الإحكام في أصول الأحكام للآمدي [الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي مُسْتَنَدَاتِ
الرَّاوِي وَكَيْفِيَّةِ رِوَايَتِهِ]
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قول الصَّحَابِيُّ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ كَذَا]
الْقِسْمُ الثَّالِثُ
فِي مُسْتَنَدَاتِ الرَّاوِي وَكَيْفِيَّةِ رِوَايَتِهِ
الرَّاوِي لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا أَوْ
غَيْرَ صَحَابِيٍّ، فَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا فَقَدِ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا
أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي أَوْ شَافَهَنِي رَسُولُ
اللَّهِ بِكَذَا، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبُ الْقَبُولِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا،
اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ
سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ
مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ
مِنْ غَيْرِهِ.
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ قَالَ
بِعَدَالَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ
سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّاوِي مِنَ
الصَّحَابَةِ حُكْمُ غَيْرِهِمْ فِي وُجُوبِ الْكَشْفِ عَنْ
حَالِ الرَّاوِي مِنْهُمْ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَرَاسِيلِ
تَابِعِ التَّابِعِينَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ
فِيهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْ
غَيْرِ وَاسِطَةٍ مَعَ إِمْكَانِ سَمَاعِهِ مِنَ الْوَاسِطَةِ
; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَالَ " يُوهِمُ السَّمَاعَ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ
وَاسِطَةٍ إِيهَامًا ظَاهِرًا.
وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ الْعَارِفِ
بِأَوْضَاعِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِلَفْظٍ يُوهِمُ
مَعْنًى، وَيُرِيدُ غَيْرَهُ.
(2/95)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قول
الصَّحَابِيُّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُ بِكَذَا أَوْ
يَنْهَى عَنْ كَذَا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِكَذَا أَوْ يَنْهَى
عَنْ كَذَا) اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حُجَّةً.
فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ
الِاحْتِجَاجَ إِنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ "
سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى " لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي صِيَغِ
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَ صِيغَةً اعْتَقَدَ
أَنَّهَا أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ عِنْدَ
غَيْرِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ، أَوْ يَنْهَى عَنْ
شَيْءٍ، وَهُوَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ
بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَأَنَّ
النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ،
فَنَقَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا
نَهْيٍ عِنْدَ غَيْرِهِ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ اعْتِمَادُ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّهُ
حُجَّةٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ
حَالِ الصَّحَابِيِّ مَعَ عَدَالَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ
بِأَوْضَاعِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ
الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ
حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقُلُ إِلَّا مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ
أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، نَفْيًا
لِلتَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَنْهُ بِنَقْلِ مَا يُوجِبُ
عَلَى سَامِعِهِ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا لَا
يَعْتَقِدُهُ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا.
(2/96)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قول
الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِيْنَا عَنْ كَذَا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِيْنَا
عَنْ كَذَا، وَأُوْجِبَ عَلَيْنَا كَذَا وَحُرِّمَ عَلَيْنَا
كَذَا، أَوْ أُبِيحَ لَنَا كَذَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ إِضَافَةُ ذَلِكَ
إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْكَرْخِيُّ مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ،
مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ
كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى أَمْرِ الْكِتَابِ أَوِ
الْأُمَّةِ، أَوْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ
قَدْ قَالَ ذَلِكَ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ،
وَأَضَافَهُ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
مُوجَبَ الْقِيَاسِ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ مِنَ الشَّارِعِ.
وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، لَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ وَلَا
يَكُونُ حُجَّةً.
وَالظَّاهِرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ
كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ بِصَدَدِ امْتِثَالِ
أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ
مِنْهُمْ: أُمِرْنَا بِكَذَا، وَنُهِيْنَا عَنْ كَذَا،
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَمْرَ ذَلِكَ الْمُقَدَّمِ
وَنَهْيَهُ، وَالصَّحَابَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا النَّحْوِ.
فَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مِنْهُمْ: أُمِرْنَا أَوْ
نُهِيْنَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهْيَهُ، وَلَا يُمْكِنُ
حَمْلُهُ عَلَى أَمْرِ الْكِتَابِ وَنَهْيِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ظَاهِرًا لِلْكُلِّ، فَلَا يَخْتَصُّ
بِمَعْرِفَتِهِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى أَمْرِ
الْأُمَّةِ وَنَهْيِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ
أُمِرْنَا وَنُهِينَا قَوْلُ الْأُمَّةِ، وَهُمْ لَا
يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا عَلَى أَمْرِ
الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذْ لَيْسَ أَمْرُ الْبَعْضِ
لِلْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
كَيْفَ وَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ
إِنَّمَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ لَا
يَكُونُ ثَابِتًا بِأَمْرِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَنَهْيِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا
قِيلَ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا وَنُهِيْنَا
خِطَابٌ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَا ظَهَرَ لِبَعْضِ
الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا
بِاتِّبَاعِ حُكْمِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْأَمْرِ
بِاتِّبَاعِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ الْقِيَاسُ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أُمِرْنَا وَنُهِيْنَا بِكَذَا عَنْ
كَذَا إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ، لَا الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ الْقِيَاسِ.
(2/97)
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلِ
الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا.
فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ (1) مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ،
وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُسَالَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ اسْمُ السُّنَّةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ سُنَّةِ
النَّبِيِّ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَلَى مَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ
بَعْدِي، عُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» ".
وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ،
فَلَا يَكُونُ صَرْفُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ
أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
قُلْنَا: وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ إِطْلَاقِ السُّنَّةِ
عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ
سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى
لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَصْلٌ، وَسُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
تَبَعٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَقْصُودُ الصَّحَابِيِّ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ
الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِسْنَادَ مَا قُصِدَ
بَيَانُهُ إِلَى الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى
التَّابِعِ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ
مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ السُّنَّةِ فِي كَلَامِ الصَّحَابِيِّ،
لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
_________
(1) أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
دَلَهُمِ بْنِ دَلَالٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنَفِيُّ مَاتَ 340
عَنْ 80 سَنَةً.
(2/98)
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قول
الصَّحَابِيُّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا، وَكَانُوا
يَفْعَلُونَ كَذَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ عَائِشَةَ: " كَانُوا
لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ ".
وَكَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (1) كَانُوا يَحْذِفُونَ
التَّكْبِيرَ حَذْفًا، فَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ
عَلَى فِعْلِ الْجَمَاعَةِ دُونَ بَعْضِهِمْ، خِلَافًا
لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ.
وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الظَّاهِرَ
مِنَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي
مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً
إِنْ لَوْ كَانَ مَا نَقَلَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى فِعْلِ
الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُجَّةً
عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى فِعْلِ
الْجَمِيعِ لَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلَمَا سَاغَ مُخَالَفَتُهُ
بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَحَيْثُ سَوَّغْتُمْ ذَلِكَ
دَلَّ عَلَى عَوْدِهِ إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ.
قُلْنَا: تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ
لِأَنَّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى الْجَمِيعِ وَقَعَ ظَنًّا لَا
قَطْعًا، وَذَلِكَ كَمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا
يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْقَاطِعَةِ فِي
الدَّلَالَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِمَا كَانَ طَرِيقُ اتِّبَاعِهِ ظَنِّيًّا،
وَإِنْ كَانَ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ عِنْدَمَا إِذَا
ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ صَحَابِيٍّ،
فَمُسْتَنَدُهُ فِي الرِّوَايَةِ إِمَّا قِرَاءَةُ الشَّيْخِ،
لِمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ، أَوِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ
أَوْ إِجَازَةُ الشَّيْخِ لَهُ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ
كِتَابًا بِمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ، أَوْ يُنَاوِلُهُ الْكِتَابَ
الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ، أَوْ أَنْ يَرَى خَطًّا يَظُنُّهُ
خَطَّ الشَّيْخِ بِأَنِّي سَمِعْتُ عَنْ فُلَانٍ كَذَا.
فَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ فِي الرِّوَايَةِ قِرَاءَةَ
الشَّيْخِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ قَدْ قَصَدَ
إِسْمَاعَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ
بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ: فَإِنْ قَصَدَ إِسْمَاعَهُ
بِالْقِرَاءَةِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَهَذَا هُوَ أَعْلَى
الرُّتَبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلِلرَّاوِي عَنْهُ
_________
(1) إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ
أَبُو عِمْرَانَ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ مَاتَ 96 عَنْ 49 أَوْ
عَنْ 58 سَنَةً، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ
صَحَابِيٍّ فَذِكْرُهُ هُنَا وَهْمٌ وَكَانَ يَجِبُ
تَأْخِيرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاوِي
غَيْرَ صَحَابِيٍّ.
(2/99)
أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا،
وَقَالَ فُلَانٌ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا، وَإِنْ لَمْ
يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا
وَأَخْبَرَنَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ، بَلْ
لَهُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ
كَذَا، وَيُحَدِّثُ بِكَذَا، وَيُخْبِرُ بِكَذَا.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ مَعَ سُكُوتِ الشَّيْخِ
مِنْ غَيْرِ مَا يُوجِبُ السُّكُوتَ عَنِ الْإِنْكَارِ، مِنْ
إِكْرَاهٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدِ
اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ
أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَتُهُ
صَحِيحَةً لَكَانَ سُكُوتُهُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِسْقًا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ
صِحَّةِ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ
الْعَدْلِ الْمُتَدَيِّنِ.
ثُمَّ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ عَلَى تَسْلِيطِ
الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ: أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فُلَانٌ
قِرَاءَةً عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا
مُطْلَقًا، وَالْأَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ
يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ
مِنْهُ كَذِبٍ.
وَأَمَّا إِجَازَةُ الشَّيْخِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ:
أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ،
أَوْ مَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ مَسْمُوعَاتِي، فَقَدِ
اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ:
فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ، وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ
عَلَى تَسْلِيطِ الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ: أَجَازَنِي فُلَانٌ
كَذَا وَحَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي إِجَازَةً، وَاخْتَلَفُوا
فِي قَوْلِهِ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ
بِذَلِكَ وَهُوَ كَذِبٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ
الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ (1) مِنْ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ، إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُجِيزُ وَالْمُجَازُ لَهُ
قَدْ عَلِمَا مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَجَازَ رِوَايَتَهُ،
جَازَتْ رِوَايَتُهُ بِقَوْلِهِ: أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي.
_________
(1) أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْجَصَّاصُ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مَاتَ
سَنَةَ 370 عَنْ 75 سَنَةً.
(2/100)
وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَتَبَ إِنْسَانٌ
صَكًّا، وَالشُّهُودُ يَرَوْنَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ:
اشْهَدُوا عَلَيَّ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الصَّكِّ،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
بِمَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ
بِالْإِجَازَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجِيزَ عَدْلٌ ثِقَةٌ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مَا عُلِمَ
صِحَّتُهُ، وَإِلَّا كَانَ بِإِجَازَتِهِ رِوَايَةَ مَا لَمْ
يَرَوْهُ فَاسِقًا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَدْلِ.
وَإِذَا عُلِمَتِ الرِّوَايَةُ أَوْ ظُنَّتْ بِإِجَازَتِهِ،
جَازَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْقَارِئَ
أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُحَدِّثِ فِعْلُ
الْحَدِيثِ، وَلَا مَا يَجْرِي مَجْرَى فِعْلِهِ، فَلَمْ
يَجُزْ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ: أَخْبَرَنِي، وَلَا
حَدَّثَنِي لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ
عَلَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ
دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ بِمَا إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنِ
الشَّيْخِ هُوَ الْقَارِئَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ
الشَّيْخِ فِعْلُ الْحَدِيثِ، وَلَا مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ
وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِنَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي
وَحَدَّثَنِي حَيْثُ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِ مَعَ
السُّكُوتِ دَلِيلَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ.
