الإبهاج في شرح المنهاج

ج / 2 ص -206-       الباب الرابع في المجمل و المبين
وفيه فصول الأول في المجمل وفيه مسائل المجمل مأخوذ من الجمل بفتح الجيم واسكان الميم وهو الخلط ومنه قوله عليه السلام: "لعن الله اليهود حرم الله عليهم شحوم الميتة فجملوها أي خلطوها وباعوها فأكلوا ثمنها"1 فسمي اللفظ مجملا لاختلاط المراد بغيره والمبين بفتح الياء أخر الحروف في البيان يقال لفظ مبين وإذا كان نصا في معناه بمعنى ان واضعه ومستعمله وصلابه الى نهاية البيان فهو مبين وإذا كان اللفظ مجملا ثم بين يقال له مبين وبينت الشيء بيانا أي أوضحته ايضاحا وأما تعريفه اصطلاحا فقد سبق في تقسيم الألفاظ.
قال الأول: اللفظ أما ان يكون مجملا بين حقائقه كقوله تعالى:
{ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} او افراد حقيقة مثل ان تذبحوا بقرة او مجازاته إذا انتفت الحقيقة وتكافأت فإن ترجح واحد لأنه اقرب الى الحقيقة كنفي الصحة من قوله لا صلاة لا صيام او لأنه اظهر عرفا وأعظم مقصودا كرفع الحرج وتحريم الأكل من رفع عن امتي الخطأ والنسيان: و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} حمل عليه.
اللفظ المجمل إما ان يكون مجملا بالنسبة الى خصائصه ان كان ذا حقائق أولا والأول هو المشترك كقوله تعالى ثلاثة قروء فإنه مجمل بالنسبة الى حقيقته اعني الطهر والحيض عند من يقول ان القرء موضوع لهما وضعا أوليا وهو الصحيح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه مسلم كتاب البيوع باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والبخاري , كتاب البيوع باب بيع الميتة والأصنام, كما رواه أبو داود والقرنوي وانظر تفسير ابن كثير 3/350,ط الشعب.

 

ج / 2 ص -207-       والثاني: إما ان يكون بالنسبة الى افراد حقيقة واحدة أولا والأول مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}1 فإن لفظ البقرة موضوع لحقيقة واحدة معلومة ولها افراد والمراد واحد منها معين على كلام فيه سيأتي ان شاء الله في الفصل الثاني هذا.
والثاني ان يكون الإجمال في الخارج عما وضع له اللفظ وإنما يكون ذلك بأن تنتفي الحقيقة أي يظهر إرادة عدمها وتتكافأ مجازاتها أي تتساوى وأما إذا ترجح أحد المجازاة فيتعين العمل به ولا يكون اللفظ مجملا وللترجيح أسباب ذكرها في الكتاب.
أحدها: ان يكون اقرب الى الحقيقة من المجاز الآخر كقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة الا بطهور".
وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وقوله لا صيام لمن لم يبيت الصيام قبل الفجر وهذا الحديث لفظه هكذا غير معروف ولكن رواه عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن حفصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له"2.
وهذا إسناد صحيح قال الحاكم أبو عبد الله على شرط البخاري فحقيقة هذين الخبرين نفي الصلاة عند عدم الطهارة وذات الصوم عند عدم النية المبيتة.
وهذه الحقيقة غير مرادة لأنا نشاهد الذات قد يقع بدون هذين الشرطين فتعين الحمل على المجاز وهو إضمار الصحة والكمال وإضمار الصحة ارجح لكونه اقرب الى الحقيقة لأن نفي الذات يستلزم كل الصفات ونفي الصحة اقرب بهذا المعنى إذ لا يبقى البتة بخلاف نفي الكمال فان الصحة تبقى معه وهي وصف


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 67.
2 حديث صحيح رواه البخاري كتاب الصيام باب إذا نوى الصيام بالنهار والنسائي باب النية في الصيام وابن ماجة باب ماجاء في الصوم من الليل والترمذي باب لا صيام لمن لم يعزم من الليل. تحفة الأحوذي 43613.

 

ج / 2 ص -208-       ولك ان تقول ما ذكرتموه في هذين الحديثين منقدح إذا قلنا ان الصحة والفساد مما يعتوران الماهية الجعلية أما إذا قلنا الفساد يزيل اسمها فنفي الحقيقة موجود.
الثاني: ان يكون أحد المجازيين أظهر عرفا أشهر كقوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع عن امتي الخطأ والنسيان" فإن ظاهره رفع نفس الحرج ونفس النسيان وليس بمراد فتعيين حمله على المجاز بإضمار الحكم أي حكم الخطأ والنسيان والحرج يعني الإثم أي اثمهما والحمل على الإثم اظهر من جهة العرف لتبادره الى الذهن من قول السيد لعبده رفعت عنك الخطأ والنسيان ولأنه لو قال ذلك ثم اخذ يعاقبه على ما اخطأ فيه أو نسيه عد مناقضا.
واعلم ان الحديث الذي أورده المصنف رواه الحافظ أبو القاسم التيمي من حديث ابن عباس وروى ابن ماجه معناه وصححه ابن حبان وقال احمد لا يثبت.
والثالث: ان يكون اعظم مقصودا من غيره كقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقوله عليه السلام في البحر: "الحل ميتته" فان حقيقة اللفظ إضافة الحرمة والحل الى نفس العين كما ذهب إليه الكرخي وهو عندنا باطل لأن الأحكام عندنا إنما تتعلق بالأفعال المقدورة للمكلف وليست العين كذلك فلا تتعلق بها حل ولا حرمة فيتعين المجاز بالإضمار فيضمر أما الأكل أو البيع أو نحوهما والأكل أولى لأنه اعظم المقصود من تلك الأشياء عرفا فيحمل اللفظ عليه.
وقد ذهب جماعة من الأصوليين الى دعوى الإجمال في الأمثلة المذكورة متمسكين بأن الحقيقة غير مرادة والمجازات متعددة فلا يضمر الجميع لأن الضرورة تندفع بالبعض وليس بعضها من بعض فيترجح الإجمال والجواب لنا نضمر البعض ولا نسلم عدد الأولوية فإن بعضها أرجح وأولى لما تقدم.
واعلم ان المجمل ليس منحصرا فيما ذكره بل بقيت أشياء أهملها:
أحدها: الإجمال العارض للفظ بواسطة الإعلال كالمختار فإنه صالح لاسم الفاعل واسم المفعول.

