الإبهاج في شرح المنهاج ج / 2 ص -226-
الباب الخامس في الناسخ والمنسوخ
الفصل الأول
في تعريف النسخ
قال الباب
الخامس في الناسخ والمنسوخ وفيه فصلان الأول في النسخ وهو
بيان حكم شرعي بطريق شرعي متراخ وقال القاضي برفع الحكم
ورد بأن الحادث ضد السابق فليس رفعه بأولى من رفعه.
النسخ في اللغة يطلق على الإزالة نسخت الريح اثر القدم أي
أزالته وعلى النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته وهو
المعنى بقوله تعالى:
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومنه المناسخات وهي انتقال المال من وارث الى وارث ثم قال القاضي
والغزالي انه مشترك بينهما وقال أبو الحسين حقيقة في
الإزالة وقال القفال حقيقة في النقل.
وأما في الإصطلاح فقال صاحب الكتاب هو بيان انتهاء حكم
شرعي متراخ فقوله بيان جنس يدخل فيه المحدود وغيره
وبإضافته الى الانتهاء حكم عقلي كالمباح الثابت بالبراءة
الأصلية عند القائل به فإنه لو حرم فرد من تلك الأفراد لم
يسم نسخا وقوله بطريق شرعي يحترز به عن الطريق العقلي
كالموت فإنه إذا وقع تبين به انتهاء الحكم الشرعي ولا يسمى
نسخا في الإصطلاح ولمن سقط رجلاه لا يقال نسخ عند غسل
الرجلين.
وما قاله الإمام في المخصصات من انه نسخ واه بلا ريب وقوله
متراخ يخرج البيان المتصل بالحكم كالاستثناء والشرط والصفة
وغير ذلك وقال
ج / 2 ص -227-
الأولى: وانه واقع واحالته اليهود لنا ان تبع المصالح فيتغير بتغيرها وإلا فله ان
يفعل ما يشاء وان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت
بالدليل القاطع وقد نقل قوله:
{مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ} وأن آدم عليه السلام زوج بناته من بنيه والآن محرم اتفاقا.
أجمع المسلمون على جواز النسخ وذهبت فئة من المنتمين الى
الإسلام منهم
ج / 2 ص -228-
أبو
مسلم الأصفهاني الى منع النسخ هربا من البدء واعتقادا منهم
ان النسخ يؤدي إليه واما لليهود لعنهم الله فمنهم من انكر
جوازه عقلا ووقوعه شرعا ومنهم من انكر وقوعه فقط وذهبت
العسوية منهم وهم أصحاب أبي عيسى الاصفهاني المعترفون بصحة
نبوة نبينا عليه افضل الصلاة والسلام لكن الى بني إسماعيل
عليه السلام وهم العرب خاصة الى جوازه عقلا ووقوعه سمعا
واعلم انه لا يحسن ذكر هؤلاء المبدعين في وفاق ولا خلاق
ولكن السبب في تحمل المشقة بذكرهم التنبيه على انهم لم
يخالفوا جميعا فى ذلك وإما من أنكره من المسلمين فهو معترف
بمخالفة شرع من قبلنا لشرعنا في كثير من الأحكام ولكنه
يقول ان الشرع من قبلنا كان مغيا الى غاية ظهوره عليه
السلام وعند ظهوره صلى الله عليه وسلم زال التعبد بشرع من
قبله لانتهاء الغاية وليس ذلك من النسخ في شيء بل هو جار
مجرى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وحينئذ لا يلزم من انكار نبوة صلى الله عليه وسلم وقد ذكر في
الكتاب من أدلتنا على النسخ أوجها ثلاثة:
الأول: وهو دليل على الجواز فقط ان حكم
الله تعالى أما أن يتبع المصالح كما هو رأي المعتزلة فيلزم
ان يتغير بتغير المصالح فانا على قطع بأن المصلحة قد تتغير
بحسب الأشخاص والأوقات والأحوال واما ان لا يتبع المصالح
فله سبحانه وتعالى ان يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.
والثاني: أن نبوة سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم ثبتت بالبراهين القاطعة التي لا يقبلها شك ولا
يدخلها ريب وقد نقل لنا عن الله تعالى أنه قال:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا}1وصحة
التمسك بالقرآن ان توقفت على صحة النسخ عاد الأمر الى نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم إنما تصح مع القول بالنسخ ونبوته
صحيحة قطعا فدل على صحة النسخ وان لم يتوقف عليها صح
الاستدلال بهذه الآية على جواز النسخ وفي هذا الاستدلال
نظر ذكره الإمام في التفسير وتقريره ان ما ننسخ جملة شرطية
معناها ان ننسخ وصدق الملازمة بين الشيئين لا يقتضي وقوع
أحدهما ولا صحة وقوعه ومنه قوله تعالى:
{لَوْكَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 106.
ج / 2 ص -229-
وذكر
القاضي في مختصر التقريب مع قوله تعالى ما ننسخ وان أبدلنا
آية مكان آية وهذه الآية سالمة عن النظر الذي ذكره الإمام
لأن إذا تدخل الإعلى المحقق وقوعه وذكر أيضا قوله تعالى:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ}1
وقال لهم على هذه الآيات أسئلة وتمويهات يسهل مدركها قلت
ومن التمويهات في ذلك قول قائلهم اليهود لا تعتقد بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم فالاستدلال عليهم بذلك الاستدلال
على الخصم بدليل لا يسلم مقدماته وهذا ساقط فان الخصم إنما
لا يعترض عليه بما لا يعتقده إذا كان شبهة فيه واما ما لبس
فيه كمشكك بل هو ثبات بثبوت المحسوسات بل يلتفت إلى عدم
اعتقاده فيه.
والثالث: مما يدل على وقوع النسخ انه ورد في التوراة ان
آدم عليه السلام كان مأمورا بتزويج بناته من بنيه وهو الآن
محرم بالنسخ الا ذلك فإن قلت يجوز ان يكون هذا شرع لبني
آدم أي غاية معلومة وهي ظهور شريعة أخرى ومثل هذا لا يكون
نسخا قلت أمر آدم كان مطلقا وتقييده في علم الله لا ينافي
النسخ فانه تعالى ان أمر بالفعل مطلقا فهو عالم بأنه
سينسخه والوقت الذي فيه بنسخه فتقييده في علم الله تعالى
لا يخرجه عن حقيقة النسخ ولقائل ان يقول تحريم ذلك في حقنا
إنما يكون نسخا ان لو ثبتت الإباحة قبل ذلك وهي لم تثبت
الا في حق بني آدم لصلبه وثبوتها في حق أولئك لا يوجب
ثبوتها في حقنا وهي لم ترفع في حق أولئك فأين النسخ.
قال قيل الفعل الواحد لا يحسن ويقبح قلنا مبنى فاسد ومع
هذا فيحتمل ان يحسن لواحد أو في وقت ويقبح لآخر أو في آخر
احتج مانعو النسخ بأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه والنهي عنه
يقتضى قبحه فيلزم من وقوع النسخ اجتماع الضدين اعني الحسن
والقبح وهو محال.
أجاب أن هذا مبني على فاسد وهو قاعدة التحسن والتقبيح ومع
هذا أي ولو سلمنا صحة تلك القاعدة فيحتمل ان يحسن لواحد
ويقبح لآخر أو يحسن له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية 160.
ج / 2 ص -230-
في وقت
ويقبح عنده في وقت آخر وذلك لأن المصلحة كما تقدم تتغير
بتغير الأوقات والأشخاص.
قال الثانية يجوز نسخ بعض القرآن
ومنع أبو مسلم الأصبهاني لنا أن قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} نسخت بقوله:
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً} قال قد تعتد الحامل بسنة قلنا لا بل تعتد بالحمل وخصوص السنة لاغ
وأيضا تقديم الصدقة على نجوى الرسول واجب بقوله تعالى يا
أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول الآية ثم نسخ قال زال
الزوال بسببه وهو التمييز بين المنافقين وغيرهم قلنا زال
كيف كان احتج بقوله تعالى لا يأتيه الباطل قلنا الضمير
للمجموع.
اللائق بهذه المسألة ان تذكر في الفصل التالي لهذا الفصل
الذي أودعه ما ينسخ وما نسخ أو حاصلها ان نسخ جميع القرآن
اجماعا كما صرح به بعضهم وأشار إليه المصنف في آخر المسألة
وكذا الإمام في أثنائها واما بعضه فجائز ومنع منه أبو مسلم
الأصفهاني كما نقله عنه الإمام وأتباعه منهم المصنف وقد
تقدم النقل عنه انه منع وقوعه مطلقا واحتج في الكتاب
بوجهين.
أحدهما: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد
حولا في قوله:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ}1 ثم نسخ ذلك:ب
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}2
وقال أبو مسلم3 الاعتداد بالحول لم يزل بالكلية لأنها لو
كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا
وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان تخصيصا لا نسخا وأجاب
في الكتاب انا نمنع ان الحامل قد تعتد بسنة بل إنما تعتد
بوضع الحمل سواء حصل لسنة أم اقل أم أكثر وخصوص السنة إن
وقع لاغ لا عبرة به وهو جواب صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 240.
2 وذلك في قوله تعالى
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهر وعشر}البقرة 234.
3 هو: محمد بن بحر الأصفهاني كان نحويا كاتبا بليغا متكلما
معتزليا عالما بالتفسير وغيره, ولد سنة 254هـ وتوفي سنة
322هـ.
معجم الأدباء 18/35, الفهرست لإبن النديم ص202.
ج / 2 ص -231-
إلا أن
أبا مسلم لم يدع عدم النسخ في الآية بهذا التقرير المذكور
بل بتقرير غيره فنقول اختلف العلماء في هذه الآية فذهب
جمهور المفسرين إلى أنها منسوخة بقوله:
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} كما ادعاه الأصوليون وهو الذي رواه البخاري بسنده إليه الى أنها
غير منسوخة وإنها ان لم تختر السكنى كانت عدتها:
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} كما في إحدى الآيتين وإن اختارت اعتدت بحول كما في الآية الأخرى
فحمل الآيتين على حالتين وذهب أبو مسلم الاصبهاني الى قول
ثالث وهو ان معنى الآية ان الذين يتوفون ان كانوا قد وصوا
وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فالعدة بالحول فإن
خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد المدة التي ضربها الله
تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح
صحيح لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة قال والسبب في ذلك
انهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا
كاملا وكان يجب على المرأة الإعتداد بالحول فبين الله
تعالى في هذه الآية ان ذلك غير واجب وعلى هذا التقدير
فالنسخ زائل عند أبي مسلم ولكن ليس بالطريقة المتقدمة من
ان الحامل قد تعتد بسنة وحينئذ لا يصلح الاستدلال بالآية
عليه.
