الإبهاج في شرح المنهاج ج / 2 ص -82-
الباب الثالث: في العموم والخصوص
الفصل الأول في العموم. العام لفظ يستغرق
جميع ما يصلح له بوضع واحد وفيه فصول الفصل الأول في
العموم العام لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد.
نفتح الباب بعد حمد الله تعالى بمقدمات ثم نلتفت إلى ما
ذكره.
المقدمة الأولى: العموم هو لغة الشمول وهو
من عوارض الألفاظ حقيقة بلا خلاف وأما المعاني فأتوا
وأبعدها انه لا يصدق عليها لا حقيقة ولا مجازا وثانيها أنه
يصدق عليها مجازا وهو المختار ونقله الآمدي عن الأكثرين
واختاره وثالثها وصححه ابن الحاجب ان يصدق عليها حقيقة
أيضا واحتج الأكثرون بأنه لو كان حقيقة لاطرد لكنه غير
مطرد بدليل المعاني الخاصة الواقعة في امتداد الإشارة
إليها كزيد وعمر فإنها لا توصف بحقيقة ولا مجاز واحتج من
قال يصدق عليه حقيقة بأن العموم هو شمول أمر واحد لمتعدد
وذلك موجود بعينه في المعنى نقول نظر عام وحاجة عامة وعم
المطر الأرض والأمير بالعطايا والاصل في الاطلاق الحقيقة
وأجيب بأن من لوازم العام ان يكون متحدا.
ويكون مع اتحاده يتناول أمورا متعددة من جهة واحدة والعطاء
الخاص لكل واحد من الناس غير الخاص بالآخر وكذلك المطر فإن
كل جزء اختص منه بجزء من الأرض لا وجود له بالنسبة إلى
الجزء الآخر منها وكذلك الكلام في النظر العام والحاجة
العامة وغاية الأمر تعارض الاشتراك والمجاز أولى من
الاشتراك لما مر.
ج / 2 ص -83-
المقدمة الثانية:
اصطلحوا على ان المعنى يقال له اعم وأخص واللفظ يقال
له:عام وخاص ووجه المناسبة ان اعم صيغة افعل التفضيل
والمعاني افضل من الألفاظ فخصت بصيغة افعل التفضيل قال
القرافي ومنهم من يقول فيهما عام وخاص ايضا.
المقدمة الثالثة: مدلول العموم كلية لا كل
ولا كلي وبيان يتوقف على معرفة الكل والكلي والكلية الجزء
الجزئية أما الكل فهو المجموع الذي لا يبقى بعده فرد
والحكم فيه كالخمسة مع العشرة فالجزء بعض الكل.
كقولنا:كل رجل يحمل الصخرة فهذا صادق.
وأما الكلي: فهو الذي يشترك في مفهومه كثيرون وان شئت قلت
القدر المشترك بين جميع الأفراد كمفهوم الحيوان في أنواعه
والإنسان في أنواعه فان الحيوان صادق على جميع أفراده
ويقابله الجزئي كزيد وحاصله ان الكلي مع قيد زائد وهو
تشخيصه فلك ان تقول: الكلي بعض الجزئي.
وأما الكلية: فهي التي يكون الحكم فيها على كل فرد فرد
بحيث لا يبقى فرد مثل قولنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالبا
فإنه يصدق باعتبار الكلية أي كل رجل على حدته يشبعه رغيفان
غالبا ولا يصدق باعتبار الكل أي المجموع من حيث هو مجموع
فانه لا يكفيه رغيفان ولا قناطير عديدة لأن الكل والكلية
يتدرج فيهما الأشخاص الحاضرة والماضية والمستقبلة وجميع ما
في مادة الإمكان وانما الفرق بينهما ان الكل يصدق من حيث
المجموع والكلية يصدق من حيث الجميع وفرق بين المجموع
والجميع فإن المجموع الحكم على الهيئة الاجتماعية لا على
الأفراد والجميع الحكم على كل فرد فرد ويقابلها الجزئية
وهي الحكم على أفراد حقيقة من غير تعيين كقولك بعض الحيوان
إنسان فالجزئية بعض الكلية إذا عرفت ذلك فمسمى العموم كلية
لا كل وإلا لتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت
حكمه لفرد من أفراده.
ج / 2 ص -84-
كما
عرفت فلا يصح الاستدلال به على ثبوت حكمه للفرد المعين في
النفي والنهي الا إذا كان معناه الكلية التي يحكم فيها على
كل فرد بحيث لا يبقى فرد كما عرفت وحينئذ يستدل بها على أي
فرد شئنا من الأفراد في النفي والنهي فإنما يختلف الحال
بين الكل والكلية في النفي والنهي لا في الامر وحين الثبوت
فمدلول العموم كلية لا كل لصحة الاستدلال به على ثبوت حكمه
لكل فرد من أفراده عند القائلين به اجماعا فإن قوله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ} دال
على تحريم قتل فرد من أفراد النفوس بالاجماع وليس معناه
ولا تقتلوا مجموع النفوس وإلا لم يدل على كل فرد فرد فلا
يكون عاصيا بقتل الواحد ألانه لم يقتل المجموع إذا تقرر
هذا فهنا سؤال قوي شغف به الشيخ أبو العباس القرافي وهو ان
دلالة العموم على كل فرد من أفراده نحو زيد المشترك مثلا
من المشتركين.
لا يمكن ان يكون بالمطابقة ولا بالتضمين ولا بالالتزام
وإذا بطل ان يدل لفظ العموم على زيد مطابقة وتضمنا
والتزاما بطل ان يدل لفظ العموم مطلقا لانحصار الدلالة في
الاقسام الثلاثة إنما قلنا لا يدل عليه بطريق المطابقة
لأنها دلالة اللفظ على مسماه بكماله ولفظ العموم لم يوضع
لزيد فقط حتى تكون الدلالة عليه مطابقة.
وإنما قلنا: لا يدل بالالتزام لان الدلالة الالتزام هي
دلالة اللفظ على لازم مسماه ولازم المسمى لا بد وان يكون
خارجا عن المسمى وزيد ليس بخارج عن مسمى العموم لأنه لو
خرج لخرج عمرو وخالد وحينئذ لا يبقى في المسمى شيء فدل على
انه لا يدل بالمطابقة ولا الالتزام وانما قلنا لا يدل
بالتضمي لان دلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء مسماه
والجزء إنما يصدق إذا كان المسمى كلا لأنه مقابلة ومدلول
لفظ العموم ليس كلا كما عرفت فلا يكون زيد جزءه فلا يدل
عليه تضمنا.
فتبين بطلان دلالة لفظ العموم على زيد بشيء من هذه الثلالة
والدلالات القاصرة فيها تبطل ان يدل لفظ العموم مطلقا وقد
سار هذا السؤال غورا ونجدا ولم أر من أجاب عنه الا الشيخ
شمس الدين الاصفهاني في شرح المحصول
ج / 2 ص -85-
فقال:
أنا حيث قلنا إن اللفظ إما أن يكون دالا بالمطابقة والتضمن
أو الالتزام فذلك في لفظ مفرد دال على معنى ليس ذلك المعنى
هو نسبة بين مفردين.
وذلك لإثباتي ههنا فلا ينبغي أن يطلب ذلك.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن قوله:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
في قوة جملة من القضايا وذلك لأن مدلوله اقتل هذا المشرك
واقتل هذا المشرك إلى آخر الأفراد وهذه الصيغ إذا اعتبرت
بجملتها فهي لا تدل على قتل زيد المشرك ولكنها تتضمن ما
يدل على قتل زيد المشرك لا بخصوص كونه زيدا بل بعموم كونه
فردا ضرورة تضمنه لقتل زيد المشرك فان من جملة هذه القضايا
وهي جزء من مجموع تلك القضايا فتكون دلالة هذه الصيغة على
وجهين قتل زيد المشرك لتضمنها ما يدل على ذلك الوجوب والذي
هو في ضمن ذلك المجموع هو دال على ذلك مطابقة قال فافهم
ذلك فانه من دقيق الكلام وليس ذلك من قبيل دلالة التضمن بل
هو من قبيل دلالة المطابقة.
فائدة: إذا ثبت ان مدلول صيغ العموم كلية لا كل فافهم ذلك
في الضمائر بأسرها وصيغ المجموع النكرات فإذا قال السيد
لعبيده لا تخرجوا ليس المراد لا يخرج كلكم من حيث هو كل بل
المراد بهذه الواو التي هي ضمير في اخرجوا كل واحد على
حالة وكذلك الخبر بالنفي مثل لا اغضب عليكم فالمراد ثبوت
الحكم لكل فرد مما دلت عليه هذه الكاف وكذلك جموع النكرات
فإذا قال لأكرمن رجالا اليوم فالمراد أكراما كل واحد واحد
مما دل عليه رجال ومنه قوله تعالى:
{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}
أي على كل واحد واحد بنفسه وليس المراد المجموع وإذا تقرر
ذلك فنقول إذا قال القائل اقتلوا زيدا فقد أمر كل فرد فرد
بقتل زيد لأن في اقتلوا ضميرا يعود على كل فرد فرد كما
قلناه وإذا عرفت هذا فهنا سؤال وتقريره في قوله مثلا:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عموما احدهما في المشركين.
والثاني: في المأمورين بقتلهم ودلالة العموم كلية كما عرفت
فيكون أمر كل فرد من المؤمنين بقتل كل فرد من المشركين
والفرد الواحد لا يقدر ان يقتل كل
ج / 2 ص -86-
فرد من
المشركين فيكون ذلك تكليفا بالمستحيل وهو غير واقع وقد قال
الاصفهاني شارح المحصول في جوابه ان هذا وان كان ظاهر
اللفظ الا ان العقل دل على خلافه فيحمل على الممكن دون
المستحيل قال والدي أيده الله وعندي ان السؤال لا يستحق
جوابا لان الفرد الواحد من المسلمين يقدر ان يقتل جميع
المشركين.
المقدمة الرابعة: المتأخرون أو من قال منهم زعموا ان العام
في الأشخاص مطلق باعتبار الأزمان والبقاع والأحوال
والمتعلقات وقالوا لا يدخلها العموم الا بصيغة وضعت لها
فإذا قال اقتلو المشركين عم كل مشرك بحيث لا ينفي فرد ولا
يعم الأحوال حتى يقتل في حال الهدنة والذمة ولا خصوص
المكان حتى يدل على المشركين في ارض الهند مثلا ولا الزمان
حتى يدل على يوم السبت أو الأحد مثلا وقد شغف الشيخ أبو
العباس القرافي بهذا البحث وظن انه يلزم من هذه القاعدة
انه لا يعمل بجميع العمومات في هذا الزمان لأنه قد عمل بها
في زمان ما والمطلق يخرج عن عهدته بالعمل به في صورة وقد
وافق على هذه القاعدة الآمدي فانه قال في الكلام على قول
الصحابي هل هو حجة جوابا عن الاحتجاج بقوله عليه السلام:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"
ما نصه الخبر الأول يعني هذا وان كان عاما في أشخاص
الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاهتداء به في كل ما
يقتدي فيه انتهى وردها جماعة منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق
العيد في شرح العمدة واستدل بحديث أبي أيوب لما قدم الشام
فوجد مراحيض قد بنيت قبل القبلة على ان أبا أيوب وهو من
أهل اللسان والشرح فهم المعموم في الأمكنة يعني فيكون
العام في الأشخاص عاما في الأمكنة على خلاف ما قرره
القرافي وهذا هو الذي اقتضاه كلام الإمام فانه قال في كتاب
القياس جوابا عن سؤال سائل قلنا لما كان أمرا بجميع
الاقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات والأقدح ذلك
في كونه متناولا لجميع الاقيسة وقد وقع لي مرة في التمسك
لردها بحديث ابن المعلى حيث دعاه النبي صلى الله عليه وسلم
وهو في الصلاة فلم يجبه فقال عليه الصلاة والسلام:
"ألم يقل الله"
الحديث فقد جعله صلى الله عليه وسلم عاما في الأحوال لأنه
احتج عليه بالآخر هو في حالة
ج / 2 ص -87-
الصلاة
لكن ظهر لي الآن ان العموم في الأحوال إنما جاء في هذه
الآية من صيغة إذا فإنها ظرف والأمر معلق بها وهي شرط ايضا
والمعلق على شرط يقتضي التكرار والظرف يشمل جميع الأوقات
ويلزمها الأحوال وقررت مرة أخرى ان هذه القاعدة إنما تنقدح
في سياق الإثبات كقوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} لا فيما إذا كان فعلا في سياق النفي كما لو قيل لا نقتل مسلما فإن
الفعل يدل على الزمان إذ هو أحد جزئيه وقد دخل عليه حرف
النفي فعمم كل زمان فصار العام في الأشخاص في سياق النفي
عاما في الأزمان لأن حكم الفعل حكم النكرة وهي في سياق
النفي للعموم والذي نقوله الآن في هذه القاعدة أنها حق لا
سبيل إلى المصادمة بمنعها ولكن ما جعله القرافي لازما
عليها غير مسلم له وذلك لان المقصود ان العام في الأشخاص
مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع بمعنى انه إذا عمل به في
الأشخاص في حالة ما في زمان ما في مكان ما لا يعمل به في
تلك الأشخاص مرة أخرى أما في أشخاص أخر فيعمل به لأنه لو
لم يعمل به لزم التخصيص في الأشخاص فالتوفية بعموم الأشخاص
ان لا يبقى شخص ما في أي زمان ومكان وحال الا حكم عليه
والتوفيه بإطلاق ان لا يتكرر ذلك الحكم فكل زان يجلد إذا
جلدناه لا نجلده مرة ثانية في مكان آخر أو زمان آخر أو
حالة أخرى الا إذا زنا مرة أخرى لان تكرر جلده لا دليل
عليه والفصل مطلق هذا ما قرره الإمام الجليل علاء الدين
الباجي ونقله عنه والدي أطال الله بقاءه في كتابه أحكام كل
وهو من انفس مختصراته.
قال وقال الباجي هذا معنى القاعدة وبه يظهر ان لا إشكال
عليها ولم يلزم من الاطلاق في شيء منع التعميم في غيره قلت
وغالب ظني أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإمام
ذكر هذا التقرير بعينه ثم قال الشيخ الإمام والدي أيده
الله وقد يعترض على هذا التقرير بان عدم تكرار الجلد مثلا
معلوم من كون الامر لا يقتضي التكرار وبان المطلق هو الحكم
والعام هو المحكوم عليه وهما غير ان فلا يصلح ان يكون ذلك
تأويلا لقولهم العام مطلق قال فينبغي ان يهذب هذا الجواب
ويجعل العموم والإطلاق في لفظ واحد بأن يقال المحكوم عليه
هو الزاني مثلا أو المشرك فيه أمران.
ج / 2 ص -88-
أحدهما: الشخص.
والثاني: الصفة كالزنا مثلا وأداة العموم لما دخلت عليه
أفادت عموم الشخص لا عموم الصفة والصفة باقية على إطلاقها
فهذا معنى قولهم العام في الأشخاص مطلق في الأحوال
والأزمنة والبقاع أي كل شخص حصل منه مطلق زنا حد وكل شخص
حصل منه مطلق شرك قتل بشرطه ورجع العموم والاطلاق إلى لفظة
واحدة باعتباره مدلوليها من الصفة والشخص المتصف بها فافهم
ذلك ثم انه مع هذا لا نقول كون الصفة مطلقة يحمل على بعض
مسماها لأنه يلزم منه إخراج بعض الأشخاص نعم لو حصل
استغراق الأشخاص لم يحافظ مع ذلك على عموم الصفة لا طلاقها
وهكذا الحديث الذي تمسك به الشيخ تقي الدين وهو قوله صلى
الله عليه وسلم:
"لا
تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول"
الاستقبال مطلق وبدخول النهي عليه صار عاما فكل استقبال
منهي عنه والاستقبال في الشام أو غيره لو أخرج لبطل العموم
فأدرجه في النهي من جهة إرادة العموم لا من جهة عموم
موضوعه.
المقدمة الخامسة: اتفقت النحاة على ان أربع صيغ من جموع
التكسير وان جموع السلامة مذكرا كان أو مؤنثا للعلة وهي
العشرة فما دونها وهي التي يجمعها قول الشاعر:
بأفعل وبأفعال وأفعلة
وفعلة يعرف الأدنى من العدد
وسالم الجمع أيضا داخل معها
فهذه الخمس فاحفظها ولا تزد
نحو أفلس وأحمال وأرغفة
وصبية ومسلمين ومسلمات.
واتفق الأصوليون القائلون بالعموم وهم اكثر حملة الشريعة
على ان صيغة المشركين وما شابهها للعموم وكذلك الأحمال
والأرغفة فقد يقال هذان فرقتان عظيمتان تنقل عن العرب وكل
واحدة نقلت عكس ما نقلته الأخرى فأين العموم الذي هو غير
متناهي الأفراد من العشرة فما دونها ولا سبيل إلى تكذيب كل
واحدة من هاتين الفرقتين العظيمتين فما وجه الجمع بين
كلاميهما والجواب ما ذكره امام الحرمين وقال انه الذي
استقر عليه نظره في
ج / 2 ص -89-
محاولة
الجمع بين مسالك الأئمة في ذلك وهو ان قول النحاة إنها
للعشرة فما دونها إنما هو فيما إذا كان الجمع منكرا نحو
مشركين وأحمال ونقل الاصوليين إنما هو حال التعريف بالألف
واللام فإنه حينئذ يعم كل جمع وذلك بمنزلة رجل المنكر فإنه
للواحد من بني آدم وبالتعريف يعم كل فرد واما الجمع حال
التنكير فلا يقول فيه بالتعميم الا من شذ كالجبائي أو ممن
حمل المشترك على معنييه وجعل ذلك من باب العموم فالسؤال
عليه منقدح يحتاج إلى جواب.
ولقائل ان يقول: الفقهاء على أن من أقر بدراهم قبل منه
تفسيرها بثلاثة وهي جمع كثرة واقله باتفاق النحاة أحد عشر
فما الجمع بين الكلامين اللهم الا ان يدعي الفقيه ان العرف
شاع في إطلاق دراهم على ثلاثة واشتهر فصار حقيقة عرفية وهي
مقدمة على اللغوية ولا يكفيه ان يقول إطلاق جمع الكثرة على
القلة يصح مجازا والاصل برآة عما زاد فقبلناه تفسيره
بثلاثة لذلك لانا نقول لا يقبل من اللافظ بحقائق الالفاظ
في الأقارير التفسير بالمجاز الا ترى ان من أقر بأفلس لا
يقبل منه التفسير بفلس واحد وإن صح إطلاق الجمع على الواحد
مجازا.
المقدمة السادسة: دلالة العموم قطعية عند
جماعة وظنية عند آخرين.
واشتهر قول الشافعي: إنها ظنية.
وقال إمام الحرمين: في أوائل العموم الذي صح عندي من مذهب
الشافعي ان الصيغ العامة لو صح تجردها عن القرائن لكانت
نصا في الاستغراق وانما التردد فيما عدا الأقل من جهة عدم
القطع بانتفاء القرائن المخصصة وكذلك ذكر الكيال في تعليقه
في الأصول وقد نجز ما قصدنا إيراده من المقدمات فلنلتفت
إلى شرح الحد الذي اورده في الكتاب فنقول قوله لفظ جنس
ويؤخذ من التعبير به ان العموم عنده من عوارض الالفاظ فقط.
فإن قلت: فقد نص بعد ذلك على جواز تخصيص العلة والمفهوم
والتخصيص فرع العموم.
ج / 2 ص -90-
قلت:
أجاب الإسفرايني شارح الكتاب بأنه أطلق العموم هناك على
سبيل المجاز وكلامه هنا في مدلوله الحقيقي وقوله يستغرق
فصل يخرج به النكرة في سياق الاثبات سواء كانت مفردة كرجل
أو مثناة كرجلين أو مجموعة كرجال أو عددا لخمسة فإنها لا
تستغرق جميع ما يصلح له وانما تتناوله على سبيل البدل قلنا
عمومان عموم استغراق وهو الذي تتكلم في تعريفه وعموم بدل
كما ذكرناه يصدق على كل واحد بطريق البدلية وخرج بهذا
الفصل ايضا المطلق فإنه لا يدل على شيء من الأفراد فضلا عن
ان يستغرقها وقوله جميع ما يصلح له احترازا عن ما لا يصلح
فإن عدم استغراق ما لمن يعقل إنما هو لعدم صلاحيتها له
اعني لعدم صدقها عليه وقوله بوضع واحد احتراز عن اللفظ
المشترك وماله حقيقة ومجاز وتقرير ذلك ان العين وضعت مرة
للباصرة وأخرى للذهب فهي صالحة لهما فإذا قال رأيت العيون
وأراد الباصرة دون الذهب أو عكسه فإنها لم تستغرق جميع ما
يصلح لها مع كونها عامة لان الشرط هو استغراق الأفراد
الخاصة من شخص واحد وقد وجدوا الذي لم يدخل فيها هو افراد
وضع آخر فلا يضر وما له حقيقة ومجاز يعمل فيه هذا العمل
فالمقصود بهذا القيد إدخال بعض الأفراد فالإخراج هكذا قرره
الاسفرايني شارح هذا الكتاب وهو تقرير حسن اجتنب غيره هذا
شرح الحد وقد أورد عليه أمورا:
أحدها: انه اخذ فيه لفظه جميع وكذلك لفظة ما وهما من جملة
المعرف واخذ المعرف قيدا في المعرف باطل أورده الاصفهاني
وادعى ان جوابه متعذر.
والثاني: ان الاستغراق هو العموم والمستغرق والعام لفظان
مترادفان فلا يحصل بما ذكره الا تعريف لفظي وهو تبديل لفظ
بلفظ آخر وليس ذلك بتعريف حقيقي لا حدى ولا رسمي واجيب عنه
بانا لا نسلم ترادف العموم والاستغراق فان العموم لغة هو
الشمول والشمول والاستغراق غير مترادفين وان اشتركا في بعض
اللوازم سلمنا لكن يجوز تعريف العام المصطلح عليه
بالمستغرق اللغوي وحينئذ فهما غير مترادفين لان الكلام في
معنى المستغرق
ج / 2 ص -91-
لغة
وفي معنى العام اصطلاحا.
والثالث: انه ينتقض بالفعل الذي ذكر معه
مفعولا به كقولنا ضرب زيد عمرا فإنه لفظ يستغرق جميع ما
يصلح له وليس بعام وهذا ضعيف جدا لأنه لم يستغرق جميع ما
يصلح له إذ ليس شاملا لجميع أنواع الضرب الصادر من زيد
الواقع على عمرو وانما دل على مطلق صدور ضرب من زيد ووقوعه
على عمرو.
والرابع: انه ينتقض بأسماء الأعداد لان
لفظ المئة لفظ مستغرق لجميع ما يصلح وهو أفراد العدد وليس
بعام.
واجيب عنه بأن قولنا ما يصلح له يدفعه فان لفظ المائة لا
يتناول الا بعض ما صلح له و هو المئة الواحدة ليس متناولا
لكل واحدا من أفراد المئتين على سبيل الاستغراق.
والخامس: ان مراده بقوله المستغرق لفظ
العموم بلا شك وهو غير جائز لان لفظ العموم لا يصلح لواحد
واحد من آحاده فانه لم يوضع لواحد ولا لاثنين وانما يصلح
للجميع أورده النقشواني قال الاصفهاني وهو مندفع بتفسير
الصلاحية فمن أورده لم يفهم معناها فانه ليس المراد
بالصلاحية الا ان الرجال يصلح لأفراد هذا الصنف ولا يصلح
لغيرهم والله اعلم.
قال: وفيه مسائل:الأولى: أن لكل شيء حقيقة هو بها هو فالدال عليها المطلق وعليها بوحدة
معينة المعرفة وغير معينة النكرة ومع وحدات معدودة العدد
مع كل جزئيها العام.
هذه المسالة في الفرق بين العام والمطلق والنكرة والمعرفة
والعدد فنقول لكل شيء حقيقة بها هو وهو تلك الحقيقة مغايرة
لكل ما عداها من الأمور اللازمة لها والمفارقة كالإنسانية
فإنها من حيث هي حقيقة مغايرة للوحدة والكثرة وإن لم تنقل
عن أحدهما إذا عرفت هذا فاللفظ الدال على تلك الحقيقة
ج / 2 ص -92-
من حيث
هي من غير اعتبار من عارض عوارضها هو المطلق كقولنا الرجل
خير من المرأة والدال على تلك الحقيقة مع وحدة معينة شخصية
أو نوعية أو جنسية المعرفة والدال عليها مع وحدة غير معينة
النكرة مثل رأيت رجلا والدال عليها مع وحدات أي مع كثرة
أما ان تكون تلك الكثرة معدودة أي محصورة أولا فان كانت
محصورة فهي العدد كمائة وعشرة وان لم تكن معدودة بل
استوعبت جميع جزئيات تلك الحقيقة فهو العام كالرجال
والمسلمين وقد عرفت من هذا التقسيم الفرق بين المطلق
والنكرة ومن الناس من زعم انه لا فرق بينهما وعليه جرى
الآمدي وهذا التقسيم فيه مناقشات.
أحدها: أنه غير حاصل وذلك لان الماهية على
ثلاثة أقسام ماهية بلا شرط شيء وهي المطلقة وماهية الشرط
لا شيء وهي المجردة عن جميع الأعراض واللواحق كالوحدة
والكثرة وغيرهما والتقسيم المذكور لا يشمل إلا الماهية
المطلقة وأهمل الآخرتين.
والثاني: أنه يقتضي وقوع التماثل بين
العدد والمعرفة والعام أي لا يصدق احدهما على الآخر لأن
هذا شأن التقسيم وليس كذلك فان العام قد يكون معرفة
كالرجالة وقد يكون نكرة نحو كل رجل والعدد قد يكون معرفة
نحو الخمسة أو نكرة كخمسة.
الثالث: انه اعتبر الوحدة في مدلول
المعرفة ومدلول النكرة وذلك يوجب خروج نحو الرجلين والرجال
عن حد المعرفة لأنه اعتبر الأحدة فيها وهذا متعدد وهو باطل
ويوجب خروج نحو رجلين ورجال عن حد النكرة وهو باطل.
ج / 2 ص -93-
قال الثانية: العموم إما لغة بنفسه كأي للكل ومن للعالمين
وما لغيرهم وأين للمكان ومتى للزمان.
الذي يفيد
العموم إما أن يفيده من جهة اللغة أو العرف أو العقل.
القسم الأول: المفيد لغة وهو على ضربين لأنه أما ان يدل
عليه بنفسه لكونه موضوعا له أو بواسطة اقتران قرينة به
الضرب الأول ما يدل عليه بنفسه وهو نوعان لأنه إما أن يكون
شاملا للكل أي لجميع المفهومات أو لا يكون.
ج / 2 ص -94-
معرفة
نحو هات ما رأيت فيفيد العموم فيما عدا العالمين من الزمان
والمكان والجماد والذات وقد تتناول أولى العلم ايضا.
الثاني: ان يختص عمومه ببعضهم فأما ان يختص بالأمكنة نحو
ان تجلس اجلس ومنه حيث وأني أو بالأزمنة متى تقول متى تقم
أقم.
فإن قلت قد جعلتم هذه الصيغ للعموم في الأصول وخالفتم ذلك
في الفروع بدليل ان من قال لامرأته متى قمت أو حيث أراني
قمت فأنت طالق لا يقع عليه الا واحدة ويقتضي ما قررتم
تكرار الوقوع بتكرار القيام كما لو قال كلما قلت ليس من
لازم العموم التكرار في كلما فلخصوصية كل لدلالتها على كل
فرد فيتعلق به الحكم وليس ذلك في شيء من صيغ العموم غيرها
وهنا مهمات نبه عليها والدي رحمه الله في كتابه الموضوع في
أحكام كل وهو كتاب جليل ونحن نورد هنا مما يتعلق به صيغة
الأصول منها ما يتهذب به النظر فتقول أطلق الأصوليون هذه
الصيغ وأن مدلولها كل فرد فأما كل فلا يدخل الا على ذي
جزئيات وأجزاء ومدلولها في الموضعين الإحاطة بكل فرد من
الجزئيات أو الأجزاء أو قد تضاف لفظا إلى نكره مثل:
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}1
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
وَنُخْرِجُ لَهُ}2 وقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
وقال كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وان طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
ومعنى العموم في هذا القسم كل فرد لا المجموع وكل لا
دلالة لها الا على كل فرد وهي نص في كل فرد مما دلت عليه
تلك النكرة مفردا كان أو تثنية أو جمعا ويكون الاستغراق
للجزئيات بمعنى ان الحكم لكل جزء من جزئيات النكرة وقد
يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما كقولنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطور الآية 52.
2 سورة الإسراء آية 13.
ج / 2 ص -95-
كل
مشرك مقتول وقد لا يلزم كقولنا كل رجل يشبعه رغيف وكلا
الأمرين ليس من لفظ كل بل يظهر ذلك من معنى الكلام وقد
يضاف كل لفظ إلى معرفة لقوله تعالى:
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}1 وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه: "يا عبادي كلكم جائع الا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم
عار الا من كسوته فاستكسوني اكسكم" وكلام اكثر الأصوليين يقتضي ان كلا في هذه الحالة مثلها حالة
الإضافة إلى نكرة في الدلالة على كل فرد واقتضى كلام بعض
الاصوليين وابن مالك من النحاة ان مدلولها في هذه الحالة
المجموع قال الشيخ الإمام والدي أطال الله بقاه والذي يظهر
أنها إذا أضيفت إلى معرفة فإن كان مفردا كانت لاستغراق
أجزائه ويلزم منه المجموع ولذلك يصدق قولنا كل رمان مأكول
ولا يصدق كل الرمان مأكول لدخول قشره وبعبارة أخرى يصدق كل
رجل مضروب إذا ضربت كلما واحد ضربا ما ولا يصدق كل الرجل
مضروب الا إذا أضربت جميع أجزائه وان كانت المعرفة المضاف
إليها جمعا احتمل ان يراد المجموع كما في قولنا كلكم بينكم
درهم وان يراد كل فرد كقوله صلى الله عليه وسلم:
"كلكم راع"
ولذلك فصله بعد ذلك فقال لسلطان راع والرجل راع والمرأة
راعية والاحتمال الثاني: اكثر فيحمل عليه عند الإمكان ولا
يعدل الأول الا بقرينة ومن أمثلة بعض الاصوليين كل أعضاء
البدن حيوان والمراد المجموع كما في كلكم بينكم درهم وهذا
يحتاج إلى سماع من العرب لكن كلام النحو بين منطبق عليه
قال ابن السراج يقول ان خيرهم كلهم زيد وان لي قبلكم كلكم
خمسين درهما والمراد الجمع لا كل فرد.
واعلم انك إذا اثبت حكما لجزء أو أجزاء ثم أخذت جملة من
تلك الأجزاء أو الجزئيات لا يلزم ان يثبت لها ذلك الحكم بل
قد يثبت بحسب ما يدل عليه الدليل إذا أدخلت كلا على ما فيه
الألف واللام وأريد الحكم على كل فرد فهل نقول ان الألف
واللام هنا يفيد العموم وكل تأكيدها أو أنها هنا لبيان
الحقيقة حتى يكون ناسيا كل من الأمرين محتمل قال الشيخ
الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم الآية 95.
ج / 2 ص -96-
والدي
أعزه الله وقد يقال بأن الألف واللام تفيد العموم في مراتب
ما دخلت عليه وكل تفيد العموم في أجزاء كل من المراتب.
فإذا قلت كل الرجال أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة
من مراتب الرجل وأفادت كل استغراق الا آحاد فيصير لكل
منهما معنى وهو أولى من التأكيد ومن هنا يظهر أنها لا تدخل
على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما
العموم.
فإن قلت: فقوله صلى الله عليه وسلم:
"كل ذلك لم يكن" هل
يفيد نفي كل واحد والمجموع.
قلت قد ظهر لك بما أنه يفيد نفي كل واحد فإن ذلك إشارة إلى
المذكور وهو قول ذي اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فالمذكور
القصر والنسيان وعاد اسم الإشارة المفرد عليه فيفيد نفي كل
واحد لأن دلالة العموم إذا أضيفت كل إلى مفرد نكره أو
معرفه نص في واحد لما سبق وههنا التقدير كل المذكور لم يكن
وهو مفرد فلذلك لا يحتمل نفي المجموع فقط ولو كان موضعه
جمع معرف لاحتمل نفي كل واحد ونفي المجموع وإن كان الأظهر
نفي كل واحد لما سبق ونظير ذلك مما يفيد لفي كل واحد قول
الشاعر:
قد أصبحت
أم الخيار تدعى
علي ذنبا كله لم أصنع
فمدلوله ايضا نفي كل
واحد ويعبر عن هذا بعموم السلب عام لكل الأفراد من انه حكم
بالسلب على كل فرد وهذا فيما إذا تقدمت كل على النفي واما
إذا تقدم النفي على كل كقول المتنبي.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
وقول الآخر:
وقولنا: ما جاء كل القوم وما جاء القوم كلهم وليس كل بيع
حلالا فإنه لا يفيد العموم وهو المسمى بسلب العموم أي يفيد
سلب العموم لا عموم لسلب وذكروا في سببه طرقالم يرتضها
والدي الشيخ الإمام واختار طريقا
ج / 2 ص -97-
غيرها
قررها في أحكام كل وهي ان قولنا مثلا ما كل ما يتمنى المرء
يدركه سالبة محصلة نقيض الموجبة المحصلة والموجبة المحصلة
تقتضي العموم فلا يقتضيه نقيضها وكذلك قولك لم يقم كل
إنسان سالبة محصلة معناها نقيض لمعنى الموجبة المحصلة وهي
قولك قام كل إنسان وقولك قام كل إنسان معناه الحكم على كل
فرد بالقيام فيكون المحكوم به في السالبة المحصلة نقيض
قيام كل فرد ونقيض الكلي جزئي فيكون مدلوله سلب القيام عن
بعضهم لأنه النقيض وهذا بخلاف ما إذا تأخر السلب عن كل كما
تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:
"كل ذلك لم يكن".
وقول الشاعر: كله لم اصنع, فقد بان الفرق بين سلب العموم
وعموم السلب.
واعلم ان النهي والنفي من واد واحد ومقتضى ذلك ان يطرد حكم
النفي في النهي.
فإذا قلت لا تضرب كل رجل أو كل الرجال يكون النهي عن
المجموع لا عن كل واحد ويتعدى هذا إلى سائر صيغ العموم
كقولك لا تضرب الرجال الا ان يكون هناك قرينة تقتضي ثبوت
النهي لكل فرد الأصوليون قالوا:
دلالة العموم كلية ولذلك يستدل بها في النفي والنهي وما
ذكرناه يرد عليهم.
قلت: وهذا الذي أوردناه من التفرقة بين تقدم النفي على كل
وتأخره عنها هو الذي ذكره البيانيون وارتضاه الشيخ الإمام
والدي أيده الله وهو ان كان في غاية الظهور الا ان لقائل
ان يقول ما برحت العلماء سلفا وخلفا تستدل بقوله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ}1{وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ}2
ونظائر ذلك على إثبات الحكم لكل فرد ولم يقل أحد ان ذلك
نهي عن المجموع وقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام 151, والإسراء آية 31.
2 سورة الأنعام 151, والإسراء آية 33.
ج / 2 ص -98-
الله
تعالى:
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}1 والمراد كل واحد وكذلك فإن أصحابنا لو قال والله لأوطئت كل واحدة
منكن يكون موليا من كل واحدة ويتعلق بوطء كل واحدة الحنث
ولزوم الكفارة وهذا كله يشهد لعدم التفرقة بين النفي
وتأخره.
ثم اعلم ان ما قدمناه من انه إذا تقدم النفي على كل لا يدل
على الاستغراق شرطه ان لا ينتقض النفي بالا فلو انتقض قبل
المحمول فالاستغراق باق كما لو لم يدخل النفي قال الله
تعالى:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية فالمراد ان كل واحد آنيه عبد وان كان النفي متقدما لكن لأجل
الاستثناء وسببه ان النفي إنما هو المحمول وتسلطه عليه وما
بعد الا لا تسلط للمنفي عليه فما بعد الا مثبت وهو في
الاستثناء المفرغ مسند إلى ما قبلها وهو كل فرد كما كان في
الجملة.