 

ج / 2 ص -209-       والثاني: بواسطة جمع الصفات واردافها بما يصلح ان يرجع الى كلها او الى بعضها نحو قولك زيد طبيب أديب ماهر فقولك ماهر يصلح ان يكون راجعا الى الكل او الى البعض فقط وذلك البعض يصح أن يكون هو الأخير أو غيره.
الثالث: المجمل بواسطة الاستثناء المجهول كما تقدم في العام إذا خص بمجهول كما في قوله تعالى:
{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.
والرابع: المجمل بواسطة التركيب كقوله تعالى:
{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}1 فإن من بيده العقدة يحتمل أن يكون هو الزوج او الولي.
ولذلك اختلف العلماء فيه فأخذ بالأول الشافعي وبالثاني مالك رحمهما الله.
والخامس: المجمل بسبب التردد في عود الضمير الى ما تقدمه كقولك كلمة علمه الفقيه فهو كما علمه فإن الضمير في هو متردد بين العود الى الفقيه والى معلوم الفقيه والمعنى يكون مختلفا حتى انه قيل بعوده الى الفقيه كان معناه فالفقيه كمعلومه وان عاد الى معلومه كان المعنى فمعلومه على الوجه الذي علم.
والسادس: المجمل بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وبين جمع الصفات نظرا إلى اللفظ وان كان احدهما يتعين بدليل من خارج وذلك نحو قولك الثلاثة زوج وفرد فإنه بالنظر الى دلالة اللفظ لا يتعين احدهما وبالنظر الى صدق القائل يتعين ان يكون المراد منه جمع الأجزاء فإن حمله على جميع الصفات أو على جمعها يوجب كذبه.
والسابع: الإجمال بسبب الوقف والإبتداء كما في قوله تعالى:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} فالواو في قوله والراسخون مترددة بين العطف والإبتداء ويختلف المعنى بذلك.
الثامن: الإجمال بصلاحية اللفظ المتشابهين بوجه كالنور للعول ونور الشمس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 237.

 

ج / 2 ص -210-       التاسع: بصلاحية للمتماثلين كالجسم للسماء والأرض والرجل لزيد وعمرو قال الغزالي وقد يكون موضوعا لهما من غير تقدم وتأخر وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك الأرض أم البشر والأم إنما وضعت للوالدة وهذا كله في الإجمال في اللفظ والمصنف جعل اللفظ مورد التقسيم فأفهم بذلك أن الإجمال لا يكون في الفعل وليس بجيد بل قد يكون فيه فوائد:
الأولى: لتصحيح جواز المجمل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والدليل عليه ما تكونا من الآيات وفي مسألة ورود المشترك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: اختلفوا في جواز إبقاء الإجمال بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار امام الحرمين في البرهان في أثناء بحث ان كل ما يثبت التكليف في العلم به فيسجل استمرار الإجمال وما لا يتعلق به تكليف لا يستحيل ذلك فيه ولا يبعد.
والثالثة: لقائل ان يقول يجوز التمسك بعموم:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} إذا الاستثناء وقع بقوله الا ما يتلى عليكم والتقدير فإنه ليس بحلال وعدم الحل لا يوجب الحرمة فيبقى على البراءة الأصلية ولا يقال هذا استثناء مجهول فيصير الباقي من العام مجملا لأنه يكون كذلك ان لو حرم ما يتلى علينا والله أعلم.

قال الثانية: قالت الحنفية وامسحوا برؤوسكم مجمل وقالت المالكية يقتضي الكل والحق انه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم دفعا للاشتراك والمجاز.
ذهبت الحنفية او بعضهم كما في المحصول جميع الرأس لأن قوله تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}1 مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا قام الاحتمال ثبت الإجمال في الآية ثم افترقوا فرقتين فقالت المالكية يقتضي مسح لأن الرأس حقيقة في جميعها والباء دخلت للالصاق وقالت طائفة إنها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 6.