وقوله هذا هو الذي اختاره الإمام في التفسير وقال انه في
غاية الصحة وقد وافق والدي احسن الله إليه مجاهدا وأبا
مسلم على ان الآية غير منسوخة وذهب الى رأي رابع ارتضاه
وهو ان الله تعالى انزل في المتوفى عنها زوجها آيتين:
إحداهما: آية العدة بأربعة أشهر وعشرا.
والثانية: آية الوصية ومعناها انه تعالى جعل للأزواج وصية
منه سبحانه وتعالى سكنى حول كامل بعد وفاة أزواجهن سواء
أوصى الزوج بذلك أم لم يوص وهذا هو ظاهر الآية فلا يخرج
عنه بلا دليل.
الوجه الثاني: انه تعالى أمر بتقديم الصدقة بين يدي نجوى
الرسول في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}1 ثم نسخ ذلك بقوله:
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية 12.
ج / 2 ص -232-
صَدَقَاتٍ}1
الآية قال الواحدي اجمعوا على أنها منسوخة الحكم واعترض
أبو مسلم بأن ذلك إنما زال لزوال سببه وهو التمييز بين
المنافق وغيره لأن المؤمن يمتثل والمنافق يخالف فلما حصل
بعد ذلك التمييز سقط الوجوب وأجاب بأن المدعي إنما هو زوال
الحكم بعد ثبوته سواء لزوال سببه أم لم يكن لأن ذلك معنى
النسخ وهو جواب ضعيف من وجهين:
أحدهما: انه سيأتي في كلامه ان شاء الله
تعلى ان زوال الشيء لزوال سببه أو شرطه ليس بناسخ.
الثاني: انه ان أراد التمييز للنبي صلى
الله عليه وسلم فهو عليه السلام كان عالما بأعيانهم وسماهم
لحذيفة بن اليمان صاحب سره وإن أراد التمييز للصحابة فلا
نسلم حصول التمييز لهم وكيف وقد قيل ما كانت الا ساعة من
نهار حتى نسخت ومن البعيد حصول التمييز في ساعة واحدة بل
الجواب ان الإجماع قد قام على أنها منسوخة كما حكيناه عن
الواحدي وان التمييز لا يحصل في ساعة من نهار كما ذكرناه.
واما قول الإمام في الجواب لو كان ذلك لكان من لم يتصدق
منافقا وهو باطل لأنه روي انه لم يتصدق غير على رضي الله
عنه ويدل عليه قوله تعالى:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} فهو ضعيف لأن عدم الصدقة إنما يدل على النفاق لو وجدت النجوى معه
وذلك لم يوجد لأنه لم يناج أحد من الصحابة بدون التصدق بل
لم يصح أن أحدا ناجاه غير علي رضي الله عنه.
وأما علي فقيل لم يصح انه ناجاه واحتج بذلك على جواز نسخ
الحكم قبل العمل به وهذا يشهد له قوله تعالى:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} إذا
جعلت إذ على بابها والمعنى أنكم تركتم ذلك فيما مضى ولكن
روى ليث عن مجاهد قال قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه
أن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلى ولا يعمل بها
أحد بعدي آية النجوى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية 13.
ج / 2 ص -233-
كان
عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبي صلى الله عليه
وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد
وعلى هذا يجب إخراج إذ عن بابها وإما ان تكون بمعنى إذا
كما قيل في إذا الإعتلال وإما ان تكون بمعنى ان الشرطية
وسواء صح المنقول عن علي أم لم يصح فعدم الصدقة إنما كان
لعدم النجوى فلا يصح الجواب بما ذكره الإمام فإن قلت كيف
لم يعمل غير علي من أكابر الصحابة بالآية قبل نسخها كأبي
بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قلت إن صح أنهم لم يعملوا بها فإما لسرعة نسخها وإما لأنهم
فهموا ان المقصود الكف عن المناجاة تعظيما للرسول صلى الله
عليه وسلم لأن سبب نزول الآية ان المسلمين اكثروا المسائل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه وأراد
الله ان يخفف عن نبيه كذا ذكره حبر الامة ابن عباس رضي
الله عنهما فيكون كفهم عن المناجاة مبالغة في التعظيم فإن
قلت لم لافعل علي رضي الله عنه ما فعلوه مبالغة في
التعظيم.
قلت لعل الضرورة ألجأته الى المناجاة وذلك غير مستبعد لأنه
كان قريب الأقرب وزوج ابنته والعادة تقضي بأن يكون أحوج
الى مناجاته صلى الله عليه وسلم واحتج أبو مسلم بأنه تعالى
وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
فلو نسخ لأتاه الباطل وأجاب المصنف بان الضمير يأتيه عائد
على مجموع القرآن أعني الهيئة الاجتماعية لا الجمعية اعني
كل فرد سواء كان مجتمعا مع غيره أم لم يكن وإذا كان عائدا
الى المجموع لم يكن دليلا على محل النزاع لأن مجموع القرآن
لا ينسخ اتفاقا كما سلف وإنما الكلام في بعضه وفي هذا
الجواب نظر من وجهين.
أحدهما: أنك لم قلت بعوده لمجموعه دون
جميعه ولم لا كان العكس.
والثاني: ان الضمير في يأتيه عائد الى
القرآن والقرآن من الالفاظ المتواطئة يطلق على كله وعلى
بعضه كما تقدم في الحقيقة والمجاز فليس حمله على الكل
بأولى من حمله على البعض.
فإن قلت: ولا حمله على البعض ايضا بأولى من العكس وحينئذ
يبطل
ج / 2 ص -234-
استدلال أبي مسلم بالآية لما ذكر من ان الحمل على واحد
يقتضي الترجيح من غير مرجح.
قلت: الحمل على البعض أولى لوقوع الاتفاق عليه اذ من حمل
على الكل حمل البعض من غير عكس وقد أجاب الإمام بأن المراد
ان هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا
يأتيه من بعده وأجاب غيره بأن النسخ ليس باطلا إذ هو حق
والباطل يضاد الحق فوجب حمل الباطل على غير النسخ وكلا
الجوابين صحيح حسن قال الثالثة يجوز نسخ الوجوب قبل العمل
خلافا للمعتزلة.
كل نسخ على التحقيق فهو واقع قبل الفعل فإنه إنما يرد على
مستقبل الزمان دون ماضيه وهذا واضح وإنما الخلاف في انه هل
يجوز ان يقال صل غدا ركعتين ثم انه ينسخه قبل مجيء الغد
فجوز ذلك الجماهير من أصحابنا وخالفت المعتزلة وكثير من
الحنفية والحنابلة وهذه هي المسألة الملقبة بنسخ الشيء قبل
حضور وقت العمل به والمصنف عبر عنها بنسخ الوجوب قبل العمل
وهذا يوهم اختصاص المسألة بالوجوب وليس كذلك.
والتعبير الأول غير واف بالمقصود ايضا لأنه قد يقال انه لا
يتناول ما إذا حضر وقت العمل به لكنه لم يمض مقدار ما يسعه
وهذه الصورة من صور النزاع وقد يعتذر المعبر بهذه العبارة
بأنه لا يتصور حضور وقت العمل به الا إذا مضى ما يسعه ولو
عبر عنها بنسخ الشيء قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته لتناول
جميع صور النزاع من غير شك وعلى هذا يجوز النسخ بعد مضي
مقدار ما يسعه وان لم يكن قد فعل المأمور به قال الهندي
وفي بعض المؤلفات القديمة أن بعضهم كالكرخي خالف فيه أيضا
وقال لا يجوز النسخ قبل الفعل سواء مضى من الوقت مقدار ما
يسعه أم لم يمض والمصنف أطلق قوله قبل العمل وهو يقتضي ان
الخلاف جار من غير فرق بين الوقت وما قبله وما بعده فأما
قبله وفي معناه ما إذا دخل ولكن لم يمض زمن يسع الفعل فقد
عرفت انه محل النزاع وأما بعد
ج / 2 ص -235-
خروج
الوقت قال الآمدي فقد انفق القائلون بجواز النسخ على
تجويزه وأما وقوع النسخ في الوقت ولكن بعد التمكن من فعله
فقد عرفت انه داخل تحت صور النزاع بما حكاه الهندي عن
الكرخي ولكن صرح ابن برهان في الوجيز في آخر المسألة بأن
النزاع لم يقع في جواز النسخ بعد التمكن من الفعل وإنما
وقع في النسخ قبل التمكن من الفعل وكذلك الآمدي في أثناء
الإستدلال فإنه قال والخلاف إنما هو قبل التمكن لا بعده.
تنبيه: ذكره الهندي اعلم ان كل من قال ان المأمور لا يعلم
كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال يلزمه ان يقول بعدم
جواز النسخ قبل التمكن من الامتثال إذ النسخ قبله على هذا
التقدير تبين ان الامر في نفس الأمر وإن كنا نتوهم وجوده
والنسخ يستدعي تحقق الامر السابق فيستحيل النسخ عند عدمه.
وأما من لم يقل بذلك فجاز ان يقول بجوازه وان لا يقول بذلك
لما يظهر له من دليل يخصه ويتضح عند هذا ان هذه المسألة
ليست فرع تلك المسألة على الإطلاق اعني في الجواز وعدم
الجواز كما وقعت إليه الإشارة في كلام الغزالي بل في عدم
الجواز فقط.
قال لنا ان ابراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل افعل
ما تؤمر ان هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم فنسخ
قبله قيله تلك بناء على ظنه قلنا لا يخطىء ظنه قيل امتثل
فإنه قطع فوصل قلنا لو كان كذلك لم يحتج الى الفدا قيل
الواحد بالواحد في الواحد لا يؤمر وينهي قلنا يجوز
للابتلاء.