قيل: دخول النفي والاستثناء فهذا ما أوردنا إيراده من
الكلام على صيغة كل.
قال الشيخ الإمام ومن لطيف القول فيها أنها للاستغراق سواء
كانت للتأكيد أم لا والاستغراق لأجزاء ما دخلت عليه ان كان
معرفة ولجزيئاته ان كان نكرة فانك إذا قلت رأيت زيدا كله
كانت لاستيعاب أجزائه وكذلك أخذت العشرة كلها.
وقولك: رأيت كلهم وكلهم قائم وكل القوم ضارب ونحوه من سائر
الصور دخولها على المعرفة من هذا القبيل لأنك لو حذفتها
لكان الشمول حاصلا فكانت لاستغراق تلك الأفراد التي
استغرقها المعرفة كما هي لاستغراق أجزاء العشرة وزيد.
وإذا قلت: كل رجل قائم وما أشبهه من دخولها على النكرة
كانت لاستغراق جزئيات تلك الحقيقة التي أضاف إليه واحد
منهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية 23.
ج / 2 ص -99-
قلت:
وما ذكرناه من التفرقة بين إضافة كل إلى معرفة فيكون
لاستغراق أجزاء ما دخلت عليه أضافتها إلى نكرة فيكون
لجزيئاته هو ما ذكروه وقرره والدي رضي الله عنه وارتضاه
ولمعترض ان يقول: قال الله تعالى:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ}1 والمراد الجزئيات لا الأجزاء وقال صلى الله عليه وسلم:
"كل الطلاق واقع الا طلاق المعتوه"2.
الحديث هذا القول في كل وأما جميع فمثل كل إذا أضيفت إلى
معرفة فتكون لإحاطة الأجزاء ومما يستفاد في جميع ان ابن
الفارض في كتابه النكت قال جميع وان كانت مثل كل في إفادة
الاستغراق الا أنها تفارقها فينا عدا ذلك فان الزجاج حكى
عن المبرد ان قوله:
{فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ} يفيد
وقوع السجود منهم فقط.
وقوله:
{أَجْمَعُونَ} يفيد انهم سجدوا مجتمعين ويؤيده انه جعل الافتراق في مقابلة في
قوله:
{تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}3.
قلت: والقول بان لفظ جميع بدل على اتحاد الزمن غريب لم أره
في غير هذا الكتاب وانما يعرف ذلك في لفظ مجموع واما الألف
واللام والموصولات كلها فمثل كل وكذلك من وما الشرطيتان
والاستفهاميتان مثل كل ايضا تعم كل فرد وتحيط به.
هذا ما ذكره والدي في من ولقائل ان يقول من صالحة للمذكر
والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع هذا حظ منها وحظ النحوي
منها وحظ الأصولي أنها للعموم فهل العموم في جميع هذه
المراتب أو في الآحاد ويظهر فائدة إذا قال من دخل داري من
هذين فاعطه درهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية 93.
2 ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ عن النبي صلى
الله عليه وسلم- قال:
"كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله".
قال التلرمذي: لا تعرفه إلا من حديث عطاء بن عجلان وهو
ذاهب الحديث وروي بإسناده عن علي مثل ذلك. المغني لابن
قدامة 7/113 – 114 طمكتبة الرياض.
3 سورة الحشر آية 14.
ج / 2 ص -100-
فان
قلنا: بالأول أعطينا كل واحد درهما.
وان قلنا بالثاني: أعطينا كل واحد درهما بدخوله ونصف درهم
بدخوله مع الآخر وان دخل ثلاثة فعلى الثاني نعطيهم ثلاثة
بدخول الآحاد كل واحد درهما ودرهما بدخول الثلاثة لكل واحد
منه الثلث وثلاثة لان صيغة الأثنينية فيهم ثلاثة فيستحقون
بها ثلاثة لكل درهم فمجموع ما يستحقون تسعة وعلى هذا
القياس وفيه احتمال آخر وهو انه لا يعطي المجموع الا درهما
ومأخذه ان من لا تدل على الإفراد واحدا واحدا وانما تستغرق
ما صلحت له.
وهذا البحث سمعته من والدي ولم يذكره في أحكام كل ولم أره
منقولا ولا ملخص عنه فيما يظهر الا ان يقال لا عموم لها
الا في مراتب الأفراد لكن الأسبق إلى الفهم أنها عامة فيما
يصلح وهو يصلح للأفراد ومجموع الأفراد و ان كانوا لا
يتناهون ولكل مرتبة من مراتب المثنى والمجموع دون النهاية
فليبحث عن ذلك واما أي ومتى ومهما وأين فمدلولها كل فرد لا
على سبيل الإحاطة فهي تخالف كلا في هذا المعنى والدليل على
ذلك انك تقول أي الرجال عندك أزيد أم عمرو بأم لا بالواو
ويقول أكل الرجال عندك زيد وعمر وخالد بالواو ولا بأم فدل
على الفرق بين مدلوليها فكل تفيد شمول الحكم لكل ما دخلت
عليه وأي لا تقتضيه ومن هنا جاء التكرار في كل وكلما ولم
يجيء في أي ونحوها حتى لو قال أي وقت دخلت الدار فأنت طالق
فدخلت مرة بعد أخرى لم يتكرر الطلاق ولو قال كلما دخلت أو
كل وقت دخلت فدخلت مرة بعد أخري تكرر.
فإن قلت: فإذا كانت أي لا تدل على التكرار وانما تدل على
أحد ما دخلت عليه لا بعينه فهي والمطلق سواء وكل منهما
عمومه على البدل لا على الشمول والكلام إنما هو في عموم
الشمول.
قلت: المطلق والنكرة التي لا عموم فيها لا تعرض لها
للأفراد وانما يدل المطلق على الماهية وان دلت النكرة مع
ذلك على وحدة فلا عموم فيها فمطلق
ج / 2 ص -101-
هذا في
النفي إذا قلت لا تشتم من شتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة
ومعناه مخالف لمعنى لا تشتم كل من شتمك.
والثالث: أي وهي مثل كل في إقامة الأفراد لكن يفارقها في
اقتضاء كل الاستغراق الشمولي وأي لا تقتضي الا الاستغراق
البدلي والله أعلم.
قال أو بقرينة في الاثبات كالجمع المحلى بالألف واللام
والمضاف وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياق.
هذا هو الضرب الثاني: هو ما يفيد العموم من جهة اللغة لا
من جهة وضعه له بل بواسطة اقتران قرينة وهو على وجهين.
أحدهما: أن يكون في الاثبات وذلك كالجمع المحلى بالألف
واللام من غير عهد مثل أن الله بريء من المشركين والجمع
المضاف نحو عبيدي أحرار وكذا المفرد إذا دخلت عليه الألف
واللام أو الإضافة وهو الذي عبر عنه المصنف باسم الجنس
كقوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كما سبق ومما يدل على أن المفرد المضاف يعم ولم نر من ذكره قوله
تعالى:
{وَجَاءَ
فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}1 فان المراد موسى المرسل إلى فرعون ومعه هارون ولوط المرسل إلى
المؤتفكات وهنا تنبيهان.
أحدهما: ان العموم فيما ذكر مختلف فالداخل على اسم الجنس
يعم الأفراد أعنى كل فرد فرد والداخل على الجمع يعم
المجموع لان الألف واللام والإضافة يعمان افراد ما دخلا
عليه وقد دخلا على جمع فانظر في هذا وفائدته انه يتعذر
الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد لأنه
إنما حصل النفي أو النهي عن افراد المجموع وليس الواحد
جمعا وهذا معنى قولهم لا يلزم من النهي عن المجموع النهي
عن كل فرد ولا من نفيه نفي كل فرد وهذا لا يعارض ما تقدم
من ان العموم من باب الكلية وان معناه ثبوته لكل فرد سواء
كان نفيا أو نهيا أم لا لانا في حالة الجمع أثبتناه ايضا
في النفي والنهي لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهي الجموع
وينبغي على مساق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحلقة آية 9.
ج / 2 ص -102-
هذا في
النفي إذا قلت لا تشتم من شتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة
ومعناه مخالف لمعنى لا تشتم كل من شتمك.
والثالث: أي وهي مثل كل في إقامة الأفراد
لكن يفارقها في اقتضاء كل الاستغراق الشمولي وأي لا تقتضي
الا الاستغراق البدلي والله أعلم.
قال أو بقرينة في الاثبات كالجمع المحلى بالألف واللام
والمضاف وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياق.
هذا هو الضرب الثاني: هو ما يفيد العموم من جهة اللغة لا
من جهة وضعه له بل بواسطة اقتران قرينة وهو على وجهين.
أحدهما: أن يكون في الاثبات وذلك كالجمع
المحلى بالألف واللام من غير عهد مثل أن الله بريء من
المشركين والجمع المضاف نحو عبيدي أحرار وكذا المفرد إذا
دخلت عليه الألف واللام أو الإضافة وهو الذي عبر عنه
المصنف باسم الجنس كقوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كما سبق ومما يدل على أن المفرد المضاف يعم ولم نر من ذكره قوله
تعالى:
{وَجَاءَ
فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ}1 فان المراد موسى المرسل إلى فرعون ومعه هارون ولوط المرسل إلى
المؤتفكات وهنا تنبيهان.
أحدهما: ان العموم فيما ذكر مختلف فالداخل
على اسم الجنس يعم الأفراد أعنى كل فرد فرد والداخل على
الجمع يعم المجموع لان الألف واللام والإضافة يعمان افراد
ما دخلا عليه وقد دخلا على جمع فانظر في هذا وفائدته انه
يتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد
لأنه إنما حصل النفي أو النهي عن افراد المجموع وليس
الواحد جمعا وهذا معنى قولهم لا يلزم من النهي عن المجموع
النهي عن كل فرد ولا من نفيه نفي كل فرد وهذا لا يعارض ما
تقدم من ان العموم من باب الكلية وان معناه ثبوته لكل فرد
سواء كان نفيا أو نهيا أم لا لانا في حالة الجمع أثبتناه
ايضا في النفي والنهي لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهي
الجموع وينبغي على مساق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحلقة آية 9.
ج / 2 ص -103-
هذا
التقرير أن تختلف الجموع تشمل جموع القلة ثلاثة ثلاثة ولا
يشمل جموع الكثرة وإلا أحد عشر أحد عشر.
الثاني: علمت اختيار المصنف ان المفرد
المعرف بأن يعم وهو قول أبى اسحاق الشيرازي وابن برهان
والجبائي والمبرد وصححه ابن الحاجب وهو المنقول عن الشافعي
واما الإمام واكثر اتباعه فقالوا لا يفيد العموم والمختار
الأول.
فان قلت لم لا قال الشافعي رضي الله عنه بوقوع الثلاث على
من حلف بالطلاق المعروف وحيث قلت:
هذا سؤال سأله القرافي الشيخ عز الدين بن عبد السلام
وأجابه كما ذكر في شرح المحصول بأن هذا يمين فيراعي فيهما
العرف دون الأوضاع اللغوية قال الشيخ الإمام الوالد رحمه
الله في الأجوبة عن الأسئلة التي سألته عنها وقد يقال في
الجواب ان الطلاق حقيقة واحدة وهي قطع عصمة النكاح وليس له
أفراد حتى يقال أنها تندرج في العموم ولكن مراتبه مختلفة
منها ما يحصل به تشعيب النكاح وهو الرجعي وجوز الشارع فيه
ان يكون مرة بعد أخرى والتشعيب الحاصل من الثانية اكثر من
الحاصل بالأولى وان اشتركا في جواز الرجعة ومنها ما يحصل
به البينونة مع إمكان الرد بغير محلل وهو إذا كان بعوض
ومنها ما يحصل به البينونة الكبرى وهو الثلاث فهذه مراتب
وليست إفرادا ولكن إذا قال أنت طالق ثلاثا فقد استوعب جملة
الطلاق فإذا لم يذكر الثلاث ولا نواها لم يحمل الا على اقل
المراتب لان الألف واللام لا دلالة لها على قوة مرتبة أو
ضعفها فلا يحمل الا على الماهية وليست آحاد المراتب بمنزلة
أحاد العموم حتى نقول بالاستغراق وأيضا فلو قال القائل
العنق يلزمني أو المشي ان مكة ونحو ذلك وقلنا:
يجب عليه الوفاء لم يلزمه الا المسمى فكذلك هذا قال وهذا
شيء يمكن ان يقال والأدب مع الشيخ عز الدين الاقتصار على
جوابه.
والثاني: مما يدل بواسطة اقتران قرينة ان
يكون في النفي وذلك كالنكرة
ج / 2 ص -104-
في
سياقه إما بما أو بلن أو ليس أو لم فإنها تعم سواء باشرها
النفي نحو ما أحد قائم أم باشر عاملها نحو ما قام أحد ومما
استدل به الإمام على النكرة في سياق النفي تعم انه لو لم
يكن للنفي لما كان قولنا لا اله الا الله نفيا لدعوى من
ادعى الها سوى الله تعالى.
واعلم ان النكرة ان كانت صادقة على القليل والكثير أو
واقعة بعد لا العاملة عملان أعني لا التي لنفي الجنس مثل
لا رجل في الدار ببناء رجل على الفتح أو داخلا عليها من
مثل ما جاءني من رجل فإن كونها العموم من الواضحات ولكن هل
استفيد العموم في قولك ما جاءني من رجل من لفظه أو كان
مستفادا من النفي قبل دخولها هي لتأكيده الحق الثاني وهو
ما قرره والدي أيده الله غير مرة ولهذا قال الشيخ جمال
الدين بن مالك وتزاد لتخصيص العموم بعد نفي أو شبهة وأراد
بتنصيص العموم تقويته كما.
ذكرناه وان كان هو حاصلا قبلها وقد اعترض عليه شيخنا أبو
حيان فقال تقسيم المصنف وغيره من هذه الزائدة إلى أنها
تكون لاستغراق الجنس ولتأكيد الجنس ليس هو مذهب سيبويه
رحمه الله بل قولك ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل من في
الموضعين لتأكيد استغراق الجنس وهذا هو الصحيح انتهى وانما
حمل شيخنا أبا حيان على ذلك انه لم يفرق بين العموم وتنصيص
العموم ففهم كلام ابن مالك على خلاف ما أراد ثم اعترض عليه
والحق ما ذكرناه وان العموم قبل دخول من ظاهر لا نص
واحتماله للخصوص احتمال كبير وان كان مرجوحا وبعد دخول من
العموم نص واحتمال الخصوص ضعيف جدا بحيث لا يكاد يوجد في
كلام العرب ولا ينبغي ان يكون في ذلك خلاف بل ينزل اختلاف
كلام العلماء على هذا التنزيل الذي ذكرناه وانه متى قلت ما
جاءني رجل أفاد الاستغراق مع جواز إرادة الوحدة جواز منكر.
وإذا قلت ما جاءني من رجل كان الاستغراق فصار إرادة الخصوص
مستنكرة.
ج / 2 ص -105-
وإذا
قلت ما جاءني أحد كان نصا في العموم لان أحد لا يدخل الا
في النفي الا إذا كانت همزتها مبدلة من واو فإنها تدخل في
الاثبات فلذلك يحتمل الخصوص ايضا فإذا دخلت عليه من كقوله
تعالى:
{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}1لم يبق الاحتمال الخصوص وجه وقد تمسك القرافي في ان ما جاءني رجل
لا يفيد العموم بقوله الزمخشري في قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }2 إنما استفيد العموم من لفظه من ولو قال مالكم اله غيره لم يعم مع
ان لفظه اله نكرة وقد حكم بأنه لا يعم وكذلك قوله:
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ}3 قال إنما استفيد العموم من لفظه من تكون لإرادة العموم نحو ما
تقدم وتارة تؤكد العموم كقولك ما جاءني من أحد وهذا الذي
قاله الزمخشري يمكن تأويله على أنها أربع مراتب كما أشرنا
إليه أدناها في إفادة العموم ما جاءني رجل لعدم دخول من
ولعدم اختصاص رجل بالنفي وأعلاها ما جاءني من ديار لانتفاء
الأمرين والمرتبة المتوسطة ما جاءني من رجل وما جاءني أحد
كما أشرنا إليه من قبل فان أراد الزمخشري ذلك صح كلامه
وإلا فهو ممنوع لان قوله تعالى:
{لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}4 وقوله:
{لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}
ونظائرهما مما لا شك في إفادته العموم وليس فيه من ولا لفظ
مختص بالنفي وأيضا فان النكرة تدل على المساهمة ولا دلالة
لها على قيد الوحدة وان كانت محتملة له والاصل عدمه فدخول
النفي عليها بنفي معناها بطريق الأصالة وهو مطلق الماهية
ويلزم منه العموم واما احتمال قيد الوحدة فهو سابع ولكنه
خلاف الأصل والظاهر فلا يجعل هو الأصل في الدلالة ولا
مساويا لما هو الأصل وإذا تؤمل كلام العرب حصل القطع بذلك
ولم يثبت في هذه المسالة خلاف ومن ادعى فيها خلافا يحتاج
إلى بيان ورد لما قلناه ومع كون من هذه تفيد نصية العموم
أو تأكيده في محتملة لان يكون للتبعيض أولا ابتداء الغاية.
وقال ابن مالك ان في كلام سيبويه إشارة إلى أنها للتبعيض
وهو كما قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحاقة آية 47.
2 سورة هود آية 50.
3 سورة يس آية 46.
4 سورة البقرة آية 48.
ج / 2 ص -106-
لأن
سيبويه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل أدخلت من لأن هذا
موضع تبعيض فأراد أنه لم يأت بعض الرجال وقال شيخنا أبو
حيان ان هذا غير مرضي من ابن مالك لأنه يلزم منه ان تكون
ألفاظ العموم للتبعيض وانما المقصود بزيادة من في نحو ما
أتاني من رجل جعل المجرور بها نصا في العموم وانما تكون
للتبعيض فيما إذا لم يقصد عموم وحسن في موضعها بعض نحو من
الناس من يقول وهذا الذي قاله شيخنا غير مرضي والحق ما
قاله ابن مالك وقد وافق شيخنا في آخر كلامه على جواز إرادة
ذلك وعجب قوله انه يلزم ان يكون ألفاظ العموم للتبعيض
وانما حمله على ذلك توهمه ان اصل العموم مستفاد من لفظة من
وقد بينا خلافه فيما تقدم والله اعلم.
فائدتان: الاولى صرح امام الحرمين بأن النكرة في سياق
الشرط تعم في قول القائل من يأتني بمال أجازه فلا يختص هذا
بمال هذا كلامه ومراد العموم البدلي لا الشمولي وهو صحيح.
الثانية: اختلف في ان النكرة في سياق
النفي هل عمت لذاتها والنفي المشترك منهما.
والثاني: هو قول الحنفية واختاره والدي
أيده الله فلم يحصل العموم عندهم الا لأن حرف النفي اقتضى
نفي الماهية الكلية ونفي الأعم يلزم منه نفي الأخص فحصلت
السالبة الكلية بطريق اللزوم لا لأن اللفظ موضوع في اللغة
للسالبة الكلية وظاهر كلام غيرهم من الشافعية الأول وهو ان
اللفظ وضع لسلب كل فرد من افراد الكلية وان سلب الكلي حصل
بطريق اللزوم لنفي الكلية عكس تلك المقالة فإنه يلزم من
نفي كل فرد نفي الكلي ومن نفي الكلي نفي كل فرد فهما
متلازمات وهذا المذهب هو الظاهر عند القرافي وينبني على
الخلاف التخصيص بالنية فإن قلنا يقول الحنفية من أنه نفي
للكلي فلا يؤثر حتى لو قال لا أكلت ونوى معينا لا يسمع وإن
قلنا بالقول الآخر من انه نفي للكلية فيؤثر تخصيص بعض
الأفراد بالنية.
قال أو عرفا مثل:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
فإنه يوجب حرمة جميع الاستمتاعات.
ج / 2 ص -107-
هذا هو
القسم الثاني: وهو تقيد العموم من جهة العرف مثل قوله
تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فإن أهل العرف نقلوا تحريم العين إلى تحريم جميع الاستمتاعات
المقصودة من النساء فيفيد حرمة جمع الاستمتاعات من الوطء
ومقدماته ومنهم من يقول.
المقصود في هذه الآية تحريم الوطء خاصة ومنهم من تدعي
إجمالها كما ستعرفه في باب المجمل والمبين لأن المصنف ذكر
قوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فإنا حملناه على الأكل للعرف
والخلاف في هذه الآية هو الذي في تلك.
قال أو عقلا كترتب الحكم على الوصف.
هذا هو القسم الثالث: وهو ما يدل عليه بالعقل وهو ثلاثة.
الأول: وعليه اقتصر في الكتاب ترتيب الحكم على الوصف فإن
ترتيبه يشعر بكونه علة له وذلك يفيد بالعقل على معنى أنه
كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انتفت انتفي فهذا القسم
إنما دل بالعقل ولم يدل باللغة ولا بالعرف أما العرف فواضح
وأما اللغة فلأنه لو دل بها لكان أما المنطوق أو المفهوم
وانتفاء المفهوم ظاهر ولا يدل بالمنطوق لان تعليق الشيء
بالوصف لا يدل على التكرار لفظا.
والثاني: ما يذكر جوابا عن سؤال النبي صلى
الله عليه وسلم عمن افطر فقال عليه الكفارة فيعلم أنه يعم
كل مفطر.
والثالث: مفهوم المخالفة عند القائلين به
كقوله صلى الله عليه وسلم:
"مطل الغني ظلم"
فانه بمفهومه يدل على أن مطل غير الغني لا يكون ظلما وأما
مفهوم فداخل في القسم الأول إذا الحكم إنما ثبت فيه بطريق
الأولى لأجل أن العلة فيه أولى أو لكونه مساويا لأجل ان
العلة اقتضت ذلك فكان من جملة أصناف القسم الأول.
ج / 2 ص -108-
قال
ومعيار العموم جواز الاستثناء فانه يخرج ما يجب اندراجه
لولاه وإلا لجاز من الجمع المنكر قيل لو تناوله لامتنع
الاستثناء لكونه نقضا قلنا: منقوض بالاستثناء من العدد.
ذهب قوم وهم الملقبون بأرباب الخصوم إلى انه ليس للعموم
صيغة تخصه وان ما سبق ذكره من الصيغ موضوع في الخصوص وهو
اقل الجمع أما إثنان أو ثلاثة على الخلاف فيه واستعمل في
العموم مجازا وذهب الشافعي وسائر المحققين إلى أن له صيغا
مخصوصة به بالوضع ويستعمل مجازا في الخصوص وذهب آخرون الى
الوقف ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشيخ ومعظم
المحققين وذهب إليه قال وحقيقة ذلك انهم قالوا سبرنا اللغة
ووضعها فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم سواء
وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد واقفية مذهب آخر وهو
دعوى الاشتراك.
ونقل عن الشيخ ايضا وعليه الاكثرون من الواقفية ومنهم من
فصل بين الاخبار والوعيد والأمر والنهي.
فقال: بالوقف في الاخبار والوعد والوعيد دون الامر والنهي
هذه مذاهب خمسة وحكى القاضي في تختصر التقريب سادسا وهو
تسليم العموم حالة التقييد بضروب من التقييد فلفظ الناس
مثلا إذا قلنا انه لا يعم حالة الاطلاق فنسلم انه عام في
مثل قوله القائل الناس أجمعون عن آخرهم صغيرهم وكبيرهم لا
يشذ منهم أحد إلى غير ذلك.
قال القاضي والمحققون من الواقفية يقولون:
وان قيدت بهذه القيود فليست موضوعة للاستغراق في اللغة
ولكن قد يعرف عمومها بقرائن الأحوال المقترنة بالمقال وهي
مما لا تنحصر بالعبارة كما يعرف بالقرائن وجل الرجل وان
كانت القرائن لا توجب معرفتها ولكن أجرى الله العادة بخلق
العلم الضروري عندها.
ج / 2 ص -109-
وسابعا: عن بعض الواقفية ان الخير إذا انطوى على وعيد العصاة من أهل الملة
لزم التوقف فيه ولا يتوقف في غيره.
وثامنا: وهو التوقف في الوعيد دون الوعد قال وفرق بينهما
بما يليق بالشطح والبرهان دون الحقائق.
وتاسعا: عن بعض المنتمين إلى الواقفية وهو
ان الاخبار إذا وردت ومخرجها مخرج العموم عند القائلين به
وسمعها السامع وكانت وعدا أو وعيدا ولم يسمع من آي الكتاب
وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقع أدلة السمع شيئا
فيعلم ان المراد بها العموم وان كان قد سمع قبل اتصالها به
أدلة الشرع وعلم انقسامها للخصوص والعموم فلا يعلم حينئذ
العموم في الاخبار اتصلت به.
قال: واعلم ان هذه الفئة بالنسبة إلى القائلين بالعموم
أولى منهم بالنسبة إلى الواقفية هذا ما حكاه القاضي في هذا
الكتاب ثم أطنب في الاستدلال على مذهبه والرد على خصومه
وهذه المذاهب التي حكاها ذكرها غيره وانما أردت سردها من
كلام القاضي.
واعلم ان هذا الكتاب قد أكثرنا النقل عنه في هذا الشرح وهو
كتاب التلخيص لامام الحرمين اختصر من كتاب التقريب
والإرشاد للقاضي فلذلك أغزو النقل تارة إلى التلخيص لامام
الحرمين وذلك حيث يظهر لي ان الكلام من أمام الحرمين فإنه
زاد من قبل نفسه أشياء على طريقة المتقدمين في الاختصار
وتارة أعزوه إلى مختصر التقريب وهو حيث لا يظهر لي ذلك
والذي أقوله ليستفاد اني على كثرة مطالعتي في الكتب
الأصولية للمتقدمين والمتأخرين وتنقيبي عنها على ثقة بأني
لم أر كتابا اجل من هذا التلخيص لا لمتقدم ولا لمتأخر ومن
طالعة مع نظره الى ما عداه من المصنفات علم قدر هذا الكتاب
وفي المسألة قوله.
عاشرا: حكاه المازري في شرح البرهان فقال
أشار بعض المتأخرين في بعض الفاظه إلى طريقة مستغربة لا
يكاد يصغي إليها أحد من أهل هذه الصناعة فقال ان لفظة
المؤمنين والكافرين حيث ما وقعت في الشرع أفادت
ج / 2 ص -110-
العموم
ويمكن ان يكون هذا من أحكام الشرع في بعض الالفاظ اللغوية
كاحتكامه في لفظ الصلاة والحج والصوم وهنا تنبيهات.
أحدها: أن الواقفية وإن قالت لم يوضع
اللفظ لخصوص ولا عموم.
قالت: بانا نعلم أن اقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه قال
امام الحرمين ومما دل الناقلون فيه انهم نقلوا عن أبي
الحسن ومتبعيه ان الصيغة وان تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر
بالحج بل تبقى على التردد.
قال: وهذا وان صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع
المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين اكثعين
ابصعين فأما ألفاظ صريحة تعرض مقيدة فلا يظن بذي عقل أنه
يتوقف فيها.
الثاني: قال امام الحرمين لا ينكر أحد من
الواقفية أمكان وأيضا استدلال الصحابة بعموم ذلك مثل:
{الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي}.
التعبير عن معنى الجميع بترديد ألفاظ مشعرة به كقول القائل
رأيت القوم واحدا واحدا لم يغتن منهم أحدا وإنما كرر هذه
الالفاظ قاطعا لوهم من يحسبه خصوصا الى غير ذلك.
قال: وانما انكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع
انتهى وقد علمت فيما تقدم من كلامه في التلخيص أن الذي
ادعى فيه الوفاق محل خلاف ولا يتوهم ان مراده بالجمع القدر
المخصوص الذي هو ثلاثة أو اثنان وانما مراده العموم يدل
عليه.
قوله: إنما كرر هذه الالفاظ قطعا لوهم من يحسبه خصوصا.
وقوله: رأيت القوم واحدا واحدا لم يغتني منهم أحد وقد
أطلنا في حكاية المذاهب فلنعد الى الشرح فنقول الذي ذهب
إليه المصنف تبعا لامام مذهب الشافعي وهو المختار ونقله
القاضي عبد الوهاب في الملخص عن الفقهاء بأسرهم والآمدي
قال المختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الالفاظ في الخصوص
لكونه مرارا من اللفظ يقينا سواء أريد به الكل أو البعض
والوقف
ج / 2 ص -111-
فيما
زاد على ذلك هذا كلامه وهو قريب من مذهب الواقفية الا انه
لم يصرح بأنه متردد في ان العموم هل له صيغة أو هل الصيغة
مشتركة وانما ذكر الاحتجاج فقط وابن الحاجب لم يتابعه على
هذا بل اختار مذهب الشافعي رضي الله عنه واستدل المصنف
عليه بوجهين.
أحدهما: انه لو لم تكن هذه الصيغ للعموم
لما جاز دخول الاستثناء لكنه يجوز أن يستثني منها ما يشاء
من الأفراد بالاتفاق فدل على أنها للعموم وبيان الملازمة
ان الاستثناء وإخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه
فلزم ان يكون كل الأفراد واجبة الإندراج ولا معنى للعموم
الا ذلك وانما قلنا لولا الاستثناء لوجب اندراج المستثنى
في المستثنى منه ولان الاندراج جائز بالاتفاق فلو لم يكن
واجبا ايضا لكان يجوز الاستثناء من الجمع المنكر
لاشتراكهما في إمكان اندراج كل فرد من أفرادهما تحته فتقول
جاء رجال الا زيدا وقد نص النحاة على منعه وأجاب بأن ما
ذكرتموه منقوض بالاستثناء من العدد فانه يجوز وهذا الجواب
أولا ضعيف لان للخصم أن يمنع صحة الاستثناء من تعدد كما هو
أحد المذاهب للنحاة وصححه إبن عصفور.
وثانيا: لا يحتاج إليه لأنه لم يدع وجوب الاندراج مع كونه
مستثنى وانما ادعاه عند عدمه ولهذا قال ما يجب اندراجه
لولاه وعلى هذا الفرض فالمستثنى ليس داخلا في المستثنى منه
نية وإنما هو داخل لغة لأن المختار أن الحكم على المستثنى
منه إنما هو بعد إخراج المستثنى فلا تناقض واعترض القرافي
على الدليل بان الاستثناء أربعة أقسام ما لولاه لعلم دخوله
نحو عشرة الا اثنين وما لولاه لظن دخوله وهو الاستثناء من
العمومات نحو اقتلوا المشركين الا زيدا وما لولاه لجاز
دخوله من غير علم ولا ظن وهو أربعة الاستثناء من المحال
نحو اكرم رجلا الا زيدا فان كل أخص محل لأعمه والأزمنة نحو
صل الا عند الاستواء والأمكنة نحو صل الا في الحمام
والأحوال كقوله تعالى:
{لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}1
أي في كل حالة من الأحوال الا في حالة الإحاطة بكم وما
لولاه لامتنع دخوله نحو الاستثناء المنقطع في قولك قام
القوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية 66.
ج / 2 ص -112-
الا
حمارهم وإذا كان الاستثناء اعم من كل واحد من هذه الاقسام
امتنع الاستدلال به على الوجوب فان الخصم لا يعتقد الا
الجواز في هذه الصورة هذا اعتراضه والجواب ان لا ندعى ان
امتنع الاستدلال به على فإن الخصم لا يعتقد الا الجواز في
هذه الصورة هذا اعتراضه والجواب ان لا ندعي ان مطلق
الاستثناء لإخراج ما لولاه لوجب دخوله وانما ندعي ذلك في
صيغة من وما والمجموع المعرفة والدليل عليه اجماع أئمة
العربية على ان الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ
والاتفاق على انه يصح الاستثناء من هذه الصيغ وهاتان
المقدمتان يفيدان كون هذه الصيغة للعموم والمقدمة
الإجماعية لا تمنع ولا تعارض سواء قلنا تفيد العلم أم لا
وأيضا فالاستثناء إخراج ما لولاه لدخل سواء كان معلوم
الدخول أو مظنون الدخول وذلك هو القدر المشترك وإلا يلزم
الاشتراك أو المجاز وهما على خلاف الأصل واما استثناء
الجائز فممنوع وقوله المحال نحو أكرم رجلا الا زيدا.
قلنا: قال النحاة لا يستثنى المعرفة من النكرة الا ان عمت
نحو ما قام رجال كانوا في دارك الا زيد منهم وليس في قولكم
اكرم رجلا الا زيدا واحدا الأمرين واما الأزمنة والأمكنة
والأحوال فإنما ذلك لتقدير لأنك تقدر صل كل وقت وصل في كل
مكان ولتاتنني به في كل حاله فالاستثناء بعد ذلك إنما ورد
على داخل في اللفظ والله اعلم قال وأيضا استدلال الصحابة
بعموم ذلك مثل:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله الأئمة من
قريش نحن معاشر الأنبياء لا نورث شائعا من غير نكير.
الوجه الثاني: من الاستدلال أن الصحابة
رضي الله عنهم استدلت بعموم بعض هذه الصيغ أو بعضهم وشاع
ولم ينكر فكان اجماعا وبيان ذلك انهم استدلوا لعموم اسم
الجنس المحلى بالألف واللام على العموم وذلك نحو قوله
تعالى:
{الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}1وعملوا
بمضمون ذلك واستدلوا بعموم الجمع المضاف نحو تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية 2.
ج / 2 ص -113-
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ}1 واستدل أبو بكر رضي الله عنه ايضا بعمومه فانه رد على فاطمة رضي
الله عنها لما طلبت منه ميراثها من النبي صلى الله عليه
وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم:
"نحن معاشر الأنبياء لا
نورث ما تركنا صدقة"2 وهذه
الواقعة على هذا النسق لا اعرفها وانما اخرج البخاري من
حديث عائشة رضي الله عنها ان فاطمة والعباس أتيا أبا بكر
يلتمسان ميراثها من الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبان سهمه
من فدك وسهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا نورث ما تركنا صدقة".
وروى الترمذي في غير الجامع:
"إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"
قال شيخنا الذهبي3 وفي صحته نظر واستدل عمر رضي الله عنه
بعموم اسم الجمع المحلى فانه قال لأبي بكر رضي الله عنه
حين عزم على قتال مانعي الزكاة كيف تقاتلهم وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فإذا
قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" فقال له
أبو بكر أليس قد قال:
"إلا بحقها"
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وتمسك به أيضا أبو بكر رضي
الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:
"الأئمة من قريش"4
وحديث الائمة من قريش رواه العام احمد والنسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 11.
2 روى هذا الحديث البخاري في كتاب فضل الجهاد باب فرض
الخمس 4/98وكتاب الفرائض باب: لانورث ماتركناه صدقة 8/185
كما رواه مسلم في باب حكم الفيء5/153- 154 كذا رواه
النسائي في سننه الكبرى بلفظ إنا بدلا من نحن. ولا تعارض
بين الحديث وبين قوله:
{وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}النمل آية 16فإن المقصود في الآية الكريمة هو وارثة العلم أو النبوة
والملك. والله أعلم.اهـ محققة.
3 هو محمد بن أحمد بن عثمان قايماز الذهبي حافظ مؤرخ
تركماني الأصل من أهل ميا فارقين.
مولده ووفاته في دمشق رحل إلى القاهرة وطاف كثيرا من
البلدان تصانيفه تفوق الحصر.منها: دول الإسلام: وتاريخ
الإسلام الكبير: وسير النبلاء و تذكرة الحفاظ وغير ذلك.
توفي سنة 748هـ. وفوات الوفيات 2/3/183, الإعلام 6/222-
223.
4 رواه البخاري – فتح الباري 13/93 , والنسائي وأبو يعلى
من طريق بكير الجزري عن أنس كما رواه أحمد في مسنده 1/93,
3/129, 183, 4/421.
