الإحكام في أصول الأحكام للآمدي [الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِيمَا اخْتُلِفَ
فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ]
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى نَقْلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ
بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ]
الْقِسْمُ الرَّابِعُ
فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ وَفِيهِ
عَشْرُ مَسَائِلَ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى
النَّاقِلِ، إِذْ (1) كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِدَلَالَاتِ
الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا، وَإِنْ كَانَ
عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى لَهُ النَّقْلُ بِنَفْسِ
اللَّفْظِ إِذْ هُوَ أَبْعَدُ عَنِ التَّغْيِيرِ
وَالتَّبْدِيلِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ.
وَإِنْ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي
الْمَعْنَى، وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَائِزٌ.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (2) وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ
وُجُوبُ نَقْلِ اللَّفْظِ عَلَى صُورَتِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَقَالَ: بِجَوَازِ إِبْدَالِ
اللَّفْظِ بِمَا يُرَادِفُهُ، وَلَا يَشْتَبِهُ الْحَالُ
فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْأَثَرُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا النَّصُّ، فَمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا
سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ
لَهُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ تُحَدِّثُنَا بِحَدِيثٍ لَا
نَقْدِرُ أَنْ نَسُوقَهُ كَمَا سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمُ
الْمَعْنَى فَلْيُحَدِّثْ» (3) وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُقَرِّرًا
لِآحَادِ رُسُلِهِ إِلَى الْبِلَادِ فِي إِبْلَاغِ أَوَامِرِهِ
وَنَوَاهِيهِ بِلُغَةِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ دُونَ لَفْظِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ
دَلِيلُ الْجَوَازِ.
_________
(1) إِذِ الصَّوَابُ إِنْ أَوْ إِذَا
(2) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمْ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْبَصْرِيُّ مَاتَ فِي
شَوَّالٍ سَنَةَ 110 عَنْ 77 سَنَةً وَأَبُو بَكْرٍ
الرَّازِيُّ هُوَ الْجَصَّاصُ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ.
(3) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي: رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو
الْأَزْهَرِ عَلَى وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، فَقُلْنَا
لَهُ: يَا أَبَا الْأَسْقَعِ حَدِّثْنَا إِلَخْ، وَمَكْحُولٌ
هُوَ أَبُو أَيُّوبَ أَوْ أَبُو مُسْلِمٍ الشَّامِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ، وَأَبُو الْأَزْهَرِ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ
فَرْوَةَ الدِّمَشْقِيُّ.
(2/103)
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ،
فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ
قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ فَقُلْنَا:
" حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ
"، فَغَضِبَ وَقَالَ: " لَا بَأْسَ إِذَا قَدَّمْتُ
وَأَخَّرْتُ إِذَا أَصَبْتُ الْمَعْنَى " (1) .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ
الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ شَرْحِ الشَّرْعِ
لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ، وَإِذَا جَازَ الْإِبْدَالُ
بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَفَهُّمِ الْمَعْنَى،
فَالْعَرَبِيَّةُ أَوْلَى.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ
مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ الْمَعْنَى
فِي الْكُرَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ،
بَلِ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى، وَمَعَ حُصُولِ
الْمَعْنَى، فَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ
وَالْمَعْقُولِ:
أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي
فَوَعَاهَا، وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ
فِقْهٍ إِلَى غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فَقْهٍ إِلَى
مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ".
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ
الْعُلَمَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَهْلَ الِاجْتِهَادِ، قَدْ
يَخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ مَعَ
اتِّحَادِهِ، حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ
يَتَنَبَّهُ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَتَنَبَّهُ عَلَيْهِ
الْآخَرُ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالرَّاوِي وَإِنْ كَانَ عَالِمًا
بِالْعَرَبِيَّةِ وَاخْتِلَافِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ،
فَقَدْ يَحْمِلُ اللَّفْظَ عَلَى مَعْنَى فَهْمِهِ مِنَ
الْحَدِيثِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِذَا أَتَى بِلَفْظٍ يُؤَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ
مِنَ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، مَعَ احْتِمَالِ
أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ بَعْضُ
الْمَقْصُودِ، فَلَا يَكُونُ وَافِيًا بِالْغَرَضِ مِنَ
اللَّفْظِ، وَرُبَّمَا اخْتَلَّ الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ
بِالْكُلِّيَّةِ بِتَقْدِيرِ تَعَدُّدِ النَّقَلَةِ، بِأَنْ
يَنْقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا سَمِعَهُ مِنَ الرَّاوِي الَّذِي
قَبْلَهُ بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ أَلْفَاظِهِ عَلَى حَسَبِ مَا
يَعْقِلُهُ مِنْ لَفْظِهِ، مَعَ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ فِي
الْمَعْنَى، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْمَعْنَى الْأَخِيرُ إِلَى
مُخَالَفَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِاللَّفْظِ النَّبَوِيِّ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
_________
(1) ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي الْحَدِيثَ
مُطَوَّلًا، وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي مَعْرِفَةِ
الصَّحَابَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أُكَيْمَةَ، وَهُوَ
السَّائِلُ وَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ لَا يَصِحُّ كَمَا قَالَ
السَّخَاوِيُّ: وَذَكَرَهُ الْجَوْزَجَانِيُّ فِي
الْمَوْضُوعَاتِ.
(2/104)
الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلٌ تَعَبَّدْنَا
بِاتِّبَاعِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ بِغَيْرِهِ،
كَالْقُرْآنِ وَكَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ
وَالتَّكْبِيرِ.
وَالْجَوَابُ: عَنِ النَّصِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَقَلَ مَعْنَى
اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ يَصِحُّ أَنْ
يُقَالَ أَدَّى مَا سَمِعَ كَمَا سَمِعَ، وَلِهَذَا يُقَالُ
لِمَنْ تَرْجَمَ لُغَةً إِلَى لُغَةٍ، وَلَمْ يُغَيِّرِ
الْمَعْنَى، أَدَّى مَا سَمِعَ كَمَا سَمِعَ، وَيَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَرِ إِنَّمَا هُوَ نَقْلُ
الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ،
وَهُوَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْفِقْهِ، إِذْ هُوَ
الْمُؤَثِّرُ فِي اخْتِلَافِ الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُ
النَّاسِ فِي قِيَامِ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ، فَذَلِكَ
مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيهُ وَالْأَفْقَهُ وَمَنْ
لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي تَغْيِيرِ
الْمَعْنَى.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِعَيْنِهِ يَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ نَقْلِ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ
حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِهِ مِنَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ
ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّهُ
قَدْ رُوِيَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» «، وَرَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً» ، «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ» ،
وَرُوِيَ لَا فِقْهَ لَهُ (1) .
وَعَنِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ
الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي نَقْلِ الْمَعْنَى
مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ
ظَهَرَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ
جَائِزًا.
وَعَنِ الثَّانِي بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا
ذَكَرُوهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَلْفَاظِهِ
الْإِعْجَازُ، فَتَغْيِيرُهُ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنِ
الْإِعْجَازِ فَلَا يَجُوزُ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَبَرُ فَإِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ
فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمَعْنَى، كَمَا
لَوْ قَالَ بَدَلَ اسْجُدِي وَارْكَعِي، ارْكَعِي وَاسْجُدِي،
وَلَا كَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ.
وَأَمَّا كَلِمَاتُ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ،
فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ التَّعَبُّدُ بِهَا،
وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِمَعْنَاهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ
الْخَبَرِ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ
لَيْسَ قِيَاسُ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِنْ
قِيَاسِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ حَيْثُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ
عَلَى شَهَادَةِ الْغَيْرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، وَإِنْ
كَانَ اللَّفْظُ مُخْتَلِفًا.
_________
(1) أَصْلُ الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ
وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ
(2/105)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا
أَنْكَرَ الشَّيْخُ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
إِذَا أَنْكَرَ الشَّيْخُ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ، فَلَا
يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُهُ لِذَلِكَ إِنْكَارَ
جُحُودٍ وَتَكْذِيبٍ لِلْفَرْعِ، أَوْ إِنْكَارَ نِسْيَانٍ
وَتَوَقُّفٍ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ
الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ (1) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ
كَذِبِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَدْحِ فِي
الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ جَرْحَ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَدْلٌ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي كَذِبِهِ.