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْإِجَازَةِ
وَالْمُزَيَّفِ وَالْمُخْتَارِ يَكُونُ الْكَلَامُ فِيمَا
إِذَا نَاوَلَهُ كِتَابًا فِيهِ حَدِيثٌ سَمِعَهُ، وَقَالَ
لَهُ: قَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا فِيهِ،
وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: نَاوَلَنِي فُلَانٌ كَذَا،
وَأَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي مُنَاوَلَةً.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ أَيْضًا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ
بِحَدِيثٍ، وَقَالَ: أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي
فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَيُسَلِّطُ الرَّاوِي
عَلَى أَنْ يَقُولَ: كَاتَبَنِي بِكَذَا وَحَدَّثَنِي أَوْ
أَخْبَرَنِي بِكَذَا كِتَابَةً.
وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ
دُونَ لَفْظِ الْإِجَازَةِ، لَمْ تَجُزْ لَهُ الرِّوَايَةُ،
إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ مَا يَدُلُّ
عَلَى تَسْوِيغِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَلَا عَلَى صِحَّةِ
الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهِ.
أَمَّا رُؤْيَةُ خَطِّ الشَّيْخِ بِأَنِّي سَمِعْتُ مِنْ
فُلَانٍ كَذَا، فَلَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ
عَنْهُ، وَسَوَاءٌ قَالَ: هَذَا خَطِّي، أَوْ لَمْ يَقُلْ؛
لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ مَا سَمِعَهُ، ثُمَّ يُشَكِّكُ فِيهِ،
فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيطِ مِنْ قِبَلِ الشَّيْخِ عَلَى
الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِطَرِيقَةٍ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ
رِوَايَةُ مَا شَكَّ فِي رِوَايَتِهِ، إِجْمَاعًا، وَعَلَى
هَذَا، فَلَوْ رَوَى كِتَابًا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ،
وَشَكَّ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْهُ
(2/101)
غَيْرِ مُعَيَّنٍ، لَمْ تَجُزْ لَهُ
رِوَايَتُهُ (1) شَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ
مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ
الْمَشْكُوكُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ حَدِيثًا، وَشَكَّ فِي
رِوَايَتِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَلَيْسَ
لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ
وَاحِدٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَشْكُوكَ فِي
الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالرِّوَايَةُ مَعَ الشَّكِّ
مُمْتَنِعَةٌ.
نَعَمْ، لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَنْ
بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَسَمَاعِهِ مِنْهُ، فَهَذَا مِمَّا
اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ وَلَا
الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ
بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ
الْعِلْمِ، كَمَا فِي الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّتُهُ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ آحَادَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَحْمِلُونَ كُتُبَ
الرَّسُولِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ فِي أُمُورِ
الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
الْأَخْذُ بِهَا بِإِخْبَارِ حَامِلِهَا أَنَّهَا مِنْ كُتُبِ
الرَّسُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا مِمَّا سَمِعَهُ
الْحَامِلُ، وَلَا الْمَحْمُولُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهَا
مُغَلِّبَةً عَلَى الظَّنِّ.
وَلَا كَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ قَدِ اعْتُبِرَ
فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ مِثْلُهُ فِي
الرِّوَايَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى هَذَا، فَلَوْ قَالَ عَدْلٌ مِنْ عُدُولِ
الْمُحَدِّثِينَ عَنْ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إِنَّهُ
صَحِيحٌ، فَالْحُكْمُ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ وَالْخِلَافِ
فِيهِ، كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَرْوِيهِ،
مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ
عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا ظَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ.
_________
(1) رِوَايَتُهُ - الصَّوَابُ رِوَايَةٌ.
(2/102)
|