 

ج / 2 ص -211-       حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم وهو القدر المشترك بين الرأس وبعضها لأنها تأتي تارة لمسح الكل وتارة للبعض كما تقول مسحت برأس اليتيم ولم يمسح منها الا البعض قد جعلناه حقيقة فيهما لزم الاشتراك او في احدهما لزم المجاز في الآخر فنجعله حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز الذين هما على خلاف الأصل.
ونقل الإمام هذا المذهب عن الشافعي قال المصنف هنا وهو الحق والذي جزم به في تغيير الحروف تبعا للإمام أنها للتبعيض تفيد مسح بعض الرأس وهو المحكي عن بعض الشافعية.

قال الثالثة:قيل آية السرقة مجملة لأن اليد تحتمل الكل والبعض والقطع الشق والإبانة والحق ان اليد للكل وتذكر للبعض مجازا والقطع والإبانة والشق إبانة.
قال بعضهم آية السرقة يعنى قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}1 مجملة في اليد والقطع أما اليد فلأنها تطلق على العضو من اصل المنكب وعليه من الكوع وعليه من أصول الأناملة وإذا أطلقت على الكل والبعض ولم يعلم المراد فتكون مجملة واما القطع فلأنه قد يراد به الشق أي الجرح فقط كما يقال برى فلان قلمه فقطع يده وقد يراد به الإبانة.
وقال الجمهور لا إجمال فيها بل حقيقة اليد للكل وهو العضو من المنكب وانما يذكر للبعض مجازا ولهذا يصح ما قطعت يده بل بعضها وحقيقة القطع الإبانة والشق إبانة ايضا لأن فيه إبانة لأجزاء اللحم بعضها عن بعض فيكون موضوعا للقدر المشترك بينهما وهو مطلق الإبانة واما لفظ السارق والسارقة للإجمال فيه وذلك متفق عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 38.

 

ج / 2 ص -212-       الباب الرابع في المبين
وهو الواضح بنفسه أو بعين مثل:
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وذلك الغير يسمى مبينا.
المبين بفتح الباء هو ما اتضحت دلالته بالنسبة الى معناه وهو على قسمين:
أحدهما: الواضح بنفسه وهو الكافي في إفادة معناه وذلك إما لأمر راجع الى اللغة مثل قوله تعالى:
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أو بالعقل مثل قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإن حقيقة هذا اللفظ طلب السؤال من الجدران لكن العقل صرفنا عن ذلك وقضى بان المراد به الأهل وهذا على كلام في القرية تقدم في المجاز بالنقصان هذا ما ذكره المصنف في الواضح بنفسه وأهمل ما يكون بسبب القليل وهو ضربان.
أحدهما: ان يكون الحكم في المسكوت عنه أولى.
وثانيهما: كما في قوله عليه السلام:
"إنها من الطوافين عليكم والطوافات"1 وأهمل مما لا يكون تعليلا ان الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح رواه الإمام مالك في الموطأ وأحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي: كتاب الطهارة باب:سؤال الهجرة. لفظه:
عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة أن قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يابنة أخي؟ قالت: قلت نعم. فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-قال:
"إنها ليست بنجس, إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات".
شرح السنة للإمام البغوي 2/69.     

 

ج / 2 ص -213-       الثاني: الواضح بغيره وهو ما يتوقف فهم المعنى منه على انضمام غيره إليه وذلك الغير أي الدليل الذي حصل به البيان يسمى مبينا بكسر الياء وله أقسام تأتي ان شاء الله تعالى على الأثر بأمثلتها.
تنبيهات: أحدها: اطلاق المبين بفتح الباء على الواضح بنفسه صحيح لأن المتكلم أوضحه حيث لم يأت بحمل نبه عليه الجار بردى.
الثاني: جعل العبري والجار بردى والاسفرايني وغيرهم من الشارحين قوله:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} مثالا للواضح بغيره وهو وهم لأنه قسم ذلك الغير في المسألة الآتية الى القول والفعل وظاهر كلامه حصره فيهما فلو كان هذا من أقسامه لم ينحصر في ذينك القسمين إذا المبين فيه ليس الى العقل وهو غير القول والفعل والذي حملهم على ذلك أنهم لما رأوه قد مر قوله وبغيره فوهموا أنه من باب اللف والنشر كذلك.

قال: وفيه مسائل الأولى انه يكون قولا من الله والرسول وفعلا منه كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ} وقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" وصلاته وحجه فإنه دل فإن اجتمعا وتوافقا فالسابق وان اختلفا فالقول لأنه يدل بنفسه.
المبين بكسر الياء قد يكون بالقول وذلك بالإتفاق وقد يكون بالفعل وخالف في ذلك: شرذمة قليلون والقول إما ان يكون من الله تعالى كقوله:
{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} فإنه مبين لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وهذا المثال جار على المشهور من ان البقرة المأمور بذبحها كانت معينة في نفس الأمر وقد حكى ابن عباس خلاف ذلك وانه قال لو ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأهم ذلك ولكنهم شددوا فسألوا فشدد الله عليهم.
وأما ان يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله:
"فيما سقت السماء وكان عشريا العشر وما سقى بالنضج نصف العشر" رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه ولمسلم عن جابر نحوه وهو مبين لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} واستفدنا من هذا المثال ان السنة تبين مجمل الكتاب وهو الصحيح والفعل لا يكون إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كصلاته فإنها مبينة لقوله تعالى: {أَقِيمُوا

 

