحا
لزم ان يعود إلى ما كان عليه من الوجوب.
فائدة: قد عرفت الخلاف في الامر الوارد بعد الخطر هل يدل
على الوجوب أو الإباحة ويضاهيه مسائل منها الكتابة فهي
مستحبة وإن كانت واردة بعد خطر وعن صاحب التقريب حكاية قول
أنها تجب بطلب العبد.
ومنها: النظر إلى المخطوبة بعد العزم على نكاحها مستحب وفي
وجه هو مباح مجرد والأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم
للمغيرة بن شعبة:
"لا أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"1 أي يجعل بينكما المودة وارد بعد الخطر وهو تحريم النظر إلى
الأجنبيات عند خوف الفتنة.
ومنها: إذا قال لعبده اتجر صار مأذونا ويجب عليه امتثال
أمر سيده وهو أمر وارد بعد خطر وهو الحجر على العبد في
التصرف في مال سيده والله اعلم.
تنبيه: صرح الأمام هنا بأن حكم الأمر بعد الاستئذان حكمه
بعد التحريم حتى يقع فيه الخلاف في إفادة الوجوب ومثال ذلك
ان يستأذن على فعل شيء فيقول افعله وهذا حسن متجه ينفع في
الاستدلال على وجوب التشهد بقوله صلى الله عليه وسلم إذ
سألوه كيف نصلى عليك قال:
"قولوا" الحديث.
قال: واختلف القائلون: بالإباحة في النهي بعد الوجوب.
الذين قالوا: بان الأمر الوارد بعد الخطر يفيد الوجوب
جزموا القول: بأن النهي بعد الوجوب يفيد التحريم.
وأما الذين قالوا: هناك بأنه يفيد الإباحة فاختلفوا في
النهي الوارد بعد الوجوب فمنهم من طرد فيه الخلاف وحكم
بالإباحة ومنهم من قال لا تأثير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي وحسنه والحاكم صححه. نيل الأوطار 6/10.
ج / 2 ص -47-
ههنا
للوجوب المتقدم بل النهي يفيد التحريم وبه قال الأستاذ
وقال لا ينتهض الوجوب السابق قرينة في حمل النهي على رفع
الوجوب وادعى الوفاق في ذلك وفي التلخيص مختصر التقريب
والإرشاد للقاضي دعوى الوفاق كما ذكر الاستاد فانه قال في
أثناء الحجاج لو صح ما قلتموه للزم ان تقولوا إذا فرط
الإيجاب وسبق التحتم ثم تعقبته لفظا تقتضي تحريما بما لو
قدرت مطلقة أنها لا تحمل على التحريم وقد قلتم جميعا أنها
محمولة على التحريم انتهى ولكن الخلاف ثابت مصرح به وقال
أمام الحرمين أما أنا فسأجب ذيل الوقف عليه كما قدمته في
صيغة الأمر بعد الخطر وقد فرق القائلون بأن النهي بعد
الوجوب للتحريم مع قولهم: بأن الأمر بعد الخطر للإباحة
بوجوه.
أحدها: أن النهي لرفع المفاسد المتعلقة
بالمنهي والأمر لتحصيل المصالح المتعلقة بالمأمور واعتناء
الشارع بدفع المفاسد أشد من اعتنائه بجلب المصالح.
والثاني: أن النهي عن الشيء موافق للأصل
الذي هو عدم الفعل ولا كذلك الأمر لاقتضائه الفعل.
الثالث: أن القائل بالإباحة ثم إنما دعاه
إليها ورود الصيغة كثيرا في الآيات والأخبار بمعنى الإباحة
كما سبق بخلاف النهي بعد الوجوب.
والرابع: أن دلالة النهي على التحريم أقوى
من دلالة الأمر على الوجوب لأنه إذا اجتمع الحلال والحرام
غلب الحرام والله اعلم.
فائدة: تقدم ما ذكره الإمام في الامر عقيب الاستئذان واما
النهي عقيب الاستئذان مثل قوله صلى الله عليه وسلم لسعد
وقد قال له: أوصي بمالي كله قال: "لا" ومثل أيسلم بعضنا
على بعض نعم أيصافح بعضنا البعض قال: "نعم" أينحني بعضنا
لبعض؟ قال: "لا" ووقع في الستة كثير من ذلك فهذا الاستفهام
الأصل فيه انه استفهام عن الخير كأنه يقول أيقع هذا أو لا
وجوابه في الأصل خبر أيضا يقول يقع أو لا كقولك يقوم زيد
فيجيب نعم أو لا ثم قد تأتي قرينة تدل على أن المراد بذلك
الإستفهام عن الحكم الشرعي كما في هذين الحديثين وأشباههما
فان القرينة تدل على ان المراد الاستفهام على الحكم الشرعي
أما الوجوب أو
ج / 2 ص -48-
الجواز
أو الاستحباب وقد يكون استرشادا أيضا فيكون الجواب بلا أو
نعم وارد على ما فهم من السؤال والظاهر في الحديث.
الثاني: أن المراد الإستفهام عن الجواز ولذلك كان الانحناء
حراما وقوله نعم: في السلام و المصافحه فيه جواز ذلك خاصة
واستحبابه من دليل آخر ولا نقدره أمرا بل خبرا وكذا في
حديث سعد الظاهر فيه أنه استفهام عن الجواز ولذلك في الثلث
قال الثلث والثلث كثير فإن نعم مقدرة فيه ولا نقدره أمرا
لأنه ليس مستحبا لقوله إنه كثير وليس بنا ضرورة إلى تقديره
أمرا وصرفه عن ظاهره فهذا هو القاعدة في ذلك قررها والدي
رحمه وينبني عليها مباحث في مواضع كثيرة فافهمها.
قال: الرابعة: الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولا
يدفعه وقيل للتكرار وقيل للمرة وقيل بالتوقف للاشتراك أو
للجهل بالحقيقة.
الأمر: إما
أن يرد مقيدا وهو نوعان:
أحدهما: أن يرد مقيدا بالمرة أو بالتكرار فيحمل عليه قطعا.
والثاني: ان يرد مقيدا بصفة أو شرط وسيأتي الكلام عليه إن
شاء الله وأما إن يرد مطلقا عاريا من القيود وهو مسألة
الكتاب وفيه مذاهب.
أحدهما: أنه لا يدل بذاته لا على التكرار ولا على المرة
وانما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة نعم
لا يمكن إدخال الماهية في الوجود بأقل من مرة فصارت المرة
من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا أن الأمر يدل عليها
بذاته واختاره الإمام واتباعه منهم المصنف والآمدي وابن
الحاجب ونص على اختيار القول به القاضي في التلخيص لإمام
الحرمين.
وقد عبر المصنف عن المرة بقوله ولا يدفعه فانه إذا لم يدفع
التكرار لا يكون للمرة فإنه لو كان للمرة يدفع التكرار إذ
هما متقاربان.
والثاني: أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمر ونقل
الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع عن شيخه أبي حاتم القزويني
وعن القاضي أبي بكر
ج / 2 ص -49-
وهو
مذهب الأستاذ وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وذكر الاصفهاني
ان العالمي نقله عن اكثر أصحاب الشافعي لكن شرط هذا القول
الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان
كما صرح به اكثر الاصوليين منهم الشيخ أبو اسحاق وإمام
الحرمين وابن الصباغ في عدة العالم والآمدي وغيرهم.
قال صفي الدين الهندي ثم لا يخفي عليك أنه ليس المراد من
التكرار هنا معناه الحقيقي وهو إعادة الفعل الأول فان ذلك
غير ممكن من المكلف وإنما المراد مثله ولك أن تقول ما تريد
بقولك ليس المراد إعادة ذلك الفعل الأول أتريد الماهية مع
قيد التشخيص في الأول أم الماهية وحدها الأول مسلم والثاني
ممنوع لان الماهية الموجودة في الأول موجودة في الثاني
بعينها.
والثالث: انه يدل على المرة ولا يحتمل
التكرار وإنما يحمل عليه بدليل ونقله الشيخ أبو اسحاق عن
اكثر أصحابنا وأبي حنيفة واكثر الفقهاء وعن اختيار شيخه
القاضي أبي الطيب والشيخ أبى حامد ونقل بعض الشارحين تبعا
للأصفهاني في شرح المحصول عن الآمدي أنه قال وإليه ميل
إمام الحرمين والواقفية ثم خطا هذا الشارح والآمدي بأن
إمام الحرمين إنما يرى الوقف ولا يقضي في الزيادة بنفي ولا
إثبات.
واعلم أن الآمدي لم ينقل في الأحكام عن إمام الحرمين إلا
الوقف كما هو الواقع وهذه عبارة الآمدي ومنهم من نفى
احتمال التكرار وهو اختيار أبى الحسين البصري وكثير من
الاصوليين ومنهم من توقف في الزيادة ولم يقض فيها نفي ولا
إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والوقفية انتهى والظاهر أن
نسخة الاصفهاني وكذلك هذا الشارع من الأحكام سقيمة منها من
قوله ومنهم إلى قوله وإليه وهذه النسخة التي عندي صحيحة
مقروءة على الآمدي وعليها خطه.
واعلم أن صفي الدين الهندي نقل عن أبي الحسين وكثير من
الاصوليين المذهب المختار وهو خلاف ما نقله عنه الآمدي كما
رأيت والذي رأيته في
ج / 2 ص -50-
المعتمد يقتضي موافقة ما نقله الهندي أو يصرح بل لم يحك
هذا القول الذي نقله عن الآمدي بالأصالة.
والرابع: التوقف قالوا وهو محتمل لشيئين.
أحدهما: أن يكون مشتركا بين التكرار
والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على قرينة وهذا قد صرح
بحكايته صاحب الكتاب في كتابه المرصاد الذي وضعه على مختصر
ابن الحاجب.
والثاني: أنه لاحدهما ولا نعرفه فيتوقف
لجهلنا بالواقع ولقائل أن يقول وضعه للمرة وللتكرار كل
منهما على حدته وضع للنقيضين لأن التكرار وحده مع المرة
وحدها مما لا يجتمعان إذ لا تجتمع الوحدة بقيد الوحدة مع
الكثرة ولا يرتفعان إذا هو مأمور بشيء لا يخرج ذلك الشيء
عن أحدهما ثم إن الوضع للنقيضين على رأي الإمام ومن نحا
نحوه ممتنع فكيف يتجه ممن يعتقد اعتقاده أن يجعل التوقف
محتملا وفي المسألة مذهب خامس حكاه صفي الدين الهندي عن
عيسى بن إبان أنه إن كان فعلا له غاية يمكن إيقاعه في جميع
المدة فيلزمه في جميعها وإلا فيلزمه الأقل.
قال: لنا تقييده بالمرة والمرات من غير تكرير ولا نقض وأنه
ورد مع التكرار وعدمه فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو
طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز وأيضا لو كان
للتكرار لعم الأوقات فيكون تكليفا بما لا يطاق وينسخه كل
تكليف بعده لا يجامعه.
