الإبهاج في شرح المنهاج ج / 2 ص -263-
الكتاب الثاني في السنة
قال رحمه الله الكتاب الثاني في السنة وهي قول الرسول صلى
الله عليه وسلم أو فعله قد سبق مباحث القول والكلام في
الأفعال وطريق ثبوتها وذلك في بابين الباب الأول في أفعاله
وفيه مسائل الاولى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون لا
يصدر عنهم ذنب الا الصغائر سهوا والتقرير مذكور في كتاب
المصباح.
السنة في اللغة الطريقة والسيرة وفي الاصطلاح ما ترجح جانب
وجوده على عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض وتطلق
السنة على ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال
والأفعال التي ليست للإعجاز وهذا هو المراد هنا ويدخل في
الأفعال التقرير لأنه كف عن الإنكار والكف فعل على المختار
كما سبق فإذا أردنا تعريف السنة التي عقد لها هذا الكتاب
قلنا هي الشيء الصادر عن محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم
لا على وجه الإعجاز وقد سبقت مباحث القول بأقسامها والأمر
والنهي والعام والخاص والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ
وكلامنا الآن في الأفعال والباب الأول معقود لها وفي
الطريق التي يتوصل بها الى ثبوت الأفعال والباب الثاني
معقود لذلك وفي الباب الأول مسائل.
الأولى: في عصمة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
واعلم ان الكلام في هذه المسألة محلة علم الكلام واختيار
المصنف قد عرفته وهو رأي جماعات ويشترط عند من يقول بوقوع
ذلك بطريق السهو ان يحصل الذكر والذي نختاره نحن وندين
الله تعالى عليه انه لا يصدر عنهم ذنب لا صغير ولا كبير لا
عمدا ولا سهوا وان الله تعالى نزه ذواتهم الشريفة عن صدور
النقائص وهذا هو
ج / 2 ص -264-
اعتقاد
الشيخ الإمام الوالد أيده الله وعليه جماعة منهم القاضي
عياض بن محمد اليحصبي ونص على القول به الأستاذ أبو اسحاق
في كتابه في أصول الفقه وزاد انه يمتنع عليهم النسيان ايضا
واما دعوى الإمام في الكلام على الطرق الدالة على القطع
بصحة الخبر مما عدا المتواتر في الكلام على خبر الرسول صلى
الله عليه وسلم انه وقع الاتفاق على جواز السهو والنسيان
فهي دعوى غير سديدة لما حكاه الأستاذ وذهب إليه والمصنف
أحال الكلام في هذه المسالة على كتابه مصباح الأرواح.
قال الثانية: فعله المجرد على الإباحة عند مالك والندب عند الشافعي والوجوب عند ابن سريج وأبي سعيد
الاصطخري وتوقف الصيرفي وهو المختار لاحتمالها واحتمال ان
تكون من خصائصه.
فعل النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام.
الأول: ان يدل آخر أو قرينة معه على انه لوجوب كقوله صلى
الله عليه وسلم:
"صلوا كما رأيتموني اصلي" وقوله عليه السلام:
"خذوا عني مناسككم" فان
هذين الحديثين يدلان على وجوب اتباعه في أفعال الصلاة
وأفعال الحج إلا ما خصه الدليل والقول في هذا القسم متضح
فانه على حسب ما يقوم الدليل والقرينة عليه وفاقا.
الثاني: ما علم انه صلى الله عليه وسلم فعله بيانا لشيء
نحو قطعه يد السارق من الكوع إذ فعله بيانا لقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
الثالث: ما عرف بالقرينة انه للإباحة كالأفعال الجلية نحو
القيام والقعود والأكل والشرب وغير ذلك وأمره واضح الا أن
التأسي مستحب وقد كان ابن عمر رضي الله عنه لما حج يجر
خطام ناقته حتى يبركها في موضع بركت فيه ناقة النبي صلى
الله عليه وسلم تبركا بآثاره الظاهرة ومواطن نعاله
الشريفة.
والرابع: ما عرف أنه مخصوص به كالضحى والأضحى.
الخامس: ما عرف انه غير مخصوص به كأكثر التكاليف فهذه
الاقسام
ج / 2 ص -265-
كلها
ليس فيها شيء من الخلاف وأمرها واضح وكل هذه الاقسام خرجت
بقول المصنف فعله المجرد فافهم ذلك.
السادس: ما تجري عن جميع ما ذكرناه الا ان
قصد القربة ظاهر فيه فهذا ليس أيضا مجردا من كل وجه ولك ان
تقول انه يخرج ايضا بقول المصنف المجرد وفي هذا القسم
اختلاف لنا غرض في تأخير حكايته الى سابع الأحكام.
السابع: ما لم يظهر فيه قصد القربة بل كان
مجردا مطلقا فهذا أمر دائر بين الوجوب والندب والإباحة لأن
المحرم يمتنع صدوره عنه لما تقرر في مسألة عصمة الأنبياء
والمكروه يندر وقوعه من أحاد عدول المسلمين فكيف من سيد
المتقين وإمام المرسلين والذي نراه انه لا يصدر منه وانه
من جملة ما عصم عنه وإذا دار الامر بين هذه الأمور فهل يدل
على واحد منها مسألة الكتاب وفيها مذاهب.