استدل أصحابنا على الجواز بالوقوع في قصة الذبيح عليه
السلام قالوا وذلك ان الله تعالى أمر ابراهيم عليه السلام
بذبح ولده ثم نسخ ذلك قبل الفعل أما انه أمره بالذبح
فلثلاثة اوجه.
أحدها: قول ولده:
{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}
جوابا لقوله:
{يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}
فإن قوله ما تؤمر لا بد وان تعود الى شيء وليس ثم غير اني
أذبحك فوجب صرفه إليه.
والثاني: قوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} يدل على أن المأمور به هو الذبح لأن مقدمات الذبح لا توصف بذلك.
ج / 2 ص -236-
فإن
قلت متى لا توصف بذلك مع العلم بعدم وجوب الذبح أو مطلقا
والأول مسلم والثاني ممنوع وهذا لأن الامر باضجاع الولد
واخذ المدية المستفاد من الامر بالذبح مع غلبة الظن بأن
الذبح سيؤمر به بلاء مبين قلت متى غلب على ظنه بشيء فهو
الواقع في نفس الامر إذ هو نبي فلا يخطىء ظنه.
والثالث: قوله تعالى:
{وفديناه بذبح عظيم}1 ولولم يؤمر بالذبح لما احتاج الى الفداء.
وأما كونه نسخ
قبل الفعل فلأنه لو لم ينسخ لذبح ضرورة انه عليه السلام لا يخل بأمر ربه لكنه
لم يذبح فدل على انه نسخ ولم يستدل المصنف على هذا لظهوره
واعترض الخصم أولا بأنا لا نسلم انه كان مأمورا بالذبح
وإنما كان مأمورا بالمقدمات فظن انه أمر به والدلائل التي
تمسكتم بها إنما هي بناء على ظنه.
وأجاب في الكتاب بأن ظنون الأنبياء مطابقة يستحيل فيها
الخطأ واعترض ثانيا بأنا سلمنا انه أمر بذبح لكن لا نسلم
انه نسخ قبل العمل وبيانه ان ابراهيم عليه السلام كان كلما
قطع موضعا من الخلق وتعداه الى غيره أوصل الله تعالى ما
تقدم قطعه.
وأجاب بأنه لو كان كذلك لم يحتج الى الفداء لأن الفداء بدل
والبدل لا يحتاج إليه مع وجود المبدل ولقائل ان يقول لعل
الفداء إنما كان للحياة التي من الله تعالى عليه بها مع
حصول الذبح لا لنفس الذبح واستدل الخصم بأن قوله صل غدا
ركعتين ليس موضوعا إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة
وشرعا.
وقوله لا تصل غدا ركعتين ليس موضوعا إلا للنهي عنها في ذلك
الوقت لغة وشرعا فلو جاز ان يرد الامر بشيء ثم النهي عن
فعله في ذلك الوقت الواحد مأمورا ومنهيا أجاب بان ذلك لا
يستحيل الا إذا كان المقصود حصول الفعل وأما إذا كان الغرض
ابتلاء المأمور أي اختياره وامتحانه فيجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات آية 107.
ج / 2 ص -237-
فإن
السيد قد يقول للعبد اذهب غدا الى موضع كذا ولا يريد الفعل
بل امتحان العبد ليتبين رياضته ثم يقول لا تذهب قلت ولا
يخفى ان هذه الشبهة إنما ترد إذا كان الوجوب قد نسخ
بالتحريم أما إذا نسخ بالجواز فليس الشيء مأمورا به ومنهيا
عنه فان قلت الله تعالى يعلم من يمتثل ممن لا يمتثل
والاختيار إنما يكون مما يستدعي خبرا يستفيد منه ما لم يكن
عالما به قلت المراد إظهار ذلك للخلق والتنبيه بذكر العبد
الممتثل بين العالم.
ألا ترى ان ابراهيم عليه السلام صار له بذلك لسان صدق في
الآخرين وربما ان بعض من كان لا يؤمن به رآه قد بادر الى
امتثال هذا الامر المدبر فصدق به وآمن وعرف انه على الحق
المبين ومنهم من أجاب عن هذه الشبهة بأنه لم يجتمع الامر
النهي في وقت واحد بل بورود النهي انقطع تعلق الامر وذكر
القاضي في مختصر التقريب.
هذا وطريقة أخرى وهي ان نقول كان الرب تعالى قال افعل
الفعل الفلاني تقربا منك الى ما دام الامر متصلا بك فإذا
نهيتك عنه فلا تفعله تقربا الى ولا تقربا الى غيري ليتبين
للعبد انه عند النهي منهي عن قصد التقرب بما أمر به أولا
الى الله تعالى وهو منهي عن اصل فعله ايضا من غير قصد
التقرب.
فائدة الصحيح عن جمهور العلماء ان الذبيح هو إسماعيل عليه
السلام واحتجوا له بأمور كلها ظاهرة غير قطعية واستنبط
والدي رضي الله عنه من القرآن دليلا على ذلك يقارب القطع
أو يقتضي القطع بذلك لم يسبقه إليه أحد وهو ان البشارة
التي وقعت لإبراهيم عليه السلام بالولد من الله تعالى كانت
مرتين مرة في قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى
فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح.
وقوله تعالى:
{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ
يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي
شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية 71.
ج / 2 ص -238-
فقد صرح في هذه الآية ان المبشر به فيها اسحاق ولم يكن سؤال من
ابراهيم عليه السلام بل قالت امرأته أنها عجوز وانه شيخ
وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط
وهو في أواخر أمره واما للبشارة الاولى لما انتقل من
العراق الى الشام حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ولذلك
سأله فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين احدهما
بغير سؤال وهو اسحاق صريحا والثانية قبل ذلك بسؤال وهو
غيره فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح ولا يرد على هذا
قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً}1 ووجه الإيراد ذكر هبة اسحاق بعد الإنجاء لأنا نقول لما ذكر لوطا
واسحاق هو المباشر به في قضية لوط ناسب ذكره ولم يذكره ولم
يكن في الآية ما يدل على التعقيب والبشارة الأولى ولم يكن
للوط فيها ذكر والله أعلم.
واعلم ان هذه الفائدة ليس لها كبير تعلق بما نحن فيه من
الشرح ولكن لما عظم موقعها حسن إيرادها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية 71- 72.
قال الرابعة يجوز النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل كنسخ وجوب تقديم النجوى والكف عن الكفار بالقتال استدل بقوله تعالى
نأت بخير منها قلنا ربما يكون عدم الحكم أو الأثقل خيرا.
المسألة مشتملة على بحثين:
أحدهما: في جواز نسخ الشيء لا إلى بدل ذهب إليه الجمهور.
وخالف فيه قوم من أهل الظاهر. وكذلك المعتزلة كما قال
القاضي في مختصر التقريب واستدل الجمهور بأن وجوب تقديم
الصدقة بين يدي مناجاته عليه السلام نسخ بلا بدل واعلم ان
الأصوليين صدروا المسالة بالخلاف في الجواز وهذا الدليل
يدل على انهم يختارون الوقوع وهو صحيح إذ الظاهر ان نسخ
الصدقة قبل النجوى لا إلى بدل وقول من قال وجوب الزكاة هو
الناسخ وهو البدل ضعيف من وجهين.
أحدهما: أنه تعالى قال:
{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
ج / 2 ص -239-
الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلو كانت الزكاة ناسخة لزم مساواة الصلاة والطاعة لها وأقام
الصلاة وطاعة الله ورسوله واجبان قبل ذلك.
وثانيها: أنه يحتاج الى نقل التاريخ في ذلك وهو يعيد بل
الظاهر انه لما نسخ عنهم وجوب الصدقة أمروا بلزوم الواجبات
التي هي عليهم باقية تنبيها على أنها هي ذروة الامر وسنامه
واستدل القاضي في مختصر التقريب على تجويز نسخ الشيء لا
الى بدل بانا يجوز ارتفاع التكليف عن المخاطبين جملة فلأن
يجوز ارتفاع عبادة بعينها لا الى بدل أولى قال والمخالفون
في ذلك وهم المعتزلة لا يجوزون ارتفاع التكليف فلهذا
خالفونا في هذه المسألة فهذا هو مثار الخلاف في هذه
المسألة.
فائدة: قال الشافعي في الرسالة في ابتداء الناسخ والمنسوخ
وليس بنسخ فرض أبدا الا اثبت مكانه فرض كما نسخت قبله بيت
المقدس فأثبت مكانها الكعبة انتهى وظاهر هذه العبارة انه
لا يقع النسخ الا ببدل وليس ذلك مراده بل هو موافق
للجماهير على ان النسخ قد يقع بلا بدل وانما أراد الشافعي
بهذه كما نبه عليه أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة انه
ينقل من حظر الى إباحة أو إباحة الى حظر وتخيير على حسب
أحوال الفروض قال ومثل ذلك مثل المناجاة كان يناجي النبي
صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقه ثم فرض الله تقديم
الصدقة ثم أزال ذلك فردهم الى ما كانوا عليه فان شاءوا
وتقربوا بالصدقة الى الله وان شاءوا ناجوه من غير صدقة قال
فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فتفهمه انتهى وهذا لا
يخالفه فيه الأصوليون فانهم يقولون إذا نسخ الامر بقوله
رفعت الوجوب أو التحريم مثلا عاد الامر الى ما كان عليه
وهو حكم أيضا.
البحث الثاني: يجوز عند الجمهور نسخ الشيء والإتيان ببدل
اثقل منه وخالف بعض أهل الظاهر قال ابن برهان في الوجيز
ونقل ناقلون ذلك عن الشافعي وليس بصحيح وانتهى وليس بصحيح
عنه.