استدل على المختار بأوجه:
أحدهما: أنه لو كان الأمر المطلق دالا على
المرة لكان تقييده بها تكرارا وبالمرات نقضا ولو كان دالا
على التكرار لكان تقييده بالمرات تكرارا بالمرة نقصا
والمرازمة بينة والملازمة باطل الصحة قولنا افعل ذلك مرات
وليس فيه تكرار ولا نقض ولا يخفى عليك أن هذا الوجه ليس
حجة الا على من يدعي أنه نص بالمرة الواحدة ولا يحتمل
التكرار ومن يدعي العكس أما من يدعي التوقف والظهور في
أحدهما فلا يصلح حجة عليه.
ج / 2 ص -51-
الثاني: أنه ورد للتكرار شرعا مثل قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
و
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وعرفا مثل قول القائل لغيره احفظ دابتي واحسن إلى الناس وورد للمرة
شرعا كآية الحج والعمرة وعرفا مثل ادخل الدار وقول السيد
لعبده اشتر اللحم فحينئذ إما أن يكون حقيقة فيهما فيلزم
الاشتراك أو في أحدهما فيلزم المجاز والمجاز والاشتراك على
خلاف الأصل فيكون للقدر المشترك بينهما وهو طلب الإتيان
بالمأمور وذلك أعم من أن يكون في المرة الواحدة أو المرات
وحينئذ لا يدل على أحدهما بخصوصه إلا بقرينة.
وهذا الدليل قد استعملوه في مواضع عديدة وبعض المتأخرين من
الاصوليين كالنقشواني وغيره قد ضعفوه فقالوا إذا كان
موضوعا للقدر المشترك الذي هو مطلق الطلب ثم استعمل في طلب
خاص فقد استعمل في غير ما وضع له لأن الأعم مغاير للأخص
لكنه مشتمل على ما وضع له فيجوز مجازا وأيضا فان الالفاظ
موضوعة بازاء المعاني الذهنية على رأي الإمام واتباعه فإذا
استعمل فيما تشخص منهما في الخارج يكون مجازا لأنه غير ما
وضع له فتقرر أن استعمال الأمر في المقيد بالتكرار وبالمرة
مجاز لما قلناه وهذا بحث صحيح مطرد في كل أعم استعمل في
أخص وبعضهم يفصل فيه فيقول إن استعمل فيه باعتبار ما فيه
من القدر الأعم فهو حقيقة وإن استعمل فيه اعتبار خصوصه فهو
مجاز وهذا التفصيل لا حاجة إليه لأنه إذا استعمل فيه
باعتبار ما فيه من القدر الأعم لا يخرج عن كونه استعمل
العام في الخاص وقوله باعتبار سبب في الإستعمال فهو
كاستعمال الأسد الشجاع باعتبار الشجاعة وإن أراد بقوله
باعتبار أنه لم يستعمل إلا في الأعم فذلك إحالة لفرض
المسألة لأن فرض المسألة أنه استعمل في الأخص.
الثالث: وهو دليل على ضعف القول بالتكرار
لأنه لو كان مقتضيا للتكرار نعم جميع الأوقات حتى يجب فعل
المأمور به فيها وذلك لعدم أولوية وقت دون وقت لكنه لا يعم
جميع الأوقات لوجهين.
ج / 2 ص -52-
أحدهما: أنه لو عمها للزم وقوع التكليف بما لا يطاق.
والثاني: أنه يلزم أن ينسخه كل تكليف يأتي
بعده لا يمكن مجامعته له في الوجود وذلك لأن الأمر الأول
قد استوعب جميع الأوقات بفعل المأمور به والثاني يقتضي
الإتيان بالمأمور به والإتيان بالمأمور به أولا لا يمكن مع
الإتيان به ثانيا فيرتفع وجوبه لعدم إمكان فعله فيلزم
النسخ وهو يأكل قطعا لأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا
لغيرها والأمر بالحج ليس نسخا للصلاة فثبت ما قلناه من انه
لا يعم كل الأوقات وحينئذ لا يكون مقتضيا وانما قيد المصنف
بقوله لا يجامعه ليحترز عما يجتمع معه كالصوم مع الصلاة
وفي هذين الوجهين نظر.
أما الأول: فلأن القائل بالتكرار يشترط
الإمكان كما تقدم.
وأما الثاني: فلأن النسخ إنما يلزم إذا
كان الأمر الثاني مطلقا غير مخصص ببعض الأوقات شرعا أو
عقلا ومثل هذا غير واقع في الشرع ولو وقع لالتزم الخصم
وقوع النسخ وأما إذا كان الامر الثاني مخصوصا ببعض الأوقات
فلا يلزم منه نسخ الأول بل تخصيصه ولا امتناع في ذلك على
أنه غير واقع على الوجه المفروض.
قال: تمسك الصديق رضي الله عنه على التكرار بقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه قلنا لعله عليه الصلاة والسلام بين تكراره قبل النهي
يقتضي التكرار فكذا الأمر قلنا الانتهاء أبدا ممكن دون
الامتثال قيل لو لم يتكرر لم يرد النسخ. قلنا: وروده قرينة
التكرار.
احتج من ذهب إلى أن الأمر يفيد التكرار بثلاثة اوجه.
أحدها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
تمسك على أهل الردة من وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى:
{وَآتُوا
الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على انعقاد الإجماع على أن الأمر
للتكرار والجواب بعد تسليم أن الإجماع السكوتي إجماع أنه
لعل النبي صلى الله عليه وسلم بين للصحابة رضي الله عنهم
أن قوله:
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} يفيد التكرار فتمسك الصديق رضوان الله عليه بها
ج / 2 ص -53-
مستندا
إلى ما بينه عليه السلام وهذا وإن كان خلاف الأصل إذ الأصل
أنه لم يبين لكن يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة وقد يجاب
بأن أمر الصلاة والزكاة والصوم معلوم التكرار بالضرورة من
دين محمد عليه السلام أو بأن ههنا مع صيغة الأمر غيرها وهو
أن القاعدة تكرر الحكم بتكرر سببه وسبب وجوب الزكاة نعمة
من الملك فلما تكررت تكرر وجوب الزكاة وهذا مقتضى للتكرار
غير الامر.
وثانيها: أن النهي يقتضى التكرار فكذلك
الأمر قياسا عليه والجامع كون كل منهما للطلب و الجواب أنه
يمكن الانتهاء عن الشيء دائما لأن فيه بقاء على العدم وأما
امتثاله أبدا اعني استعماله دائما فغير ممكن وهذا الجواب
من المصنف ربما يفهم اختياره أن النهي يقتضي التكرار بلا
خلاف وقد صرح بعد ذلك بأن النهي كالأمر في التكرار وعدمه
ثم لك أن تقول في هذا الجواب نظر لأن من قال الأمر يقتضي
التكرار اشترط الإمكان كما سبق فامتثال الأمر أبدا حينئذ
كالانتهاء أبدا من حيث الإمكان فالصواب في الجواب أن يقال
هذا إثبات اللغة بالقياس وليس بصحيح سلمنا صحته لكن لا
نسلم أن النهي يقتضي التكرار بل هو على وزان الأمر سلمنا
أن يقتضي التكرار لكن مقتضى الأمر اتحاد المأمور به وذلك
يصدق مرة واحدة بخلاف النهي فإنه لما كان مقتضاه الكف عن
المنهي عنه لم يتحقق ذلك إلا بالإمتناع المستمر.
وثالثها: أنه لو لم يدل على التكرار ودل
على المرة لم يرد النسخ لأن وروده إما بعد فعلها وذلك محال
إذ لا تكليف واما قبله وهو يدل على البداء أي ظهور المصلحة
بعد خفائها وذلك محال على الله سبحانه وتعالى وورود النسخ
جائز فدل على أنه للتكرار والجواب أن النسخ لا يجوز وروده
عليه فإن ورد صار بذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار
وحمل الأمر على التكرار لقرينة جائز.
قال: قيل: حسن الاستفسار دليل الاشتراك.
قلنا: فقد يستفسر عن إفراد المتواطئ .
ج / 2 ص -54-
احتج
من قال باشتراك الأمر بين التكرار والمرة بأنه يحسن
الاستفهام فيه فيقال أردت بأمرك فعل مرة واحدة أو اكثر
وحسن الاستفهام دليل الاشتراك والجواب ان مدعانا للتواطؤ
ويجوز الإستفسار عن إفراد المتواطىء كما إذا قلت اضرب
إنسانا فإنه يحسن أن يقال عمرا أم زيدا وأعتق رقبة فإنه
يجوز أن يقال مؤمنة أم كافرة وقد تم شرح ما في الكتاب وليس
فيه تعرض لشيء من شبه القائلين بالمرة ومنها أن من قال
لغيره ادخل الدار فدخل مرة عد ممتثلا ومنها لو قال لوكليه
طلق زوجتي لم يملك اكثر من واحدة ومنها لو قيل صار زيد صدق
بمرة فليكن مثله في الأمر.
والجواب عن الأول: أن ذلك إنما يدل على أن الأمر غير ظاهر
في التكرار لا على امتناع احتماله ولهذا لو قيل ادخل مرارا
اصح ولو عدم الاحتمال لم يصح هذا التفسير وهو الجواب عن
طلق زوجتي وذلك لعدم ظهور الأمر فيما عدا الواحدة لا لعدم
الاحتمال لغة الجواب عن الثالث: أنه قياس في اللغة فلا
يقبل.
فائدة: استحباب إجابة المؤذن هل هو مختص بالمؤذن الأول حتى
لو سمع ثانيا فلا يستحب إجابته يظهر تخريج المسالة على أن
الأمر هل يقتضي التكرار.
وقد حكى النووي في شرح مسلم عن حكاية القاضي عياض اختلاف
العلماء في هذه المسألة وحكى بعضهم عن الشيخ عز الدين بن
عبد السلام أنه قال يجيب كل واحد لتعدد السبب.
قال: الخامسة: المعلق بشرط أو صفة
مثل:
{وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} لا يقتضي التكرار لفظا ويقتضيه قياسا.
أما الأول: فلأن ثبوت الحكم مع الصفة أو
الشرط يحتمل التكرار وعدمه ولأنه لو قال إن دخلت الدار
فأنت طالق لم يتكرر.
وأما الثاني: فلأن الترتيب يفيد العلية
فيتكرر الحكم بتكرارها وإنما لم يتكرر الطلاق لعدم اعتبار
تعليله.
ج / 2 ص -55-
الأمر
المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما
من قال الامر المطلق يقتضي التكرار فهو هنا أولى ومن قال
لا يقتضيه اختلفوا هنا ولا بد من تحرير محل النزاع قبل
الكلام فيها فنقول:
قال الآمدي ومن تبعه ما علق المأمور به من الشرط أو الصفة
إما أن يكون ثبت كونه علة لوجوب الفعل مثل:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}
وقولنا ان كان هذا المانع خمرا فهو حرام فان الحكم يتكرر
اتفاقا وان لم يثبت كونه علة بل توقف الحكم عليه من غير
تأثير له كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم فهو محل الخلاف
انتهى وهو مقتضى كلام ابن برهان في الوجيز ووافق عليه صفي
الدين الهندي مع تمسكه للصفة بالسارق والسارقة.