وَالْأَصْلُ الْعَدَالَةُ فَلَا تُتْرَكُ بِالشَّكِّ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْخَبَرِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّانِي، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي
قَبُولِ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى
جَوَازِ الْعَمَلِ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ (2) وَجَمَاعَةٌ
مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ
وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَوَى عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ
مَعَ الشَّاهِدِ» (3) ثُمَّ نَسَبَهُ سُهَيْلٌ، فَكَانَ
يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي أَنِّي حَدَّثْتُهُ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَيَرْوِيهِ هَكَذَا.
وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ التَّابِعِينَ ذَلِكَ،
فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ.
_________
(1) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ
الْمُخْتَارُ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي
أَنَّ مُقَابِلَ الْمُخْتَارِ عَدَمُ رَدِّ الْمَرْوِيِّ،
قَالَ: وَاخْتَارَهُ السَّمْعَانِيُّ وَعَزَاهُ الشَّاشِيُّ
لِلشَّافِعِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلًا ثَالِثًا وَرَابِعًا
فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَاخْتَارَ عَدَمَ الرَّدِّ أَيْضًا ابْنُ
السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ
(2) الْكَرْخِيُّ هُوَ أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
دَلْهَمٍ
(3) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ
(2/106)
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَرْعَ عَدْلٌ، وَهُوَ جَازِمٌ
بِرِوَايَتِهِ عَنِ الْأَصْلِ، غَيْرُ مُكَذِّبٍ لَهُ وَهُمَا
عَدْلَانِ، فَوَجَبَ قَبُولُ الرِّوَايَةِ وَالْعَمَلُ بِهَا.
الثَّانِي: أَنَّ نِسْيَانَ الْأَصْلِ الرِّوَايَةُ لَا
تَزِيدُ عَلَى مَوْتِهِ وَجُنُونِهِ، وَلَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ،
كَانَتْ رِوَايَةُ الْفَرْعِ عَنْهُ مَقْبُولَةً، وَيَجِبُ
الْعَمَلُ بِهَا إِجْمَاعًا فَكَذَلِكَ إِذَا نَسِيَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَضِيَّةِ رَبِيعَةَ،
فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ سُهَيْلًا ذَكَرَ
الرِّوَايَةَ بِرِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ وَمَعَ الذِّكْرِ،
فَالرِّوَايَةُ تَكُونُ مَقْبُولَةً.
ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ
يَاسِرٍ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، (أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمَّا
كُنَّا فِي الْإِبِلِ، فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي
التُّرَابِ، ثُمَّ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ
تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ» (1) فَلَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ مِنْ
عَمَّارٍ مَا رَوَاهُ، مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا عِنْدَهُ، لِمَا
كَانَ نَاسِيًا لَهُ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، فَالْأَصْلُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا لِلْفَرْعِ، غَيْرَ أَنَّ
نِسْيَانَهُ لِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ
أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ لَهُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْحَاكِمُ:
لَا أَذْكُرُ ذَلِكَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ
شَهِدَا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ إِذَا
أَنْكَرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ شَهَادَةَ الْفَرْعِ عَلَيْهِ
عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا
تُقْبَلُ.
الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ سُهَيْلًا ذَكَرَ
الرِّوَايَةَ، قُلْنَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَانْطَوَى ذِكْرُ
رَبِيعَةَ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ شَيْخِهِ، كَمَا لَوْ نَسِيَ،
ثُمَّ تَذَكَّرَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ
لِرِوَايَةِ عَمَّارٍ عِنْدَ نِسْيَانِهِ، فَلَيْسَ نَظِيرًا
لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ عَمَّارًا لَمْ يَكُنْ رَاوِيًا
عَنْ عُمَرَ، بَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَحَيْثُ لَمْ يَعْمَلُ عُمَرُ بِرِوَايَتِهِ
فَلَعَلَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي رِوَايَتِهِ أَوْ كَأَنَّ
ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى
غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى مَا سَيَأْتِي
تَقْرِيرُهُ.
_________
(1) أَثَرُ مُحَاجَّةِ عَمَّارٍ لِعُمَرَ فِي تَيَمُّمِ
الْجُنُبِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَمَّا
حَدِيثُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَمَّارًا صِفَةَ التَّيَمُّمِ فَمَرْوِيٌّ فِي
الصَّحِيحَيْنِ
(2/107)
وَأَمَّا الْحَاكِمُ إِذَا نَسِيَ مَا
حَكَمَ بِهِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِحُكْمِهِ، فَقَدْ قَالَ
مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ: يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ
بِشَهَادَتِهِمَا، وَعِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
ذَلِكَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَلَا يَصِحُّ
لِأَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ،
وَقَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ الشُّرُوطِ وَالْقُيُودِ مَا
لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ
الْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ، وَلَا يُقْبَلْ
فِيهَا الْعَنْعَنَةُ، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى
الشَّهَادَةِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ
بَدَلَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لَا يَصِحُّ، وَلَا كَذَلِكَ فِي
الرِّوَايَةِ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ
الثِّقَاتِ حَدِيثًا وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
بِزِيَادَةٍ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
إِذَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ حَدِيثًا، وَانْفَرَدَ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ لَا تُخَالِفُ
الْمَزِيدَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ رَوَى جَمَاعَةٌ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
الْبَيْتَ، وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِزِيَادَةٍ،
فَقَالَ: دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى، فَلَا يَخْلُو إِمَّا
أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الرِّوَايَةِ مُخْتَلِفًا بِأَنْ
يَكُونَ الْمُنْفَرِدُ بِالزِّيَادَةِ رِوَايَتُهُ عَنْ
مَجْلِسٍ غَيْرِ مَجْلِسِ الْبَاقِينَ، أَوْ أَنَّ مَجْلِسَ
الرِّوَايَةِ مُتَّحِدٌ، وَيُجْهَلُ الْأَمْرَانِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ مُخْتَلِفًا، فَلَا نَعْرِفُ
خِلَافًا فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَعَلَ
الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْمَجْلِسَيْنِ دُونَ الْآخَرِ،
وَالرَّاوِي عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَقْدَحُ فِي
رِوَايَتِهِ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُ مَقْبُولَةً.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ رَوَى حَدِيثًا لَمْ يَنْقِلْهُ
غَيْرُهُ مَعَ عَدَمِ حُضُورِهِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي
رِوَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَخْصٍ
بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ فِي مَجْلِسٍ، وَشَهِدَتْ
بَيِّنَةٌ أُخْرَى عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَلْفٍ، لَا
يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ، مَعَ
أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ
كَمَا قَرَّرْنَا.
وَأَمَّا إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ
يَرْوُوا الزِّيَادَةَ قَدِ انْتَهَوْا إِلَى عَدَدٍ لَا
يُتَصَوَّرُ فِي الْعَادَةِ غَفْلَةُ مِثْلِهِمْ عَنْ سَمَاعِ
تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَفَهْمِهَا، فَلَا يَخْفَى أَنَّ
تَطَرُّقَ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ إِلَى الْوَاحِدِ فِيمَا
نَقَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، يَكُونُ أَوْلَى مِنْ تَطَرُّقِ
ذَلِكَ إِلَى الْعَدَدِ الْمَفْرُوضِ
(2/108)
فَيَجِبُ رَدُّهَا (1) وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَقَدِ اتَّفَقَ جَمَاعَةُ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ
الزِّيَادَةِ، خِلَافًا عَنْهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ
الْمُحَدِّثِينَ، وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَقَدْ
جَزَمَ بِالرِّوَايَةِ، وَعَدَمُ نَقْلِ الْغَيْرِ لَهَا
فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يَنْقُلِ الزِّيَادَةَ
قَدْ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ وَسَمِعَ بَعْضَ
الْحَدِيثِ أَوْ خَرَجَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ لِطَارِئٍ
أَوْجَبَ لَهُ الْخُرُوجَ قَبْلَ سَمَاعِ الزِّيَادَةِ.
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مِنْ أَوَّلِ الْمَجْلِسِ
إِلَى آخِرِهِ، فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَرَأَ مَا
شَغَلَهُ عَنْ سَمَاعِ الزِّيَادَةِ وَفَهْمِهَا مِنْ سَهْوٍ
أَوْ أَلَمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مُفْرِطٍ، أَوْ فِكْرَةٍ
فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ، أَوِ اشْتِغَالٍ بِحَدِيثٍ مَعَ غَيْرِهِ
وَالْتِفَاتٍ إِلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ نَسِيَهَا بَعْدَ مَا
سَمِعَهَا.