ج / 2 ص -214-       الصَّلاةَ} بواسطة قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني اصلي" وكحجه فإنه مبين لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بواسطة قوله عليه السلام "خذوا عني مناسككم" قوله فإنه أدل أي علة جواز البيان بالفعل أنه أدل من القول على المقصود لأن فيه مشاهدة ومن الأمثال ليس الخبر كالمعاينة وهو مروي رواه احمد ابن محمد الملجمي وهو ضعيف عن علي بن الجعد عن شعبه عن قتادة عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ورواه احمد بن حنبل من حديث ابن عباس بإسناد صحيح والطبراني من حديث ابن عباس بإسناد صحيح والطبراني من حديث انس والخطيب في التاريخ من وجه آخره موضوع.
تنبيه: الترك منه عليه السلام كالفعل وذلك كتركه التشهد الأول بعد فعله إياه يبين انه غير واجب وإنما لم يذكر المصنف الترك لدخوله في قسم الفعل على الرأي المرتضى قوله فإن ثبت انه يجوز البيان بكل واحد من القول والفعل فورد بعد المجمل قول وفعل وكل منهما صالح لبيانه فبماذا يكون البيان الحق التفصيل وهو انهما ان اتفقا في غرض البيان وعلم ان احدهما سابق فهو المبين قولا كان أم فعلا ويكون الثاني تأكيدا له وان لم يعلم فلا يقضي على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقتضي بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والتأكيد بالثاني وهذا القسم أهمله في الكتاب لوضوحه وحكم القسمين في الحقيقة واحد بالنسبة الى نفس الأمر وإن اختلفا كما روي انه صلى الله عليه وسلم أمر بعد نزول آية الحج في القرآن بطواف واحد وروي انه طاف قارنا طوافين فالمختار عند الجمهور منهم الإمام وأتباعه وابن الحاجب ان المبين هو القول سواء كان متقدما على الفعل أو متأخرا أو يحمل الفعل على الندب أو على الواجب المختص به صلى الله عليه وسلم وذلك لأن القول يدل على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل الا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أدل وقال أبو الحسين المتقدم هو البيان.
فائدة: قد ذكر المصنف هنا ان الفعل أدل من القول وان القول يدل بنفسه يعني فيكون أدل وظاهر هذا التنافي بين الكلمتين والتحقيق ان الفعل أدل على الكيفية والقول أدل على الحكم ففعل الصلاة أدل من وصفها بالقول

 

ج / 2 ص -215-       لأن فيه المشاهدة واستفادة وقوعها على جهة معينة من واجب أو ندب وغيرهما بالقول أقوى وأوضح من الفعل لصراحته.

قال الثانية لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه تكليف بما لا يطاق ويجوز عن وقت الخطاب ومنعت المعتزلة وجوز البصري ومنا القفال والدقاق وأبو اسحاق بالبيان الإجمالي فيما عدا المشترك.
هذه المسألة تشتمل على بحثين الأول في تأخير البيان عن وقت الحاجة والثاني في تأخير وقت الخطاب.
أما الأول فاعلم لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الحاجة عن وقت الحاجة أي الوقت الذي قام الدليل على إيقاع العمل بالمجمل فيه على التضييق من غير فسحة في التأخير لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع والتكليف بذلك تكليف بما لا يطاق وقد نقل القاضي في مختصر التقريب إجماع أرباب الشرائع على ذلك ولقائل ان يقول التكليف بالمحال جائز عند المصنف فكان ينبغي ان يفعل الإمام فيقول إنا منعنا التكليف بما لا يطاق فلا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة والإيجاد لكن لا يقع لأن التكليف بالمحال غير واقع واخصر من هذا أن يقول لا يقع تأخير للبيان عن وقت الحاجة.
وأما الثاني: وهو تأخيره عن وقت الخطاب الى وقت الحاجة فيقدم عليه أن الخطاب المحتاج الى البيان ضربان.
أحدهما: ما له ظاهر وقد استعمل في خلافه كتأخير بيان التخصيص وتأخير بيان النسخ وتأخير بيان الأسماء الشرعية إذا استعملت في المسميات الشرعية كالصلاة إذا أريد بها الدعاء ونحو ذلك بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين.
والثاني: ما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة إذا عرفت هذا فنقول في جواز تأخيره عن وقت الخطاب مذاهب.
أحدهما: يجوز في جميع هذه الأقسام واليه ذهب اكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي نفسه واختاره الإمام وأتباعه وابن الحاجب.

 