واعلم أنه مناف لكلام الإمام والمصنف ان مقتضى كلامهما أن
الخلاف جار مطلقا الا تراهما وقد مثلا للصفة بقوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}
مع ثبوت كون السرقة علة القطع وكذلك قولهما في الدليل
الآتي ان شاء الله تعالى.
الترتيب يفيد العلية فيتكرر بتكررها فعندهما أن المانع هنا
مانع لإفادة ترتيب الحكم على الوصف للعلية وينتجه أن يقال
في الجمع بين الطريقتين أن الآمدي ومن سلك طريقه فرضوا
الكلام مع من يعترف بأن ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية
والإمام تكلم في اصل المسالة مع المخالفين في الموضعين
وأما ما في شرح هذا الكتاب للاسفرايني من تخصيص محل الخلاف
بما إذا كان لكل من الشرط والصفة صلاحية العلية فغير سديد
إذا عرفت هذا ففي المسألة مذاهب:
أحدها: أنه لا يقتضي التكرار وهو الصحيح
عند الشيخ أبي اسحاق الشيرازي واختاره الآمدي وابن الحاجب.
والثاني: أنه يقتضيه ولم يزد الآمدي على
حكاية هذين المذهبين لأن الثالث يخالف لما قرره من تخصيص
محل النزاع بما ذكر.
والثالث: مذهب اقتضاه كلام القاضي في
التلخيص مختصر التقريب والإرشاد وهو أن المعلق بشرط لا
يقتضي التكرار دون المعلق بصفة.
ج / 2 ص -56-
قال
إمام الحرمين في هذا الكتاب: وهو الذي يضح وارتضاه القاضي.
فإن قلت: هذا مذهب لا يعرف في كتب المتأخرين فما ذلك من
كتاب التلخيص على وجوده.
قلت: دل على ذلك أن القاضي لما ذكر أن المعلق بشرط لا
يقتضى التكرار وحكى خلاف الخصوم فيه قال ومما ذكروه في هذه
المسالة إن قالوا الحكم يتعلق بالعلة والشرط ثم إذا علق
بالعلة تكرر بتكررها فكذلك إذا علق بالشرط وهذا الذي ذكروه
اجتراء منهم بدعوى مجردة فإننا نقول لهم خلافنا يؤول إلى
صيغة غريبة وقضية مفهومة وقد أوضحنا منع إثبات اللغة
بالمقاييس ومعظم كلامهم يتردد على القياس فلم قلتم ان
الصيغة المبنية على التعليل يضاهيها الصيغة المبنية على
الشرط فاكتفت بذلك وسنفرق بين العلة والشرط في أبواب
القياس انتهي كلامه وهو صريح فيما ذكرناه وإلا ما كان
يلتزم المخالفة في العلة كما فعل الغزالي فانه فرض المسالة
في الشرط واختار عدم التكرار ثم أورد من جهة الخصم ان
الحكم يتكرر بتكرر العلة والشرط مثلها فان علل الشرع
إمارات و أجاب بان العلة إذا كانت شرعية فلا نسلم تكرر
الحكم بمجرد إضافة الحكم إليها ما لم تعترف به قرينة
التعبد بالقياس.
وهذا المذهب الذي ارتضاه القاضي هو المختار لما سنذكره ان
شاء الله تعالى.
المذهب الرابع: واختاره الإمام وبه جزم
المصنف أنه لا يقتضيه من جهة اللفظ ويقتضيه من جهة القياس
فهنا مقامان:
الأول: أنه لا يفيد لفظا واستدل عليه
بوجهين:
أحدهما: أن ثبوت الحكم مع الصفة والشرط
يحتمل التكرار ويحتمل عدمه فان اللفظ إنما دل على تعليق
شيء على شيء وذلك اعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في
صورة واحدة والدليل عليه صحة تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين
القسمين وموود التقسيم مشترك بين القسمين والمشترك بين
الشيئين لا إشعار له بواحد منهما فإذا تعلق الشيء على شيء
لا يدل على تكرار التعليق
ج / 2 ص -57-
واعترض
القرافي على هذا بان الخصم قد لا يسلم صحة التقسيم فدعواها
مصادرة على المطلوب.
والثاني: أنه لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لم
يتكرر الدخول ولو دل عليه لفظا لتكرر كما لو قال لها كلما
دخلت ثم إذا لم يدل عليه في الإنشاء فلا يدل عليه في الأمر
لأنه إنشاء معلق مثله واقرب من هذا المثال أن يمثل بقول
الرجل لوكيله وكلتك في طلاق زوجتي ولا تطلقها إلا إذا دخلت
الدار.
المقام الثاني: أنه يفيده من جهة القياس
والدليل عليه أن ترتيب الحكم على الشرط أو الصفة يفيد عليه
ذلك الشرط وتلك الصفة لذلك الحكم كما ستعرفه إن شاء الله
تعالى في كتاب القياس فيلزم أنه يتكرر الحكم بتكرر ذلك
لتكرر المعلوم بتكرار علته هكذا قرره هذا المقام شراح
الكتاب ولم أر من صرح في كتاب القياس بمساواة ترتيب الحكم
على الشرط لترتيب الحكم على الوصف وإنما المذكور هناك
ترتيب الحكم على الوصف فقط فإن كان ترتيب الحكم على الشرط
مثله فهذا الدليل منقدح الا انا نمنع ذلك ولهذا كان
المختار عندنا ما نقلناه عن القاضي من التفرقة بين المعلق
بشرط فلا يدل على التكرار والمعلق بوصف فيدل بطريق القياس.
فإن قلت: علل الشرع علامات والشروط علامات فما وجه
التفرقة.
قلت: لا نسلم أن الشروط علامات بالاعتبار الذي به العلل
علامات فان المعنى من كون العلة علامة جعل الشارع إياها
علامة وجود الحكم وان كان الحكم صادرا من الشارع ومعلوم ان
الشرط ليس علامة بهذا الاعتبار فان وجوده لا يدل على وجود
المشروط أصلا وانما الشرط علامة باعتبار الانتفاء فلا يلزم
من كونهما علامتين باعتبارين مختلفين اتحاد الحكم سلمنا
كونهما علامتين باعتبار واحد لكن بالاعتبار الذي في الشرط
لا بالاعتبار الذي في العلة والعلة تتميز عنه حينئذ
بالاعتبار الذي فيها فلا يلزم من اشتراكهما في وجهة واحدة
من جهة العلامة اشتراكهما في اقتضاء الحكم وتكرره عند
تكررهما لجواز أن يكون ذلك من لوازم ما به الامتياز قوله
وإنما لم يتكرر
ج / 2 ص -58-
جواب
عن سؤال مقدر تقديره لو صح ما ذكرتم للزم تكرير وقوع
الطلاق المعلق على دخول الدار بتكرر الدخول وليس كذلك
والملازمة بينة أجاب قولكم رتب الطلاق على الدخول قلنا
مسلم يكون علة قلنا مسلم قولكم فيتكرر قلنا إنما يتكرر
التعليل المعتبر وهو تعليل الشارع لا تعليل آحاد الناس
فإنما لم يتكرر الوقوع لعدم اعتبار تعليله حتى لو صرح
بالتعليل بأن قال طلقتك لأجل دخولك الدار وكانت له امرأة
أخرى لا تطلق وان وجدت منها هذه الصفة.
قال: السادسة الأمر لا يفيد الفور خلافا للحنفية
ولا التراخي خلافا لقوم وقيل مشترك لنا ما تقدم.
الأمر
المطلق هل يفيد الفور بمعنى ان تجب المبادرة عقيبه إلى
الإتيان بالمأمور به أما القائل بأنه يفيد التكرار فلا
يحتاج إلى قوله أنه يفيد الفور لأنه من ضرورياته وإنما
الكلام الآن بين القائلين بأنه لا يفيد التكرار وقد اختلف
المسلمون لذلك على مذاهب.
أحدها: أنه لا يفيد الفور ولا يدفعه وهو قول معظم الشافعية ينسب الى
الشافعية نفسه قال إمام الحرمين وهو اللائق بتصريحاته في
الفقه وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول وعليه أبو علي
وابنه وأبو الحسين واختاره الغزالي والامام واتباعه منهم
المصنف والآمدي وابن الحاجب وهو المنقول عن القاضي قال
امام الحرمين في البرهان وهذا بديع من قياس مذهبه مع
استمساكه بالوقف وتجهيله من لا يراه وهذا الذي قال أنه
بديع من مذهب القاضي قال في التلخيص أنه الأصح وقال قطع
القاضي رحمه الله بإبطال المصير إلى الوقف في هذا الباب
وهو الأصح إذ المصير إلى الوقف في هذا الباب يعود إلى خرق
الاجماع أو يلزم ضربا من التناقض.
المذهب الثاني: أنه يفيد الفور وبه قالت
الحنفية وقد عزى كما ذكر في البرهان إلى أبي حنيفة نفسه
وقال ابن برهان في الوجيز لم ينقل عن الشافعي ولا أبي
حنيفة في نقل المسالة وانما فروعها تدل على ما نقل عنهما
قال وهذا خطأ في نقل المذاهب إذ الفروع تبنى على الأصول لا
العكس.
ج / 2 ص -59-
قلت
وفي هذا الكلام نظر فان المطلع على مذهب إمام إذا استقرأ
من كلامه في فروع شيء المصير إلى ما ليس له مأخذ إلا القول
بأصل من أصول جزم الاعتقاد بأن ذلك الأصل مختاره ونسبه
إليه وهذا صنيع أصحابنا على طبقاتهم يقولون مذهب الشافعي
كذا وإنما استنبطوا ذلك من قواعده من غير اطلاع على نصه.
ومنهم: من ينسب إليه القول المخرج مع كونه نص على خلافه
وقد أختار هذا المذهب من أصحابنا القاضي أبو حامد المروزي
وأبو بكر الصيرفي وهو مذهب داود ومعظم الحنابلة.
والمذهب الثالث: انه يفيد التراخي كذا
أطلقه جماعة منهم المصنف وقال الشيخ أبو اسحاق في شرح
اللمع وإمام الحرمين في التلخيص والبرهان ان هذا الاطلاق
مدخول إذ مقتضاه ان الصيغة المطلقة تقتضي التراخي حتى لو
فرض الامتثال على البدار لم يعتبر به وليس هذا معتقد أحد
هذا كلامهما ورأيت ابن الصباغ في عدة العالم قال أن من
الواقفية في هذه المسالة من قال لا يجوز فعله على الفور
لكن قال إن القائل بهذا خالف الاجماع قبله وعلى الجملة هو
مذهب ثابت منسوب إلى خرق الإجماع ونقل ابن السمعاني في
القواطع القول بأنه على التراخي عن ابن أبي هريرة وأبي بكر
القفال وابن خيران وأبي على الطبري صاحب الإفصاح وصححه ثم
قال إن معنى قولنا أنه على التراخي أنه ليس على التعجيل
قال والجملة أن قوله افعل ليس فيه عندنا دليل إلا على طلب
الفعل فحسب من غير تعرض الوقت.
