الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

 [الصِّنْفُ التَّاسِعُ فِي الظَّاهِرِ وَتَأْوِيلِهِ]
[مُقَدِّمَةُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلِ]
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلِ.
أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَاضِحِ الْمُنْكَشِفِ وَمِنْهُ يُقَالُ: ظَهَرَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ، إِذَا اتَّضَحَ وَانْكَشَفَ، وَفِي لِسَانِ الْمُتَشَرِّعَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: اللَّفْظُ الظَّاهِرُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فَهُمْ مَعْنًى مِنْهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةٍ مُسْتَغْنًى عَنْهَا.
أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ، فَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا فِيهِ أَصْلُ الظَّنِّ دُونَ غَلَبَةِ الظَّنِّ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا.
وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: ظَنٌّ، وَغَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مَا فِيهِ أَصْلُ الظَّنِّ وَزِيَادَةٌ.
وَأَمَّا اشْتِمَالُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهَا فَهِيَ قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ) فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلظَّنِّ أَنْ لَا يَكُونَ قَطْعِيًّا.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: اللَّفْظُ الظَّاهِرُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، أَوِ الْعُرْفِيِّ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا (مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ أَوِ الْعُرْفِيِّ) احْتِرَازًا عَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، إِذَا لَمْ يَصِرْ عُرْفِيًّا، كَلَفْظِ الْأَسَدِ فِي الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُنَا (وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْقَاطِعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَقَوْلُنَا (احْتِمَالًا مَرْجُوحًا) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ بِحُكْمِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ بِإِزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ، وَإِلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ بِحُكْمِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْغَائِطِ بِإِزَاءِ الْخَارِجِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْإِنْسَانِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَفِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ آلَ يَئُولُ، أَيْ رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أَيْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: تَأَوَّلَ فُلَانٌ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ، أَيْ نَظَرَ إِلَى مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مَعْنَاهَا.
وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَشَرِّعَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّأْوِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ احْتِمَالٍ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ

(3/52)


أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ التَّأْوِيلُ بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَمَّا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ غَيْرِ ظَنِّيٍّ، حَيْثُ قَالَ: يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَأَمَا ثَالِثًا: فَلِأُنَّهُ أُخِذَ فِي حَدِّ التَّأْوِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَأْوِيلٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيلِ بِدَلِيلٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ تَأْوِيلٌ بِدَلِيلٍ وَتَأْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
فَتَعْرِيفُ التَّأْوِيلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجَدُ مَعَهُ الِاعْتِضَادُ بِالدَّلِيلِ لَا يَكُونُ تَعْرِيفًا لِلتَّأْوِيلِ الْمُطْلَقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ تَعْرِيفَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا التَّأْوِيلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَأْوِيلٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ مِنْهُ، مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَقْبُولُ الصَّحِيحُ فَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ بِدَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا (حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ) احْتِرَازًا، عَنْ حَمْلِهِ عَلَى نَفْسِ مَدْلُولِهِ.
وَقَوْلُنَا (الظَّاهِرُ مِنْهُ) احْتِرَازٌ عَنْ صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ إِلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا.
وَقَوْلُنَا (مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا صُرِفَ اللَّفْظُ عَنْ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ إِلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا.
وَقَوْلُنَا: (بِدَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ) احْتِرَازٌ عَنِ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا أَيْضًا.
وَقَوْلُنَا: (بِدَلِيلٍ يَعُمُّ الْقَاطِعَ وَالظَّنِّيَّ) وَعَلَى هَذَا فَالتَّأْوِيلُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ وَلَا إِلَى الْمُجْمَلِ، وَإِنَّمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى مَا كَانَ ظَاهِرًا. (1) وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فَهُوَ مَقْبُولٌ مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا تَحَقَّقَ مَعَ شُرُوطِهِ، وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَنْ عَهِدَ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا عَامِلِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
_________
(1) ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ لِلتَّأْوِيلِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ، وَأَوْضَحَ كُلًّا مِنْهَا بِالْأَمْثِلَةِ فَانْظُرْهَا فِي التَّدْمُرِيَّةِ وَالْحَمَوِيَّةِ مِنْ كُتُبِهِ.

(3/53)


وَشُرُوطُهُ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ الْمُتَأَوِّلُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَابِلًا لِتَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِيمَا صُرِفَ عَنْهُ مُحْتَمِلًا لِمَا صُرِفَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الصَّارِفُ لِلَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ رَاجِحًا عَلَى ظُهُورِ اللَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ لِيَتَحَقَّقَ صَرْفُهُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا لَا يَكُونُ صَارِفًا وَلَا مَعْمُولًا بِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِظُهُورِ اللَّفْظِ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَغَايَتُهُ إِيجَابُ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَأْوِيلًا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ إِيقَافَ دَلَالَةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَلَا يُكْتَفَى بِهِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ دُونَ ظُهُورِهِ، وَعَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الظُّهُورِ وَضَعْفِهِ وَتَوَسُّطِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ.
وَتَمَامُ كَشْفِ ذَلِكَ بِمَسَائِلَ ثَمَانٍ:

[الْمَسْأَلَةُ الأولى قَوْلُهُ عليه السلام لِغَيْلَانَ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
«قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْلَانَ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» " (1) «وَقَوْلُهُ لِفَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ: " أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ، وَفَارِقِ الْأُخْرَى» " (2) أَمْرٌ بِالْإِمْسَاكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اسْتِصْحَابِ النِّكَاحِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِمْسَاكِ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ " أَمْسِكْ أَرْبَعًا " أَيِ انْكِحْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " لَا تَنْكِحْهُنَّ.
_________
(1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ (أَسْلَمَ غَيْلَانُ الثَّقَفِيُّ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا) قَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَحَكَمَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ.
(2) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي امْرَأَتَانِ أُخْتَانِ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا. وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: " اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ ". صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّرَاقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ. انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ.

(3/54)


الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الصُّورَتَيْنِ كَانَ وَاقِعًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ حَصْرِ عَدَدِ النِّسَاءِ فِي أَرْبَعٍ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَالْبَاطِلُ مِنْ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ لَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ حَالَ وُقُوعِهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ الزَّوْجَ بِاخْتِيَارِ أَوَائِلِ النِّسَاءِ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَدِحَةً عَقْلًا غَيْرَ أَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِلَفْظِ الْإِمْسَاكِ مِنَ الْقَرَائِنِ دَارِئَةٌ لَهَا.
أَمَّا التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ (الْإِمْسَاكِ) إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِدَامَةُ دُونَ التَّجْدِيدِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إِلَى خِيرَةِ الزَّوْجِ، وَهُمَا غَيْرُ وَاقِعَيْنِ بِخِيرَتِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْفِرَاقِ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ وَتَوَقُّفِ النِّكَاحِ عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شُرُوطَ النِّكَاحِ مَعَ دَعْوِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمَرَ الزَّوْجَ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ مِنَ الْعَشْرِ، وَوَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبِمُفَارَقَةِ الْبَاقِي، وَالْأَمْرُ إِمَّا لِلْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ ظَاهِرًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَحَصْرُ التَّزْوِيجِ فِي الْعَشْرَةِ وَفِي الْأُخْتَيْنِ لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مَنْدُوبًا، وَالْمُفَارَقَةُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الزَّوْجِ، حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقًا بِهَا.
الْخَامِسُ: هُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الزَّوْجِ الْمَأْمُورِ إِنَّمَا هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِمْسَاكِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ تَجْدِيدَ النِّكَاحِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ.
السَّادِسُ: هُوَ أَنَّ الزَّوْجَ إِنَّمَا سَأَلَ عَنِ الْإِمْسَاكِ بِمَعْنَى الِاسْتِدَامَةِ لَا بِمَعْنَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ، وَعَنِ الْفِرَاقِ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ النِّكَاحِ.
وَالْأَصْلُ فِي جَوَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَصْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَمَا خَلَا ابْتِدَاءُ الْإِسْلَامِ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ عَادَةً، وَعَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ وَقَعَ لَنُقِلَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِهِ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} .

(3/55)


وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ فَيَدْرَؤُهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجِ الْأُخْتَيْنِ " أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى» " «وَقَوْلُهُ لِوَاحِدٍ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى خَمْسِ نِسْوَةٍ " اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ وَاحِدَةً» " (1) قَالَ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي، فَفَارَقْتُهَا.

[الْمَسْأَلَةُ الثانية تَّأْوِيلَاتِ بَعِيدَةِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
وَمِنْ جُمْلَةِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ) (2) مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِقْدَارُ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ) قَوِيُّ الظُّهُورِ فِي وُجُوبِ الشَّاةِ عَيْنًا، حَيْثُ إِنَّهُ خَصَّصَهَا بِالذِّكْرِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمٍ، وَهُوَ إِمَّا النَّدْبُ أَوِ الْوُجُوبُ، وَإِضْمَارُ النَّدْبِ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّصَابِ بِهِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْوَاجِبِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالْحَمْلِ عَلَى وُجُوبِ مِقْدَارِ قِيمَةِ الشَّاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ حَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ جَوَازُ دَفْعِ الْقِيمَةِ، وَفِيهِ رَفْعُ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَهِيَ دَفْعُ حَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ مِنَ الْحُكْمِ (3) إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِرَفْعِهِ كَانَتْ بَاطِلَةً.
وَمِمَّا يَلْتَحِقُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ (4) مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ، مِنْ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَا دَفْعُ
_________
(1) الْحَدِيثُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقِ الْأُخْرَى ". وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.
(2) هَذَا مَعْنَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ.
(3) وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ مِنَ الْحُكْمِ - هَذَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنَ الْحُكْمِ - وَلَوْ عَبَّرَ بِهَذَا لَكَانَ أَنْسَبَ لِمَا ذُكِرَ بَعْدُ.
(4) أَيْ فِي الْبُعْدِ.

(3/56)


الْحَاجَةِ عَنِ الْكُلِّ لِأَنَّ الْآيَةَ (1) ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لِلصَّدَقَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فِي عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، وَمَا اسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مِنَ الْعِلَّةِ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا.
وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ مَقْصُودَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَشُرُوطِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَنَحْنُ وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ ذَلِكَ مَقْصُودًا مِنَ الْآيَةِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ مِنْهَا سِوَاهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مَقْصُودًا، وَكَوْنِ الِاسْتِحْقَاقِ بِصِفَةِ التَّشْرِيكِ مَقْصُودًا، وَهُوَ الْأَوْلَى مُوَافَقَةً لِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، وَالْعَطْفِ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ دَفْعِ حَاجَةِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَدَفْعِ حَاجَةِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَإِطْعَامُ} فِعْلٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ.
وَقَوْلَهُ {سِتِّينَ مِسْكِينًا} صَالِحٌ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ الْإِطْعَامِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ مَعَ ظُهُورِهِ، وَالطَّعَامُ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَفْعُولَ الْإِطْعَامِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ فَتَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُظْهَرِ وَإِظْهَارِ الْمَفْعُولِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بَعِيدٌ فِي اللُّغَةِ وَالْوَاجِبُ عَكْسُهُ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْعَدَدِ فِيمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ يَكُونُ مُوجِبًا لِرَفْعِهِ فَكَانَ مُمْتَنِعًا، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ الشَّارِعُ مَعَ ذَلِكَ رِعَايَةَ الْعَدَدِ دَفَعًا لِحَاجَةِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، نَظَرًا لِلْمُكَفِّرِ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ وَاغْتِنَامِهِ لِبَرَكَتِهِمْ (2) وَقَلَّمَا يَخْلُو جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مُغْتَنَمَ الْهِمَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مِمَّا يَنْدُرُ.
_________
(1) لِأَنَّ الْآيَةَ - إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِبُعْدِ هَذَا التَّأْوِيلِ.
(2) وَاغْتِنَامِهِ لِبَرَكَتِهِمْ، أَيْ لِبَرَكَةِ دُعَائِهِمْ لَهُ مِنْ أَجْلِ مُوَاسَاتِهِ لَهُمْ.

(3/57)


[الْمَسْأَلَةُ الثالثة قَوْلُهُ عليه السلام أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» " (1) صَدَّرَ الْكَلَامَ (بِأَيِّ وَمَا) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْلَغِ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ وَأَكَّدَهُ بِالْبُطْلَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَدُلُّ بِهِ الْفَصِيحُ الْمُصْقِعُ عَلَى التَّعْمِيمِ وَالْبُطْلَانِ.
وَقَدْ طَرَقَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَ تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْأَةِ الصَّغِيرَةَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْكَبِيرَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْأَمَةَ وَالْمُكَاتَبَةَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ مَصِيرَهُ إِلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا، بِتَقْدِيرِ اعْتِرَاضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَيْهَا، إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ.
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا فِي صَرْفِ هَذَا الْعُمُومِ الْقَوِيِّ الْمُقَارِبِ لِلْقَطْعِ عَنْ ظَاهِرِهِ.
أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الصَّغِيرَةِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى امْرَأَةً فِي وَضْعِ اللِّسَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِالْبُطْلَانِ، وَنِكَاحُ الصَّغِيرَةِ لِنَفْسِهَا دُونَ إِذْنِ وَلَيِّهَا صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ، مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ.
وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْأَمَةِ فَيَدْرَؤُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» " وَمَهْرُ الْأَمَةِ لَيْسَ لَهَا بَلْ لِسَيِّدِهَا.
وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِنْسِ النِّسَاءِ نَادِرَةٌ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إِطْلَاقُ مَا هَذَا شَأْنُهُ، وَإِرَادَةُ مَا هُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ وَالشُّذُوذِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَقِيتَهَا الْيَوْمَ فَأَعْطِهَا دِرْهَمًا " وَقَالَ: " إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ الْمُكَاتَبَةَ " كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْإِلْغَازِ فِي الْقَوْلِ وَهُجْرِ الْكَلَامِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى غَيْرُ الْأَقَلِّ النَّادِرِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.
_________
(1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ أَلْفَيْتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ.

(3/58)


وَأَمَّا حَمْلُ بُطْلَانِ النِّكَاحِ عَلَى مَصِيرِهِ إِلَى الْبُطْلَانِ فَبَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَصِيرَ الْعَقْدِ إِلَى الْبُطْلَانِ مِنْ أَنْدَرِ مَا يَقَعُ: وَالتَّعْبِيرُ بِاسْمِ الشَّيْءِ عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَآلُ إِلَيْهِ قَطْعًا: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أَوْ غَالِبًا كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} الثَّانِي: قَوْلُهُ: " «فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» " وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَاقِعًا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا بِالْعَقْدِ لَا بِالِاسْتِحْلَالِ.

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تأويل بعيد لقوله عليه السلام لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» " إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ مِنْ حَيْثُ (1) إِنَّ الصَّوْمَ نَكِرَةٌ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّفْيِ فَكَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ صَوْمٍ.
وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ الصَّوْمِ إِنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ الْأَصْلِيُّ الْمُتَخَاطَبُ بِهِ فِي اللُّغَاتِ وَهُوَ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ (2) دُونَ مَا وُجُوبُهُ بِعَارِضٍ، وَوُقُوعُهُ نَادِرٌ: وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالنَّذْرُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِطْلَاقَ مَا هُوَ قَوِيٌّ فِي الْعُمُومِ وَإِرَادَةَ مَا هُوَ الْعَارِضُ الْبَعِيدُ النَّادِرُ، وَإِخْرَاجَ الْأَصْلِ الْغَالِبِ مِنْهُ إِلْغَازٌ فِي الْقَوْلِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ أَقَارِبِي أَكْرِمْهُ " وَقَالَ: " إِنَّمَا أَرَدْتُ قَرَابَةَ السَّبَبِ دُونَ النَّسَبِ أَوْ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ الْبَعِيدَةِ دُونَ الْعَصَبَاتِ الْقَرِيبَةِ " كَانَ قَوْلُهُ مُنْكَرًا مُسْتَبْعَدًا، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ فِي الْبُعْدِ إِلَى بُعْدِ التَّأْوِيلِ فِي حَمْلِ الْخَبَرِ السَّابِقِ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ.
_________
(1) مِنْ حَيْثُ إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِبُعْدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْحَدِيثِ.
(2) لَكِنْ دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ صِيَامِ التَّطَوُّعِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ.

(3/59)


[الْمَسْأَلَةُ الخامسة تَأْوِيلُ بعيد لقوله عليه السلام مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ أَيْضًا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ» (1) فَإِنَّ ظُهُورَ وُرُودِهِ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ، وَتَمْهِيدِ أَصْلٍ، فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُرْمَةِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَصِلَتُهُ قَوِيُّ الظُّهُورِ فِي قَصْدِ التَّعْمِيمِ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَذَلِكَ مِمَّا يُمْتَنَعُ مَعَهُ التَّأْوِيلُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ، دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدِ امْتَازُوا بِكَوْنِهِمْ عَلَى عَمُودِ النَّسَبِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَوَاشِيهِ مِنَ الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، إِظْهَارًا لِشَرَفِ قُرْبِهِمْ وَنَسَابَتِهِمْ، فَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ مُتَعَلِّقًا بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِالذِّكْرِ لَمَا عَدَلَ عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ إِلَى مَا يَعُمُّ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِمْ وَإِهْمَالِ خَاصِّيَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " أَكْرِمِ النَّاسَ " قَاصِدًا لِإِكْرَامِ أَبَوَيْهِ لَا غَيْرُ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَهْجُورَةِ الْمُسْتَبْعَدَةِ.