ومنهم من أجاز ذلك عقلا ومنع منه سمعا لنا ان الكف عن
الكفار كان واجبا بقوله تعالى
{ودع أذاهم}
ونحوه ثم نسخ بإيجاب القتال وهو أثقل أي
ج / 2 ص -240-
أكبر
مشقة واستدل الخصم على منعها أعني النسخ بلا بدل والنسخ
ببدل أثقل بقوله تعالى:
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فدل على أنه لا بد أن يأتي بالبدل وهو المدعي أولا وعلى ان البدل
منحصر في الأول والمساوي وهو المدعي ثانيا وأجاب بأن عدم
الحكم قد يكون خير للمكلف منه في ذلك الوقت واعترض الهندي
على هذا بان العدم الصرف لا يوصف بقوله نأت لأن ما أتى به
فهو شيء وهو صحيح الا ان نقول النسخ يزيل الحكم ويعيد
الامر الى ما كان عليه فكان مشتملا على الإتيان بالحكم
الذي كان من قبل ومن هذا يظهر انه أتى بشيء.
وهذا إنما استفاد من كلام الصيرفي والأصل فيه كلام الشافعي
رضي الله عنه وهذا تقرير الجواب عنهم قولهم لا يكون النسخ
الا ببدل والقاضي في مختصر التقريب قال الجواب عن هذه
الآية هذا إخبار عن أن النسخ يقع على هذا الوجه وليس فيه
ما يدل على انه لا يجوز وقوع النسخ على غير هذا الوجه.
قال هذا واضح عند التأمل.
قلت: وهذا من القاضي يفهم ان محل الخلاف في الجواز وانه
يسلم ان النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه وهذا ما اقتضاه
كلام الآمدي في آخر المسالة إذ قال ان سلم امتناع وقوع ذلك
شرعا لكنه لا يدل على عدم الجواز العقلي وقد قدمنا ان
الاستدلال بآية النجوى يدل على ان الخلاف في الوقوع ايضا
وبذلك صرح الهندي إذ قال الآية وان لم تدل الا على عدم
الوقوع فذلك كاف لأنه إذا ثبت عدم الوقوع ثبت عدم الجواز
لأن كل من يقول بالجواز قال بالوقوع فالقول بعدم الوقوع من
الجواز قول لم يقل به أحد والأظهر ان ما قال بالجواز قال
بالوقوع كما ذكره الهندي وكلام الآمدي إنما هو على سبيل
النزل إذ صدر المسالة بالجواز وقد صرح الآمدي بدليلين وقال
احدهما يدل على الجواز العقلي والثاني على الجواز الشرعي
وكلام القاضي ليس بالصريح في ذلك ان قال بعد ذلك أو يقول
يعني في الجواز.
قوله ما ننسخ من آية يحمل على بعض الأحكام دون بعض قال
ويقوى ذلك على منع صيغ العموم قلت ومن هنا يؤخذ من كلام
القاضي أن النكرة في
ج / 2 ص -241-
سياق
الشرط تعم كما قدمناه في باب العموم عن امام الحرمين لقوله
ويقوى ذلك على منع صيغة العموم ومفهوم هذا انه لا يقوى عند
تسليمها واما الجواب عند استدلالهم بقوله بخير منها أو
مثلها على ان البدل منحصر في الأخف والمساوي.
فقد أجاب في الكتاب عنه بقوله أو الأثقل خيرا يعني ان
الخير يصدق على ما هو اجزل ثوابا وأصلح لنا في المعاد وإن
كان أثقل في الحال ومن الخصوم من استدل بقوله:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}1 واقتصر المتأخرون في الجواب عن الاستدلال بهذه الآية على قولهم ان
ذلك محمول على اليسر في الآخرة ومناسب هذا الجواب والحق في
الجواب عن ذلك ما ذكره القاضي في مختصر التقريب من ان ذلك
إنما ورد في مخاطبة المرضى من المسلمين لما خفف الصيام
عنهم ولا تعلق له بمسألتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 185.
قال الخامسة ينسخ الحكم دون التلاوة
مثل قوله تعالى:
{مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ}
آية وبالعكس مثل ما نقل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة
وينسخان معا كما روي عن عائشة قالت كان فيما انزل عشر
رضعات معلومات فنسخن بخمس
يجوز نسخ الحكم دون التلاوة وبالعكس
ونسخهما معا وخالف في ذلك كله بعض الشاذين واستدل في
الكتاب لكل من الصور بالوقوع أما نسخ الحكم دون التلاوة
فكنسخ الاعتداد بالحول من قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} بقوله:
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً} وقد سبق الكلام في آية الحول فكان الأولى التمثيل بغير هذه الآية
المختلف في أنها هل هي منسوخة والآيات في هذا القسم كثيرة
وأما عكسه اعني نسخ التلاوة دون الحكم فكما روى سعيد بن
المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال إياكم أن تهلكوا
عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حديثا في كتاب الله فلقد
رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده لولا
أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها رواه الشافعي
وهذا لفظه
ج / 2 ص -242-
وروى
الترمذي نحوه والبخاري ومسلم ما يقرب منه وروى النسائي عن
أبي أمامة اسعد بن سهل بن حنيف عن خالته قالت لقد أقرأناها
رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم والشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البته بما قضينا من لديهما وإسناده جيد
والمراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة قلت وأنا لا يبين
لي معنى قول عمر رضي الله عنه لولا ان يقول الناس زاد عمر
في كتاب الله لكتبتها إذ ظاهر هذا ان كتابتها جائزة وإنما
منعه من ذلك قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما
يمنعه.
وإذا كانت كتابتها جائزة لزم ان تكون التلاوة باقية لأن
هذا شأن المكتوب وقد يقول القائل في مقابلة هذا لو كانت
التلاوة باقية لبادر عمر رضي الله عنه الى كتابتها ولم
يعرج على مقال الناس لأن مقال الناس لا يصلح مانعا من فعل
هذا الواجب وبالجملة لا يبين لي هذه الملازمة اعني لولا
قول الناس لكتبت ولعل الله ان ييسر علينا حل هذا الأثر
بمنه وكرمه فانا لا نشك في ان عمر رضوان الله عليه إنما
نطق بالصواب ولكنا نتهم فهمنا واما نسخهما معا فكما روي عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما انزل عشر رضعات
معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ
من القرآن رواه مسلم ونحن نعلم انه ليس في القرآن اليوم
وان حكمه غير ثابت وقد تكلم العلماء في قولها وهي فيما
يقرا من القرآن فإن ظاهره يقتضي ان التلاوة باقية وليس
كذلك فمنهم من أجاب بان المراد قارب الوفاة والأظهر في
الجواب ان التلاوة نسخت ايضا ولم يبلغ ذلك كل الناس الا
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس
يقرأها فيصدق انه توفي وهي فيما يقرأ.
واعترض الهندي بأن ثبوت نسخ تلاوة ما هو من القرآن وحكمه
يتوقف على كونه من القرآن وكونه من القرآن لا يثبت بخبر
الواحد فلا يثبت به تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معا قلت
والاعتراض وارد ايضا في منسوخ التلاوة دون الحكم فلا ينبغي
ان يقصره على هذا القسم ثم قال الهندي ممكن ان يجاب بان
القرآن المثبت بين الدفتين هو الذي لا بد في نقله من
التواتر وأما المنسوخ فلا نسلم أنه لا يثبت بخبر الواحد
سلمنا لكن الشيء قد يثبت ضمنا بما لا يثبت به استقلالا كما
قال بعض الأصوليين
ج / 2 ص -243-
إذا
قال الصحابي في أحد الخبرين المتواترين إنه كان قبل الآخر
قبل ولزم منه نسخ المتأخر وان لم يقبل قوله في نسخ المعلوم
ولقائل ان يقول لا يندفع السؤال بواحد من الجوابين أما
الأول فأنا لا نعقل كونه منسوخا حتى نعقل كونه قبل ذلك من
القرآن وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد قلنا وقوله لا
نسلم ان القرآن المنسوخ لا يثبت بخبر الواحد لأن نسخه لا
يكون الا بعد ثبوت كونه من القرآن ثم يرد النسخ بعد ذلك
متأخرا في الزمان فيصدق إثبات قرآن غير منسوخ بخبر الواحد
ثم إثبات نسخه بخبر الواحد ويوضح هذا ان قول الراوي كانت
الكلمة الفلانية من القرآن ثم نسخت تلاوة وحكما في قوة
خبرين احدهما أنها من القرآن ثم نسخت تلاوة وحكما في قوة
خبرين احدهما أنها من القرآن والثاني أنها منسوخة وكلا
الخبرين لا يكفي فيه خبر الواحد واما الثاني ففيما نحن فيه
لم يتعارض وليلان وفيما استشهد به تعارض دليلان فلذلك
رجحنا في موضع التعارض بمرجح ما وهو قول الصحابي هذا متقدم
وإنما الذي يظهر في الجواب عن هذا السؤال أن زماننا هذا
ليس زمان النسخ وفي زمان النسخ لم يقع النسخ بخبر الواحد.
فرع: قال الآمدي هل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية ان يمسها
المحدث ويتلوها الجنب تردد فيه الأصوليون والأشبه المنع من
ذلك قلت الخلاف وجهان لأصحابنا والصحيح جواز المس والحمل
وقول الآمدي ان المنع أشبه ممنوع وذكر الرافعي في أول باب
خلافه حد الزنا ان القاضي ابن كج حكى عن بعض الأصحاب وجها
انه قرأ قارىء آية الرجم في الصلاة لم تفسد والصحيح خلافه.
قال السادسة يجوز نسخ الخبر المستقبل خلافا لأبي هاشم لنا انه يحمل ان يقال لأعاقبن الزاني أبدا ثم يقول
أردت سنة قيل يوهم الكذب قلنا ونسخ الامر يوهم البداية.