قلت: وعلى هذا التفسير فهذا المذهب هو المذهب الأول بعينه.
والمذهب الرابع: الوقف إما لعدم العلم
بمدلوله أو لأنه مشترك بينهما وهو الذي عبر عنه المصنف
بقوله وقيل مشترك وكان الأحسن أن يقول وقيل بالوقف ليشمل
هذين الاحتمالين على أن صفي الدين الهندي نقل أن منهم من
توقف فيه توقف الاشتراك ثم افترقت الواقفية فمن قائل إذا
أتى بالمأمور به في أول الوقت كان ممتثلا قطعا وإن أخر عن
الوقت الأول لا يقطع بخروجه عن
ج / 2 ص -60-
العهدة
واختاره إمام الحرمين في البرهان ومن قائل إنه وإن بادر
إلى فعله في أول الوقت لا يقطع بكونه ممتثلا وخروجه عن
العهدة لجواز إرادة التراخي نقله الآمدي وابن الحاجب
وغيرهما.
قوله لنا: أي الدليل على أن الأمر لا يقتضي الفور ما تقدم
في الكلام على أنه لا يقتضي التكرار وأشار إلى دليلين.
أحدهما: صحة تقييده بالفور والتراخي من
غير تكرير ولا نقض كصحة تقييده بالمرة والمرات من غيرهما.
والثاني: وروده مع الفور وعدمه فيجعل حقيقة في القدر
المشترك وهر طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز كما ورد
بالتكرار والمرة وعدمهما وجعل حقيقة في القدر المشترك وقد
تقدم الكلام في هذين الدليلين مبسوطا وتقدم دليل ثالث لا
يأتي هنا.
قال: قيل: أنه تعالى ذم إبليس على الترك ولولم يقتض الفور
لما استحق الذم.
قلنا: لعل هناك قرينة عينت الفورية قيل سارعوا يوجب
الفورية.
قلنا: فمنه لا من الأمر قيل لو جاز التأخير فإما مع بدل
فيسقط أولا معه فلا يكون واجبا وأيضا إما أن يكون للتأخير
أمد وهو إذا ظن فواته وهو غير شامل لأن كثيرا من الشباب
يموتون فجأة أولا فلا يكون واجبا.
قلنا: منقوض بما إذا صرح به قيل النهي يفيد الفور فكذا
الأمر. قلنا: يفيد التكرار.
احتج القائلون بالفور بأوجه:
أحدها: قوله تعالى لإبليس:
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}1 عابه على كونه لم يأت في الحال بالمأمور به وهو يدل على أنه واجب
الإتيان بالفعل حين أمر به إذ لو لم يجب لكان لإبليس أن
يقول ما أوجبت على في الحال فكيف استحق الذم بتركه في
الحال أجاب تبعا للإمام بأنه يحتمل ان يكون ذلك الأمر
مقرونا بما يدل على أنه على الفور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية 12.
ج / 2 ص -61-
قال
الهندي وهو ضعيف لأن ظاهره يدل على ترتيب الذم بمجرد ترك
المأمور به فتخصيصه بأمر آخر غير خلاف للظاهر.
قال: وهذا وإن كان لازما على كل من يجب بهذا الجواب إلا أن
الملام فيه على الإمام اشد لأنه أجاب عن هذا الجواب لما
اعترض به على استدلاله بهذا النص على ان الآمر للوجوب
والمصنف تبعه في الموضعين قال الهندي ثم.
والأولى: أن يقال في جوابه أن هذا الامر كان مقرونا بما
يدل على أنه للفور بدليل قوله تعالى:
{فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ}1 فانه جعل الامر بالسجود جزاء لشرط التسوية والنفخ والجزاء يحصل
عقيب الشرط وإنما أفاد الأمر هنا الفور بهذه القرينة وهذا
الجواب إن صح فلك أن تقول هذه القرينة هي التي أوجبت
للإمام أن يقول هنا لعل قرينة أوجبت وأما في مسالة الأمر
هل يقتضي الوجوب فلا قرينة فكان ما ادعاه الإمام من
القرينة موجودا دون ما ادعاه الخصم ثم والحاصل أن كلا
منهما ادعى قرينة والاصل عدمها وتأيدت دعوى الإمام والمصنف
بهذه الآية فصح ما قالاه وفي صحة الجواب نظر من جهة أنه قد
يمنع أن الجزاء يحصل عقيب الشرط وليس هنا ما يتخيل دلالته
عليه إلا الفاء في قوله:
{فَقَعُوا}
وهي لا تدل عليه إلا إن كانت للتعقيب وقد نص النجاة أو على
أنها إذا وقعت جوابا للشرط لا تقتضي تعقيدا.
وقال بعضهم: إن في الآية قرينة أخرى وهي فعل الأمر في
قوله:
{فَقَعُوا}
إذ هو العامل في إذا لأنها ظرف والعامل فيها جوابها فصار
التقدير:
{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} وقت تسويتي إياه وهذا صحيح على رأي الجمهور القائلين بأن العامل في
إذا جوابهما ولكن قال بعض البصريين أن العامل فيها ما
يليها حكاه شيخنا أبو حيان في البحر المحيط عند قوله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} وهو متجه في هذه الآية لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يعمل فيما
قبلها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة ص آية 72.
ج / 2 ص -62-
فكيف
يتجه في مثل:
{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أن يقال العامل في إذا جوابها بل هذا وأمثاله تصلح اعتراضا على
الجمهور القائلين بهذه المقالة.
الوجه الثاني قوله:
{وَسَارِعُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}1
فانه يوجب أن الأمر للفور لأنه بالمسارعة وهي التعجيل
بالمأمور به والأمر للوجوب والمسارعة واجبة ولا معنى لان
الأمر يقتضي الفور الا ذلك وحمل المغفرة على حقيقتها في
الآية ممتنع لان المغفرة من فعل الله تعالى والعبد لا
يسارع إلى فعله محمول على المجاز وهو المأمور به وفي معنى
هذه الآية قوله:
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وأجاب بأن الفورية لم تستفد من الأمر بل من قوله سارعوا يعني من
جوهر اللفظ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيف ما تصرف بل
لمباحث أن يقلب هذا الدليل ويستدل به على عدم الفور لأن
المسارعة مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به في غيره
ولقائل أن يقول لا نسلم تفسير المصارعة بما ذكرتم بل
المسارعة عبارة عن التعجيل بالفعل المطلوب كما تقول سارعت
إلى إنقاذ الغريق وإن كانت المبادرة إلي ذلك واجبة وذلك
أعم من أن يجوز مع ذلك فعله في وقت آخر أم لا ثم قولكم
الفورية لم تستفد من الأمر بل من مادة سارعوا فيه تسليم
لوجوب فعل المأمورات الشرعية على الفور بما دل على ذلك من
قوله سارعوا فحاصل ما أجبتم به أنكم سلمتم ثبوت الفور في
المأمورات ولكن قلتم ان ذلك ليس من مدلول الامر بل من دليل
منفصل وهذا يحصل به معظم مقصود الخصم أن الفرض الأعظم إنما
هو الأوامر الشرعية.
وقد يقال: دلالته على وجوب المسارعة إلى أسباب المغفرة
بطريق الاقتضاء فلا يلزم منه وجوب المسارعة إلى جميع أسباب
المغفرة بناء على المقتضى وهو ما اضمر ضرورة صدق المتكلم
لا عموم له فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله ولا يعم كل
مأمور.
الثالث: لو لم يكن الأمر للفور لكان
التأخير جائزا وجوازه إما مع بدل أو لا معه والضمان
باطلان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية 123.
ج / 2 ص -63-
أما الأول فلأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا
البدل وجب أن يسقط عنه هذا التكليف ليس كذلك بالاتفاق.
وأما الثاني فلأن ذلك يمنع من كونه واجبا
لأنه لا يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه من غير
بدل.
الرابع: أنه لم يكن الفور وجاز التأخير
لكان إما إلى أمد أي غاية معينة بحيث إذا وصل المكلف إليها
لا يجوز له التأخر عنها أو لا يكون له أمد أي بأن يجوز له
التأخير أبدا والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل.
أما الأول: فلأن ذلك الأمد لا بد له من أمارة يعرفه المكلف
بها لئلا يلزم وقوع التكليف بما لا يطاق ولذلك لم يكن
للخصم أن يقول يجوز أن يكون الأمد غاية مجهولة عند المكلف
لأنه يصير مكلفا بأن لا يؤخر الفعل عن وقت معين مع عدم
معرفته به وهو تكليف بما لا يطاق وإذا كان لا بد له من
أمارة يعرفها المكلف فتلك الأمارة هي بالاتفاق ظن الفوات
على تقرير الترك إما لكبر السن أو الفرض الشديد وذلك الأمر
غير شامل للمكلفين لأن كثيرا من الناس يموتون فجأة ويقتلون
بغتة من غير حصول إمارات للموت فيلزم أن لا يشملهم الأمر
وليس كذلك.
وأما الثاني: فلأن التأخير أبدا يجوز
الترك أبدا وتجويز أبدا ينافي الوجوب وأجاب عن هذين
الوجهين بالنقض بما إذا صرح للمكلف بجواز التأخير مثل أن
يقال له أوجبت عليك أن تفعل كذا في أي وقت شئت أو ولك
التأخير فإن هذين الوجهين يطردان فيه مع جواز التأخير
بالإتفاق.
قال الإمام: فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو عندنا
عما ذكروه وسنذكر ما تحصل به المناقشة في هذا الجواب إن
شاء الله تعالى وأجيب عنه أيضا بالتزام أن الأمد غير معين
ولا يلزم التكليف بما لا يطاق لأنه إنما يلزم إذ لو لم يجز
الإتيان به على الفور أما إذا جاز فعله على الفور فلا يلزم
تمكن المكلف من الامتثال في الحال والتكليف بالمحال هو
التكليف بالمتعذر امتثاله من كل وجه.
ج / 2 ص -64-
الخامس: أن النهي يفيد الفور فكذا الأمر بالقياس عليه
بجامع الطلب فيهما وأجاب بأن النهي يفيد التكرار ويلزم من
ذلك وقت الحال فأفاد النهي الفور بضرورة دخول وقت الحال في
الأوقات لا لذاته وهذا الجواب قد تقدم مثله وقد ناقضه بعد
هنا حيث يقول النهي كالأمر في التكرار والفور فكان الأولى
ان يجيب أما بأن النهي لا يفيد الفور أو بأن هذا قياس في
اللغة فلا تقبل وقد استدل القائلون بالفور أيضا بوجه سادس
لم يذكره في الكتاب وهو طريقة الاحتياط فانا اجمعنا على
أنه لو فعل عقيبه وقع الموقع ولا عبرة بالمذهب الضعيف
المتقدم إن ثبت لمصادمته للإجماع.
واختلفا في أنه فعل بعد ذلك هل يخرج عن العهدة فطريقة
الإحتياط تقضي وجوب الإتيان به على الفور ليحصل الخروج عن
العهدة بيقين.