وَمَعَ تَطَرُّقِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ وَجَزْمِ الْعَدْلِ
بِالرِّوَايَةِ، لَا يَكُونُ عَدَمُ نَقْلِ غَيْرِهِ
لِلزِّيَادَةِ قَادِحًا فِي رِوَايَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَإِنْ كَانَتْ
مُنْقَدِحَةً فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرْوِ الزِّيَادَةَ،
فَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ عَلَى النَّاقِلِ
لِلزِّيَادَةِ أَيْضًا مُنْقَدِحٌ.
وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ تِلْكَ
الزِّيَادَةَ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهَا، أَوْ أَنَّهُ
سَمِعَهَا مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ، وَتَوَهَّمَ سَمَاعَهَا
مِنَ الرَّسُولِ، أَوْ أَنَّهُ ذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ
التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهَا
زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ، وَذَلِكَ كَمَا رَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ
يُسْتَوْفَى» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحْسَبُ غَيْرَ الطَّعَامِ
إِلَّا كَالطَّعَامِ، فَأَدْرَجَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي
الْحَدِيثِ.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «فَإِذَا زَادَتِ
الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ
الْفَرِيضَةُ» " فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الِاسْتِئْنَافَ
إِعَادَةً لِلْفَرْضِ الْأَوَّلِ فِي الْمِائَةِ الْأُولَى،
فَقَالَ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، وَأَدْرَجَ ذَلِكَ فِي
كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ
تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَيْسَ الْعَمَلُ
بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا، بَلِ التَّرْجِيحُ
بِجَانِبِ التَّرْكِ لِوَجْهَيْنِ:
_________
(1) وَقِيلَ تُقْبَلُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ
تَرَكَتْهَا اقْتِصَارًا عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِشْهَادِ لَا
غَلَطًا وَلَا سَهْوًا، وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ:
جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، تَفَرَّدَ
أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: وَتُرْبَتُهَا
طَهُورًا، انْظُرِ التَّقْرِيبَ وَشَرْحَهُ لِلسُّيُوطِيِّ
(2/109)
الْأَوَّلُ: أَنَّ احْتِمَالَ تَطَرُّقِ
الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ عَلَى الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنِ
احْتِمَالِ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّرْكَ عَلَى وَفْقِ النَّفْيِ
الْأَصْلِيِّ، وَالْإِثْبَاتَ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَانَ
أَوْلَى، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْمُقَوِّمُونَ
عَلَى قِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ بِزِيَادَةٍ
فِي تَقْوِيمِهِ فِي الْقِيمَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تُلْغَى
بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا عَارَضُوا بِهِ مِنَ السَّهْوِ فِي حَقِّ
رَاوِي الزِّيَادَةِ، أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا،
غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي حَقِّ
مَنْ لَمْ يَرْوِ الزِّيَادَةَ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ سَهْوَ
الْإِنْسَانِ عَمَّا سَمِعَهُ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْوِهِ
فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ
التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، غَيْرَ
أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ
الْعَدْلِ الثِّقَةِ أَنَّهُ لَا يُدْرِجُ فِي كَلَامِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ
فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ، وَلَوْ
جَوَّزَ مِثْلَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ حَدِيثٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ
أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَيَلْزَمُ
مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الْأَوَّلِ فَغَيْرُ
مُطَّرِدٍ فِيمَا إِذَا كَانَ عَدَدُ النَّاقِلِ لِلزِّيَادَةِ
مُسَاوِيًا لِعَدَدِ الْآخَرِينَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ
النِّزَاعِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ، فَقَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْجِيحَ بِجَانِبِ الْوَاحِدِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الثَّانِي فَهُوَ مُعَارَضٌ
بِمَا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُقْتَضِيَةً لِنَفْيِ
حُكْمٍ لَوْلَاهَا لَثَبَتَ، وَأَمَّا التَّقْوِيمُ
فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ بِطَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ الْخَطَأِ فِي
ذَلِكَ إِلَى الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى
الْجَمْعِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ
إِلَّا بِنَقْلِ مَا هُوَ مَحْسُوسٌ بِالسَّمْعِ، وَتَطَرُّقُ
الْخَطَأِ إِلَيْهِ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا إِنْ جُهِلَ الْحَالُ فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجَالِسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْحُكْمُ
عَلَى مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ،
وَقَبُولُ الزِّيَادَةِ فِيهِ أَوْلَى، نَظَرًا إِلَى
احْتِمَالِ اخْتِلَافِ مَجْلِسِ الرِّوَايَةِ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ
مُخَالِفَةً لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ
(2/110)
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهُ،
بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَالظَّاهِرُ
التَّعَارُضُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى
هَذَا لَوْ رَوَى الْوَاحِدُ الزِّيَادَةَ مَرَّةً،
وَأَهْمَلَهَا مَرَّةً، فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَالتَّفْصِيلُ
وَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا تَعَدَّدَتِ
الرُّوَاةُ، فَعَلَيْكَ بِالِاعْتِبَارِ.
وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَسْنَدَ الْخَبَرَ
وَاحِدٌ، وَأَرْسَلَهُ الْبَاقُونَ، أَوْ رَفَعَهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْقَفَهُ
الْبَاقُونَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ.
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا سَمِعَ الرَّاوِي خَبَرًا
وَأَرَادَ نَقْلَ بَعْضِهِ وَحَذْفَ بَعْضِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
إِذَا سَمِعَ الرَّاوِي خَبَرًا وَأَرَادَ نَقْلَ بَعْضِهِ،
وَحَذْفَ بَعْضِهِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ
الْخَبَرُ مُتَضَمِّنًا لِأَحْكَامٍ لَا يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا
بِبَعْضٍ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: (الْمُؤْمِنُونَ
تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ
أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ
عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي جَوَازِ
نَقْلِ الْبَعْضِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ أَخْبَارٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمَنْ سَمِعَ
أَخْبَارًا مُتَعَدِّدَةً فَلَهُ رِوَايَةُ الْبَعْضِ دُونَ
الْبَعْضِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى إِنَّمَا هُوَ نَقْلُ
الْخَبَرِ بِتَمَامِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ( «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي
فَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» ) .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ
مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ غَايَةٍ، كَنَهْيِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ؛ حَتَّى
تَحُوزَهُ التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَكَنَهْيِهِ عَنْ
بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، أَوْ شَرْطٍ: كَقَوْلِهِ (
«مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمْذَى فَلْيَتَوَضَّأْ
وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» ) .
أَوِ اسْتِثْنَاءٍ: كَقَوْلِهِ ( «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ
بِالْبُرِّ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلًا
بِمِثْلٍ» ) .
فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْخَبَرِ، وَقَطَعَهُ عَنِ الْغَايَةِ
أَوِ الشَّرْطِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ
لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وَتَبْدِيلِ الشَّرْعِ.
(2/111)
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ خَبَرُ
الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فِيمَا تَعُمُّ
بِهِ الْبَلْوَى]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فِيمَا
تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) فِي
نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَخَبَرِ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ
نَوْمِ اللَّيْلِ، وَخَبَرِهِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي
الرُّكُوعِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا وَنَحْوِهِ،
مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ (2)
وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ،
وَالْإِلْزَامُ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أَوْجَبَ
الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ لِلتَّفَقُّهِ
فِي الدِّينِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادًا، وَهُوَ مُطْلَقٌ فِيمَا
تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا لَا تَعُمُّ، وَلَوْلَا
أَنَّهُ وَاجِبُ الْقَبُولِ لَمَا كَانَ لِوُجُوبِهِ
فَائِدَةٌ، وَتَقْرِيرُهُ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا
الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى
الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ:
«كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا نَرَى بِذَلِكَ
بَأْسًا، حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
ذَلِكَ فَانْتَهَيْنَا» .
وَمِنْ ذَلِكَ رُجُوعُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي
وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ
إِنْزَالٍ إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُهَا «إِذَا
الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ
يُنْزِلْ، فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْنَا» .
وَمِنْ ذَلِكَ: رُجُوعُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي سُدُسِ
الْجَدَّةِ لَمَّا قَالَ لَهَا " لَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ
اللَّهِ شَيْئًا " إِلَى خَبَرِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَطْعَمَهَا السُّدُسَ» وَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
_________
(1) حَدِيثُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، اشْتُهِرَ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ بُسْرَةَ بِنْتِ
صَفْوَانَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ عَنْ غَيْرِ
بُسْرَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ بَيْنِهِمْ
فِيمَا عَرَفْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلْيُنْظُرْ
(2) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ تَعْلِيقًا فِي صَفْحَةِ 106
(2/112)
الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ
ثِقَةٌ، وَهُوَ جَازِمٌ بِالرِّوَايَةِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ
صِدْقُهُ، وَذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ،
فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ كَخَبَرِهِ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ وَاجِبَ
الِاتِّبَاعِ، كَالْقِيَاسِ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ،
فَكَانَ الظَّنُّ فِيهَا حُجَّةً.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ فَهُوَ أَنَّ الْوِتْرَ وَحُكْمَ
الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ،
وَوُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ، وَإِفْرَادَ
الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتَهَا، فَمِنْ قَبِيلِ مَا تَعُمُّ
بِهِ الْبَلْوَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَثْبَتَهَا الْخُصُومُ
بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ إِجْمَاعَ
الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا
تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَدَّ خَبَرَ
الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدَّةِ.
وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى
أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى
مَظْنُونٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَخُرُوجِ
الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، وَمَسِّ الذَّكَرِ مِمَّا
يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَوْ كَانَتِ الطَّهَارَةُ
مِمَّا تُنْتَقَضُ بِهِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَاعَتَهُ وَأَنْ لَا يَقْتَصِرَ
عَلَى مُخَاطَبَةِ الْآحَادِ بِهِ، بَلْ يُلْقِيهِ عَلَى
عَدَدِ التَّوَاتُرِ مُبَالَغَةً فِي إِشَاعَتِهِ، حَتَّى لَا
يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ صَلَاةِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ،
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْهُ سِوَى
الْوَاحِدِ دَلَّ عَلَى كَذِبِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهُ،
وَالْجَوَابُ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِهِ.
فَحَيْثُ انْفَرَدَ بِهِ الْوَاحِدُ دَلَّ عَلَى كَذِبِهِ،
كَانْفِرَادِ الْوَاحِدِ بِنَقْلِ قَتْلِ أَمِيرِ الْبَلَدِ
فِي السُّوقِ، بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ وَطُرُوءِ حَادِثَةٍ
مَنَعَتِ النَّاسَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّ
الْخَطِيبَ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عَلَى رَأْسِ
الْمِنْبَرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ
لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى،
بِمَعْرِفَتِهِ امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِلْزَامَاتِ فَغَيْرُ
مُسَاوِيَةٍ فِي عُمُومِ الْبَلْوَى لِمَسِّ الذَّكَرِ، فَلَا
تَكُونُ فِي مَعْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ رَدِّ أَبِي بَكْرٍ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ
فِي الْجَدَّةِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا ; وَلِهَذَا
عَمِلَ بِهِ لِمَا تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ، وَخَبَرُهُمَا غَيْرُ خَارِجٍ عَنِ الْآحَادِ.
(2/113)
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ
مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفًا
بِالْإِشَاعَةِ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ
غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ إِبْطَالُ
صَلَاةِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ
يَبْلُغْهُ ذَلِكَ، فَالنَّقْضُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ.
وَلَا تَكْلِيفَ بِمَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ
دَلِيلٌ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَلْزَمُ
تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ إِنْ لَوْ كَانَ لَا
طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ سِوَى النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ،
وَأَمَّا إِذَا كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ
الظَّنُّ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ كَافٍ فِيهِ، وَلِهَذَا جَازَ
إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ إِجْمَاعًا، وَمَا اسْتَشْهَدُوا
بِهِ مِنَ الْوَقَائِعِ فَغَيْرُ مُنَاظِرَةٍ لِمَا نَحْنُ
فِيهِ، إِذِ الطِّبَاعُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا
وَإِشَاعَتِهَا عَادَةً، فَانْفِرَادُ الْوَاحِدِ يَدُلُّ
عَلَى كَذِبِهِ (1) .
ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مُنْتَقِضٌ عَلَيْهِمْ
حَيْثُ عَمِلُوا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ صُوَرِ الْإِلْزَامِ وَمَسِّ الذَّكَرِ، وَإِنْ كَانَ
أَعَمَّ فِي الْوُقُوعِ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ، فَذَلِكَ لَا
يُخْرِجُ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْ كَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي
عُمُومِ الْبَلْوَى.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى، بَلْ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ فِي إِثْبَاتِ
نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقَطْعِ،
وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ إِشَاعَتُهُ وَإِلْقَاؤُهُ
عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ (2) .
وَلَا كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الظَّنَّ كَافٍ
فِيهِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَمَا
عَدَا الْقُرْآنِ مِمَّا أُشِيعُ إِشَاعَةً اشْتَرَكَ فِيهَا
الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ، وَأُصُولِ
الْمُعَامَلَاتِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِمَّا كَانَ
يَجُوزُ أَنْ لَا يَشِيعَ، فَذَلِكَ إِمَّا بِحُكْمِ
الِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِإِشَاعَتِهِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ (3) .
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا
(2) هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ مَعَ الْآحَادِ،
وَكَانَ يُرْسِلُ الْوُلَاةَ وَالدُّعَاةَ إِلَى الدِّينِ
أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَالْمُعَلِّمِينَ لَهُ آحَادًا،
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ سِيرَتِهِ فِي ذَلِكَ
(3) بَلْ ذَلِكَ مُتَعَبَّدٌ بِهِ مَقْصُودٌ إِشَاعَتُهُ
وَلَوْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ
(2/114)
[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا رَوَى
الصَّحَابِيُّ خَبَرًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُجْمِلًا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
إِذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ
يَكُونَ مُجْمِلًا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُجْمِلًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ مَحَامِلَ عَلَى
السَّوِيَّةِ، كَلَفْظِ الْقُرُوءِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ
حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى بَعْضِ مَحَامِلِهِ، فَإِنْ قُلْنَا
إِنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ
مَحَامِلِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَهُوَ الْقِسْمُ
الثَّانِي وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: بِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ
مَحَامِلِهِ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ حَمْلِ
الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ،
لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَيُخَلِّيهِ
عَنْ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ
مِنَ الْكَلَامِ.
وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْمُشَاهِدُ لِلْحَالِ أَعْرَفُ
بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَلَا
يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ تَعْيِينَهُ لَا يَكُونُ
حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى
يَنْظُرَ، فَإِنِ انْقَدَحَ لَهُ وَجْهٌ يُوجِبُ تَعْيِينَ
غَيْرِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ،
وَإِلَّا فَتَعْيِينُ الرَّاوِي صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ،
فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى،
وَحَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى غَيْرِهِ، فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ
الْخَبَرِ دُونَ تَأْوِيلِ الرَّاوِي: وَلِهَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ كَيْفَ أَتْرُكُ الْخَبَرَ لِأَقْوَالِ
أَقْوَامٍ، لَوْ عَاصَرْتُهُمْ لَحَاجَجْتُهُمْ بِالْحَدِيثِ؟
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى
وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ
لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ، سِوَى عِلْمِهِ
بِقَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جُوزَ أَنْ يَكُونَ قَدْ
صَارَ إِلَيْهِ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ، مِنْ نَصٍّ أَوْ
قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ
كَانَ مُقْتَضِيًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ
إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي
الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ مَأْخَذُهُ فِي
الْمُخَالَفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ حَمْلَ
الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّاوِي، وَجَبَ
اتِّبَاعُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَمِلَ
بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ
حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ.
(2/115)
وَإِنَّ جُهِلَ مَأْخَذُهُ فَالْوَاجِبُ
الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاوِيَ
عَدْلٌ، وَقَدْ جَزَمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ
الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ، وَمُخَالَفَةِ الرَّاوِي لَهُ،
فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِنِسْيَانٍ طَرَأَ عَلَيْهِ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِدَلِيلٍ اجْتَهَدَ فِيهِ وَهُوَ
مُخْطِئٌ فِيهِ، أَوْ هُوَ مِمَّا يَقُولُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ
مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، كَمَا عُرِفَ مِنْ مُخَالَفَةِ
مَالِكٍ، لِخَبَرِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمَا رَآهُ مِنْ
إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ، مِنْ قَصْدِ
النَّبِيِّ لَهُ.
وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ،
فَالظَّاهِرُ لَا يُتْرُكُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ،
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَبِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ، لَا
يَكُونُ فَاسِقًا، حَتَّى يَمْتَنِعَ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ،
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْخَصْمِ إِنَّهُ إِنْ أَحْسَنَ
الظَّنَّ بِالرَّاوِي وَجَبَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا
حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُسِيئَ بِهِ الظَّنُّ امْتَنَعَ
الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَبَرُ نَصًّا فِي دَلَالَتِهِ، غَيْرَ
مُحْتَمِلٍ لِلتَّأْوِيلِ وَالْمُخَالَفَةِ، فَلَا وَجْهَ
لِمُخَالَفَةِ الرَّاوِي لَهُ سِوَى احْتِمَالِ اطِّلَاعِهِ
عَلَى نَاسِخٍ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا فِي نَظَرِهِ،
وَلَا يَكُونُ نَاسِخًا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ
الْمُجْتَهِدِينَ.