هذه المسالة في نسخ الأخبار والنسخ أما ان يكون لنفس الخبر
أو لمدلوله وثمرته فإن كان الأول فأما ان تنسخ تلاوته أو
تكليفنا بالأخبار به إذا كنا قد كلفنا بأن نخبر بشيء فهذان
جائزان من غير نزاع سواء كان ما نسخت
ج / 2 ص -244-
تلاوته
ماضيا أو مستقبلا وسواء كان مما لا يتغير كالأخبار بوجود
الله تعالى وحدوث العالم أو كالأخبار بكفر زيد وإيمانه لأن
جميع ذلك حكم من الأحكام الشرعية فجاز كونه مصلحة في وقت
ومفسدة في آخر لكن هل يجوز ان ينسخ تكليفنا بالاخبار عما
لا يتغير تكليفنا بالاخبار بنقيضه قال الآمدي قالت
المعتزلة لا يجوز لأنه كذب والتكليف به قبيح وهذا مبني على
قاعدة الحسن والقبيح الباطلة عندنا وعلى هذا فلا مانع من
التكليف بالخبر بنقيض الحق هذا كلام الآمدي ولا يقال عليه
ان الكذب نقض ونحن نوافق على ان قبحه عقلي لأنا نقول هو في
هذه الصورة نقص في المكلف بفتح اللام وهو المخير لا المكلف
بكسرها وهو الله تعالى الآمر بالأخبار ويجوز التكليف بما
هو نقص في حق العبد لأن له تعالى ان يفعل ما يشاء واما ان
كان النسخ لمدلول الخبر فإن كان لا يتغير فلا خلاف في
امتناع نسخه وان كان مما يتغير فهي مسإلة الكتاب ومذهب
اكثر المتقدمين منهم أبو هاشم فيها المنع سواء كان الخبر
ماضيا أو مستقبلا أو وعيدا أو خبرا عن حكم كالخبر عن وجوب
الحج واختاره ابن الحاجب وقال عبد الجبار وأبو عبد الله
وأبو الحسين والإمام والآمدي يجوز مطلقا وفصل بعضهم.
فقال ان كان مدلوله مستقبلا جاز وإلا فلا وهذا هو الذي
اختاره المنصف وليعلم ان محل الخلاف فيما إذا لم يكن بمعنى
الامر أو النهي كقوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وقوله:
{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
فإن هذا يجوز نسخه ولا نعرف فيه خلافا ولا يتجه لأنه بمعنى
الأمر والنهي قال الهندي وما نقل الإمام وغيره من الخلاف
في الخبر عن حكم شرعي ليس هو هذا لأن ذلك محمول على ما هو
خبر في هذا اللفظ والمعنى مدلوله حكم شرعي وما نحن فيه ليس
الا صيغة الخبر استعملت في الامر على وجه التجوز فهو في
معنى الامر ونحن على جزم بأن الصيغة لا مدخل لها في تجويز
النسخ وعدمه فهو في معنى الامر وقد استدل المصنف على ما
اختاره بأنه يصح ان يقال لأعاقبن الزاني أبدا ان لا يلزم
من وقوعه محال ثم يقال أردت سنة واحدة ولا نعنى بالنسخ الا
هذا فإن النسخ إخراج بعض الزمان وهو موجود هنا واستدل
المانع بأن نسخه يوهم
ج / 2 ص -245-
الكذب
إذ المتبادر منه الى الفهم ليس الا استيعاب المدة المخبر
بها وإيهام الكذب قبيح أجاب بأن نسخ الأمر ايضا يقتضي ان
يظن الظان ظهور الشيء بعد خفائه أي فلو امتنع نسخ الخبر
للإيهام لامتنع نسخ الأمر ولا قائل به من المنازعين في هذه
المسألة هذا ما في الكتاب والحق في المسألة ما ذكره القاضي
في مختصر التقريب من بناء المسألة على ان النصح بيان أو
رفع فمن قال بالأول جوز ذلك فقال إذا اخبر الله سبحانه عن
ثبوت شريعة فيجوز ان يخبر بعدها فيقول أردت ثبوتها بأخباري
الأول الى هذا الوقت ولم أرد أولا الا ذلك وهذا لا يقضي
الا تجويز خلف ولاوقوع خبر بخلاف مخبر وأما من قال بالثاني
كالقاضي فلا يجوز ذلك كيف ونسخ الخبر حينئذ يستلزم الكذب
قطعا لأن الخبر ان كان صادقا كان الناسخ المقتضي رفع بعض
مدلوله كاذبا ضرورة أنه صدق وإلا فهو كاذب وبهذا يظهر لك
ان من وافق القاضي على ان النسخ رفع لا يحسن منه الذهاب
إلى تجويز نسخ الأخبار.
ج / 2 ص -247-
الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ
قال الفصل
الثاني في الناسخ والمنسوخ:
وفيه مسائل
الأولى الأكثر على جواز نسخ الكتاب بالنسبة
كنسخ الجلد في حق المحصن وبالعكس كنسخ القبلة وللشافعي رضي
الله عنه قول بخلافها دليله في الأول قوله تعالى:{نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا}بأن
السنة وحي ايضا وفيهما بقوله لتبين للناس وأجيب الأول بان
النسخ بيان وعورض الثاني بقوله تبيانا.
المراد هنا بالناسخ والمنسوخ ما ينسخ وما ينسخ به من
الأدلة اعلم انه يجوز نسخ الكتاب به والسنة المتواترة بها
والآحاد بمثله وبالمتواتر وأما نسخ الكتاب بالسنة والسنة
بالكتاب فالجمهور على جوازه ووقوعه وذهب ابن سريح كما نقل
القاضي عنه في مختصر التقريب الى جائز ولكن لم يرد وذهب
قوم الى امتناعها ونقل عن الشافعي رضي الله عنه وقد استنكر
جماعة من العلماء ذلك من الشافعي حتى قال الكيا الهراسي
هفوات الكبار على أقدارهم ومن عن خطأوه عظم قدره وقد كان
عبد الجبار بن احمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول
والفروع فلما وصل الى هذا الموضع قال هذا الرجل كبير لكن
الحق اكبر منه قال والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا
القول لا يليق بعلو قدره كيف وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه
وأول من أخرجه قالوا لا بد وان يكون لهذا القول من هذا
العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها وأورد الكيان بعضها
واعلم انهم صعبوا أمرا سهلا وبالغوا في غير عظيم وهذا ان
صح عن الشافعي
ج / 2 ص -248-
فهو
غير منكر وان جبن جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب
فذلك لا يوجب ضعفه.
ولقد صنف شيخ الدنيا الشيخ الجليل أبو الطيب سهل بن الإمام
الكبير المتفق على جلالته وعظمته وبلوغه في العلم المبلغ
الذي يتضاءل عنده جماعة من المجتهدين أبي سهل الصعلوكي
كتابا في نصرة هذا القول وكذلك الأستاذان الكبيران أبو
اسحق الاسفرايني وتلميذه أبو منصور البغدادي وهما من أئمة
الأصول والفقه وكانا من الناصرين لهذا الرأي قال القاضي في
مختصر التقريب.
واختلف الذين منعوا نسخ القرآن بالسنة فمنهم من منعه عقلا
ومنهم من قال يجوز سمعا وانما امتنع بأدلة السمع.
قال القاضي وهذا هو الظن بالشافعي مع علو مرتبته في هذا
الفن ومنهم من نقل للشافعي في كل من نسخ الكتاب بالسنة
وعكسه قولين وهو ما أورده في الكتاب والرافعي حكى في باب
الهدية وجهين في نسخ السنة بالقرآن أو قولين التردد منه.
قال وينسب المنع الى اكثر الأصحاب فإن جرى الخلاف في نسخ
السنة بالقرآن فليكن من العكس بطريق أولى.
وقال امام الحرمين قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا ينسخ
بالسنة وتردد في قوله في نسخ السنة بالكتاب قلت وهنا هو
الذي قاله في الرسالة فانه قال في باب ابتدأ سمي الناسخ
والمنسوخ ما نصه ولا ينسخ كتاب الله الا كتابه كما كان
المبتدي بفرضه فهو المزيل المثبت لما شاء منه جل ثناؤه ولا
يكون ذلك لأحد من خلقه انتهى.
ثم قال ما نصه وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
ينسخها إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أحدث
الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم لسن فيما حدث الله إليه حتى يبين للناس أن
له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها انتهى ومن صدر هذا
الكلام أخذ من نقل عن الشافعي رحمه الله أن
ج / 2 ص -249-
النبي
صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة ثم انزل الله في كتابه ما
ينسخ ذلك الحكم فلا بد ان يسن النبي صلى الله عليه وسلم
سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الاولى لتقوم الحجة على
الناس في كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ولا تكون سنة منفردة
تخالف الكتاب.
وقوله ولو احدث الله الى آخره صريح في ذلك قوله بعد ذلك ما
نصه فان قال هل تنسخ السنة بالقرآن قيل له لو نسخت السنة
بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم سنة تبين ان سنته
الاولى منسوخة لسنة الأخيره حتى تقوم الحجة على الناس بأن
الشيء ينسخ بمثله انتهى.
وكذلك ما ذكره بعد ذلك في باب جمل الفرائض التي احكم الله
فرضها بكتابه وبين كيف فرضها على لسان نبيه صلى الله عليه
وسلم فإنه قال لما تكلم على صلاة ذات الرقاع ما نصه.
وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل في هذا الكتاب من ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة فأحدث الله في تلك
السنة نسخا أو مخرجا الى سنة منها سن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بسنة تقوم الحجة على الناس بها حتى يكونوا إنما
صاروا من سنته الى سنته التي بعدها انتهى.
فهذا هو معنى القول المنسوب الى الشافعي أعني انه لا بد ان
يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنة أخرى واكثر الأصوليين
الذين تكلموا في ذلك لم يفهموا مراد الشافعي وليس مراده
الا ما ذكرناه.
واستدل المصنف على كون السنة المتواترة تنسخ الكتاب بان
النبي صلى الله عليه وسلم رجم المحصن مع شمول آية الجلد له
وفيه نظر فإن هذا تخصيص والمصنف قد ذكره بعينه مثالا
لتخصيص الكتاب بالسنة ثم إنه ثابت بالقرآن الذي نسخت
تلاوته وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما.
واستدل على أن الكتاب ينسخ السنة بأن التوجيه الى بيت
المقدس كان ثابتا بالسنة ثم نسخ بقوله تعالى:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}1 قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية 144.
ج / 2 ص -250-
دليله
في الاول أي دليل الشافعي في امتناع نسخ الكتاب بالسنة
قوله تعالى:
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقد استدل بها الشافعي رحمه الله في الرسالة ويمكن تقرير وجه
الدلالة منها بطريقين.
أحدهما: أنه تعالى اسند للأنبياء بالخبر
أو المثل الى نفسه وانما يكون ذلك إذا كان الناسخ القرآن.