ج / 2 ص -114-
قال الثالثة: الجمع المنكر لا يقتضي العموم
لأنه يحتمل كل أنواع العدد قال الجبائي انه حقيقة في كل
أنواع العدد فيحمل على الجميع حقائقه قلنا لا بل في القدر
المشترك.
الجمع المنكر إذا لم يكن
مضافا لا يقتضي العموم عند الجمهور بل يحمل على ثلاثة أو
اثنين على الخلاف في اقل الجمع وذهب أبو على الجبائي إلى
انه يقتضيه قال صفي الدين الهندي والذي أظنه ان الخلاف في
غير جمع القلة وإلا فالخلاف فيه بعيدا جدا إذ هو مخالف
لنصهم على انه للعشرة مما دونها انتهى لكن الحكايات في
غالب المصنفات عن الجبائي ناطقة فانه يجمع الجمع المنكر
بمنزلة الجمع المعرف والقاضي في مختصر التقريب صرح بحكاية
ذلك عنه وقضية ذلك عدم التفرقة بين جموع القلة والكثرة لنا
ان لفظ رجال يحتمل جميع أنواع العدد لأنه يصح لغة بأي جمع
شئنا فنقول رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فصح نقسمه الى ذلك
ومورد التقسيم اعم من كل واحد من تلك الاقسام الخاصة
والأعم لا يدل على الأخص فاللفظ الدال على ذلك المورد لا
يكون له أشعار بتلك الاقسام فلا يكون الا عليها وفي قول
المصنف في كل أنواع العدد مناقشة إذ يقال الاثنان عدد
باتفاق لحساب وليس ذلك بجمع على رأيك لأنه اقل الجمع ثلاثة
واحتج الجبائي بأن جملة على الاستغراق حمل له على كل
حقائقه لأنه يطلق على كل نوع منها والاصل في الإطلاق
الحقيقه مشتركا بينهما فيحمل عليها.
أجاب بأنا لا نسلم انه حقيقة في القدر المشترك بين الكل
وهو مطلق الجمع الصادق على الثلاثة والأربعة فما فوقهما
وقد بينا ان الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به
الاحتياز.
واعلم ان هذا الدليل الذي أورده الجبائي يستفاد منه انه
عنده من المشتركات وانه يحمل المشترك على معاينة وسبق
التنبيه على ذلك في مسالة المشترك وللجبائي دليل آخر يغاير
هذه الطريقة وهو صحة الاستثناء من الجمع المنكر حكاه عنه
الأصوليون على طبقاتهم القاضي فمن بعده وهو مغايرته لهذه
ج / 2 ص -115-
الطريقة ممنوع فقد أتفقت النحاة على ان ذلك لا يصح واما
جعل الإمام هنا اقل رجال ثلاثة ففيه نظر لان جمع كثرة
والأقل في مدلوله إنما هو أحد عشر باتفاق النحاة وهو
المشترك بين جموع الكثرة كلها الا ان ما ذكره ماش على ما
قاله الفقهاء فإنهم قالوا له عندي دراهم قبل تفسيره ثلاثة
مع أن دراهم جمع كثرة.
قال الرابعة قوله تعالى:
{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}1 يحتمل نفي الاستواء من كل وجه ومن بعضه فلا ينبغي الاستواء من كل
وجه لان الأعم لا يستلزم نفي الأخص بخلاف لا آكل فانه عام
فيحتمل التخصيص كما لو قيل لآكل أكلا وفرق أبو حنيفة بان
أكلا يدل على الوحدة وهو ضعيف.
هذه المسالة مشتملة على بحثين:
الأول: ان نفي المساواة بين الشيئين هل
يقتضى العموم اعني نفي الاستواء من كل وجه أم لا وذهبت
الشافعية رضي الله عنهم وجماعة آخرون إلى الأول وتمسك بها
أصحابنا على ان المسلم لا يقتل بالكافر لان القصاص مبني
على المساواة.
وذهب الحنفية إلى الثاني واختاره المصنف تبعا للإمام
والخلاف في المسالة دائر على حرف واحد وهو ان لفظ ساوى
واستوى وما مثل زيدا عمرا أو زيد مثل عمرو والمماثلات كلها
والاستواءات هل مدلولها في اللغة المشاركة في جميع الوجوه
حتى يكون مدلولها كلا شاملا ومجموعا محيطا أو مدلولها
المساواة في شيء ما حتى يصدق بأي وصف كان واحتج المصنف بأن
نفي الاستواء اعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من
بعضها والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار له
فيه بهما وهذا معنى قولهم الأعم لا يستلزم نفي الأخص
فحينئذ نفي الاستواء لمطلق لا يحتمل نفي الإستواء من كل
وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر آية 20.
ج / 2 ص -116-
فإن
قلت هذا ضعيف لأن الأعم إنما لا يدل على الأخص في ظرف
الاثبات أما في ظرف النفي فيدل لأن نفي العام يدل عل نفي
الخاص وهذا نفي للحقيقة التي هي أعم فينبغي جزئياتها الا
ترى إلى تكذيبك من قال لم أر حيوانا وكان قد رأى إنسانا
وهذا يصلح ابتداء دليل لنا فإن لا استوى نكرة دخل عليها
حرف النفي فيكون العموم لموافقتكم إيانا على ان النكرة في
سياق النفي للعموم.
قلت: هذا بحث صحيح حقا من جهة قولنا ان الاستواء اعم وكل
فرد من أفراده أخص ونحن إنما قلنا ذلك جريا على متن الكتاب
والذي عندنا ان الاستواء شيء واحد مدلوله واحد وهو
الاستواء من جميع الوجوه وما يحصل بين زيد وعمرو من
المساواة في بعض الوجوه فليست المساواة المطلقة بل مساواة
خاصة فإذا نفيت تلك المساواة التي موضوعها جميع الوجوه لم
يلزم ان لا يثبت مساواة أخرى مقيدة ببعض الوجوه وانما يلزم
ذلك ان لو كان ثم أعم وأخص.
فإن قلت: هل هذا في حال النفي على الوجه الذي قررتم سلب
للعموم فان مدلول المساواة على ما ذكرتم جميع الوجوه فلا
يلزم من انتفائها أن لا يثبت من بعض الوجوه:
قلت: لو كان مدلوله متعددا لكان كذلك ولكنا نجعله شيئا
واحدا وهو المساواة المتعلقة بجميع الوجوه فإذا نفيته
انتفت تلك المساواة إذ هي التي كانت مشتبهة ولا يلزم أن لا
يثبت مساواة أخرى مقيدة لم يتعرض لها إثباتك ولا نفيك.
البحث الثاني: واليه أشار بقوله بخلاف لا
آكل تقريره أنه إذا حلف لا يأكل وتلفظ بشيء معين مثل والله
لا آكل التمر أو لم يتلفظ لكن أتى بمصدر ونوى شيئا معينا
فلا خلاف بين الإمامين الشافعي وأبى حنيفة انه لا يحنث
بغيره وأما إذا لم يتلفف بالمأكول ولا أتى بالمصدر ولكن
خصصه بالنية كما إذا قال والله لا أكلت في النفي ونوى شيئا
معينا ففي تخصيص الحنث بالمنوي مذهبان مأخذهما ان قولك لا
آكل هل هو سلب الكلي وهو
ج / 2 ص -117-
القدر
المشترك في الأكل أو ان حرف النفي الداخل على النكرة عم
لذاته وقد تقدم هذا فان قلنا:
بالأول: كما هو قول الحنفية فلا يقبل التخصيص لأنه نفي
الحقيقة وهو شيء واحد ليس بعام والتخصيص فرع العموم وان
قلنا: بالثاني: عم لكونه نكرة في سياق النفي وإذا ثبت كونه
عاما قبل التخصيص كسائر العمومات والمصنف في هذا البحث
اختار مذهب الشافعي رضي الله عنه واستدل بالقياس على ما لو
قال لا آكل أكلا فان أبا حنيفة سلم قبوله للتخصيص بالنية
قال المصنف فكذلك لا آكل فان المصدر موجود فيه لكونه مشتقا
منه وقد فرق من اختيار مذهب أبي حنيفة بأن آكل يتضمن الصدر
والمصدر إنما يدل على الماهية من حيث هي والماهية من حيث
هي لا نعدد فيها فليست بعامة فلا يقبل التخصيص فيحنث
بالجميع قال واما آكل فليس بمصدر لأنه يدل على المرة
الواحدة وحينئذ يصح تفسير ذلك الواحد بالنية فلهذا لا يحنث
بغيره قال صاحب الكتاب وهو ضعيف لان هذا مصدر مؤكد بلا
نزاع والمصدر المؤكد يطلق على الواحد والجميع ولا يفيد
فائدة سوى تقوية المؤكد فلا فرق حينئذ بين الأول والثاني.
واعلم ان الأمام مال في هذه المسالة على أصحابنا وقال نظر
أبى حنيفة فيها دقيق لان النية لصحت أما في الملفوظ أو
غيره والأول باطل لان الملفوظ هو الأكل وهو ماهية واحدة لا
يقبل التعدد فلا تقبل التخصيص فان أخذت مع قيود زائدة
عليها تعددت وحينئذ تصير محتملة للتخصيص لكن تلك زوائد غير
ملفوظة بها فالمجموع الحاصل من الماهية ومنها غير ملفوظ
فيكون القابل لنية التخصيص غير ملفوظ وهذا هو وان جاز عقلا
الا ان نبطله بالدليل الشرعي فنقول إضافة ماهية الأكل إلى
الخير تارة والى اللحم أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف
المفعول به وإضافتها إلى هذا اليوم وذاك وهذا الموضوع وذاك
إضافات عارضة بحسب اختلاف المفعول فيه ثم اجمعنا على انه
لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح فكذا التخصيص
بالمفعول به والجامع رعاية لاحتياط في تعظيم اليمين هذا
ج / 2 ص -118-
كلامه
والنظر الدقيق إنما هو نظر أصحابنا وما ذكره الإمام مدخول
لا يتبين به دقة نظر الخصم وقوله الأكل ماهية واحدة لا
يقبل التعدد قلنا صحيح ولكن مع قرينه دخول حرف النفي لا
نسلم انه لا دلالة له على التعدد ولو سلمنا ان الملفوظ لا
يقبل التخصيص فغير الملفوظ يقبله والجواب عما ذكره من
القياس.
أما أولا: فبالمنع فانا لا نعرف خلافا في المذهب انه يجوز
تخصيص النية بالمكان والزمان كما يجوز بالمأكول المعين.
واما الثانية: فقياس المفعول به على المفعول فيه واضح
التعسف لأن المفعول به من مقدمات الفعل في الوجود لأن أكلا
بلا مأكول محال وكذا في الذهن فهم ماهية الأكل دون المأكول
مستحيل فالتزام الأكل للمأكول واضح واما الزمان والمكان
فليسا من لوازم ماهية الفعل ولا من مقدماته بل هما من
لوازم الفاعل المحدث ولهذا ينفك فعلى الله تعالى عن الزمان
والمكان ولا ينفك أكل عن مأكول فالزمان اتفاقي ليس يلازم
والحاصل ان دلالة الفعل على المفعول به أقوى من دلالته على
المفعول فيه.
ثم إن الإمام قال: ان أكلا غير مصدر في الحقيقة وهذا مخالف
لإجماع أهل اللسان على انه مصدر وان إعرابه النصب على
المصدر ولكن عذر الإمام انه يدعي انه يشعر بالوحدة فليس
المراد به الحقيقة من حيث هي والمصدر للحقيقة من حيث هي
ونحن لا نسلم له الاشعار بالوحدة.
خاتمة: صورة هذه المسألة ان يكون الفعل متعديا غير متقيد
بشيء مثلناه وهو الذي ذكره إمام الحرمين والغزالي والآمدي
وغيرهم وعلى هذا لا تتناول هذه المسألة الأفعال القاصرة
والقاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة قال الفعل في سياق
النفي هل يقتضي العموم كالنكرة في سياق النفي لأن نفي
الفعل لمصدره فإذا قلنا لا يقوم كأنا قلنا لا قيام وعلى
هذا التفسير تعم المسألة القاصرة والمتعدي.
ج / 2 ص -119-
الفصل الثاني: في الخصوص
وفيه مسائل
الاولى: التخصيص إخراج بعض ما يتناوله اللفظ
والفرق بينه وبين النسخ انه يكون للبعض والنسخ قد يكون عن
الكل والمخصص والمخرج عنه والمخصص المخرج وهو إرادة اللافظ
ويقال للدال عليها مجازا.
بدأ في هذا الفصل بتعريف التخصيص والمخصص أما التخصيص فقد
قال أبو الحسن والامام انه إخراج بعض ما يتناوله الخطاب
وتبعهما المصنف لكنه أبدل الخطاب باللفظ فالإخراج جنس يشمل
المحدد وغيره وباقي الحد فصل والمراد بالإخراج الإخراج عما
يقتضيه ظاهر اللفظ من الإرادة والحكم لا عن الإرادة نفسها
ولا عن الحكم نفسه فان ذلك الفرد لم يدخل فيهما حتى يخرج
عنهما ولا عن الدلالة فإن الدلالة هي الإفهام عند التجرد
وهذا الامر لا يبطل بالمخصص واللفظ يدخل فيه العام وغيره
كالاستثناء من العدد فإنه ايضا من المخصصات كما سيأتي ان
شاء الله تعالى وكذا بدل البعض كما صرح به ابن الحاجب مثل
أكلت الرغيف ثلثه.
واعترض القرافي على هذا الحد بوجهين:
أحدهما: أنه يندرج فيه إخراج بعض العام بعد العمل به وهو
النسخ لا تخصيص
والثاني: ان التخصيص قد يكون من مفهوم كما سيأتي ان شاء
الله قوله والفرق التخصيص شديد الشبه بالنسخ وقد فرق
بينهما المصنف بأن
ج / 2 ص -120-
التخصيص دائما لبعض الأفراد والنسخ قد يكون لكل الأفراد
وقضية هذه التفرقة ان يكون النسخ اعم من التخصيص وفي بعض
نسخ الكتاب والنسخ عن الكل يحذف قد يكون ويرد على هذه
النسخة ان إخراج البعض بعد العمل نسخ واما جعل النسخ اعم
فهو مغاير لما اختاره الإمام فإنه قال النسخ لا معنى له
الا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص فيكون الفرق بين
التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص وما ذكره الإمام
في النسخ قد ساعده عليه الأستاذ1 فإن إمام الحرمين قال في
كتاب النسخ صرح لأستاذ بأن النسخ تخصيص في الزمان واعترض
على هذا بأن صور النسخ عندنا النسخ قبل التمكن وقيل إتيان
زمان الفعل وحينئذ يكون النسخ إبطالا للحكم بالكلية فلا
يقال ان ذبح الذبيح اختص ببعض الأزمنة بل ما وقع واعترض
على قوله التخصيص اعم بان التخصيص ايضا قد يقع في الأزمنة
كما في قول القائل والله لا أكلمه الأيام وأراد أياما
معدودة والنسخ قد يقع في غير الأزمنة كما في النسخ قبل
العمل ويتطرق إلى كل الأحكام بأي طريق يثبت والتخصيص لا
يتطرق الا إلى ما ثبت بالألفاظ والأصوليون ذكروا الفرق
بينهما من وجوه.
أحدها: أن التخصيص مخصوص بالأعيان والنسخ مخصوص بالأزمان
بدليل انهما المتبادران إلى الإفهام عند إطلاقهما.
والثاني: أن التخصيص لا يكون الا فيما تناوله اللفظ والنسخ
اعم من ذلك كما عرفت.
الثالث: ان النسخ يتطرق إلى حكم سواء كان ثابتا في حق شخص
واحد أم أشخاص كثيرة والتخصيص لا يتطرق إلا إلى النوع
الأول.
الرابع: أنهم يعدون النسخ إبطالا وكذلك يشترطون في التخصيص
بخلاف التخصيص فانهم يعدونه بيانا.
الخامس: أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن محمد الإسفراييني من أعلام الشافعية. من
مؤلفاته كتاب الرونق في الفقه والأصولتوفي ببغداد سنة
401هـ. الاعلام 1/203.
ج / 2 ص -121-
واما
التخصيص فلا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالتخصيص وفاقا.
السادس: انه يجوز نسخ شريعه بشريعة أخرى ولا يجوز التخصيص
قال القرافي وفي هذا الاطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا
والمراد ان الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة
المتقدمة أما كلها فلا لان قواعد العقائد لم تنسخ وكذلك
حفظ الكليات الخمسة فحينئذ النسخ إنما يقع في بعض الأحكام
الفرعية وإن جاز نسخ شريعة بشريعة عقلا.
السابع: ان النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك
وهو على رأي القاضي واما غيره فينبغي ان يقول هو انتهاء
حكم كان أما ثابتا والتخصيص ليس كذلك.
الثامن: ان الناسخ يجب ان يكون متراخيا والمخصص لا يجب فيه
ذلك بل يجوز كونه مقارنا ومتقدما.
العاشر: أن التخصيص للمقطوع بالمظنون دافع ونسخه لا يقع
به.
الحادي عشر: أنه يجوز تخصيص الخير والخلاف فيه ضعيف ولا
يجوز نسخه وهذا على رأي طائفة وهذه الفروق يحتمل أكثرها
المناقشة والتطويل في ذلك مما لا يتعلق به كبير غرض قوله
والمخصص هو بكسر الصاد والمخرج بعده بكسر الراء قوله وهو
إرادة اللافظ أي انه حقيقة إرادة المتكلم لأنه لما جاز ان
يرد الخطاب خاصا وعاما لم يترجح أحدهما على الآخر لا
بالإرادة ويطلق المخصص أيضا على الدال على الإرادة مجازا
والدال على الإرادة يحتمل ان يكون من صفات المتكلم وهو
المريد بنفسه تسمية للمحل باسم الحال أو المجتهد لأنه يدل
على الإرادة دليل التخصيص لفظيا كان أو عقليا أو حسيا كل
ذلك يحتمل ان يكون هو المراد بقوله ويقال الدال عليه
مجازا.
قال الثانية: القابل للتخصيص حكم ثبت لمتعدد لفظا مثل اقتلوا المشركين أو معنى وهو ثلاثة.
الأول: العلة وجواز تخصيصها كما في العرايا.
والثاني: مفهوم الموافقة فيخصص بشرط بقاء الملفوظ مثل جواز
حبس الوالد بحق الولد.
ج / 2 ص -122-
والثالث: مفهوم المخالفة فيخصص بدليل ارجح كتخصيص مفهوم
إذا بلغ الماء بالراكد.
هذه المسألة فيما يجوز تخصيصه فالقابل التخصيص حكم ثبت
لمتعدد فالواحد لا يجوز تخصيصه لان التخصيص إخراج بعض من
كل ولا يعقل ذلك في الواحد واعترض القرافي بأن الواحد
بالشخص وهو يصح إخراج بعض أجزائه لصحة قولك رأيت زيدا
وتريد بعضه وان تعذر إخراج الجزئيات فينبغي التفضيل والذي
يقبل التخصيص إما أن يكون عمومه من جهة اللفظ أو من المعنى
أي الاستنباط.
فالأول: مثل اقتلوا المشركين فان الحكم يشمل كل مشرك وخص
عنه الذمي والمستأمن والمعاهد والمهادن.
والثاني: ثلاثة أشياء:
الأولى: العلة واختلف في تخصيصها كما سيأتي بيانه ان شاء
الله تعالى في كتاب القياس فإن هذه المسألة المسماة هناك
بالنقض مثل نهي الشارع عن بيع الرطب بالثمر وتعليله إياه
بالنقصان عند الجفاف ووجدنا هذه العلة في العرايا أعني بيع
الرطب على رؤوس النخل بالثمر على وجه الأرض مع أن الشارع
جوزه فيها.
والثاني: مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة
الضرب وغيره من أنواع الأذى فالتخصيص فيه جائز بشرط بقاء
الملفوظ وهو التأفيف في مثالنا هذا ومنع الشيخ أبو إسحاق
الشيرازي من جواز تخصيص مفهوم الموافقة محتجا بأن التخصيص
من عوارض الألفاظ وعلى الأول يجوز تخصيص حبس الوالد في دين
الولد فإنه مبق للملفوظ وقد صحح الغزالي جواز حبس الوالد
في دين الولد سواء كان دين نفقة أو غيرها صغيرا كان أو
كبيرا وتبعه عليه المنصف في الغاية قصوى ويصحح صاحب
التهذيب وغيره خلافه.
الثالث: مفهوم المخالفة وقد قال الشيخ ابو إسحاق يحتمل أن
يجوز تخصيصه وان لا يجوز وجزم المتأخرون منهم المصنف بجواز
فيجوز أن تقدم
ج / 2 ص -123-
الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض المسكوت عنه الذي
ثبت فيه بالمفهوم خلاف ما ثبت للمنطوق ويعمل بذلك جمعا بين
الدليل وقد شرط المصنف تبعا لصاحب الحاصل في هذا القسم ان
يكون المخصص راجحا وهو شرط لم يذكره الإمام والظاهر عدم
إشتراطه أن لا يشترط في المخصص الرجحان مثاله:
روي الشافعي واحمد وابن جزيمة وابن حيان في صحيحهما
والحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين من حديث ابن عمر
أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"1 ومفهوم هذا قاض انه إذا لم يبلغهما يحمل الخبث.
وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غير ريحه أو طعمه"2 فيجتمع بينهما ويقصر مفهوم إذا بلغ الماء على الراكد وهذا على
الجاري فنقول:
إذا لم يبلغ الماء قلتين وكان جاريا لم ينجس إلا بالتغير
وهذا هو القول القديم قال الرافعي واختاره طائفة من
الأصحاب.
قال: قيل: يوهم البداء والكذب قلنا يندفع بالمخصص.
ذهبت شرذمة قليلون إلى امتناع التخصيص معتلين بأنه إن كان
في الأمر اوهم البداء أي ظهور المصلحة بعد خفائها وهو
بالدال المهملة والمد وان كان في الاخبار وهم الكذب وهما
ممتنعان على الله عز وجل أجاب بأنه يندفع بالمخصص أي
بالإرادة أو بالدليل الدال لانا إذا علمنا أن الكلام في
الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجة من حديث ابن عكر- رضي الله عنهما-.
2 رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ولا تعارض بين الحيثين قال ابن قتيبة: وإنما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم-
"الماء لاينجسه شيء"على الأغلب والأكثر لأن الأغلب على الآبار والغدران- الأنهار- أن
يكثر ماؤها فأخرج الكلام مخرج الخصوص.
ثم قال: ثم بين لنا بعد هذا القلتين. مقدار ماتقوى عليه
النجاسة من الماء الكثير لاينجسه شيء.
أنظر: تأويل مختلف الحديث ص 336-337.
ج / 2 ص -124-
محتمل
للتخصيص فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب الكذب ولا البداء
إنما يوجبهما ان لو كان المخرج مرارا ثنية كلام الإمام
واتباعه كالمصنف وغيره يقتضي ان الخلاف في الامر والخبر
ومقتض ايراد الشيخ أبي اسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ
وابي الحسين البصري في المعتمد والآمدي ان الخلاف إنما هو
في تخصيص الخبر وانه لا خلاف في جواز تخصيص الامر.
قال الثالثة: يجوز التخصيص ما بقي غير محصور لسماحة أكلت كل رمان ولم يأكل غير واحدة وجوز القفال إلى أقل
المراتب فيجوز في الجمع ما بقي ثلاثة فإنه الأقل عند
الشافعي وابي حنيفة بدليل تفاوت الضمائر وتفضيل أهل اللغة
واثنان عند القاضي والأستاذ بدليل قوله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فقيل: أضاف إلى المعمولين وقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقيل المراد به الميول وقوله عليه السلام:
"الاثنان فما فوقهما جماعة" فقيل أراد به جواز السفر وفي غيره إلى الواحد مطلقا.
هذه المسألة في الغاية التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص
وقد اشتملت على مسألة أخرى وهي الكلام في أقل الجمع.
المسألة الأولى: في ضابط المقدار الذي لا
بد من بقائه بعد التخصيص وفيها مذاهب.
الأول: وهو ما ذهب إليه أبو الحسين وصححه
الإمام وقال به أكثر أصحابنا أنه لا بد من بقاء جمع كثير
واختلف في تفسير هذا الكثير فقيل لا بد أن يقرب من مدلوله
قبل التخصيص وقال المصنف لا بد أن يكون غير محصور وإليه
أشار بقوله ما بقي غير محصور أي ما بقي المخرج عنه غير
محصور وما هنا مصدرية التقدير مدة عدد غير محصور والدليل
عليه انه لو قال أكلت كل رمان موجود ولم تأكل غير واحدة
لكان ذلك سمجا أي رديئا من الكلام قبيحا ولك ان تقول هذا
الدليل وانما ينفي الواحد فقط فلا يحصل به المدعي.
والثاني: أنه إن كان بلفظ من جاز التخصيص
إلى أقل المراتب وهو الواحد أو في غيرها من ألفاظ الجموع
كالمسلمين فيجوز إلى أقل الجمع وذلك إما
ج / 2 ص -125-
ثلاثة
أو أقل على ما سيأتي بقائه إن شاء الله تعالى وهذا هو
السبب الذي دعا المصنف إلى ذكر مسألة أقل الجمع في هذه
المسألة والى هذا القول ذهب القفال الشاشي رضي الله عنه
وما أظن القائل بهذا الرأي يقول به في كل تخصيص ولا يخالف
في صحة استثناء الأكثر إلى الواحد بل الظاهر ان قوله مقصور
على ما عدا الاستثناء من المخصصات بدليل احتجاج بعض
أصحابنا عليه بقول القائل على عشرة الا تسعة ويحتمل ان يعم
الخلاف الا ان الظاهر خلافه لان المنقول عنه المخالفة هنا
لم ينقل عنه ثم.
الثالث: انه يجوز في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد واليه
أشار بقوله في ذيل المسالة وقوم إلى الواحد مطلقا وهو رأي
الشيخ إبى اسحاق الشيرازي واستدل عليه بقوله تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ}1 قال بعض المفسرين وكثير من الأصوليين المراد نعيم بن مسعود
الاشجعي2 وقوله تعالى:
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ}3
قيل في التفسير المراد يحسدون نعم رسول الله صلى الله عليه
وسلم4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية 173.
2 وهو قول مجاهد ومقاتل وعكرمة اللفظ عام ومعناه خاص وقال
ابن اسحاق وجماعة: يريد بالناس ركب عبد القيس مروا بأبي
سفيان فدسهم إلى المسلمين ليثبطوهم.
قال السدي: لما تجهز النبي – صلى الله عليه وسلم وأصحابه
للسير إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان أتاهم المنافقون
وقالوا نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم
وعصيتمونا وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا فإن أتيتموهم في
ديارهم فلا يرجع منكم أحد فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل
وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة
فسألهم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان
فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا كثيرة فاخشوهم أي فخافوهم
واحذروهم فإنه لاطاقة لكم بهم. فالناس على هذه الاقوال على
بابه من الجمع. والله اعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/279- 280.
3 سورة النساء آية 54.
4 فالمراد بلفظ الناس هنا هو سيدنا محمد – صلى الله عليه
وسلم -.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/279.
ج / 2 ص -126-
والرابع: شيء اختاره ابن الحاجب ولا نعرفه بغيره وهو ان التخصيص ان كان
بمتصل فان كان بالاستثناء أو بالبدل جاز الى الواحد نحو
أكرم الناس الا الزنادقة وأكرم الناس الا تميما وان كان
بالصيغة أو الشرط فيجوز الى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء
أو إذا كانوا فضلاء وان كان التخصيص بمنفصل وكان في العلم
المحصور القليل كقولك قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة ولم يقتل
سوى اثنين جاز الى اثنين وإن كان غير محصور او محصورا
كثيرا جاز بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام.
المسألة الثانية: اختلفوا في أقل الجمع
على مذاهب وليس محل الخلاف فيما هو المفهوم من لفظ الجمع
لغة وهو ضم شيء الى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما
زاد بلا خلاف وقد افهم كلام ابن برهان في الوجيز خلاف ذلك
وليس كما افهم وانما محل الخلاف في اللفظ المسمى بالجمع في
اللغة مثل مسلمين وغيره من جموع القلة لا جموع الكثرة فان
اقلها أحد عشر باجماع النحاة.
المذهب الأول: ان اقله اثنان وهو المنقول
عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وبه قال مالك وداود
القاضي والأستاذ والغزالي.
والثاني: ثلاثة ولا يطلق على ما دونها الا
مجازا وهو المنقول عن ابن عباس والشافعي وأبى حنيفة
واختاره الإمام واتباعه.
والثالث: الوقف وهذا لم أره مصرحا بحكايته
في كتاب يعتمد عليه وانما اشعر به كلام الآمدي فانه قال في
آخر المسألة وأن اعرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر
بالاجتهاد في الترجح وإلا فالوقف لازم كلامه ورأيت بعض
المتأخرين بعده حكاه قولا ثالثا ومجرد هذا لا يكفي في
حكايته مذهبا.
والرابع: ان اقله واحد أخذه بعضهم من قول امام الحرمين في
البرهان والذي أراه ان الرد الى واحد ليس بدعا ولكنه ابعد
من الرد الى اثنين وعندي في هذا نظر الظاهر انه أراد ان
الرد الى واحد ليس بدعا بطريق المجاز وعند هذا يقدح
المعترض ان يقول ليس الكلام في إطلاق ذلك مجازا
ج / 2 ص -127-
وان
أراد إطلاقه حقيقة فبعيد ولقائل ان يقول أنت قد قلت لا يدع
فيه ثم قلت وهو ابعد من الرد الى اثنين وما نرى الحقائق
مختلفة المراتب في آحادها بل لو كان حقيقة لتساوى هو
والاثنين والثلاثة.
والخامس: حكاه ابن عمر وابن الحاجب انه لا يطلق على اثنين
لا حقيقة ولا مجازا وعندي في ثبوت هذا القول نظر فانه لا
نزاع عند القائلين بالمجاز في صحة اطلاق الكل وارادة الجزء
وقد يجاب بان الثلاثة ليست كلا فالكل ماهية يتجزأ منها
أجزاء والثالثة لا يتجزأ منها اجزاء بدليل أنه لا يصح
اطلاق لفظ واحد عليها ولو كانت كلا لصح لان اطلاق البعض
وارادة الكل جائز كالعكس إذا عرفت هذا فقد استدل أصحابنا
بوجوه منها ان الضمائر مختلفة فالضمير في الجمع الراجع الى
التثنية فدل على تغايرهما فلا يكون حقيقة في اثنين إذ لو
كان لصح اطلاقه عليه ومنها ان اهل اللغة يفصلون بينهما
ويجعلون كل منهما قسما للآخر فقالوا الاسم قد يكون مفردا
وقد يكون مثنى وقد يكون مجموعا فدل على التغاير.
واحتج القاضي أبو بكر في إصحاحه بأوجه:
أحدها: قوله تعالى:
{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}1
وأراد داود وسليمان عليهما السلام فثبت صحة إطلاق الجمع
وارادة الاثنين والاصل في الاطلاق الحقيقة واجيب كما ذكر
في الكتاب بأن الحكم مصدر فيصح إضافته الى معمولية اعني
الفاعل والمفعول وهما هنا الحكم والمحكوم عليه وهذا الجواب
ضعيف لان المصدر إنما يضاف إليهما على البدل ولا يجوز ان
يضاف إليهما جميعا واضعف منه قول الشيرازي شارح الكتاب في
تصحيحه الرد عليه بأن العرب لا تضيف المصدر إليهما جميعا
ضعيف لأنه شهادة نفي وقد علمت في فصل الحروف ان مثل هذا
ساقط الكلام غير معدود من صنيع العلماء وإنما هو استرواح
بما لا يعصم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 78.
ج / 2 ص -128-
وثانيها: قوله تعالى:
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}1 والمراد عائشة وحفصة رضي الله عنهما فاطلق القلوب وأراد قلبين
والاصل في الاطلاق الحقيقة قال امام الحرمين في التلخيص
وهذه الآية أقوى الآيات في الدلالة على الخصوم وقد أجيب عن
الاحتجاج بها كما ذكره في الكتاب بأن حقيقة القلب الجرم
الحال في الجانب الأيسر ومجازه ميوله ومنه قولهم لا قلب له
الى فلان أي لا ميل والمجاز هو المراد هنا والتقدير فقد
صفت ميولكما يدل على هذا ان الجرم لا يوصف بالصفو وهذا
الجواب ايضا ساقط لأن القاعدة عند النحاة انه إذا أضيف
شيئان الى ما تضمنها جاز فيه ثلاثة اوجه نحو قطعت رأسي
الكبشين وراس الكبشين ورؤوس الكبشين.
وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم:
"الاثنان فما فوقهما جماعة"2
رواه الدارقطني من حديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مشهور وحاصل ما فيه بعد ان
يعرف انه عمر بن شعيب محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص
ان قوله جده يحتمل ان يكون جده الأدنى الحقيقي وهو محمد
فيكون حديثه مرسلا فان محمدا تابعي ويحتمل ان يكون جده
الأعلى المجازي وهو عبد الله فيكون متصلا وقد اختلف
العلماء في الاحتجاج به إذا كان هذا فاحتج به اكثر من لا
يحتج المرسل حملا له على جده الأعلى ورواه ابن ماجة من
حديث الربيع بن بدر المعروف بعليلة وهو ايضا ضعيف وأجاب
الإمام بأنه إذا أمكن حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم
على حكم شرعي ولغوي فالشرعي أولى لكونه مبعوثا لبيان
الشرعيات فيحمل هنا على إدراك فضيلة الجماعة وبأنه نهى عن
السفر الا في جماعة فبين بهذا الحديث ان الاثنين فما
فوقهما جماعة في جواز السفر وهذا ما اقتصر في الكتاب على
ذكره ولقائل ان يقول سفر الواحد منفردا ليس بحرام إنما هو
مكروه بل الجواب ان الخلاف ليس في لفظ الجمع ولا لفظ
الجماعة كما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التحريم آية 4.
2 رواه البخاري في كتاب الصلاة, باب الإثنان فما فوقهما
جماعة,والنسائي في كتاب الإقامة,باب: الجماعة إذا كانوا
اثنين ..
كما رواه ابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
.
ج / 2 ص -129-
فائدة
الخلاف في هذه المسالة فائدة أصولية وفوائد فروعية أما
الأصولية فهي النظر في الغاية التي ينتهي التخصيص إليها
وهي المسألة المتقدمة.
وقال الأستاذ أبو اسحاق في أصوله بعد ان عزا ما ذكره الى
بعض الأصحاب هذه فائدة مريعة فان ائمتنا يجمعون على جواز
تخصيص الجمع والعموم بما هو دليل الى ان يبقى تحته واحد
انتهى وهو فائدة وقد عرفت الخلاف المتقدم واما الفوائد
الفروعية فمنها لو قال له على دراهم لزمه ثلاثة وحكى وجه
انه يلزمه درهمان ومنها قليل يكتفي في الصلاة على الميت
باثنين حكاه الرافعي عن التهذيب وقال انه بناء على أن اقل
الجمع اثنان ومنها:
لو أوصى لأقاربه وليس له الا قريب واحد فوجهان في انه هل
يصرف إليه الكل أو الثلث وحكى الأستاذ أبو منصور وجها انه
يكون له النصف حكاه الرافعي عنه ولم يعلله قال ابن الرفعة
في المطلب ولم افهم له معنى وان تخيل انه بناء على ان اقل
الجمع اثنان لزمه ان يقول فيما إذا أوصى للفقراء بجواز
الاقتصار عليهما ايضا ولم نر من قال به ومنها في الرافعي
في فروع الطلاق انه لو قال ان تزوجت النساء أو اشتريت
العبيد فهي طالق لم يحنث الا إذا تزوج ثلاث نسوة واشترى
ثلاثة عبيد وقياس الخلاف الأصولي جريان وجه تحنيثة باثنين.