وأجاب الإمام: بأنه ينتقض بقوله افعل في أي وقت شئت واعترض
صاحب التحصيل على هذا الجواب بأن طريقة الاحتياط غير
منقوضة إذ لا خوف ثمة قال الشيخ شمس الدين بن الجزري في
شرح أسئلة التحصيل1 إنما قال ذلك لوجهين:
أحدهما: أن الكلام فيما إذا كان الأمر
مطلقا واحتمل أن يكون المراد الفور.
ثانيهما: أن الفعل على تقدير قوله: افعل
في أي وقت شئت لا خرق في قول على الفور ولا على التراخي
حتى تنتقض طريقة الاحتياط قال واعلم أن الوجه الأول من
وجهي الاعتراض على جواب الإمام في طريقة الاحتياط لم يذكره
صاحب التحصيل فعلى هذا ينقدح مناقشة ترد كلامه فيقول إما
أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمام الجزري تقدمت ترجمته في الجزء الأول ومن كتبه
أجوبة على أسئلة التحصيل في أصول الفقه – مفقود- والتحصيل
كتاب ملخص لكتاب المحصول للإمام فخر الدين الرازي – ألفه
سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي المتوفى سنة 682هـ.
ووضع فيه أسئلة واعتراضات على الإمام الرازي وجاء شمس
الدين الجزري المتوفى 711هـ فشرح هذه الأسئلة وأجاب عنها.
البدر السافرص176.الدرر الكامنة 5/67 ,بغية الوعاء 1/278,
معجم المؤلفين 12/138.
ج / 2 ص -65-
يريد
أن طريقة الإحتياط غير منقوضة على تقدير اعتبار قوله في أي
وقت شئت أو لا فإن أراد الأول لم يبق احتياط ضرورة استواء
الفعل على الفور والتأخير فلا يقال طريقة الاحتياط باقية
وإن أراد الثاني فليس الجواب أن طريقة الاحتياط غير منقوضة
إذ لا خوف ثمنه ضرورة قيام الخوف على تقدير عدم اعتبار ذلك
الفور بل الجواب أن ذلك بقوله افعل في أي وقت شئت والكلام
في الأمر بمجرده قال والإشارة بقوله ثمة إلى الصورة التي
أوردها الإمام وهي الصورة الأخيرة خارج عن وضع اللغة
فالأولى به أن يقول: ألا خوف هنا.
واعلم أن المنتصر لكلام الإمام أن يقول: مراد الإمام بقوله
افعل في أي وقت شئت ان هذا القول لا يعد منافيا لقوله افعل
بل يكون موافقا لمقتضاه فلا يتصور طريقة الإحتياط إلا إذا
كان الفور راجحا أو مساويا أما إذا كان الراجح التوسعة فلا
تأتي طريقة الاحتياط وإلا فالإمام ما يجهل أن قوله افعل في
أي وقت شئت غير قوله افعل من غير ضميمة هذا كله كلام ابن
الجزري وفيه نظر يحتاج إلى تطويل وقال الترمذي التمسك على
الفور بطريقة الاحتياط ضعيف لأن الاحتياط ليس من أمارات
الوضع ولا مقتضيات الوجوب بل هو من باب الأصلح ثم قوله
افعل الآن يعد تأكيدا وفي أي وقت شئت يعد تخفيفا ومسامحة
قال القرافي ويرد عليه أن ههنا قاعدة خفية عادة الفضلاء
يوردون بسبب إهمالها سؤالا فيقولون في كلما يقول المستدل
فيه هذا ارجح فيجب المصير إليه ان الرجحان يقتضي أنه أحسن
أما أنه المتعين فلا الندب هو اللازم في هذه المواطن التي
فيها الرجحان بالاحتياط ونحو ذلك أن فعل الأحسن مستحب ولا
يصل إلى الوجوب قال وأهملت قاعدة وهي إن الرجحان إن كان في
أفعال المكلفين فكما قالوه وإن كان في مدارك المجتهدين
وأدلة المناظرين اقتضى ذلك الوجوب والتحتم والروم بل العقد
الاجماع على أن المجتهد عليه اتباع الراجح من غير رخصة في
تركه بخلاف الراجح في حق المكلف إنما هو مندوب وكذلك
الراجح في الاجتهاد في طلب القبلة وطهورة الماء من باب
الوجوب إجماعا ومنه قيد المتعلقات وأروش الجنايات قال
فتأمل هذه القاعدة فهي ظاهرة وهي خفية وبها يظهر بطلان
ج / 2 ص -66-
قوله:
إن الإحتياط ليس من مقتضيات الوجوب لأن هذا رجحان في ذلك
لا في فعل المكلف وأما قوله افعل الآن تأكيد وفي أي وقت
مسامحة فهو مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل هذا كلام
القرافي والقاعدة التي ذكرها من وجوب اتباع الراجح على
المجتهد صحيحة لكن الكلام في أن الأخذ بالاحتياط هل هو
راجح ولو صح ما قاله لكنا نلزم المجتهدين بالأخذ بجميع
المآخذ وإن لم يثبت عندهم صحتها ونقول للشافعي يجب عليك
العمل بالاستحسان احتياطا فالمجتهد الناظر في أن الأمر هل
يقتضي الفور ما لم يقم عنده دليل على ذلك ليس له أن يقول
بذلك للاحتياط نعم المكلف الذي توجه الأمر نحوه يستحب له
المبادرة احتياطا أو يجب عليه بحسب ما يؤدي إليه قواعد
الاحتياط وهذا قد قاله هو حيث قال إن كان في أفعال
المكلفين فكما ذكروه وما نحن فيه من أفعال المكلفين وأحسن
من دليل الاحتياط في الدلالة على أن الأمر يقتضي الفور أن
تقول من توجه الأمر المطلق نحوه فقد تحققنا وجوب الفعل
عليه وشككنا هل يخرج من العهدة بالتراضي مع القطع بأنه
يخرج عنها بالمبادرة لأنه مأمور بأمر فلا يخرج عن عهدته
الا بيقين وهذا إنما تم إذا قطعنا بأن المبادرة خارج عن
العهدة وفيه ما سلف ثم أنه أيضا يرد في التكرار فيقال
للمستدل به يلزمك بهذه الطريقة أن تقول أن الأمر للتكرار
إلا أن تبين دليلا قائما على نفي التكرار بخصوصه.
فائدة: القبول في الوكالة بمعنى الرضا وعدم الرد معتبر بلا
خلاف ولا يجب فيه التعجيل بحال قال الرافعي ولو خرج على أن
الأمر هل يقتضي الفور لما بعد وأن شرطنا القبول باللفظ ففي
اشتراط الفور خلاف مشهور يتجه تخريجه على هذه القاعدة فيما
إذا كانت للصيغة صيغة أمر مثل بع واشتر وما أشبه ذلك.
قال: الفصل الثالث: في النواهي وفيه مسائل
الأولى النهي يقتضي التحريم
لقوله تعالى:
{وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
لم يذكر المصنف حد النهي لكونه معلوما من حد الأمر فكل ما
قيل في حد الأمر من تعريف ومختار فقد قيل مقابلة في النهي
وصيغة النهي عند القائلين:
ج / 2 ص -67-
بالصيغة ترد لسبعة محامل: التحريم مثل:
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ} والتنزيه مثل قوله عليه السلام:
"ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول" والدعاء:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا}
والإرشاد: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وبيان العاقبة:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً
بَلْ أَحْيَاءٌ}
والتحقير:
{لا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} واليأس:
{لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}.
والكلام أن صيغة النهي هل هي حقيقة التحريم أو الكراهة أن
مشتركة بينهما أو موقوفة على ما سبق في الأمر فالخلاف في
اكثر المسائل على وزان الخلاف في مقابلتها من مسائل النهي
والمآخذ كالمآخذ وقد سبق أن الأمر المجرد عن القرينة يقتضي
الوجوب فالمختار ان النهي المجرد عن القرينة يقتضي
التحريم.
واعلم أنه إذا ثبت أن الامر للوجوب والنهي نقيضه فلا يثبت
ان النهي للتحريم بل أنه ليس للوجوب لأن نقيض الوجوب لا
وجوب ولما كان في الرأي المختار زيادة وهو ان النهي
للتحريم استدل عليه بقوله تعالى:
{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ووجه الاحتجاج انه أمر بالانتهاء عن المنهى والأمر للوجوب فكان
الانتهاء عن المنهى واجبا وذلك هو المراد من قولنا النهي
للتحريم ولقائل أن يقول هذا أولا لا يتم إلا بعد تسليم أن
الأمر للوجوب وثانيا أن التحريم حينئذ لا يكون مستفادا من
صيغة النهي بل بما دل من خارج وهو قوله: {فَانْتَهُوا}
بل قد يقال لو كان النهي للتحريم لما احتيج إلى الأمر
باجتناب المنهي عنه فكان الأمر بذلك دليلا على أن التحريم
غير مكتسب منه وبهذا يظهر لك أن التحريم مستفاد من الشرع
لا من اللغة ولم ترد الصيغة المطلقة من حيث اللغة على تضمن
جزم الاقتضاء في الإنكفاف عن المنهي عنه كما قدمناه في
الأمر إذا قلنا الصيغة المطلقة تتضمن جزم الاقتضاء في
المأمور به وهذا هو مذهب إمام الحرمين الذي اخترناه كما
علمت ثم قال:
وهو كالأمر في التكرار والفور.
حكم النهي حكم الأمر في عدم دلالته على التكرار وعلى الفور
وقد اختار
ج / 2 ص -68-
الإمام
أن النهي لا يقتضي التكرار مع قوله في مسألة الفور أن
النهي يقتضه وإبهامه عدم الخلاف فيه ولذلك وقع للمصنف كما
نبهنا عليه واستدل الإمام على أن النهي لا يقتضي التكرار
بأنه يرد للمرة كقول الطبيب للمريض الذي يشرب الدواء لا
تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة ويرد للتكرار
مثل:
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}
فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك وأما الآمدي فإنه قال
اتفق العقلاء على أن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهى عنه
وإنما خلافا لبعض الشاذين وزعم ابن برهان كما نقله عنه
الاصفهاني انعقاد الاجماع عليه وهذا ما جزم به الشيخ أبو
اسحاق في شرح اللمع وهو المختار عند ابن الحاجب ونحن نوافق
القائلين بأنه التكرار في المعنى دون العبارة فتقول إذا
قلت مثلا لا تضرب فلا ريب أنك منعت المكلف من إدخال ماهية
الضرب في الوجود ولا يحصل ذلك إلا بالإمتناع عن إدخال كل
الأفراد ولا يتحقق الإمتثال إلا بالإمتناع فكان التكرار من
لوازم الإمتثال لا من مدلول اللفظ وينبغي أن يرد كلام
القائل أنه يقتضي التكرار إلى ما قررناه وما استدل به
الإمام مردود لأن قول الطبيب للمريض لا تأكل اللحم ولا
تشرب الماء إنما جاء فيه التكرار لقرينة المرض والكلام في
النهي المجرد وكان يمكننا أن نحمل كلام الإمام على ما
قررناه لولا الإستدلال بهذا ثم إن المصنف اختار ان النهي
لا يقتضي الفور جريا على قاعدته ونحن لا نختار ذلك إذ من
ضرورات ما قررناه وجوب الترك على الفور.