ج / 2 ص -216-       والثاني: وإليه ذهب اكثر متقدمي المعتزلة انه لا يجوز الا في النسخ فإنهم جوزوا تأخير بيانه كذا استثناه الإمام وهو مأخوذ من الغزالي فإنه ادعى الاتفاق على انه يجوز تأخير بيان النسخ قال بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز ان يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط ان لا يرد نسخ وما ادعاه الغزالي ادعاه ابن برهان في الوجيز أيضا.
وهذا الكلام من الغزالي مأخوذ من امام الحرمين فإنه قال ناقضت المعتزلة أصولهم إذ النسخ عندهم بيان مدة التكليف ولم يكن هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول قال وليس لهم عن هذا جواب والقاضي في مختصر التقريب ذكر ذلك ايضا فقال ومما إستدل به أصحابنا ان قالوا النسخ تخصيص في الزمان والتخصيص في الأعيان ثم يجوز ان ترد اللفظة مغلقة في الأزمان والمراد بعضها فإن لم يبعد ذلك في الأزمان لم يبعد في الأعيان قال القاضي ولا يستقيم هنا الاستدلال بذلك فإن النسخ ليس بتخصيص في الأزمان عند معظم المحققين من أصحابي وإنما هو رفع والمصنف أهمل إستثناء النسخ وكذا الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وابن برهان في الوجيز والغزالي الا انه نقل الاتفاق على النسخ بعد ذلك.
كما عرفت ولعل من أطلق القول ترك الاستثناء اكتفاء بالعلم بالاتفاق على النسخ وانه خارج عن صور النزاع الا ان كلام جماعة يقتضي ان النزاع في النسخ موجود والذي يظهر من جهة النقل ان النزاع فيه موجود ولكن ليس من القائلين بامتناع تأخير البيان كلهم من بعضهم:
والثالث: أن المجمل ان لم يكن له ظاهر كالمشترك قال الإمام والأسماء المتواطئة جاز تأخير بيانه لأنه لا يلزم محذور من تأخيره وان كان له ظاهر جاز تأخير البيان التفصيلي دون الإجمالي فانه يشترط وجوده عند الخطاب حتى يكون مانعا من الوقوع في الخطأ فنقول مثلا المراد من هذا العام هو الخاص أو بالمطلق المقيد أو بالنكرة المعين.
قال الإمام والآمدي ان هذا الحكم ينسخ وهذا يدل على ان النسخ من

 

ج / 2 ص -217-       محل الخلاف وأما البيان التفصيلي وهو تشخيص بكذا مثلا فليس بشرط وقد نقل المصنف تبعا للإمام هذا المذهب عن أبي الحسين البصري من المعتزلة والدقاق والقفال وأبي اسحاق فأما أبو الحسين فالنقل عنه صحيح وأما الدقاق فقد نقل عنه الأستاذ أبو اسحاق في أصوله موافقة المعتزلة وأما القفال فالظاهر أن المراد الشاشي وفي النقل عنه نظر فقد نقل عنه القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع وغيرهما موافقة سائر الأصحاب على المذاهب المختار وأما أبو اسحاق فإن كان هو المروزي كما صرح به الإمام ففي النقل نظر إذ نقل عنه القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق والغزالي والآمدي القول بمذهب المعتزلة وان كان مراد المصنف الشرازي فالنقل أيضا ليس بجيد لأنه قد صرح في شرح اللمع الجواز مطلقا وكذلك الأستاذ لا يصح ان يكون هو المراد لتصريحه في كتابه بموافقة الأصحاب وقد اقتصر في الكتاب تبعا للإمام على حكاية هذه المذاهب.
والرابع: أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره كتخصيص العموم.
والخامس: يجوز التأخير في الأمر وكذا النهي كما قاله القاضي في مختصر التقريب والشيخ أبو اسحاق والإمام أو الظفر بن السمعاني وغيرهم ولا يجوز في الخبر قال ابن السمعاني قال الماوردي ولم يقل بهذا القول أحد من أصحاب الشافعي.
والسادس: عكسه يجوز في الخبر ولا يجوز في الامر والنهي حكاه الشيخ أبو اسحاق.
والسابع: واليه ذهب الجبائي ونقله الآمدي عن عبد الجبار يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره وبحكاية هذا المذهب يعلم ان النسخ من محل الخلاف وابن برهان حكى عن عبد الجبار تجويز تأخير التخصيص دون المجمل والقرافي قال قد يجمع بين هذا وبين من نقل الاتفاق ان لا نفاق إنما هو على جواز تأخير البيان التفصيلي والخلاف في الإجمال قال وكذلك حكاه صاحب العمد في المعتمد.
فائدتان: إحداهما: قال الأستاذ في كتابه هذه العبارة مزيفة يعنى تأخير البيان

 

ج / 2 ص -218-       إلى وقت الحاجة قيل وهي لائقة بمذهب المعتزلة دون مذهبنا لأن عندهم المؤمنون بهم حاجة الى التكليف نحو العبادات لينالوا بها الدرجات الرفيعة ويستحقونها على طريق المعارضة وعندنا للباري تعالى ينزل المؤمنين الجنة فضلا ويدخل الكافرين النار.
عدلا فالعبادة الصحيحة على مذهبنا ان نقول تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب والى وقت وجوب الفعل.
الثانية: نقل الجماهير عن أبي بكر الصيرفي موافقة المعتزلة على المنع من تأخير البيان مطلقا قال الأستاذ في كتابه وهذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديما فنزل به أبو الحسن الأشعري ضيفا فناظره في هذا واستنزله عن هذه المقالة ورجع الى مذهب الشافعي وسائر المتسننة.
قلنا لنا مطلقا قوله تعالى:
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قيل البيان التفصيلي قلنا تقييد بلا دليل وخصوصا ان المراد من قوله: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} معينة بدليل: {مَا هِيَ} {مَا لَوْنُهَا} والبيان تأخير قيل يوجب التأخير عن وقت الحاجة قلنا الأمر لا يوجب الفور قيل لو كانت معينة لما عنفهم قلنا للتواني بعد البيان وأنه تعالى انزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} فنقض ابن الزبعري بالملائكة والمسيح فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} الآية قبل ما لا تتناولهم وان سلم لكن خصوا بالفعل واجيب بقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وأن عدم رضاهم لا يعرف الا بالنقل.
احتج على المذهب المختار بأدلة ثلاثة أولها مطلق أي يدل على جواز التأخير مطلقا والآخران مقيدان احدهما يدل على جواز التأخير في صورة النكرة والآخر في صورة العام الدليل الأول الدال على جواز التأخير مطلقا قوله تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}1 وثم في اللغة للتراخي أي والله أعلم علينا بيانه بعد القراءة وقوله مطلقا عبارة ركيكة وليس المراد حقيقة المطلق بل انه عام يتطلق على الصور ولو قال يدل مطلقا عموما لكان احسن لا سيما وقد قال بعد ذلك خصوصا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القيامة 18- 19.