فإن قلت: ولم لا يقال في هذه الصورة انه لا يحنث بشيء لأنه
علق على جميع نساء العالمين وعبيدهم بدليل إدخاله الألف
واللام المقتضية للعموم وهو تعليق على مستحيل والصحيح في
التعليق على المستحيل انه لا يقع.
قلت: لما كان أعمال الكلام أولى من اهماله حمل على جنس
الجمع في ذلك وقال الرافعي في كتاب الإيمان فيما إذا حلف
لا يكلم الناس ذكر ابن الصباغ وغيره انه يحنث إذا كلم واحد
كما إذا قال لا آكل الخبز ولو حلف لا يكلم ناسا حمل على
ثلاثة انتهى.
فإن قلت: هذا عجيب ناس للمنكر يحمل على الجمع فإذا دخلت
الألف واللام المعممة تخرجه عن ذلك.
قلت: كان الألف واللام والحالة هذه المراد بها الجنس من
حيث هو
ج / 2 ص -130-
بخلاف
ما إذا كان منكرا واما قياس لا يكلم الناس على لا آكل
الخبز ففيه نظر لصدق الخبز على القليل والكثير صدقا واحدا
كالماء والعسل.
قال: الرابعة العام المخصوص مجاز وإلا لاشتراك وقال بعض الفقهاء انه حقيقة وفرق الإمام بين المخصص
بالمتصل والمنفصل لان المقيد بالصفة لم يتناول غيرا قلنا
المركب لم يوضع والمفرد متناول.
واختلفوا في العام انه إذا خص هل يكون في الباقي حقيقة على
مذاهب.
أحدها: انه مجاز وذهب إليه أصحابنا
والمعتزلة كأبي على وابنه واختاره المصنف وصفي الدين وابن
الحاجب لأنه حقيقة في الاستغراق فلو كان حقيقة في البعض
لزم الاشتراك والمجاز خير من الاشتراك.
والثاني: أنه حقيقة وهو مذهب كثير من
أصحابنا وجمهور الحنفية والحنابلة.
والثالث: أن المخصص ان كان مستقلا سواء
كان عقليا كالدليل الدال على ان غير القادر غير مراد من
الخطاب في العبادات أو لفظيا كما إذا قال المتكلم بالعام
أردت به الفلاني فهو مجاز وان لم يكن مستقلا فهو حقيقة
وذلك كالاستثناء مثل قول القائل من دخل داري يكرم الا زيدا
والشرط من دخل أكرمته ان كان عالما والتقيد بالصفة من دخل
داري من الطوال قال صفي الدين الهندي والتقيد بالعام لعلة
الغاية وان لم يذكروه في هذا المقام حكمه حكم إخوانه من
المتصلات ظاهرا إذ لا يظهر فرق بينهما على هذا الرأي وهذا
ما اختاره الكرخي وأبو الحسين البصري والامام وعلى حكاية
هذه الثلاثة اقتصر المصنف.
والرابع: ان خص بمتصل من شرط او استثناء
فهو حقيقة وإلا فهو مجاز وهو المنقول عن القاضي وقد رايته
في مختصر التقريب الا انه لم يصرح بذكر الشرط وهذه عبارته
ولو قررنا القول بالعموم فالصحيح عندنا من هذه المذاهب ان
نقول إذا تقدر التخصيص باستثناء متصل فاللفظ حقيقة في بقية
المسميات وان تقدر التخصيص بدلالة منفصلة فاللفظ مجاز لكن
يستدل به في بقية المسميات انتهى.
ج / 2 ص -131-
والخامس: ان خص بالشرط والتقييد بالصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز حتى في
الاستثناء.
والسادس: ان خص بدليل لفظي سواء كان متصلا
أم منفصلا فهو حقيقة وإلا فهو مجاز
والسابع: ان بقي بعد التخصيص جمع فهو
حقيقة فيه وإلا فهو مجاز.
وصرح الغزالي بأنه لا خلاف في انه مجاز إذا لم يبق بعد
التخصيص جمع وهذا فيه نظر فقد صرح امام الحرمين في التلخيص
بحكاية الخلاف في ذلك فقال ذكر القاضي عن بعض أصحابنا ان
اللفظ حقيقة فيما يبقى وان كان اقل من الجمع هذا بعيد جدا
انتهى.
والثامن: انه حقيقة في تناول ما بقي مجاز
في الاقتصار عليه وهو اختيار امام الحرمين قوله لان المقيد
هذا دليل الإمام وتقريره ان العام المقيد بالصفة لم يتناول
غير الموصوف لأنه لو تناوله لضاعت فائدة الصفة وإذا انحصر
تناوله فيه وقد استعمل فيه فيكون حقيقة وهذا بخلاف المخصوص
بمنفصل فان لفظه متناول للخارج بحسب اللغة مع كونه لم
يستعمل فيه فيكون مجازا او مشتركا والمجاز أولى فيكون
مجازا.
وأجاب المصنف بأن المركب من الموصوف والصفة مثلا غير موضوع
فلا يكون حقيقة فيه فلم يبق الا المفرد والمفرد الذي هو
العام متناول لكل فرد لغة وقد استعمل في البعض فيكون مجازا
وهذا الجواب مبني على ان المركبات غير موضوعة وفيه نزاع
فالأولى الجواب بأنه لو لم يكن الموصوف ونحوه متناولا لم
يكن المتصل من المخصصات لان التخصيص إخراج بعض ما تناوله
اللفظ هذا شرح ما في الكتاب ونختم المسالة بشيئين.
احدهما: قال الإمام إذا قال الله اقتلوا المشركين فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحال الا زيدا فهل هو
تخصيص بمنفصل أو متصل فيه احتمال.
قال صفي الدين الهندي والأظهر انه منفصل.
ج / 2 ص -132-
قلت:
وقد ذكر القاضي المسالة في مختصر التقريب وقال ان من
الاصوليين من نزله منزلة الاستثناء المصرح به كلام الله
تعالى قال القاضي والذي نرتضيه انه صلى الله عليه وسلم ان
ابتدأ من تلقاء نفسه كلام ولم يصفه الى كلام الله تعالى
فيلتحق ذلك في المنفصل ولا يجعل كلامه صلى الله عليه وسلم
استثناء حقيقيا بل هو تخصيص سواء قدر متصلا أو منفصلا.
والثاني: اعلم ان الاصوليين لم يذكروا التفرقة بين العام
المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص وهو تحرير منهم
والشافعي رضي الله عنه له أقوال في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} منها انه عام مخصوص ومنها انه عام مراد به الخصوص وقد كثر الكلام
في ذلك وتشعب النظر ولوالدي أيده الله تعالى في ذلك كلام
نفيس ونحن نذكر جميع ما ذكره فانه مما ينبغي ان يغتبط به
الفطن قال احسن الله إليه كثر الكلام في العام المخصوص
والعام الذي أريد به الخصوص في الفرق بينهما وفي ان العام
المخصوص مجاز أولا وظن جماعة ان هذا الخلاف في ان العام
المخصوص مجاز أو لا يجري في العام المراد به الخصوص والذي
أراه في ذلك وبالله العون والتوفيق أما العام الذي أريد به
الخصوص فهو العام إذا أطلق وأريد به بعض ما يتناوله فهو
لفظ مستعمل في بعض مدلوله وبعض الشيء غيره فالذي يظهر أنه
مجاز قطعا إلا أن قيل ان العام دلالته على كل فرد من
أفراده دلالة مطابقة.
فقد يقال حينئذ على هذا بأنه حقيقة في كل فرد فان جاء خلاف
فيه فإنما يجيء من هذه الجهة وشرط الإرادة في هذا النوع
على ما ظهر لنا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكتفي
بطريانها في أثنائه لأن المقصود فيها نقل اللفظ عن معناه
الى غيره واستعماله في غير موضوعه وليس إرادة إخراج لبعض
المدلول إرادة استعماله اللفظ في شيء آخر غير موضوعه كما
يراد باللفظ مجازه الخارج عنه لا فرق بينهما الا ان ذاك
خارج هذا داخل لأن البعض داخل في الكل ومن يجعل الدلالة
على كل فرد دلالة مطابقة لا يناسبه ان يقول انه استعمال
اللفظ في غير موضوعه بل يصير كاستعمال المشترك في أحد
معنييه وهو استعمال حقيقي وارادة أحد معنيي المشترك عند
مانع استعمال المشترك
ج / 2 ص -133-
في
معنييه لا شك أنها لا تخرجه عن موضوعه ولا تجعله مجازا بل
هي مصححه لاستعماله.
وأما عند من يجوز استعماله في معنييه فهم مختلفون إذا
استعمل في معنييه هل هو مجاز أم لا فمن جعله مجازا فكذلك
لأن الاستعمال الحقيقي عنده هو استعماله في أحد المعنيين
ومن جعله حقيقة كالعام كما هي طريقة الشيخ الآمدي في النقل
عن الشافعي رضي الله عنه فيصير البحث فيه كالبحث في العام
المراد به الخصوصي وفيه نظر لأنا نعلم ان المشترك وضعه
الواضع لكل من المعنيين وحده بخلاف العام ولكن أدى مساق
البحث على طريقة الآمدي الى ما قلناه ويؤنسك الى اشتراط
مقارنة الإرادة في هذا النوع لأول اللفظ ما ذكره الفقهاء
في تكبيرة الاحرام وفي كنايات الطلاق وإذا حققت هذا المعنى
اضبطه وأما العام المخصوص فهو العام إذا أريد به معناه
مخرجا منه بعض أفراده فالإرادة فيه إرادة الإخراج لإرادة
الاستعمال في تشبه الاستثناء فلا يشترط مقارنتها لأول
اللفظ ولا يجوز تأخرها عن آخرها عن آخره بل يشترط ان لم
توحد في أوله ان تكون في أثنائه ويؤنسك في هذا ما قاله
الفقهاء في مشيئة الطلاق فإنه يشترط اقتران النية ببعض
اللفظ قبل فراغه فالتخصيص إخراج كما ان الاستثناء إخراج
ولهذا نقول المخصصات المتصلة أربعة الاستثناء والغاية
والشرط والصفة والمخصص في الحقيقة هو الإرادة المخرجة وهذه
الأربعة والمخصص المنفصل خمستها داله على تلك الإرادة وتلك
الإرادة ليست إرادة استعمال اللفظ في غير موضوعه فلذلك لم
يقطع بكونه مجازا بل حصل التردد ومنشأ التردد أن إرادة
إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مرادا به الباقي به أو لا
والحق لا وهو يشبه الخلاف في الاستثناء وهذا يقوي العام
المخصوص حقيقة لكن الأكثرين على انه مجاز ووجهه انه يجعل
موضوعا استعمل في معناه بتمامه غير مخرج منه شيء فمتى
استعمله مخرجا منه شيء كان مجازا لاستعماله على غير الوجه
الذي وضعه الواضع عند الاطلاق.
وهذا فيما يحتمل المجاز وهو ما كان ظاهرا كالعام.
أما ما كان نصا كالعدم فالمجاز فيه وليس الا الإخراج المحض
ويظهر أثر هذا في
ج / 2 ص -134-
أن
المخصص المنفصل يأتي في العام ولا يأتي في العدد
والاستثناء في العام كاشف عن الإرادة المخصصة والاستثناء
في العدد هو المخرج بنفسه لا بدلالته على إرادة متقدمة
ولهذا لو أراد فقط ولم يوجد لفظ الاستثناء لم يصح في
العدد.
ويصح في العام ولو قال: أنت طالق ثلاثا ونوي بقلبه إلا
واحدة وماتت قبل نطقه بقوله الا واحدة يقع الثلاث نعم
يشترط نية الاستثناء قبل فراغ اللفظ لأجل الربط فالنية فيه
شرط لاعتبار الاستثناء بعده وليست مؤثرة والنية في التخصيص
مؤثرة في الإخراج وحدها ويدل عليها تارة بمخصص منفصل وتارة
بمتصل والنية في العام المراد به الخصوص مؤثرة في نقل
اللفظ عن معناه الى غيره ومن هنا يعرف ان عد ابن الحاجب
البدل في المخصصات ليست بجيد لان الأول في قولنا أكلت
الرغيف ثلثه يشبه العام المراد به المخصوص لا العام
المخصوص فانظر هذه المعاني وتفهمها ثم تذكر ما قدمته في
العام المراد به الخصوص تعرف الفرق بينهما وحكمها هذا ما
ذكره والدي رحمه الله وهو في غاية النفاسة والذي تحصلت
عليه ان العام أنواع.
أحدها: العام الذي أريد به العام حقيقة.
والثاني: العام الذي أريد به غالب الأفراد
ونزل الأكثر فيه منزلة الكل فهو مراد به العموم أيضا.
والثالث: ما لم ينزل الأكثر فيه منزلة
الكل ولكن الكثرة فيه موجودة.
والرابع: ما المراد به القليل كقوله:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}
وهذا أخذته من كلام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة فإنه
قال باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام أي الكثرة
الغالبة فلا يناقضه قوله ويدخله الخصوص ومثاله القرية
الظالم أهلها وقد ذكره الشافعي في أثناء الباب فكأنه جعلهم
كل أهل القرية وقال الشافعي رضي الله عنه في أول الباب قال
الله تعالى: جل ثناؤه
{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ}1
وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 11.
ج / 2 ص -135-
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}1وقال:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا}2فهذا عام لا خاص فيه انتهى.
وهو كما صرح به الشافعي وإنما ذكره توطئة لما بعده وليس
مما بوب له الا في كونه أريد به العموم فالمراد به العموم
قسمان:
أحدهما: حقيقة لا خصوص فيه وهو خالق كل شيء.
والثاني: مجاز فيه خصوص وهو ما ذكره الشافعي بعد مثل
القرية الظالم أهلها ولم يلتفت الشافعي الى ما يقوله
الأصوليون من ان خالق كل شيء مخصوص بالعقل وكأنه لأن العقل
لما دل على المراد به جعله هو المقصود به في كلام العرب
لأنها إنما تضع لما يعقل ثم قال الشافعي وقال الله:
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ}3 الآية قال الشافعي وهكذا قول الله عز وجل:
{حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}4 ففي هذه الآية دلالة على انه لم يستطعما كل أهل قرية فهي في
معناها وفيها وفي القرية الظالم أهلها خصوص لأن كل أهل
القرية لم يكن ظالما قد كان فيهم المسلم ولكنهم كانوا فيها
مكثورين فكانوا فيها اقل انتهى.
فهذا عام أريد به العام ودخله الخصوص وليس المعنى هنا من
إرادة العام جميع الأفراد بل الكثرة المنزلة منزلة الكل
ويظهر انه مجاز وليس من مجاز استعمال لفظ الكل في البعض
لأن ذلك لا يفترق الحال فيه بين بعض وبعض وهذا في بعض كثير
غالب على الباقي فهو أقوى لأنه اجتمع فيه مجاز البعض ومجاز
المشابهة إذا الأكثر يشبه الكل في الكثرة وهو مع ذلك قد
دخله التخصيص فمن جعل العام المخصوص مجازا يكون قد اجتمع
فيه نوع آخر من المجاز ايضا وهذا غريب ينبغي ان يتفطن له
ومن لم يجعل العام المخصوص مجازا يقتصر على المجاز من
الجهة الأولى وهذا من نفائس البحث وبه يظهر أن العام
المراد به العموم قسمان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 3.
2 سورة هود آية 6.
3 سورة النساء آية 75.
4 سورة الكهف آية 77.
ج / 2 ص -136-
أحدهما: الحقيقي كقوله وهو بكل شيء عليم خالق كل شيء على
ما قاله الشافعي.
والثاني: المجازي كقوله استطعما أهلها والظالم أهلها وهذا
القسم لا يكون في الأمر والنهي وإنما يكون في الخبر لأن
الأمر والنهي لا يتجوز فيهما بل يقصد بيان حكم التكليف
والعام المخصوص قسمان.
أحدهما: ما يراد به العموم كما تقدم وفيه مجاز كما بيناه.
والثاني: ما ليس كذلك كقوله:
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}1وتخصيصه بالقاتل والكافر.
فهذا عام مخصوص وقد أطلق الشافعي عليه بعد ذلك انه عام
يراد به الخصوص كما سنذكره وقد عرفت ان الجمهور على انه
مجاز وقد قرر والدي انه حقيقة كما سبق والشافعي لم يتعرض
للفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص وبما
ذكرناه يكون العام المخصوص أنواعا:
أحدها: ما نزل الأكثر فيه منزلة الجميع فهو مراد به
العموم.
والثاني ما ليس كذلك ولكن الكثرة فيه موجودة وهو مراد به
الخصوص ومخصوص كقوله:
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}.
والثالث: لا المراد يه القليل كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وهذا مراد به الخصوص ومخصوص والفرق بينه وبين الثاني ان هذا تقول
فيه إنه مجاز والثاني محتمل لأن يكون مجازا وهو محل خلاف
الأصوليين السابق في ان العام المخصوص هل هو حقيقة أو
مجاز.
واعلم أن في كلام الشافعي في الرسالة ايضا ما يمكن ان
يتمسك به منه على ان كل عام مخصوص مراد به الخصوص وذلك
لأنه قال باب ما نزل عاما دلت السنة على انه يراد به الخاص
قال الشافعي قال الله جل ثناؤه:
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} الى قوله:
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}2 وقال:
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الى قوله:{فَلَهُنَّ
الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}3
فأبان ان الوالدين والأزواج ما سمي في الحالات وكل عام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 11.
2 , 2 سورة النساء آية 12.
ج / 2 ص -137-
المخرج
فدل بنسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم انه إنما أريد بعض
الوالدين والأزواج دون بعض وذلك ان يكون دين الوالدين
والمولودين والزوجين واحدا ولا يكون الوارث منهما قاتلا
ولا مملوكا انتهى فيمكن التمسك بهذا على ما ذكرناه لأن
السنة إنما دلت على عدم وريث القاتل والكافر وهو تخصيص
مقتض لأن يكون هذا العام مخصصا وقد قال الشافعي ان السنة
دلت انه إنما أريد به الخصوص فدل على ان كل عام مخصوص مراد
به الخصوص إذا كان المراد غير منزل منزلة الكل الذي تقدم
إطلاق الشافعي عليه انه اريد به العموم وبهذا يتبين ان
البحث الذي قرره والدي رحمة الله عليه في ان العام المخصوص
حقيقة لأنه الذي قصد عمومه مخرجا منه بعض الأفراد كاستثناء
ليس ذلك وإن كان البحث فيه محال فإنه نوع يصح إرادته.
وقد وقف الله والدي أيده الله تعالى على ما أوردته من كلام
الشافعي وقال ان لم يصح ذلك البحث الذي قررناه فالأمر كما
قال الشافعي وان صح احتمل في التخصيص بالقاتل والكافر ان
يكون عاما مخصوصا وان يكون مراد به الخصوص ولا يمكن الوصول
الى العلم بحقيقته أو يعلمه الا الله تعالى والمتكلم به
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة وأنا من عادتي في هذا
الشرح الاطناب فيما لا يوجد في غيره ولا يتلقي إلا منه بحث
مخترع او نقل غريب أو غير ذلك والاختصار في المشهور في
الكتب إذ لا فائدة في التطويل فيما سبقنا من هم سادتنا
وكبراؤنا الى جمعه وهل ذلك الا مجرد جمع من كتب متفرقة لا
يصدق اسم المصنف على فاعله.
قال الخامسة: المخصص بمعين حجة ومنعها عيسى بن أبان وأبو ثور وفصل الكرخي.
يشبه ان تكون هذه المسألة مفرعة على قول من يقول العام
المخصوص مجاز فإن من قال غير ذلك احتج به هنا لا محالة
وحاصل هذه المسالة ان العام إن خص بمبهم كما لو قيل
واقتلوا المشركين الا بعضهم فلا يحتج به على شيء من
الأفراد إذ ما من فرد الا ويجوز ان يكون هو المخرج وهذا قد
ادعى جماعة فيه الانفاق وهي دعوى غير مسموعة فقد صرح ابن
برهان في الوجيز بان محل
ج / 2 ص -138-
الخلاف
فيم إذا خص بمبهم فان عبارته العام إذا دخله التخصيص لم
يصر مجملا.
وقال عيسى بن أبان إذا كان التخصيص بدليل مجهول صار مجملا
انتهى وهو مصرح بخلاف الدعوى مع زيادة ان المختار عنده
خلافها وهو قضية ايراد المحصول والقاضي في مختصر التقريب
ذكر الخلاف في العموم إذا خص هل يصير مجملا ولم يقيد بمبهم
ولا معين ونقل مذهب ابن أبان عن كثير من الفقهاء من أصحاب
الشافعي ومالك وأبي حنيفة وطائفة من المتكلمين منهم
الجبائي وابنه انتهى ووجه هذه الطريقة التي ذكرها ابن
برهان كما ذكرنا إذا نظرنا الى فرد من الأفراد شككنا فيه
هل هو المخرج والاصل عدمه فيبقى على الأصل ويعمل به الى ان
لا يبقى فرد لكن الهندي رد هذا البحث بأن المسألة مفروضة
في الاحتجاج بالعام المخصوص فيما عدا المخصوص وهذا البحث
يقتضي صحة الاحتجاج في الجميع المخصص وغيره ولا قائل به
انتهى ويتجه عندي ان يقال يحتج به الى ان يبقى فرد واحد
فلا يحتج هذا إذا خص بمبهم أما إذا خص بمعين وهي مسألة
الكتاب كما لو قيل اقتلوا المشركين الا المستأمن أو أهل
الذمة ففيه مذاهب.
أصحها عند الإمام واتباعه منهم بمصنف انه
حجة في الباطن مطلقا وهو قول معظم الفقهاء واختاره الآمدي
وابن الحاجب.
الثاني: أنه ليس بحجة وهو قول عيسى ابن
أبان1وأبي ثور2وهو مراد كالمصنف بقوله منعها أي منع حجته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أبو موسى عيسى بن أبان بن صدفة من فقهاء الحنفية
وعلمائهم المبرزين تولى القضاء بقم والبصرة وله مؤلفات
كثيرة منها: إثبات القياس توفي بالبصرة سنة 221هـ.
الفوئد البهية ص 151, الإعلام 2/749.
2 هو: ابراهيم بن خالد الكلبي البغدادي صاحب المذهب الفقهي
المعروف صاحب الإمام الشافعي توفي سنة 240هـ.
تذكرة الحفاظ 2/87, الإعلام 1/ 12.
ج / 2 ص -139-
الثالث: وبه قال الكرخي1 والبلخي2 ان خص بمتصل كالشرط والإسناد والصفة فهو
حجة وان خص بمنفصل فلا وهذا التفصيل يفهم من مسألة السابقة
فلذلك أهمل المصنف بتبيينه واقتصر على حكاية هذه الثلاثة.
والرابع: ان التخصيص ان كان قد منع تعلق
الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط لا ينبىء عنه الظاهر
لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}3 لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة
فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق
وموجب لتعلقه بشرط لا ينبىء عن ظاهر اللفظ وان كان التخصيص
لا يمنع من تعلق الحكم به جاز التعلق به كما في قوله تعالى
اقتلوا المشركين لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل
الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين وهو
قول أبي عبد الله البصري4.
والخامس: أن العام المخصوص إن كان بحيث لو
تركناه وظاهره من غيرة بيان التخصيص لكنا نتمثل ما أريد
هنا ونضم إليه شيئا آخر لم يرد هنا كقوله تعالى اقتلوا
المشركين فإنا لو خلينا وظاهره لكنا نقتل كل من صدق عليه
الاسم من الحربي والذمي والمستأمن فكنا قد امتثلنا في ذلك
ما أريد منا وما لم يرد جاز التمسك به وإن كان العام بحيث
لو تركناه وظاهره من غير بيان التخصيص لم يمكنا ان نمتثل
ما أريد منا لم يجز التمسك به وهو كقوله تعالى أقيموا
الصلاة لأنه لو لم يبين مراده لم يمكنا فعل ما أراده من
الصلاة الشرعية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب.
2 هو أحمد بن سهل أبو زيد البلخي أحد الكبار الأفذاذ الذين
جمعوا بين علوم الشريعة والفلسفة والأدب والفنون ,
من مؤلفاته: صور الأقاليم الإسلامية, و أقسام العلوم,
وشرائع الأديان, وأدب السلطان والرعية, توفي ببلخ سنة
322.
معجم الأدباء 3/65- 86, لسان الميزان 1/183, الأعلام
7/131.
3 سورة المائدة آية 38.
4 هو: الحسين بن علي أبو عبد الله البصري أخذ عن أبي هاشم
الجبائي برع في شتى العلوم من الفقه والأصول وعلم الكلام
توفي سنة 368هـ.
فرق وطبقات المعتزلة ص111- 113.
ج / 2 ص -140-
أصلا
بخلاف آية السرقة فإنا لو خلينا وظاهرها لكنا فطعنا كل
سارق وفي ذلك امتثال ما أريد منا ولم يرد وهذا قول القاضي
عبد الجبار.
والسادس: انه يجوز التمسك به في اقل الجمع ولا يجوز فيما
زاد عليه قال الهندي وهذا يشبه أو يكون قول من لا يجوز
التخصيص الى اقل من اقل الجمع.
قلت: وإذا تقرر ان الخلاف جار في العام المخصوص مطلقا سواء
كان مبهما أو معينا جاء مذهب سابع وهو التفصيل بين المعين
والمبهم كما أورده الإمام:
قال: لنا ان دلالته على فرد لا تتوقف دلالته على الآخر
لاستحالة الدور فلا يلزم من زوالها زوالها.
استدل على ما اختاره بأن دلالة العام على فرد من أفراده لا
تتوقف على دلالته على الآخر لأن دلالته مثلا على الباقي لو
توقفت دلالته على البعض المخرج فإن لم تتوقف دلالته على
المخرج على الباقي كان ذلك تحكما إذ دلالته العام على كل
أفراده متساوية وإن توقف عليه لزم الدور لتوقف كل منهما
على الآخر والدور مستحيل فدلالته على كل فرد لا تتوقف على
دلالة على غيره من الأفراد وإذن لا يلزم من زوال الدلالة
عن بعض الأفراد زوالها عن البعض الآخر فلا يكون حجة وهذا
الدليل ضعيف من وجهين.
أحدهما ان هذا دور معية لا سبق فلا
استحالة فيه ويظهر هذا بمعرفة دور السبق والمعية فنقول كل
واحد من الشيئين على الآخر ان كان توقف قبله وبعده فهو
الدور السبقي الذي يستحيل وقوعه ومثاله إذا قال زيد لا
اخرج من الدار حتى يخرج عمرو قبلي وقال عمرو لا اخرج منها
حتى يخرج زيد قبلي وإن لم يكن سبقا كان إذا قال كل منهما
لا ادخل حتى يدخل الآخر فلا استحالة فيه لجواز دخولهما معا
وهذا هو المعنى وهو الموجود في دلالة العام.
والثاني ان دلالة العام على كل فرد مشروطة باستعماله في
الموضوع وهو الاستغراق فإذا لم يستعمل فيه جاز في كل واحد
ان يكون حجة في شيء منه
ج / 2 ص -141-
والأولى التمسك بما درج عليه السالفون من الصحابة
والتابعين فانهم استدلوا بأكثر العمومات المخصوصة من غير
نكير بل لو صح ما ذكروه باب التمسك باللفظ العام إذ ما من
عام في حكم شرعي الا وهو مخصوص وعلى ما قالوه يمتنع
الاستدلال به.
قال السادسة يستدل بالعام ما لم يظهر مخصص وابن سريج أوجب طلبه أولا هل يجوز ان يستدل بالعام قبل البحث عن
المخصص فيه مذهبان.
أحدهما: الجواز وهو قول الصيرفي واليه مال
الإمام.
والثاني: المنع وهو قول أبي العباس بن
سريج.
واعلم ان إثبات الخلاف في هذه المسألة على هذا الوجه هو
ايراد الإمام وجمهور اتباعه وادعى جمع من المتأخرين ان ذلك
غير معروف بل باطل محتجين بأن الذي قاله الغزالي فمن بعده
كالآمدي وغيره أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن
المخصص اجماعا ثم اختلفوا فمن قائل يبحث ومن قائل لا يكفي
الظن ولا يشترط القطع بل لا بد من اعتقاد جازم تسكن النفس
إليه ومن قائل لا بد من القطع وعليه القاضي قال ويحصل ذلك
بتكرير النظر والبحث واشتهار كلام الأئمة قالوا وليس خلاف
الصيرفي إلا في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به وإذا
ظهر مخصص تغير الاعتقاد هكذا نقله إمام الحرمين ثم الآمدي
وغيره واشتهرت هذه المقالة حتى تولعت الألسن بأن هذا كان
من غلطات الإمام وأنا أقول قد سبق الإمام بهذا النقل الثقة
أثبت الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فقال في شرح اللمع ما نصه
إذ أوردت هذه الألفاظ الموضوعة للعموم هل يجب اعتقاد
عمومها في الحال عند سماعها العمل بموجبها انتهى وكذلك
الأستاذ أبو إسحاق في أصوله الذي انتخبه والده أيده الله
ولفظه قيل يلزم وقيل لا يلزم ويعرض على الأصول الممهدة
لجواز ان يكون فيها ما يخصصه وأفاد الأستاذ في هذه المسألة
فائدة جليلة وهي ان الخلاف ليس إلا فيما إذا ورد الخطاب
العام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا ورد في
عهده وجبت المبادرة الى الفعل على عمومه لأن أصول الشريعة
لم تكن متقرره قد بان لك بهذين النقلين ان ما نقله الإمام
ج / 2 ص -142-
غير
مستنكر وهو أولى واوجه من القول بإيجاب اعتقاد العموم على
جزم حين ظهور المخصص يتغير الاعتقاد فإن مذهبه في غاية
السقوط لا وجه له ولا حاصل تحته وقال امام الحرمين انه
عنده غير معدود من مباحث العقلاء ومضطرب العلماء قال وإنما
هو قول صدر عن عبادة واستمرار في عناد انتهى وهذا بخلاف
القول بالعمل بالعام ابتداء فإنه ذو وجه ظاهر وجيه.
قال: لنا لو وجب لوجب طلب المجاز للتحرز عن الخطأ واللازم
منتف قال عارض دلالته احتمال المخصص قلنا: الأصل يدفعه.
هذا دليل على ما اختاره من وجوب العمل بالعام ابتداء
وتقريره لو وجب طلب المخصص والبحث عنه قبل التمسك بالعام
لوجب طلب المجاز عند استعمال اللفظ في حقيقته واللازم منتف
فالملزوم مثله أما وجه الملازمة فلأن الطلب في الصورة
الأولى إنما هو الاحتراز على المفسدة واحتمال ضرر الخطأ
وهذا المعنى موجود في الحقيقة وأما انتفاء اللازم فظاهر إذ
لم يزل العلماء خلفا عن سلف على ممر الدهور وتعاقب الأزمنة
يحملون اللفظ على حقيقته من غير بحث عن المجاز ومنهم من
ادعى الاجماع على انه لا يجب طلب المجاز ولكن فيه نظر فقد
نقل الثقات ابن سريج الى وجوبه وصرح القرافي بأن المسألتين
على السواء على تقدير صحة الإجماع فالفرق واضح وذلك لأن
احتمال وجود المخصص أقوى إذ ما من عام إلا وقد تطرق إليه
التخصيص كما قال امام الحرمين قال والدي رحمه الله ويوضح
هذا التفريق ان في العام دلالتين.
إحداهما: على اصل المعنى هي نص والأخرى
على استغراق الأفراد وهي ظاهرة واحتمال المجاز حاصل في
الأولى وفي كل حقيقة يدل اللفظ فيها على معنى والدلالة
الإفرادية عليه قطعية فلذلك لم يطلب المجاز واحتمال
التخصيص إنما هو في الثانية قال ومن تأمل هذا الكلام على
ان إيراد الحقيقة على العام ساقط لأن في العام حقيقة
ومجازا شارك فيهما وفيه تخصيص ينفرد به لا يوجد مثله في
الحقيقة قال وهذا نفيس جدا.
قلت: ونظيره على العكس قلنا لا رجل بالفتح نص في الاستغراق
وان كان محتمل المجاز لإراده لا غلام رجل لا رجل بالرفع
ظاهر في الاستغراق لا
ج / 2 ص -143-
نص
فهذا نظير العام والأول نظير الحقيقة وانما قلنا على العكس
لأن قضية الاستغراق في الأول لا في الثاني فلا رجل بالفتح
عمومه نص مقطوع به وحقيقة ظاهرة عكس العام ولا رجل بالرفع
عمومه ظاهر وحقيقته محتملة للمجاز كغيرها من الحقائق قوله
قال عارض أي احتج ابن سريج على مذهبه بأن العام وان دل على
ثبوت الحكم في جميع الأفراد فاحتمال المخصص يعارضه لأن
العام قبل طلب المخصص يحتمل التخصيص ويحتمل عدمه احتمالا
على السواء وأجاب بأن الأصل عدم المخصص والإحتمال بمجرده
لا يصلح معارضا لهذا الأصل فيكون مرجوحا.
فائدة: إذا اقتضى اللفظ العام عملا مؤقتا وضاق الوقت عن
طلب الخصوص فهل يعمل بالعموم أو يتوقف فيه اختلف أصحابنا
في ذلك كما حكاه ابن الصباغ في كتابه عده العالم في آخر
مسألة إسماع الله المكلف اللفظ العام دون مخصصه وللخلاف
نظائر كثيرة في المذهب منها هل للمجتهد التقليد عند ضيق
الوقت ليعمل به أم لا فيه وجهان:
الأول: منهما وهو الجواز قول ابن سريج قال ولا يجوز له ان
يفتى قال الرافعي وقياسه ان لا يجوز القضاء وأولى ومنهم من
طرد قول ابن سريج في القضاء قال الرافعي ومن قال به فقياسه
طرده في الفتوى ومنها لا يجوز للقادر عل الاجتهاد في
القبلة ان يقلد غيره فإن ضاق عليه الوقت وظن ان وقت الصلاة
ينتهي قبل اجتهاده فهل يقلد ويصلى في الوقت أو يتمادى في
نظره الى تمام الاجتهاد فيه وجهان ومنها واستيقظ قبيل
الوقت وكان بحيث لو اشتغل بالوضوء لخرج الوقت فهل يباح له
التيمم أو يتوضأ أو يصلي خارج الوقت فيه وجهان.
ج / 2 ص -144-
الفصل الثالث في المخصص
قال: الفصل
الثالث في المخصص وهو متصل ومنفصل فالمتصل أربعة الأول
الإستثناء وهو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها والمنقطع
مجاز.
المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم كما سبق ويطلق على
الدال على الإرادة مجازا وهو المراد هنا ثم هو إما متصل أو
منفصل لأنه إما أن يستقل بنفسه فالمنفصل أولا بل يتعلق
معناه باللفظ الذي قبله فالمتصل وقسمه تبعا للأكثر الى
أربعة والإستثناء والشرط والصفة والغاية وزاد ابن الحاجب
خامسا وهو بدل البعض من الكل مثل قولك اكرم الناس عالمهم
ومنه قوله تعالى:
{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ}.
الأول: الاستثناء وعرفه بما ذكر فقوله إخراج جنس يندرج
تحته كل المخصصات وقوله بالإخراج به ما عدا الاستثناء قوله
ونحوها يعنى مثل خلا وعدا وحاشا وسوى ثم أنه شرط في إلا ان
تكون غير صفة يعنى بمعنى غيركما في قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}1 أي غير الله فإنها ليست للإستثناء ومثله جاءني رجال الا زيد فإنه
ليس باستثناء ايضا إذا لا يمكن ان يكون متصلا لأن شرط
المتصل ان يكون لولا الاستثناء لوجب دخوله وليس كذلك ها
هنا لأن بتقدير عدم الاستثناء لا يجب دخول زيد في رجال
لأنه لا يعم كما سبق ولا أن يكون منفصلا لأن شرط المنفصل
ان لا يكون المستثنى داخلا وهنا يجوز ان يكون داخلا وقد
أورد على هذا التعريف أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 22.