والثاني: أنه تعالى قال نأت بالخبر أو
المثل والسنة ليست خيرا من الكتاب ولا مثله فدل على ان
الإتيان إنما هو بالقرآن.
والجواب ان السنة منزلة إذ هي حاصلة بالوحي كقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} فالآتي بها هو الله واما الخبر أو المثل فالمراد بهما الأكثر ثوابا
والمساوي ودليل الشافعي فيهما اي في نسخ الكتاب بالسنة وفي
عكسه قوله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}1 فإما نسخ الكتاب بالسنة فلأن الآية دلت على ان السنة تبين جميع
القرآن بدليل قوله:
{مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فلو
كانت ناسخة كانت رافعة لا مبينة.
وأما نسخ السنة بالكتاب فلأنها تدل على ان السنة تبين
القرآن فلو كان القرآن ناسخا بالسنة لكان القرآن بيانا
للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر أجيب عن الأول
بأن النسخ لا ينافي البيان بل هو عينه بناء على بيان
انتهاء الحكم وعن الثاني بقوله تعالى في صفة القرآن تبيانا
لكل شيء فإنه يقتضي ان يكون الكتاب تبيانا للسنة كما في
قوله لتبين يقتضي أن تكون السنة مبينة للكتاب فلما تعارض
مقتضاهما لم يكن الاستدلال بواحد منهما ارجح من عكسه وفي
الاستدلال بقوله لتبين على المقامين معا نظر آخر لأن
البيان ان لم يكن مغايرا للنسخ لم يتجه الاستدلال به على
امتناع نسخ الكتاب بالسنة وإن كان مغايرا لم يتجه ان يستدل
به على العكس وأورد القرافي عل الشافعي بأن قوله تعالى:
{مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} عام في الكتاب وفي السنة لأن السنة منزلة ايضا فقد يفهم ان الآية
انه عليه السلام يبين القرآن والسنة بغيرهما وهو خلاف
الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سةرة النحل آية 44.
ج / 2 ص -251-
فما
تدل عليه الآية وقد يجاب عن هذا بأن الآية إنما تدل على
أنه بينهما لا تعارض لها للمبين به ولعل المبين به منهما
أو من احدهما على ان هذا كله خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية
وسياقها فان المفهوم منها ان التبيين هو التفهيم لا النسخ.
نسخ المتواتر بالآحاد
قال لا ينسخ
المتواتر بالآحاد لأن القاطع لا يدفع بالظن قيل لا أجد
منسوخا بما روي انه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من
السباع قلت لا أجد للحال فلا نسخ.
نسخ المتواتر بالآحاد جائز في النقل ونقل قوم الاتفاق على
ذلك وليس بجيد فقد حكى القاضي في مختصر التقريب عن بعضهم
انه ذهب الى منع ذلك عقلا وعبارة المصنف وهكذا ابن الحاجب
توهم ان الخلاف فيه وعلى ذلك جرى الجار بردي في شرحه وهو
صحيح لما حكاه القاضي الا انه ليس مقصود المصنف غير الجواز
السمعي بدليل انه اختار انه لا ينسخ ولو نصب المسألة في
الجواز العقلي لكان الظن به ان لا يختار ذلك وإذا عرفت
وقوع الاختلاف في الجواز فاعلم ان الجماهير وان قالوا
بالجواز الا انهم اختلفوا في الوقوع فذهب الأكثرون الى انه
غير واقع وذهب جماعة من أهل الظاهر الى وقوعه وفصل القاضي
في مختصر التقريب والغزالي بين زمان الرسول وما بعده فقالا
بوقوعه في زمانه عليه السلام دون ما بعده.
ونقل القاضي اجماع الامة على منعه بعد الرسول صلى الله
عليه وسلم قال وإنما اختلفوا في زمانه وكذا امام الحرمين
قال اجمع العلماء على ان الثابت قطعا لا ينسخه مظنون ولم
ينقرض لزمان الرسول صلى الله عليه وسلم.
واعلم ان المراد المتواتر في هذه المسألة القرآن والسنة
المتواترة واستدل المصنف على المنع بأن المتواتر قطعي وخبر
الواحد ظني والظني لا يعارض القطعي لأن ترجيح الأضعف على
الأقوى غير جائز وهذا الدليل إنما يتمشى إذا كان
ج / 2 ص -252-
محل
النزاع في الجواز العقلي كذا اعترض به الهندي ظنا منه وقوع
الاتفاق على انه يجوز عقلا فإنه ممن نقل الاتفاق عليه.
وقد عرفت انه محل خلاف الا انا نقول قد قررنا ان المصنف
إنما تكلم في الوقوع ودليله هذا يقتضي عدم الجواز وهو لا
يقول به فيكون منقوضا ثم أنه ضعيف من اوجه أخر:
أحدها: ما ذكره القاضي في مختصر التقريب
من انا نقول وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به فما يضرنا
التردد في اصل الحديث مع انا نعلم قطعا وجوب العمل به فكان
صاحب الشريعة قال إذا نقل من ظاهره العدالة فاقطعوا بأن
حكم الله تعالى عليكم العمل بظاهره وصدق الناقل.
والثاني: انا لا نسلم ان المقطوع لا يدفع
بالمظنون الا ترى ان انتفاء الأحكام قبل ورود الشرائع
مقطوع به عندنا وثبوت الحظر أو الإباحة مقطوع به عند آخرين
ثم إذا نقل خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحادا يثبت
العمل به ويرتفع ما نقرر قبل ورود الشرائع ذكره القاضي
أيضا.
والثالث: أنا مهما جوزنا نسخ النص بخبر
الواحد فلا نسلم مع ورود خبر الواحد كون النص مقطوعا به
فإنا لو قلنا ذلك لزمنا ان نقطع بكذب الراوي وهذا ما لا
سبيل إليه ذكره القاضي ايضا ومراده ان المقطوع به إنما هو
اصل الحكم لا دوامه والنسخ لم يرد على اصل الحكم وانما قطع
دوامه ومنهم من ضعف هذا الدليل بوجهين آخرين.
أحدهما: منع لزوم ترجيح الأضعف على الأقوى
وسنده ان الكتاب والسنة المتواترة وان كان مقطوعي المتن
لكنهما مظنونا الدلالة وخبر الواحد بالعكس لكونه خاصا
فتعادلا بل خبر الواحد الخاص أقوى دلالة على مدلوله لأن
تطرق الضعف إلى مدلول الخبر الواحد الخاص إنما هو احتمال
الكذب والغلط وتطرق الضعف الى مدلول الكتاب العام إنما هو
من جهة تخصيصه وارادة بعض مدلولاته دون بعض ومعلوم ان تطرق
التخصيص الى العام اكثر من تطرق الكذب والغلط الى العدل
المتحفظ وضعفه الشيخ صفي الدين الهندي بأنه ليس
ج / 2 ص -253-
من شرط
المنسوخ من الكتاب والسنة المتواترة ان يكون عاما وناسخه
من خبر الواحد خاصا حتى يتأتى ما ذكر بل قد يكون عامين أو
خاصين والمنسوخ خاصا والناسخ عاما على رأي من يرى ان العام
المتأخر ينسخ الخاص المتقدم.
وإذالم يتأت ما ذكر من المنع لزم ترجيح الأضعف على الأقوى
فلم يجز النسخ في هذه الصور وإذا لم يجز في هذه الصور ولم
يجز في تلك الصورة لعدم القائل بالفصل في ولا تعارض بمثله
بان يقال إذا جاز النسخ في تلك الصورة لتساويهما جاز في
هذه الصورة لعدم القائل بالفصل لأن إلحاق الفرد بالأكثر
أولى ولأن تحقق المفسدة فى صور عديده اشد محذورا من تحققها
في صوره واحدة.
وثانيهما: النقض يجوزان تخصيصهما به
ولقائل ان يقول التخصيص أهون فلا يلزم من جوازه جواز النسخ
وأيضا فالتخصيص لا يلزم منه ترجيح الأضعف على الأقوى لما
ذكر من المعنى فلا يلزم النقض واستدل الخضم بقوله تعالى:
{قُلْ لا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}1 الآية فإنه يقتضي حصر التحريم فيما ذكر في الآية وقد نسخ ذلك بما
روت الأئمة الستة من نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي
ناب من السباع فقد نسخ الكتاب بعد هذا الخبر الظني وأجاب
في الكتاب بأن الآية إنما دلت على الرسول صلى الله عليه
وسلم لم يجد في ذلك الوقت من المحرم الا الأربعة المذكورة
في الآية ولذا قال أوحى بلفظ الماضي وبقي ما عداها على
الأصل الحل ونهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب وجد
بعد ذلك فلا نسخ لأن الآية دلت الحال ولم تتعرض للاستقبال
والحديث إنما دل على الاستقبال ولو قدر تناول الآية
للاستقبال فالحديث مخصص لعموم ليس غير هذه الاربعة بمجرد
وهو عموم المفهوم من حصر التحريم في الاربعة بناء على ان
للمفهوم عموما وحينئذ فهو مخصص لا ناسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية 145.
قال الثالثة الاجماع لا ينسخ لأن النص يتقدمه ولا ينعقد الاجماع ولا ينسخ به أما النص والإجماع
فظاهران وأما القياس فلزواله بزوال شرطه.