 

ج / 2 ص -219-       واعترض أبو الحسين ومن وافقه بأن المراد البيان التفصيلي دون الإجمالي وأجاب المصنف بأن هذا تقييد بلا دليل ولقائل ان يقول قوله بيانه مفرد مضاف فيعم البيانين الإجمالي والتفصيلي وحينئذ فليس القول بان المراد البيان التفصيلي تقييدا بلا دليل بل تقييدا على خلاف الدليل وفرق بين كون الشيء على خلافه وبين كونه بلا دليل أي لم يدل عليه دليل وهذا الجواب احسن من جواب المصنف وبه يظهر ضعف قوله الآمدي البيان يراد به الإظهار لغة تقول تبين الحق وتبين الكوكب معنى الآية ان علينا بيانه للخلق وإظهاره فيهم واشتهاره في الآفاق فلا يكون فيها حجة على صورة النزاع لأنا نقول البيان من حيث تعميمه بالإضافة كل ما يصدق عليه انه بيان قوله وخصوصا هذا معطوف على قوله مطلقا.
وقد قلنا انه يظهر به ان مراده بالمطلق العام لأن الخصوص إنما يقابله العموم ولو أراد الاطلاق لقال وتقييدا وهذا الدليل هو الثاني المختص بالنكرة اعني الدال على جواز تأخير البيان في النكرة وتقريره ان شاء الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وأراد معينة بدليل سؤالهم عن صفتها ولونها في قوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} الى آخر الآيات ثم لم يبينها لهم حتى سألوا هذه السؤالات فدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
واعترض الخصم على هذا الاستدلال بوجهين.
أحدهما: أن بني إسرائيل أمروا بالذبح وقت الخطاب فكانوا محتاجين الى البيان في ذلك الوقت فتأخيره عن ذلك الوقت تأخير عن وقت الحاجة وهو ممتنع.
قال الخصم فحاصل الأمر انك لم تفعل بما تقتضيه الآية بل بما لا تقتضيه أجاب بأن الأمر لا يوجب الفور كما سبق فإن قلت هذا الجواب مبني على ان الأمر لا يقتضي الفور فلا يعم المذاهب بل يختص بمن يرى رأي المصنف ثم ان الامر بذلك إنما وقع للفصل بين الخصمين اللذين تنازعا في القتل والفصل واجب على الفور.

 

ج / 2 ص -220-       قلت أجاب القرافي بأن الآية إذا دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب دلت على جواز التأخير عن وقت الخطاب لأن كل من قال بجواز الأول قال بجواز الثاني من غير عكس.
ولأنه إذا ثبت في الأول ثبت في الثاني بطريق أولى وأما قول القرافي هنا انا لم نقل بما تقتضيه الآية بل قلنا به وهذا الصحيح من مذهبنا بناء على تجويز بما لا يطاق فضعيف لأنه عندنا غير واقع الكلام إنما هو في هذا الواقع.
والثاني: إنما ذكرتم وان دل على ان البقرة كانت معينة لكن عندنا ما يدل على أنها لم تكن معينة وبسببه يمنع كونها معينة وهو أنها لو كانت معينة لما عنفهم على السؤال عنها لكنه عنفهم بقوله فذبحوها وما كادوا يفعلون ومما يدل على أنها لم تكن معينة ما سلف من كلام ابن عباس وهو قوله شددوا فشدد الله عليهم.
وأجاب المصنف بأنا لا نسلم انه عنفهم على السؤال وإنما عنفهم على التواني أي التقصير بعد البيان هذا هو الأقرب.
واحتمال كون التعنيف على السؤال بعيد لأنه لو وجب المعينة بعد إيجاب خلافه لكان نسخا قبل الفعل وهو لا يجوز عند الخصم.
قوله:
{وَأَنَّهُ تَعَالَى} هو معطوف على قوله وخصوصا ان المراد تقديره ولنا خصوصا في النكرة كذا وفي جواز تأخير بيان التخصيص انه تعالى انزل وتقريره إن الله تعالى لما أنزل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال عبد الله الزبعري1 قد عبدت الملائكة وعبد عيسى وليس هؤلاء من حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى نزل.
قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}2فإن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو سعيد عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي القرشي شاعر قريش في الجاهلية.كان شديدا على المسلمين إلى أن فتحت مكة فهرب إلى نجران. فقال فيه حسان بن ثابت أبياتا. فلما بلغته عاد إلى مكة وأسلم توفي نحو سنة 15هـ الأغاني 1/14, الأعلام 2/556.  
2 سورة الانبياء آية 101.