[الْمَسْأَلَةُ السادسة تَأْوِيلُ بعيد لقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ تَأْوِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ وَحِرْمَانِ مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي إِضَافَةِ الْخُمُسِ إِلَى كُلِّ ذَوِي الْقُرْبَى، بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ مُومِئَةٌ إِلَى أَنَّ مَنَاطَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْقَرَابَةُ فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ إِظْهَارًا لِشَرَفِهَا وَإِبَانَةً لِخَطَرِهَا، وَحَيْثُ رَتَّبَ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ذِكْرِهَا فِي الْآيَةِ، كَانَ ذَلِكَ إِيمَاءً إِلَى التَّعْلِيلِ بِهَا، فَالْمَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ يَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ، وَتَرْكًا لِمَا ظَهَرَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُومَأً إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ، وَهُوَ صِفَةُ الْقَرَابَةِ، وَتَعْلِيلًا بِالْحَاجَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
_________
(1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، وَطُعِنَ فِيهِ بِمَا فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ مِنَ الْخِلَافِ، وَبِأَنَّ شُعْبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا وَحَمَّادٌ هُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مُتَّصِلًا، وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادٍ، وَأَيْضًا يَقُولُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِيهِ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَا يَصِحُّ.

(3/60)


فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ لَازِمٌ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ.
قُلْنَا: الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ، وَبِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْحَاجَةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ لَفْظَ الْيُتْمِ مَعَ قَرِينَةِ إِعْطَاءِ الْمَالِ مُشْعِرٌ بِهَا، فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ إِلْغَاءٌ لَهُ وَالْيُتْمُ بِمُجَرَّدِهِ عَنِ اقْتِرَانِ الْحَاجَةِ بِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الْقَرَابَةَ بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ (1) كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَاعْتِبَارُ الْحَاجَةِ مَعَهَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ كَوْنُهُ عِلَّةً وَعُمِلَ بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُنَاقَضَةٌ لَا تَأْوِيلٌ.

[الْمَسْأَلَةُ السابعة تأويل بعيد لقوله عليه السلام فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ أَيْضًا مَصِيرُ قَوْمٍ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ» (2) لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إِيجَابِ الْعُشْرِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِي الْخُضْرَوَاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ إِنَّمَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ، لَا بَيَانُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَسُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ بِوَضْعِ اللُّغَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ قَصْدِ التَّعْمِيمِ؛ إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرِدْ إِلَّا لِقَصْدِ الْفَرْقِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.
_________
(1) أَمَّا إِنَّ الْقَرَابَةَ مُنَاسِبَةٌ بِمُجَرَّدِهَا لِلْعَطَاءِ مِنَ الْخُمُسِ فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا إِنَّ قَدْرَ الِاسْتِحْقَاقِ خُمُسُ الْخُمُسِ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ سِوَى مُجَرَّدِ الْقَرَابَةِ.
(2) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ بِمَعْنَاهُ.

(3/61)


[الْمَسْأَلَةُ الثامنة تأويل بعيد لقوله وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ مَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَسْلُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ (1) لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالْأَرْجُلِ فِي الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَطْفُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْغَسْلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قُدِّرَ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا قُدِّرَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَسْحَ لَمَا كَانَ مُقَدَّرًا كَمَسْحِ الرَّأْسِ.
الثَّانِي: مَا وَرَدَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْأَيْدِي دُونَ الرُّءُوسِ.
وَأَمَّا الْكَسْرُ فَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِاسْتِتْبَاعِ الْمُجَاوِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عَرَانِينَ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ
كُسِرَ (مُزَمَّلِ) اسْتِتْبَاعًا لِمَا قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا لِكَوْنِهِ وَصْفَ (كَبِيرٍ) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي تَفَاصِيلِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ فِي أَصْلِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، فَإِنَّ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ قَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِمْسَاسُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ، وَإِنِ افْتَرَقَا فِي خُصُوصِ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
عَطْفُ الرُّمْحِ عَلَى التَّقَلُّدِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ كَانَ الرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ، وَإِنَّمَا يُعْتَقَلُ بِهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الْحَمْلِ
_________
(1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وَكَلَامُ شَارِحِ الطَّحَاوِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.

(3/62)


وَكَذَلِكَ عَطَفَ الشَّاعِرُ الْمَاءَ عَلَى التِّبْنِ فِي قَوْلِهِ (عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا) (1) وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ التَّنَاوُلِ.
وَالْجَوَابُ، قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَطْفَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَيْدِي، فَأَبْعَدُ مِنْ كُلِّ بَعِيدٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَطْفِ عَلَى مَا يَلِي الْمَعْطُوفِ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ.
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فَمِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الرُّءُوسِ الْمَمْسُوحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْحُ الرُّءُوسِ مُقَدَّرًا فِي الْآيَةِ كَمَا عَطَفَ الْأَيْدِي عَلَى الْوُجُوهِ فِي حُكْمِ الْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مُقَدَّرًا وَغَسْلُ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّءُوسَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْخَافِضُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَوْجَبَ الْكَسْرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
عَطْفُ (الْحَدِيدِ) عَلَى مَوْضِعِ (الْجِبَالِ) إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، غَيْرَ أَنَّهَا خُفِضَتْ بِدُخُولِ الْجَارِّ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَسْرَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُتَجَاوِرَيْنِ فَاصْلٌ كَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَأَمَّا إِذَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَلَا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُتَحَمَّلُ إِلَّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَلَا يَنْتَهِضُ مُوجِبًا لِاتِّبَاعِهِ، وَتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَطْفُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي النَّثْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ (جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ) فَمِنَ النَّوَادِرِ الشَّاذَّةِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَطْفَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الرُّءُوسِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاشْتِرَاكِ فِي تَفَاصِيلِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى خِلَافِهِ لِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ النُّبْذَةَ مِنْ مَسَائِلِ التَّأْوِيلَاتِ لِتُدَرِّبَ الْمُبْتَدِئِينَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْثَالِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ.
_________
(1) تَمَامُهُ (حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا) انْظُرْ هَذَا الْبَيْتَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَبْيَاتِ فِي بَابِ الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ مِنْ تَأْوِيلِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ.

(3/63)


[دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ]
[ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع]
[النَّوْعُ الْأَوَّلُ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ]
الْقِسْمُ الثَّانِي فِي دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ
وَهُوَ مَا دَلَالَتُهُ لَا بِصَرِيحِ صِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ، أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ: فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا، فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ صِحَّةُ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ، فَإِنْ تَوَقَّفَ فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تُسَمَّى دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا فِي مَحَلِّ تَنَاوُلِهِ اللَّفْظَ نُطْقًا أَوَّلًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَتُسَمَّى دَلَالَتَهُ دَلَالَةَ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتُسَمَّى دَلَالَتَهُ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تُسَمَّى دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ
وَهِيَ مَا كَانَ الْمَدْلُولُ فِيهِ مُضْمَرًا، إِمَّا لِضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِمَّا لِصِحَّةِ وُقُوعِ الْمَلْفُوظِ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» " وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» "، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» " (1) فَإِنَّ رَفْعَ الصَّوْمِ وَالْخَطَأِ وَالْعَمَلِ مَعَ تَحَقُّقِهِ مُمْتَنِعٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ، كَنَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَنَفْيِ الصِّحَّةِ أَوِ الْكَمَالِ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي، وَنَفْيِ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى فِي الْخَبَرِ الثَّالِثِ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْخَبَرِ.
_________
(1) الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ عِدَّةٍ مِنْهَا (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ، وَ (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وَ (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) ، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرًا مِنْهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا (لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ) .

(3/64)


وَأَمَّا إِنْ كَانَ لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَتَوَقَّفَ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلًا. (1) وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: (أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ) فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَقْدِيرَ سَابِقَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ الْعِتْقِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ.

[النَّوْعُ الثَّانِي دَلَالَةُ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ]
وَهِيَ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْقِيَاسِ.

[النَّوْعُ الثَّالِثُ دَلَالَةُ الْإِشَارَةِ]
وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ النِّسَاءِ: ( «النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ) فَقِيلَ لَهُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ قَالَ: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي، وَلَا تَصُومُ» ) (2) فَهَذَا الْخَبَرُ إِنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، لَا لِبَيَانِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ شَطْرَ الدَّهْرِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ الْحَيْضُ يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَذَكَرَهُ، وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصُودًا مِنَ اللَّفْظِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ مُمْتَدَّةً إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} وَكَانَ بَيَانُ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ، وَأَصْبَحَ جُنُبًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، لِأَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، لَا بُدَّ مِنْ تَأَخُّرِ غُسْلِهِ إِلَى النَّهَارِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ لَمَا أُبِيحَ الْجِمَاعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا مِنَ الْكَلَامِ إِلَى نَظَائِرِهِ.
_________
(1) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ - انْظُرْ 45 ج1.
(2) الْحَدِيثُ مَثَّلَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ لِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ ثَانَوِيَّةٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ. انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ، وَكَشْفَ الْخَفَا.

(3/65)


[النَّوْعُ الرَّابِعُ الْمَفْهُومُ]
[النظر في معنى المفهوم]
وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَاهُ وَأَصْنَافِهِ قَبْلَ الْحِجَاجِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، أَمَّا مَعْنَاهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُقَابِلٌ لِلْمَنْطُوقِ، وَالْمَنْطُوقَ أَصْلٌ لِلْمَفْهُومِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعَوْدُ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَفْهُومِ ثَانِيًا.
فَنَقُولُ أَمَّا الْمَنْطُوقُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: " هُوَ مَا فُهِمَ مِنَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ "، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُضْمَرَةَ فِي دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ مَفْهُومَةٌ مِنَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَنْطُوقُ اللَّفْظِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: " الْمَنْطُوقُ مَا فُهِمَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ قَطْعًا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ "
وَذَلِكَ كَمَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» " وَكَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} إِلَى نَظَائِرِهِ.
وَأَمَّا الْمَفْهُومُ " فَهُوَ مَا فُهِمَ مِنَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ "، وَالْمَنْطُوقُ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنَ اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ نُطْقًا خُصَّ بِاسْمِ الْمَنْطُوقِ، وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ مُعَرَّفًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ، تَمْيِيزًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

[مفهوم الموافقة]
وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمَفْهُومِ، فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ، وَإِلَى مَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ.
أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَمَا يَكُونُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُوَافِقًا لِمَدْلُولِهِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا فَحْوَى الْخِطَابِ، وَلَحْنَ الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْخِطَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أَيْ فِي مَعْنَاهُ.
وَقَدْ يُطْلَقُ اللَّحْنُ وَيُرَادُ بِهِ اللُّغَةُ، وَمِنْهُ يُقَالُ " لَحَنَ فُلَانٌ بِلَحْنِهِ " إِذَا تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِطْنَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ " (أَيْ: أَفْطَنُ) ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ نَاحِيَةِ الصَّوَابِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِزَالَةُ الْإِعْرَابِ عَنْ جِهَةِ الصَّوَابِ.

(3/66)


وَمِثَالُهُ تَحْرِيمُ شَتْمِ الْوَالِدَيْنِ وَضَرْبِهِمَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَفْهُومَ مِنَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُوَافِقٌ لِلْحُكْمِ الْمَفْهُومِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} عَلَى تَحْرِيمِ إِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} عَلَى الْمُقَابَلَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.
وَكَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} عَلَى تَأْدِيَةِ مَا دُونَ الْقِنْطَارِ، وَعَدَمِ تَأْدِيَةِ مَا فَوْقَ الدِّينَارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّظَائِرِ.
وَالدَّلَالَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لَا تَخْرُجُ مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَبِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى مِنْهُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ عُرِفَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَعُرِفَ أَنَّهُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً وَاقْتِضَاءً لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مِنِ اقْتِضَائِهِ لَهُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَذَلِكَ كَمَا عَرَفْنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلتَّأْفِيفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ الْأَذَى فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ أَشَدُّ مِنَ التَّأْفِيفِ، فَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى.
وَإِلَّا فَلَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ ذَلِكَ، لَمَا لَزِمَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ الْعَنِيفِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَأْمُرَ الْجَلَّادَ بِقَتْلِ وَالِدِهِ إِذَا اسْتَيْقَنَ مُنَازَعَتَهُ لَهُ فِي مُلْكِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ التَّأْفِيفِ، حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ مَحْذُورِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْمُلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ أَشَدَّ فِي دَفْعِهِ مِنَ التَّأْفِيفِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِبَاحَةِ أَعْلَى الْمَحْذُورَيْنِ إِبَاحَةُ أَدْنَاهُمَا، وَلَا مِنْ تَحْرِيمِ أَدْنَاهُمَا تَحْرِيمُ أَعْلَاهُمَا.
وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ حُجَّةً أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ " لَا تُعْطِ زَيْدًا حَبَّةً، وَلَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ، وَلَا تَظْلِمْهُ بِذَرَّةٍ، وَلَا تَعْبِسْ فِي وَجْهِهِ " فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ إِعْطَاءِ مَا فَوْقَ الْحَبَّةِ، وَامْتِنَاعُ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، وَامْتِنَاعُ الظُّلْمِ بِالدِّينَارِ

(3/67)


وَمَا زَادَ، وَامْتِنَاعُ أَذِيَّتِهِ بِمَا فَوْقَ التَّعْبِيسِ مِنْ هَجْرِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا» " حِفْظَ مَا الْتُقِطَ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي الْغَنِيمَةِ " «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» " أَدَاءَ الرِّحَالِ وَالنُّقُودِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ قَوْلِهِ " «مَنْ سَرَقَ عَصَا مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا» " رَدَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ لِفُلَانٍ لُقْمَةً، وَلَا يَشْرَبُ مِنْ مَائِهِ جَرْعَةً، كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَكْلِ مَا زَادَ عَلَى اللُّقْمَةِ كَالرَّغِيفِ وَشُرْبِ مَا زَادَ عَلَى الْجَرْعَةِ إِلَى نَظَائِرِهِ غَيْرَ أَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي أَنَّ مُسْتَنَدَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، هَلْ هُوَ فَحْوَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، أَوِ الدَّلَالَةِ الْقِيَاسِيَّةِ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَحْوَى بِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا وَضَعَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ.
وَأَنَّهَا أَفْصَحُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ إِذَا قَصَدُوا الْمُبَالَغَةَ فِي كَوْنِ أَحَدِ الْفَرَسَيْنِ سَابِقًا لِلْآخَرِ، قَالُوا (هَذَا الْفَرَسُ لَا يَلْحَقُ غُبَارَ هَذَا الْفَرَسِ) وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِمْ (هَذَا الْفَرَسُ سَابِقٌ لِهَذَا الْفَرَسِ) وَكَذَلِكَ إِذَا قَالُوا: " فُلَانٌ يَأْسَفُ بِشَمِّ رَائِحَةِ مَطْبَخِهِ " فَإِنَّهُ أَفْصَحُ عِنْدَهُمْ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ " فُلَانٌ لَا يُطْعِمُ وَلَا يَسْقِي ".
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ قِيَاسًا أَنَّا لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ كَفِّ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَعَنْ كَوْنِهِ فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ أَشَدَّ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ لَمَا قُضِيَ بِتَحْرِيمِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ إِجْمَاعًا، وَلِمَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ أَمْرِ الْمَلِكِ لِلْجَلَّادِ بِقَتْلِ وَالِدِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ لَهُ، فَالتَّأْفِيفُ أَصْلٌ، وَالشَّتْمُ وَالضَّرْبُ فَرْعٌ، وَدَفْعُ الْأَذَى عِلَّةٌ، وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ وَلَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ إِلَّا هَذَا.
وَسَمُّوا ذَلِكَ قِيَاسًا جَلِيًّا نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالتَّأْثِيرِ.
وَالْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْإِسْنَادُ إِلَى فَحْوَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى، وَكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَهُوَ شَرْطُ تَحَقُّقِ الْفَحْوَى، وَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَحْوَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْفَحْوَى لَا بِالْقِيَاسِ أَمْرَانِ:

(3/68)


الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لَهُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ إِجْمَاعًا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ لَا يَتِمُّ دُونَهُ، فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ مُنْدَرِجًا فِي الْفَرْعِ وَجُزْءًا مِنْهُ إِجْمَاعًا.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ قَدْ يَكُونُ مَا تُخُيِّلَ أَصْلًا فِيهِ جُزْءٌ مِمَّا تُخُيِّلَ فَرْعًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " لَا تُعْطِ لِفُلَانٍ حَبَّةً " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ إِعْطَاءِ الدِّينَارِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَالْحَبَّةُ الْمَنْصُوصَةُ تَكُونُ دَاخِلَةً فِيهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى رُؤْيَةِ مَا زَادَ عَلَى الذَّرَّةِ، وَالذَّرَّةُ تَكُونُ دَاخِلَةً فِيهِ، إِلَى نَظَائِرِهِ.
وَلِهَذَا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ فِي الْقِيَاسِ مُطْلَقًا وَافَقَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الدَّلَالَةِ سِوَى أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَوْ كَانَ قِيَاسًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ.
أَمَّا الْقَطْعِيُّ: فَكَمَا ذَكَرْنَا مِنْ آيَةِ التَّأْفِيفِ حَيْثُ إِنَّا عَلِمْنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ الْأَذَى فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ أَشَدُّ.
وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِالْمُؤَاخَذَةِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ لِإِمْكَانِ أَنْ لَا تَكُونَ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ مُوجَبَةً بِطَرِيقِ الْمُؤَاخَذَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» " وَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ، بَلْ نَظَرًا لِلْخَاطِئِ بِإِيجَابِ مَا يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ فِي تَقْصِيرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتْ كَفَّارَةً، وَجِنَايَةُ الْمُتَعَمِّدِ فَوْقَ جِنَايَةِ الْخَاطِئِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْكَفَّارَةِ رَافِعَةً لِإِثْمِ أَدْنَى الْجِنَايَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ رَافِعَةً لِإِثْمِ أَعْلَاهُمَا.

[مفهوم المخالفة]
[تعريفه وبيان أصنافه]
وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فَهُوَ مَا يَكُونُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُخَالِفًا لِمَدْلُولِهِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدُ الْقَائِلِينَ بِهِ مُنْقَسِمٌ إِلَى عَشَرَةِ أَصْنَافٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.