ج / 2 ص -254-
هذه
المسألة تشتمل على بحثين:
الأول: في ان الحكم الثابت بالاجماع لا
ينسخ وان الحكم الثابت باجماع هذا هو رأي الجماهير اعني ان
الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وبه جزم في الكتاب ودليله انه
لو انتسخ لكان انتساخه إما بالكتاب والسنة أو الاجماع أو
القياس والكل باطل أما بطلانه بالأوليين فلأن نص الكتاب
والسنة متقدم على الاجماع لأن جميع النصوص متلقاة من النبي
صلى الله عليه وسلم ولا ينعقد الاجماع في زمنه لأنهم ان
اجمعوا دونه لم يصح وان كان معهم أو علم بهم وسكت فالعبرة
بقوله أو تقريره واما بالاجماع فلاستحالة انعقاده على خلاف
الاجماع للزوم خطا أحد الاجماعين والى هذا أشار بقوله ولا
ينعقد الاجماع بخلافه واما القياس فلأن شرط صحته ان لا
يخالف الاجماع فإذا قام القياس على خلاف الاجماع لم يكن
معتبرا لزوال شرطه واما ان الاجماع لا ينسخ به فلأن
المنسوخ به إما النص أو الاجماع او القياس والأولان باطلان
لما عرفت وكذا القياس لزواله بزوال شرطه كما عرفت أيضا
وأعلم أن ما ذكرناه من أن الإجماع لا ينعقد في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم هو ما ذكره الأصوليون على طبقاتهم
القاضي في مختصر التقريب لمن بعده ولقائل ان يقول إذا كانت
الأمة لا تجتمع على خطا انعقد الإجماع بقولها ولا سيما إذا
جوزنا الاجتهاد في زمانه وهو الصحيح فلعلهم اجتهدوا في
مسألة واجمعوا عليها ولم يعلم هو صلى الله عليه وسلم بهم
والامام وان جرى هنا على ما ذكره الأصوليون من ان الاجماع
لا ينعقد في زمانه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر ما يناقضه
بعد ذلك.
قال والقياس إنما ينسخ مقياس أجلي منه.
البحث الثاني: في نسخ القياس والنسخ به
وقد اختلفوا في ذلك والذي ذهب إليه المصنفون ان القياس
إنما ينسخ بقياس اجلي من القياس الأول وأظهر ويعرف قوة أحد
القياسين بما سيأتي ان شاء الله في ترجيح الأقيسة وإنما
حصر الذي ينسخ في القياس الأجلي دون غيره لأن غيره أما نص
أو إجماع ويمتنع النسخ بهما لزوال شرطه حينئذ كما تقدم
واما قياس مساو للأول ويمتنع الترجيح من غير مرجح واما
قياس أخفى ويمتنع لتقديم المرجوح على الراجح فقد تحرر من
كلام المصنف هذا ان القياس قد يكون منسوخا وقد يكون ناسخا
لأن
ج / 2 ص -255-
في نسخ
القياس بالقياس ذلك ومنهم من منع نسخه والنسخ به مطلقا
ومنهم من جوز نسخه بسائر الأدلة ونسخ جميع الأدلة وقال
الإمام نسخ القياس إما ان يكون في زمان حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم وبعد وفاته فإن كان حال حياته فلا يمتنع
رفعه بالنص والإجماع والقياس أما بالنص فبأن ينص الرسول
صلى الله عليه وسلم في الفرع على خلاف الحكم الذي يقتضيه
القياس بعد استقرار التعبد بالقياس.
واما بالاجماع فلأنه ان اختلفت الامة على قولين قياسا ثم
اجمعوا على أحد القولين رافعا لحكم القياس الذي اقتضى
القول واما بالقياس فبأن ينص في صورة بخلاف ذلك الحكم
ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع ويكون إمارة عليتها
أقوى من امارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول
ويكون كل ذلك بعد التعبد بالقياس الأول.
وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز نسخه
في المعنى وان كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ أما بالنص
إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم نظفر بشيء أصلا ثم
اجتهد فخرج شيئا بالقياس ثم ظفر بعد ذلك بنص أو اجماع أو
قياس أقوى من القياس الأول على خلافه فان قلنا كل مجتهد
مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم الأول من القياس لكنه لا
يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط ان لا
يعارضه شيء من ذلك وان قلنا المصيب واحد لم يكن القياس
الأول معتدا به فلم يكن النص الذي وجده آخر ناسخا لذلك
القياس واما ان يكون القياس ناسخا فهو أما ان ينسخ كتابا
أو سنة أو اجماعا أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة
بالإجماع.
واما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم الكلام فيه
هذا كلام الإمام قال صاحب التحصيل ولقائل ان يقول في هذه
الاقسام نظر فليتأمله الناظر وما ذكره صاحب التحصيل صحيح
فان النظر من أوجه.
أحدها: قوله يجوز نسخ القياس حال حياة
النبي صلى الله عليه وسلم بالاجماع يناقض قوله قبل ذلك أن
الاجماع لا ينعقد في زمنه وأنه يمتنع نسخ القياس به أيضا.
والثاني: بناء ذلك على ان كل مجتهد مصيب
غير سديد فان ذلك النص
ج / 2 ص -256-
الذي
يطلع عليه المجتهد بعد ذلك لا بدوران يكون كان موجودا في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة ان النصوص لا تنشا
بعده ولكنه كان قد خفى عليه فإذا بان له تبين إذ ذاك ان
حكم القياس مرتفع من اصله وليس هو من النسخ في شيء لا في
اللفظ ولا في المعنى سواء قيل كل مجتهد مصيب أم لم يقل
بذلك.
والثالث: ان بناء ذلك على ان كل مجتهد
مصيب ان صح لم يختص بما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه
وسلم.
والرابع: أنه نقل الاجماع على بطلان
الاقسام الثلاثة الأول وليس يجيد لما نقله جماعة من تجويز
نسخ الكتاب بالسنة وبالقياس عن طائفة.
والخامس: في قوله ان قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول
متعبدا به قلنا لا نسلم فإن المصيب وان اتحد فقد انعقد
الاجماع على انه يجب على كل مجتهد ان يعمل به ومن قلده بما
اداه إليه اجتهاده من قياس أو غيره وإن كان قد اخطأ الحكم
المقرر في نفس الأمل كما يقول فيمن اجتهد ثم اخطأ الكعبة
يجب ان يصلي الى الجهة التي استقبلها وان كانت خطأ في نفس
الأمر واعلم ان الإمام لم يخترع هذا التفصيل بل سبقه إليه
أبو الحسين في المعتمد.
وقال الآمدي العلة الجامعة في القياس ان كانت منصوصة فهي
في معنى النص ويمكن نسخه بنص أو قياس في معناه لو ذهب إليه
ذاهب بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعدم اطلاعه على ناسخه
بعد البحث فانه وان وجب عليه اتباع ما ظنه فوقع حكمه في
حقه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخا متجددا بل يتبين
انه كان منسوخا وان كانت مستنبطة فحكمها في حقه غير ثابت
بالخطاب فرفعه في حقه عند الظفر بدليل يعارضه ويترجح عليه
لا يكون نسخا لكونه ليس بخطاب لأن النسخ هو الخطاب.
أما النسخ بالقياس فاختار فيه انه يصح ان كانت العلة
منصوصة وإلا فإن كان القياس قطعيا كقياس الامة على العبد
في السراية فانه وان كان مقدما لكن ليس نسخا لكونه ليس
بخطاب والنسخ عنده هو الخطاب وان كان ظنيا بان تكون العلة
مستنبطة فلا يكون نسخا.
ج / 2 ص -257-
قال الرابعة نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى وبالعكس لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم والفحوى يكون ناسخا.
فحوى الخطاب هو مفهوم الموافقة كما سبق واختلف في ان نسخ
الأصل كتحريم التأفيف مثلا هل يستلزم نسخ الفحوى كتحريم
الضرب وفي عكسه وهو ان نسخ الفحوى وهو تحريم تضرب هل
يستلزم نسخ الأصل وهو تحريم التأفيف على مذاهب.
أحدها: ان نسخ كل منهما يستلزم نسخ الآخر
واختاره صاحب الكتاب واستدل على ان نسخ الفحوى يستلزم بان
الفحوى لازم للأصل ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ولم
يستدل على عكسه وسيأتي ان شاء الله تعالى.
والثاني: أنه لا يلزم من نسخ الآخر.
والثالث: ان نسخ الأصل يستلزم لأن الفحوى
تابع له ولا يتصور بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع ونسخ
الفحوى لا يستلزم وجزم الإمام بنسخ الأصل يستلزم واما نسخ
الفحوى هل يستلزم فنقله عن اختيار أبي الحسين وسكت عليه
وقال الآمدي المختام ان تحريم الضرب فى محل السكوت ان
جعلناه من باب القياس فنسخ الاصل يوجب نسخ الفرع لاستحالة
بقاء الفرع دون اصله وان جعلناه ثابتا بدلالة اللفظ فلا شك
ان دلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللفظ وعلى
الضرب بجهة الفحوى وهما دلالتان مختلفتان غير ان دلالة
الفحوى تابعة فيمكن حينئذ ان يقال لا يلزم من رفع إحدى
الدلالتين رفع الأخرى.
فإن قلت الفحوى تابع فكيف يحتمل بقاؤه مع ارتفاع المتبوع
قلت نسخ حكم المنطق ليس نسخا لدلالته بل نسخا لحكمه ودلالة
الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه لا تابعة لحكمه
ودلالته باقية بعد نسخ حكمه كما كانت قبل ذلك فما هو اصل
لدلالة الفحوى غير مرتفع وما هو مرتفع ليس أصلا للفحوى
قوله والفحوى تكون ناسخا قد ادعى الإمام والآمدي في ذلك
الاتفاق وفيه نظر حجاجا ونقلا أما الحجاج فوقوع الاختلاف
في أنه هل هو من باب القياس
ج / 2 ص -258-
وإذا
كان من باب القياس وفي النسخ بالقياس ما تقدم من الخلاف
فلا ينفك عن خلاف وأما النقل.
قال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي في شرح اللمع ما ذكرناه إذ
قال من أصحابنا من جعله بالقياس فعلى هذا لا يجوز النسخ به
انتهى أي بناء على أنه لا يجوز النسخ بالقياس وذلك هو
المختار عند الشيخ أبي اسحاق وكذلك القاضي كما نص عليه في
مختصر التقريب وفاتنا ان نحكي ذلك فيما تقدم ولكن العهد به
قريب.
واستدل الإمام على ان الفحوى ينسخ بأن دلالته ان كانت
لفظية فظاهر وان كانت عقلية قال القرافي يعنى قياسية أي
أدرك العقل الحكمة التي لأجلها ورد الحكم فالحق المسكوت
بالمنطوق قياسا.
قال الإمام فهي يقينية فيقتضي النسخ لا محالة ولقائل ان
يقول القياس ليس يقينيا لاحتمال غلطنا في ان ذلك الحكم في
الأصل معلل وان العلة هي ما ذكرنا فلعل العلة غيرها ولعلها
تقضي نفي ما يريد ثباته والمسالة خلافية بين العلماء ولا
قاطع مع الخلاف والله أعلم.