ج / 2 ص -145-
غير
جامع لخروج الاستثناء المنقطع عنه وذلك لأن المستثنى في
الاستثناء المنقطع مثل قال القوم إلا حمارا غير داخل في
المستثنى منه ومنه قوله تعالى:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ}1 قال القاضي في مختصر التقريب والأصح أنه ليس من الملائكة وكذلك
قوله تعالى:
{وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً}2 ومالهم به والحد للإستثناء الحقيقي والى الاعتراض وجوابه أشار
بقوله والمنقطع مجاز على ان منهم من يقول المنقطع حقيقة
ووارد على التعريف ايضا ان لفظه الا أخذت في لفظه وهي من
أدوات الاستثناء فيكون تعريفا للشيء بنفسه وبأن أتى في
التعريف بالواو في قوله ونحوها وهو غير سديد والصواب
الآتيان بأو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر 30-31.
2 سورة النساء آية 92.
قال: وفيه مسائل الأولى: شرطه الاتصال عادة
بإجماع الأدباء
وعن ابن عباس خلافه قياسا على التخصيص بغيره والجواب النقض
بالصفة والغاية.
يشترط في الاستثناء شيئان:
أحدهما: ان يكون متصلا بالمستثنى منه عادة
واحترز بقوله عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنح صحة
الإستثناء كما قاله الإمام وكذلك قطع الكلام بالتنفس
والسعال لا يمنع الاتصال والدليل على ما قلناه من اشتراط
الاتصال إجماع أهل اللغة وهم الأدباء عل ذلك وهذا الدليل
ليس بجيد فإن ابن عباس من أخبر الناس بلغة العرب فلا يتجه
هذا ان صح المنقول عنه ويمكن على بعد ان يجعل قوله بإجماع
الأدباء متعلقا بقوله عاده أي لا يضر ما يمنع الاتصال في
العادة كالسعال والتنفس باجماعهم ونقل عن ابن عباس رضي
الله عنه جوز الاستثناء المنفصل ولم يصح عنه ثم اختلف
النقلة عنه فنقل عنه انه يجوز الاستثناء الى شهر ونقل
الشيخ أبو اسحاق عنه الجواز إلى سنة ونقل الجواز ابدا فهذه
ثلاث روايات فلما لم يصح النقل عنه عبر المصنف بقوله ونقل
ولما لم يعرف أقيده أم أطلقه وعلى تقدير التقييد بماذا هو
عبر المصنف بقوله:
ج / 2 ص -146-
خلافه وقال القاضي في مختصر التقريب فمن بعده لعل مراده ان صح النقل
ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ثم اظهر نيته بعده
فإنه يدين1 واحتج للمنقول عن ابن عباس بالقياس على التخصيص
بغير الاستثناء بجامع ان كلا منهما مخصص واجيب بالنقض
بالصفة والغاية وكذا الشرط فإن هذا يقتضي انفصالها وهو
باطل اتفاقا وقد نقل الشيخ ابو اسحاق عن الحسن وعطاء أنهما
جوازا الاستثناء ما دام في المجلس وقال: قوم بصحة
الاستثناء المنفصل في كتاب الله دون غيره.
فوائد: إحداها ذكر ابن النجار في تاريخ
بغداد في أثناء حرف الثين المعجمة ان أبا إسحاق المروزي
أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق وإذا برجل
على رأسه سلة فيها بقل وهو بمصل على ثيابه وهو يقول لآخر
معه مذهب ابن عباس في الإستثناء غير صحيح إذ لو كان صحيحا
لما قال الله تعالى لأيوب عليه السلام:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}2 بل كان يقول له استثن ولا حاجة الى هذا التحيل في البر قال فقال
الشيخ ابو اسحاق بلدة فيها رجل يحمل البقل وهو يرد على ابن
عباس لا تستحق ان يخرج منها.
الثانية: قال القرافي في المنقول عن ابن
عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خالصة كمن
حلف وقال ان شاء الله وليس هو في الإخراج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الإمام الغزالي: والوجه تكذيب الناقل فلا يظن به ذلك
أو يقال: أراد به إذا اضمره في وقت الإثبات وأبداه بعد ذلك
فقد نقول: إنه يدين ومذهبه أن مايدين الرجل فيه يقبل منه
إبداؤه أبدا. وقيل: وقيل إنه أراد به استثناءات القرآن.
أنظر: المتحول ص157, والمستصقى 2/37.
وفي حصول المأمول ص99: ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن
ابن عباس لعله لم يعلم أنها ثابتة في مستدرك الحاكم وقال
صحيح على شرط الشيخين بلفظ: إذا حلف الرجل على يمين فله أن
يستثنى إلى سنة ومثله عند أبي موسى المدني وسعيد بن منصور
وغيرها من طرق انتهى.
وأقول إن الذي نستطيع أن نستخلصه من هذه الروايات أن هذا
الرأي منقول عن ابن عباس- رضي الله عنهما- ولكن الجمهورمن
العلماء يخالفونه في ذلك والله أعلم.1هـ محققة.
2 سورة ص آية 44.
ج / 2 ص -147-
بإلا
وأخواتها قال ونقل العلماء ان مدركه في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}1 قالوا المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد ذلك ولم يخصص
وقتا.
الثالثة: قوله:
{وَلا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} التقدير ولا تقولن لشيء قولا جازما إلا أن تعلم مشيئة الله تعالى
وهي لا تعلم فلا تقل هذا القول الجازم فالنهي حالة عدم
العلم إنما هو جزم القول باني فاعل ذلك غدا ولا يلزم منه
ان لا يقول ذلك غير جازم به بل يعلقه على مشيئة الله فافهم
فمن قال افعل غدا ان شاء الله غير آت بالمنهي عنه فافهم
هذا فهو حسن.
فإن قلت من قال: إني فاعل مع قوله إن شاء
الله هو قائل إني فاعل فيكون آتيا بالمنهي عنه وإن أتى
بلفظ إن شاء الله قلت لا نسلم أن من قال ذلك مع قول إن شاء
الله يكون بالمنهي عنه وذلك لأن الكلام المركب من أجزاء لا
يصدق أنه ذلك الكلام إلا من جميع أجزائه وكذلك من اقر لرجل
بخمسة وعشرين لا يصدق أنه أقر بخمسة لأن الضمير العائد على
الخمسة غير العائد على الخمسة والعشرين.
قال: وعدم الاستغراق الشرط الثاني عدم الاستغراق فان
المستغرق مثل عشرة إلا عشرة باطل اتفاقا كما نقله الأئمة
لكن قال القرافي نقل ابن طلحة في مختصره المعروف بالمدخل
فما إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثلثا قولين.
أحدهما: انه استثناء وينفعه وهذا غريب قال
وشرط الحنابلة ان لا يزيد على النصف والقاضي ان ينقص منه
لنا لو قيل له على عشرة الا تسعة لزم واحد اجماعا وعلى
القاضي استثناء الغاوين من المخلصين وبالعكس قال: الأقل
ينسى فيستدرك ونوقص بما ذكرناه.
ذهب الأكثرون الى صحة استثناء الأكثر حتى لو قال له على
عشرة الا تسعة لم يلزمه سوى درهم واحد وقالت الحنابلة
يشترط ان لا يزيد على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية 24.
ج / 2 ص -148-
النصف
وقال القاضي يشترط ان ينقص عنه هذا المنقول في الكتاب ونقل
الشيخ أبو اس الشيرازي والآمدي عن الحنابلة امتناع المساوي
ايضا كالمنقول عن القاضي ولم تختلف النقلة فيما اسندوه الى
القاضي من امتناع المساوي والذي في مختصر التقريب كنا على
تجويز الاستثناء الأكثر دهرا والذي صح عندنا آنفا منع ذلك
ولم بتعرض لاشتراط الأقلية وقال قوم ان كان العدد صريحا لم
يجز الاستثناء الأكثر مثل عشرة الا تسعة والإجاز مثل خذ
هذه الدراهم الا ما في الكيس الفلاني اكثر من الباقي وقال
آخرون بمنع استثناء اكثر الجملة منها إذا كان المستثنى
جملة نحو جاء أخوتك العشره الا سبعة وتجويزا استثنائهم
تفصيلا وتعديدا نحو الا زيدا منهم وبكرا وخالدا الى ان
يأتي السبعة حكاه الأستاذ أبو محمد الحسن بن عيسى العارص
المعتزلي في كتابه النكت في أصول الفقه عن بعض شيوخ النحو
من أهل عصره.
واعلم ان الكلام في الاستثناء من العدد مبنى على صحته
وللنحاة فيه مذاهب.
أحدها: أنه لا يجوز وصححه ابن عصفور.
الثاني: وهو المشهور الجواز.
الثالث: ان كان المستثنى عقدا من العقود
لم يجز نحو عشرين الا عشرة وان لم يكن عقدا جاز نحو مائة
الا ثلاث واستدل المصنف على المختار بوجهين.
أحدهما: وهو احتجاج على الفريقين أعني من
اشترط ان لا يزيد عن النصف ومن اشترط ان ينقص عنه ان
الفقهاء اجمعوا على ان من قال لفلان على عشرة إلا تسعة
يلزمه واحد فقط ولولا صحة هذا الاستثناء لما كان كذلك ونقل
الإجماع مردود فقد حكاه احمد بن حنبل وبعض المالكية.
والثاني: وهو مختص بمن اشترط الأقل على ان
القاضي أورده في مختصر التقريب ولم يذكر اشتراط الأقلية
وإنما أورده من جهة الرادين على من اشترط ان لا يكون اكثر
وقال هذا امثل ما يستدلون به مع ان للقول فيه مجالا ولم
يذكر عنه جوابا والشيخ أبو اسحاق قال انه دليل قاطع لا
جواب
ج / 2 ص -149-
للخصم
عنه وتقريره ان الله تعالى استثنى الغاوين من المخلصين في
قوله تعالى:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}1
وبالعكس أي استثنى جل وعز المخلصين من الغاوين في قوله
حكاية عن إبليس:
{لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ}2
فلو كان المستثنى منه لزم أن يكون كل واحد من الغاوين
والمخلصين أقل من الآخر وهو محال واحتج القائل باشتراط
الأقل وهو القاضي على ما ذكر في الكتاب بأن الاستثناء خلاف
الأصل لكونه بمنزلة الإنكار بعد الإقرار وخالفنا هذا اصل
في الأقل لكونه قليل الخطور بالبال فربما نسيه المقر
فيستدركه في الاستثناء وهذا بخلاف الأكثر فلذلك جوزنا في
الأقل دون الأكثر وأجاب بأنه منقوص بما ذكرناه وهذا يحتمل
وجهين.
أحدهما: أنه منقوص بما ذكرنا من الإجماع
فيما إذا قال له على عشرة إلا تسعة وقد ذكرنا أنه غير
ثابت.
والثاني: أنه منقوص بما ذكرناه من استثناء
الغاوين من المخلصين وبالعكس فإن النسيان محال في جانب
الباري وهذا الدليل أجيب عنه بأنا لا نسلم إلا أن في قوله
إلا من اتبعك من الغاوين للاستثناء لكنا إنما نمتنع من
استثناء إلا كثر إذا كان عدد المستثنى والمستثني منه مصرحا
به مثل عشرة إلا تسعة أما إذا لم يكن مصرحا به مثل خذ ما
في الكيس من الدراهم سوى الزيوف فإنه يصح وإن كانت الزيوف
أكثر سلمنا ولكنا نقول المستثنى إلا في الإثنين أقل أما
قوله إلا عبادك منهم المخلصين فيشمل كل العباد المخلصين من
بني آدم لقوله منهم إشارة لبني آدم اقل واما قوله الا من
اتبعك من الغاوين فالمستثنى اقل ايضا لأن قوله عبادي يشمل
الملائكة لكونه إسم جنس أضيف ومعلوم ان كل الغاوين أقل من
الملائكة وحدهم فكيف إذن أضيف إليهم صالحة بني آدم فيجوز
ان استثناء الغاوين من كل عباده وهم اقل من مخلصين بدخول
الملائكة في المخلصين ومعلوم انهم اكثر من غيرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر آية 42.
2 سورة الحجر 39-40.
ج / 2 ص -150-
قال:
عليه السلام:
"أطت السماء وحق لها ان تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يسبح الله"ولقائل أن
يقول الجواب عن الأول ان جعل إلا بمعنى لكن فيه خروج من
حقيقته بلا دليل وعن الثاني إن الدعوى فيما إذا كان عدد
المستثنى والمستثنى منه مصرحا به وفيما إذا لم يكن وعن
الثالث بأنه تعالى قال في سورة الحجر حكاية عن إبليس:
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}1
فاستثناء الأول لأنه استثنى المخلصين من بني آدم وهم أقل
ثم قال:
{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغَاوِينَ}2 والمراد بعباده هنا المعهودون الذين تقدم ذكرهم وفيهم وقع الكلام
وهم المخلصون من بني آدم وليس المراد العموم حتى تدخل
الملائكة لأن العهد على العموم والآية وقعت في الحجر مبينة
والقصة واحدة والله أعلم.
ومنهم من استدل مع التمسك بقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} بقوله:
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}3 ولم يتعرض للآية الأخرى وفيه نظر فإن قوله وما أكثر الناس إنما يدل
على الأكثرين من الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم
والألف واللام في الناس للعهد ولا يلزم من كون الغاوين
أكثر في هذه الطائفة أن يكونوا أكثر بالنسبة إلي كل
الطوائف من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة والله
اعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر 39-40.
2 سورة الحجر 41- 42.
3 سورة يوسف 103.
قال: الثانية: الإستثناء من الإثبات نفي وبالعكس خلافا لأبي حنيفة لنا لو لم يكن كذلك لم يكف لا إله إلا الله احتج
بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صلاة إلا بطهور" قلنا
للمبالغة.
الاستثناء من الإثبات نحو قام القوم إلا زيدا نفي للقيام
عن زيد بالاتفاق وزعم بعضهم ان الخلاف جار فيه أيضا.
ج / 2 ص -151-
قال
الهندي وهو الحق وبه صرح بعضهم وأما الإستثناء من النفي هل
هو إثبات فقال أصحابنا نعم وخالفت الحنفية فقالت لا يدل
إلا على الحكم المستثنى مسكوت عنه واحتج أصحابنا بأنه لم
يكن إثباتا لم يكف قول القائل لا إله إلا الله في توحيده
لأن اللفظ حينئذ ليس إلا نفي الإلهية عما عدا الله وهو
ساكت عن إثباتها لله فيفوت أحد شرطي التوحيد فلا يكفي ذلك
ولا قائل بهذا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله واحتج أبو حنيفة
بقوله عليه السلام:
"لا صلاة إلا بطهور" فإن تقديره لا صحة للصلاة إلا بطهور فلو كان الاستثناء من النفي
إثباتا لكان حيث وجد الطهور وجدت صحة الصلاة وليس كذلك
لجواز فواتها لفقدان شرط آخر وأجاب المصنف بأن الحصر قد
يؤتي به للمبالغة لا للنفي عن الغير مثل: "الحج عرفه"1
والطهارة لما كانت أعظم الشروط صيرت كأن لا شرط إلا هي
وأحسن من هذا الجواب ما ذكره صاحب التحصيل من ان قولنا
الاستثناء من النفي إثبات يصدق بإثبات صورة في كل استثناء
لأن دعوى الإثبات لا عموم ما فيها بل هي مطلقة فيقتضي صحة
الصلاة عند وجود الطهارة بصفة الإطلاق لا بصفة العموم وان
شئت قلت لا صلاة نفي كلي وقوله: "إلا بطهور"2
إثبات جزئي لأن نقيض الكلي جزئي ونحن نقول به إذ قد يوجد
الطهور ومعه بقية الشروط والصلاة
واعلم ان هذا الحديث لا يعرف بهذا اللفظ والأولى أن يغير
بحديث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
قلت وقد وقع في بعض المجالس الاستدلال على صحة مذهب أبي
حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة كما رواه الحاكم في مستدركه الكبير الفتح الكبير 782.
2 رواه البخاري,كتاب الوضوء, باب لاتقبل صلاة بغير طهور
ولفظه:
"لاتقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ" كما رواه الترمذي وابن ماجة في كتاب الطهارة باب:
"لايقبل الله صلاة بغير طهور".
ج / 2 ص -152-
بقوله
تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}1 إلا وسعها وجه الحجة انه لو كان الاستثناء من النفي إثباتا لكان
المرء مكلفا بكل ما تسعه نفسه لأن الوسع مستثنى في قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً} وقد أضيف بقوله وسعها فيقتضي العموم بناء على ان المفرد المضاف يعم
والتقدير لا يكلف الله نفسا بشيء إلا بكل ما تسعه فتكون كل
ما تسعه مكلفة به وليس كذلك وكان البحث بين يدي والدي أيده
الله فاستحسن ذلك2.
فرع: لو قال: لا أجامعك سنة إلا مرة فمضت
سنة ولم يطأ فهل يلزمه كفارة لاقتضاء اللفظ الوطىء أم لا
لأن المقصود منع الزيادة وجهان يتجه تخريجهما على هذا
الأصل قال النواوي أصحهما إلا كفارة.
قال: الثالثة: المتعددة إن تعارضت أو استغرق
الأخير الأول عادت إلى المتقدم عليها وألا يعود الثاني إلى
الأول لأنه أقرب.
الاستثناء
من الاستثناء جائز وحكي عن بعضهم خلافه وهو ضعيف قال الله
تعالى:
{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا
امْرَأَتَهُ}3
وإذا ثبت جواز الاستثناء من الاستثناء فنقول إلا
الاستثناءات المتعددة إما أن يكون بعضها معطوفا على بعض
أولا إن كان الأول المستثنى منه نحوله على عشره إلا أربعة
وإلا ثلاثة وإلا اثنين فإن الكل يرجع إلى الأولي فلا يلزم
المقر إلا واحدا وإن كان الثاني مستغرقا للأول أو لا فإن
كان مستغرقا قال الإمام أو مساويا له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البفرة آية 286.
2 ونقل عن الإمام أبي حنيفة أنه يخالف في المسألتين: أي
يقول: إن الإستثناء من الإثبات ليس بنفي ومن النفي ليس
بإثبات لكن الصحيح هو الأول الذي حكاه الشارح قال الإمام
الرازي: اتفق العلماء: وأبو حنيفة وغيره على أن إلا
للإخراج وأن المستثنى مخرج, وأن كل شيء خرج من نقيض دخل في
النقيض الآخر فهذه ثلاثة أمور متفق عليها وبقي أمر رابع
مختلف فيه أنا إذا قلنا. قلنا القوم فهناك أمران: القيام
والحكم فاختلفوا هل المستثنى مخرج من القيام أو من الحكم
به؟فنحن نقول: من القيام فيدخل في نقيضه وهو عدم القيام
والحنفية يقولون: هو مخرج من الحكم فيدخل في نقيضه وهو عدم
الحكم فيكون غير محكوم عليه فأمكن أن يكون قائما والا يكون
. حاشية البناني على جمع الجوامع 1512.
3 سورة الحجر آية 59.
ج / 2 ص -153-
عاد
الكل إلى المتقدم أيضا مثل على عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة
إلا أربعة فلا يلزم غير واحد وإلي هذين القسمين أشار بقوله
عادت إلى المتقدم عليها وإن لم يكن مستغرقا عاد الاستثناء
الثاني إلى الأول مثل عشرة إلا ثمانية إلا سبعة حتى يلزم
تسعة وإلى هذا أشار بقوله وألا يعود الثاني إلى الأول أي
دون المستثنى منه وعلله بان الأول لقربه إليه من المستثنى
منه والقرب يدل على الرجحان عند البصريين فإنهم في تنازع
العاملين في العمل اختاروا الأقرب ولذلك أن نقول الأقربية
لا تدل على اللزوم وانما تدل على الرجحان كما في تنازع
العاملين فإنه لا نزاع بين البصريين والكوفيين في جواز
أعمال كل منهما وإنما الخلاف في الأولوية فينبغي أن يقرر
بوجه آخر فيقال إما أن يعود إلى الثاني أو إلى الأول منتف
للزوم الترجيح من غير مرجح في اللزوم لأنهما فيه سواء
فيعود إلى الأولوية ونقول لا يعود إلى الأول لأنه مرجوع
فرع لو كان الاستثناء الأول مستغرقا للمستثنى منه دون
الثاني.
الثاني: كقوله. عشرة إلا عشرة إلا أربعة
ففيه أوجه للأصحاب.
أحدهما: يلزمه عشرة ويبطل الأول
لاستغراقه.
والثاني: لأنه باطل.
والثاني: يلزمه أربعة ويصح الإستثناءان
لأن الكلام إنما يتم بآخره قال ابن الصباغ وهو أقيس.
والثالث: يلزم ستة لأن الأول باطل والثاني
يرجع إلي أول الكلام.
قال: الرابعة: قال
الشافعي رضي الله عنه المتعقب للجمل كقوله تعالى:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}
يعود إليها وخص أبو حنيفة بالأخيرة وتوقف القاضي والمرتضي
وقيل ان كان بينهما تعلق فللجميع مثل اكرم الفقهاء والزهاد
وأنفق عليهم إلا المبتدعة فالأخيرة.
هذه المسألة في حكم الاستثناء الواقع عقيب جمل عطف بعضها
على بعض مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
ج / 2 ص -154-
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}1فإن
هذا استثناء وقع بعد ثلاث جمل الأولى أمرهم بجلدهم
والثانية ناهية عن قبول شهادتهم والثالثة مخبرة بفسقهم وقد
اختلف العلماء فيها على مذاهب.
الأول: وهو مذهبنا أنه يعود إلى الجميع
لكن بشروط.
أحدها: أن تكون الجمل معطوفة.
والثاني: أن يكون العطف بالواو الجامعة
فأما إن كان بثم اختص بالأخيرة ذكره الآمدي قال الأصفهاني
ولم أر من تقدمه به.
قلت وقد نقدمه إمام الحرمين كما نص عليه في النهاية وفي
مختصر له في أصول الفقه ونقل الرافعي في كتاب الوقف عنه.
والثالث: نقله الرافعي عن رأى إمام
الحرمين أيضا ان لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل فإن تخلل
اختص بالآخرة قال الرافعي كما لو قال وقفت على أولادي على
ان من مات منهم وأعقبت فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ
الاثنين وإن لم يعقب فنصيبه للذين في درجته فإذا انقرضوا
فهو مصروف إلى اخوتي إلا أن يفسق واحد منهم فيختص
الاستثناء بالأخوة.
المذهب الثاني: وإليه ذهب أبو حنيفة أنه
يعود إلى الأخيرة خاصة حتى لا يقبل شهادة القاذف وإن تاب
وصار من الأبرار والثلث التوقف وإليه ذهب القاضي والغزالي
منا والمرتضى2 من الشيعة إلا أن القاضي توقف لعدم العلم
بمدلوله لغة وقال الإمام أنه الذي نختاره في المناظرة
والمرتضى توقف لكونه عنده مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده
إلى الأخيرة فقط.
واعلم ان القول بالإشتراك إنما يكون من باب الاشتراك في
المركبات لا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور 4-5.
2 هو الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين الطاهر بن
موسى من أحفاد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما وأحد
الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر.
توفي سنة 436هـ ببغداد.
الأعلام للزركلي 66712.
ج / 2 ص -155-
المفردات ويكون مبنيا على وضع المركبات ولا يمكن أن يقال
العود من المفردات ذكره القرافي ولما تغاير توقف القاضي
والمرتضى حصلنا من الموقف على مذهبين فنقول والمذهب الخامس
واليه ذهب الحسين وقال الإمام انه داخل في التحقيق وانه حق
انه ان كان بين تعلق الجمل تعلق عاد الاستثناء إليها
والتعلق ان يكون حكم الأولى أو اسمها مضمرا في الثانية في
الحكم نحو اكرم الفقهاء والزهاد إلا المبتدعة تقديره وأكرم
الزهاد وفي الإسم نحو أكرم الفقهاء وانفق عليهم إلا
المبتدعة أي على الفقهاء وقد أشار المصنف إلى المثالين فقط
لذلك ان لم يكن بين الجمل تعلق اختص بالأخيرة لأن الظاهر
أنه ما انتقل عن جملة مستقلة بنفسها إلى جملة أخرى إلا وقد
تم غرضه من الأولى فلو رجع الإستثناء إلى الجميع لم يكن
مقصود من الأولى قد تم.
قال: لنا ما تقدم الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في
المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما فلذلك الاستثناء قيل خلاف
الدليل خولف في الأخيرة للضرورة فبقيت الأولى على عمومها
قلنا منقوض بالصفة والشرط.
احتج الشافعي رضوان الله عليه بأن الأصل اشتراك المعطوف
والمعطوف عليه في جميع المتعلقات كالحال والشرط وكالصفة
وكالجار والمجرور والظرف فيجب أن يكون الاستثناء كذلك
والجامع أن كلا غير مستقل بنفسه ومثال اشتراط المعطوف
والمعطوف عليه في الحال أكرم ربيعة وأعط مضر نازلين بك وفي
الصفة الطوال وفي الشرط أن نزلوا بك في الجار والمجرور
اضرب زيدا واهن عمرا في الدار وفي الظرف صم وصل يوم الخميس
وقد نقل الإمام عن الحنفية موافقتنا على عود الشرط إلى
الكل وأما الحال والظرف والمجرور فقال ان نخصهما بالأخيرة
وعلى قول أبى حنيفة وحينئذ لا يحسن استدلال المصنف بها على
الحنفية في الدليل نظر آخر وهو أنه لا يلزم من اشتراك
لشيئين من بعض الوجوه اشتراكهما في جميع الأحكام واللغة لا
تثبت قياسا مع أن الفرق ثابت فإن الشرط متقدم على المشروط
من جهة المعنى وإن تأخر من جهة اللفظ بخلاف الإستثناء فإنه
مؤخر من الجهتين واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء خلاف الأصل
لتنزله منزلة الإنكار بعد الإقرار كما سبق وإذا كان على
ج / 2 ص -156-
خلاف
الدليل كان مرجوحا لكن خالفنا مقتضى الدليل في الجملة
الأخيرة للضرورة لأن الاستثناء غير مستقل ولا يمكن إلغاؤه
وإنما جعلناه للجملة الأخيرة لأنها اقرب فبقى ما عداها على
الأصل أجاب بأن هذا الدليل منقوض بالصفة والشرط فإنهما
عائدان إلى الكل مع وجود المعنى الذي قلتموه بعينه فيهما
وفي النقض بالصفة نظر فان أبا حنيفة رحمه الله لا يقول
بالشرط.
فإن قلت لأبى حنيفة أن يعتذر على الشرط بأن له صدر الكلام
كما تقدم.
قلت: سلمنا أن رتبته التقدم ولكن على الجملة الأخيرة التي
هي مشروطة لا على جميع الجمل.
فإن قلت: لما حصل في ان الشرط هل هو شرط للجميع أو للأخيرة
فقط بمقتضى اختلاف الأئمة والشك في الشرط يوجب الشك في
المشروط لم يرتب الحكم في المشروط إلا بعد وجوده فالمشروط
مشكوك فيه.
قلت قد يمنع هذا ويقال في الأصل عدم كونه شرطا فترتب الحكم
ما لم يثبت شرطيته للجميع.
فائدة: الخلاف المتقدم في ان الاستثناء هل يختص بالأخيرة
أو يعود إلى الجميع أو غير ذلك إنما هو فيما إذا لم يقم
دليل على واحد بعينه وقد وقع استثناء بعد جملتين وهو عائد
إلى الجملة الأولى وحدها في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}1
فإن هذا الاستثناء مختص بالجملة الأولى أعني قوله:
{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ولا يجوز أن يكون عائدا إلى الأخيرة أعني إلى قوله ومن لم يطعمه
فانه مني إذ التقدير حينئذ إلا من اغترف غرفة بيده فليس
مني والمعنى على خلاف ذلك لأن المقصود ان لم يطعمه مطلقا
من اغترف منه وغرفة بيده على حد سواء ولا يمكن ان يكون
التقدير إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني على هذا التقدير
لأنه لا يعقل استثناء حينئذ إذ المستثنى لا بد ان يغاير
حكمه حكم المستثنى منه وكذلك في قوله تعالى:
{لا
يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 249.
ج / 2 ص -157-
أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}1 فان هذا الاستثناء مختص بالجملة الأولى أي والله إعلم لا يحل لك
النساء والنساء اعم من الزوجات والإماء واستثنى ما يملكه
اليمين وجزم أيضا أن يتبدل بالأزواج ولا يمكن عود
الاستثناء إلى الجملة الأخيرة إذ تصير الإماء قد استثنين
من الأزواج وهن لا يمكن كونهن أزواجا له صلى الله عليه
وسلم ووقع استثناء وهو عائد إلى الجميع بلا اختلاف في قوله
تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}2
وهذا يصلح نقضا على أبى حنيفة ومعتصما لأصحابنا ووقع
استثناء وهو راجع إلى الجملة الأخيرة بلا خلاف غير راجع
إلى الأولى الصحيح وفي المتوسطة اختلاف وذلك في آية القاذف
المتقدمة فان الجلد ثابت اتاب القاذف أم لم يتب وإنما
الخلاف في قبول الشهادة فإن قلت فهذه الآية والآية الأولى
ينقضان مذهبكم كما نقضت آية قطاع الطريق رأي أبى حنيفة قلت
قد قلنا ان الأصل عندنا ان الاستثناء يعود على الجميع وقد
يختلف ذلك لدليل في الآية الأولى تخلف لعدم الإمكان وفي
آية القاذف لأنه حق آدمي لا يسقط بالتوبة وأما الحنفية فلا
عذر لهم في مخالفة أصلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 52.
2 سورة المائدة آية 33.
قال الثاني: الشرط هو ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجود له كالإحصان.
القسم الثاني من أقسام المخصصات المتصلة بالشرط وهو في
اللغة العلامة ومنه أشراط الساعة أي علاماتها وفي الاصطلاح
هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجود المؤثر كالإحصان
لوجوب الرجم فإن تأثير المؤثر وجوب الرجم هو الزنا متوقف
عليه دون وجوده لأنه قد يوجد الزنا ولا يوجد الإحصان وإنما
قال لا وجوده ولم يقل لا ذاته كما فعل الإمام لئلا يرد على
طرده العلة التامة وهي المركبة من المقتضى والشرط وانتفاء
المانع فان تأثيرها متوقف على ذاتها
ج / 2 ص -158-
بالضرورة فالشرط جزاؤها وذاتها لا يتوقف عليها لأن الشيء
لا يتوقف على نفسه وهذا بخلاف الوجود فإنه على رأي المصنف
وصف عارض للماهية كما تقدم في الاشتراك فلا يدخل تحت الحد
فافهم ذلك فهو في محاسن المصنف وهنا فائدتان:
إحداهما: ان الشرط قد يكون شرعيا كما
مثلنا في الإحصان وقد يكون عقليا الحياة شرط للعلم وقد
يكون لغويا نحو ان كلمت زيدا فأنت طالق وقد يكون عاديا
كالسلم مع صعود السطح والكلام ليس إلا في الشرعي ويدل على
ذلك تمثيل المصنف بالإحصان.
الثانية: أن الشروط اللغوية أسباب بخلاف
غيرها من الشروط وقاعدتها مباينة لقاعدة الشروط الأخرى
ونظير الفرق بين القاعدتين يتبين حقيقة السبب والشرط
المانع والسبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه
العدم لذاته والشرط هو الذي يلزم العدم ولا يلزم من وجوده
لا علم لذاته والمانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا
يلزم من عدم وجوده والعدم لذاته وقد أوضحنا ذلك في أوائل
تقسيم الألفاظ فعاوده فإذا راجعته وتقرر ذلك فلنعتبر من
المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه ولك ان
تمثل ذلك بالزكاة فالسبب النصاب والحول شرط والدين مانع
عند من يراه مانعا فإذا ظهرت حقيقة كل واحد من السبب
والشرط والمانع وضح ان الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها
من الشروط الفعلية كالحياة مع العلم والشرعية كالإحصان مع
الرجم والعادية كالسلم مع الصعود فإن هذه الشروط يلزم من
عدمها العدم في المشروط ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم
فقد يوجد المشروط عند وجودها كوجوب الزكاة عند الحول الذي
هو شرط وقد يقارن الدين فيمتنع الوجوب وأما الشروط اللغوية
التي هي التعليق كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق يلزم من
الدخول الطلاق ومن عدمه عدمه إلا أن يخلفه سبب آخر
كالإنشاء أو تعليق آخر بعد التعليق وهذا هو شأن السبب أن
يلزم من عدمه العدم إلا أن يخلفه سبب آخر فإذا ظهر ان
الشروط اللغوية أسباب دون غيرها فإطلاق لفظ الشرط عليها
وعلى ما عداها أما بالاشتراك أو بالحقيقة في واحد والمجاز
في البواقي
ج / 2 ص -159-
أو
بالتواطؤ إذ بينهما قدر مشترك وهو مجرد توقف الوجود على
الوجود فان الشرط العقلي وغيره يتوقف دخول شروطه في الوجود
على وجوده وإن وجوده لا يقتضيه والمشروط اللغوي يتوقف
وجوده على وجود شرطه ووجود شرطه يقتضيه ثم الشرط اللغوي
يمكن التعويض عنه ولا خلاف والبدل كما قال لها إن دخلت
الدار فأنت طالق ثلاثا ثم يقول لها أنت طالق ثلاثا فيقع
الثلاث بالإنشاء بدلا من المعلقة وكقولك ان رددت عبدي فلك
هذا الدرهم ولك ان تعطيه إياه قبل ان يأتيك بالعبد هبة
فتختلف الهبة إستحقاقه إياه بالإتيان بالعبد ويمكن إبطال
شرطيته كما إذا أنجز الطلاق او اتفقتما على فسخ العجالة
والشروط الشرعية لا يقتضي وجودها وجود او لا تقبل البدل
ولا الإخلاف ولا تقبل الإبطال إلا الشرعية خاصة فإن المشرع
قد يبطل شرطية الطهارة الستارة عند معارضة التعذر أو غيره
فهذه ثلاث فروق إقتضاء الوجود والبدل والإبطال والله اعلم.
قال: وفيه مسألتان الأولى الشرط إن وجد دفعه فذاك وإلا
فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه وارتفاع جزء منه ان شرط
عدمه الثانية ان كان زانيا ومحصنا فارجم يحتاج إليهما وإن
كان سارقا او نباشا فاقطع يكفي احدهما وإن شفيت فسالم
وغانم حر فشفي عتقا وإن قال او فيعتق أحدهما او بعين.
ذكر في هذا القسم مسألتين:
إحداهما: في وقت
وجود المشروط اعلم ان الشرط إما ان يوجد أو على التدريج ان وجد دفعة كالتعليق
على وقوع طلاق وغير ذلك مما يستحيل ان يدخل في الوجود الا
دفعة واحدة فانه يوجد المشروط عند أول أزمنة الوجود ان علق
عليه او العدم ان علق عليه مثل ان لم أطلقك فأنت طالق والى
هذين القسمين أشار بقوله فذاك وان وجد على التدريج
كالتعليق على قراءة سورة مثلا فإن كان على الوجود كقوله ان
قرأت الفاتحة فأنت طالق فيوجد المشروط وهو الطلاق عند
تكامل أجزاء الفاتحة وان كان على العدم كقوله ان لم تقرئي
الفاتحة فأنت طالق فيوجد المشروط وهو الطلاق عند ارتفاع
جزء من الفاتحة حتى لو قرأت الجميع الا حرفا واحدا تطلق
لأن المركب ينفى بانتفاء أجزائه وانتفاء الجزء يستلزم
انتفاء الكل
ج / 2 ص -160-
المسألة الثانية: في تعدد الشرط والمشروط
أما الشرط فاعلم ان الشرطين إن دخلا على جزء واحد فإما ان
يكونا على الجميع او على البدل فإن كانا على الجمع مثل إن
كان زانيا ومحصنا فارجم فلا يوجد المشروط الذي هو الرجم
الا عند وجودهما معا وإن كان على البدل كفى أيهما وجد في
ترتب الحكم نحو إن كان سارقا او نباشا فاقطع وأما المشروط
فاعلم أن الجزائين ان دخلا على شرط واحد فإن كانا على
الجميع وجد عند وجوده مثل ان شفيت فسالم وغانم حر فأيهما
يعتقان عند شفائه أحدهما والخيرة في التعيين إليه هذا ما
ذكره في هذه المسألة ولم يذكر اتحاد الشرط والمشروط مثل ان
دخلت الدار فأنت طالق بل وضع المسألة في التعدد فقط.