وَمَا ظَهَرَ فِي نَظَرِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى
غَيْرِهِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، فَلَا يُتْرَكُ النَّصُّ
الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.
[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَلَا
يُرَدُّ لَهُ الْخَبَرُ إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهِ، أَوْ
كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهِ، لَكِنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ الَّتِي لَا
يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
خَوَاصِّهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنَ الْفِعْلِ
أَوِ الْخَبَرِ إِنْ تَعَذَّرَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا
بِالْآخَرِ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ
فَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، فَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِذَلِكَ
إِجْمَاعًا.
وَإِنْ خَالَفَ بَاقِي الْحُفَّاظِ لِلرَّاوِي فِيمَا
نَقَلَهُ، فَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى
أَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ إِلَى الْجَمَاعَةِ،
وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْوَاحِدِ،
غَيْرَ أَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ إِلَى مَا لَمْ يُسْمَعْ
أَنَّهُ سُمِعَ أَبْعَدُ مِنْ تَطَرُّقِ السَّهْوِ إِلَى مَا
سُمِعَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ (1) .
_________
(1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ لِلْآمِدِيِّ فِي تَفَرُّدِ
الثِّقَةِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِرِوَايَةٍ زِيَادَةٍ فِي
الْحَدِيثِ ص
(2/116)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَبُولِ
خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اتَّفَقَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا
يُوجِبُ الْحَدَّ، وَفِي كُلِّ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ،
خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ،
وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَوَجَبَ
قَبُولُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
«نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى
السَّرَائِرَ» " (1) وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ
بِالظَّنِّ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بِالشَّهَادَةِ، وَبِظَاهِرِ
الْكِتَابِ، فَجَازَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ
ظَنِّيَّةٌ (2) فَكَانَ الظَّنُّ كَافِيًا فِيهَا.
وَسُقُوطُهُ بِالشُّبْهَةِ لَوْ كَانَ لَكَانَ مَانِعًا مِنَ
الْأَعْمَالِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَعَلَى مَنْ
يَدَّعِيهِ بَيَانُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ مِمَّا يَدْخُلُهُ احْتِمَالُ
الْكَذِبِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «ادْرَءُوا
الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ) فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِثْبَاتِهِ
بِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْكَذِبِ، وَمَعَ
ذَلِكَ يَثْبُتُ بِهَا.
_________
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص. . . الْجُزْءُ الثَّانِي،
وَارْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَلْخِيصِ
الْحَبِيرِ مِنِ اسْتِنْكَارِ الْمُزَنِيِّ حَدِيثَ " إِنَّمَا
نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ "
ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَثَرِ عُمَرَ "
إِنَّمَا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ
الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ الْآنَ بِمَا
ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ " وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ
حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
عَلَى الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ
(2) اعْتَرَفَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ،
وَاخْتَارَ الْوَقْفَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ
مَعَ هَذَا دَعْوَاهُ مِرَارًا أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ
قَطْعِيَّةٌ، انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 71 - 80 ج 2
(2/117)
[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ خَبَرُ
الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
خَبَرُ الْوَاحِدِ، إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، فَإِمَّا أَنْ
يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا
مُثْبِتًا لِمَا نَفَاهُ الْآخَرُ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ
وَجْهٍ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخَصَّصًا لِلْآخَرِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْكَرْخِيُّ،
وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ عَلَى
الْقِيَاسِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ، وَقَالَ
عِيسَى (1) بْنُ أَبَانَ: إِنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا
عَالِمًا غَيْرَ مُتَسَاهِلٍ فِيمَا يَرْوِيهِ، قُدِّمَ
خَبَرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَوْضِعُ
اجْتِهَادٍ.
وَفَصَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، فَقَالَ: عِلَّةُ
الْقِيَاسِ الْجَامِعَةُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ
مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، فَالنَّصُّ
عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ غَيْرَ
مَقْطُوعٍ: فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، وَتَعَذَّرَ
الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعِلَّةِ لِأَنَّ
النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا، وَهُوَ
مَقْطُوعٌ بِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ، فَكَانَتْ
مُقَدَّمَةً.
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ مَقْطُوعًا
بِهِ، وَلَا حُكْمُهَا فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ،
فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لِاسْتِوَاءِ
النَّصَّيْنِ فِي الظَّنِّ، أَوِ اخْتِصَاصِ خَبَرَ الْوَاحِدِ
بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِصَرِيْحِهِ مِنْ غَيْرِ
وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ،
فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ
الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا قَطْعًا،
فَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَحُكْمُ الْأَصْلِ،
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِدَلِيلٍ
مَقْطُوعٍ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ،
فَالْأَخْذُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ قَطْعًا، قَالَ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَوْضِعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ
النَّاسِ، وَمُخْتَارُهُ أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِالْوَقْفِ.
وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
مَتْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ قَطْعِيًّا، أَوْ ظَنِّيًّا: فَإِنْ
كَانَ مَتْنُهُ قَطْعِيًّا فَعِلَّةُ الْقِيَاسِ، إِمَّا أَنْ
تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ
مَنْصُوصَةً، وَقُلْنَا إِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عِلَّةِ
الْقِيَاسِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْقِيَاسِ فَالنَّصُّ
_________
(1) هُوَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بْنِ صَدَقَةَ
الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي مَاتَ سَنَةَ 221
(2/118)
الدَّالُّ عَلَيْهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُسَاوِيًا فِي الدَّلَالَةِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ
رَاجِحًا عَلَيْهِ، أَوْ مَرْجُوحًا.
فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى
لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ،
وَدَلَالَةِ نَصِّ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِهَا بِوَاسِطَةٍ.
وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى مَعَ
دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنْ
كَانَ رَاجِحًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَوُجُودُ الْعِلَّةِ
فِي الْفَزَعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ
مَظْنُونًا: فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا، فَالْمَصِيرُ إِلَى
الْقِيَاسِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِيهِ
مَظْنُونًا، فَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ نَصَّ
الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ
رَاحِجًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ
بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا بِوَاسِطَةٍ،
فَاعْتَدَلَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَالْخَبَرُ
مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، وَدَلِيلُهُ النَّصُّ
وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حَيْثُ بَعَثَهُ
إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا: ( «بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ بِكِتَابِ
اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ، قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ
رَأْيِي، وَلَا آلُو» .
أَخَّرَ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ عَنِ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ
تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ
اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .
وَإِمَّا الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، تَرَكَ الْقِيَاسَ فِي الْجَنِينِ لِخَبَرِ حَمَلِ
بْنِ مَالِكٍ، وَقَالَ: " لَوْلَا هَذَا، لَقَضَيْنَا فِيهِ
بِرَأْيِنَا ".
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ، فِي
تَفْرِيقِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ عَلَى قَدْرِ مَنَافِعِهَا
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي رَوَى فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرًا
مِنَ الْإِبِلِ، وَتَرَكَ اجْتِهَادَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَرَكَ اجْتِهَادَهُ فِي مَنْعِ مِيرَاثِ
الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ،
وَقَالَ: " أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا،
فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا " وَكَانَ ذَلِكَ
مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَصَارَ إِجْمَاعًا.
(2/119)
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنْ خَبَرَ
الْوَاحِدِ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَغْلَبُ عَلَى
الظَّنِّ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ
أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْخَبَرِ وَاحْتِمَالَ الْخَطَأِ
فِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
لَا يَخْرُجُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَنْ عَدَالَةِ الرَّاوِي،
وَعَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً
مَعْمُولًا بِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ حُكْمُ أَصْلِهِ
ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى
الِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَبِتَقْدِيرِ
أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَيَفْتَقِرُ
إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ
مِمَّا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ أَوْ لَا.
وَبِتَقْدِيرِ إِمْكَانِ تَعْلِيلِهِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى
الِاجْتِهَادِ فِي إِظْهَارِ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ،
وَبِتَقْدِيرِ ظُهُورِ وَصْفٍ صَالِحٍ يَفْتَقِرُ إِلَى
الِاجْتِهَادِ فِي نَفْيِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي الْأَصْلِ.