أحدها: انه يدل على الإباحة وهو مذهب مالك
وتابعه في ذلك جماعة من الأئمة وجزم به الآمدي.
والثاني: انه يدل على الندب وهو المنسوب
الى الشافعي واختاره امام الحرمين وبه قالت طوائف من
الأئمة ونقله القاضي أبو الطيب عن ابي بكر القفال وعن
الصيرفي وسيأتي النقل عن الصيرفي بالوقف.
الثالث: أنه يدل على الوجوب وبه قال ابن
سريج وأبو سعيد الاصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة
والحنابلة وكثير من المعتزلة ونقله القاضي في مختصر
التقريب عن مالك قال القرافي وهو الذي نقله أئمة المالكية
في كتبهم الأصولية والفروعية وفروع المذهب مبنية عليه ثم
قال القاضي واختلف القائلون بالوجوب على طريقين فذهب بعضهم
الى انا ندرك الوجوب بالعقل وذهب بعضهم إلى أنا ندركه
بأدلة السمع.
الرابع: التوقف وعليه جمهور المحققين منا
كالصيرفي والواقفية واختاره الغزالي والامام واتباعه منهم
المصنف وصححه القاضي أبو الطيب في الكفاية عن اكثر الأصحاب
وأبي بكر الدقاق وأبي القاسم بن كج وقالوا لا ندري أنه
ج / 2 ص -266-
للوجوب
أو الندب أو للإباحة لاحتمال هذه الأمور كلها واحتمال ان
يكون ايضا من خصائصه.
والخامس: انه على الخطر في حقنا حكاه
الغزالي قال الآمدي وهو قول بعض من جوز على الأنبياء
المعاصي قلت وليس مستندا لقائل بهذه المقالة تجويز المعاصي
بل ما ذكره القاضي في مختصر التقريب فقال ذهب قوم الى انه
يحرم اتباعه وهذا من هؤلاء الانباء على أصلهم في الأحكام
قبل ورود الشرائع فانهم زعموا أنها على الخطر ولم يجعل فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم علما في تثبت حكم فبقي الحكم
على ما كان عليه في قضية العقل قبل ورود الشرائع انتهى
وكذلك ذكر الغزالي وقال لقد صدق هذا القائل في قوله بقي
على ما كان وأخطأ في قوله.
إن الأحكام قبل الشرع على الخطر لما قررناه في موضعه فان
قلت فهل قصد القربة في الفعل قرينة الوجوب أو الندب حتى لا
يتأتى فيه الخلاف المذكور قلت لا لتصريح بعضهم بجريان
الخلاف في القسمين جميعا اعني ما ظهر فيه قصد القربة وما
لم يظهر غير ان القول بالوجوب والندب يقوي في القسم الأول
بالإباحة والتوقف يضعف فيه.
واما القسم الثاني فبالعكس منه فإن قلت فكيف يتجه جريان
قول بالإباحة فيما يظهر فيه قصد القربة فإن القربة لا
بجامع استواء الطرفين قلت النبي صلى الله عليه وسلم قد
يقدم على ما هو مستوى الطرفين ليبين للامة جواز الاقدام
عليه ويثاب صلى الله عليه وسلم بهذا القصد وهذا الفعل وان
كان مستوى الطرفين فيظهر في المباح قصد القربة هذا
الاعتبار ولا يتجه جريان القول بالإباحة الا بهذا التقريب
على انا لم نر من المتقدمين من صرح بحكايته في هذا القسم
أعني السادس وهو ما ظهر فيه قصد القربة نعم حكاه الآمدي
ومن تلقاه منه ولا مساعد للآمدي على حكايته وأنا قد وقفت
على كلام القاضي فمن بعده.
الثامن: ما دار الأمر فيه بين ان يكون
جبليا ان يكون شرعيا وهذا القسم لم يذكره الأصوليون فهل
يحمل على الجبلي لأن الاصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه
صلى الله عليه وسلم تعث لبيان الشرعيات.
ج / 2 ص -267-
وهذا
القسم قاعدة جليلة وهي مفتتح كتابنا الأشباه والنظائر وقد
ذكرت في كتاب الأشباه والنظائر انه قد يخرج فيها قولان من
القولين في تعارض الاصل والظاهر ان الاصل عدم التشريع
والظاهر أنه شرعي لكونه مبعوثا لبيان الشرعيات.
ومن صور هذا القسم أنه صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية
كداء وخرج من ثنية كداء فهل كان ذلك لأنه صادف طريقة أو
لأنه سنة فيه وجهان ومنها جلسة الاستراحة عندما حمل اللحم
فقيل ذلك جبلي فلا يستحب وقيل شرعي ومنها انه صلى الله
عليه وسلم طاف راكبا فهل يحمل على الجبلي فلا يستجيب أو
على الشرعي ومنها حجه راكبا ومنها ذهابه في العيد في طريق
وإيابه في آخر القاعدة مستوفاة في كتابنا الأشباه والنظائر
كمله الله.
قال احتج القائل بالإباحة بأن فعله لا يكره ولا يحرم
والأصل عدم الوجوب والندب فبقي الإباحة ورد بأن الغالب من
فعله الوجوب أو الندب.