قال: الثانية النهي شرعا يدل على الفساد في
العبارات
لأن المنهي
بعينه لا يكون مأمورا به وفي المعاملات إذا رجح إلى نفس
العقد أو أمر داخل فيه أو لازم له كبيع الحصاة والملاقيح
والربا لأن الأولين تمسكوا على فساد الربا بمجرد النهي من
غير نكير وإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا.
هذه المسألة في النهي عن الشيء هل يدل على فساده وقد
اختلفوا فيه على مذاهب.
أحدها: أنه يدل عليه مطلقا قال الأصفهاني ونقله أبو بكر بن
فورك الأصبهاني عن أكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة.
ج / 2 ص -69-
قلت:
ونقله القاضي في التخليص لإمام الحرمين عن الجمهور من
أصحاب الشافعي ومالك وأبى حنيفة وأهل الظاهر وطائفة من
المتكلمين وقال ابن السمعاني أنه الظاهر من مذهب الشافعي
وأن عليه اكثر الأصحاب.
والثاني: أنه لا يدل عليه ونقله في مختصر
التقريب عن جمهور المتكلمين والامام عن اكثر الفقهاء قال
الشيخ أبو اسحاق وللشافعي كلام يدل عليه.
والثالث: أنه يدل على الفساد في العبادات
دون المعاملات وهو مذهب أبي الحسين واختاره الإمام وبعض
اتباعه.
والرابع: أن النهي إن كان يختص بالمنهي
عنه كالصلاة في السترة النجسة دل على فساده وإن كان لا
يختص بالمنهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير
والبيع وقت النداء فلا يدل على الفساد حكاه الشيخ أبو
اسحاق في شرح اللمع عن بعض أصحابنا.
والخامس: وهو اختيار المصنف واليه يرجع س
م جمع من المحققين أنه يدل على فساده في العبادات سواء نهى
عنها لعينها أم لأمر قارئها لأن الشيء الواحد يمتنع أن
يكون مأمورا به منهيا عنه كالصلاة المنهي عنها مثلا فإنها
لو صحت لوقعت مأمورا بها أمر ندب لعموم الدلائل الطالبة
للعبادات والآمر بها يقتضي طلب فعلها والنهي عنها يقتضي
طلب تركها والجمع بينهما غير ممكن وأما المعاملات فالنهي
أما أن يرجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو خارج
عنه لازم له أو إلى أمر مقارن غير لازم له هذه أقسام.
أولها: بأن يرجع إلى العقد فيبطل أيضا
وذلك كبيع الحصاة وهو أن قول: بعتك من هذه الأثواب مما
وقعت عليه الحصاة التي أرميها أو بعتك هذه الأرض من هنا ما
انتهت إليه هذه الحصاة وقيل بيع الحصاة أن يقول بيعك على
أنك بالخيار إلى أن ارمي الحصاة وقيل أن يجعلا نفس الرمي
بيعا فتقول إذا رميت هذه الحصاة فهذا التوكل مبيع بنك بكذا
وعلى الصور كلها البيع باطل.
وثانيها: أن يرجع إلى أمر داخل فيه فيبطل
أيضا وذلك كبيع الملاقيح وهي ما في بطون الأمهات من الأجنة
فإن النهي راجع إلى نفس المبيع الذي
ج / 2 ص -70-
هو ركن
من أركان العقد والركن داخل في الماهية فيكون راجعا إلى
أمر داخل في الماهية.
وثالثها: أن يرجع إلى أمر خارج عنه لازم
له فيفسد أيضا وذلك كالربا فإن النهي فيه راجع إلى أمر
خارج عن العقد أما في ربا النسيئة والتفوق قبل التقابض
فكون النهي فيه لمعنى خارج ظاهر وأما في ربا الفضل فلأن
النهي عن بيع درهم بدرهمين إنما هو للزيادة وهو معنى خارج
عن نفس العقد لأن المعقود عليه من حيث هو قال للبيع وكونه
زائدا أم ناقصا من جملة أوصافه واحتج المصنف على أنه يدل
على الفساد بأن الأولين تمسكوا على فساد الربا بمجرد النهي
من غير تكبر عليهم من أحد فكان ذلك إجماعا ولك أن تقول هذا
سكوتي وليس عند المصنف بإجماع ولا حجة فكيف يستقيم منه
الإحتجاج به.
ورابعها: أن يرجع إلى أمر مقارن للعقد غير
لازم له في جميع الصور وذلك كالنهي عن البيع وقت نداء
الجمعة فإنه راجع إلى أمر خارج عن العقد وهو تفويت صلاة
الجمعة لا لخصوص البيع بدليل أن جميع الأعمال المفوتة
للصلاة كذلك والتفويت أمر مقارن غير لازم فهذا القسم لا
يدل على الفساد فقد عرفت أن جميع الاقسام سوى هذا عند
المصنف تدل على الفساد اختلفوا فمن قائل يدل شرعا لا لغة
وهو اختيار المصنف حيث قال يدل شرعا فافهم ذلك لكن دليله
هذا الذي قررناه إنما يدل على الفساد من حيث هو وأما كونه
من جهة الشرع فلا يدل وقال قوم يدل لغة وقال ابن السمعاني
وأما القائلون بأنه لا يدل على الفساد فافترقوا فمن قائل
يدل على الصحة ونقله أبو زيد عن أبي حنيفة ومحمد ومن قائل
لا يدل وقوله في الكتاب بعينه هو بالباء الموحدة من تحت أي
بنفسه وهو متعلق بيكون والله اعلم.
قال: الثالثة: مقتضى النهي فعل الضد
لأن العدم غير مقدور وقال: أبو هاشم: من دعي إلى زنا فلم
يفعل مدح قلنا: المدح على الكف.
هذه المسألة في بيان مقتضى النهي فالمطلوب عندنا بالنهي
فعل ضد المنهى عنه فإذا قال لا يتحرك فمعناه ما يضاد
الحركة وعند أبي هاشم هو نفس أن
ج / 2 ص -71-
لا
تفعل وهو عدم الحركة في هذا المثال وقد وافقه بعض
المتكلمين وتقله التبريزي عن الغزالي وأما قول إمام
الحرمين في الرد على الكعبي في مسألة المباح الفرض من
النهي عن الزنا أن لا يكون ضد من أضداده فلا ينبغي أن يفهم
منه موافقة أبي هاشم بل هو حق لا شك فيه والفرق بينه وبين
رأي أبي هاشم أن قولها الفرض يعني به المقصود من التكليف
ولم يقل انه المكلف به كما قال أبو هاشم والمكلف به هو
المحصل لذلك الغرض فالغرض هو غاية الشيء الذي طلب لأجلها
واحتج المصنف على ما ذهب إليه بأن النهي تكليف والتكليف
إنما يرد بما كان مقدورا للمكلف والعدم الأصلي يمتنع أن
يكون مقدورا للمكلف وذلك لأن المقدور ما للقدرة فيه تأثير
ما والعدم الصرف يستحيل أن يكون أثرا للقدرة وبتقدير ان
يكون العدم أثرا يمكن إسناده إلى القدرة لكن العدم الأصلي
لا يمكن إسناده إلى القدرة لان الحاصل لا يمكن تحصيله
ثانيا وإذا تقرر هذا فمتعلق النهي أمر وجودي ينافي المنهي
عنه وهو المطلوب وهذا الدليل متوقف على قاعدة وهي ان
اللغات لم يوضع الطلب فيها الا للمقدور دون المعجوز عنه
ونحن وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق فإنما نقول به في
أحكام الربوبية لا في الموضوعات اللغوية لتحصيل المقاصد
العادية والمحال لا يحصل عادة واعترض على هذا الدليل بأنكم
ان عنيتم بالقدرة ماله اثر يستند ذلك إليه فلا نسلم ان
التكليف يعتمد هذه القدرة بل ذلك من الفعل واما في الترك
فلا وان عنيتم بالقدرة ما يجده من نفسه كل أحد وهو ان سليم
الأعضاء القوي يدرك من نفسه انه متى أراد الفعل فعل ومتى
أراد الترك ترك ويجد من نفسه التمكن فنحن نسلم ذلك ونمنع
انه غير قادر بهذا الاعتبار واعترض أيضا بأن ترك الزنا
مثلا ليس بعد محض وانما هو عدم مضاف فيكون مقدورا واحتج
أبو هاشم بأن من دعي إلى الزنا فلم يفعله فان العقلاء
يمدحونه على أنه لم يزن من غير ان يخطر ببالهم فعل ضد
الزنا فعلمنا أن هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف
وأجاب المصنف بأن المدح ليس على شيء لا يكون في وسعه
والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه وطاقته كما عرفت
وإنما يمدح على كفه عن ذلك الفعل وذلك الكف أمر
ج / 2 ص -72-
وجودي
وهو فعل ضد الزنا وإلى هذا أشار بقوله قلنا على الكف أي
المدح على فعل الكف هذا شرح ما ذكره ونختم المسألة
بفائدتين.
أحدهما: فقد عرفت ان الكف فعل على المختار
وفي فروع الطلاق عن الرافعي عن القفال لو قال ان فعلت ما
ليس لله فيه رضى فأنت طالق فتركت صلاة أو صوما لا تطلق
لأنه ينبغي أنه ترك وليس بفعل فلو سرقت أو زنت طلقت
الثانية وهي المقصود الأهم قد يقال ما الفرق بين هذه
المسألة التي انتهينا منها وبين المسألة المتقدمة في أن
النهي عن الشيء هل هو أمر بقصده وتقرير السؤال أنك قد علمت
أن الجمهور قالوا المطلوب بالنهي فعل عند المنهى عنه أي
الكف عنه وقال أبو هاشم إغفاء الفعل واختلفوا أيضا في
النهي عن الشيء هل هو أمر بضده كما سلف في مكانه فإذا قيل
معنى قولنا النهي عن الشيء أمر بضده هو ان مطلوب النهي فعل
الضد وهو أحد القولين في المسالة الأولى ومعنى انه ليس
أمرا بضده هو ان المطلوب انتقاء المنهي عنه وهو القول
الثاني فالمسألتان حينئذ واحدة وإلا فما الفرق قلنا قد كنا
وعدنا في الكلام على تلك المسألة بالجواب عن هذا السؤال
ضيق المحل هناك عما لورده هنا وقد أجيب بأوجه.
أحدها: أن الكلام في تلك المسألة بحث لفظي
وفي هذه معنوي ذكره الأصفهاني في شارح المحصول.
والثاني: أن قولنا: النهي عن الشيء أمر
بضده بحث في المتعلقات بكسر اللام فإن النهي فنعلق بالمنهي
عنه والأمر متعلق بأمور وقولنا المطلوب بالنهي فعل ضد
المنهي عنه بحث في المتعلقات بفتح اللام.
والثالث: أن البحث في تلك المسألة في
دلالة الالتزام على المنهى عنه فتقول متى نهى عن الشيء
مطابقة دلت على طلب ضده التزاما والبحث في هذه في دلالة
المطابقة ما مدلولها المطابق هل العدم أو هذه ذكرهما
القرافي.