(3/69)


الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: مِنْهَا ذِكْرُ الِاسْمِ الْعَامِّ مُقْتَرِنًا بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ".
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَفْهُومُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» ". (1) الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَفْهُومُ إِنَّمَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ".
" «وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ".
" «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ".
" «وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» إِلَى نَظَائِرِهِ ".
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: التَّخْصِيصُ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ".
وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ) .
الصِّنْفُ السَّادِسُ: مَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَذَلِكَ كَتَخْصِيصِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فِي الذِّكْرِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا. (2) الصِّنْفُ السَّابِعُ: مَفْهُومُ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» " وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لِكَوْنِ الطَّعَامِ لَقَبًا لِجِنْسٍ.
الصِّنْفُ الثَّامِنُ: مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَقَوْلِ الْقَائِلِ: (لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ) .
الصِّنْفُ التَّاسِعُ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ، كَتَخْصِيصِ حَدِّ الْقَذْفِ بِثَمَانِينَ.
الصِّنْفُ الْعَاشِرُ: مَفْهُومُ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: (الْعَالِمُ زَيْدٌ وَصَدِيقِي عَمْرٌو) . (3)
_________
(1) حَدِيثُ (إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ) رُوِيَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ حَكَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوَضْعِهِ، وَلَكِنْ عَابَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ وَشَيْخُهُ الْعِرَاقِيُّ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ الَّتِي يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
(2) فِي الذِّكْرِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، لَعَلَّهُ بِالذِّكْرِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا.
(3) الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَصْرَ فِي قَوْلِهِ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ " مِنْ حَصْرِ الْخَبَرِ فِي الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ لِزَيْدٍ، وَالْمَحْكُومُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْحُكْمِ هُوَ الْخَبَرُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ صَدِيقِي عَمْرٌو فَهُوَ مِنْ قَصْرِ صَدَاقَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْخَبَرِ عَلَى عَمْرٍو الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.

(3/70)


وَإِذَا عُرِفَ الْمَفْهُومُ بِحَدِّهِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَنَّ مُسْتَنَدَ فَهْمِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ إِلَى فَائِدَةِ تَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنِ افْتَرَقَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِنَّمَا هُوَ تَأْكِيدٌ مِثْلُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي مَحَلِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ مِثْلِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ دُونَ نَظَرٍ عَقْلِيٍّ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْظَرَ إِلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ.
فَإِنْ عُرِفَتْ وَعُرِفَ تَحَقُّقُهَا فِي الْمَحَلِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَأَنَّهَا أَوْلَى بِاقْتِضَائِهَا الْحُكْمَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، عُلِمَ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ التَّأْكِيدُ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ (1) وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حِكْمَةُ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ عُلِمَتْ غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُتَحَقِّقَةً فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، أَوْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً فِيهِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ أَوْلَى بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ (2) عُلِمَ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ إِنَّمَا هِيَ النَّفْيُ (3) وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ.
وَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَفْهُومِ وَأَصْنَافِهِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحِجَاجِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِهِ، فَنَقُولُ: أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ سِوَى الظَّاهِرِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَتِهِ، هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ، عَلَى مَا سَبَقَ.
وَالْمُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَيَجِبُ الْخَوْضُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ تِسْعُ مَسَائِلَ.
_________
(1) وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ مُسَاوٍ لِاقْتِضَائِهَا إِيَّاهُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ فَيُسَمَّى أَيْضًا مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ، أَوِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ.
(2) وَلَيْسَتْ مُسَاوِيَةً أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ.
(3) إِنَّمَا هِيَ النَّفْيُ، يَعْنِي أَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْمَنْطُوقِ فِيمَا عَدَا مَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِي الْمَسْكُوتِ بِمِثْلِ مَا حُكِمَ بِهِ فِي الْمَنْطُوقِ، أَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ فِي الْمَسْكُوتِ مُخَالِفٍ لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ فَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَاخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْمَنْطُوقِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمٍ مَا فِي الْمَسْكُوتِ وَلَا نَفْيِهِ.

(3/71)


[الْمَسْأَلَةُ الأولى الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى حُكْمٍ مُرْتَبِطٍ بِاسْمٍ عَامٍّ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى حُكْمٍ مُرْتَبِطٍ بِاسْمٍ عَامٍّ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ " (1) هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ السَّائِمَةِ أَوْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَبُو عُبَيْدٍ (2) وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَنَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ وَالشَّاشِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَفَرَّقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ: الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِالصِّفَةِ دَالٌّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا عَدَاهَا فِي أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ: وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ قَدْ وَرَدَ لِلْبَيَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ".
أَوِ التَّعْلِيمِ كَمَا فِي خَبَرِ " التَّحَالُفُ عِنْدَ التَّخَالُفِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ " (3) أَوْ يَكُونُ مَا عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَهَا، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لِدُخُولِهِ فِي الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.
_________
(1) هَذَا مَعْنَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ فَاقْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى مَوْضِعِ الشَّاهِدِ وَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ.
(2) أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْبَغْدَادِيُّ مَاتَ بِمَكَّةَ عَامَ 224 هـ عَنْ 76 سَنَةً.
(3) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ (إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا تَحَالَفَا) ، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ مَقَالٍ، قَدْ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَوْصُولٌ.

(3/72)


وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُجَجِ الْفَرِيقَيْنِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْإِثْبَاتِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ أَمَّا الْحُجَجُ النَّقْلِيَّةُ فَسِتُّ حُجَجٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» " (1) حَيْثُ قَالَ إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِوَاجِدٍ لَا يَحِلُّ عِرْضُهُ وَعُقُوبَتُهُ، وَالْوَاجِدُ هُوَ الْغَنِيُّ، وَلَيُّهُ مَطْلُهُ، وَمَعْنَى إِحْلَالِ عِرْضِهِ مُطَالَبَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» " (2) وَقَدْ قِيلَ لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَرَادَ الْهَجَّاءَ مِنَ الشُّعَرَاءِ أَوْ هِجَاءَ الرَّسُولِ، فَقَالَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ، لَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِالْكَثْرَةِ وَامْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْهُ مَعْنًى، لِأَنَّ مَا دُونَ مَلْءِ الْجَوْفِ مِنْ ذَلِكَ كَكَثِيرِهِ.
وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ فُهِمَ أَنَّ تَعْلِيقَ الذَّمِّ عَلَى امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا دُونَهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُكْمُ أَبِي عُبَيْدٍ بِذَلِكَ إِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ كَانَ نَقْلًا عَنِ الْعَرَبِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّقْلِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ وَاجْتِهَادِهِ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ نَقْلًا فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ اللُّغَوِيَّةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (3)
_________
(1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ.
(2) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
(3) الْأَخْفَشُ - الْأَخَافِشُ فِي النَّحْوِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ تُوُفِّيَ عَامَ 177 هـ الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْفَشِ الْأَكْبَرِ، 2 - أَبُو الْحَسَنِ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْمُجَاشِعِيُّ بِالْوَلَاءِ الْبَلْخِيُّ ثُمَّ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْفَشِ الْأَوْسَطِ تُوُفِّيَ عَامَ 215، 3 - أَبُو الْمَحَاسِنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْفَشِ الْأَصْغَرِ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ عَامَ 315 هـ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.

(3/73)


فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَمْ يَقُلْ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَعَدَمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ أَوْلَى جَمْعًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَوَى قَتَادَةُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي فَوَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» " فَعُقِلَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ التَّمَسُّكُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ زِيَادَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّبْعِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِهِ وُقُوعَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِاسْتِغْفَارِهِ زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِينَ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ اسْتِمَالَةَ قُلُوبِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الدِّينِ، لَا لِوُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِمَالَةِ أَوْلَى مِنْ فَهْمِهِ وُقُوعَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْآيَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ نَفْيِ الْمَغْفِرَةِ بِالسَّبْعِينَ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَغْفِرَةِ بِالسَّبْعِينَ قَطْعًا ضَرُورَةَ صِدْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ.
وَمَنْ قَالَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ دَلَّ اخْتِصَاصُ السَّبْعِينَ بِنَفْيِ الْمَغْفِرَةِ قَطْعًا عَلَى نَقِيضِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لَكَانَ دَالًّا عَلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ السَّبْعِينَ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا:
الْأَوَّلُ: خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَخِلَافُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ السَّبْعِينَ.
وَالثَّانِي: فَلَيْسَ نَقِيضًا لِنَفْيِ الْمَغْفِرَةِ قَطْعًا، بَلْ هُوَ مُقَابِلٌ، وَالْمُقَابِلُ أَعَمُّ مِنَ النَّقِيضِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَفِيهِ دِقَّةٌ فَلْيُتَأَمَّلْ.

(3/74)


الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَصِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِلَى مَنْعِ تَوْرِيثِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} حَيْثُ إِنَّهُ فَهِمَ مِنْ تَوْرِيثِ الْأُخْتِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ امْتِنَاعُ تَوْرِيثِهَا مَعَ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا وَلَدٌ، وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَتَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ.
وَجَوَابُ هَذِهِ الْحُجَّةِ مَا سَبَقَ فِي دَفْعِ الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَرَّثَ الْأُخْتَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ بِالْآيَةِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْبِنْتِ لَمْ يُوَرِّثْهَا بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، لَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ (1) نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " (2) وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُ: " «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ لَمَا كَانَ نَسْخًا لَهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي اللُّغَاتِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جُلَّةَ الصَّحَابَةِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا حَكَمُوا بِكَوْنِهِ نَاسِخًا لَا لِمَدْلُولِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " كُلُّ غُسْلٍ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا مَاءَ إِلَّا مِنَ الْمَاءِ» " فَكَانَ قَوْلُهُ: " «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» " نَاسِخًا لِمَدْلُولِ عُمُومِ الْأَوَّلِ، لَا لِمَدْلُولِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَمُخْتَلِفًا فِيمَا ذَكَرُوهُ.
_________
(1) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ أَخْطَأَ فِيهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ (إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ) وَصَحَّحَهُ.
(2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(3/75)


الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا رُوِيَ «أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ: " مَا بَالُنَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} » وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ تَخْصِيصِ الْقَصْرِ بِحَالَةِ الْخَوْفِ عَدَمَ الْقَصْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ، بَلْ قَالَ «لَقَدْ: " عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» " وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَعُمَرُ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدْ فَهِمَا ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمَا عَلَيْهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ هَاهُنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ يَعْلَى وَعُمَرَ بَنَيَا عَدَمَ الْقَصْرِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ، لَا عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلِ الْبِنَاءُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ أَوْلَى دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُجَوِّزِ لِلْقَصْرِ حَالَةَ الْأَمْنِ وَالدَّلِيلِ النَّافِي لَهُ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ لِوَكِيلِهِ: " اشْتَرِ لِي عَبْدًا أَسْوَدَ " فُهِمَ مِنْهُ عَدَمُ الشِّرَاءِ لِلْأَبْيَضِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَبْيَضَ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ " فُهِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ الطَّلَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ عَدَمُ شِرَاءِ الْأَبْيَضِ وَعَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: " لَا تَشْتَرِ لِي عَبْدًا أَسْوَدَ "، وَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: " إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَلَسْتِ طَالِقًا " فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ لِعَبْدٍ غَيْرِ أَسْوَدَ، وَلَا يَقَعُ بِالزَّوْجَةِ الطَّلَاقُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ لِبَقَاءِ ذَلِكَ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَلَوْ كَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ لَصَحَّ شِرَاءُ عَبْدٍ لَيْسَ بِأَسْوَدَ، وَطُلِّقَتِ الزَّوْجَةُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ.
وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ أَوِ اللُّغَةِ بِحُكْمٍ مُخَصَّصٍ بِصِفَةٍ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَمَّا عَدَا تِلْكَ الصِّفَةَ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، لَا عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ.
وَأَمَّا الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ فَخَمْسُ حُجَجٍ.

(3/76)


الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ السَّائِمَةِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، بَلْ كَانَ مُلْغِزًا بِذِكْرِ مَا يُوهِمُ نَفْيَ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَمُقَصِّرًا فِي الْبَيَانِ مَعَ دَعْوِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَحَيْثُ امْتَنَعَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ السَّائِمَةِ نَفْيُ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إِثْبَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ يَرْجِعُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوَضْعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ إِثْبَاتِ الْوَضْعِ بِذَلِكَ (1) سَلَّمْنَا إِمْكَانَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِ الصِّفَةِ بِالذِّكْرِ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا.
وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لَامْتَنَعَ وُرُودُ نَصٍّ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ لِمَحَلِّ النُّطْقِ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ اللَّغْوِ فِي كَلَامِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لِلصِّفَةِ بِالْحُكْمِ، حَتَّى يُقَالَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَكُونُ لَغْوًا.
قُلْنَا: فَإِذًا مُجَرَّدُ تَخْصِيصِ الصِّفَةِ بِالذِّكْرِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا دُونَ الْبَحْثِ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ، لَكِنَّ نَفْسَ التَّخْصِيصِ دَلِيلٌ، وَوُجُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ يَكُونُ مُعَارِضًا لَهُ، بَلْ أَمْكَنَ (2) وُجُودُ فَائِدَةٍ أُخْرَى دَعَتْ إِلَى التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، وَهِيَ إِمَّا عُمُومُ وُقُوعِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَإِمَّا لِسُؤَالِ سَائِلٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لِحُدُوثِ وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ كَذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِرَفْعِ وَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ حُكْمَ الصِّفَةِ بِتَقْدِيرِ تَعْمِيمِ اللَّفْظِ يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْعُمُومِ
_________
(1) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَدَارَ إِثْبَاتِ الْوَضْعِ النَّقْلُ لَا التَّعْلِيلُ وَالْعَقْلُ، إِذِ الْعَقْلُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ.
(2) لَمْ يَتَمَيَّزْ بَدْءُ (الْوَجْهِ الثَّانِي) وَلَعَلَّهُ يَبْدَأُ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَمْكَنَ وُجُودُ فَوَائِدَ أُخْرَى دَعَتْ إِلَى التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ. . . إِلَخْ.

(3/77)


وَيَكُونُ بِذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الصِّفَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: " ضَحُّوا بِشَاةٍ " فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ عَوْرَاءَ، فَإِذَا قَالَ: " ضَحُّوا بِشَاةٍ عَوْرَاءَ " كَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى التَّضْحِيَةِ بِمَا لَيْسَتْ عَوْرَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِمْ عِنْدَ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ، فَإِذَا قَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} كَانَ أَدَلَّ عَلَى النَّهْيِ حَالَةَ الْخَشْيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةِ تَعْرِيفِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِنَصَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ التَّعْمِيمِ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَإِمْكَانِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَحَلِّ الصِّفَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ مُرَادًا لِلتَّخْصِيصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِفَائِدَةِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لِيَنَالَ الْمُكَلَّفُ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ تَوَفَّرَ دَوَاعِي الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَتَبْقَى غَضَّةً طَرِيَّةً، كَمَا هِيَ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَعَ وُقُوعِهَا فِي الْأَقْيِسَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّفَةِ جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، وَتَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ بِالنَّصِّ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا بِالْبَقَاءِ عَلَى الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: " «لَا زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ» " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُخَالِفًا لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْعَقْلِ، كَمَا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَتَكُونَ فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى مَحَلِّ الصِّفَةِ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا النَّصُّ لَمَا ثَبَتَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، مُنْتَفِيًا بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا سَلَّمْتُمُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ فَقَدْ وَافَقْتُمْ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي إِسْنَادِ النَّفْيِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ إِلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ لَا إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ.

(3/78)


وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ بِهِ مُحَصِّلٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَكُلُّ مَا هُوَ جَوَابٌ لَكُمْ ثَمَّ فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا هَاهُنَا.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَقُّوا بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُرْسَلِ وَبَيْنَ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ حُكْمِ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ مُطْلَقًا، وَحُكْمَ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدَ بِالصِّفَةِ ثُبُوتُهُ فِي مَحَلِّ التَّنْصِيصِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، وَفِي غَيْرِ مَحَلِّ الصِّفَةِ مَشْكُوكٌ فِي إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ فَقَدِ افْتَرَقَا كَمَا وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ وَالْخِطَابِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيَهُ مُطْلَقًا، وَالْخِطَابُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ جَزْمًا.
وَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْعَرَبَ سَوَّتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِذِكْرِ الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّنْصِيصِ، وَعَلَى نَفْيِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، كَانَتِ الْفَائِدَةُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَدُلَّ، فَوَجَبَ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ، غَيْرَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلِهِ، فَرْعُ دَلَالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
فَلَوْ قِيلَ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ كَانَ دَوْرًا.
كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ التَّخْصِيصِ دَالًّا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَإِبْطَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي سَبَقَتْ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.

(3/79)


الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ كَالتَّعْلِيقِ بِالْعِلَّةِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، حَتَّى يُقَالَ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهَا نَفْيُ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ النَّوْعِ وَأَشْخَاصِهِ تَعَدُّدُ صِفَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا تَعَدَّدَ، بَلْ كَانَ مُتَّحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا» " فَلَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِ الطَّهَارَةِ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَإِلَّا لَمَا طَهُرَ بِالسَّبْعِ، لِأَنَّ السَّابِعَةَ تَكُونُ وَارِدَةً عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ، فَلَا يَكُونُ طَهُورُهُ بِالسَّبْعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: " «يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ» " لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ لَمَا كَانَتِ الْخَمْسُ لِمَا عُرِفَ فِي الْغَسَلَاتِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى نَفْيِ الطَّهَارَةِ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَمِنْ كَوْنِ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى نَفْيِ الْحُرْمَةِ فِيمَا دُونَهَا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ قَبْلَ السَّابِعَةِ طَاهِرًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ الْخَمْسِ مِنَ الرَّضَعَاتِ مُحَرِّمًا لِجَوَازِ ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ السَّبْعِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ دَلِيلِ الْخِطَابِ.
وَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ غَيْرَ مُحَرِّمَةٍ بِدَلِيلٍ غَيْرِ دَلِيلِ الْخِطَابِ.
وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَتُتْبِعُ مَا فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُجَجٍ عَوَّلَ عَلَيْهَا الْقَائِلُونَ بِإِبْطَالِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ لَوْ دَلَّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ نَفْيِهَا، إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ أَوِ النَّقْلِ، وَالْعَقْلُ لَا مَجَالَ لَهُ فِي اللُّغَاتِ، وَالنَّقْلُ إِمَّا مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّوَاتُرِ، وَالْآحَادُ لَا تُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى لُغَةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ الْآحَادِ مَعَ جَوَازِ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا.