احتج القائل بالإباحة بأن فعله صلى الله عليه وسلم لا يكون
حراما لما تقرر في مسألة العصمة ولا مكروها لما قدمناه من
انه نادر بالنسبة الى آحاد العدول فكيف الى اشرف المرسلين
وهذا عند من يجوز وقوع المكروه وقد قدمناه في ذلك في
المكروه الذي لا يقصد بفعله بيان جوازه.
أما ما فعله ليبين انه جائز فقد يقال لم لا يقع الاقدام
ويكون مستحبا أو واجبا بالنسبة إليه لما في أقدامه عليه من
تبيين الجواز كما قدمناه والذي يظهر انه لا يقدم على فعله
إذ في القول مندوحة عن الفعل وإذا انتفى المحرم والمكروه
انحصر الامر في الواجب والمندوب والمباح والاصل عدم الوجوب
والندب فلم يبق إلا الإباحة.
وأجاب بأن الغالب على فعله الوجوب والندب فيكون الحمل على
احدهما أولى لأن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب ارجح وأولى من
إلحاقه بخلاف ذلك ولقائل ان يقول الوجوب والندب وان كانا
غالبا الا انا لا نسلم انه يقاوم الاصل الذي اشرنا إليه بل
الاصل أولى قال وبالندب بأن قوله تعالى:
{لَقَدْ
ج / 2 ص -268-
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}1 يدل على الرجحان والاصل عدم الوجوب.
واحتج القائل بالندب بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والاستدلال بهذه الآية يقرر على أربعة اوجه ثلاثة منها تدل على
الندبية والرابع يدل على الوجوب.
الأول: التمسك بقوله لكم ووجهه انه قال عليكم وذلك يفيد
انه مندوب إليه إذ المباح لا نفع فيه واللام للاختصاص بجهة
النفع والظاهر من جهة الشرع اعتبار النفع الأخروي لا
الدنيوي.
والثاني: هو ما أورده الإمام التمسك بقوله أسوة وتقريره ان
التأسي لو كان واجبا لقال عليكم كما عرفت فلما قال لكم دل
على عدم الوجوب ولما اثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل
على الترك فلم يكن مباحا.
الثالث: وهو ما أورده في الكتاب التمسك بقوله حسنة ووجهه
ان قوله حسنة تدل على الرجحان والوجوب منتف بالأصل فتعين
الندب ولم يجب عن هذا بل جمع بينه وبين دليل الإيجاب.
وأجاب عنهما بأن الأسوة والمتابعة من شرطهما العلم بصفة
الفعل.
والرابع: الدال على الوجوب وتقريره أنه تعالى قال:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وهذا جار مجرى التهديد على ترك التأسي به لأن معنى الآية ان يرجو
الله واليوم الآخر فله فيه الأسوة الحسنة ومن لا يرجو الله
واليوم الآخر فليس له فيه الأسوة الحسنة فيكون وعيدا على
ترك التأسي به أو نقول بعبارة أخرى انه جعل التأسي به
لازما لرجاء الله واليوم الآخر فيلزم من عدم التأسي به عدم
رجاء الله واليوم الآخر وهو محرم فكذلك ما يستلزمه والتأسي
به في الفعل إنما هو بإتيان مثل فعله فيكون الإتيان بمثل
فعله واجبا هذا تقرير الأوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 21.
ج / 2 ص -269-
واعلم
أن الذي يظهر في الآية أن الله تعالى جعل للمؤمنين في
النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وتلك الأسوة هي
الاقتداء به وليست عامة في كل شيء إذ هي نكرة في سياق
الاثبات فلا تقتضي العموم فلا يلزم دخول الفعل المجرد
تحتها هذا من حيث اللفظ وسواء قرر على الوجه المقتضي
للوجوب أم للندب والحق من الدلائل الخارجية والبراهين
القاطعة ان الاقتداء به في كل شيء مشروع محبوب لأن الله
تعالى جعله قدوة الخليقة ولكن الاقتداء به يستدعي العلم
بصفة الفعل والفعل المجرد لم تعلم صفته فلا يدل وجوب
الاقتداء ولا استحبابه عليه.
وأما تمسك الإمام بلفظ الأسوة ففيه نظر إذ المعنى ان لكم
فيه قدوة وانه شرع الاقتداء به وذلك اعم من ان يكون على
سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة كما تقول زيد قدمه وليس
المعنى انه يجب الاقتداء به ولا يستحب بل ما هو أعم من
ذلك.
واما تمسك المصنف بقوله حسنة فقد أورد عليه ان الحسنة لا
تدل على الرجحان لما تقرر في أوائل الكتاب من ان المباح
حسن وهذا ايراد لائح في مباديء النظر الا ان الذهن يسابق
في هذه الآية الى فهم الرجحان من قوله حسنة لا يكاد يتمارى
فيه.
ولعل سبب ذلك انه قال لكم أسوة فأفاد ذلك مشروعية الاقتداء
فلما قال حسنة بعد ذلك اقتضى زيادة على المشروعية وليست
تلك الزيادة الا الرجحان كما تقول زيد إنسان فان هذا كلام
مفيد يفهم اللبيب منه بقولك إنسان فوق ما يفهم من مدلول
إنسان من حيث هو وهو انه حلو الخصال الإنسانية الشريفة ولو
لم يفهم زيادة على مدلول الإنسان لم يعد الكلام مفيدا إذ
كل زيد إنسان.