فائدة: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام لا نعلم في
ذلك نزاعا وعلى أنه يجوز تقييد الكلام بشرط يكون الخارج به
أكثر من الباقي قال الشيخ صفي الدين الهندي وهذا ما يجب
تنزيله على ما علم أنه كذلك وأما ما يجهل الحال فيه فإنه
يجوز ان يقيد ولو بشرط لا يبقى من مدلولاته شيئا كقولك
اكرم من يدخل الدار إن أكرمك وان اتفق أن أحدا منهم لم
يكرمه.
قال الثالث الصفة مثل فتحرير رقبة مؤمنة وهي الاستثناء.
القسم الثاني من المخصصات المتصلة للصفة نحو أكرم بني تميم
الطوال ومثل له المصنف تبعا للإمام بقوله فتحرير رقبة لأن
رقبة عام والتقييد بالمؤمنة يخرج الكافرة وفيه تجوز لأن
رقبة مطلق وعمومه يدل والكلام في العموم الشمولي قوله وهي
الاستثناء أي الصفة كالاستثناء في وجوب الإيصال وعودها إلى
الجمل فقط لا في جميع أحكام الاستثناء حتى يجيء فيها
الخلاف في جواز إخراج الأكثر والمساوي ويحتمل أن يجري
الخلاف في هذا أيضا وإطلاق الكتاب يقتضيه وقال الإمام إذا
تعقبت الصفة شيئين فإما أن يتعلق أحدهما بالأخرى مثل اكرم
العرب والعجم المؤمنين فتكون عائدة إليهما وإما ان لا يكون
كذلك مثل اكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد فهاهنا الصفة
عائدة الى الجملة الأخيرة قال وللبحث فيه مجال كما في
الاستثناء.
قال الرابع الغاية وهي طرفه وحكم ما بعدها خلاف ما قبلها
مثل:
{ثُمَّ
ج / 2 ص -161-
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
غاية الشيء طرفه ومنتهاه وإنما أعاد المصنف الضمير في طرفه
على الشيء وهو غير مذكور للعلم به وألفاظ الغاية حتى وإلى
كقوله تعالى:
{حَتَّى يَطْهُرْنَ}
{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وحكم ما بعد الغاية مخالف ما قبلها وإلا لم تكن الغاية غاية بل
وسطا هذا خلف وأما الغاية نفسها هل تدخل كقولك أكلت حتى
قمت هل يكون القيام محلا للأكل فيه مذاهب.
أحدها: أن حكمه يخالف حكم ما قبله.
والثاني: أنه لا يدل على شيء واختاره
الآمدي.
والثالث: إن كان من جنسه دخل وإلا فلو نحو
بعتك التفاح إلي هذه الشجرة أهي من التفاح فتدخل أم لا فلا
تدخل.
والرابع: إن كان معه لفظ من دخل نحو من
هذه النخلة أو هذه وإلا لم يدخل.
والخامس: قال الإمام وهو الأول أن يميز عما قبله بالحسن
مثل:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} كان حكم ما بعدها خلاف ما قبلها وان لم يتميز حسا استمر ذلك الحكم
على ما بعده مثل:
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس قال العراقي
وقول الإمام يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها من مدخول من
جهة أنا لا نعلم خلافا فيما بعد الغاية وهذا يقتضي أنه محل
خلاف والخلاف ليس هو في الغاية نفسها.
والسادس: إن اقترن بمن دخل وإلا فاحتمل ان يدخل وألا يدخل
ويكون بمعنى مع كقوله:
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم وهذا كله في غاية الانتهاء أما غاية الابتداء ففيها
مذهبان وهنا فوائد.
أحدها: قول الاصوليين ان الغاية من جملة المخصصات قال
والدي أيده الله إنما هو فيما تقدمها عموم يشملها لولم يؤت
بها وقوله تعالى:
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}1 ولم يقله لقاتلنا المشركين أعطوا الجزية أولم يعطوها ولا يأتي ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية 29.
ج / 2 ص -162-
في مثل
قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن
الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى
يفيق"1 لأن حالة النائم خارجة عن الصبي وحالة الإفاقة خارجة عن الجنون
والاستيقاظ خارج عن منوم فلو قال عن الصبي والمجنون
والنائم ولم يذكر الغايات المذكورة لم يشملها فإن قلت فما
يقصد بالغاية في مثل هذا قلت تارة يقصد بها تأكيد العموم
فيما قبلها وهذا المعنى هو المقصود في الحديث فان عدم
التكليف في جميع أزمنة الصبي تعمها بحيث لا يستثني منها
شيء وهكذا أزمنه الجنون والنوم فالمقصود بهذه الغاية من
هذا الوجه تحقيق التعميم لا التخصيص ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}2 وطلوعه وزمن طلوعه ليسا من الليل حتى يشملها قوله سلام وتارة يقصد
بها ارتفاع ذلك الحكم عند الغاية فإن اللفظ لو اقتصر على
قوله رفع القلم عن الصبي شمل حالة الصبي ولم يتعرض لحالة
البلوغ إثبات التكليف فيها ولا نفيه عنها بل كان ساكتا عن
حكمها فلما قال حتى يبلغ وقد علم مخالفة ما بعد الغاية لما
قبلها فهم إثبات التكليف في حالة البلوغ فقصد بالغاية
المذكورة هذا الحكم أيضا وهذا يقوله من يقول بالمفهوم وقال
والدي أعزه الله تعالى وهو إن قيل به في نحو قوله حتى
يعطوا الجزية فهو أقوى من القول به هنا لأن هناك لو لم يقل
به لم يكن للغاية فائدة وهنا فائدتها المقصد الأول كما
بيناه فلم يكن دليل على الثاني الثانية قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}3 يحتمل ان يكون مثل قوله حتى يعطوا الجزية فإن الصيام لغة تشمل
الليل والنهار فخص هذا العموم بقوله إلى الليل ويصح تمثيل
المصنف حينئذ بهذه الآية للتخصيص بالغاية ويحتمل ان يكون
مثل قوله حتى مطلع الفجر وهو الظاهر فإن الصيام شرعا لا
يكون إلا نهارا وأيضا عموم قوله وأتموا الصيام إنما هو في
أفراد الصيام أي أتموا كل صيام ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم من حديث علي
رضي الله عنه بلفظ: رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى
يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل, الفتح
الكبير 2512. كما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من
حديث علي وعمر وعائشة رضي الله عنه.
2 سورة القدر آية 4.
3 سورة البقرة آية 187.
ج / 2 ص -163-
تعرض
فيه للوقت نعم لو قال قائل أتموا الصوم في الزمان الى
الليل كان تخصيصا راجعا إلى العموم في الأوقات المستفاد من
قوله الزمان.
الثالثة: قد عرفت الخلاف في انتهاء الغاية
هل يدخل قال والدي أحسن الله إليه ولا بد ان يستثنى من هذا
الطلاق شيئان:
أحدهما: ما تقدم وهي الغاية التي لو سكت
عنها لم يدل عليها اللفظ كالغايات المذكورة في الحديث
وكطلوع الفجر وكقوله:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}. وإن حالة الطهر لا يشملها اسم المحيض .
الثاني: ما يكون اللفظ الأول شاملا لها
مثل قولنا قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام لأنه لو
اقتصر على قوله قطعت أصابعه كلها لأفاد الاستغراق فكان
قوله من الخنصر إلى الإبهام تأكيدا وكذلك قوله قرأت القرآن
من فاتحته إلى خاتمته وهو في الحقيقة راجع إلى الأول لأن
المقصود فيهما تحقيق العموم واستغراقه لا تخصيصه وان
افترقا في ان الذي جعل غاية في الثاني طرف المغيا وفي
الأول ما بعده ففي هذين الموضعين الغاية لا خلا ف فيها بل
هي في الأول خارجة قطعا وفي الثاني داخلة قطعا وكذا بعتك
هذه الأشجار من هذه إلى هذه وانما اختلف الأصحاب فيما إذا
قال بعتك من هذه النخلة إلى هذه النخلة هل يدخل الابتداء
أو الإنتهاء ولا يدخل واحد منهما ومحل القطع بدخول الغاية
في قولنا قطعت أصابعه كلها من الخنصر إلى الإبهام فإن
اللفظ الأول صريح في الدخول فلو كان ظاهرا غير صريح كقولنا
ضربت القوم حتى زيدا فالحكم كذلك ظاهر مع احتمال أن يكون
انتهاء الضرب إليه ولم يضر به.
الرابعة: من شرط المغيا أن يثبت قبل
الغاية ويتكرر حتى يصل إليها كقولك سرت من البصرة إلى
الكوفة فإن السير الذي هو المغيا ثابت قبل الكوفة ومتكرر
في طريقها وعلى هذا يمتنع أن يكون قوله إلى المرافق غاية
لغسل اليد لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط
فليس ثابتا قبل المرفق الذي هو الغاية فلا ينتظم غاية له
نعم لو قيل اغسلوا إلى المرافق ولم يقل أيديكم انتظم لأن
مطلق الغسل ثابت إلى المرافق ومتكرر قال بعض الحنفية
فيتعين
ج / 2 ص -164-
أن
يكون المغيا غير الغسل ويكون التقدير اتركوا من اباطكم إلى
المرفق فيكون مطلق الترك ثابتا قبل المرفق ومتكررا إليه
ويكون الغسل نفسه لم يغيا وفي هذا المقام يتعارض المجاز
واضمر فإن لنا ان نتجوز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت
المغيا قبل الغاية ولا يضمر لنا ان المضمر كم قال هذا
الحنفي ومن هذا قوله:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يقتضي ثبوت الصيام بوصف التمام قبل غروب الشمس ويتحرر إلى غروبها
وليس كذلك فيشكل كون الليل غاية للصوم التام نعم لو قيل
صوموا إلى الليل انتظم لأن الصوم الشرعي ثابت قبل الليل
ومتكرر إليه بخلاف الصوم بوصف التمام قال القرافي وهذا
السؤال أورده الشيخ عز الدين بن عبد السلام وأجاب عنه بأن
المراد أتموا كل جزء من أجزاء الصوم سنته وفضائله وكرروا
ذلك إلى الليل والكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء
الليل دون جزء من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة وغير
ذلك مما يأباه الصوم وكذلك آدابه الخاصة كترك السواك
والتفكر في أمور النساء وغير ذلك فامرنا بتكرير هذا إلى
غروب الشمس.
الخامسة: إذا قال له من درهم إلى عشرة
وقال ضمنت مالك على فلان من درهم إلى عشرة صححناه كما هو
الصحيح لزمه تسعة على الأصح عند العراقيين والغزالي
والنووي وقضيته القول بأن غاية الانتهاء لا تدخل دون غاية
الابتداء وقيل عشرة وصححه.
الثاني: كتخصيص قوله:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فإنا نخصص الطفل والمجنون لعدم فهمهما الخطاب واعلم أن منهم من
خالف في التخصيص بالعقل ونقله إمام الحرمين عن بعض الناشئة
أي الذين نشأوا أبوا أن يسموا هذا الفيء تخصيصا ونحن نقول
أولا هذا هو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في
الرسالة باب ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله
الخصوص توطئة لما ذكره بعدها مما يدخله الخصوص وكذلك كانت
ترجمة الباب في بعض نسخ الرسالة كما ذكر شرحها أبو بكر
الصيرفي ما ترك عاما يراد به العام وعاما يدخله الخصوص قال
الشافعي رضي الله عنه قال الله عز وجل:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
وذكر قوله تعالى:
{وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي
ج / 2 ص -165-
الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}1 ثم قال وهذا عام لا خاص فيه كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير
ذلك فالله خالقه وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها
ومستودعها انتهى.
ثانيا: كما قال إمام الحرمين في هذه
المسألة قليلة الفائدة نزرة الخدوي والفائدة فإن تلقى
الخصوص من مأخذ العقل غير منكر لو كون اللفظ موضوعا للعموم
على اصل اللسان لا خلاف فيه مع من يعترف ببطلان مذهب
الواقفية وإن امتنع ممتنع من تسمية ذلك تخصيصا فليس في
إطلاقه مخالفة عقل أو شرع والخلاف في المسألة عند التحقيق
لفظي فان مقتضى اللفظ العام غير ثابت فيما دل العقل على
امتناعه فيه ثم نقول يمكن ان يقال ان الآيتين اللتين
أوردهما الشافعي رضي الله عنه على عمومها ودعوى تخصيص
العقل فيها باطلة أما قوله:
{اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فهو عز وجل غير داخل وهذا الخطاب لوجهين:
أحدهما: أن المخاطب لا يدخل في عموم خطابه عند جماعة
الأصوليين ولعله البغوي والرافعي في المحرر في الضمان
ووالدي وقيل ثمانية ولو قال بيتك من هذا الجدار إلى هذا
الجدار لم يدخل الجداران في البيع ولو قال له من هذه
النخلة إلى هذه النخلة قال للشيخ أبو حامد تدخل الأولى في
الإقرار دون الأخيرة وقال الرافعي ينبغي أن لا تدخل الأولى
أيضا كقوله بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار ولو شرط في
البيع الخيار إلى الليل انقطع الخيار بغروب الشمس خلافا
لأبي حنيفة حيث قال يثبت والخيار إلى طلوع الفجر وكذا إذا
باعه بثمن إلى شهر لم يدخله الشهر الثاني في الأجل.
قال ووجوب غسل المرافق للاحتياط.
وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره لو صح ما ذكرتم من مخالفة
حكم ما بعد الغاية لما قبلها لم يجب غسل المرافق وجوابه
إنما وجب للاحتياط فان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
فأدار الماء على مرفقه فاحتمل أن يكون غسله واجبا فاخذ
بالاحتياط وقد تم القول في المخصصات المتصلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية 6.
ج / 2 ص -166-
قال والمنفصل ثلاثة الأول العقل
مثل:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
المنفصل هو الذي يستقل بنفسه ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر
لفظ العام معه بخلاف المتصل قال المصنف وهو ثلاثة العقل
والحس والدليل السمعي قال القرافي والحصر غير ثابت فقد نفي
التخصيص بالعوائد كقولك رأيت الناس فما رأيت افضل من زيد
والعادة تقتضي أنك لم تركل الناس وكذا التخصيص بقرائن
الأحوال كقولك لغلامك أتيتني بمن يحدثني فإن ذلك لمن يصلح
لحديثه في مثل حاله والتخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو
نظريا.
فالأول:كتخصيص قوله تعالى:
{اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فأنا
نعلم بالضرورة انه ليس خالقا لنفسه.
أحدهما: عدم الإذن ويتجه على هذا ما ذكرت.
وثانيهما: وهو الذي عول عليه ان لفظة شيء
مأخوذه من مشاء والمشاء المحدث الذي ليس بقديم والله تعالى
قديم فلا يصدق عليه ذلك لما ذكرناه فان قلت فما تصنع في
قوله تعالى:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}1 قلت لعله لا يرى الوقف على قول قل الله فإن قلت لا يخلو المانع من
التخصيص بالعقل في هذه الآية من ان يقول أن الله علما أو
لا علم فإن كان ممن ينفيه فكتاب الله شاهد عليه إذ يقول:
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وقوله:
{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وإن
كان يثبته وجب عليه أن يقول علم الله مخلوق ويلزمه أيضا ان
يقول القرآن مخلوق قلت قد أورد ابن داود هذا على الشافعي
رضي الله عنه وسفه الأئمة مقاله وقالوا هو اعتراض غير سديد
لأن صفات الله عز وجل من العلم والقدرة والكمال ليست
بأعيان له لأن الصفة ليست هي الموصوف ولا هي غيره وأما
قوله:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} فهي أيضا على عمومها فكل دابة تدب على وجه الأرض أو في قعر البحار
أو تحت أطباق الثرى فالله رازقها دون غيره ويعلم مستقرها
ومستودعها واعترض ابن داود بقوله من الدواب من أفناه الله
تعالى قبل أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 19.
ج / 2 ص -167-
يرزقه خطأ كما قال أبو بكر الصيرفي بل لا بد أن يرزقه إلى أن يغنيه
بما يقيم حياته وله نفس ثابتة وقد جعل الله غذاء طائفة من
الطير التنفس إلى مدة يصلح فيها للمأكل وليس في قوله عز
وجل:
{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} ما يوجب انه لا يرزق بعض الدواب قال الصيرفي لأن هذا رزق التفضيل
بقوله:
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي
الرِّزْقِ}1 والتفضيل وقع كما رأينا الموسر والمعسر واما الرزق الذي يقيم
الأبدان للعبادة أو الحياة فلا بد منه كما قال الله عز وجل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الروح
الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها
فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"2 قال الصيرفي فهذا نص من السنة إن كل نفس لا بد من استيفائها رزقها
واعلم أن الشافعي إنما قال كل شيء من سماء وأرض إلى آخره
ليذكر أفرادا مما دخل تحت اللفظ العام يتبين بها أن الداخل
تحته من جنسها ولم يتعرض للأشياء التي ذكرت من العلم
والقدرة والكلام لكراهية الكلام وتجنبه ترك الخوض فيه.
فرع: قال الإمام النسخ بالنسخ بالعقل واحتج بأن من سقط
رجلاه نسخ عنه غسلهما وهو مدخول فإن ساقط الرجلين لم ينسخ
عنه غسلهما بل زال الوجوب لعدم القدرة لا غير ثم أن ما
ذكره مخالف لما قاله في النسخ من أنه لا بد وأن يكون بطريق
شرعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 71.
2 حديث صحيح, رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة
بلفظ "أن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى
تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب
ولا يحملن أحدكم استبطاء أن يطلبه بمعصية الله فإن الله
تعالى لاينال ماعنده إلا بطاعته.
الفتح الكبير 1/393.
قال الثاني الحس مثل:
{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}.
المخصص الثاني: من المخصصات المنفصلة الحس مثل قوله تعالى
حكاية عن بلقيس:
{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}3 فإن مقتضاه أنها أوتيت من كل شيء بعضه ونحن نعلم أنها لم تؤت شيئا
مما كنا نشاهده في يد سليمان صلى الله عليه وسلم وكذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل آية 23
ج / 2 ص -168-
قوله
تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}1 ونحن نشاهد أشياء كثيرة لا تدمير فيها كالسماء ونحوها وقوله
تعالى:
{مَا
تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ}2 ونحن نرى الجبال أتت عليها وما جعلتها كالرميم وقوله:
{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}3 وما كان مختصا من الثمار بأقصى المشرق والمغرب لم تر أنه يجيء
إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحقاف آية 25.
2 سورة الذاريات آية 42.
3 سورة القصص آية 57.
قال الثالث الدليل السمعي وفيه مسائل الأول الخاص إذا عارض العام خصصه علم تأخيره أم لا وأبو
حنيفة يجعل المتقدم منسوخا وتوقف حيث جهل لنا أعمال
الدليلين أولى.
الثالث من المخصصات المنفصلة الدليل السمعي وفيه مسائل
الأولى في بناء
العام على الخاص اعلم انه إذا ورد عام وخاص يدل كل واحد منهما على خلاف ما يدل عليه
الآخر فرأى الشافعي رضي الله عنه أن الخاص يخصص العام سواء
علم أن الخاص متأخر عن العام أم لم يعلم أم علم تأخره عن
الخاص وبه قال أبو الحسين واختاره الإمام واتباعه منهم
المصنف واختاره ابن الحاجب وذهب أبو حنيفة إلى الأخذ
المتأخر سواء كان هو الخاص أم العام فعلى هذا ان تأخر
الخاص نسخ من العام بقدر ما يدل عليه وان تأخر العام نسخ
الخاص وان جهل وجب التوقف إلا أن يترجح أحدهما على الآخر
بمرجح وذهب ابن العارض إلى التوقف في المسألة وابن العارض
هذا بالعين المهملة بعدها ألف ثم راء ثم ضاد معجمة واسمه
الحسين بن عيسى معتزلي قدري له كتاب في أصول الفقه سماه
انكت ورأيت عبارته تعابه عبارة المحصول فعلمت أن الإمام
كان كثير المراجعة له وقد انتخب ابن الصلاح هذا الكتاب
ووقفت عليه بخط ابن الصلاح وكتبت منه فوائد وقد وهم
القرافي فظن أن ابن العارض قد وقع في المحصول مصحفا قال
وانما هو ابن القاص بالقاف والصاد المهملة المشددة وهو
الشيخ أبو العباس أحد أئمة أصحاب الشافعي4 هذا كلام
القرافي
ج / 2 ص -169-
وهو
وهم وحجتنا ان العام والخاص قد اجتمعنا فأما أن يعمل بهما
أو لا يعمل بواحد منهما أو يعمل بالعام دون الخاص أو
بالعكس والأقسام الثلاثة الأولى باطلة فتعين الرابع أما
الأول والثاني فلاستحالة الجمع بين النقيضين ولاستحالة
الخلو عنهما ويراد الثاني انه يستلزم ترك الدليلين من غير
ضرورة وهو باطل وأما الثالث فلأنه يستلزم إبطال أحدهما
بالكلية بخلاف عكسه فإنه لا يستلزم إبطال العام بالكلية بل
من وجه فكان العمل به متعينا لأن أعمال الدليلين أولى من
إبطال أحدهما بالكلية واحتج أصحابنا بأن الخاص أقوى دلالة
على ما يتناوله من العام واحتج أبو حنيفة بما روى أن ابن
عباس رضي الله عنه قال كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور
رسول الله وأجيب بأنه يجب حمل الأحدث على غير صورة النزاع
جمعا بين الدليلين والله اعلم ولا يخفى عليك أن الخاص
المتأخر إنما يكون مخصصا للعام المتقدم إذا ورد وقت العمل
بالعام أو قبله أما إذا ورد بعده فكذلك عند من يجوز تأخير
البيان عن وقت الحاجة وعند المانعين يكون الخاص ناسخا
للعام إن كان مما يصلح لنسخه وإلا فلا يعبأ به.
قال الثانية يجوز تخصيص الكتاب به وبالسنة
المتواترة والإجماع كتخصيص:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} بقوله:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}
وقوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} بقوله القاتل لا يرث: و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} برجمه عليه السلام المحصن وتنصيف حد القذف على العبد.
هذه المسألة في تخصيص المقطوع بالمقطوع وذكر فيها ثلاثة
مباحث:
الأول: أنه يجوز تخصيص الكتاب به أن
بالكتاب خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أنه وقع لأن الله تعالى
قال:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}1 وهذا عام في أولات الأحمال بقوله:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ووقوعه دليل جوازه وزيادة لا يقال لعل التخصيص وقع بغير هذه الآية
لأنا نقول الأصل عدم غيرها واحتج الخصم بقوله تعالى:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}2 فوض البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجب أن لا يحصل البيان
إلا بقوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 228.
2سورة النحل آية 44.
ج / 2 ص -170-
والجواب أن قوله تعالى:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}1 يدل على أن الكتاب هو المبين والجمع بين الآيتين أن البيان يحصل
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أعم من أن يكون منه
أو على لسانه واعلم أنه يجوز تخصيص السنة المتواترة بها
كالكتاب به
البحث الثاني: يجوز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة قال
الآمدي لا أعرف فيه خلافا وصرح الهندي بقيام الإجماع عليه
ومنهم من حكى خلافا في السنة الفعلية وقد مثل المصنف
للقولية بأنهم خصصوا عموم قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}2 بما روى الترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث إسحاق بن
عبد الله بن أبى فروة وهو رجل متروك عند بعض أهل العلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"القاتل لا
يرث" قال الترمذي لا يصح هذا الحديث ولا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال
البيهقي شواهده تقويه3 فإن قلت هذا الحديث على تقدير صحته
من أخبار الآحاد والكلام في المتواترة قلت قال القرافي هذا
السؤال إنما يرد لو كان زماننا زمان النسخ والتخصيص وإنما
ذلك زمن الصحابة رضي الله عنهم وهذا الحديث وأمثاله كان
متواترا في ذلك الزمان والمتواتر قد يصير آحادا وكم من
قضية كانت متواترة في الزمن الماضي ثم صارت آحادا بل ربما
نسيت بالكلية ومثل للسنة الفعلية بأنهم حكموا بأن قوله
تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ}4
مخصوص بما تواتر عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من
رجمه المحصن والحديث في الصحيحين5 ولك أن تقول لعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية 89.
2 سورة النساء آية 11.
3 قال يحيى بن معين. رجاله كلهم ثقات إلا اسحاق هذا وجود
ابن عبد البر عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه
النسائي.
وانظر: نيل الأوطار 9516-86, سبل السلام 3/101.
4 سورة النور آية 2.
5 روى البخاري هذا الحديث في صحيحه كتاب الحدود باب: رجم
المحصن. فتح الباري 2/98. كما رواه الإمام مسلم باب حد
الزنا , وأحمد في مسنده وأبو داود باب: رجم ماعز.
ج / 2 ص -171-
التخصيص إنما هو بالآية التي نسخت تلاوتها ويبقى حكمها وهي الشيخ
والشيخة اذا زنيا فارجموهما كما سيأتي في النسخ ان شاء
الله تعالى والمراد بالشيخ والشيخة الشيب والشيبة ثم أن
رجمه صلى الله عليه وسلم المحصن ليس فعلا وإنما هو قول فإن
عليه السلام قال اذهبوا به فارجموه فلا يصح مثالا للفعلية.
فرع: يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب وعن بعض فقهاء
أصحابنا أنه لا يجوز البحث.
الثالث: يجوز تخصيص الكتاب بالإجماع وكذا
السنة المتواترة يجوز تخصيصها بالإجماع قال الآمدي لا اعرف
فيها خلافا واستدل في الكتاب او مثل بأن الإجماع خصص العبد
من آية الجلد يعني قوله:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً}1 لأنه قام على ان ينصف على العبد وإما عكس ذلك وهو تخصيص الإجماع
بالكتاب والسنة المتواترة فلم يذكره كم الكتاب وهو غير
جائز بالإجماع ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص
خطأ ولا يجوز الإجماع على الخطأ.
تنبيه: معنى قولنا تخصيص الكتاب بالإجماع
أنهم يجمعون على تخصيص العام بدليل آخر فالمخصص سند
الاجماع ثم يلزم من بعدهم متابعتهم وان جهلوا المخصص وليس
معناه انهم خصوا العام بالاجماع لأن الكتاب والسنة
المتواترة موجودان في عهده عليه السلام وانعقاد الاجماع
بعد ذلك على خلافه خطأ فالذي جوزناه اجماع على التخصيص لا
تخصيص بالإجماع والله اعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية 4.
قال الثالثة يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة
بخبر الواحد ومنع
قوم وابن أبان فيما لم يخصص بمقطوع والكرخي بمنفصل.
هذه المسألة في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيها بحثان:
الأول: في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد
وفيه مذاهب.
أحدها: الجواز مطلقا وهو المنقول عن الأئمة الأربعة
واختاره الإمام
ج / 2 ص -172-
وأتباعه منهم المصنف وبه قال امام الحرمين وطوائف وتبعهم
الآمدي قال إمام الحرمين ومن شك ان الصديق لو روى خبرا عن
المصطفى صلى الله عليه وسلم في تخصيص عموم الكتاب لا بتدره
الصحابة قاطبة بالقبول فليس على دراية من قاعدة الاخبار.
والثاني: المنع مطلقا ونقله ابن برهان في
الوجيز عن طائفة من المتكلمين وشرذمة من الفقهاء.
والثالث: قال عيسى بن أبان إنه لا يجوز في
العام الذي لم يخصص ويجوز فيما خصص لأن دلالته تضعف وشرط
ان يكون الذي خصص به دليلا قطعيا.
والرابع: إن كان التخصيص بدليل منفصل جاز
وإن يخص أو كان بمتصل فلا يجوز قاله أبو الحسن الكرخي
وشبهته أن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا كما هو رأيه وإذا كان
مجازا ضعف فيتسلط عليه التخصيص فمدار ابن ابان والكرخي على
والضعف غير ان مدرك الكرخي في القوة الحقيقية والمجاز
ومدرك الأخر القطع بالمجاز وعدم القطع وقوله والكرخي
بمنفصل أي ومنع الكرخي فيما لم يخصص بمنفصل وقد اقتصر في
الكتاب على الأربعة.
وفي المسألة مذهب خامس وهو الوقف في المحل الذي يتعارض فيه
الخبر ومقتضى لفظ الكتاب وأجرى اللفظ العام من الكتاب في
بقية مسمياته.
وذهب إليه القاضي كما نقله عن إمام الحرمين والغزالي
والامام والآمدي نقل عنه ابن برهان في الوجهين أنهما
يتعارضان ويتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر وهو عند
التحقيق غير القول بالوقف وكلامه في مختصر التقريب محتمل
لكل من النقلين إلا أنه لما نقله ابن برهان أقرب فانه قال
إذا تقابلا يتعارضان القدر الذي يختلفان فيه ولا يتمسك
بواحد منهما ويتمسك بالصفة العامة في بقية المسميات التي
لم يتناولها الخبر الخاص فينزل الخبر مع العموم فيما يختلف
فيه ظاهرهما منزلة خبرين مختلفي الظاهر نقلا مطلقين انتهى
وحكى في مختصر التقريب مذهب سادسا وهو أنه يجوز التعبد
بتخصيص العموم بخبر الواحد وعدمه عقلا لكن لم يدل على أحد
القسمين وهذا أيضا قول بالوقف وهنا فوائد.
ج / 2 ص -173-
أحدها: ان هذا الخلاف الذي في تجوير تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد هل هو
جار في تخصيص السنة المتواترة به الظاهر وهو الذي صرح به
في الكتاب نعم والمصنف وإن كان منسوبا في ذلك الى التقرير
عن الإمام وأصحابه وغيرهم من المتأخرين فهو آت بحق فقد
سبقه بذلك القاضي رضي الله عنه فقال في مختصر التقريب
القول في تخصيص الكتاب والسنة المقطوع بها بأخبار الآحاد
اعلم وفقك الله ان هذا باب عظيم.
خلاف العلماء فيه ثم ساق المذاهب المذكورة.
الثانية: لعلك تقول قد سبق أن ابن أبان
يرى أن العام المخصوص ليس بحجة فكيف الجمع بينه وبين ما
ذكره هنا والجواب أن الجمع بينهما أنه لا يحتج بالعام
المخصوص لكونه صار مجازا وليس بعض المحامل أولى من البعض
بالعام المخصوص لكونه صار مجازا وليس بعض المحامل أولى من
البعض فيصير مجملا عنده فإذا جاء مخصص بعد ذلك جزمنا
بإخراج ما دل عليه بعد أن كنا لا نحكم عليه بشيء ويبقى
الباقي على ما كان عليه لا يحتج به ولا يجزم لعدم إرادته
فالمخصص مبني لكون ذلك الفرد غير مراد وساكت عن الباقي فلا
منافاة بين الكلامين وهذا الجمع قرره والدي أحسن الله إليه
ورأيت أنا بعد ذلك القاضي في مختصر التقريب قال بعد حكاية
مذهب ابن أبان هذا مبني على أصل له قدمناه وهو أن العموم
إذا خص بعضه صار مجملا في بقية المسميات لا يسوغ الاستدلال
باللفظ المجمل في عموم ولا خصوص قبل ورود الخبر وبعده
انتهى وهذا حسن نفيس.
الثالثة: قال القرافي المحدثون والنحاة
على عدم صرف أبان قال ونقله ابن يعيش في شرح المفصل عن
الجمهور وقال إنه بناء على أن وزنه أفعل واصله أبين صيغه
مبالغة في الظهور الذي هو البيان والابانه فيقول هذا أبين
من هذا أي أظهر منه وأوضح فلوحظ أصله مع العلمية التي فيها
فلم يصرف.
قال: لنا أعمال الدليلين ولو من وجه أولى قيل قال عليه
الصلاة والسلام: "إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله
فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه" قلنا منقوض بالمتواتر
قيل الظن لا يعارض القطع قلنا العام مقطوع المتن مظنون
الدلالة والخاص بالعكس فتعادلا قيل لو خصص لنسخ قلنا
التخصيص أهون
ج / 2 ص -174-
احتج
على الجواز مطلقا بأن فيه إعمالا للدليلين أما الخاص ففي
جميع ما دل عليه وأما العام فمن وجه وهو الإفراد التي لم
تخصص دون وجه وهو ما خصص ومنع التخصيص يفضي إلى إلغاء أحد
الدليلين وهو الخاص وأعمال الدليلين ولو من وجه أولى من
إلغاء أحدهما وقد سبق مثل هذا واحتج المانع مطلقا بثلاثة
أوجه.
أحدها: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم
قال:
"إذا روى عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه
فاقبلوه وإن خالفه فردوه"1 وهذا الحديث مخصوص بالكتاب فلا يدل على السنة المتواترة كما هي
طريقة المصنف وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده موصولا
من حديث أبي هريرة واللفظ أنه ستأتيكم عني أحاديث مختلفة
فما أتاكم عني موافقا لكتاب الله وسنتي فليس مني وفي سنده
مقال ورواه البيهقي في المدخل من طريق الشافعي رضي الله
عنه عن طريق منقطعة وأجاب المصنف بأن هذا منقوض بالسنة
المتواترة فإنها مخالفة ويجوز التخصيص بها اتفاقا كما سبق
وقال الشافعي رضوان الله عليه ما هو أحسن من هذا الجواب
وهو ما نصه وليس يخالف الحديث القرآن ولكنه مبين معنى ما
أراد خاصا وعاما وناسخا ومنسوخا ثم يلزم الناس ما بين
يفرضه الله عز وجل فمن قيل عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعن الله قيل قال الله تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}2
انتهى.
الثاني: إن الكتاب مقطوع به وكذا السنة
المتواترة والآحاد مظنونة والمقطوع أولى من المظنون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه: هذا الحديث رواه رجل
مجهول وهو منقطع ولم يروه أحد يثبت حديثه الرسالة ص
224-225 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وفي عون المعبود 4/329:
فأما مارواه بعضهم أنه قال:
"إذا جاءكم الحديث فأعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه ... فإنه حديث باطل لأصل له.وينقل العلامة الفتني في تذكرة
الموضوعات ص28 عن الخطابي أنه قال: ضعفه الزنادقة. وقد عقد
الإمام أبو محمد بن حزم لهذا المعنى فصلا نفيسا في كتابه
الإحكام 2/86- 82 فراجعه هناك والله أعلم.
2 سورة الحشر آية 7.
ج / 2 ص -175-
وأجاب
بأن العام الذي فيه الكلام وهو الكتاب والسنة المتواترة
مقطوع في متنه إذ لا شك في كونه من القرآن إن كان من
الكتاب ولا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ان كان
من السنة المتواترة وأما الخاص فبالعكس متنه مظنون لأنه من
رواية الآحاد فلا يقطع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قاله ودلالته مقطوع بها لأنه لا يحتمل إلا ما يعرض له فكل
منهما مقطوع به من وجه مظنون من آخر فتساويا فان قلت إذا
تعادلا فلا ينبغي ان يرجح احدهما على الآخر إذ هو حينئذ
ترجيح من غير مرجح قلت يرجح الخاص بأن فيه أعمالا للدليلين
وقد ضعف الأصفهاني شارح المحصول هذا الدليل بأن خبر الواحد
يحتمل المجاز والنقل وغيرهما مما يمنع القطع غاية ما في
الباب أنه لا يحتمل التخصيص وذلك لا ينفع نعم يمكن ان يدعي
قوة دلالة الخاص على مدلوله فإنها أقوى من دلالة العام
عليه.