(3/80)


وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ إِثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْآحَادِ، إِذِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ ظَنِّيَّةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، بَلْ غَلَبَةُ ظَنٍّ تَجْرِي فِيهَا التَّخْطِئَةُ الظَّنِّيَّةُ، دُونَ الْقَطْعِيَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَيْفَ وَإِنَّ اشْتِرَاطَ التَّوَاتُرِ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ تَرِدُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ تَحَكُّمٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ؟
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْكُلِّ فَذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ التَّمَسُّكِ بِأَكْثَرِ اللُّغَةِ لِتَعَذُّرِ التَّوَاتُرِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْعَمَلِ بِأَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمَحْذُورُ فِي ذَلِكَ فَوْقَ الْمَحْذُورِ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ تَطَرُّقُ الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ وَصِحَّةُ نَقْلِهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَإِلَى زَمَنِنَا هَذَا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ وَالْمَعْرِفَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَمْثَالِهِمْ. (1) الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْحُكْمِ فِي حَالِ نَفْيِهَا لَا عَنْ نَفْيِهِ وَلَا عَنْ إِثْبَاتِهِ، لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: " لَا تَقُلْ لِزَيْدٍ أُفٍّ " فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ضَرْبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: " فَهَلْ أَضْرِبُهُ " وَلَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ، لَوْ قَالَ: " أَدِّ الزَّكَاةَ عَنْ غَنَمِكَ السَّائِمَةِ " فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ وَهَلْ أُؤَدِّيهَا عَنِ الْمَعْلُوفَةِ؟
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا كَانَ لِطَلَبِ الْأَجْلَى وَالْأَوْضَحِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْخِطَابِ ظَاهِرَةً ظَنِّيَّةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِحُوا الِاسْتِفْهَامَ مِمَّنْ
_________
(1) هُوَ أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَصْمَعَ الْبَاهِلِيُّ الْأَصْمَعِيُّ الْبَصْرِيُّ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ عَامَ 213 - 217 عَنْ 88 سَنَةً. وَالْخَلِيلُ هُوَ ابْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ الْفَرَاهِيدِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْعَرُوضِ وَكِتَابِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ، مَاتَ عَامَ 170 - 175 هـ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ بِالْوَلَاءِ الْبَصْرِيُّ، مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْأَدَبِ وَاللُّغَةِ، وُلِدَ عَامَ 110 هـ، وَتُوُفِّيَ عَامَ 209 هـ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ أَبَا عُبَيْدٍ بِلَا تَاءٍ فَقَدْ سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي ص 72.

(3/81)


قَالَ: " رَأَيْتُ أَسَدًا أَوْ بَحْرًا، أَوْ دَخَلَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ " بِأَنْ يُقَالَ: " هَلْ رَأَيْتَ الْحَيَوَانَ الْمَخْصُوصَ أَوْ إِنْسَانًا شُجَاعًا؟ وَهَلْ رَأَيْتَ الْبَحْرَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ الْمَخْصُوصُ أَوْ إِنْسَانًا كَرِيمًا؟ وَهَلْ رَأَيْتَ السُّلْطَانَ نَفْسَهُ أَوْ عَسْكَرَهُ؟ " مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ الْمُتَّصِفِ بِهَا لَكَانَ فِي الْخَبَرِ كَذَلِكَ، ضَرُورَةَ اشْتِرَاكِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فِي التَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " رَأَيْتُ الْغَنَمَ السَّائِمَةَ تَرْعَى " فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَعْلُوفَةِ مِنْهَا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِشْهَادُ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ الْمُنْكِرُونَ لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، إِلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ فُضَلَاءُ أَئِمَّةٌ " فَإِنَّ سَامِعَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ تَشْمَئِزُّ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَكْبُرُ عَنْ سَمَاعِهِ، لَا لِوَصْفِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِسَلْبِ ذَلِكَ عَمَّنْ لَيْسَ بِشَافِعِيٍّ.
وَهَذَا الشُّعُورُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ سَلِمَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، فَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ.
وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَقَالَ: " رَأَيْتُ خُبْزًا سَمِيدًا، وَلَحْمًا طَرِيًّا، وَرُطَبًا جِنِّيًّا " إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا شَاهَدَهُ وَعَلِمَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ لِذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ شَاهَدَ مَا لَيْسَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: " اشْتَرِ خُبْزًا سَمِيدًا، وَلَحْمًا طَرِيًّا، وَرُطَبًا جِنِّيًّا " مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْخُبْزَ الْخَشْكَارَ، وَاللَّحْمَ وَالرُّطَبَ الْبَايِتَ، مِمَّا يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْبَيَانَ وَتَمْيِيزَ مَا يُشْتَرَى عَمَّا لَا يُشْتَرَى، فَكَانَ النَّفْيُ مُلَازِمًا لِلْإِثْبَاتِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالنَّقْضِ فَقَالُوا: قَوْلُ الْقَائِلِ: " اضْرِبِ الرِّجَالَ الطُّوَالَ وَالْقِصَارَ " فَالْقِصَارُ عَطْفٌ وَلَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " اضْرِبِ الرِّجَالَ الطُّوَالَ " مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ الضَّرْبِ عَنِ الْقِصَارِ لَكَانَ نَقْضًا لَا عَطْفًا.

(3/82)


وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " اضْرِبِ الرِّجَالَ الطُّوَالَ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ ضَرْبِ الْقِصَارِ بِتَقْدِيرِ اخْتِصَاصِ الطُّوَالِ بِالذِّكْرِ، وَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ الْقِصَارَ، فَلَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلطُّوَالِ بِالذِّكْرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ عَنِ الْقِصَارِ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: " صُمْ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: " صُمْ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ " فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَقْضًا.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ دَالًّا عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الْغَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَا لَمَا حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: " أَدِّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ " وَالْمَعْلُوفَةِ " لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاقُضِ، كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: " لَا تَقُلْ لِزَيْدٍ أُفٍّ، وَاضْرِبْهُ ".
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قِيلَ بِالْمُنَاقَضَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
هَذَا إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَأَمَّا إِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " أَدِّ زَكَاةَ الْمَعْلُوفَةِ " فَإِنَّمَا لَمْ يَمْتَنِعْ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ صَرِيحَ قَوْلِهِ: " أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ " وَقَعَ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُعَارَضَةُ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي فَحْوَى الْخِطَابِ امْتِنَاعُهُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ، إِذْ هُوَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ.
وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ذَلِكَ فِي فَحْوَى الْخِطَابِ إِنَّمَا كَانَ فِيمَا عُلِمَ، لَا فِيمَا ظُنَّ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَدَلِيلُ الْخِطَابِ مَظْنُونٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ مُعَارَضَةِ الْمَقْطُوعِ امْتِنَاعُ مُعَارَضَةِ الْمَظْنُونِ، ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ كَمَا سَبَقَ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصِّفَةِ إِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمَوْصُوفِ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ.
وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْمِ إِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمُسَمَّى عَنْ غَيْرِهِ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ، كَمَا لَوْ قَالَ: " زَيْدٌ عَالِمٌ " لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ بِاسْمِ زَيْدٍ، فَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قِيَاسُ التَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالِاسْمِ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ صَحَّ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا سِوَاهُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنْ سَلِمَ عَدَمُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ مُشَارَكَةُ التَّعْلِيقِ

(3/83)


بِالصِّفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَنْ لَوْ بَيَّنَ أَنَّ مَنَاطَ عَدَمِ دَلَالَةِ التَّعْلِيقِ بِالِاسْمِ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ شُعُورَ الْمُتَكَلِّمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ بِمَا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ (1) أَتَمُّ مِنْ شُعُورِ الْمُتَكَلِّمِ بِاسْمِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْجِنْسِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ بِالِاسْمِ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ، كَيْفَ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلتَّمْيِيزِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، وَلَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» " يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهَا عَنِ الْمَعْلُوفَةِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وَضْعِ عِبَارَةٍ خَاصَّةٍ إِذْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي التَّقْيِيدِ " بِالْغَايَةِ " كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ، لَهُ دَلَالَةٌ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ دَلَالَةُ مَفْهُومٍ لَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ، وَيَبْقَى حُكْمُ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَيَبْقَى حُكْمُ صَرِيحِ الْخِطَابِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلِيلُ الْخِطَابِ إِنَّمَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الصِّفَةِ، فَلَا تَخْصِيصَ، وَمَعَ عَدَمِ التَّخْصِيصِ، فَلَا دَلَالَةَ لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ.
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُتَضَادَّيْنِ مَعًا، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ " دَالًّا عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ: لَكَانَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ دَالًّا عَلَى الضِّدَّيْنِ مَعًا: وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
_________
(1) بِمَا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ مُتَعَلِّقٌ بِشُعُورٍ.

(3/84)


وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَضَادَّيْنِ مَعًا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَعًا، كَانَتْ أَضْدَادًا أَوْ لَمْ تَكُنْ.
سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَتَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ صَرِيحُ الْخِطَابِ، وَالدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَهُمَا غَيْرَانِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ صُورَةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ مُخَالِفَةٌ لِصُورَةِ الْغَنَمِ الَّتِي لَيْسَتْ بِسَائِمَةٍ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّورَتَيْنِ، لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا ثُبُوتُهُ فِي الْأُخْرَى وَلَا عَدَمُهُ، لِجَوَازِ اشْتِرَاكِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَحْكَامٍ وَافْتِرَاقِهَا فِي أَحْكَامٍ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا، لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حُكْمٍ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، لَا وُجُودًا وَلَا عَدَمًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ نَفْيُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ قَدْ عُلِّقَ ثُبُوتُهُ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمَوْصُوفِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَدَعْوَاهُ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَعَلَى هَذَا، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حُكْمِ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنِ الصُّورَةِ الْأُخْرَى مُطْلَقًا لَا يَكُونُ صَحِيحًا، ثُمَّ إِنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّ صُورَةَ الْمَنْطُوقِ بِالْحُكْمِ فِيهَا مُخَالِفَةٌ لِلصُّورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ النُّطْقِ لَازِمٌ ثُبُوتُهُ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي إِحْدَاهُمَا إِخْبَارٌ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى.
وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى إِبْطَالِ الْحُجَجِ الْوَاهِيَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ مَسْلَكَانِ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الصِّفَةِ مُوجِبًا لِنَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا لَمَا كَانَ عِنْدَ عَدَمِهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ.
وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ ثَابِتٌ مَعَ عَدَمِهَا.
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَقَعَ مُعَلَّقًا بِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا فِي حَالَةِ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ.

(3/85)


فَإِنْ قِيلَ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ عِنْدَنَا إِنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ حَالَةَ عَدَمِ الصِّفَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَالَةَ عَدَمِ الصِّفَةِ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الصِّفَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَالَةِ عَدَمِ الصِّفَةِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ حَالَةِ وُجُودِ الصِّفَةِ فَلَا، وَهَاهُنَا تَحْرِيمُ الْقَتْلِ حَالَةَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ أَوْلَى مِنَ التَّحْرِيمِ حَالَةَ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ.
فَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ حَالَةَ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ مُحَرِّمًا لَهُ حَالَةَ عَدَمِ الْخَشْيَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ، لَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ.
قُلْنَا: هَذَا وَإِنِ اسْتَمَرَّ لَكُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلَا يَسْتَمِرُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فَإِنَّ النَّهْيَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ صُوَرِ السُّكُوتِ (1) فَإِنَّ النَّهْيَ، عَنْ أَكْلِ قَلِيلِ الرِّبَا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ كَثِيرِهِ، وَلَا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ أَوْلَى مِنَ الْإِسْرَافِ، وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَالَةَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ أَوْلَى مِنْ حَالَةِ إِرَادَةِ الزِّنَا. (2) وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ مُشْتَرَكٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مُخَالَفَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إِنَّمَا كَانَتْ لِمُعَارِضٍ، وَلَا يَلْزَمُ مُخَالَفَتُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ.
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ عَلَى نَحْوِ ثُبُوتِهِ فِي صُورَةِ النُّطْقِ لِدَلِيلٍ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةِ دَلِيلٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ مَحْذُورِ الْمُعَارَضَةِ.
وَلَوْ كَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ دَلِيلًا، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ لَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْهُ نَفْيُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، لَمْ يَخْلُ.
_________
(1) مِنْ صُوَرِ السُّكُوتِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فِي صُوَرِ السُّكُوتِ.
(2) وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَالَةَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ أَوْلَى مِنْ حَالَةِ إِرَادَةِ الزِّنَا - فِي الْعِبَارَةِ قَلْبٌ وَالصَّوَابُ: وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَالَةَ إِرَادَةِ الزِّنَا أَوْلَى مِنْ حَالَةِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ.

(3/86)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ صَرِيحِ الْخِطَابِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ يَسْتَدْعِي فَائِدَةً، وَلَا فَائِدَةَ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: الْأَوَّلُ مُحَالٌ، فَإِنَّ صَرِيحَ الْخِطَابِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ غَيْرُ صَرِيحٍ بِوُجُوبِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ.
وَالثَّانِي أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فِي إِبْطَالِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ لِلْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ.
وَالثَّالِثُ: فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَخْصِيصُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ كَقَوْلِهِ: " السَّائِمَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ " وَالْحُكْمُ كَالْحُكْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالْمَأْخَذُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَعَلَى مَا عُرِفَ وَالْمُخْتَارُ فِيهَا كَالْمُخْتَارِ ثَمَّ.

(3/87)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ بِكَلِمَةِ إِنْ هَلِ الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ بِكَلِمَةِ (إِنْ) هَلِ الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوَّلًا؟ . فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْهَرَّاسِيُّ (1) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْكَرْخِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْعَدَمِ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِكَلِمَةِ (إِنْ) ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِلْحُكْمِ أَوْ يَكُونَ شَرْطًا: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَلَا يَكُونُ لَازِمًا لَهُ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ، وَإِلَّا لَامْتَنَعَ وُجُودُ الْقَصْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْخَوْفِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُعَارِضِ، وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِهِ بِتَقْدِيرِ الْمُعَارِضِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) مُسَمَّاةٌ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِالشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: " إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَكْرِمْهُ " فِي مَعْنَى قَوْلِهِ دُخُولُ زَيْدٍ الدَّارَ شَرْطٌ فِي إِكْرَامِهِ، فَكَانَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (إِنْ) شَرْطًا فِي الْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ شَرْطًا لَزِمَ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ فَهِمَ مِنْ تَعْلِيقِ الْقَصْرِ عَلَى الْخَوْفِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) عَدَمَ الْقَصْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ حَيْثُ «سَأَلَ عُمَرَ قَالَ: " مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} » تَرَكَهَا عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " صَدَقَةٌ
_________
(1) الْهَرَّاسِيُّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُلَقَّبُ بِعِمَادِ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِأَلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، وُلِدَ عَامَ 450 وَتُوُفِّيَ 504 هـ.

(3/88)


تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ". (1) وَفَهْمُ عُمَرَ وَيَعْلَى ذَلِكَ مَعَ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا عَلَى مَا فَهِمَاهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَحَكَمُوا بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَبِانْتِفَاءِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَوْلِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْطِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ، وَلَا مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ شَرْطًا، وَهُوَ مُحَالٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُعَارِضِ.
قُلْنَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ، حَذَرًا مِنَ التَّعَارُضِ بِتَقْدِيرِ وُجُودِ الْمُعَارِضِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ ثَانِيًا: إِنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (إِنْ) شَرْطٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَضِيَّةِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْخَوْفِ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ الْقَصْرِ دُونَهُ، بَلْ لَعَلَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَصْرِ، وَحَيْثُ وَرَدَ الْقَصْرُ حَالَةَ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ حَالَةَ عَدَمِ الْخَوْفِ، فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ الْإِتْمَامَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ عَدَمُ الْإِتْمَامِ، وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ» (2) فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّعَجُّبِ وَجْهٌ سِوَى دَلَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ الْقَصْرِ عِنْدَ عَدَمِهِ.
قُلْنَا الصَّلَاةُ الْمَشْرُوعَةُ بَدِيًّا رَكْعَتَيْنِ لَا تُسَمَّى مَقْصُورَةً، كَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَا فِعْلُهَا قَصْرًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُورَةُ اسْمٌ لِمَا جُوِّزَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ
_________
(1) حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ.
(2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

(3/89)


وَلَفْظُ الْقَصْرِ لِنَفْسِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِسَابِقَةِ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا مَحَالَةَ.
وَإِذَا كَانَ الْإِتْمَامُ هُوَ الْأَصْلُ السَّابِقُ عَلَى الْقَصْرِ فَقَدْ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ.
كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ هُوَ الْأَوْلَى، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الْخَوْفِ فِي الْقَصْرِ مَانِعًا مِنَ الْقَصْرِ مَعَ عَدَمِهِ، لَمَا جَازَ الْقَصْرُ مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ أَوْ كَانَ الْقَصْرُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَأَمَّا (1) عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَعَدَمِ الْحَوْلِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِهِ وَلَا بُدَّ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَنْتَفِي فِي بَعْضِ صُوَرِ نَفْيِ الشَّرْطِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي لُزُومِ انْتِفَائِهِ مِنِ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَلَا بُدَّ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّرْطِ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ، وَلَا مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُهُ، إِذَا كَانَ غَيْرُ الشَّرْطِ مُشَارِكًا لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي عَارِضٍ عَامٍّ لَهَا.
كَيْفَ وَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِغَيْرِهِ أَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِحَالِ الْمَشْرُوطِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ تَحَقُّقِ مُقْتَضِيهِ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْخِطَابَ لَوْ وَرَدَ مُطْلَقًا لَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوطُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ مُرَادًا.
وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " ضَحِّ بِالشَّاةِ وَإِنْ كَانَتْ عَوْرَاءَ " فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " ضَحُّوا بِالشَّاةِ مُطْلَقًا " لَجَازَ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الْوَهْمِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ شَرْطًا لِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالُوهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ دُونَهُ، وَلَكِنْ مَتَى إِذَا أَمْكَنَ قِيَامُ شَرْطٍ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّرْطِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ شَرْطٌ آخَرُ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.
وَعَلَى
_________
(1) جَوَابٌ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ لِتَأْيِيدِ الْمُعَارَضَةِ.