قال والوجوب بقوله تعالى:
{فَاتَّبِعُوهُ}
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
وإجماع الصحابة على وجوب الغسل بالتقاء الختانين لقول
عائشة رضي الله عنها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه
وسلم فاغتسلنا وأجيب بأن المتابعة هي الإتيان بمثل ما فعل
على وجهه وما آتاكم معناه وما أمركم بدليل:
{وَمَا نَهَاكُمْ} واستدلال الصحابة بقوله:
"خذوا عنى مناسككم".
ج / 2 ص -270-
واحتج
القائل بالوجوب بالنص والإجماع أما النصف ففي مواضع.
أحدها: قوله تعالى:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ}1
وظاهر الأمر الوجوب.
وثانيها: قوله تعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} دلت على أن محبة الله تعالى التي هي واجبة إجماعا مستلزما لمتابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم ولازم الواجب واجب فمتابعته
واجبة.
وثالثها: قوله تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}2
فإذا فعل فقد أتانا بفعل فوجب علينا أن نأخذه وأما الإجماع
فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في وجوب الغسل من
التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته انا ورسول الله صلى الله
عليه وسلم: فاغتسلنا"
رواه الإمام احمد والترمذي وقال حسن صحيح3 فرجعوا لقول
عائشة واتفقوا على وجوب الغسل بالتقاء الختانين.
والجواب عن الدليلين الأولين بان المتابعة هي الإتيان بمثل
فعله عل الوجه الذي اتى به من الندب أو غيره حتى لو فعله
على جهة الوجوب ففعلناه على جهة الندب لم تحصل المتابعة.
وحينئذ فيلزم توقف الامر بالمتابعة على معرفة الجهة وإذا
لم نعلم بها لم نؤمر بالمتابعة واعلم ان المتابعة والتأسي
بمعنى واحد فلذلك جعل المصنف جواب المتابعة جوابا على
التأسي الذي احتج به الذاهب إلى الندب كما عرفت.
وللمتابعة والتأسي شرط آخر مع ما ذكر وهو أن يقع الفعل
لكونه فعل ومن هنا يغايران الموافقة فانه لا يشترط فيها ان
تكون علة إياه كونه فعله وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف 158.
2 سورة الحشر آية 7.
3 كما رواه البخاري, كتاب الغسل باب التقاء الختانان وابن
ماجة, كتاب الطهارة, باب ماجاء في وجوب الغسل إذا التقى
الختانان ورواية أحمد ومسلم
" إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل".
وانظر نيل الأوطار 1/160- 161.
ج / 2 ص -271-
الآية
الثالثة: أن معنى قوله: آتاكم أمركم يدل على ذلك أنه قال
في مقابلة:
{وَمَا نَهَاكُمْ} وأما الإجماع على وجوب الغسل فليس لمجرد الفعل بل لأنه فعل في باب
المناسك وقد كانوا مأمورين بأخذ المناسك عنه بقوله:
"خذوا عنى مناسككم"
واللفظ وان ورد في الحج
فهو عام في كل نسك أي كل عبادة قلت وفي الجواب نظر فان في
الحديث بعد قوله خذوا عني مناسككم فإني لا ادري لعلي لا
أحج بعد حجتي هذه كذا رواه مسلم واحمد والنسائي وعامة من
رواه ويتعين بهذا اللفظ حمله على أعمال الحج دون غيرها.
ويمكن ان يقال في الجواب عن الاجماع انهم لم يجمعوا بمجرد
فعله عليه السلام بل لفعل عائشة رضي الله عنها معه فان
بفعلها يتبين ان الحكم فيها فينا واحد بخلافه لاحتمال
الخصوصية فيه ثم لقائل ان يقول هذا القسم مما ظهر فيه قصد
القربة والمصنف إنما تكلم في المتجرد.
قال الثالثة جهة فعله أما بتنصيصه أو تسويته بما
علم جهته وبما
علم انه امتثال آية دلت على أحدها أو بيانها وخصوصا الوجوب
بإمارته كالصلاة بأذان وإقامة وكونه موافقة نذر أو ممنوعا
لو لم يجب كالركوعين في الخسوف والندب بقصد القربة مجردا
وكونه قضاء لمندوب.
تقدم أن المتابعة مأمور بها وأن من شرطها العلم بجهة الفعل
وهذه المسألة في بيان الطرق التي يعرف بها الجهة وقد عرفت
ان فعله صلى الله عليه وسلم منحصر في الواجب والمندوب
والمباح فالطريق حينئذ قد يعم هذه الأمور وقد يخص البعض
منها فالعام أربعة.
أحدها: أن ينص على كونه من القسم الفلاني.
الثانية: أن يسويه بفعل علمت جهته كما إذا
قال هذا الفعل مساو للفعل الفلاني وكان ذلك الفعل المساوي
إليه معلوم الجهة.
والثالث: أن يقع امتثالا لآية دلت على أحد
هذه الثلاثة.