وهذا تمام القول في مفهوم الموافقة واما مفهوم المخالفة
فيجوز نسخه مع نسخ الأصل وبدونه وذلك واضح كقوله عليه
السلام: "الماء من الماء" فإنه نسخ مفهومه بقوله عليه
السلام: "إذا التقى الختانان" وبقي أصله وهو وجوب الغسل من
الإنزال ذكره صفي الدين الهندي قال واما نسخ الأصل بدونه
فأظهر الاحتمالين انه لا يجوز لأنه إنما يدل على العدم
باعتبار ذلك القدر المذكور فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل
ما يبنى عليه فعلى هذا نسخ الاصل نسخ للمفهوم وليس المعنى
منه ان يرتفع العدم ويحصل الحكم الثبوتي بل المعنى منه ان
يرتفع العدم الذي كان شرعيا ويرجع الى ما كان عليه من قبل.
قال الخامسة زيادة صلاة ليس بنسخ قبل تغير الوسط قلنا وكذا
زيادة العبادة.
اتفق العلماء على أن زيادة عبادة من غير جنس ما سبق وجوبه
كزيادة
ج / 2 ص -259-
وجوب
الزكاة مثلا على الصلاة ليس بنسخ واختلفوا في ان زيادة
صلاة على الصلوات الخمس هل يكون نسخا فذهب الجماهير الى
أنه ليس بنسخ.
وقال بعض أهل العراق انه نسخ لأن زيادة هذه السادسة بغير
الوسط أي أنها تجعل ما كان وسطا غير وسط فيكون ذلك نسخا
للأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى.
وأجاب بان هذا غير سديد إذ يلزم عليه ان تكون زيادة عبادة
على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير
الآخرة فلو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد
الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا واعلم ان هذا الجواب غير
سديد لأن غير الصلاة من العبادات لم يرد فيه الامر
فالمحافظة على الوسطى ليقال مثله فيها بل الحق عندي أنهم
ان أرادوا بكونها تغير الوسط أنها تجعل المتوسط بين
الشيئين غير وسط فذلك غير سديد لأن كون العبادة وسط أمر
حقيقي ليس بشرعي والنسخ إنما يتطرق الى الحكم الشرعي وان
أرادوا به ما ذكر من نسخ الامر بالمحافظة على الوسطى فنقول
ان كانت الوسطى علما على صلاة بعينها أما الصبح أو العصر
وليست فعلى من المتوسط بين الشيئين فما ذكرتموه ساقط إذ لا
يلزم من زيادة صلاة ان يرتفع الامر بالمحافظة على تلك
الصلاة الفاضلة لعدم منافاته له وان كانت الوسطى المتوسطة
بين الصلوات فالقول حينئذ الذي يظهر ان الامر يختلف بما
يزيد والحالة هذه فان زيدت واحدة فهي ترفع الوسط بالكلية
ويتجه ما ذكروه اتجاها واضحا لأن الوسط حينئذ وان كان أمرا
حقيقيا الا ان الشرع ورد عليه وقرره فيكون نسخا للحكم
الشرعي وان زيدت ثنتين ونحوهما مما لا يرفع الوسط فلا نسخ
إذ لم يرفع للوسط وانما خرجت الظهر مثلا عن ان يكون وسطا
وكونها كانت الوسط إنما هو امر حقيقي اتفاقي لا يرد النسخ
عليه والأمر بالمحافظة على الوسط شيء وراء ذلك وهو لم يزل
بل هو باق.
قال: أما زيادة ركعة ونحوها فذلك عند الشافعي رضي الله عنه
ونسخ عند ابي حنيفة رحمه الله وفرق قوم بين ما نفاه
المفهوم وما لم ينفه والقاضي عبد الجبار بين ما ينفي
اعتداد الاصل وبين ما لم ينفه وقال البصري إن نفي ما
ج / 2 ص -260-
ثبت
شرعا كان نسخا وإلا فلا زيادة ركعة على ركعتين نسخ
لاستعقابهما التشهد وزيادة التغريب على الحد ليس بنسخ.
مضى الكلام في زيادة العبادة المستقلة كزيادة ركعة أوركوع
ففيه مذاهب:
أحدها: أنها ليست نسخا وهو مذهب الإمام
الشافعي رضي الله عنه وقول ابي علي وأبي هاشم.
الثاني: أنها نسخ وهو قول الحنفية.
الثالث: التفصيل فقال قوم ان كانت الزيادة
قد نفاها المفهوم فيكون نسخا وإلا فلا كما قال في سائمة
الغنم زكاة ثم قال في المعلومة زكاة وقال القاضي عبد
الجبار بن احمد إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغيرا
شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على ما كان
يفعل قبلها لم يعتد به بل وجوده كعدمه ويجب استئنافه فانه
يكون نسخا كزيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو
فعل على نحو ما كان يفعل قبل الزيادة لصح لم تكن نسخا
كزيادة التغريب على حد القاذف.
وقال أبو الحسين البصري ان كان الزائد رافعا لحكم ثابت
2بدليل شرعي كان نسخا سواء ثبت بالمنطوق أم بالمفهوم وان
كان ثابتا بدليل عقلي كالبرآة الأصلية فلا وهذا هو الأحسن
عند الإمام والمختار عند الآمدي وابن الحاجب قوله فزيادة
أي فعل ما ذكره أبو الحسين زيادة ركعة على ركعتين يكون
حينئذ نسخا لأنها رفعت حكما شرعيا وهو وجوب التشهد عقيب
الركعتين وزيادة التغريب على الحد في حق الزاني لا يكون
نسخا لأن عدم التقريب كان ثابتا بالبرآة الأصلية وكلام
المصنف يوهم ان هذين المثالين من تتمة كلام أبو الحسين
وليس كذلك فقد نقل عنه الآمدي في الفرع الثاني من فروع
المسالة أن المثالين جميعا ليسا بنسخ.
أما الثاني فظاهر واما الأول فلأن التشهد ليس محله بعد
الركعتين بخصوصهما بل آخر الصلاة وذلك غير مرتفع وقال
بعضهم واختاره الغزالي إن
ج / 2 ص -261-
كانت
الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد
والانفصال كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح فهو نسخ وان لم
يكن كذلك كزيادة عشرين على حد القاذف فلا ولم يذكر في
الكتاب هذا المذهب والله اعلم.
قال: خاتمة النسخ يعرف بالتاريخ فلو قال الراوي هذا سابق
قبل بخلاف ما لو قال هذا منسوخ لجواز ان يقوله عن اجتهاد
ولا يراه.
المقصود من هذه الخاتمة بيان الطرق التي بها يعرف الناسخ
من المنسوخ وإنما ذكر ذلك آخر الباب وجعله خاتمة لنقله
بجميع أنواع النسخ وجملة القول فيه ان النسخ يعرف إما بأن
ينص عليه الشارع ولم يتعرض المصنف لهذا القسم لوضوحه وإما
بالتاريخ بأن يعلم بطريق صحيح ان أحد الدليلين المتنافيين
متأخر عن الآخر فيحكم بأنه ناسخ له فلو قال الراوي هذه
الآية نزلت قبل تلك الآية أو في سنة كذا والأخرى في السنة
التي بعدها وهذا الحديث سابق على ذلك الحديث أو كان في سنة
كذا وكذا وهذا في السنة التي بعده قبل قوله في ذلك وان كان
قبوله يقتضي نسخ المتواتر وذلك لأن النسخ حصل بطريق للتبع
والشيء يغتفر إذا كان تابعا ولا يغتفر أصلا في مسائل كثيرة
أصولية وفقهية كما ان الشفعة لا تثبت في الأشجار والأبنية
بطريق الأصالة وتثبت تبعا للأرض إذا بيعت معها وكما إذا
قطعت يد المحرم فانه لا فدية عليه للشعر الذي عليها والظفر
لأنهما هنا تابعان غير مقصودين بالإبانة وعلى قياس هذا لو
كشط جلدة الرأس فلا فدية ويشبه هذا بما لو كان تحته
امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة فإنه يبطل
النكاح ويجب المهر ولو قتلتها لا يجب المهر لأن البضع تابع
عند القتل غير مقصود ويلتحق به ايضا ما في الرافعي عن
التتمة من انه لا يجوز توكيل المرأة في الاختيار في النكاح
ان اسلم الكافر على اكثر من أربع نسوة لأن الفروج لا
تستباح بقول النساء.
وفي الاختيار للفراق وجهان لأنه وان تضمن اختيار الأربع
للنكاح فليس أصلا فيه بل تابعا فاغتفر وكذلك إذا أذن السيد
للعبد في النكاح وأطلق فزاد على مهر المثل فإن الزيادة تجب
في ذمته يتبع بها إذا عتق بلا خلاف ولا يقال هل الأخرى في
ثبوت هذه الزيادة في ذمة العبد بغير إذن السيد خلاف كما
ج / 2 ص -262-
جرى في
ضمان العبد بغير إذن السيد لأن الالتزام ها هنا جرى في ضمن
عقد مأذون فيه.
وقد يمتنع الشيء مقصودا وان حصل في ضمن عقد لم يمتنع
ونظيره يصح خلع العبد قولا واحدا ويمتنع من تمليك السيد
بعقد الهبة على اصح الوجهين ومسائل هذا الفصل تخرج عن حد
العد.
أما لو قال الراوي هذا منسوخ لم يقبل لجواز ان يقوله عن
اجتهاد منه ولا يلزمنا ذلك الاجتهاد أو لا يقتضيه رأينا
وقال الكرخي ان عين الراوي الناسخ كقوله هذا نسخ هذا
فالأمر كذلك لجواز ان يقوله عن اجتهاد وان لم يعينه بل
اقتصر على قوله هذا منسوخ قبل لأنه لولا ظهور النسخ فيه
لما أطلق النسخ إطلاقا.
قال الإمام هذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أول الامر
كذلك وليس كذلك وبالله التوفيق والعون تم الجزء الأول ومن
تجزئة المصنف فسح الله في مدته. |