وأعلم أنه قد وقع النظر في هذا السؤال وهذه الأجوبة عندي
غير مرة
ج / 2 ص -73-
وطال
الحجاج والذي قلته انا في مفرق أنه إذا انهي عن شيء كالزنا
مثلا فهناك ثلاثة أمور.
أحدها: انتفاء الزنا.
والثاني: الكف.
والثالث: فعل عند من أضداده لا يتم الكف
أو الانتفاء الا به كالوطىء المباح أو غيره مما لا يجامع
الزنا في آن واحد إذا تقرر ذلك فنقول كون المطلوب في النهي
أو الانتفاء هو مسالة أبي هاشم والخلاف فيها قد ينبني على
أن شرط المطلوب الإمكان أم لا وعلى ان الانتفاء مقدور أم
لا وهما مسألتان مختلف فيهما فان قلنا ليس من شرط المطلوب
الإمكان جاز أن يكون متعلق النهي الانتفاء كرأي أبى هاشم
وان قلنا شرط التكليف الإمكان وان الانتفاء مقدور فكذلك
ايضا وإلا يقين ان يكون المطلوب في النهي هو الكف.
واما كون النهي يقتضي الامر بضده أو فمعناه ان طلب الكف عن
المنهي عنه أو طلب انتفائه على اختلاف القولين:
هل يستلزم الأمر بضده الذي لا يتم الكف أو الانتفاء الا به
كما لوطيء المباح مثلا أم لا وهذه هي المسالة الأخرى
والخلاف فيها مبني على ان ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب لا على ما أثبتت عليه المسألة الأولى فالمسالتان
مختلفتان ليست إحداهما عين الأخرى ولا مستلزمه لها ليس
القولان القولين فإن القائلين بأن مطلوب أمر بالضد الذي هو
لا يتم الكف الا به أمر وكذلك القائلون بان مطلوب النهي
الذي انتفاء الفعل ويمكن ان يخلفوا في ان طلب الانتفاء هل
هو أمر بالضد الذي لا يتم انتفاء الفعل الا به هذا فرعنا
على ان النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده.
أما إذا فرعنا على ان النهي نفس الأمر بالضد وأريد بالضد
الكف أو الانتفاء فهي غيرها ايضا لان خلاف مسالة أبى هاشم
هو في ان مطلوب النهي هل هو الكف أو الانتفاء وخلاف هذه في
ان هذا النهي الذي هو طلب الانتفاء أو الكف أمر أم لا نعم
الخلاف في هذه على هذا التفريع مرتب على الخلاف في مسالة
أبى هاشم حتى إذا قلنا بمذهب أبى هاشم لم يكن النهي أمرا
ج / 2 ص -74-
بلا
خلاف لان الامر طلب فعل لا طلب انتفاء اتفاقا وإذا قلنا
بمذهب غير أبى هاشم أمكن الخلاف في ان النهي الذي هو طلب
الكف أمر بذلك الكف أم لا لأن الكف فعل لكن يلزم القائلين
بأن النهي أمر بالكف ان يكون النهي نوعا من الامر وان
فرعنا على ان النهي عن الشيء نفس الامر بضده لكن أريد
بالضد ما لا يتم الكف أو الانتفاء الا به كالوطء المباح
مثلا صارت المسألتان واحدة الا ان المبحوث عنه في مسألة
أبى هاشم هو ان مطلوب النهي الكف أو الانتفاء والمبحوث عنه
في ان مطلوب النهي فعل الضد الذي لا يتم الكف أو الانتفاء
الا به أم لا ويتلخص من البحثين ان في المسألة حينئذ ثلاثة
مذاهب:
أحدها: مذهب أبى هاشم:
الثاني: أن مطلوب النهي هو الكف:
الثالث: ان المقصود في النهي فعل ضد ليس
بكف ولا انتفاء والله اعلم.
ويتضح به ما قررناه من الفرق بأن الكف فعل اعم من جميع
الأضداد لأنه لا ضد الا وهو مشتمل على الكف فإذا قلنا في
هذه المسألة المطلوب بالنهي الكف أوردنا الضد الأعم.
وقولنا: في المسألة الأخرى النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده
المراد به الضد الخاص الذي لا يتم الكف أو الانتفاء إلا به
ويكون من نهى عن شيء حينئذ عند القائل بان النهي عن الشيء
أمر بضده مأمورا بشيئين اعم وأخص الكف وفعل يحصل في ضمنه
الكف فالمنهي عن الزنا مأمور بالكف عنه وبفعل يشتمل على
ذلك الكف ويلزم على ذلك الكف ويلزم على هذا ان يثاب على
شيئين الأعم والأخص لتعلق الأمر بهما وان يصح نذره فلو قال
لله على ان افعل فلا يضاد الزنا وهو الفعل الفعلاني وعين
فعلا لم يطلبه الشرع بخصوصه كالنوم مثلا لزمه الوفاء لكونه
مأمورا به في ضمن النهي عن الزنا هذا ما كنت اقرره في
الفرق ثم حضر عندي في الحلقة بعض الفضلاء وحصل البحث في
هذا الجواب وفي الأجوبة المتقدمة اعني جواب شارح وجواب
ج / 2 ص -75-
القرافي وأنها على هي صحيحة فكتبت أسأل والدي رحمه الله عن
السؤال من اصله وذكرت الأجوبة وانه هل يحصل الجواب بشيء
منها وهل يمكن ان يقال في الجواب هذا الوجه الرابع الذي
قررته وانه هل يمكن الاعتراض على هذا الجواب الرابع بأن
الكف على الزنا مثلا وإذا كان فعلا يغاير الزنا كان ضدا له
ويكون حينئذ أخص من مطلق ضده فلا يحسن.
أولا: هناك ثلاثة أمور الانتفاء والكف
وفعل الضد لان الكف حينئذ فعل ضد والمغايرة بينهما مغايرة
العام والخاص أو يقال الكف اعم لان كل فعل غاير الزنا فقد
اشتمل على الكف عن الزنا أو يقال هما متباينان وإذا لم
يثبت انهما متباينان وكانت مغايرتهما مغايرة العام والخاص
انقدح الاعتراض على هذا الجواب.
ثانيا: بأنهم في تلك المسألة قالوا النهي
عن الشيء أمر بأحد أضداده والكف الذي جعل مطلوب النهي في
هذه المسألة يصدق عليه انه أحد الأضداد فحصل الأمر انهم
قالوا هناك المطلوب واحد بهم من أمور متعددة وهي الاضطهاد
وهنا شخصوه في الكف المسؤول الجواب عن هذا كله والمسؤول
ايضا النظر في وجه الصواب في مسألة أبى هاشم هل هو معه أو
مع الجماهير فكتب احسن إليه ما نصه الخلاف بين الجمهور
وأبى هاشم فالجمهور على المطلوب بالنهي فعل عند المنهي عنه
وعند أبى هاشم نفس ان لا يفعل وما يضمنه آخر السؤال هل
الصواب معه أو مع الجماهير فالجواب ان قول الجمهور المطلوب
بالنهي فعل ضد النهى عنه ليس بجيد من حيث اللفظ وقد يكونه
الخلل في ذلك من جهة من عبر عنهم فإن النهي قسيم الأمر طلب
الفعل فلو كان النهي طلب فعل الضد لكان أمرا وكان النهي من
الأمر وقسم الشيء لا يكون قسيما منه ولا شك ان كل متلبس
بفعل هو تارك لضده وكل من الفعلين الفعل والترك يصح ان
يؤمر به وان ينهي عنده مثاله السفر والإقامة ضدان والتارك
للسفر متلبسين بالإقامة قبل الترك للسفر نفس الإقامة أو
معنى آخر فيه بحيث يشبه البحث في الحركة هل هي الحصول في
حيز مسبوق بالحصول في غيره أو هي نفس لانتقال من حين إلى
حين وفيه قولان للمتكلمين
ج / 2 ص -76-
وإن
كان كل منهما يلزم الآخر فمتى انتقل من حيز فقد حصل في
غيره ومتى حصل في غيره بعد حصوله فيه فقد انتقل بكل من
المحصولين أمر ثبوتي يمكن ان يعقل وحده والانتقال أمر نسبي
لا يعقل بينهما فكذلك المنهي عنه ارتكابه شيء لا يحتاج في
تصوره إلى غيره وفعل ضده شيء لا يحتاج في تصوره إلى غيره
والانتهاء شيء.
ثالثا: وهو عندي هو المطلوب بالنهي لا كما
قاله الجمهور ولا كما قاله أبو هاشم وعندي ان الجمهور إنما
أرادوا ما قلته ولكن العبارة عنهم لم نحرر فإذا قلت لا
تسافر فقد نهيته عن السفر وانهي يقتضي الانتهاء لأنه
مطاوعة نقول نهيته فانتهى والانتهاء هو الانصراف عن المنهى
عنه وهو الترك وهو الإنزجار المطاوع لزجر والإنكفاف وما
أشبه ذلك ولغة العرب تشهد لهذا والمعقول ايضا يشهد له
ويفرق في العقل وفي اللغة بين قولنا لا تسافر وبين قولنا
أقم وإن أقم أمر بالإقامة من حيث هي فقد لا يستحضر معها
السفر وان لا تسافر نهي وزجر عن السفر فمن أقام قاصدا ترك
السفر يقال فيه انتهى عن السفر ومن لم يخطر له السفر
بالكلية الا يقال له انتهى عن السفر لا ويقال له مقيم
والانتهاء أمر معقول وهو فعل ويصح التكليف به وكذلك في
جميع المناهي الشرعية كالزنا والسرقة الشرب ونحوها المقصود
في جميعها الانتهاء عن تلك الزوائل ولا يفهم في وضع اللسان
وتصور العقل غير ذلك ومن لازم ذلك الانتهاء التلبس بفعل ضد
أضداد المنهي عنه فالعبارة المحررة ان يقال ان المطلوب
بالنهي الانتهاء ويلزم من الانتهاء فعل ضد المنهي عنه ولا
يعكس فيقال المطلوب ضد المنهي عنه ويلزم به الانتهاء متقدم
في الرتبة في العقل على فعل الضد فكان معه كالسبب مع
المسبب فالكافر إذا اسلم فقد وجد منه ثلاثة أشياء كفره
أولا المنهى عنه ثم انتهاؤه عنه والترتيب بينهما في الزمان
تم تلبسه بالإيمان الترتيب بينه وبين الانتهاء عن الكفر
ليس في الزمان وانما هو في الرتبة ترتب المعلولية على
العلية وهما في زمان واحد كذلك الانتهاء وفعل الضد في زمان
واحد والانتهاء متقدم بالرتبة نقسم العلية عن المعلولية
على العلية وهما في زمان واحد كذلك الانتهاء وفعل الضد في
زمان واحد والانتهاء متقدم
ج / 2 ص -77-
بالرتبة تقدم العلية عن المعلولية حتى لو فرض ان الانتهاء
يحصل دون فعل الضد حصل المطلوب به ولم يكن حاجة إلى فعل
الضد لكن ذلك فرض غير ممكن وهذا المعنى حاصل في الأفعال
وكل ما يتلبس به الإنسان والمقصود بالذات هو الانتهاء واما
فعل الضد فلا يقصد الا بالالتزام بل قد لا يقصد أصلا ولا
يستحضره المتكلم ومتى قصد فعل الضد وطلبه من حيث هو كان
أمرا لا نهيا عن ضده ومتى أتى بصيغة أمر في مبنى الانتهاء
كقوله اترك فهذا لفظه لفظ أمر ومعناه معنى النهي وبينهما
فرق وهو انا قلنا ان الانتهاء له طرفان.