والرابع: أن يقع بيانا لآية مجملة دلت على
أحدها والى هذا القسم أشار بقول أو بيانها وهو مرفوع عطفا
على قوله امتثال أي ويعلم جهة فعله بسبب أن
ج / 2 ص -272-
علم
ذلك الفعل امتثال آية أو بيان قوله وخصوصا أي ويعلم خصوصا
الوجوب بالعلامات الدالة عليه وذلك في أشياء.
أحدها: ان يقع صفة تقرر في الشريعة أنها
امارة الوجوب كالصلاة بأذان وإقامة.
والثاني: أن يكون جزاء شرط كفعل ما وجب
بالنذر بأن يقول مثلا لله على إن جرى الأمر الفلاني صوم غد
ثم نرى جريان ذلك الامر وصومه في غد واعلم ان وقوع النذر
من النبي صلى الله عليه وسلم غير متصور ان قلنا بكراهته
وهو الذي حكاه الشيخ أبو علي السبخي عن نص الشافعي كما نقل
ابن أبي الدم.
الثالث: أن يكون ممنوعا لو لم يجب
كالإتيان بالركوعين في صلاة الخسوف والكسوف وكالختان
ولقائل ان يقول هذا لا ينتقض بسجود السهو وسجود التلاوة
فإنهما شيئان وممنوع منهما لولا المقتضى لهما ويعرف الوجوب
ايضا بكون قضاء الواجب هذا قد ذكره المصنف في المندوب ومن
العجب إخلاله به هنا ويعرف ايضا بالمداومة على الفعل مع
عدم ما يدل على عدم الوجوب وهذا دليل ظاهر على الوجوب كأنه
لو كان غير واجب لنص عليه دليلا أو لأدخل بتركه لئلا يوهم
إيجاب ما ليس بواجب.
وقوله والندب أي ويختص معرفته الندب بشيئين.
أحدهما: قصد القربة مجردا عن امارة دالة
على الوجوب فانه يدل على انه مندوب لأن الرجحان ثبت بقصد
القربة والاصل عدم الوجوب وفي هذا ما تقدم من الخلاف.
والثاني: كون الفعل قضاء لمندوب وبعرف
الوجوب والندب كلاهما بالدلالة على انه كان مخيرا بينه
وبين فعل آخر نبت وجوبه لأن التخيير لا يقع بين الواجب وما
ليس بواجب هذا أهمله المصنف.
قال الرابعة: الفعلان لا يتعارضان فإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متقدما نسخه وان عارض متأخرا
عاما فبالعكس وان اختص بنا خصنا قبل الفعل ونسخ عنا بعده
وان جعل التاريخ فالأخذ بالقول في حقنا لاستبداده.
ج / 2 ص -273-
التعارض بين الشيئين هو تقابلهما على وجه يمنع منهما مقتضى
صاحبه والتعارض بين الفعلين غير متصور لأنهما وان تناقض
حكمهما فيجوز ان يكون الفعل في ذلك واجبا وفي مثل ذلك
الوقت بخلافه لأن الأفعال لا عموم لها ولو فرض مع الفعل
الأول قول مقتض الوجوب تكراره فالفعل الثاني قد يكون ناسخا
أو مخصصا لكن ذلك القول لا للفعل فالمتعارض بين الفعلين
ممتنع بل أما ان يقع بين قولين أو قول وفعل ومحل الكلام في
الأول كتاب التعادل والتراجيح.
وأما الثاني: فذكره هنا وله أحوال لأنه إما ان يكون القول
متقدما أو متأخرا أو يجهل الحال.
قوله قولا متقدما هذا هو الحال الأول وجملة القول فيه انه
عليه السلام إذا فعل فعلا وقام الدليل على وجوب اتباعه فيه
فإنه يكون ناسخا للقول المتقدم عليه سواء كان ذلك القول
عاما كقوله مثلا صوم يوم عاشوراء واجب علينا ثم انا نراه
افطر فيه وأقام الدليل على اتباعه فيه أم كان خاصا به أم
خاصا بنا.
قوله فإن عارض متأخرا هذا هو الحال الثاني فإذا كان القول
متأخرا عن الفعل الذي دل الدليل على وجوب اتباعه فيه فإن
لم يدل دليل على وجوب تكرر الفعل فلا تعارض وتركه المصنف
لوضوحه وان دل على وجوب تكرره عليه وعلى أمته فالقول
المتأخر إما ان يكون عاما يشمله يشمل أمته فيكون ناسخا
للفعل المتقدم كما إذا صام عاشوراء وقام الدليل على وجوب
اتباعه فيه وجوب تكرره ثم قال لا يجب علينا صومه هذا شرح
قوله فإن عارض متأخرا عاما فبالعكس أي يكون الفعل منسوخا
عكس حالته الأولى التي كان فيها ناسخا للقول.
وإما أن يكون خاصا به عليه السلام كقوله في المثال
المذكور:
"لا يجب علي صيامه"
فلا تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم تعلق القول بهم فيستمر حكم الفعل
الأول عليهم وينسخ في حقه صلوات الله وسلامه عليه وإما أن
يكون خاصا بنا كقوله: "لا يجب عليكم صومه" فلا تعارض أيضا
وحكمه صلى الله عليه وسلم مستمر.