(3/90)


هَذَا فَكَوْنُهُ شَرْطًا يَتَحَقَّقُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، إِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِذَا قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ فِي الشَّرْطِيَّةِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الِاشْتِرَاطِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ آخَرَ، وَلَا عَلَى عَدَمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: " إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا "، مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ دُخُولُ الدَّارِ فِي عَطِيَّتِكَ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَمَالُ الشَّرْطِ هُوَ دُخُولُ الدَّارِ، لِأَنَّ لَامَ الْجِنْسِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " إِنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا "، يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ، فَلَوْ قَامَ شَرْطٌ آخَرُ مَقَامَهُ لَزِمَ مِنْهُ جَوَازُ الْإِعْطَاءِ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ، فَيَقْتَضِي الشَّرْطُ الْأَوَّلُ امْتِنَاعَ وُجُودِ شَرْطٍ آخَرَ يَقُومُ مَقَامَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِنْ دَخَلَ الدَّارَ) هُوَ الشَّرْطُ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ شَرْطٍ آخَرَ، وَتَقْدِيرُ لَامِ الْجِنْسِ هَاهُنَا زِيَادَةٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا.
وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: (إِنْ دَخَلَ الدَّارَ) يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ مُطْلَقًا، بَلْ إِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. (لَكِنْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا إِذَا سُلِّمَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ أَنَّ عَدَمَهُ يَقْتَضِي الْعَدَمَ، فَالْأَصْلُ عَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، فَاقْتَضَى عَدَمُهُ الْعَدَمَ.)
وَرُبَّمَا احْتَجَّ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ الشَّرْطُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} يَمْنَعُ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذِكْرُ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْإِكْرَاهِ لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مُرِيدٌ لَهُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلتَّحَصُّنِ، لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/91)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّالثةِ الْخِطَابِ إِذَا قُيِّدَ الْحُكْمُ بِغَايَةٍ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ إِذَا قُيِّدَ الْحُكْمُ بِغَايَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، وَقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ (إِلَى) أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ أَوْ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ لَمَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ مُفِيدًا، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، الْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِصَرِيحِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْغَايَةِ، وَالثَّانِي إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ سِوَى مَا ذَكَرُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَازَ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ تَعْرِيفَ بَقَاءِ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْخِطَابِ أَيْ مُتَعَرِّضٌ فِيهِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَا نَفْيِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ الْخِطَابِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ بِمِثْلِ الْحُكْمِ السَّابِقِ قَبْلَ الْغَايَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ نَافِيًا لِلْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَهَا، أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ تَحَقُّقِ مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) وَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى قَوْلِهِ: " «صُومُوا صَوْمًا آخِرُهُ اللَّيْلُ» " وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمُنِعَ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ بَعْدَ مَجِيءِ

(3/92)


اللَّيْلِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الصَّوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ لَصَارَتِ الْغَايَةُ وَسَطًا وَهُوَ مُحَالٌ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِعَبْدِهِ: " لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا حَتَّى يَقُومَ، وَاضْرِبْ عَمْرًا حَتَّى يَتُوبَ " فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُقَالَ: " فَهَلْ أُعْطِيهِ إِذَا قَامَ؟ ، وَهَلْ أَضْرِبُهُ إِذَا تَابَ؟ " وَلَوْلَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْغَايَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بَعْدَهَا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
قُلْنَا لَا نُنْكِرُ أَنَّ (حَتَّى) وَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى قَوْلِهِ: " «صُومُوا صِيَامًا آخِرُهُ اللَّيْلُ» " غَيْرَ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ دَلَالَةَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مُتَعَرَّضٍ فِيهِ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ صَوْمٍ بَعْدَ الْغَايَةِ أَنْ تَصِيرَ الْغَايَةُ وَسَطًا، بَلْ هِيَ غَايَةٌ لِلصَّوْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ وَسَطًا أَنْ لَوْ كَانَ الصَّوْمُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُسْتَنِدًا إِلَى الْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَ الْغَايَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: " لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا حَتَّى يَقُومَ، وَاضْرِبْ عَمْرًا حَتَّى يَتُوبَ " لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مُتَعَرَّضٍ لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ فِيمَا لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ كَمَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِعْطَاءِ وَالضَّرْبِ.

(3/93)


[الْمَسْأَلَةُ الرابعة تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدَ بِخِلَافِهِ أَوْ لَا]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اخْتَلَفُوا فِي تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدَ بِخِلَافِهِ أَوْ لَا وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا قُيِّدَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ فَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ حَرَّمَ اللَّهُ جَلْدَ الزَّانِي مِائَةً، وَقَالَ إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْقُلَّتَيْنِ فَفِيهِ الْمِائَةُ وَالْقُلَّتَانِ وَزِيَادَةٌ.
وَهَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ وَدُونَ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ فِي الْمِائَةِ وَالْقُلَّتَيْنِ؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَمِنْهُ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا أَوْجَبَ جَلْدَ الزَّانِي مِائَةً أَوْ أَبَاحَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَمُخْتَلَفٌ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا زَادَ، وَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا نَقُصَ كَحُكْمِ الْمِائَةِ لِدُخُولِهِ تَحْتَهَا، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ. (1) وَالْمُخْتَارُ فِيمَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِالْعَدَدِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ.
_________
(1) لَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: لَكِنْ يَمْتَنِعُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا.

(3/94)


[الْمَسْأَلَةُ الخامسة مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِلدَّقَّاقِ وَأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، _رَحِمَهُ اللَّهُ_.
وَصُورَتُهُ أَنْ يُعْلَنَ الْحُكْمُ إِمَّا بِاسْمِ جِنْسٍ، كَالتَّخْصِيصِ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا أَوْ بِاسْمِ عَلَمٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ قَائِمٌ أَوْ قَامَ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، لَكِنْ قَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِإِبْطَالِهِ بِحُجَجٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً، لَبَطَلَ الْقِيَاسُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْلٍ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ: فَلَوْ كَانَ النَّصُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْفَرْعِ فَالْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ إِنْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، فَلَا قِيَاسَ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَلَيْسَ بِصَرِيحِهِ، بَلْ بِمَفْهُومِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِمَعْقُولِ النَّهْيِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَغَايَتُهُ التَّعَارُضُ لَا الْإِبْطَالُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، لَكَانَ الْقَائِلُ إِذَا قَالَ: " عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ " فَكَأَنَّهُ قَالَ: " مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ " وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: " زَيْدٌ مَوْجُودٌ " فَكَأَنَّهُ قَالَ: " الْإلَهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ " وَهُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ قَائِلٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مِنَ الْخُصُومِ إِنَّمَا لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ كَافِرًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَنَبِّهًا لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ كَانَ مُتَنَبِّهًا لَهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِلَفْظِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَنَبِّهًا لِدَلَالَةِ لَفْظِهِ وَهُوَ مُرِيدٌ لِمَدْلُولِهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا.

(3/95)


الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: " زَيْدٌ يَأْكُلُ " لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ عَمْرًا لَا يَأْكُلُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ مَنْ يَعْتَقِدُ دَلَالَةَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، أَوْ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَعَدَمُ فَهْمِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَا يَعْتَقِدُ دَلَالَتَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دَلَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ دَلِيلًا لَمَا حَسُنَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ زَيْدًا يَأْكُلُ، إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَأْكُلْ وَإِلَّا كَانَ مُخْبِرًا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ، أَوْ بِمَا لَا يَأْمَنُ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَحَيْثُ اسْتَحْسَنَ الْعُقَلَاءُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْأَكْلِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ غَيْرَ زَيْدٍ يَأْكُلُ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِنَّمَا لَمْ يُسْتَقْبَحْ مِنْهُ ذَلِكَ لِظُهُورِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ سِوَى مَدْلُولِ صَرِيحِ لَفْظِهِ دُونَ مَفْهُومِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَعِلْمِهِ بِوُقُوعِ الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ زَيْدٍ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يُخْبِرُ عَنْ نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَلَا نَفْيِ مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ لِنَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَكَانَ مُسْتَقْبَحًا.
وَالْمُخْتَارُ فِي إِبْطَالِ مَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَأَمَّا حُجَجُ الْخُصُومِ وَجَوَابُهَا فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ التَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ.
وَرُبَّمَا احْتَجُّوا فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحُجَجٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَخَاصَمَ شَخْصَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: " أَمَّا أَنَا فَلَيْسَ لِي أُمٌّ وَلَا أُخْتٌ وَلَا امْرَأَةٌ زَانِيَةٌ " فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ نِسْبَةُ الزِّنَا مِنْهُ إِلَى زَوْجَةِ خَصْمِهِ وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ بِوُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ فُهِمَ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ حَالِهِ لَا مِنْ دَلَالَةِ مَقَالِهِ بِدَلِيلِ مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا وَاجِبًا بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ الْعَامِّ الْمُشْتَقِّ كَقَوْلِهِ: " «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» ".

(3/96)


[الْمَسْأَلَةُ السادسة تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِإِنَّمَا هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اخْتَلَفُوا فِي تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِإِنَّمَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ» "، " «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» "، " «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» "، " «وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» " هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ وَالْهَرَّاسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْكِيدِ.
وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَنْكَرَ دَلِيلَ الْخِطَابِ إِلَى أَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْحَصْرِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) قَدْ تَرِدُ وَلَا حَصْرَ، كَقَوْلِهِ: " «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» " وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي النَّسِيئَةِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَقَدْ تَرِدُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْحَصْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (1) وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ إِثْبَاتِ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ، نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ (2) عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) لَوْ كَانَتْ لِلْحَصْرِ لَكَانَ وُرُودُهَا فِي غَيْرِ الْحَصْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ، لَكَانَ فَهْمُ الْحَصْرِ فِي صُورَةِ الْحَصْرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ أَنْ لَوْ كَانَ دَلِيلُ الْحَصْرِ مُنْحَصِرًا فِي كَلِمَةِ (إِنَّمَا) وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
_________
(1) الْمَعْنَى أَنَا بَشَرٌ لَا مَلَكٌ فَالْحَصْرُ فِي الْجُمْلَةِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، إِذِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِفَاتٌ أُخْرَى سِوَى الْبَشَرِيَّةِ.
(2) لِكَوْنِهِ - الصَّوَابُ - لِكَوْنِهِمَا أَيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ.

(3/97)


[الْمَسْأَلَةُ السابعة قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» " وَفِي قَوْلِ الْقَائِلِ: الْعَالِمُ زَيْدٌ وَصَدِيقِي زَيْدٌ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْأَعْمَالِ فِيمَا كَانَ مَنْوِيًّا، وَعَلَى حَصْرِ الْعَالِمِ وَالصَّدِيقِ فِي زَيْدٍ.
فَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَالْهَرَّاسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى حَصْرِ الْأَعْمَالِ فِي الْمَنْوِيِّ، وَالْعَالِمِ وَالصَّدِيقِ فِي زَيْدٍ، لَكَانَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ مِنْ خَبَرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ كَذِبًا كَمَا لَوْ قَالَ: " الْحَيَوَانُ إِنْسَانٌ وَالْإِنْسَانُ زَيْدٌ ".
قُلْنَا: إِنَّمَا يَلْزَمُ الْكَذِبُ أَنْ لَوْ كَانَتِ (الْأَلِفُ وَاللَّامُ) فِي الْأَعْمَالِ لِلْعُمُومِ فَإِنَّهَا تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: " كُلُّ عَمَلٍ مَنْوِيٍ " وَهُوَ كَاذِبٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: " كُلُّ حَيَوَانٍ إِنْسَانٌ " وَلَيْسَ كَذَلِكَ! بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْبَعْضِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: " بَعْضُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ " وَذَلِكَ صَادِقٌ غَيْرُ كَاذِبٍ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " صَدِيقِي زَيْدٌ " لَيْسَ عَامًّا فِي كُلِّ صَدِيقٍ بَلْ كَأَنَّهُ قَالَ: " بَعْضُ أَصْدِقَائِي زَيْدٌ " حَتَّى إِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ (الْأَلِفَ وَاللَّامَ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ تَكُونُ عَامَّةً، وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُرِيدًا لِلتَّعْمِيمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ ظُهُورِ عَالِمٍ آخَرِ وَصَدِيقٍ آخَرَ لَهُ، وَكَانَ قَوْلُهُ دَالًّا عَلَى الْحَصْرِ لَا مَحَالَةَ. (1) وَرُبَّمَا قِيلَ فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْحَصْرِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ وَصَدِيقِي زَيْدٌ " يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْعَالِمِ وَالصَّدِيقِ فِي زَيْدٍ لَكَانَ إِذَا قَالَ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَصَدِيقِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو " مُتَنَاقِضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ فَإِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاقِضًا بِشَرْطِ أَنْ يَتَجَرَّدَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ عَمَّا يُغَيِّرُهُ.
_________
(1) الظَّاهِرُ قَصْرُ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا عَلَى مَا صَحِبَتْهُ النِّيَّةُ، وَقَصْرُ الْعِلْمِ وَالصَّدَاقَةِ فِي الْمِثَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى زَيْدٍ قَصْرًا حَقِيقِيًّا إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَالِمٌ مِنَ الْخَلْقِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ سِوَى زَيْدٍ، وَلَا صَدِيقَ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَاقِعِ سِوَاهُ، وَإِلَّا فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ وَلَا كَذِبَ فِي الْحَالَيْنِ.

(3/98)


وَأَمَّا إِذْ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ " وَعَمْرٌو " صَارَ الْكُلُّ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ الْعَالِمُ زَيْدٌ مَعَ الِانْفِرَادِ مُغَايِرًا فِي دَلَالَتِهِ لِقَوْلِهِ " الْعَالِمُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو " وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: " عَلَيَّ عَشْرَةٌ " ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ قَالَ " إِلَّا خَمْسَةً " فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ لَفْظِهِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَالَ " لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً " عَلَى الِاتِّصَالِ كَانَ مَقْبُولًا لِعَدَمِ تَنَاقُضِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الدَّلَالَةِ لَمَا اخْتَلَفَ الْحَالُ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَوْ يُقْبَلَ فِيهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَة الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ " لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ " فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ عَالِمٍ سِوَى زَيْدٍ، وَإِثْبَاتِ كَوْنِ زَيْدٍ عَالِمًا، وَذَهَبَ بَعْضُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ زَيْدٍ عَالِمًا، بَلْ هُوَ نُطْقٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَسُكُوتٌ عَنِ الْمُسْتَثْنَى.
وَمَعْنَى خُرُوجِ الْمُسْتَثْنَى عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِيهِ لِكَوْنِ زَيْدٍ عَالِمًا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا.
وَالْحَقُّ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْجُمْهُورِيُّ، وَدَلِيلُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " نَافٍ لِلْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُثْبِتٌ لِصِفَةِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَرَّرْنَاهُ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَحَقَّقْنَا وَجْهَ الِانْفِصَالِ عَنْ كُلِّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ فَعَلَيْكَ بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا.