أحدهما: من جانب المنهي عنه.
والثاني: من جانب ضده الذي به يحصل الانتهاء فقوله لا نفعل
جانب المنهي عنه أقوى وقوله اترك الجانب الآخر فيه أقوى
ولا مانع أن يترجح أحد الجانبين على الآخر وان كانا جميعا
مقصودين أما إذا محض الأمر بهذا الضد أو بذلك فلا نهي
البتة وقد لا يستحضر معه الطرفان الآخر فعلى ما قلناه
ينبغي أن يجعل كلام الجمهور ومن عبر عنهم بتلك العبارة
فإما غير مقابل لمعناها ولها قصده تقريب المعاني إلى
الطالب المبتدي فان التعمق في المعاني يضر المبتدي ومن
آداب المعلم أن يربي الناس بصغار العلم قبل كباره واما قول
أبى هاشم أن المطلوب نفس أن نفعل فهو وان كان يبتدر إلى
الذهن في الأول لأن حرف النهي ورد على الفعل فقد طلب منه
عدمه لكن نفس أن لا يفعل عدم محض فلا يكلف به ولا يطلب
وانما يطلب من المكلف ماله قدرة على تحصيله فلعل مراد أبي
هاشم العدم الذي هو من الانتهاء والانتهاء فعل فان أراد
ذلك تقارب المذهبان ويكون الجمهور نظروا إلى حقيقة ما هو
مكلف به وأبو هاشم نظر إلى المقصود به وهو إعدام دخول
النهي عنه في الوجود وان لم يرد أبو هاشم ذلك أراد أن
العدم المحض الذي لا صنع للمكلف في تحصيله فهو باطل إذا
عرف هذا فقول خارج المحصول أن هذه المسالة لا يشتبه بأن
النهي عن الشيء أمر بضده لان الكلام في ذلك لفظي وفي هذه
معنوي ليس بجيد أما أولا فلأنه ليس الكلام في تلك لفظيا
فقط بل لفظيا ومعنويا وحقيقة
ج / 2 ص -78-
النهي
والأثر أمران نفسانيان يعبر عنهما بلفظ الكلام في حقائقهما
وأما ثانيا فلان الأمر بالشيء لفظا يقتضي أن المطلوب
المعنوي مأمور به على ما قال فيحصل الاشتباه واما الذي
قاله القرافي فالوجه الأول صحيح ولكنه لا يفيده بجواب ولا
شك أن المتعلق بكسر اللام غير المتعلق بفتحها والفرق
بينهما صوري ولا يلزم منه عدم تداخل إحدى المسالتين في
الأخرى.
وأما الوجه الثاني: فقوله أن النهي عن
الشيء أمر بضده التزاما صحيح وقوله المطلوب بالنهي فعل
الضد مطابقة ليس بصحيح لما قدمناه لكنه موافق لظاهر كلام
الأصوليين فحينئذ هذا الجواب الثاني من كلام القرافي ينبغي
أن يكون هو العمدة عل ظاهر كلام الأصوليين لكنا لا نوافق
عليه لما قدمناه فالمختار عنده في المسألتين أن الكلام في
الالتزام لا في المطابقة وحينئذ نقول وأقدم على زيادة في
بيان ما كنا فيه أن النفي له في اللغة معنيان.
أحدهما: فعل الفاعل النفي تقول نفيت الشيء
فانتفى وهذا هو اظهر المعنيين.
الثاني: نفس الإعفاء تقول: نفي الشيء هكذا
سمع من اللغة وعلى هذا المعنى الثاني يكون النفي والإثبات
نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ويكون المراد بالإثبات
الثبوت كما أن المراد بالنفي الانتفاء واما إذا أردت
بالنفي نفيك الشيء وبالإثبات إثباتك له فيكونان ضدين لا
نقيضين لأن قد لا تنفى ولا تثبت وهذا البحث ليس مما نحن
فيه ولكنه يحتاج إلى تصوره بحث آخر منه وهو العدم تارة
يكون عنده الشيء في نفسه من حيث هو هو من غير نظر إلى معدم
وتارة يكون عدما غير والعدمان في حقيقتهما سواء ولكن الأول
بلا فاعل والثاني بفاعل وفعل ضده كذلك فأبو هاشم يرى ان
المطلوب بالنهي الأول والجمهور يرون ان المطلوب بالنهي
الثاني والحق معهم لأنه الذي يصح به التكليف فالعدم من حيث
هو أمر وعدم الزنا من حيث هو أخص منه ولا فعل معه البته
وهو الذي يقول أبو هاشم انه مطلوب وعدم الزنا بفعل فاعل
وهو كف النفس عنه شيء ثالث أخص من الثاني أي هو أخص من
الأول وفيه أمران
ج / 2 ص -79-
أحدهما: طرف العدم.
والثاني: طرف الفعل المحصل له وهو من
الطرف الأول ليس بشيء لانه عدم ولا يكلف به من الطرف
الثاني ثبوت لذلك اطلقنا في كلامنا عليه اسم الشيء فيصح
التكليف به وهو مراد الجمهور وفعل الفاعل من حيث هو مع قطع
النظر عن العدم الحاصل به أمر رابع وهو أمر وجودي لا عدم
معه وهو الذي يراد غالبا بالضد فهذا هو المراد بقولنا
الامر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده أو بأحد
اضداده وإذا علمت هذه الاربعة فاعتبرها تجدها في سائر
الأمور فكل أمر لك إقبال عليه وانصراف عنه وتلبس بفعل غيره
وفي الانصراف عنه نسبتان والامام فخر الدين لما كان يرى ان
الحركة هي الحصول في الخبر الثاني لاجرام قال ان المطلوب
بالنهي فعل ضده ونخن نرى ان الحركة هي الانتقال من الخبر
الأول إلى الخبر الثاني لا جرام قلنا ان المطلوب بالنهي
الانتهاء وهو الانصراف عن المنهي عنه إلى غيره لا يقصد
غيره بل يقصد عدم الأول فإن فعل غيره قاصدا له الانتهاء
كان متمثلا وان فعل غير قاصد الانتهاء لم يكن ممتثلا ولكنه
لم يأثم لأنه لم يرتكب المنهى والمقصود هنا في الحقيقة
إنما هو عدم المنهى عنه ولو كان المقصود ان يضم إلى العدم
شيئا آخر لكان من لم يزن ولا قصد الامتثال ولا ونقول عدم
الذم بكونه عاملا عن النهي فإنا نعرضه فمن استحضر النهي
ولم يفعل المنهى عنه ولا قصد شيئا فإنه لا يذم ولا يحمد
وهذا يبين لنا الفرق بين تحريم الشيء وإيجاب الكف عنه فإن
إيجاب الكف عنه يقضي أنه لا يخرج عن العهدة إلا بتحصيل
الكف الذي من شرطه إقبال النفس عليه ثم كفها عنه وليس كذلك
وانما الفعل هو المحرم فلا يأثم الا به وقد أطلنا في ذلك
فلنرجع إلى غرضنا ونقول قولهم المطلوب بالنهي فعل ضد
المنهى عنه مرادهم به الضد العام وهو الانتهاء الحاصل
بواحد من اضداده المنهى عنه وقولهم النهي عن الشيء أمر
بضده قد بينوا انه بطريق الالتزام مرادهم به الضد الخاص
وهو أحد الأضداد الذي يحصل الانتهاء به وبغيره فان أرادوا
الضد العام لزم من كل من المسألتين الأخرى لكنه لا يكون
تكرارا فلا يكون مسألة واحدة بل هما
ج / 2 ص -80-
مسألتان وان لزم من معرفة حكم إحداهما معرفة حكم الأخرى
فلا يضرنا ذلك وانما يحسن السؤال لو كانوا وضعوا مسألة ان
النهي عن الشيء هل هو أمر بضده أو لا وليس ذلك في المحصول
وانما في المحصول ان الامر بالشيء هل هو نهي عن ضده وتكلم
غيره في النهي عن الشيء وهل هو أمر بضده فلو جعلنا مسألتين
مترجما عنهما ربما كان يرد السؤال ولكنا نعمل لذلك بل
نبهنا على هذا في أثناء مسألة ولا مانع ان ننبه في أثناء
مسالة على ما تضمنه مسألة أخرى ولا يقال انهما مسالة واحدة
متكررة والحاصل انه ان أريد بالضد الضد العام فالكف
والانتفاء ضد عام فيلزم مع إحدى المسألتين الأخرى ولكن
الإمام لم يضعها مسألتين فلا سؤال عليه وهذا التقرير هو
الحق وان أريد بالضد الخامس فيصح ما قاله السائل في قوله
هل يمكن أن يقال إلى آخره والحق المراد بالضد الضد العام
فر يمكن ان يقال وانما الجواب ما قاله القرافي في الوجه
الثاني من كلامه مع ما فيه مما قدمناه وأما القول إن نفس
النهي عن الشيء نفس الامر بضده فهو قول ضعيف وقول السائل
إنه يتلخص قول الثالث ان مقصود النهي فعل ضد ليس بكف ولا
انتفاء عجيب لان الكف أو الانتفاء أعم فكيف يوجد الأخص
بدونه وتصحيح كلام السائل في ذلك ان يقول ليس بكف فقط
وانتفاء فقط والله اعلم.
هذا آخر ما ذكره والدي أيده الله ولا ينبغي ان يمل التطويل
في هذه المسالة ففيه من الفوائد ما لا يوجد في سواه.
قال: الرابعة النهي عن أشياء إما عن الجمع كنكاح
الأختين أو عن الجميع كالزنا والسرقة.
النهي عن متعدد ولا أقول عن أشياء لأنها جمع قلة ثلاثة
والمثال الذي أورده في اثنين إما أن يكون نهيا عن الجمع
اعني الهيئة الاجتماعية دون المفرد ان على سبيل الانفراد
كالنهي عن نكاح الأختين وكالحرام المخبر عند الأشاعرة فانه
يجوز عندنا أن يحرم واحد لا يعنيه وخالفت المعتزلة وأما
ج / 2 ص -81-
عكسه
ولم يذكره في الكتاب ولا رأيت من ذكره ومثاله ما جاء في
الحديث الصحيح من النهي أن يلبس نعلا واحدا بل أما ان يلبس
نعلين أو ينزعهما فهذا نهي عن كل فرد يفيد عدم الاحتجاج
واما ان يكون نهيا عن الجمع أي عن كل واحد سواء كان مع
صاحبه ومنفردا وذلك كالزنا والسرقة والله اعلم. |