ج / 2 ص -274-
وأما
نحن فيرتفع عنا التكليف به ثم ان ورد ذلك قبل صدور الفعل
منا كان مخصصا مبينا لعدم الوجوب وهذا يتجه ان يكون بناء
على انه يجوز التخصيص في اللفظ العام الى ان يبقى واحد وان
ورد بعد صدور الفعل كان ناسخا لفعلنا المتقدم ولا يكون
تخصيصا لإستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
واعلم ان هذا التفصيل إنما يأتي إذا كانت دلالة الدليل
الدال على وجوب اتباع الفعل ظاهرة كالإتيان بلفظ عام مثل
هذا الفعل واجب على المكلفين ان قلنا المخاطب داخل في عموم
خطابه أو علينا معاشر الناس واما إذا كانت قطعية فلا يمكن
حمل القول المتأخر على التخصيص أصلا بل يتعين حمله على
النسخ مطلقا ثم هذا كله فيما إذا كان الفعل المتقدم بما
يجب علينا اتباعه كما عرفت واما ان لم يكن كذلك فلا تعارض
بالنسبة إلينا لعدم تعلق الحكم بنا.
وأما بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فإن الدليل على وجوب
تكرر الفعل وكان القول المتأخر خاصا به أو متناولا له
بطريق النص فيكون القول ناسخا للفعل وان كان بطريق الظهور
فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم لأن المخصص عندنا لا
يشترط تأخره عن العام.
ولم يذكر المصنف ذلك لظهور قوله فإن جهل هذا هو الحال
الثالث وهو ان يكون المتأخر منهما اعني من القول والفعل
مجهولا فان أمكن الجمع بينهما بالتخصيص أو غيره جمع لأن
الجمع ما بين الدليلين ولو من وجه أولى من خلافه وان لم
يكن الجمع بوجه ما وفيه تكلم المصنف ففيه مذاهب.
أحدها: ان الأخذ بالقول لأنه مستقل
بالدلالة موضوع لها بخلاف الفعل فإنه لم يوضع لها وإن دل
فإنما يدل بواسطة القول فيقلد القول لاستلزامه وهذا ما جزم
به الإمام وأتباعه واختاره الآمدي.
والثاني: أنه يقدم الفعل لأنه أوضح
الدلالة ألا ترى أنه يبين به القول كالصلاة والحج.
والثالث: الوقوف الى ظهور التاريخ
لتساويهما في الدلالة واختار ابن الحاجب قولا رابعا من هذه
الثلاثة وهو الوقف بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم والقول
بالنسبة
ج / 2 ص -275-
ترجح
القول فيعمل به في حقنا لا في حقه بشيء وهذا هو الذي اشعر
به اختيار صاحب الكتاب لأنه قال فالأخذ بالقول في حقنا
وسكت عن حقه صلى الله عليه وسلم.
قال الخامسة: إنه عليه السلام قبل النبوة تعبد
بشرع وقيل لا.
المسالة مشتملة على بحثين.
الأول: فيما كان صلى الله عليه وسلم عليه
قبل ان يبعثه الله تعالى برسالته قال امام الحرمين وهذا
ترجع فائدته الى ما يجري مجرى التواريخ وقد اختلف العلماء
في ذلك على مذاهب.
الأول: انه كان قبل النبوة متعبدا بشرع واختاره ابن الحاجب
والمصنف وعلى هذا فقيل كان على شريعة آدم وقيل ابراهيم
وقيل نوح وقيل موسى وقيل عيسى عليهم وعليه صلوات الله
وسلامه وقال بعضهم ما ثبت انه تشرع من غير تخصيص.
والمذهب الثاني: أنه عليه السلام لم يكن
قبل المبعث متعبدا بشيء قطعا.
قال القاضي في مختصر التقريب وهذا هو الذي صار إليه جماهير
المتكلمين ثم اختلف القائلون بهذا المذهب فقالت المعتزلة
بإحالة ذلك عقلا وذهب عصيبة أهل الحق الى انه لم يقع ولكنه
غير ممتنع عقلا قال القاضي وهذا ما نرتضيه وننصره.
والمذهب الثالث: التوقف وبه قال امام
الحرمين والغزالي والآمدي وهو المختار وقد اعتمد القاضي
على ما ذهب إليه بأنه لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره
لها لما بعثه نبيا ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده وعارض
امام الحرمين ذلك بأنه لو لم يكن على دين أصلا لنقل فإن
ذلك أبدع وابعد عن المعتاد مما ذكره القاضي.
قال فقد تعارض الأمران والوجهان يقال كانت العادة انخرقت
للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور منها انصراف همم الناس
عن أمر دينه والبحث عنه قال وبعدها الأكثر على المنع وقيل
أمر بالاقتباس ويكذبه انتظار الوحي وعدم مراجعته
ومراجعتنا.
ج / 2 ص -276-
قيل
راجع في الرجم قلنا للإلزام واستدل بآيات أمر فيها فاقتفاء
الأنبياء السالفة عليهم السلام قلنا في أصول الشريعة
وكلياتها.
البحث الثاني في أنه صلى الله عليه وسلم
هل تعبد بشرع بعد النبوة من قبله والكلام في ذلك مع من لم
ينف التعبد قبل النبوة.