(3/99)


[الْمَسْأَلَةُ التاسعة كُلَّ خِطَابٍ خَصَّصَ مَحَلَّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْأَعَمِّ بِالْأَغْلَبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ كُلَّ خِطَابٍ خَصَّصَ مَحَلَّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْأَعَمِّ بِالْأَغْلَبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) .، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» "، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» " فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ لِمَحَلِّ النُّطْقِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الرَّبِيبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْحِجْرِ، وَأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الشِّقَاقِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ إِذْنِ الْوَلِيِّ لَهَا وَإِبَائِهِ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وَأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا ظَهَرَ سَبَبُ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ كَسُؤَالِ سَائِلٍ أَوْ حُدُوثِ حَادِثَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْصِيصِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ سَبَبٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ دُونَ مَحَلِّ السُّكُوتِ بَلْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِمَا وَإِلَى ذِكْرِهِمَا مَعَ الْعِلْمِ بِهِمَا مُسْتَوِيَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، لَوْ لَمْ يَظْهَرْ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْصِيصِ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ، أَوْ لَا يَجِبُ؟
إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجِبُ كَانَ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ عَبَثًا خَلِيًّا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْصِبُ آحَادِ الْبُلَغَاءِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ نَفْيِ الْحُكْمِ لَزِمَ الْقَوْلُ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
_________
(1) الْمُنَاسِبُ لِذِكْرِ الْخُلْعِ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) فَإِنَّ آيَةَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ لَيْسَ فِيهَا إِشْعَارٌ بِخُلْعٍ

(3/100)


وَالْوَجْهُ فِي حِلِّهِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَظْهَرِ السَّبَبُ الْمُخَصِّصُ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِهِ مُحْتَمِلَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ أَنَّ عَدَمَهُ أَظَهَرُ مِنْ وُجُودِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ بِالنَّفْيِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِثْبَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَفْهُومَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَنْ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إِنَّمَا هُوَ فَرْعُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا. (1) وَإِلَى هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ فِي أَصْنَافِ دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

[مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ]
[النظر في النسخ]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ النَّظَرُ فِي النَّسْخِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
_________
(1) انْظُرْ مُخْتَصَرَ الْمُنْتَهَى لِابْنِ الْحَاجِبِ وَشَرْحَهُ لِلْعَضُدِ فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْآمِدِيِّ وَاعْتِرَاضَاتِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

(3/101)


الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
أَمَّا النَّسْخُ: فَهُوَ فِي اللُّغَةِ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ أَثَرَ الْمَشْيِ أَيْ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَ الشَّيْبُ الشَّبَابَ إِذَا أَزَالَهُ، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْقُرُونِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْإِزَالَةُ هِيَ الْإِعْدَامُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: زَالَ عَنْهُ الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ وَزَالَتِ النِّعْمَةُ عَنْ فُلَانٍ، وَيُرَادُ بِهِ الِانْعِدَامُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى نَقْلِ الشَّيْءِ وَتَحْوِيلِهِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ مَعَ بَقَائِهِ فِي نَفْسِهِ.
قَالَ السِّجِسْتَانِيُّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: وَالنَّسْخُ أَنْ تُحَوِّلَ مَا فِي الْخَلِيَّةِ مِنَ النَّحْلِ وَالْعَسَلِ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ بِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، وَتَنَاسُخُ الْأَنْفُسِ بِانْتِقَالِهَا مِنْ بَدَنٍ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ.
وَمِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّقْلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَالْمُرَادُ بِهِ نَقْلُ الْأَعْمَالِ إِلَى الصُّحُفِ أَوْ مِنَ الصُّحُفِ إِلَى غَيْرِهَا.
اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ: فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ اسْمَ النَّسْخِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَذَهَبَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ.
وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ النَّسْخِ عَلَى النَّقْلِ فِي قَوْلِهِمْ: " نَسَخْتُ الْكِتَابَ " مَجَازٌ لِأَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَمْ يُنْقَلْ حَقِيقَةً.
وَإِذَا كَانَ اسْمُ النَّسْخِ مَجَازٌ فِي النَّقْلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيمَا سِوَاهُمَا.
وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ.
وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إِطْلَاقُ اسْمِ النَّسْخِ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَالْإِعْدَامِ وَاقِعٌ كَمَا سَبَقَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ.

(3/102)


وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ النَّسْخِ عَلَى الْكِتَابِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا ضَرُورَةً أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَمْ يُنْقَلْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ بِهِ مُسْتَعَارًا مِنَ الْإِزَالَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُزَالٍ، وَلَا يُشْبِهُ الْإِزَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِعَارَتِهِ مِنْ مَعْنًى آخَرَ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ إِطْلَاقِ اسْمِ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ فَإِذَا تَعَذَّرَتِ اسْتِعَارَتُهُ مِنَ الْإِزَالَةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا مِنَ النَّقْلِ.
وَوَجْهُ اسْتَعَارَتِهِ مِنْهُ أَنَّ تَحْصِيلَ مِثْلِ مَا فِي أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ تَجْرِي مَجْرَى نَقْلِهِ وَتَحْوِيلِهِ إِلَيْهِ فَكَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّجَوُّزِ.
وَإِذَا كَانَ مُسْتَعَارًا مِنَ النَّقْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ إِذِ الْمَجَازُ لَا يُتَجَوَّزُ بِهِ فِي غَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
ثُمَّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا فِي نَسْخِ الْكِتَابِ فَمَا الِاعْتِذَارُ عَنْ إِطْلَاقِ اسْمِ التَّنَاسُخِ فِي الْمَوَارِيثِ مَعَ كَوْنِهَا مُنْتَقِلَةً حَقِيقَةً، وَإِطْلَاقُ اسْمِ النَّسْخِ عَلَى تَحْوِيلِ النَّحْلِ وَالْعَسَلِ مِنْ خَلِيَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَقْرِيرِ التَّجَوُّزِ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ هَاهُنَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَمُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اسْمُ النَّسْخِ قَدْ أُطْلِقَ بِمَعْنَى النَّقْلِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّرْجِيحُ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ مُطْلَقُ إِعْدَامٍ، وَالنَّقْلُ أَخَصُّ مِنَ الْإِزَالَةِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إِعْدَامَ الصِّفَةِ وَحُدُوثَ أُخْرَى، وَالْإِعْدَامُ الْمُسْتَلْزِمُ حُدُوثَ شَيْءٍ آخَرَ أَخَصُّ مِنَ الْإِعْدَامِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِزَالَةُ أَعَمَّ فَجَعْلُ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِيهَا أَوْلَى نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِزَالَةَ أَعَمُّ مِنَ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ إِعْدَامَ صِفَةٍ وَتَجَدُّدَ أُخْرَى فَكُلُّ إِزَالَةٍ هَكَذَا لِأَنَّ الْإِزَالَةَ عَلَى مَا قِيلَ هِيَ الْإِعْدَامُ، وَالْإِعْدَامُ يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْوُجُودُ وَتَجَدُّدَ أُخْرَى، وَهِيَ صِفَةُ الْعَدَمِ، وَهُمَا صِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ مَهْمَا انْتَفَتْ إِحْدَاهُمَا تَحَقَّقَتِ الْأُخْرَى، وَإِذَا تَسَاوَيَا عُمُومًا وَخُصُوصًا

(3/103)


فَلَيْسَ جَعْلُ اسْمِ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
وَإِذَا تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَعَ صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ فِيهِمَا كَانَ الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ أَشْبَهَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي حَقِيقَةِ النَّقْلِ خُصُوصُ تَبَدُّلِ الصِّفَةِ الْوُجُودِيَّةِ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ فَيَكُونَ النَّقْلُ أَخَصَّ.
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ إِزَالَةُ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِقَوْلٍ مَنْقُولٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ رَسُولِهِ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِثْلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمِثْلِ أَوْ بَعْدَ عَدَمِهِ، أَوْ فِي حَالَةِ وُجُودِهِ:
الْأَوَّلُ: مُحَالٌ، فَإِنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقَالُ إِنَّهُ أُزِيلَ، وَالثَّانِي أَيْضًا مُحَالٌ، فَإِنَّ إِزَالَةَ مَا عُدِمَ بَعْدَ وَجُودِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالثَّالِثُ: أَيْضًا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْإِزَالَةَ هِيَ الْإِعْدَامُ، وَإِعْدَامُ الشَّيْءِ حَالَ وُجُودِهِ مُحَالٌ. (1) الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ إِذْ يَدْخُلُ فِيهِ إِزَالَةُ مِثْلِ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِخِطَابِ الشَّارِعِ الْمُتَرَاخِي عَلَى وَجْهٍ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُغَيِّرِ لَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ فِي مُصْطَلَحِ الْمُتَشَرِّعِينَ إِجْمَاعًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ إِزَالَةُ الْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، وَيَبْطُلُ بِالْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَبِمَا لَوْ زَالَ الْحُكْمُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِمَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ مَوْتٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا قِيلَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِجْمَاعًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نَقْلُ الْحُكْمِ إِلَى خِلَافِهِ، وَيَبْطُلُ بِمَا بَطَلَ بِهِ الْحَدُّ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِمَا لَوْ نُقِلَ الْحُكْمُ إِلَى خِلَافِهِ بِالْغَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيمَا قَبْلَ الْغَايَةِ قَدْ قُلِبَ إِلَى خِلَافِهِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي حَدِّهِ إِنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ.
_________
(1) سَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا التَّرْدِيدِ فِي أَدِلَّةِ الْمَانِعِينَ لِلنَّسْخِ عَقْلًا وَجَوَابُ الْآمِدِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَعْرِفُ لَوْنًا مِنْ جَدَلِ الْآمِدِيِّ فِي نِقَاشِهِ وَدِفَاعِهِ.

(3/104)


وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا.
وَقَصَدَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ تَعْمِيمَ كُلِّ خِطَابٍ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَنْظُومِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَوْتِ وَالْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَجَمِيعِ الْأَعْذَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الزَّائِلَةِ بِهَا مَعَ تَرَاخِيهَا، وَلَوْلَاهَا لَكَانَتِ الْأَحْكَامُ الزَّائِلَةُ بِهَا مُسْتَمِرَّةً.
وَبِالْقَيْدِ الثَّانِي: وَهُوَ الْخِطَابُ الْمُتَقَدِّمُ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ.
وَبِالْقَيْدِ الثَّالِثِ: وَهُوَ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا الِاحْتِرَازُ عَمَّا إِذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُؤَقَّتٍ، ثُمَّ وَرَدَ الْخِطَابُ عِنْدَ تَصَرُّمِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُكْمٍ مُنَاقِضٍ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ وَرَدَ قَوْلُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (كُلُوا) بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ الْخِطَابِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا بَلْ مُنْتَهِيًا بِالْغُرُوبِ.
وَبِالْقَيْدِ الرَّابِعِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لَا نَسْخًا.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ:
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ الدَّالَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ هُوَ النَّاسِخُ، وَالنَّسْخُ هُوَ نَفْسُ الِارْتِفَاعِ فَلَا يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّسْخُ.
الثَّانِي: وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ وَلَا مَانِعٍ.
أَمَّا إِنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ فِلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسْخُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ ارْتِفَاعُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ فَلِأَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي الْوَاقِعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَجْمَعُوا بِخِطَابِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِلْمُقَلِّدِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا بِأَقْوَالِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ حُكْمَ خِطَابِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِيَ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِذِ الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ بِهِ.

(3/105)


الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ تَحْدِيدَ النَّسْخِ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ تَحْدِيدٌ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِمُتَصَوَّرٍ لِوُجُوهٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ النَّسْخِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ (مُتَرَاخٍ عَنْهُ) وَقَوْلُهُ (عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا ثَابِتًا) فَإِنَّ ذِكْرَ التَّرَاخِي إِنَّمَا وَقَعَ احْتِرَازًا عَنِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، وَفِي الْحَدِّ مَا يَدْرَأُ النَّقْضَ بِذَلِكَ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ وَالْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَ رَافِعًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الذِّكْرِ بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُتَقَدِّمَ لَمْ يُرِدِ الْحُكْمَ فِيمَا اسْتُثْنِيَ، وَفِيمَا خَرَجَ عَنِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، وَبِالتَّقَيُّدِ بِالرَّفْعِ يُدْرَأُ النَّقْضُ بِالْخِطَابِ الْوَارِدِ بِمَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ إِذَا كَانَ حُكْمُهُ مُؤَقَّتًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخِطَابَ الثَّانِيَ لَا يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ لِانْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ، بَلِ النَّسْخُ نَفْسُ الرَّفْعِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلِارْتِفَاعِ، وَالرَّفْعُ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ يَسْتَدْعِي نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَالنَّاسِخُ هُوَ الرَّافِعُ أَيِ الْفَاعِلُ، وَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْمَرْفُوعُ أَيِ الْمَفْعُولُ، وَالرَّافِعُ وَالْمَرْفُوعُ، أَيِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ يَسْتَدْعِي رَفْعًا وَارْتِفَاعًا، أَيْ فِعْلًا وَانْفِعَالًا، وَالرَّافِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَإِنْ سُمِّيَ الْخِطَابُ نَاسِخًا فَإِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّجَوُّزِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَالْمَرْفُوعُ هُوَ الْحُكْمُ، وَالرَّفْعُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ صِفَةُ الرَّافِعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِطَابُ، وَالِارْتِفَاعُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الِانْفِعَالِ صِفَةُ الْمَرْفُوعِ الْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ فَسْخِ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْفَاسِخَ هُوَ الْعَاقِدُ، وَالْمَفْسُوخَ هُوَ الْعَقْدُ وَالْفَسْخَ صِفَةُ الْعَاقِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (فَسَخْتُ) وَالِانْفِسَاخُ صِفَةُ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْحِلَالُهُ بَعْدَ انْبِرَامِهِ.
وَأَمَّا النَّسْخُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِعْلَ الرَّسُولِ نَاسِخٌ حَقِيقَةً إِذْ لَيْسَ لِلرَّسُولِ وِلَايَةُ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَرَفْعِهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ وَمُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَشْرَعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَيَرْفَعُهُ، فَفِعْلُهُ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَإِنَّمَا هُوَ

(3/106)


دَلِيلٌ عَلَى الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ لَا أَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى الِارْتِفَاعِ.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ بِالْإِجْمَاعِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَهْمَا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ قَاطِعًا فَلَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مُنَاقَضَةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا لِيَصِحَّ مَا قِيلَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُسْتَنِدٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الْمُوجِبِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَعَلَى هَذَا، فَيَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ النَّسْخُ لَا أَنَّ خِطَابَهُمْ نَسْخٌ.
وَمَا وَعَدُوا بِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ فَهِيَ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِصِحَّةِ الْحَدِّ، وَفَائِدَتُهَا الْمَيْزُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مُبَالَغَةً فِي تَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ فِي تَحْدِيدِهِ أَنْ يُقَالَ: النَّسْخُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ الْمَانِعِ مِنِ اسْتِمْرَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ خِطَابٍ شَرْعِيٍّ سَابِقٍ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِرَازِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالتَّرَاخِي، وَلَا بِقَوْلِنَا (لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا ثَابِتًا) لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. (1)
_________
(1) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلنَّسْخِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا النَّسْخُ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيَشْمَلُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ، وَرَفْعِ مَا تَوَهَّمَ الْمُكَلَّفُ إِرَادَتَهُ مِنَ النُّصُوصِ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا - انْظُرْ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الْآيَاتِ، فِي مَجْمُوعِ الْفَتَاوِي لِابْنِ تَيْمِيَةَ ج 14 وَص 397 ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوِي، وَالْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مَسَائِلِ النَّسْخِ فِي الْمُوَافَقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ وَإِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ.

(3/107)


وَأَمَّا النَّاسِخُ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَالُ: نَسَخَ فَهُوَ نَاسِخٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْآيَةِ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ فَيُقَالُ آيَةُ السَّيْفِ نَسَخَتْ كَذَا فَهِيَ نَاسِخَةٌ.
وَكَذَلِكَ عَلَى طَرِيقٍ يُعْرَفُ بِهِ نَسْخُ الْحُكْمِ مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
وَعَلَى الْحُكْمِ فَيُقَالُ وُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ نَسَخَ وُجُوبَ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَهُوَ نَاسِخٌ، وَعَلَى الْمُعْتَقِدِ لِنَسْخِ الْحُكْمِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ، أَيْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَهُوَ نَاسِخٌ.
غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ نَاسِخٍ عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى الْمُعْتَقِدِ لِلنَّسْخِ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفِ لِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ.
فَعِنْدَهُمُ النَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الطَّرِيقُ حَتَّى قَالُوا فِي حَدِّهِ: إِنَّ النَّاسِخَ هُوَ قَوْلٌ صَادِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ رَسُولِهِ أَوْ فِعْلٌ مَنْقُولٌ عَنْ رَسُولِهِ يُفِيدُ إِزَالَةَ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِنَصٍّ صَادِرٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِنَصٍّ أَوْ فِعْلٍ مَنْقُولٍ عَنْ رَسُولِهِ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
وَأَمَّا نَحْنُ: فَمُعْتَقَدُنَا أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ خِطَابَهُ الدَّالَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ هُوَ النَّسْخُ وَإِنْ سُمِّيَ نَاسِخًا فَمَجَازٌ.
وَحَاصِلُ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ.
وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَهُوَ الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ كَالْمُرْتَفِعِ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَحُكْمِ التَّرَبُّصِ حَوْلًا كَامِلًا عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

(3/108)


[الْفَصْلُ الثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ]
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَدَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ بَعْدَ الْخَفَاءِ.
وَمِنْهُ يُقَالُ: بَدَا لَنَا سُورُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خَفَائِهِ، وَبَدَا لَنَا الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ، أَيْ ظَهَرَ بَعْدَ خَفَائِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ، {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} ، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} .
وَحَيْثُ كَانَ فَإِنَّ النَّسْخَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ وَالنَّهْيَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ عَلَى حَدِّهِ وَظَنَّ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ.
فَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِمَصْلَحَةٍ فَالْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ لِظُهُورِ مَا كَانَ قَدْ خَفِيَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِمَفْسَدَةٍ فَالنَّهْيُ عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِظُهُورِ مَا كَانَ قَدْ خَفِيَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَدَاءِ.
وَلَمَّا خَفِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَدَاءِ وَالنَّسْخِ عَلَى الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ، مَنَعَتِ الْيَهُودُ مِنَ النَّسْخِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَوَّزَتِ الرَّوَافِضُ الْبَدَاءَ عَلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِمْ جَوَازَ النَّسْخِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَعَذُّرِ الْفَرْقِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ (1) وَاعْتَضَدُوا فِي ذَلِكَ بِمَا نَقَلُوهُ
_________
(1) اعْتَذَرَ الْآمِدِيُّ عَنِ الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ فِي انْتِقَاصِهِمْ لِلَّهِ وَطَعْنِهِمْ فِي أَفْعَالِهِ وَشَرَائِعِهِ بِخَفَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ، وَتَعَذُّرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا عَلَيْهِمْ، فَمَنَعَتِ الْيَهُودُ النَّسْخَ حِمَايَةً لِجَنَابِ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَجَهَّلَتِ الرَّافِضَةُ رَبَّهَا فَحَكَمَتْ بِأَنَّ اللَّهَ يَبْدُو لَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَا كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ فَيَنْقُضُ مَا أَبْرَمَهُ (تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا) ، وَمَنْ تَبَيَّنَ أَمْرَ الْيَهُودِ وَحَسَدَهُمْ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكَيْدَهُمْ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَتَبَيَّنَ حَالَ الرَّافِضَةِ وَوَقَفَ عَلَى فَسَادِ دَخِيلَتِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ بِإِبْطَانِ الْكُفْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُمْ وَرِثُوا مَبَادِئَهُمْ عَنِ الْيَهُودِ وَنَهَجُوا فِي الْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ مَنْهَجَهُمْ عَلِمَ أَنَّ مَا قَالُوهُ مِنَ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ قَصْدٍ سَيِّئٍ وَحَسَدٍ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَعُصْبَةٍ مَمْقُوتَةٍ دَفَعَتْهُمْ إِلَى الدَّسِّ وَالْخِدَاعِ وَإِعْمَالِ مَعَاوِلِ الْهَدْمِ سِرًّا وَعَلَنًا لِلشَّرَائِعِ وَدُوَلِهَا الْقَائِمَةِ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَرَأَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَتَارِيخَ الْفَرِيقَيْنِ ظَهَرَ لَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّخَلِ وَالْمَكْرِ السَّيِّئِ.