وَبِتَقْدِيرِ سَلَامَتِهِ عَنْ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إِلَى
الِاجْتِهَادِ فِي وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، وَبِتَقْدِيرِ
وَجُودِهِ فِيهِ، يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي نَفْيِ
الْمُعَارِضِ فِي الْفَرْعِ مِنْ وُجُودِ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ
شَرْطٍ، وَبِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى
النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً.
فَهَذِهِ سَبْعَةُ أُمُورٍ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا.
وَمَا يَفْتَقِرُ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ
أُمُورٍ لَا غَيْرَ، فَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهِ يَكُونُ
أَقَلَّ احْتِمَالًا مِنِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيمَا
يَفْتَقِرُ فِي بَيَانِهِ إِلَى سَبْعَةِ أُمُورٍ. فَكَانَ
خَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى.
وَرُبَّمَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ خَبَرِ الْوَاحِدِ هُنَا
وُجُوهٌ أُخَرُ وَاهِيَةٌ آثَرْنَا الْإِعْرَاضَ عَنْ
ذِكْرِهَا، لِظُهُورِ فَسَادِهَا بِأَوَّلِ نَظَرٍ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ خَبَرِ مُعَاذٍ،
فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ
الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ مَقْطُوعًا بِعِلِّيَّتِهَا
وَبِوُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيمِ خَبَرِ
الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ
يَقْبَلْ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
" إِذَا «اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ
يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» "
لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ رَدَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي
التَّوَضِّي مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ بِالْقِيَاسِ، وَقَالَ:
أَلَسْنَا نَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْحَمِيمِ، فَكَيْفَ
نَتَوَضَّأُ بِمَا عَنْهُ نَتَوَضَّأُ؟ .
(2/120)
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ
التَّرْجِيحِ، فَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى
الْخَبَرِ مِنِ احْتِمَالِ كَذِبِ الرَّاوِي، وَأَنْ يَكُونَ
فِي نَفْسِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُخْطِئًا.
وَاحْتِمَالُ الْإِجْمَالِ فِي دَلَالَةِ الْخَبَرِ
وَالتَّجَوُّزِ، وَالْإِضْمَارِ وَالنَّسْخِ، وَكُلِّ ذَلِكَ،
غَيْرُ مُتَطَرِّقٍ إِلَى الْقِيَاسِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ بِهِ تَخْصِيصُ عُمُومِ
الْكِتَابِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ
تَرْكُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى، وَأَيْضًا
فَإِنَّ الظَّنَّ بِالْقِيَاسِ يَحْصُلُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ
جِهَةِ نَفْسِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنْ
خَبَرِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ،
وَثِقَةُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَتَمُّ مِنْ ثِقَتِهِ
بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، بِتَقْدِيرِ
إِكْذَابِ الْمُخْبِرِ لِنَفْسِهِ، يُخْرِجُ الْخَبَرَ عَنْ
كَوْنِهِ شَرْعِيًّا، وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ إِنَّكُمْ خَالَفْتُمْ خَبَرَ
مُعَاذٍ، قُلْنَا: غَايَتُهُ أَنَّا خَصَّصْنَاهُ فِي صُورَةٍ
لِمَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَبَقِينَا
عَامِلِينَ بِعُمُومِهِ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الصُّورَةِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّ خَبَرَ أَبِي
هُرَيْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِيمَا ذَكَرُوهُ، لَيْسَ كَذَلِكَ،
أَمَّا رَدُّهُ لِخَبَرِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ، فَإِنَّمَا
يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، أَنْ لَوْ كَانَ قَدْ رَدَّهُ
لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ غَسْلِ
الْيَدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْقِيَاسِ
الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، فَهُوَ
إِنَّمَا رَدَّهُ لَا لِلْقِيَاسِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَمَاذَا تَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ.
وَالْمِهْرَاسُ كَانَ حَجَرًا عَظِيمًا يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ
لِأَجْلِ الْوُضُوءِ، فَاسْتَبْعَدَ الْأَخْذَ بِالْخَبَرِ
لِاسْتِبْعَادِهِ صَبَّ الْمَاءَ مِنَ الْمِهْرَاسِ عَلَى
الْيَدِ.
وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَخَيَّلَهُ مِنَ
الِاسْتِبْعَادِ عَائِشَةَ، حَيْثُ قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ
أَبَا هُرَيْرَةَ لَقَدْ كَانَ رَجُلًا مِهْذَارًا، فَمَاذَا
يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟ (1) .
وَأَمَّا تَرْكُهُ لِخَبَرِ التَّوَضِّي مِمَّا مَسَّتِ
النَّارُ، فَلَمْ يَكُنْ بِالْقِيَاسِ، بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «أَكَلَ
كَتِفَ شَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ،
ثُمَّ ذَكَرَ الْقِيَاسَ بَعْدَ مُعَارَضَتِهِ بِالْخَبَرِ.
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 75 ج2
(2/121)
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَرْجِيحَاتِ
الْقِيَاسِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَمُنْدَفِعَةٌ.
أَمَّا تَطَرُّقُ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ
وَالْخَطَأِ إِلَى الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا،
فَمِثْلُهُ مُتَطَرِّقٌ إِلَى دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذَا
كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ
صُوَرِ النِّزَاعِ.
وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَلَا
يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ ظَهَرَتْ
عَدَالَتُهُ وَإِسْلَامُهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْرُّقِ الْخَطَأِ
إِلَى الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ
احْتِمَالَاتِ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ، لِكَوْنِهِ
مُعَاقَبًا عَلَى الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ،
بِخِلَافِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ
مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ، بَلْ مُثَابٍ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَطَرُّقِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ
وَالنَّسْخِ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا
يُوجِبُ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ الظَّاهِرِ
مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّ
جَمِيعَ ذَلِكَ مُتَطَرَّقٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
الْقِيَاسِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ
الْكِتَابِ بِهِ، قُلْنَا وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ، فَلَا
تَرْجِيحَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا
يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ، مَعَ
أَنَّهُ غَيْرُ مُعَطِّلٍ لِلْكِتَابِ، أَنْ يَكُونَ
مُعَطِّلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِذِ
الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ
الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الظَّنَّ مِنَ الْقِيَاسِ يَحْصُلُ لَهُ
مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، قُلْنَا:
إِلَّا أَنَّ تَطَرُّقَ الْخَطَأِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ
تَطَرُّقِهِ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا سَبَقَ
تَقْرِيرُهُ.
وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَبَرَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ
شَرْعِيًّا بِإِكْذَابِ الْمُخْبِرِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ.
قُلْنَا: وَبِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ يَخْرُجُ
عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسِيًّا شَرْعِيًّا فَاسْتَوَيَا، كَيْفَ
وَإِنَّ التَّرْجِيحَ لِلْخَبَرِ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى غَيْرُ
مَا ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى
كَلَامِ الْمَعْصُومِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ
مُسْتَنِدٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ غَيْرُ
مَعْصُومٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُفْتَقِرٌ إِلَى جِنْسِ
النَّصِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَفِي كَوْنِهِ
حُجَّةً، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شَرَفِ
الْقِيَاسِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يَصِيرُ قَطْعِيًّا
بِمَا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ
مُتَوَاتِرًا، وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ لَا
يَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ بِمَا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنْ جِنْسِ
الْأَقْيِسَةِ أَصْلًا، فَكَانَ أَوْلَى.
(2/122)
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَا
وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْآخَرِ،
فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ هُوَ الْأَعَمَّ، جَازَ أَنْ يَكُونَ
الْقِيَاسُ مُخَصَّصًا لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي تَخْصِيصِ
الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَعَمَّ مِنْ خَبَرِ
الْوَاحِدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ لَا تَبْطُلُ
بِتَقْدِيرِ تَخْصِيصِهَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَبِالْقِيَاسِ فِيمَا عَدَا
ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَبْطُلُ بِتَقْدِيرِ
تَخْصِيصِهَا، فَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا
إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ
الْوَاحِدِ.
[الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ.
اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ وَصُورَتِهِ،
مَا إِذَا قَالَ مَنْ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عَدْلًا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
".
فَقَبِلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَمَاهِيرُ
الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ.
وَفَصَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ،
وَمَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مُطْلَقًا، دُونَ مَنْ
عَدَا هَؤُلَاءِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ
قَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ
أَوْ مُرْسَلًا قَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ أَوْ
أَرْسَلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عَنْ غَيْرِ شُيُوخِ
الْأَوَّلِ، أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، أَوْ قَوْلُ
أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ
قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ عَمَّنْ فِيهِ
عِلَّةٌ مِنْ جَهَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَمَرَاسِيلِ ابْنِ
الْمُسَيَّبِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ وَإِلَّا فَلَا.
وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْقَاضِي
أَبُو بَكْرٍ (1) وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمُخْتَارُ قَبُولُ مَرَاسِيلِ الْعَدْلِ مُطْلَقًا،
وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْإِجْمَاعُ
فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى
قَبُولِ الْمَرَاسِيلِ مِنَ الْعَدْلِ:
_________
(1) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ
(2/123)
أَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا
أَخْبَارَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَعَ كَثْرَةِ
رِوَايَتِهِ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى أَرْبَعَةِ
أَحَادِيثَ، لِصِغَرِ سِنِّهِ (1) .
وَلَمَّا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ
يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى حَجَرَ الْعَقَبَةِ» .
قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، لَمَّا رُوجِعَ فِيهِ:
أَخْبَرَنِي بِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ فِي
الْخَبَرِ الثَّانِي: أَخْبَرَنِي بِهِ أَخِي الْفَضْلُ بْنُ
عَبَّاسٍ (2) .
وَأَيْضًا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ صَلَّى
عَلَى جِنَازَةٍ، فَلَهُ قِيرَاطٌ» " وَأَسْنَدَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَيْضًا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَصْبَحَ
جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَلَا صَوْمَ لَهُ " وَقَالَ: مَا أَنَا
قُلْتُهُ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا قَالَهُ»
، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ
بْنُ عَبَّاسٍ.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّهُ
قَالَ: مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَكِنْ سَمِعْنَا بَعْضَهُ، وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا
بِبَعْضِهِ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ
إِرْسَالُ الْأَخْبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ
عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ إِذَا حَدَّثْتَنِي فَأَسْنِدْ، فَقَالَ: إِذَا
قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ
الَّذِي حَدَّثَنِي، وَإِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَا
رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا، فَلَمَّا
رُوجِعَ فِيهِ قَالَ: (أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا،
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِ
الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَزَلْ
ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) .
_________
(1) قَدْ يُقَالُ إِنَّمَا قَبِلُوا أَخْبَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَمْلًا
لَهَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الِاتِّصَالِ، كَمَا هُوَ
الْحُكْمُ فِي رِوَايَةِ كُلِّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ
بِالتَّدْلِيسِ إِذَا رَوَى عَمَّ لَقِيَهُ بِصِيغَةٍ لَيْسَتْ
صَرِيحَةً فِي الِاتِّصَالِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ
مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا
أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَدَعْوَى يَرُدُّهَا
الْوَاقِعُ، انْظُرْ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ
(2) انْظُرْ تَخْرِيجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَةِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ لِابْنِ
حَجَرٍ وَنَصْبِ الرَّايَةِ
(3) أَقُولُ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى
جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ، وَإِمَّا
أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا
دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرْسَلَةُ مِنَ
الْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ
أَهَمِّهَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لِكُلِّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا
بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالْكَلَامُ فِي
مِثْلِهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى
وَجْهِ الْبَحْثِ، وَالْمُنَاظَرَةُ دُونَ الْإِنْكَارِ،
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ، فَهُوَ
إِجْمَاعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ النِّزَاعُ
هُنَا فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُ
مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ هُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ
مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي
فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَائِمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ
(2/124)
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ
الْعَدْلَ الثِّقَةَ إِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، مُظْهِرًا
لِلْجَزْمِ بِذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا
يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ أَوْ ظَانٌّ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ظَانًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ،
لَمَا اسْتَجَازَ فِي دِينِهِ النَّقْلَ الْجَازِمَ عَنْهُ،
لِمَا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى
الْمُسْتَمِعِينَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيلَ مَنْ
رُوِيَ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَالِمًا وَلَا ظَانًّا
بِصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ (1) .
فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ، وَدَلِيلُهُ مِنْ
جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ
فَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْإِجْمَاعَ
قَاطِعٌ، فَلَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ فَهُوَ أَنَّ غَايَةَ مَا
ذَكَرَ مَصِيرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَى
الْإِرْسَالِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى
إِجْمَاعِ الْكُلِّ.
قَوْلُكُمْ: لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ لَا نُسَلِّمُ
ذَلِكَ، وَلِهَذَا بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ
وَأَبَا هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَسْنَدَ كُلُّ وَاحِدٍ
مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا نَأْخُذُ بِمَرَاسِيلِ الْحَسَنِ
وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ النَّكِيرِ،
فَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا، وَالسُّكُوتُ لَا يَدُلُّ
عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ
الْإِجْمَاعِ، سَلَّمْنَا الْمُوَافَقَةَ، غَيْرَ أَنَّ
الْإِرْسَالَ الْمُحْتَجَّ بِوُقُوعِهِ، إِنَّمَا وَقَعَ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ ;
لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إِنَّمَا يَرْوِي عَنِ
الصَّحَابِيِّ، وَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ عَلَى مَا سَبَقَ
تَحْقِيقُهُ.
_________
(1) أَقُولُ إِنْ سَلِمَ عِلْمُ الرَّاوِي أَوْ ظَنُّهُ
نِسْبَةَ الْخَبَرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَالَةَ مَنْ رَوَاهُ
عَنْهُ فِي نَظَرِهِ دُونَ عَدَالَتِهِ فِي نَظَرِ غَيْرِهِ،
وَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي
حَالِهِ
(2/125)
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ
الْمَعْقُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: " قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ " تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الشَّخْصُ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ،
لَجَرَحَهُ، أَوْ تَوَقَّفَ فِيهِ، فَالرَّاوِي سَاكِتٌ عَنِ
التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الْجَرْحِ لَا
يَكُونُ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا كَانَ السُّكُوتُ عَنِ
التَّعْدِيلِ جَرْحًا ; وَلِهَذَا فَإِنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ
لَوْ أَرْسَلَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ
تَعْدِيلًا لِشَاهِدِ الْأَصْلِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُكُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ظَانًّا لِعَدَالَةِ
الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ عَالِمًا بِهَا، لَمَا جَازَ لَهُ
أَنْ يَجْزِمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا إِمْكَانَ
الرِّوَايَةِ عَنِ الْكَاذِبِ، وَالْجَزْمَ بِالرِّوَايَةِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ
تَجْوِيزِ كَذِبِ الرَّاوِي، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي
الرِّوَايَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَزْمُ، فَلَيْسَ حَمْلُ قَوْلِهِ:
(قَالَ) عَلَى مَعْنَى (أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ) أَوْلَى مِنْ
حَمْلِهِ عَلَى (أَنِّي سَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ) وَلَوْ حُمِلَ
عَلَى (أَنِّي سَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ) لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
تَعْدِيلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ بِرِوَايَتِهِ
مُدَلِّسًا وَلَا مُلَبِّسًا.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ
عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ
مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ
كَافٍ فِي التَّعْدِيلِ كَمَا سَبَقَ.
سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ كَافٍ، لَكِنْ إِذَا
عُيِّنَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِفِسْقٍ،
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَهُ
عَدْلًا فِي نَظَرِهِ، وَلَوْ عَيَّنَهُ لَعَرَفْنَا فِيهِ
فِسْقًا لَمْ يَطَّلِعِ الْمُعَدِّلُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ
يُقْبَلْ تَعْدِيلُ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ
مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِهِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى التَّعْدِيلِ،
لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْدِيلِ،
وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَيْنِ الرَّاوِي آكَدُ مِنَ
الْجَهْلِ بِصِفَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ جُهِلَتْ ذَاتُهُ
فَقَدْ جُهِلَتْ صِفَتُهُ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ
كَانَ مَعْلُومَ الْعَيْنِ، مَجْهُولَ الصِّفَةِ، لَمْ يَكُنْ
خَبَرُهُ مَقْبُولًا، فَإِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْعَيْنِ
وَالصِّفَةِ، أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا.
الثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الرِّوَايَةِ
الْمَعْرِفَةَ بِعَدَالَةِ الرَّاوِي، وَالْمُرْسِلُ لَا
يَعْرِفُ عَدَالَةَ الرَّاوِي لَهُ، فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ
مَقْبُولًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْخَبَرَ كَالشَّهَادَةِ فِي
اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِرْسَالَ
فِي الشَّهَادَةِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا فَكَذَلِكَ
الْخَبَرُ.