الثالث: انه لو جاز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر
الواحد لجاز نسخهما به واللازم منتف بالاتفاق على أنه لا
يجوز نسخ المتواترة بخبر الواحد وبيان الملازمة ان كل واحد
منهما تخصيص لكن أحدهما وهو النسخ تخصيص في الأزمان والآخر
تخصيص في الأعيان وأجاب بأن التخصيص أهون من النسخ لأن
النسخ يرفع الحكم بالكلية بخلاف التخصيص ولا يلزم من تأثير
الشيء في الأضعف ان يكون مؤثرا في الأقوى قلت وهذا الدليل
وجوابه يمشيان على طريق المصنف فإنه قال لا ينسخ المتواترة
بالآحاد وهي طريقة فيها كلام لأن جماعة ينفلوا الاتفاق على
الجواز وجعلوا محل الخلاف في الوقوع وجماعة جزموا بالجواز
من غير حكاية خلاف كالإمام وغيره كما ستعرف ذلك إن شاء
الله في النسخ فالعجب ليس من المصنف لأنه مشى على طريقته
وهي صحيحة سنبين ذلك في كتاب النسخ بل من الإمام حيث لم
ينبه على ذلك إذ ذكر الدليل والجواب.
قال: وبالقياس ومنع أبو على وشرط ابن ابان التخصيص والكرخي
بمنفصل وابن سريج الجلاء في القياس واعتبر حجة الإسلام
ارجح الظنين وتوقف القاضي وإمام الحرمين.
ج / 2 ص -176-
المبحث
الثاني في جواز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس أي
بقياس نص خاص كذا صرح الغزالي وقوله بالقياس معطوف على
قوله بخبر الواحد أي يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة
بخبر الواحد وبالقياس والخلاف في هذه المسألة على مذاهب.
أحدها: الجواز مطلقا وبه قال الأئمة
الأربعة والشيخ أبو الحسن وأبو هاشم بعد أن كان يوافق وهو
المختار في الكتاب.
والثاني: المنع مطلقا قال أبو علي الجبائي
ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين منهم ابن مجاهد من
أصحابنا.
والثالث: أن تطرق إليهما التخصيص بغير
القياس جاز تخصيصهما به وإلا فلا قاله ابن أبان ونقله ابن
برهان في الوجيز عن أصحاب أبي حنيفة.
والرابع: أن تطرق إليهما التخصيص بمنفصل
جاز وإلا فلا قاله الكرخي.
والخامس: يجوز تخصيصهما بالقياس الجلي دون
الخفي وهو رأي ابن سريع وجماعة من أصحابنا واختلف هؤلاء في
تفسير الجلي والخفي فقيل الجلي قياس العلة والخفي قياس
الشبه وقيل الجلي ما تتبادر علته إلى الفهم عن سماع الحكم
نحو تعظيم الأبوين عند سماع قوله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ونحو اندهاش العقل عقل عند تمام الفكر عند سماع قوله عليه السلام:
"لا يقضي القاضي وهو غضبان"1 والخفي ما ليس كذلك وقيل الجلي ما ينقض قضاء القاضي بخلافه والخفي
ما ليس كذلك.
والسادس: ان تفاوت العام والقياس في إفادة
غلبية الظن رجحنا الأقوى و أن تساويا فالتوفيق وهو مذهب
حجة الاسلام الغزالي واعترف الإمام في بناء المسألة بأنه
حق واستحسنه القرافي وقال الأصفهاني انه حق واضح وكذلك قال
الهندي في أثناء المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري وأبو داود
وابن ماجة من حديث أبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- قال:
"لايقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان". كما رواه النسائي بلفظ: "لايقضين أحد في قضاء بقضاءين ولا يقضين
أحد بين خصمين وهو غضبان".
الفتح الكبير 3/368.
ج / 2 ص -177-
والسابع: الوقف ذهب إليه القاضي وإمام الحرمين واقتصر المصنف على حكاية هذه
المذاهب السبعة.
والثامن: قال الآمدي ان كانت العلة منصوصة
او مجمعا عليها جاز التخصيص به وإلا فلا.
والتاسع: ان كان الأصل المقيس عليه مخرجا
من عام جاز التخصيصي وإلا فلا وهنا الخلاف كله في القياس
المستنبط من الكتاب او عمومها او عموم خبر الواحد بالنسبة
الى خبر الواحد فعلى الخلاف ايضا واما بالنسبة الى عموم
الكتاب فيرتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد فمن لا يجوز ذلك
لا يجوز تخصيصه بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى واما من
يجوز قال الهندي فيحتمل ان لا يجيز ذلك لزيادة الضعف
ويحتمل أن يجوز ذلك كما في القياس المستنبط من الكتاب إذ
قد يكون قياسه أكثر قوة من ذلك العموم بأن يكون قد قياسة
أكثر قوة من ذلك العموم بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصيات
كثيرة ويحتمل ان يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك.
قال: لنا ما تقدم قيل القياس فرع فلا يقدم قلنا على اصله
قيل مقدماته أكثر قلنا قد يكون بالعكس ومع هذا فاعمال الكل
أحرى.
استدل على ما اختاره بأن فيه اعمالا للدليلين وأعمال
الدليلين ولو من وجه أولى وهذا هو الذي تقدم وقد مضى
تقريره قال الغزالي وهو فاسد لأن القدر وقع فيه التقاتل
ليس فيه جمع بين الدليلين بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل
بالقياس وهذا حسن وهو مأخوذ من القاضي فإنه أجاب به عن هذه
الشبه في مختصر التقريب قال والمقصود من ذلك ان القدر الذي
تحقق اجتماع القياس واللفظ فيه توهم فيه قضية اللفظ والقدر
الذي بقي من اللفظ لم يمانعه القياس فينزل اللفظ باقي
المسميات في منزلة اللفظة الأخرى فبطل ادعائه استعمال
الدليلين في محل الاجتماع في الدليلين واحتج الجبائي على
المنع مطلقا بوجهين.
أحدهما: أن القياس فرع النص فلو خصصنا
العموم به لقدمنا الفرع على
ج / 2 ص -178-
أصله
لا على أصل آخر وإذا خصصنا العموم به لم نقدمه على أصله
وإنما قدمناه على أصل آخر وهو بالنسبة الى الأصل الآخر ليس
فرعا بل هو دليل مثله.
والثاني: ان مقدمات القياس اكثر من مقدمات النص لأنه فرعه
وكل مقدمة توقف النص عليها من غير عكس لاختصاص القياس
بتوقفه على مقدمات آخر وبيان ذلك ان جهة الضعف في العام
المقطوع المتن منحصرة في أمرين:
أحدهما: احتمال التخصيص.
وثانيهما: احتمال التجوز وفي غيره
الاحتمالان المذكوران مع احتمال كذب الناقل وأما في القياس
فهذه الثلاثه أو الاثنان لأن الأصل في القياس لا بد وأن
يكون نصا ورابع وهو احتمال ان لا يكون الحكم معللا بعلة
أصلا وخامس وهو احتمال ان تكون العلة غير ما ظنه القائس
عله لأنه ربما لم يستكمل أوصاف الاجتهاد وربما قصر في
الاجتهاد عامدا او مخطأ وسادس وقد ذكره القاضي في مختصر
التقريب انه وان كان ما ظنه علة فيحتمل ان يكون قد زل في
طريقة قرب مخطىء في الطرق التي ثبتت بها العلل وسابع وهو
انه وان لم يزل في الطريق فيحتمل ان لا تكون موجودة في
الفرع مع انه ظن وجودها فيه وثامن وهو أنها وإن وجدت في
الفرع لكن ربما لم توجد فيه شرط الحكم أو فقد صانع وإذا
كان كذلك كان القياس اضعف من العام لا سيما من المقطوع
متنه فلم يجز تقديمه عليه لامتناع العمل بالمرجوح مع
معارضة الراجح وقال القاضي في مختصر التقريب فإن قالوا إن
كلامنا في قياس يصح قلنا فلا يتصور في المجتهدات قياس يقطع
بصحته ثم ان صورتم قياسا قاطعا فصوروا صيغة تقطع بعمومها
هذا تقرير الوجه الثاني من الوجهين اللذين اعتصم بهما
الجبائي وأجاب في الكتاب عن هذا الثاني بوجهين.
أحدهما: لا نسلم أن مقدمات القياس أكثر
مطلقا بل يكون بالعكس أي يكون مقدمات العام اكثر من مقدمات
القياس فإن فيه احتمال التجوز والنسخ وخطأ الراوي وغير ذلك
والقياس لا يحتمل شيء من ذلك.
ج / 2 ص -179-
وثانيهما: إنا سلمنا ان مقدمات القياس اكثر مطلقا لكن في
العمل فيهما عمل بالدليلين وهو أحرى أي أحوط وأولى كما سبق
وقد عرفت ما فيه من النظر والحق ان الوجهين ضعيفان أما هذا
فلما عرفت واما الذي قبله فلأن القياس لا بد وأن يستند إلى
أصل وذلك الأصل ان لم يكن مقطوع المتن تطرقت إليه هذه
الإحتمالات وينضم إليها ما يختص به القياس من المحتملات
فيكون الاحتمال فيه اكثر وان كان مقطوع المتن فدلالته ظنية
وهي تقبل القوة والضعف كالقياس وعند ذلك نقول الحق في
الجواب ان يقال كميات المقدمات قد تعارض كيفياتها بمقدمات
القياس وإن كانت كثيرة لكنها قد تكون أقوى من مقدمات العام
القليلة التي للعام او أرجح ومن أمثلة ذلك أنه لا يخفى على
ذي لب أن إلحاق النبيذ بالخمر بالقياس بعلة الإسكار اغلب
على الظن من بقائه تحت قوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}1 وكذلك دلالة قياس الأرز على البر في الربا أقوى بالنسبة الى
الدلالة المأخوذة من قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}2 على جواز بيعه متفاضلا وإذا فهم هذا لاح وجه الحق مع الغزالي ووضح
ان مذهبه هو المرتضى الذي نختاره فإذا قلت ما ذكره الغزالي
من الأخذ بأرجح الظنين يلزمه في خبر الواحد مع العموم فإن
المرجحات المتجهة هنا متجهة ثم من جهة غلبة المجاز على
أحدهما وقلته في الآخر وكثرة الأفراد وقلتها ونحو ذلك قلت
أجاب الأصفهاني شارح المحصول بأن ذلك لا يلزمه فإنه يرى ان
خبر الواحد في دلالته على مورده الخاص كالنص او هو نص فيه
ودلالة العموم على مورده الخاص ضعيفة لاحتمال الإجمال في
صيغة العموم بسبب الاشتراك على رأي قدم ولا كذلك القياس مع
العمومات فإن قلت الخلاف في اصل هذه المسألة من جنس الخلاف
في القطعيات او المجتهدات قلت قال الغزالي يدل سياق كلام
القاضي على ان القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب
وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع فيه بخطأ
المخالف ما به من مسائل الأصول قال وعندي إلحاق هذا
بالمجتهدات أولى فإن الأدلة فيه من الجوانب متفاوتة غير
بالغة مبلغ القطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 145.
2 سورة البقرة آية 275.
ج / 2 ص -180-
قال الرابعة: يجوز تخصيص المنطوق بالمفهوم
لأنه دليل كتخصيص خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير
طعمه أو ريحه أو لونه بمفهوم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل
خبثا.
قال الآمدي لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم والمفهوم
أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم وسواء كان من قبيل مفهوم
الموافقة أم المخالفة أما الإمام فتوقف في ذلك ولم يختر
شيئا وقال سراج الدين في جوازه نظر وجزم في المنتخب بأنه
لا يجوز ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن بعضهم كما ذكر
الاصفهاني.
وقال ابن دقيق العيد في الكلام على الحديث الثاني في شرح
الإمام أنه رأى في كلام بعض المتأخرين ما يقتضي أنه لا
تخصيص بالمفهوم وقد حصلنا من هذا القول على أن الخلاف في
تخصيص العموم بالمفهوم موجود وقال صفي الدين لا يستراب في
جواز التخصيص بمفهوم الموافقة وهذا حسن وينبغي ان يجعل محل
الخلاف في مفهوم المخالفة ويؤيده ان الإمام صرح في آخر
الناسخ والمنسوخ قبل القسم الثالث فيما يظن أنه ناسخ بأن
الفحوى يكون ناسخا بالاتفاق وكذلك الآمدي فأدعى الإتفاق
ايضا واحتج المصنف على الجواز مطلقا بأنه دليل شرعي إذ
القول بجواز التخصيص بأنه حجة وإذا كان كذلك فيخصص به جمعا
بين الدليلين ومثل له المصنف بقوله عليه السلام:
"خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه او ريحه"1 مع قوله عليه السلام:
"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"
فإن الأول دل بمنطوقه على ان الماء لا ينجس عند عدم
التغيير وإن لم يكن قلتين والثاني دل بمفهومه الذي هو
مفهوم شرط وهو حجة على ان القليل ينجس وإن لم يتغير فيكون
هذا المفهوم تخصيصا لمنطوق الأول وقد سبق الكلام على
الحدثين ولم يمثل لمفهوم الموافقة لظهوره ومثاله ان يقول
من أساء إليك فعاقبه ثم يقول ان أساء إليك زيد فلا تقل له
أف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه قريبا.
قال الخامسة: العادة التي قررها رسول الله صلى
الله عليه وسلم
تخصيص وتقريره عليه الصلاة والسلام على مخالفة العام تخصيص
له فان ثبت حكمي على الواحد حكمي على الجماعة يرفع عن
الباقين.
ج / 2 ص -181-
هذه
المسألة مشتملة على بحثين الأول أن العادة هل تخصص العموم
وأعلم أن كلام من أطلق القول في أن العادة هل تخصص يحتمل
نصين:
أحدهما: ان يكون الرسول صلى الله عليه
وسلم أوجب أو حرم أشياء بلفظ عام يشملها ثم رأينا العادة
جارية بترك بعضها او بفعل بعضها فهل تؤثر تلك العادة في
تخصيص ذلك العام حتى يقال المراد من ذلك العام ما عدا ذلك
البعض الذي جرت به العادة او هو باق على عمومه وهذا القسم
هو الذي تكلم فيه الإمام وأتباعه كالمصنف قال الإمام والحق
ان نقول العادة إما أن تعلم من حالها أنها كانت حاصلة في
زمانه عليه السلام مع عدم منعه عليه السلام إياهم منها أو
يعلم أنها ما كانت حاصلة او لا يعلم واحد من الأمرين فإن
كان الأول صح التخصيص وهو في الحقيقة تقريره عليه الصلاة
والسلام وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال
الناس لا تكون حجة على الشرع اللهم الا ان يجمعوا عليه
فيصح حينئذ والمخصص هو الإجماع لا العادة وإن كان الثالث
واحتمل وتابعه المصنف على ذلك.
فرع: إذا باع شجرة وأطلق دخل في بيعها
أغصانها الا اليابس لأن العادة فيه القطع وقال صاحب
التهذيب يحتمل ألا يدخل كالصفوف على ظهر الغنم يعنى إذا
بيع وقد استحق الجز لاحتمال الثاني ان تكون العادة جارية
بفعل معين كأكل طعام معين مثلا ثم انه عليه السلام ينهاهم
عنه بلفظ يتناوله كما لو قال نهيتكم عن أكل الطعام ومنه
نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بجنسه فهل يكون النهي
مقتصرا على ذلك الطعام فقط أم يجري على عمومه ولا تأثير
للعادة في ذلك؟
وهذا الاحتمال هو الذي تكلم فيه الآمدي وتابعه ابن الحاجب
وهما مسألتان لا تعلق لأحدهما على الأخرى ولم يتعرض الآمدي
لتلك وقد عرفت حكمها أولا والإمام لهذه ومن قال إن العادة
تخصيص حمل النهي فنها على ذلك المعتاد لا غير ومن قال لا
تخصيص وهو المختار أجراه على عمومه هذا تمام القول في
التخصيص بالعادة وقد أورده الهندي كما ذكرناه فلا يعدل به
فإن
ج / 2 ص -182-
بعض
الضعفاء حاول الجمع بين كلام الإمام والآمدي ظنا منه
لأنهما تواردا على محل واحد فوقع في خبط كبير البحث.
الثاني: في تقرير النبي صلى الله عليه
وسلم واحد من المكلفين على خلاف مقتضى العام قد يكون مخصصا
وأما في حق ذلك الشخص الذي أقر فلا شأن فيه ضرورة أنه عليه
السلام يقر على باطل وأما في حق غيره فإن يثبت المروي من
قوله- صلى الله عليه وسلم-
"حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" فيرتفع حكم العام عن الباقين ايضا وعلى هذا يكون نسخا لا تخصيصا ان
خالف ذلك الواحد جميع ما دل عليه العام ويكون تخصيصا ان
خالف في فرد كما لو قال لا تقتلوا المسلمين وقدرنا أن شخصا
قتل مسلما وأقره عليه السلام على ذلك فيعلم ان ذلك المقتول
كان يجوز قتله لكل أحد وهذا الحديث وهو حكمي على الواحد
حكمي على الجماعة لا اعرف له أصلا وسألت عنه شيخنا الحافظ
أبا عبد الله الذهبي فلم يعرفه وأعلم أنه يشترط في تقريره
عليه السلام أن لا يعلم من الفاعل اعتقاده ذلك الفعل كتردد
اليهود كنائسهم فإن سكوته عن ذلك لا يقتضي إباحته للعلم
بتقدير أهل الذمة على ذلك.
ونختم البحث في التقرير بسؤال وهو ان الاستدلال بالتقرير
على الإباحة كيف يتم مع انه يحتمل ان يكون التقرير قبل
نزول الوحي؟
ينبغي ان يقال يستدل به على عدم التحريم أما إن شاء
الإباحة فلا وهذا السؤال أورده والدي احسن الله إليه قديما
على الشيخ صدر الدين بن المرحل ولم يحصل عنه جواب إذ ذاك
قال والدي أيده الله تعالى وقد ظهر لي بعد ذلك جوابه وهو
ان التقرير إنما يكون على فعل قد وقع او هو واقع ولنا
قاعدة قد نقلوها وهي انه لا يجوز الإقدام على فعل حتى يعرف
حكمه فلذلك الفعل الذي اقر عليه لو لم يكن مباحا لكان
حراما عليه فلا علم يحكمه.
فمن هنا دل التقرير على الإباحة بخلاف السكوت عند السؤال
فإنه يحمل على عدم نزول الحكم لأن السؤال عما لم يقع او
عما وقع والسائل ينتظر حكمه فيفهم من السكوت عدم الحكم
فيبقى واقفا بخلاف المقيم على الفعل قد يعتقد
ج / 2 ص -183-
إباحته
فهذا فرق بين المقامين فان قلت يكفي في تسويغ الفعل البرآة
الأصلية قلت هذا كاف في الإباحة لأن إبقاء الشارع بحكم
البرآة الأصلية حكم وهو دليل شرعي وإنما يقول بالتحريم إذا
قدم بلا سبب فهذا ينكر عليه سواء كان هناك حكم أم لا فإذا
لم ينكر دل على الإباحة ويحمل على ان فاعله اقدم عن علم
بخلاف السائل فإن ظاهر حاله انه واقف عن الاعتقاد منتظر
الجواب فلا يحصل مفسدة والله اعلم.
قال: السادسة خصوص السبب لا يخص لأنه لا يعارضه.
هذه المسألة
مشتملة على بحثين:
الأولى: في أن خصوص السبب لا يخصص عموم
اللفظ ومن الناس من أطلق الكلام في هذه المسألة كالمصنف
والتحبيق تفصيل وهو ان الخطاب إما ان يكون لسؤال سائل او
لا فان كان جوابا فاما أن يستقل بنفسه أولا فإن لم يستقل
فلا خلاف انه على حسب الجواب ان كان عاما فعام وان كان
خاصا فخاص وان استقل فهو أقسام لأنه وإما ان يكون أمضى أو
مساويا أو اعم والأخص مثل قول القائل من جامع في نهار
رمضان فعليه ما على المظاهر في جواب من سأله عمن افطر في
نهار رمضان وهذا جائز بشرائط:
أحدها: ان يكون فيما خرج من الجواب ينبه
على ما لم يخرج منه.
والثاني: ان يكون السائل مجتهدا او لا لم
يفد التنبيه.
والثالث: ان لا تفوت المصلحة بأشغال
السائل بالاجتهاد وأما المساوي فلا إشكال فيه وأما الأعم
فهو منقسم إلى قسمين لأنه إما ان يكون اعم منه فيما سئل
عنه كقوله عليه السلام: لما سئل عن ماء بئر بضاعة:
"أن الماء طهور لا ينجسه شيء"1
رواه أبو داود والترمذي وقال حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود, كتاب الطهارة, باب: ماجاء في بئر بضاعة.
والترمذي, باب: ماجاء في الماء لاينجسه شيء.
كما رواه النسائي وابن ماجة.
ج / 2 ص -184-
وإما
أن يكون عاما في غير ما سئل عنه كقوله عليه السلام حين سئل
عن التوضؤ بماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"1 وحكم هذا القسم التعميم بالنسبة الى ما سئل عنه والى غيره من غير
خلاف.
وأما القسم الأول فقد جعلوه من محل الخلاف الذي يستقصي
القول فيه إن شاء الله تعالى وقال والدي أيده الله تعالى
الذي يتجه القطع بأن العبرة بعموم اللفظ لأن عدول المجيب
عن الخاص المسئول عنه الى العام دليل على إرادة العموم.
وإما الخطاب الذي لا يرد جوابا لسؤال بل واقعة فإما ان يرد
في اللفظ قرينه تشعر بالتعميم كقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}2
والسبب رجل سرق رداء صفوان فالإتيان معه قرينة تدل على
الاقتصار على المعهود وكذلك العدول عن الإفراد الى الجمع
كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا}3 نزلت
في عثمان بن طلحة اخذ مفتاح الكعبة وتغيب به وأبى ان يدفعه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل ان عليا رضي الله عنه
أخذه منه وأبى ان يدفعه إليه ونزلت فأعطاه النبي صلى الله
عليه وسلم اياه وقال
"خذوها يا
بني طلحة خالده مخلدة فيكم أبدا لا ينزعها منكم إلا ظالم" وإن لم يكن ثم قرينة وكان معرفا بالألف واللام فمقتضى كلامهم الحمل
على المعهود إلا ان يفهم من نفس الشرع تأسيس قاعدة فيكون
دليلا على العموم وإن كان العموم لفظ آخر غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الفتح
الكبير2/18.
2 سورة المائدة 38.
3 سورة النساء آية 58.
نزلت هذه الآية – كما قال المفسرون -: في شأن مفتاح الكعبة
لما أخذه علي- رضي الله عنه – من عثمان بن طلحة قهرا بأمر
النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح ليصلي فيها فصلى
فيها ركعتين ثم خرج فسأله العباس المفتاح ليضم السدانة إلى
السقاية فنزلت الآية فرده علي لعثمان بلطف بأمر- النبي صلى
الله عليه وسلم – فتعجب عثمان في ذلك فقرأ له علي الآية
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها....}
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع 2/39.
ج / 2 ص -185-
الألف
واللام فيحسن ان يكون ذلك هو محل الخلاف إذا عرفت ذلك
فالصحيح الذي عليه الجمهور وبه جزم في الكتاب ان العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وخالف في ذلك مالك والمزني وأبو ثور فقالوا ان خصوص السبب
يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام الحرمين وهو الذي صح
عندنا من مذهب الشافعي وكذلك قال الغزالي في المنخول.
وقال في مختصر التقريب والإرشاد نقل المذهبان جميعا عنه
واعلم ان الذي صح من مذهب الشافعي رضي الله عنه موافقة
الجمهور خلاف ما ذكره امام الحرمين.
قال الإمام في كتابه الموضوع في مناقب الشافعي رحمه الله
ومعاذ الله ان يصح هذا النقل وكيف وكثير من الآيات نزلت في
أسباب خاصة ثم لم يقل الشافعي رحمه الله أنها مقصورة على
تلك الأسباب قال والسبب في وقوع هذا النقل الفاسد عنه انه
يقول ان دلالته على سبب أقوى لأنه لما وقع السؤال عن تلك
الصورة لم يجز ان لا يكون اللفظ جوابا عنه وإلا تأخر
البيان عن وقت الحاجة وأبو حنيفة عكس ذلك وقال دلالته على
سبب النزول اضعف وحكم بأن الرجل لا يلحقه ولد أمته وان
وطئها ما لم يقم بالولد مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"الولد للفراش وللعاهر الحجر"1
إنما ورد في أمة والقصة مشهورة في قضية عبد بن زمعه فبالغ
الشافعي في الرد على من يجوز إخراج السبب وأطنب في ان
الدلالة عليه قطعية كدلالة للعام عليه بطريقين.
أحدهما: العموم .
وثانيهما: كونه واردا لبيان حكمه فتوهم
المتوهم انه يقول ان العبرة بخصوص السبب هذا حاصل ما ذكره
الإمام وهو بليغ واما ما ذكره إمام الحرمين فلعله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي من
حديث عائشة – رضي الله عنها- .
كما رواه الإمام أحمد في مسنده. والبخاري ومسلم والترمذي
والنسائي وابن ماجة من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
الفتح الكبير3/308.
ج / 2 ص -186-
اطلع
على نص مرجوح عنه او غير ذلك فإن الخلاف فيه غير بعيد عن
المذهب ولذلك اختلف الأصحاب في ان العرايا هل يختص بالفقر
أم يشترك فيها الأغنياء والفقراء والصحيح والتعميم مع أنها
وردت على سبب خاص وهو الحاجة والفرص أن الصحيح من مذهبه
موافقة الجمهور وفروعه تدل على ذلك.
قال الأصحاب في من دخل عليه صديقه فقال تغد معي فقال أن لم
تتغد معي فامرأتي طالق لا يقع الطلاق ولو تغدا بعد ذلك معه
ان طال الزمان انحلت اليمين فإن نوى الحال فلم يفعل وقع
الطلاق وهو يخالف قول الأصوليين ان الجواب الذي يستقل
بنفسه الا ان الفرق يقتضي عدم استقلاله مثل هذه الصورة في
حكم الذي لا يستقل بوضعه فيكون على حسب السؤال.
ورأى البغوي حمل المطلق على إكمال العادة وهو يوفق قول
الأصوليين هذا وأفتى القاضي الحسن في امرأة صعدت بالمفتاح
الى السطح فقال: زوجها ان لم تلق بالمفتاح فأنت طالق فلم
تلقه ونزلت انه لا يقع ويحمل قوله ان لم تلقه على التأييد
واخذ ذلك مما قاله الأصحاب في المسألة المذكورة وفي
الرافعي عن المبتدأ في الفقه للقاضي الروباني انه لو قيل
له وكلم زيدا فقال والله لا كلمته انعقدت اليمين على الأبد
الا ان ينوي اليوم فإن كان ذلك في طلاق وقال أردت اليوم لم
يقبل في الحكم وهذه الصور كلها شاهدة لأن العبرة بعموم
اللفظ ومخالفة لما قال الأصوليون في الجواب الذي يقتضي
العرف عدم استقلاله دون الوضع.
والحق مع الفقهاء لأن اللفظ عام والعادة لا تخصص وأما ما
وقع في كتابي طبقات الفقهاء في ترجمة الإمام الشافعي في
الأم في الجزء الرابع من أجزاء تسعة في كتاب ما يقع به
الطلاق من الكلام وما لا يقع وهو بعد الطلاق الذي يملك فيه
الرجعة وقبل الحجة في النية وما أشبهها نص على ما ذكره
الإمام عنه من ان العبرة بعموم اللفظ فذلك خطا مني في
الفهم وأردت ان انبه على ذلك هنا لئلا يغتر به فإن حذفه من
ذلك الكتاب تعذر لانتشار النسخ به وبيان ذلك انه قال ما
نصه ما يقع به الطلاق من الكلام ومالا يقع.
ج / 2 ص -187-
قال
الشافعي رضي الله عنه ذكر الله تعالى في كتابه الطلاق
والفراق والسراح فقال عز وجل:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}1 وقال تعالى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف}2 وقال
عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في أزواجه:
{إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}
الآية.
قال الشافعي
فمن خاطب امرأته فأفرد لها اسما من هذه الأسماء فقال أنت
طالق أو أطلقتك أو فارقتك أو سرحتك لزمه الطلاق وان لم
ينوه في الحكم ونويناه فيما بينه وبين الله عز وجل ويسعه
إن لم يرد شيئا منه طلاقا ان يمسكها ولا يسعها ان يقيم
لأنها لا تعرف من صدقه ما يعرف من صدق نفسه وسواء فيما
يلزم من الطلاق ولا يلزم تكلم به الزوج عند غضب او مسألة
طلاقا او رضا وغير مسألة طلاق ولا تصنع الأسباب شيئا إنما
تصنعه الألفاظ لأن السبب قد يكون ويحدث الكلام على غير
السبب ولا يكون مبتدأ الكلام الذي له حكم فيقع فإذا لم
يصنع السبب بنفسه شيئا لم يصنعه ما بعده ولم يمتنع ما بعده
ان يصنع ما له حكم إذا قيل انتهى فتوهمت انا ما توهمت من
قوله ولا تصنع الأسباب شيئا الى آخر وهو وهم وانما مراده
ان الغضب وغيره من الأسباب التي يرد عليها الطلاق لا تدفع
وقوع الطلاق ولا تعلق لذلك بالمسألة الأصولية وقد احتج
المصنف على ان العبره بعموم اللفظ بأن اللفظ صالح لتناول
الأفراد إذ هو عام وكونه ورد على سبب لا يعارضه لأنه لا
منافاة بينهما بدليل ان المجيب لو قال احمل اللفظ على
عمومه ولا تخصيصه بخصوص سببه كان ذلك جائزا.
واعترض على هذا بأنه لا ينافي كون السبب يدل بطريق الظهور
على تخصيص العام لأن الذي ذكر احتمال والإحتمال لا ينافي
الظهور كما أنه لو صرح بإرادة الخصوص في العمومات من غير
سبب جاز ذلك مع كون هذا الاحتمال لا ينافي ظهور صيغة
العموم في الاستغراق وذكر الإمام دليلا آخر وهو اجماع
الأمة على ان آية اللعان والظهار وغيرهما إنما نزلت في
أقوام معينين مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 231.
2 سورة البقرة آية 231.
ج / 2 ص -188-
تعميم
الأمة حكمها وما قال أحد ان ذلك التعميم خلاف الأصل واحتج
الخصم بأن الجواب لو عم لم يكن مطابقا للسؤال والمطابقة
بين السؤال والجواب شرط ولهذا لم يجز ان يكون الجواب خاصا
وبأن السبب لو لم يكن مخصصا لما نقله الراوي لعدم فائدته.
واجيب عن الأول بأنك ان أردت بمطابقة الجواب ان تستوعب
السؤال ولا تغادر منه شيئا فمسلم وإلا علم يحصل فيه
المطابقة بهذا المعنى بخلاف الأخص وإن أردت بالمطابقة
اختصاص الجواب بالسؤال فلا نسلم اشتراطها بهذا المعنى.
وعن الثاني: بأن فائدته معرفة السبب وقد صنف بعض المتأخرين
في معرفة أسباب الحديث كما صنفت العلماء في معرفة أسباب
النزول ومن فوائد ذلك امتناع إخراج صورة السبب عن العموم
بالإجتهاد فمنه لا يجوز إخراج تلك الصورة التي ورد عليه
السبب بالاجماع نص عليه القاضي في مختصر التقريب والآمدي
في الأحكام وطائفة.
وحكى عن أبي حنيفة انه يجوز إخراجها وقد عرفت ذلك من قبل
وقد قال العلماء ان دخول السبب قطعي لأن العام يدل عليه
بطريقتين كما مر ومن ذلك استثناء كونه لا يخرج بالإجتهاد.
وقال والدي رحمه الله وهذا عندي ينبغي ان يكون إذا دلت
قرائن حالية ومقالية على ذلك او على ان اللفظ العام يشمله
بطريق الوضع لا محالة وإلا فقد تنازع الخصم في دخوله وضعا
تحت اللفظ العام ويدعي انه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج
السبب وبيانه انه ليس داخلا في الحكم فإن للحنفية أن
يقولوا في حديث عبد بن زمعة أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"الولد
للفراش" وإن كان واردا في أمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد وبيان حكمه إما
بالثبوت أو بالانتفاء فإذا ثبت ان الفراش هي الزوجة لأنها
الذي يتخذ لها الفراش غالبا.
وقال الولد للفراش كان فيه حصرا كالولد للحرة وبمقتضى ذلك
لا يكون للأمة فكان فيه بيان للحكمين جميعا نفي السبب عن
مسبب وإثباته لغيره ولا يليق دعوى القطع هنا وذلك من جهة
اللفظ وهذا في الحقيقة نزاع في ان اسم
ج / 2 ص -189-
الفراش
هل هو موضوع للحرة والأمة الموطؤة أو للحرة فقط والحنفية
يدعون الثاني فلا عموم عندهم في الآية فتخرج المسالة من
باب ان العبرة بعموم اللفظ وبخصوص السبب تعم قوله صلى الله
عليه وسلم في حديث عبد بن زمعة هو لك يا عبد وللعاهر الحجر
فهذا التركيب يقتضي انه ألحقه به على حكم السبب فيلزم ان
يكون مرادا من قوله للفراش فلينتبه لهذا البحث فإنه نفيس
جدا ولا يقال ان الكلام إنما هو حيث تحقق دخوله في اللفظ
العام وضعا لأنا نقول قد يتوهم ان كون اللفظ جوابا للسؤال
يقتضي دخوله فأردنا أن ننبه على أن الأمر ليس كذلك والجواب
إنما يقتضي بيان الحكم وانما أردنا ان دعوى من ادعى انه
دلالة العموم على سببه قطعية يمكن المنازعة فيها النزاع في
دخوله تحت اللفظ العام وضعا لا مطلقا والمقطوع به انه لا
بد فيه من بيان حكم السبب إما كونه يقطع بدخوله فى ذلك أو
بخروجه عنه فلا يدل على تعيين واحد من الأمرين وتختم
المسألة بعد ذكر هذا البحث النفيس بمثلين.
فأحدهما: أن جميع ما تقدم في السبب وبقية
الأفراد التي دل اللفظ العام بلا وضع عليها وبين ذينك
الشيئين رتبة متوسطة فنقول قد تنزل الآيات على الأسباب
الخاصة وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الأي رعاية
لنظم القرآن وحسن اتساقه فلذلك الذي وضعت معه الآية
النازلة على سبب خاص للمناسبة إذا كان مسوقا لما نزل في
معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام او كان من جملة الأفراد
الداخلة وضعا تحت اللفظ العام فدلالة اللفظ عليه يحتمل ان
يقال انه كالسبب فلا يخرج ويكون من الآية قطعا ويحتمل ان
يقال انه لا ينتهي في القوة الى ذلك لأنه قد يراد غيره
وتكون المناسبة لشبهيته به والحق ان ذلك رتبة متوسطة دون
السبب وفوق العموم المجرد ومثال ذلك قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا}1 فإن
مناسبتها للآية التي قبلها وهي قوله:
{أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ
يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا سَبِيلاً}
2 إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 58.
2 سورة النساء آية 51.
ج / 2 ص -190-
ذلك
إشارة الى كعب بن الأشرف كان قدم الى مكة وشاهد قتلى بدر
وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه
وسلم فسألوه من أهدى سبيلا النبي صلى الله عليه وسلم أم هم
فقال انتم كذبا منه وضلالة لعنه الله فتلك الآية في حقه
وحق من يشاركه في تلك المقالة وهم أهل كتاب يجدون عندهم في
كتابهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وقد أخذت عليهم
المواثيق ان لا يكتموا ذلك وإن ينصروه كان ذلك أمانة لازمة
لهم فلم يؤدوها وخانوا فيها وذلك مناسب لقوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا}.