واما من نفاة قبل النبوة فقد نفاه بعده بطريق أولى.
وقد ذهب الاكثرون من المعتزلة وأصحابنا الى انه لم يكن
متعبدا بشرع أصلا ثم افترقوا فقالت معتزلتهم ان التعبد
بشرع من قبلنا غير جائز عقلا زاعمين ان ذلك لو قدر لأشعر
بحطيطة ونقيصة في شرعنا ولتضمن ذلك ايضا إثبات الحاجة الى
مراجعة من قبلنا وهذا حط من رتبة الشريعة.
وقال الآخرون إن العقل لا يحيل ذلك ولكنه ممنوع شرعا
واختاره الإمام والآمدي.
وقال قوم من الفقهاء انه كان متعبدا أي مأمورا بالاقتباس
من كتبهم كما أشار إليه المصنف.
وهذا هو اختيار ابن الحاجب وهو معنى قولهم إذا وجدنا حكما
في شرع من قبلنا ولم يرد في شرعنا ناسخ له لزمنا التعلق
به.
قال امام الحرمين وللشافعي ميل الى هذا وبنا عليه أصلا من
أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه.
قال في الكتاب ويكذب هذا المذهب أي يبطل ما ذهب إليه بعض
الفقهاء انه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي ولا يقتبس
من كتبهم ولا يراجعها إذ لو فعل ذلك لاشتهر ويكذبه ايضا
عدم مراجعتنا إذ لو كان متعبدا لوجب على علمائنا الرجوع
الى كتبهم بأسبابه وهذا الوجه هو الذي اعتمد عليه القاضي
رضي الله عنه وكذلك إمام الحرمين.
وقال هو المسلك القاطع فان الصحابة كانوا يترددون في
الوقائع بين الكتاب والسنة والاجتهاد إذ لم يجدوا متعلقا
فيهما وكانوا لا يبحثون على أحكام
ج / 2 ص -277-
الكتب
المنزلة على من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وكذلك من
بعدهم من التابعين وتابع التابعين لم يفتقروا قط في جزئية
ولا كلية الى النصارى واليهود ولا التفتوا نحو التوراة
والإنجيل بشفة ولا إيماء مع تقابل الإمارات وتزاحم
المشكلات ولقد كانوا يجتزون بقياس الشبه وطرق التلويح
والترجيع فكان ذلك اجماعا قاطعا وبرهانا واضحا على عدم
الرجوع إلى ذلك.
إذ لو كانوا مخاطبين بشرائع من قبلنا لبحث علماؤنا عنها
كما بحثوا عن مصادر الشريعة ومواردها.
قال القاضي فإن قال الخصوم بأن ذلك امتنع عليهم من جهة ان
أهل الأديان السالفة حرفوا وبدلوا ولم يبق من نقلة كتبهم
من يوثق به حتى قال أهل التواريخ لم يبق من يقوم بالتوراة
بعد عزير ولا الإنجيل بعد برخيا قيل لهم الجمع بين هذا
السؤال والمصير الى الأخذ بشرع من قبلنا تصريح بالتناقض
لأن سياقه بحر الى انه لا يجب تتبع الشرائع المتقدمة لمكان
التباسها واندراسها وصيرورة التكليف بها تكليفا بالمستحيل
لعدم التمكن من الوصول إليه فكأنكم وافقتم المذهب وخالفتم
العلة وإيضا فلو كان لنا تعلق في شرع من قبلنا لنبهنا
الشرع على مواقع اللبس حتى لا يتعطل علينا مراجعة الأحكام.
وأيضا فأنا نقول من أحكام الأوائل ما نقل إلينا نقلا يقع
به العلم فهل اخذ أهل الاعصار به وإيضا فان من أهل الكتاب
من اسلم وحسن إسلامه وبلغ من الأمانة والثقة أعلى الرتبة
كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار فهلا رجع للصحابة الى
قولهما في الاخبار عما لم يبدل من التوارة واعتذر القرافي
عن هذا الجواب الأخير بأن الذين اسلموا من الاخبار وان
كانوا عدولا عظماء في الدين غير أنهم ليس لهم رواية
بالتوراة ولا سند متصل وليس الا انهم وجدوا آباءهم يقرؤون
هذا الكتاب والجميع في ذلك الوقت كفار فلا رواية.
ولو وقعت كانت عن الكفار والرواية عن الكفار لا تصح ومن
اطلع على أهل الكتاب في شرائعهم ومطالعة أحوالهم حصل على
جزم بذلك.
واعترض الخصم بأنه صلى الله عليه وسلم رجع الى التوراة في
قصة الرجم ففي الصحيحين
ج / 2 ص -278-
من
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال ان اليهود جاؤوا
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ان إمرأه منهم
ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ا تجدون في التوارة في شأن الرجم"قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم فيها آية الرجم
فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرا
ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام إرفع يدك
فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقال صدق يا محمد فأمر بهما
النبي صلى الله عليه وسلم فرجما الحديث وهذا اعتراض ضعيف
لأن الرجوع إليها إنما كان لإلزام اليهود حيث أنكروا ان
وجد وجوب الرجم في التوراة فأقيمت الحجة عليهم بوجود ذلك
فيما بين أيديهم وان الحكم فيه موافق لشريعتنا ووضح بهتهم
وعنادهم ولم يكن ذلك رجوعا من النبي صلى الله عليه وسلم
الى التوراة بل يتعين اعتقاد ان ذلك كان بوحي إليه لتعذر
الوصول الى ما في التوراة لعدم اتصال السند عن الثقاة كما
ذكره القرافي.