 

ج / 2 ص -221-       قيل لا نسلم ان قوله وما تعبدون مندرج فيها الملائكة والمسيح وبيانه من وجهين.
أحدهما: ان لفظة ما تتناولهم لكونها مخصصة بمن لا يعقل فلا يتوجه نقض ابن الزبعري ولا يحتاج الى تخصيص قل كيف يمكن والتخصيص فرع الشمول ويدل على ذلك ما رواه الأصوليون في كتبهم من قوله صلى الله عليه وسلم لابن الزبعري حين قال ما قال: "ما أجهلك بلغة قومك" أما علمت أن ما لمن لا يعقل ومن لمن يعقل.
والثاني: وهو المشار إليه بقوله في الكتاب ولو سلم انا سلمنا ان لفظة من تتناولهم لكن خص الملائكة والمسيح من هذه الآية بالعقل لا بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} وذلك التعذيب إنما يقع على جريمة وأي جريمة لهؤلاء بعبادة غيرهم إياهم وهذا الدليل العقلي كان حاضرا في عقولهم قبل نزول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ}.
قلنا الجواب عن الأول انا لا نسلم ان صفة ما مختصة بغير العقلاء بل هي شاملة للجميع ويدل على ذلك إطلاقها على الله تعالى:
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}.
وكذلك قوله:
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}.
وقوله:
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وأنها تأتي بمعنى الذي لا اتفاقا وكلمة الذي تتناول العقلاء فكذلك صيغة ما والحديث المذكور من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ما مختصة بمن لا يعقل" غير معروف لو ثبت لسمعنا واطعنا.
وعن الثاني إن العقل إنما يجعل ترك تعذيبهم إذا علم بالعقل ايضا أنهم غير راضين بالعبادة لأنهم ان رضوا بالعبادة لكان ذلك الرضا موجبا للسخط وعدم رضاهم إنما علم بالنقل وهذان الجوابان ضعيفان أما الأول فما وجهين.
أحدهما: ان المصنف قدم في باب العموم إن ما مختصة بما لا يعقل.
وثانيهما: ان ما في هذه الآيات مصدرية تقديره وخلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا أنتم عابدون عبادتي ذكره القرافي وأما قوله ترد بمعنى الذي فتتناول العقلاء كما يتناول الذي فساقط لأن الذي وضعت للقدر المشترك بين

 

ج / 2 ص -222-       العقلاء وغيرهم ولا نسلم أنها تقوم مقامها ان استعملت في غير العقلاء وما ذلك إلا أول النزاع.
واما الثاني فإنه غير مستقيم على مذهب من يقول عصمة ذوي العصمة ثابتة بالعقل وهم المعتزلة ولا على من يقول إنها ثابتة بالسمع لأنها قد اشتهرت وصار العقل يحيل عدمها وان كان الأصل في إحالة هذا العقل لذلك إنما هو السمع لأنا بالضرورة من العقول ندرك ان الملائكة وعيسى عليهم السلام غير راضين بعبادة هؤلاء إياهم.
فائدة ابن الزبعري بكسر الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة من تحت بعدها وقد تكسر ايضا بعدها عين مهملة ساكنة ثم راء مهملة مفتوحة كان من اشد الناس على الإسلام وأكثرهم أذى بلسانه فحشا وهجاء وبنفسه مكايدة وعنادا ثم اسلم عام الفتح وحسن إسلامه وهذا المذكور عنه مشهور في كتب التفسير والسير وروى الحاكم أبو عبد الله في المستدرك عن الحسن بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
قال المشركون فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله.
قوله:
{لوكان هؤلاء آلهة ما وردوها}1.
قال فنزلت:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وهذا مسند صحيح لكن ليس فيه ذكر ابن الزبعري بخصوصه.
قال قيل تأخير البيان أعز قلنا كذلك ما يوجب الظنون الكاذبة قيل كالخطاب بلغة لا تفهم قلنا هذا غرضا إجماليا بخلاف الأول.
احتج أبو الحسن على اشتراط البيان الإجمالي فيما له ظاهر بأن العموم خطاب لنا في الحال اجماعا فالمخاطب إما أن لا يقصد إفهامنا في الحال وهو باطل لأنه إذا لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 99.

 