(3/109)


عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْلَا الْبَدَاءُ لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَنَقَلُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا بَدَا لِلَّهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ كَمَا بَدَا لَهُ فِي إِسْمَاعِيلَ " أَيْ فِي أَمْرِهِ بِذَبْحِهِ.
وَنَقَلُوا عَنْ مُوسَى (1) بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ الْبَدَاءُ دِينُنَا وَدِينُ آبَائِنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَلَوْلَا الْبَدَاءُ سَمَّيْتُهُ غَيْرَ هَائِبٍ ... وَذِكْرُ الْبَدَا نَعْتٌ لِمَنْ يَتَقَلَّبُ
وَلَوْلَا الْبَدَا مَا كَانَ فِيهِ تَصَرُّفٌ ... وَكَانَ كَنَارِ دَهْرِهِ يَتَلَهَّبُ
وَكَانَ كَضَوْءٍ مُشْرِقٍ بِطَبِيعَةٍ ... وَبِاللَّهِ عَنْ ذِكْرِ الطَّبَائِعِ يَرْغَبُ
فَلَزِمَ الْيَهُودَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارُ تَبَدُّلِ الشَّرَائِعِ، وَلَزِمَ الرَّوَافِضَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِالْجَهْلِ مَعَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
أَمَّا النُّصُوصُ الْكِتَابِيَّةُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وَقَوْلِهِ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ.
وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي انْتَحَلَهَا الْكَذَّابُ الثَّقَفِيُّ (2)
_________
(1) هُوَ مُوسَى الْكَاظِمُ ابْنُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ابْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ ابْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ.
(2) الْكَذَّابُ الثَّقَفِيُّ هُوَ: الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، كَانَ خَارِجِيًّا ثُمَّ زُبَيْرِيًّا ثُمَّ شِيعِيًّا وَكِيسَانِيًّا وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمُخْتَارِيَّةُ مِنْ فِرَقِ الشِّيعَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ جَوَازُ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي الْمِلَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ لِعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ، قُتِلَ فِي مَوْقِعَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِحَرُورَاءَ عَامَ 67 هـ.

(3/110)


عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ لِنَفْسِهِ، وَيُخْبِرُ بِأَشْيَاءَ فَإِذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ فِيهَا، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي بِذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ بَدَا لَهُ فِيهِ، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْبَيْتِ مُبَالَغَةً فِي تَرْوِيجِ أَكَاذِيبِهِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا إِنَّمَا هُوَ مَحْوُ الْمَنْسُوخِ وَإِثْبَاتُ النَّاسِخِ وَمَحْوُ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَمَحْوُ الْحَسَنَاتِ بِالرِّدَّةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَوْ مَحْوُ الْمُبَاحَاتِ، وَإِثْبَاتُ الطَّاعَاتِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، أَوْ مَحْوُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْآجَالِ أَوِ الْأَرْزَاقِ وَإِثْبَاتُ غَيْرِهَا.
وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَهْلِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (1) وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ فَنَقُولُ: إِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْبَدَاءِ وَأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بَعْدَ الْجَهْلِ وَالظُّهُورِ بَعْدَ الْخَفَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ فَالنَّسْخُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ لِلْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَاسْتِلْزَامَ نَسْخِهِ لِلْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِذَا نَسَخَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ نَسْخَهُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَ بِمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ، وَلَا نَهَى عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَذَلِكَ كَإِبَاحَتِهِ الْأَكْلَ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِهِ فِي نَهَارِهِ.
_________
(1) بَيَّنَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ مَحْوٍ وَإِثْبَاتٍ وَتَبْدِيلٍ وَتَغْيِيرٍ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ فِعْلًا كَوْنِيًّا أَوْ تَشْرِيعًا، وَمَسْطُورٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَسَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ وَسَائِرِ مَا يَكُونُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ كُلٌّ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ الَّذِي حُدِّدَ لَهُ فِي عِلْمِهِ (تَعَالَى) وَكِتَابِهِ، وَرَهِينٌ بِأَسْبَابِهِ حَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ عُمُومًا أَنْ يَكُونَ بَدَا لِلَّهِ أَمْرٌ كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَشْرِيعٍ تَفْسِيرٌ عَمَلِيٌّ وَتَطْبِيقٌ وَاقِعِيٌّ دَقِيقٌ مُوَافِقٌ لِسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَا جَرَى بِهِ قَلَمُهُ فِي كِتَابِهِ.

(3/111)


فَإِنْ قِيلَ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ عَلِمَ اسْتِمْرَارَ أَمْرِهِ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ أَبَدًا، أَوْ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ اسْتَحَالَ نَسْخُهُ لِمَا فِيهِ مِنِ انْقِلَابِ عِلْمِهِ جَهْلًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَالْحُكْمُ يَكُونُ مُنْتَهِيًا بِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ بَعْدُ، وَإِلَّا لَانْقَلَبَ عِلْمُ الْبَارِي جَهْلًا، وَإِذَا كَانَ مُنْتَهِيًا بِنَفْسِهِ فَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ لَا فِي حَالَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ الْفِعْلُ مَأْمُورًا فِيهَا، وَلَا فِي حَالَةِ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنِ انْقِلَابِ عِلْمِهِ إِلَى الْجَهْلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ النَّاسِخُ مُؤَثِّرًا فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ.
قُلْنَا: الْأَمْرُ مُطْلَقٌ، وَالْبَارِي عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَنْتَهِي بِالنَّاسِخِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ فِيهِ لَا أَنَّهُ عَلِمَ انْتِهَاءَهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ مُطْلَقًا بَلْ عَلِمَ انْتِهَاءَهُ بِالنَّسْخِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَهِيًا بِالنَّسْخِ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِهَاءِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالنَّسْخِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ مَنْسُوخًا.

(3/112)


[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ]
نَقُولُ إِنَّ التَّخْصِيصَ وَالنَّسْخَ وَإِنِ اشْتَرَكَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ لُغَةً غَيْرَ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُمُومِ لَمْ يَكُنِ الْمُتَكَلِّمُ قَدْ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ، وَالنَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَرَجَ لَمْ يُرِدِ التَّكْلِيفَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ، وَالنَّسْخَ قَدْ يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَّا بِخِطَابٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، بِخِلَافِ الْمُخَصَّصِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُخَصِّصِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مُطْلَقًا فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخْرِجُ الدَّلِيلَ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَا إِذَا وَرَدَ النَّسْخُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ.
السَّابِعُ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَرِيعَةٍ بِأُخْرَى.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْعَامَّ يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ.
الْعَاشِرُ: وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، أَنَّ التَّخْصِيصَ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ، وَأَنَّ كُلَّ نَسْخٍ تَخْصِيصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَخْصِيصٍ نَسْخًا، إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ يَعُمُّ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَبَعْضِ الْأَحْوَالِ وَبَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

(3/113)


وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ التَّخْصِيصِ الْفَارِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّسْخِ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ التَّخْصِيصِ، أَوْ مُلَازِمَةٌ خَارِجَةٌ فَلَا وُجُودَ لَهَا فِي النَّسْخِ، فَلَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ أَعَمَّ مِنَ النَّسْخِ، لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْدُقَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ جَمِيعِ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِهِ عَلَى الْأَخَصِّ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصْدُقُ عَلَى النَّسْخِ فَلَا يَكُونُ النَّسْخُ تَخْصِيصًا.
وَإِلَّا فَلِقَائِلٍ (1) أَنْ يَقُولَ: مَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ إِنَّمَا هِيَ فُرُوقٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصِ، وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَفْهُومِ التَّخْصِيصِ، بَلِ التَّخْصِيصُ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ وَمِنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ قَادِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّخْصِيصِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّسْخِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ.
فَحَاصِلُ النِّزَاعِ يَرْجِعُ إِلَى الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ، وَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ بَعْدَ فَهْمِ غَوْرِ الْمَعْنَى.

[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي شُرُوطِ النَّسْخِ الشَّرْعِيِّ]
وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ:
أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: فَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا، أَوْ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْخِطَابِ الْمَنْسُوخِ حُكْمُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَأَنْ يَكُونَ قَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّخْصِيصُ، وَأَنْ يَكُونَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ نَصَّيْنِ قَاطِعَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُقَابِلًا لِلْمَنْسُوخِ مُقَابَلَةَ الْأَمْرِ بِالنَّهْيِ، وَالْمُضَيَّقِ بِالْمُوَسَّعِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِبَدَلٍ.
فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَمَا يَأْتِي، وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَشَعِّبَةِ عَنِ النَّسْخِ، وَهِيَ عِشْرُونَ مَسْأَلَةً.
_________
(1) وَإِلَّا فَلِقَائِلٍ كَانَ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَعَلَّ الْأَصْلَ وَلِقَائِلٍ، وَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ النَّظَرِ الْمُتَقَدِّمِ.

(3/114)


[مَسَائِلِ مُتَشَعِّبَةِ عَنِ النَّسْخِ]
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ عَلَى مُنْكِرِيهِ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ عَلَى مُنْكِرِيهِ
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا، وَعَلَى وُقُوعِهِ شَرْعًا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ (1) فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا، وَجَوَّزَهُ عَقْلًا، وَمِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ سِوَى الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمُ انْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ:
فَذَهَبَتِ الشَّمْعُنِيَّةُ إِلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَسَمْعًا.
وَذَهَبَتِ الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ إِلَى امْتِنَاعِهِ سَمْعًا لَا عَقْلًا.
وَذَهَبَتِ الْعِيسَوِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ سَمْعًا، وَاعْتَرَفُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا إِلَى الْأُمَمِ كَافَّةً.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ. (2) أَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى حِكْمَةٍ وَغَرَضٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْتَبِرُ الْحِكْمَةَ وَالْغَرَضَ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ، وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ، كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَنَهَى عَنْهُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَمَعَ بُطْلَانِهِ (3) عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاسْتِلْزَامَ
_________
(1) أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الْمُعْتَزِلِيُّ مِنْ كُتُبِهِ: (جَامِعُ التَّأْوِيلِ) وُلِدَ عَامَ 254 هـ، وَمَاتَ عَامَ 322 هـ.
(2) الْعَنَانِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ تُنْسَبُ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عَنَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَمِنْ مَذْهَبِهِمُ الِاعْتِرَافُ بِوِلَايَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ، وَالْعِيسَوِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ تَنْتَسِبُ إِلَى أَبِي عِيسَى إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ الْأَصْفَهَانِيِّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَبَدَأَ دَعْوَتَهُ زَمَنَ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِمَارِ، وَحَارَبَ أَصْحَابَ الْمَنْصُورِ بِالرَّيِّ. انْظُرْ تَرَاجِمَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ، وَالْفَصْلِ لِابْنِ حَزْمٍ.
(3) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا ص 91 - 94 104 ج1.

(3/115)


النَّهْيِ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمَصَالِحَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ حَتَّى إِنَّ مَصْلَحَةَ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ فِي الْغِنَى أَوِ الصِّحَّةِ أَوِ التَّكْلِيفِ، وَمَصْلَحَةَ الْآخَرِ فِي نَقِيضِهِ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَصْلَحَةُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ حَتَّى إِنَّ مَصْلَحَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْأَزْمَانِ فِي الْمُدَارَاةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَمَصْلَحَةَ أَهْلِ زَمَانٍ آخَرَ فِي الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَإِذَا عُرِفَ جَوَازُ اخْتِلَافِ الْمَصْلَحَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُكَلَّفَ بِالْفِعْلِ فِي زَمَانٍ لِعِلْمِهِ بِمَصْلَحَتِهِ فِيهِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ فِي زَمَنٍ آخَرَ لِعِلْمِهِ بِمَصْلَحَتِهِ فِيهِ، كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ بِالْمَرِيضِ، حَيْثُ يَأْمُرُهُ بِاسْتِعْمَالِ دَوَاءٍ خَاصٍّ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ فِي زَمَنٍ آخَرَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَصْلَحَتِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مِزَاجِهِ، وَكَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ مِنَ التَّأْدِيبِ لَهُ وَضَرْبِهِ فِي زَمَانٍ، وَاللِّينِ لَهُ وَالرِّفْقِ بِهِ فِي زَمَانٍ آخَرَ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لَهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ.
وَلِهَذَا خَصَّ الشَّارِعُ كُلَّ زَمَانٍ بِعِبَادَةٍ غَيْرِ عِبَادَةِ الزَّمَنِ الْآخَرِ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْمَصَالِحِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَمَعَ جَوَازِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَكُونُ النَّسْخُ مُمْتَنِعًا.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَرْعًا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَظَاهِرٌ لِمُوَافَقَتِهِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كَلَامَهُ صِدْقٌ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَهُودِ فَلِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بِمَا أَثْبَتْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدِ ادَّعَى كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَكَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ.

(3/116)


وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الشَّرْعِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَالَفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالسَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى نَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَعَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَنَسْخِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَنَسْخِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوُجُوبِ التَّرَبُّصِ حَوْلًا كَامِلًا عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَوُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الْآيَةَ، بِقَوْلِهِ {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ. (1) وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُنْكِرِ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي التَّوْرِيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفُلْكِ إِنِّي جَعَلْتُ لَكَ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ، مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَقَدْ حَرَّمَ كَثِيرًا مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ وَهُوَ عَيْنُ النَّسْخِ. (2) فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَمْرَ آدَمَ، وَالْإِبَاحَةَ لِنُوحٍ وَذُرِّيَّتِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِظُهُورِ شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ، فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِظُهُورِ شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ.
قُلْنَا: الْأَمْرُ لِآدَمَ، وَالْإِبَاحَةُ لِنُوحٍ كَانَ مُطْلَقًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِظُهُورِ شَرِيعَةٍ أُخْرَى.
قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّسْخِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا فَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ وَيَعْلَمُ وَقْتَ نَسْخِهِ، فَتَقْيِيدُهُ فِي عِلْمِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَقِيقَةِ النَّسْخِ.
_________
(1) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعِهَا (مِنْ مَسَائِلِ النَّسْخِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(2) الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْيَهُودِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ فَقَطْ، فَإِنَّهَا قَدْ دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ فَلَا يَصْلُحُ مَا فِيهَا حُجَّةً لِإِثْبَاتِ حَقٍّ إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَقْرِيرِهِ أَوِ السُّكُوتِ عَنْهُ.

(3/117)


وَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِإِلْزَامَاتٍ أُخَرَ، مِنْهَا: أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ مُبَاحًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، ثُمَّ حُرِّمَ عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْخِتَانَ كَانَ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ جَائِزًا بَعْدَ الْكِبَرِ، وَقَدْ أَوْجَبَهُ مُوسَى يَوْمَ وِلَادَةِ الطِّفْلِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرِيعَةِ يَعْقُوبَ، وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْعَمَلُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَكَذَلِكَ الْخِتَانُ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ كَانَ مُبَاحًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَرَفْعُ مَا كَانَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ الْعَقْلِيِّ لَا يَكُونُ نَسْخًا كَمَا عُلِمَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ النَّسْخُ جَائِزًا عَقْلًا، لَمْ يَخْلُ نَسْخُ مَا أَمَرَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً حَالَةَ الْأَمْرِ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ كَانَ عَابِثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى الْحَكِيمِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَقَدْ بَدَا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَالْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَوْنِ التَّكْلِيفِ بِهَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ وَمَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ لَجَازَ نَسْخُ مَا وَجَبَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْخِطَابَ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ، أَوْ هُوَ دَالٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسْخِ لِانْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْمُكَلَّفِ دَوَامَ الْحُكْمِ وَتَأْبِيدَهُ، وَهُوَ جَهْلٌ قَبِيحٌ، وَمَا لَزِمَ مِنْهُ الْقَبِيحُ فَهُوَ قَبِيحٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى لَنَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّأْبِيدِ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ التَّأْبِيدِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ إِعْجَازَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ إِعْلَامِنَا بِالتَّأْبِيدِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

(3/118)


الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ النَّسْخُ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ لِلتَّأْبِيدِ لَمَا بَقِيَ لَنَا وُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَاتِّجَاهَ قَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا جَوَازُ نَسْخِ شَرِيعَتِكُمْ، وَلَمْ تَقُولُوا بِهِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَ عَدَمِهِ، أَوْ فِي حَالِ وُجُودِهِ:
الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ.
وَالثَّانِي مُحَالٌ لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعٌ.
وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَالَةَ وُجُودِهِ مُرْتَفِعًا، وَذَلِكَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ نَهَى عَنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبِيحِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، فَإِنْ كَانَ طَاعَةً فَقَدْ نَهَى عَنِ الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً فَقَدْ أَمَرَ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَأَيْضًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَوْ مَكْرُوهًا، فَإِنْ كَانَ مُرَادًا فَقَدْ صَارَ بِالنَّهْيِ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَقَدْ صَارَ بِالْأَمْرِ مُرَادًا.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَلَا وَجْهَ لَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} فَالْمُرَادُ بِالنَّسْخِ الْإِزَالَةُ، وَنَسْخُ الْآيَةِ بِإِزَالَتِهَا عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ نَاسِخَةٌ لِشَرَائِعِ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ لِجَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِشْكَالِ وَمَعَ الْعُذْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا زَالَتْ لِزَوَالِ سَبَبِهَا، وَهُوَ امْتِيَازُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

(3/119)


وَوُجُوبُ التَّرَبُّصِ حَوْلًا كَامِلًا لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ لِبَقَائِهِ عِنْدَمَا إِذَا كَانَتْ مُدَّةُ حَمْلِهَا سَنَةً فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ.
سَلَّمْنَا الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْجَوَازَ الشَّرْعِيَّ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} فَلَوْ نُسِخَ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا.
الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى الْكَلِيمَ كَانَ نَبِيًّا حَقًّا بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَبِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ قَالَ: (هَذِهِ الشَّرِيعَةُ مُؤَبَّدَةٌ عَلَيْكُمْ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (الْزَمُوا يَوْمَ السَّبْتِ أَبَدًا) فَقَدْ كَذَّبَ بِذَلِكَ مَنِ ادَّعَى نَسْخَ شَرِيعَتِهِ، فَلَوْ قِيلَ بِجَوَازِ نَسْخِ شَرِيعَتِهِ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً بَلْ (إِنْ قُلْنَا بِرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ) لِحِكْمَةٍ، كَانَ عَالِمًا بِهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ.
وَعَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ وَكُلِّ مَا مُسْتَنَدُ مَعْرِفَتِهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ، لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ وُجُوبَهُ (1) ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ، كَمَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِالشَّرْعِ كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ:
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَلَا يَخْفَى إِحَالَةُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ عَقْلًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْعَقْلُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَرِدَ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ ابْتِدَاءً فَضْلًا عَنْ نَسْخِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الْخِطَابَ إِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا، فَلَا يَكُونُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ فِي رَمَضَانَ حُجُّوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَا تَحُجُّوا، فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِزًا عِنْدَنَا، عَلَى مَا يَأْتِي فِي جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ.
قَوْلُهُمْ: وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى التَّأْبِيدِ فَهُوَ مُحَالٌ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ.
_________
(1) أَيْ وُجُوبَ اعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَمَا فِي حُكْمِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ.