(2/126)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعَمَلُ
بِالْمَرَاسِيلِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ
وَالْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مَعْنًى.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ
لَزِمَ فِي عَصْرِنَا هَذَا أَنْ يُعْمَلَ بِقَوْلِ
الْإِنْسَانِ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَا " وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الرُّوَاةُ،
وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
السَّادِسُ: أَنَّ الْخَبَرَ خَبَرَانِ: تَوَاتَرٌ وَآحَادٌ،
وَلَوْ قَالَ الرَّاوِي " أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أُحْصِيهِمْ
عَدَدًا " لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّوَاتُرِ، فَكَذَلِكَ
فِي الْآحَادِ.
وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُسَاعِدُ فِي
مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، قُلْنَا: الَّذِي لَا يُسَاعِدُ
إِنَّمَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ فِي مَتْنِهِ
وَسَنَدِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ
السُّكُوتِيِّ فَظَنِّيٌّ، فَلَا يُمْتَنَعُ التَّمَسُّكُ بِهِ
فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَالظَّاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ.
قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ، قُلْنَا:
الْأَصْلُ عَدَمُهُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ
عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، قُلْنَا: الْمُرَاجَعَةُ فِي
ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْإِرْسَالِ (1) بَلْ
غَايَتُهُ طَلَبُ زِيَادَةِ عِلْمٍ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً
بِالْإِرْسَالِ، وَقَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ لَيْسَ إِنْكَارًا
لِلْإِرْسَالِ مُطْلَقًا، بَلْ إِرْسَالُ الْحَسَنِ وَأَبِي
الْعَالِيَةِ لَا غَيْرَ لِظَنِّهِ أَنَّهُمَا لَمْ
يَلْتَزِمَا فِي ذَلِكَ تَعْدِيلَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ (2) .
وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ
أَخَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ، لَا عَلَى الْإِرْسَالِ.
قَوْلُهُمْ: السُّكُوتُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ،
قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا قَطْعًا فَهُوَ
دَلِيلٌ عَلَيْهَا ظَنًّا، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي
الْإِجْمَاعِ (3) .
قَوْلُهُمْ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ إِرْسَالَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِيِنَ حُجَّةٌ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ،
أَنْ لَوْ كَانُوا لَا يَرْوُونَ إِلَّا عَنِ الصَّحَابِيِّ
الْعَدْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ حَدَّثَنِي
بِهِ رَجُلٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَالَ عُرْوَةُ
بْنُ الزُّبَيْرِ فِيمَا أَرْسَلَهُ حَدَّثَنِي بِهِ بَعْضُ
الْحَرَسِيَّةِ.
_________
(1) سَبَقَ فِي التَّعْلِيقِ أَنَّ النِّزَاعَ هُنَا فِي
الْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الْمُرْسَلِ لَا فِي نَفْسِ
الْإِرْسَالِ ص 125
(2) لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا الْتَزَمَا تَعْدِيلَ
الْمَرْوِيِّ عَنْهُ الْمُبْهَمِ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا بَلْ
لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِ
(3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا
(2/127)
قَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ
الرَّاوِي " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ " تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ
عَنْهُ، قُلْنَا دَلِيلُهُ مَا سَبَقَ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَرْوِي عَمَّنْ لَوْ
سُئِلَ عَنْهُ لَجَرَّحَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، قُلْنَا: ذَلِكَ
إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَيَّنَ الرَّاوِي،
وَوَكَلَ النَّظَرَ فِيهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ
يَجْزِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ
فُلَانٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ كَذَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِقَوْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ
عَدَالَةَ الرَّاوِي عَلَى مَا سَبَقَ (1) .
وَأَمَّا إِرْسَالُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ
قَبُولِهَا عَدَمُ قَبُولِ الْإِرْسَالِ فِي الرِّوَايَةِ؛
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ
الِاحْتِيَاطِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا
سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزْمَ مَعَ تَجْوِيزِ كَذِبِ مَنْ
رُوِيَ عَنْهُ كَذِبٌ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا،
إِنْ لَوْ ظُنَّ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَمَّا إِذَا
قَالَ ذَلِكَ مَعَ ظَنِّ الصِّدْقِ، فَلَا يَكُونُ كَاذِبًا،
وَإِنِ احْتَمَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ
الْمَرْوِيُّ عَنْهُ كَاذِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ
الْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُمْ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنَ الرَّاوِي
تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقٌ
فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ بِهِ عَلَى
الْغَيْرِ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْدِيلَ
الْمُطْلَقَ دُونَ تَعْيِينٍ سَبَبُهُ كَافٍ فِيمَا تَقَدَّمَ
(2) .
قَوْلُهُمْ لَعَلَّهُ: اعْتَقَدَهُ عَدْلًا وَلَوْ عَيَّنَهُ
لَعَرَفْنَا فِيهِ فِسْقًا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُعَدِّلُ،
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، غَيْرَ أَنَّ
الظَّاهِرَ عَدَمُهُ (3) وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَعْدِيلِ
الْعَدْلِ الْعَالِمِ بِأَحْوَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ،
وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِمَا يُوجِبُ الْجَرْحَ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الرِّوَايَةِ بِالشَّهَادَةِ، فَقَدْ
عُرِفَ وَجْهُ الْفَارِقِ فِيهِمَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ
الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ
يَلْزَمُ مِنَ الْجَهْلِ بِعَيْنِ الرَّاوِي، الْجَهْلُ
بِصِفَتِهِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ
مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ يَدُلُّ عَلَى تَعْدِيلِهِ مِنْ
جِهَةِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ
_________
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا
(2) هَذَا قَدْ يُسَلِّمُ إِنْ كَانَ الرَّاوِي مُعَيَّنًا
قَدْ زَالَتْ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ أَمَّا إِنْ كَانَ
مُبْهَمًا فَلَا كَمَا تَقَدَّمَ
(3) لَيْسَ بِالظَّاهِرِ، بَلِ الِاحْتِمَالَانِ عَلَى
السَّوَاءِ، وَأَمَّا عَدَمُ الظَّفَرِ بِالْجَرْحِ فَقَدْ
يَكُونُ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الرَّاوِي
(2/128)
وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ
الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ عُرِفَ
جَوَابُهَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الرَّابِعَةُ، فَجَوَابُهَا بِبَيَانِ
فَائِدَةِ ذِكْرِ الرَّاوِي، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ
الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَيُعَيِّنُهُ لِيَكِلَ النَّظَرَ فِي
أَمْرِهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أُرْسِلَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا عُيِّنَ الرَّاوِي، فَالظَّنُّ
الْحَاصِلُ لِلْمُجْتَهِدِ بِفَحْصِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ حَالِهِ
يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ لَهُ بِفَحْصِ
غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ فَمُنْدَفِعَةٌ أَيْضًا،
فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ الْمُرْسِلُ لِلْخَبَرِ فِي
زَمَانِنَا عَدْلًا، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْحُفَّاظُ، فَهُوَ
حُجَّةٌ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ السَّادِسَةُ، فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرِ
الْخَبَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مُتَوَاتِرًا ; لِأَنَّ
الْمُتَوَاتِرَ يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْهِ
وَوَسَطِهِ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ
بِخَبَرِهِ التَّوَاتُرُ.
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُرْسَلَ مَقْبُولٌ مِنَ الْعَدْلِ،
فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَالشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قِيلَ
إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إِنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولًا
إِذَا أَسْنَدَهُ غَيْرُ الْمُرْسِلِ أَوْ أَسْنَدَهُ
الْمُرْسِلُ مَرَّةً ; لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي ذَلِكَ
إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِسْنَادِ، لَا عَلَى الْإِرْسَالِ
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولًا إِذَا
أَرْسَلَهُ اثْنَانِ، وَكَانَتْ مَشَايِخُهُمَا مُخْتَلِفَةً ;
لِأَنَّ ضَمَّ الْبَاطِلِ إِلَى الْبَاطِلِ غَيْرُ مُوجِبٍ
لِلْقَبُولِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ
بِصِدْقِ الرَّاوِي مِنَ الْإِرْسَالِ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ
أَقْوَى مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِهَا.
وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ
بِأَضْعَفِ الظَّنَّيْنِ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِأَقْوَاهُمَا،
وَإِذَا عُرِفَ الْخَبَرُ الْمَقْبُولُ وَغَيْرُ الْمَقْبُولِ،
فَإِذَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ مَقْبُولَانِ، فَالْعَمَلُ
بِأَحَدِهِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَسَيَأْتِي
فِي قَاعِدَةِ التَّرْجِيحَاتِ بِأَقْصَى الْمُمْكِنِ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(2/129)
|