ج / 2 ص -223-       في الحال يكون قد أغوانا بأن نعتقد انه قصد إفهامنا في الحال فيكون قصد ان نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغواهم بأن يعتقدوا فيه انه يعني ما يفهمونه منه فثبت بطلانه.
وإما ان يقصد وحينئذ فإما ان يريد ان نفهم ان المراد ظاهره فقد أراد منا الجهل وهو باطل أو غير مظاهره فقد أراد ما لا سبيل إليه وهو تكليف بالمحال وهذا التقرير على هذا الوجه هو الذي أورده الإمام وهو الصواب فاعتمده.
وأجاب المصنف بأنا لا نسلم ان ذلك ممتنع وقد ورد ما أوجب ظاهره الظنون الكاذبة فدل على الجواز أما وروده فكثير قال الله تعالى:
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}1 وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2 وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} فلو صح ما ذكرتم لزم ان يكون هذه الخطابات للإغواء لأنه أطلق وأراد خلاف الظاهر ومن ها هنا عميت بصائر الحشوية وصمموا على فساد عقد لو نشر الواحد منهم بالمباشر لم يكن ولم يرجع وهو معتقد لا يعود وباله الا عليه ولا يرجع نكاله الا إليه ولقائل ان يقول هذه الأشياء يحتويها براهين عقلية ترشد الى الصواب بخلاف تأخير البيان.
وأعلم أن ظاهر ايراد المصنف يفهم ان هذا الدليل الذي أجاب عنه دليل للمانع مطلقا وعلى ذلك قرره العبري والجار بردي وليس كذلك بل هو حجة أبي الحسين كما قلناه وبه صرح الإمام وكيف يتجه أن يكون حجة للمانع مطلقا والمشترك ليس فيه إيقاع في الجهل فإن نسبته عند عدم القرينة الى كل معانيه على السوية وقد تنبه الاسفرايني لهذا وذكر ما أوردناه واحتج من منع تأخير البيان عن وقت الخطاب مطلقا بأنه كالخطاب بلغة لا نفهم مثل خطابك العربي باللغة الزنجية والخطاب بلغة لا تفهم ممنوع.
والجامع بينهما كون كل واحد منهما لا يفيد المقصود حالة الخطاب.
وأجاب في الكتاب بالفرق وهو ان الخطاب بما لا يفهمه المخاطب لا يفيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية 10.
2 سورة طه آية 5.

 

ج / 2 ص -224-       شيئا بخلاف الخطاب بالمشترك ونحوه فإنه يفهم غرضا إجماليا يستعد المكلف من اجله لما يراد منه فان قيل مثلا اعتدى بثلاثة أقراء أفاد ان المراد إما الإظهار أو الحيض وان العدة وجبت بأحدها.
وأما الخطاب بما لا يفهم فلا يفيد لا غرضا جماليا ولا تفصيليا وقد أجاب القاضي في مختصر التقريب ان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث الى العرب والعجم وكان ما يندر منه من الألفاظ العربية إلزاما للفريقين وفاقا وإذا شاع مخاطبة العجم بلغة العرب لم يبعد عكسه قلت وهذا حسن والتحقيق أن خطاب الغير اضراب.
الأول: أن يخاطب بما يفهمه هو لغيره وهو جائز اجماعا.
والثاني: عكسه وفيه الخلاف المتقدم في مسألة ان الله لا يخاطبنا بالمهمل.
والثالث: ان يفهمه المخاطب بفتح الطاء دون غيره فيجوز اتفاقا سواء تعلق بخاصة نفسه أم بغيره ويصير فيما إذا تعلق بغيره كالترجمان والمبلغ.
والرابع: ان يفهمه غيره ولا يفهمه هو وهذا هو الذي تكلم فيه القاضي ويظهر انه جائز اتفاقا لاطلاع المخاطب على مدلول الخطاب من غيره.
والخامس: ان يخاطب جميعا بلغة يفهمها بعضهم دون بعض وهذا أيضا لا نزاع في جوازه كيف والقرآن للعرب والعجم.
 

قال تنبيه يجوز تأخير التبليغ الى وقت الحاجة وقوله تعالى: { بَلِّغْ} لا يوجب الفور.
الذين منعوا تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما أوحي به الى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والجمهور على جوازه لأن امتناعه لا جائز ان يكون لذاته إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال ولا لأمر خارج إذ الأصل عدمه كيف ويحتمل ان يكون في التأخير مصلحة لا نعلمها نحن واحتج الممانع بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}1 والجواب ان الامر لا يقتضي الفور كما سبق قال الإمام والآمدي ولو سلمناه لكن المراد هو القرآن إذ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية 67.

 

 

ج / 2 ص -225-       هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل قلت وفي الفرق بين تبليغ القرآن وغيره نظر وقد يقال قال المصنف في أول الفصل وفيه مسائل ولم يورد سوى اثنتين وهذا التنبيه هو الثالثة وليس بشرط ان تصدر المسألة بلفظ الثالثة أو انه ذكر في الثانية مسألتين تأخير البيان عن وقت الحاجة وعن وقت الخطاب والاشتغال بمثل هذا مما يضيع الوقت ولا تحصل فائدة.
قال الفصل الثالث في المبين له إنما يجب البيان لمن أريد فهمه للعمل كالصلاة أو الفتوى كأحكام الحيض.
يجب البيان لمن أريد فهمه لأن تكليفه بالفهم بدون البيان تكليف بالمحال ولا يجب بيانه لغيره إذا لا تعلق له به ثم إرادة الفهم قد تكون للعمل بما يضمه المجمل كآية الصلاة وقد تكون للإفتاء كآية الحيض فإن تفهيم المجتهدين ذلك إنما هو لإفتاء النساء به هذا ما ذكره المصنف تبعا للإمام والإمام تبعا فيه لأبي الحسين وفيه نظر من وجهين.
أحدهما: اطلاق قوله يجب البيان لمن أريد فهمه يشعر بأنه يجب على الله تعالى وهذا إنما يقوله المعتزلة فهي عبارة ردية والأولى التعبير بأن البيان لمن أريد فهمه لا بد من وقوعه.
والثاني: ان فيه إشعارا بأنه لا يجب على النساء تحصيل العلم بما كلفن به وليس كذلك بل النساء والرجال سواء في ذلك.