ولا يرد على هذا ان قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر ونزول
ان الله يأمركم في الفتح او قريبا منه وبينهما نحو ست سنين
لأن اتحاد الزمن إنما يشترط في سبب النزول ولا يشترط في
المناسبة لأن المقصود منها وضع الآية موضع يناسبها.
والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه
وسلم بوضعها في المواضع التي يعلم من الله مواضعها وثانيها
سؤال عظيم أورده والدي احسن الله إليه في تفسيره في آية
الظهار وهو قوله:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}.
الآية وتقريره يتوقف على اعراب الآية فنقول الذين مبتدأ
وخبره فتحرير أو فكفارتهم تحرير وجاز حذف ذلك لدلالة
الكلام عليه وجاز دخول الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى
الشرط وتضمين الخبر معنى الجزاء.
فإذا أريد التنصيص على ان الخبر مستحق بالصلة دخلت الفاء
حتما للدلالة على ذلك فإذا لم تدخل احتمل ان يكون مستحقا
به او بغيره كما لو قيل الذين يظاهرون عليهم تحرير رقبة
وان كنا نقول ان ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ولكن
ليس بنص ودخول الفاء نص وهذا المواضع المتفق عليه جواز
دخول الفاء لعموم الموصول فلو أريد بالموصول خاص بحيث لا
يكون فيه عموم.
فالصحيح عدم جواز دخول الفاء وكذلك لو وصل بماض لم يجز
دخول الفاء على الصحيح إذا عرفت هذا فالآية على ذلك لا
تشمل الا من وجد من الظهار بعد نزولها لأن معنى الشرط
متقبل فلا يدخل فيه الماضي والنبي صلى
ج / 2 ص -191-
الله
عليه وسلم قد أوجب الكفارة على أوس بن الصامت وذلك لا يشك
فيه من جهة ما عرفت من كونه هو السبب الا ان هذا الإشكال
يعتوره من جهة عدم شمول اللفظ على ما تقرره من قاعدة دخول
الفاء ومن جهة أخرى وهي ان الحكم إنما يثبت من حين نزول
الآية وأوس ظاهر قبل نزولها فكيف يعطف حكمها على ما سبق لا
سيما إذا كان الحكم قبل نزولها انه طلاق كما ورد أنه صلى
الله عليه وسلم قال:"ما أراك
الا قد حرمت عليه" فكيف يرتفع
التحريم أو الطلاق بعد وقوعه.
وهذا الإشكال وارد في أية اللعان من الجهتين كما هو وارد
هنا ووارد في آية السرقة وآية حد الزنا ونحوهما من الجهة
الثانية لإثبات أحكامها لمن صدر منه السبب المتقدم على
نزولها وان لم نجعل الفاء فيها داخلة في خبر المبتدأ هذا
تقرير السؤال وهو قوي وأجاب عنه بما لا يقاومه فقال أما
إثبات أحكام هذه الآية لمن وجد منه السبب قبل نزولها فنقول
ان السرقة والزنا ونحوهما من الأفعال التي كانت معلومة
التحريم عندهم وجوب الحد فيها لا يتوقف على العلم والفاعل
لها قبل نزول الآية إذا كان هو السبب في نزولها في حكم
المقارن لها لأنها نزلت مبنية لحكمه فلذلك يثبت حكمها فيه
دون غيره ممن تقدمه واما دخول الفاء في الخبر فيستدعي
العموم في كل من يتظاهر من امرأته مثلا وذلك ويشمل الحاضر
والمستقبل وسبب النزول حاضرا وفي حكم الحاضر واما دلالة
الفاء على الاختصاص بالمستقبل فقد يمنع واما كون الظهار
كان طلاقا فلم يكن ذلك شرع واما قول النبي صلى الله عليه
وسلم ما أراك الا قد حرمت عليه فلم يثبت وقال بعض الناس
انه منسوخ بالآية فإن ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم
قاله فالأمر كذلك ويكون من نسخ السنة بالكتاب1.
قال: وكذلك مذهب الراوي كحديث أبي هريرة في الولوغ وعمله
لأنه ليس بدليل قيل خالف الدليل وإلا انقدحت روايته قلنا
ربما ظنه دليلا ولم يكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 راجع أسباب النزولللسيوطي ص 164ط التحرير تفسير ابن كثير
8/60وما بعدها طبعة الشعب.
ج / 2 ص -192-
البحث الثاني: فيما أن أعمل الراوي بخلاف العموم هل يكون ذلك تخصيصا للعموم وقد
اختلفوا فيه الاكثرون منهم الإمام والآمدي الا انه لا يخصص
وعزاه الإمام الى الشافعي قال لأنه قال ان حمل الراوي
الخبر على أحد محمليه صرت إلى قوله وإلا فلا أصير إليه.
هذا كلام الإمام وهو صريح في ان صورة اختياره في المسألة
التفصيل الذي ذكره ومنهم من يطلق القول في المسألة ويجعل
هذا قولا مفصلا.
وذهبت الحنفية والحنابلة الى ان يكون مخصصا وفصل بعضهم
فقال ان وجد ما يقتضي تخصيصه به لم يخصص بمذهب الراوي بل
به ان اقتضى نظر الناظر فيه ذلك والأخص بمذهب الراوي وهو
مذهب القاضي عبد الجبار وقال امام الحرمين إن علم من حاله
أنه فعل ما يخالف الحديث نسيانا فلا ينبغي ان يكون فيه
خلاف إذ لا يظن بعاقل انه يرجح فعله إذ ذاك ولو احتمل ان
يكون فعله احتياطا كما لو روى ما يقتضي رفع الحرج عن الفعل
فيما يظن به التحريم رأيناه متحرجا عنه غير ملابس له
فالتعويل على الحديث ويحمل فعله على الورع والتعليق
بالأفضل وإن لم يحتمل شيئا من ذلك لم يجز التعليق بالحديث
قلت وعندي ان محل الخلاف مخصوص بالقسم الثالث إذ لا يتجه
في القسمين الأولين.
وقد مثل المصنف تبعا للإمام هذه المسألة بما روى عن مسلم
عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال طهور
إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسل سبع مرات أولاهن
بالتراب رواه البخاري ولفظه إذا شرب مع ان أبا هريرة كما
روى قال يغسل ثلاثا فلا نأخذ بمذهبه لأن قول الصحابي ليس
بدليل إذ نحن مفرعون على ان قوله غير حجة وهذا المثال على
هذا الوجه غير مطابق لأن التخصيص فرع العموم وسبع مرات من
أسماء الأعداد التي هي نصوص في مسمياتها لا عامة نعم قد
يحسن ايراد ذلك مثالا إذا صدرت المسألة هكذا الراوي
الصحابي إذا خالف الحديث وفعل ما يضاده فهل يعول على
الحديث او على فعله نحو خبر أبي هريرة واما لما نحن فيه
فلا يحسن إيراده مثلا ومثل له صفي الدين الهندي وكذا ابن
برهان كما نقل القرافي عنه بمثال اقرب من هذا وهو ابن عباس
رضي الله عنه روى من بدل دينه فاقتلوه وهذا عام في
ج / 2 ص -193-
الرجال
والنساء وذهب هو الى ان المرتدة لا تقتل قلت وفي هذا
المثال ايضا نظر وهو ان من الشرطية على رأي لا تدخل فيها
النساء فلعل ابن عباس يختار ذلك الرأي.
على ان كل هذا عدول عن التحقيق والتمثيل بحديث أبي هريرة
وعمله صحيح وانما جاء الفساد فيه من جهة تقريره على الوجه
المتقدم وكان الإمام الناظر علاء الدين البابجي1 يقرره على
الوجه الصحيح وهو ان الكلب من حيث انه مفرد معروف للعموم
يشمل كلب الزرع وغيره وأبو هريرة يرى ان كلب الزرع لا يغسل
منه الا ثلاثا وغيره يغسل فقد أخرج بعض أفراد الكلب.
هذا هو معنى التخصيص في الحديث وهذه فائدة حسنة لكن ما
ادري من أين كان له ان أبا هريرة كان يغسل من كلب الزرع
ثلاثا فإن المعروف اختلاف الرواية عن أبي هريرة في انه هل
كان يرى ان الغسل من ولوغ الكلب سبع او ثلاث فروى
الدارقطني بسنده الى عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال
إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات ثم قال
الدارقطني يرويه غير عبد الملك عن عطاء عنه سبع مرات قلت
فإن صح ان أبا هريرة كان يفصل بين كلب الزرع وغيره يكون في
ذلك جمعا بين اختلاف الروايات فمن روى عنه السبع يكون
كلامه في غير كلب الزرع ومن روى الثلاث يكون مراده كلب
الزرع.
واحتج من جعل مذهب الراوي مخصصا بأنه إنما خالف لدليل لأنه
لو خالف لا لدليل لفسق فلا تقبل روايته وإذا كانت مخالفته
مشاره الى دليل تحتم اتباعه والجواب انه ربما خالف لشيء ظن
في نفسه بما اداه اليه نظره كونه دليلا ولم يكن كذلك في
نفس الامر فلا يلزم القدح في روايته لأنه لم يقدح الا على
حسب تأدية اجتهاده ولا الاتباع لعدم صحة المظنون بل ولو
احتمل ان ما ظنه حق في نفسه فليس لنا الانقياد له بمجرد
التقليد ما لم يتضح لنا وجه الحق في ذلك والفرض ان الذي
يتضح لنا خلاف ما عمله لقيام الدليل الذي رواه معارضا بحق
لما رآه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ج / 2 ص -194-
خاتمة
اضطرب النظر في انه هل صورة هذه المسألة مخصوصة بما إذا
كان الراوي صحابيا أم الأمر اعم من ذلك الذي صح عندي ويجوز
ان الأمر اعم من ذلك ولكن الخلاف في من ليس بصحابي اضعف
فليكن القول في المسألة هكذا ان كان الراوي صحابيا وقلنا
قول الصحابي حجة خص على المختار.
قال القاضي في مختصر التقريب وقد ينسب ذلك إلى الشافعي في
قوله الذي يقلد الصحابي فيه ونقل عنه انه لا يخصص به الا
إذا انتشر في أهل العصر ولم ينكره وجعل ذلك نازلا منزلة
الإجماع وان قلنا قوله غير حجة ففيه الخلاف المتقدم وان
كان غير صحابي ترتب الخلاف على الصحابي فإن قلنا لا يخص
بقول الصحابي الراوي لم يخصص بقول الراوي الذي ليس بصحابي
جزما وان قلنا يخصص ففي هذا خلاف.
وأما قول القرافي صورة المسألة ان يكون صحابيا واما غير
الصحابي فلا يخصص قطعا فليس بجيد والمعتمد ما قلناه ويشهد
له الدليل الذي ذكر من أنه إنما يخالف الدليل وإلا انقدحت
روايته فان هذا يشمل الصحابي وغيره وبما ذكرناه صرح امام
الحرمين في البرهان فقال وما ذكرناه يعني من هذه المسألة
غير المختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة حديثا وعمل بخلافه
فالأمر على ما فصلناه انتهى.
قال السابعة: أفراد فرد لا يخصص مثل قوله عليه السلام:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر"
مع قوله في شاة ميمونة:
"دباغها
طهورها" لأنه غير مناف قيل المفهوم قلنا مفهوم اللقب مردود.
إذا افرد الشارع فردا من افراد العام بالذكر وحكم عليه بما
حكم على العام لا يكون مخصصا للعموم خلافا لأبي ثور مثاله
ما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أيما إهاب دبغ
فقد طهر"1 وقال عليه السلام وقد مر بشاة ميتة لمولاة ميمونة كما رواه مسلم:
"ألا أخذوا إهابها فدبغوه
فانتفعوا به".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه الترمذي باب: جلود الميتة إذا دبغت وابن
ماجة في كتاب اللباس باب لبس جلود الميتة إذا دبغت كما
رواه الإمام الشافعي ومسلم في صحيحه بلفظ
"إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
ج / 2 ص -195-
والدليل على ان العام لا يختص ببعضه إذا افرد بالذكر ان
المخصص لا بد وان يكون بينه وبين العام منافاة ولا منافاة
بين كل الشيء وبعضه واحتج أبو ثور بأن تخصيص الشيء بالذكر
يفهم منه نفي الحكم عما عداه وإلا فلا تظهر فائدة التخصيص
ذلك الفرد بالذكر.
وأجاب المصنف بأن المفهوم هنا مفهوم اسم وهو غير حجة كما
سبق وعندي في ترتيب المسألة على هذا الوجه نظر وما أظن أبا
ثور يستند في ذلك الى مفهوم اللقب فإن الظاهر انه لا يقوم
به فإنا لم نر أحدا حكاه عنه مع انه اجل واقدم من الدقاق
وأولى ان تودع الاؤه بطون الأوراق ولعله يقول بهذا المفهوم
إذ أورد خاصا بعد عام تقدمه ونقول ان ذلك قرينة في المراد
بذلك العام هذا الخاص ويجعل العام كالمطلق والخاص كالمقيد
ولا يكون ذلك قولا منه بمفهوم اللقب الذي قال به الدقاق
وحينئذ ترتيب المسألة على انه استند فيها الى مفهوم اللقب
غير سديد والرد عليه كذلك.
قال: الثامنة عطف الخاص لا يخصص مثل لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده وقال بعض الحنفية
بالتخصيص تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه قلنا التسوية في
جميع الأحكام غير واجبة.
عطف الخاص على العام لا يوجب تخصيص العام خلافا لأبي حنيفة
وأصحابه وتوقف فيه بعض المتكلمين مثاله ان أصحابنا لما
احتجوا على ان المسلم لا يقتل بالذمي بما روى أبو داود من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده"1.
الحنفية او بعضهم انه عليه السلام عطف عليه قوله ولا ذو
عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم ان
الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فيجب ان يكون
الكافر الذي لا يقتل به المسلم ايضا هو الحربي تسوية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما رواه البخاري في كتاب الديات باب: لايقتل مسلم بكافر
وابن ماجة والترمذي تحفة الأحوذي 4/668- 670.
ج / 2 ص -196-
بين
المعطوف والمعطوف عليه أجاب المصنف بأن التسوية بين
المعطوف والمعطوف غير واجبة في جميع الأحكام وهو جواب ضعيف
لأن الحنفية لا يقولون باشتراك المعطوف والمعطوف عليه في
جميع الأحكام بل باشتراكهما في المتعلقات كالحال والشرط
والمصنف يوافق على ذلك.
كما نص عليه في الاستثناء المتعقب للجمل بل الجواب الصحيح
ان قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام لأنه لو قال ولا يقتل
ذو عهد لكان من الجائز ان يتوهم منه متوهم ان من وجد منه
العهد ثم خرج عن عهده لا يجوز قتله فلما قال في عهده علمنا
ان هذا النهي مختص بكونه في حال العهد وإذا ثبت كونه كلاما
تاما فلا يجوز إضمار تلك الزيادة اعني لفظة بكافر لأن
الإضمار على خلاف الأصل.
فإن قلت: ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين حينئذ أعنى
قوله لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده إذ لا
يظهر لأحداهما تعلق بالأخرى.
قلت: ظني ان أبا اسحق المروزي أحد أئمة أصحابنا أجاب عنه
في التعليقة بأن عداوة الصحابة رضي الله عنهم للكفار في
ذلك الوقت كانت شديدة جدا فنبه صلى الله عليه وسلم على ان
صاحب العهد إذا كان في عهده لا يقتل لئلا يتجرد اللفظ
الدال على ان المسلم لا يقتل بالكافر اعني قوله لا يقتل
مسلم بكافر فتحمل العداوة الشديدة على الإقدام على قتل كل
كافر من معاهد وغيره وهذا الجواب جدير بأن يغتبط ولا يقال
حرمة وان انتفى القصاص باقية وهي تحمل الصحابة الذين هم
أهل الورع الشديد على الإحجام لأنا نقول كان ذلك في صدر
الاسلام فلا يلزم من كون المسلم لا يقتل بالكافر ان يكون
قتل المعاهد حراما بل حكم ولا بنفي القصاص بين المسلم
والكافر مطلقا والدليل على جواز قتل الكافر في الجملة قائم
فبين تخصيص ذلك الدليل عن نهيه قتل المعاهد في عهده.
قال: التاسعة عود ضمير خاص لا يخصص مثل والمطلقات مع وبعولتهن لأنه لا يزيد على إعادته.
ج / 2 ص -197-
عود
الضمير الى بعض العام المتقدم هل يوجب تخصيص العام وإن شئت
قلت إذا عقب اللفظ العام باستثناء او تقييد بصيغة او حكم
خاص لا يتأتى في كل مدلوله بل في بعضه فهل يوجه ذلك تخصيصه
اختلفوا فيه فذهب الأكثر من أصحابنا إلى أن ذلك لا يوجب
تخصيصه وبه جزء في الكتاب واختاره الغزالي والآمدي وابن
الحاجب وصفي الدين الهندي.
وذهب أكثر الحنفية الى انه يخصصه ولذلك قالوا في قوله عليه
السلام: "لا تبيعوا البر بالبر الا كيلا بكيل"1 ان المراد منه ما يكال من البر فيجوز بيع الحفنة بالحفنتين لأن
ذلك القدر مما لا يكال.
وذهب جماعة منهم إمام الحرمين وأبو الحسين والإمام إلى
التوقف ومثل في الكتاب لذلك بقوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}2 ثم أنه تعالى قال:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}
وهذا اختص بالمطلقة بالطلاق الرجعي دون البائن فيقول
الأولون ان ذلك لا يقتضي إن المراد من المطلقات الرجعيات
وتقول الحنفية يقتضيه ومثال الإستثناء قوله تعالى:
{لَاجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ}3
الى قوله:
{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فإستثناء العفو عنه الكناية راجعة الى النساء ومعلوم أن العفو لا
يصح الا من البالغات العاقلات دون الصبية والمجنونة فهل
يوجب ذلك ان يقال ان المراد من النساء أو أول الكلام
البالغات العاقلات فقط ومثال التقييد بالصفة قوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ثم قال:
{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْراً} يعنى الرغبة في مراجعتهن ولا ريب في ان ذلك لا يتأتى في الطلاق
البائن فهل يقتضي بعد ذلك تخصيص المذكور في أول الكلام
بالرجعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روي هذا الحديث بروايات متعددة منها مارواه مسلم عن أبي
الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس
فقال: سمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع
الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر والشعير والملح بالملح
إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى
المغني لابن قدامة 4/11ط مكتبة الجمهورة والرياضة الحديثة.
2 سورة البقرة آية 228.
3 سورة البقرة آية 236.
ج / 2 ص -198-
ومثال ذلك التقييد بحكم آخر ما أورده المصنف وقد شرحناه واحتج
المصنف بأن عود الضمير لا يزيد على إعادة ذلك البعض أو صرح
بالإعادة فقيل وبعولة المطلقات أحق بردهن في المثال الأول
وإلا أن يعفو العاقلات والبالغات في المثال الثاني او يحدث
أمرا في الرجعيات في المثال الثالث لم يكن ذلك مخصصا
اتفاقا فكذلك هنا.
واحتج المتوقف بأن ظاهر العموم يقتضي الاستغراق وظاهر
الكناية تقتضي مطابقتها للمكني في العموم والخصوص وليست
مراعاة ظاهر العموم بأولى من مراعاة ظاهر الكناية فوجب
التوقف.
واجيب عنه بأنا لا نسلم انه ليست مراعاة احدهما بأولى من
مراعاة الآخر بل مراعاة إجراء العام على عمومه أولى من
مراعاة مطابقة الكناية للمكنى لأن المكنى اصل والكناية
تابعة لأنها تفتقر في دلالتها على مسماها إليه من غير عكس
ومراعاة دلالة المتبوع أولى من مراعاة دلالة التابع ومنه
اكثر فائدة وأظهر دلالة فكان بالرعاية اجدر.
فائدة سألت والدي رحمه الله في قوله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}1
وقول الشافعي رضي الله عنه ان ذلك في الأحرار بدليل ان
العبد لا يملك فقلت هذا من عطف الضمير الخاص على العام فلا
يقتضي التخصيص على الصحيح فقال ليس هذا من ذلك القبيل لأن
ذلك في لفظ عام يتقدم ويأتي بعده ضمير لا يستقل بنفسه بل
يعود على ذلك اللفظ المتقدم العام.
وهنا خطاب والمخاطب لم يتحقق فيه عموم ولا خصوص والمرجع
فيه الى قصد المتكلم وما يدل عليه فقوله فأنكحوا خطاب
لمخاطبين لم يتحقق دخول العبيد فى موضوعه بل بحسب ما يريد
المتكلم من مخاطبه.
فإذا دل في آخر الكلام او في أوله على المراد حمل عليه
وهنا قد دل دليل في آخره وهو قوله او ما ملكت أيمانكم وفي
أوله وهو:
{وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 3.
ج / 2 ص -199-
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
فإنه إنما يخاطب به من يلي أمر اليتيم والعبد لا يلي أمر
اليتيم فقلت الخطاب الأول لجميع الناس الأحرار والعبيد
بدليل قوله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}1فقال لنا في الجواب طريقان.
أحدهما: ما قررناه غير مرة من أن أيا نكرة وهي المنادى وصف
بالناس فالألف واللام في الناس للعهد والمعهود هي النكرة
المقصودة وهو الذي ناداه المتكلم والعهد مقدم على العموم.
والثاني: أن يسلم أنها للعموم ويقوم دليل على ان الخطاب
بعدها لبعضهم مثاله ان يقول لعشرة افعلوا كذا ثم يقول
لبعضهم افعلوا كذا فليس تخصيصا للأول وإنما هو خطاب لغير
من خوطب أولا وهو بعض منه وهو يشبه الإلتفات فليس من باب
عود الضمير المقتضي للتخصيص على خلاف فيه بل هذا لا يقتضي
التخصيص قولا واحدا لأن كل الكلامين مستقل بنفسه وان كان
بينهما التئام والله اعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مفتتح سورة النساء والحج.
قال تذنيب. المطلق والمقيد ان اتحد سببهما حمل المطلق عليه عملا بالدليلين وإلا فإن اقتضى
القياس تقييده قيد وإلا فلا.
المطلق والمقيد كالعام والخاص وكل ما يجوز فيه تخصيص العام
من الأدلة أما على الوفاق الخلاف فإنه يجوز به تقييد
المطلق من غير تفاوت.
ولذلك جعل المصنف الكلام فيه ذنابة وتتمة للعام والخاص
والأخذ في شرح ما أورده يستدعي تقديم مقدمة فنقول المطلق
منقسم الى حقيقي وإضافي أما الحقيقي فهو طلق من كل وجه وقد
يقال المطلق على الإطلاق وهو المجرد عن جميع القيود الدالة
على ماهية الشيء من غير ان يدل على شيء من أحوالها
وعوارضها على ما ذكرنا في باب العام والخاص.
أما الإضافي مثل قولك اعتق رقبه واضرب رجلا فليس هو مطلقا
من كل وجه بل هو دال على واحد شائع في الجنس وهما قيدان
زائدان على الماهية.
ج / 2 ص -200-
وهذا
مطلق بالنسبة الى قولنا رقبة مؤمنة ومقيد بالنسبة الى
اللفظ الدال على ماهية الرقبة من غير ان يكون فيها دلالة
على كونها واحدة أو كثيرة شائعا في الجنس او معينا وإذا
عرفت انقسام المطلق الى قسمين فاعلم ان المقيد ينقسم ايضا
الى قسمين مقابليهما فالمقيد من كل وجه او على الإطلاق هو
اللفظ الذي لا اشتراك فيه أصلا كأماء الاعلام.
وأما المقيد من وجه دون وجه فنحو رقبة مؤمنة ورجل عالم
وإذا عرفت ذلك فلنعد الى الشرح والمقصود الكلام في حمل
المطلق على المقيد اعلم ان متعلق حكم المطلق أما أن يكون
غير متعلق حكم المقيد او لا يكون.
فإن كان الثاني فلا يحمل المطلق على المقيد وفاقا لأنه لا
مناسبة بينهما ولا تعلق لأحدهما بالآخر أصلا ومثلوا هذا
بتقييد الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة فى الكفارة
مطلقا مجرى العدالة.
وإن كان الأول فأما أن يتحد السبب او يختلف وعلى التقديرين
إما ان يكون كل واحد من المطلق والمقيد أمرا أو نهيا أو
أحدهما أمرا والآخر نهيا فهذه أقسام ستة.
أحدهما: ان يكون السبب واحدا وكل واحد
منهما أمرا نحو ان نقول اعتقوا رقبة مؤمنة إذا أحسنتم ثم
نقول مرة أخرى اعتقوا رقبة إذا أحسنتم فها هنا لا خلاف ان
المطلق محمول على المقيد وكذا لو قال أولا اعتقوا رقبة ثم
قال اعتقوا رقبة مؤمنة وكذا لو لم يعلم التاريخ بينهما لأن
من عمل بالمقيد فقد عمل بالمطلق ضرورة ان المطلق جزء من
المقيد والآتي بالكل آت بالجزء فيكون العمل بالمقيد عملا
بالدليلين.
وأما العمل بالمطلق فليس عملا بالمقيد لأن الآتي بالجزء لا
يكون آتيا بالكل بل تاركا له فيكون العمل بالمطلق يستلزم
الترك لأحد الدليلين بالكلية فإذا كان الجمع بين الدليلين
واجبا مع إستلزامه الترك لشيء من مدلولات.
أحدها: فليجب حيث لا يستلزم ذلك بطريق أولى ولا يخرج ذلك
على الخلاف في تقابل المتأخر والخاص المتقدم بهذا الذي
ذكرناه.
فإن قلت فمقتضى الإطلاق التمكن من أي فرد شاء المكلف
والتقييد يزيل
ج / 2 ص -201-
التمكن
من ذلك فلم كان هذا أولى من حمل الأمر بالمقيد على الندب
قلت هذا الحكم الذي هو التمكن حالة الإطلاق غير مدلول عليه
باللفظ وهو اعتق رقبة مثلا إنما دل على اتحاد عتق رقبه
وكون الكافرة في حالة الاطلاق مجزئة.
إنما جاء من تركيب العقل مع النقل لأنك تقول هذه الكافرة
تجزىء لأنها رقبة والرقبة تجزي لقوله اعتق رقبة فكون
الكافرة تجزي غير مدلول عليه باللفظ فكان أولى بالرعاية
المطلق عاما والمقيد غير المدلول عليه لفظا والمقيد وهو
اعتق رقبة مؤمنة مدلول عليه باللفظ فكان أولى بالرعاية.
الثاني: ان يكون كل واحد من المطلق
والمقيد نهيا نحو ان تقول لا تعتق رقبة ثم تقول مرة أخرى
لا تعتق رقبة كافرة فمن يقول بمفهوم الخطاب يلزمه ان يخصص
النهي العام بالكافرة لأن النهي الثاني عنده يدل على أجزاء
من ليست كافرة.
ولقائل ان يقول وجود المطلق والمقيد في جانب النهي والنفي
يصير المطلق عاما والمقيد خاصا لأن ذلك نكرة في سياق النفي
فلا يتصوران في هذين الجانبين.
الثالث: أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا
وهو قسمان لأنه إما ان يكون المطلق أمرا والمقيد نهيا نحو
ان تقول اعتق رقبة كافرة ثم تقول لا تعتق رقبة او بالعكس
نحو لا تعتق رقبة ثم تقول اعتق رقبة مؤمنة ففي هاتين
الصورتين يوجب المقيد تقييد المطلق بضده بلا خلاف.
الرابع: ان يكون كل واحد منهما أمرا ولكن
السبب مختلف نحو قوله تعالى في كفارة الظهار:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقوله في كفارة القتل:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
فها هنا اختلفوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: ان يحمل عليه من غير حاجة الى دليل
آخر فان تقييد أحدها يوجب تقييد الآخر لفظا وبه قال بعض
أصحابنا قال امام الحرمين واقرب طريق لهؤلاء ان كلام الله
تعالى في حكم الخطاب وحق الخطاب الواحد ان يترتب المطلق
فيه على المقيد قال وهذا من فنون الهذيان فان قضايا
الألفاظ في
ج / 2 ص -202-
كتاب
الله تعالى مختلفة متباينة لبعضها حكم التعليق والإختصاص
ولبعضها حكم الإستفلال والإنقطاع.
فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم
بأن في كتاب الله النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام
المتغايرة فقد أدعى أمرا عظيما ولا يعني في مثل ذلك
الإشارة الا اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب المتكلمين في
الألفاظ وقضايا الصيغ وهي مختلفة لامراء في اختلافها فسقط
هذا الكلام.
والمذهب الثاني: وعليه الحنفية انه لا
يجوز الحمل عليه بحال لأن ذلك الدليل ان كان دون المطلق في
القوة لم يصلح لنسخه وان كان مثله فمن علم شرط النسخ كان
نسخا له وإلا كان تعارضا فهو غير محمول على المقيد بحال.
والثالث: وهو قول الشافعي وجمهور الأصحاب
أنه إن وجد قياس وكان دليل يقتضي تقييده قيد وإلا فلا وهذا
ما جزم به في الكتاب.
الرابع: ان يكون كل واحد منهما نهيا
والسبب مختلف نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار مثلا ثم
نقول لا تعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل فالقائل بالمفهوم
وتقييد المطلق بالمقيد ان وجد دليل تخصيص النهي العام
بالكافرة ان وجد دليل.
الخامس: ان يكون احدهما أمرا والآخر نهيا
والسبب مختلف وهو قسمان لأنه إما ان يكون المطلق أمرا نحو
اعتق رقبة في كفارة الظهار والمفيد نهيا نحو لا تعتق رقبة
كافرة في كفارة القتل او بالعكس نحو لا تعتق رقبة في كفارة
الظهار ثم يقول اعتق رقبة مسلمة في كفارة القتل وحكمهما
واحد ولا يخفي عليك مما سبق وقد ذكر المصنف ما إذا اتحد
السبب وما إذا اختلف.
ولا يعسر عليك فهم كلامه بعد الصفو الى ما ألقيته لك من
الشرع ومما أهمله المصنف ما إذا أطلق الحكم في موضع ثم قيد
في موضعين بقيدين متضادين فمن زعم إن التقييد باللفظ قال
ببقاء المطلق على إطلاقه إذ ليس تقييده بأحدهما أولى من
تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد بالقياس حمله على
ما كان حمله
ج / 2 ص -203-
عليه
أولا وقد مثل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الغسلات من
ولوغ الكلب إحداهن بالتراب وفي رواية أولاهن وفي رواية
فعفروه الثامنة فلا يحمل على إحدى الروايتين دون الأخرى
للترجيح من غير مرجح ان القياس هنا متعذر بل يرجح الى أصل
الإطلاق ونقول يجوز التغفير في كل واحدة من المرات عملا
برواية إحداهن المطلقة هكذا ذكروه وبه أجاب الشيخ أبو
العباس القرافي عن الاعتراض وأورده بعض قضاة الحنفية على
الشافعية بان قاعدتهم حمل المطلق على المقيد فكان ينبغي او
يوجبوا أولاهن لورود إحداهن وأولاهن فأجابه القرافي بأنه
قد عارض رواية أولاهن رواية أخراهن يريد بذلك فعفروه
الثامنة فيرجع الى اصل الإطلاق.
قال بعض المتأخرين وعلى هذا ينبغي الوجوب في الأولى
والثامنة يخير فيها واعلم ان هذا هو الذي نص عليه الشافعي
في الأم فقال ما نصه وإذا غسلهن سبع مرات جعل أولاهن ترابا
لا يطهر الا بذلك انتهى.
وفي مختصر البويطي فقال في أثناء باب غسل الجمعة وهو بعد
باب التيمم كيف هو وقبل كتاب الصلاة ما نصه وإذا ولغ الكلب
في الإناء غسل سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب لا يطهر غير
ذلك.
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخنزير قياسا
عليه يغسل سبعا انتهى وهو في غاية الغرابة وعليه جرى
المرعشي من أصحابنا في كتابه ترتيب الأقسام وعبارته ما
أصاب الكلب أو بعضو من أعضاءه من الماء القليل نجسه ولم
يطهر الإناء إلا ان يغسل سبع مرات أولاهن أو أخراهن
بالتراب لكن في هذا البحث نظر ذكره والدي وهو انه إنما
ينبغي حينئذ ان يوجب كليهما الاولى والأخيرة لورود الحديث
فيهما ولا تنافي في الجمع بينهما اللهم إلا ان يراد
بالثامنة ثامنة العدد لا الأخيرة فإنه حينئذ يكون مطلقا
كإحداهن ويكون رواية إحداهن والثامنة واحدة ومعنى رواية
أولاهن فيعود اصل السؤال ويناظر هذا السؤال سؤالان آخران.
أحدهما: أن أبا حنيفة قال لا يجري التخالف بين المتبايعين
الا إذا كانت السلعة قائمة أما إذا كانت تالفة فالقول قول
المشتري والشافعي رضي
ج / 2 ص -204-
الله
عنه قال إذا اختلف المتبايعان تحالفا سواء كانت السلعة
قائمة او تالفة مع أنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا اختلف
المتبايعان تحالفا"1 وروي أنه
صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا اختلف
المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا"
فلم لا حمل مطلق على المقيد مع إعادة القاعدة.
والثاني إن في كتاب فريضة الصدقة في فريضة الإبل فان زادت
على عشرين ومائة وهو المطلق في الزيادة وجاء مقيدا في حديث
ابن عمر فإن زادت واحدة فلا ينبغي ان يجب في مائة وعشرين
وبعض واحدة الى ما يجب في مائة وعشرين فقط والجواب عن
الأول من وجوه.
أحدها: أنه روى من حديث أبي وائل عن عبد
الله ان النبي صلى عليه وسلم قال:
"إذا اختلف المتبايعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع" رواه الدارقطني والخصوم رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع فإن استهلك فالقول قول
المشتري".
وهذا يوافق الحديث المفيد بكون السلعة قائمة وهما قيدان
متضادان فرجعنا الى اصل الإطلاق ثم ان هذا الحديث يقتضي
عدم جريان التحالف مطلقا وهم لا يقولون به ثم انه يرويه
الحسن بن عمارة وهو متروك رديء الحفظ.
والثاني: أن الحديث المشتمل على التقييد
بكون السلعة قائمة يرويه القاسم ابن عبد الرحمن عن ابن
مسعود ولم يلقه فيكون مرسلا ونحن لا نقول بالمراسيل والحق
ان الحديث الذي رواه من التقييد بقيام السلعة ضعيف والذي
رويناه من التقييد بهلاكها ضعيف ايضا ولا حاجة الى التطويل
في بيان ذلك2.
وضعف التقييدين يكفي في الرجوع الى اصل الإطلاق وقول
الغزالي في المآخذ فيما يرويه أصحابنا من التقييد بالهلاك
أجمع أهل الحديث على صحته باطل نبهنا عليه لئلا يقع
الاغترار به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روي هذا الحديث بعدة طرق كلها صحيحة. منها مارواه ابن
مسعود أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:
"إذا
اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا".
المغني لابن قدامة 4/212.
2 راجع أقوال العلماء في هذه المسألة في كتاب المغني لابن
قدامة المقدس 4/210 بعدها طبعة مكتبة الجمهورية والرياض
الحديثة.
ج / 2 ص -205-
والثالث أن التنصيص على قيام السلعة إنما كان تنبيها على
حالة تلفها لأنه إذا كان التحالف ثابتا عند حالة قيام
السلعة مع انه يمكن الاستظهار بالرجوع الى القيمة وتعرف
صفاتها فلأن يتحالفا مع تلفها ولا يمكن الرجوع الى صفاتها
أولى وعن الثاني انه إنما يرد على الاصطخري من أصحابنا
القائل بأنه يجب ثلاث بنات لبون فيما إذا زادت بعض واحدة
والصحيح انه إنما تجب حقتان وفاء بحمل المطلق على المقيد
فاندفع السؤال. |