واحتج الخصم بآيات من الكتاب العزيز يدل على انه صلى الله
عليه وسلم كان مأمورا باقتفاء الأنبياء السالفة عليهم
السلام كقوله تعالى:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}1 وقوله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ}2 وقوله:
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ}3 وقوله:
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ}4 وقوله:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}5 وهو عليه السلام سيد النبيين والجواب ان المراد بذلك إنما هو وجوب
المتابعة في الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع وتلك
أصول الديانات وكلياتها كقواعد العقائد المتعلقة بذات الله
تعالى وصفاته والقواعد العملية المشتركة بين جميع الشرائع
لحفظ العقول والنفوس والأموال والأنساب والأغراض فان قلت
ألستم تقولون ان هذه الكليات لا تجب عقلا وانما تجب سمعا
وإذا ثبت وجوب الاتباع فهو المقصد قلت أجاب القاضي في
مختصر التقريب بانا نقول انه تعالى ما أوجب إن نبيه
التوحيد الا ابتداء ثم نبه على انه كلفه بمثل ما كلف من
قبله قال القاضي رضي الله عنه وأقوى ما يتمسك به في إبطال
استدلالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية 13.
2 سورة الأنعام آية 90.
3 سورة البقرة آية 130.
4 سورة النحل آية 124.
5 سورة المائدة آية 44.
ج / 2 ص -279-
أنه
صلى الله عليه وسلم ما بحث عن دين واحد من الأنبياء
المغيبين قط لا نوح ولا ابراهيم ولا غيرهما ولو كان مأمورا
باتباع شريعة لبحث عنها فوضح انه ليس المعنى بأنه شرع لنا
من الدين ما وصى به نوحا وأمثال ذلك الا النهي عن الإشراك
وما تابعه من الكليات.
وأما قوله تعالى:
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
فالمراد به افعل مثل فعلهم واعتقد في التوحيد مثل ما
اعتقدوه.
قال القاضي ويدل عليه انه جمع الأنبياء عليهم السلام في
هذه الجملة ونحن نعلم انهم لا يجتمعون قضية الشريعة والذي
اجتمعوا عليه هو التوحيد ومعرفة الله تعالى وأمثال ذلك فان
قلت لئن استقام لكم ذلك في الآية المنطوية عل تخصيص
ابراهيم عليه السلام بالاتباع قلت أجاب القاضي بأنه كما خص
إبراهيم خصص نوحا.
ونحن نعلم اختلاف ملتيهما واستحالة الجمع بينهما جملة فدل
ذلك على أنه لم يرد اتباع الشريعة وانما خصص من خصص بالذكر
تكريما له وتعظيما قال وهذا كقوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ}1 مع
اندراجهما في اسم النبيين ونظائر ذلك يكثر في الكتاب
العزيز
فروع.
الأول: ان قلنا ان شرع من قبلنا شرع لنا
فالاختلاف السابق في البحث الأول انه هل هو شرع آدم أو نوح
أو ابراهيم أو موسى أو عيسى عليهم السلام جل ههنا بعينا.
والثاني: إذا وجدنا حيوانا لا يمكن معرفة
حكمه من كتاب ولا سنة ولا استطابة ولا استحباب ولا غير ذلك
مما قرره علماء شريعتنا من المأخذ وثبت تحريمه في شرع من
قبلنا فهل يستجب تحريمه فيه قولان الأظهر انا لا نستصحب
وهو قضية كلام عامة الأصحاب فان استصحبناه فشرطه ان يثبت
تحريمه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية 7.
ج / 2 ص -280-
شرعهم
بالكتاب أو السنة ويشهد به عدلان اسلما منهم يعرفان المبدل
من غيره كذا ذكره أصحابنا ويخدشه ما سلف عن القرافي.
والثالث: ختلف الفقهاء في ان الاسلام هل
هو شرط في الإحصان أم لا ومذهبنا انه ليس بشرط فإذا حكم
الحاكم على الذمي المحصن رجمه ومذهب أبي حنيفة ان الاسلام
شرط في الإحصان واستدل أصحابنا بحديث رجم اليهوديين
المتقدم واعتذر الحنفية عنه رجمهما بحكم التوراة وهذا ضعيف
يظهر بما تقدم.
فائدة الشرائع المتقدمة ثلاثة أقسام:
الأول: تعلمه لا من كتبهم ونقل أخبارهم الكفار ولا خلاف أن
التكليف به علينا.
والثاني: ما انعقد الاجماع على التكليف به
وهو ما علمناه بشرعنا انه كان شرعا لهم وامرنا في شرعنا
بمثاله كقوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ} وقد قال:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقام دليل الشرع على القصاص.
الثالث: ما ثبت انه من شرعهم بطريق صحيح
نقبله ولم نؤمن به في شريعتنا فهذا هو موضوع الخلاف فاضبط
ذلك وبالله التوفيق. |