(3/120)


قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَهْلُ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِقَادِ التَّأْبِيدِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اقْتَرَنَ بِالْخِطَابِ الْمَنْسُوخِ مَا يُشْعِرُ بِنَسْخِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا إِبْطَالَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. (1) وَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: دَلَالَةُ الْخِطَابِ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يَلْزَمُهَا التَّأْبِيدُ مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ النَّسْخِ، فَإِذَا اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ التَّأْبِيدَ فَالْجَهْلُ إِنَّمَا جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا مِنْ قِبَلِ مَا اقْتَضَاهُ الْخِطَابُ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ التَّأْبِيدَ بِشَرْطِ عَدَمِ النَّاسِخِ ثُمَّ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْجَهْلِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ بِقُبْحِ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (2) ثُمَّ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ قَبِيحًا إِذَا اسْتَلْزَمَ مَصْلَحَةً تَرْبُو عَلَى مَفْسَدَةِ جَهْلِهِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَبَيَانُ لُزُومِ الْمَصْلَحَةِ الزَّائِدَةِ هُنَا مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِاعْتِقَادِهِ دَوَامَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:
كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ مِنَ الْغِنَى وَالصِّحَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اعْتِقَادَ دَوَامِهِ لَهُ مَعَ جَوَازِ إِزَالَتِهِ بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ.
قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: إِلَى تَعْجِيزِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ إِعْلَامِنَا بِالتَّأْبِيدِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ لَنَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَمُنْدَفِعٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْوَارِدُ فِي الْخِطَابِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَالْوُثُوقُ بِهِ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُثُوقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ لَا قَطْعًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ شَرْعِنَا
_________
(1) انْظُرْ رَأْيَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالرَّدَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ.
(2) تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فِي الْحَاكِمِ.

(3/121)


عَقْلًا، وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْهُ شَرْعًا لِوُرُودِ خَبَرِ الصَّادِقِ بِذَلِكَ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " (1) وَالْخُلْفُ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ مُحَالٌ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا لَا نُحِيلُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مَشْرُوطًا بِقَيْدٍ.
قَوْلُهُمْ: لَوْ جَازَ رَفْعُ الْحُكْمِ، يُنْظَرُ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَمُنْدَفِعٌ.
فَإِنَّا وَإِنْ أَطْلَقْنَا لَفْظَةَ الرَّفْعِ فِي النَّسْخِ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ امْتِنَاعَ اسْتِمْرَارِ الْمَنْسُوخِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ لَاسْتَمَرَّ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا قِيلَ. (2) قَوْلُهُمْ: الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ.
قَوْلُهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، قُلْنَا: هُوَ طَاعَةٌ حَالَةَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَمَعْصِيَةٌ حَالَةَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا، فَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، بَلْ تَابِعَةٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
قَوْلُهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَوْ مَكْرُوهًا، لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادًا وَلَا مَكْرُوهًا إِذِ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَنَا غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. (3)
_________
(1) فِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ " الْحَدِيثَ، وَفِي آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: " لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ " الْحَدِيثَ، وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَحَادِيثُ بَلَغَتْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ، وَفِيهَا الرَّدُّ عَلَى الْقَادْيَانِيَّةِ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُمْ فِي عَدَمِ خَتْمِ النُّبُوَّةِ، انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الْأَحْزَابِ) .
(2) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ ص 104 ج3.
(3) إِنْ قَصَدَ الْمُسْتَدِلُّ بِالْإِرَادَةِ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَبِالْأَمْرِ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنِهِمَا، وَكَذَلِكَ إِنْ قَصَدَ بِالْكَرَاهَةِ الْكَرَاهَةَ الْكَوْنِيَّةَ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ النَّهْيِ كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ كَوْنًا كُفْرَ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ وَكَرِهَ كَرَاهَةً كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةَ إِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ بَلْ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُسْتَدِلُّ بِالْإِرَادَةِ فِي دَلِيلِهِ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَبِالْكَرَاهِيَةِ الْكَرَاهَةَ الشَّرْعِيَّةَ فَالتَّلَازُمُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ الشَّرْعِيَّيْنِ حَقٌّ، وَكَذَلِكَ التَّلَازُمُ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَبِتَقْدِيرٍ إِلَى آخِرِهِ) وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي الْإِجَابَةِ عَنِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ.

(3/122)


وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَ بِهِ مُرَادًا، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا حَالَةَ الْأَمْرِ دُونَ حَالَةِ النَّهْيِ.
قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ إِزَالَتُهَا عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَالْقُرْآنُ خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ إِزَالَتَهَا عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكِتَابَةَ أُخْرَى بَدَلَهَا، لَمَا تَحَقَّقَ هَذَا الْوَصْفُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الْآيَاتِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا وَالْمَوْضُوعَةِ عَلَيْنَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْبَعْضَ قَدْ يَكُونُ أَخَفَّ مِنَ الْبَعْضِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، أَوْ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعْضِ أَجْزَلُ مِنْ ثَوَابِ الْبَعْضِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ النَّسْخِ عَلَى نَسْخِ أَحْكَامِ الْآيَاتِ لَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. (1) وَأَمَّا مَنْعُ كَوْنِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسِخَةً لِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ فَمُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ قَاطِبَةً.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ مُنْكِرِ النَّسْخِ مِنَ الْإِسْلَامِيِّينَ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى بَاقِي صُوَرِ النَّسْخِ فَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ إِجْمَاعِ السَّلَفِ.
كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّخْرِيجِ لَا وَجْهَ لَهُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ.
قُلْنَا: لَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ حَالَةَ عَدَمِ الْإِشْكَالِ وَالْعُذْرِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ نَسْخًا.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ إِنَّمَا زَالَ لِزَوَالِ سَبَبِهِ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ بَقَاءُ السَّبَبِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ السَّبَبِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا، وَلَمْ يَتَصَدَّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِوَى عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا نَقَلَهُ الرُّوَاةُ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.
_________
(1) انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.

(3/123)


قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَ التَّرَبُّصِ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ.
قُلْنَا: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي أَنَّهُ كَانَ التَّرَبُّصُ حَوْلًا كَامِلًا وَاجِبًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ سَنَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ مِمَّا رُفِعَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنِ امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ إِبْطَالًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَى قَطْعِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مَعَ كَوْنِ الْمُخَاطِبِ مُرِيدًا لِقَطْعِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا لَهُ بَلْ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى فَمُخْتَلَقٌ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ ذَلِكَ لَهُمُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ (1) لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ظَهَرَ مِنْ تَسَمُّحِهِ فِي الدِّينِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَابْنِ سَلَامٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ (2) وَغَيْرُهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَا فِي التَّوْرِيَةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَ مِنْ أَقْوَى مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعَارَضَتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي نَفْسِ مَتْنِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَدِيثَ: " «إِنْ أَطَعْتُمُونِي لِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ثَبَتَ مُلْكُكُمْ كَمَا ثَبَتَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ» " وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِحَالَةِ النَّسْخِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَا نَقَلُوهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّرِيعَةِ التَّوْحِيدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مُؤَبَّدَةً " مَا لَمْ تُنْسَخْ بِشَرِيعَةِ نَبِيٍّ آخَرَ.
_________
(1) ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ كَانَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتُهِرَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الرَّاوَنْدِيَّةُ إِحْدَى فِرَقِ الْمُعْتَزِلَةِ تُوُفِّيَ عَامَ 798 هـ.
(2) كَعْبُ الْأَحْبَارِ بْنُ مَاتِعٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْحِمْيَرِيُّ أَسْلَمَ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَامَ 32 هـ عَنْ 104 سَنَةٍ، وَابْنُ سَلَامٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَبُو يُوسُفَ الْإِسْرَائِيلِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ عَامَ 43 هـ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ كَامِلٍ الْيَمَانِيُّ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَبْنَاوِيُّ، وُلِدَ عَامَ 34 هـ، وَمَاتَ عَامَ 110 أَوْ 116.

(3/124)


وَمَعَ احْتِمَالِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فَلَا يُعَارِضُ قَوْلُهُ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ وَنَسْخِ شَرِيعَةِ مَنْ تَقَدَّمَ.
كَيْفَ وَإِنَّ لَفْظَ التَّأْبِيدِ قَدْ وَرَدَ فِي التَّوْرِيَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الدَّوَامَ كَقَوْلِهِ: " إِنَّ الْعَبْدَ يُسْتَخْدَمُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ يَعْتِقُ فِي السَّابِعَةِ، فَإِنْ أَبَى الْعِتْقَ فَلْتُثْقَبْ أُذُنُهُ وَيُسْتَخْدَمْ أَبَدًا "، وَكَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا: " هَذِهِ سُنَّةٌ لَكُمْ أَبَدًا "، وَكَقَوْلِهِ: " قَرِّبُوا كُلَّ يَوْمٍ خَرُوفَيْنِ قُرْبَانًا دَائِمًا ".
وَأَمَّا الْعِيسَوِيَّةُ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَصِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ بِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْقَاطِعَةِ تَكْذِيبُهُ فِيمَا وَرَدَ بِهِ التَّوَاتُرُ الْقَاطِعُ عَنْهُ بِدَعْوَى الْبَعْثَةِ إِلَى الْأُمَمِ كَافَّةً وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وَقَالَ فِي وَصْفِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: (هَذَا هُدًى لِلنَّاسِ) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» "، وَقَوْلُهُ: " «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» " (1) ، وَقَوْلُهُ: " «لَوْ كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» ".
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُ، وَتَوَاتَرَ مِنْ دُعَائِهِ لِطَوَائِفِ الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَتَنْفِيذِهِ إِلَى أَقَاصِي الْبِلَادِ، وَطَلَبِ الدُّخُولِ فِي مِلَّتِهِ، وَالْقِتَالِ لِمَنْ جَاحَدَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَغَيْرِهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
_________
(1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 275 ج2.

(3/125)


[الْمَسْأَلَةُ الْثانية نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ النَّسْخِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ فِي رَمَضَانَ حُجُّوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَا تَحُجُّوا.
فَذَهَبَتِ الْأَشَاعِرَةُ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْحُو كُلَّ مَا يَشَاءُ مَحْوَهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحْوُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَحْوِ كُلِّ مَا يَشَاءُ مَحْوَهُ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ مَحْوَ الْعِبَادَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عِنْدَ الْخَصْمِ، وَإِنْ بَيَّنَ إِمْكَانَ مَشِيئَةِ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْآيَةِ، فَفِيهِ تَرْكُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ حَمْلُ الْمَحْوِ عَلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ مَحْوُ الْكِتَابَةِ مِمَّا يَكْتُبُهُ الْمَلَكَانِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَتَبْقِيَةُ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَنَسْخِهِ عَنْهُ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ، وَدَلِيلُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: (اذْبَحْ وَلَدَكَ) وَرُوِيَ (وَاحِدَكَ) وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَأَنَّهُ نُسِخَ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَضْعُفُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ جِدًّا.
غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ الْخُصُومُ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ اعْتِرَاضَاتٍ وَاهِيَةٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنْهَا تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ

(3/126)


ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَجْهَ الضَّعِيفِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. (1) أَمَّا الْأَسْئِلَةُ فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَمْرُ، وَلِهَذَا قَالَ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ مَنَامَهُ أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ.
وَقَوْلُ وَلَدِهِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ، وَلِهَذَا عَلَّقَهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمَعْنَاهُ افْعَلْ مَا يَتَحَقَّقُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا.
لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ حَقِيقَةً بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَى الذَّبْحِ امْتِحَانًا لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْعَزْمِ، وَذَلِكَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، وَالْفِدَاءُ إِنَّمَا كَانَ عَمَّا يَتَوَقَّعُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ لَا عَنْ نَفْسِ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ مِنْ إِخْرَاجِهِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَخْذِ الْمُدْيَةِ وَالْحَبْلِ وَتَلِّهِ لِلْجَبِينِ، فَاسْتَشْعَرَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالذَّبْحِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ حَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا عَادَ مُلْتَحِمًا إِلَى آخِرِ الذَّبْحِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وَإِذَا كَانَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ قَدْ وَقَعَ، فَالْفِدَاءُ لَا يَكُونُ نَسْخًا.
سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّبْحَ حَقِيقَةً لَمْ يُوجَدْ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُ مِنَ الذَّبْحِ بِأَنْ جَعَلَ عَلَى عُنُقِ وَلَدِهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ مَانِعَةً مِنَ الذَّبْحِ لَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النَّسْخِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَحْيٌ مَعْمُولٌ بِهِ، وَأَكْثَرُ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَنَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ وَحْيَهُ كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِالْمَنَامِ» ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» " (2) فَكَانَتْ نِسْبَةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ مِنْ نُبُوَّتِهِ،
_________
(1) أَيْ وَجْهَ الضَّعْفِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ.
(2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ.

(3/127)


كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ» (1) يَعْنِي مَا تَشَكَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَشَكَّلُ لِأَهْلِ الِاحْتِلَامِ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيَالًا لَا وَحْيًا لَمَا جَازَ لِإِبْرَاهِيمَ الْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ الْمُحَرَّمِ بِمَنَامٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمَا سَمَّاهُ بَلَاءً مُبِينًا، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي الْمَاضِي، لَكِنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَاضِي.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " قَدْ أَمَرَنِي السُّلْطَانُ بِكَذَا " فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: " افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ " أَيْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَأَنْتَ مَأْمُورٌ.
وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ حَمْلِ الْوَلَدِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَخْذِ آلَاتِ الذَّبْحِ وَتَرْوِيعِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ وَلَا إِذْنٍ فِي ذَلِكَ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ حَمْلَ الْأَمْرِ عَلَى الْعَزْمِ أَوْ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ثُمَّ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْعَزْمِ عَلَى الذَّبْحِ وَمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ، لَمَا سَمَّاهُ بَلَاءً مُبِينًا، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ لِكَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِمَّا وَقَعَ، وَلَمَا قَالَ الذَّبِيحُ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} مَعْنَاهُ أَنَّكَ عَمِلْتَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عَمَلَ مُصَدِّقٍ لِلرُّؤْيَا بِقَلْبِهِ.
لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ قَدْ أُمِرَ بِإِخْرَاجِ الْوَلَدِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَخْذِ الْمُدْيَةِ وَالْحَبْلِ وَتَلِّهِ لِلْجَبِينِ مَعَ إِبْهَامِ عَاقِبَةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ لَهُمَا أَنَّ عَاقِبَةَ الْأَمْرِ إِنَّمَا هِيَ الذَّبْحُ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَلَاءِ، وَبِهِ يَتَحَقَّقُ قَوْلُ الذَّبِيحِ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْكَبْشِ فِدَاءً فَإِنَّمَا كَانَ عَنِ الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ لَا عَنِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ (2) لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْرِيطِ الْمُكَلَّفِ فِي الْجَهْلِ، حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ وَلَا أَمْرَ.
_________
(1) ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْخَصَائِصِ الْكُبْرَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ مِنَ الشَّيْطَانِ " وَنَسَبَهُ إِلَى الطَّبَرَانِيِّ وَالدَّيْنَوَرِيِّ فِي الْمُجَالَسَةِ.
(2) انْظُرْ رَأْيَهُ وَالرَّدَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ.

(3/128)


وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ وَلَا اشْتُهِرَ ذَلِكَ وَظَهَرَ، لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْهُ سِوَى بَعْضِ الْخُصُومِ دَلَّ عَلَى ضَعْفِهِ.
وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَنُقِلَ أَيْضًا وَاشْتُهِرَ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ.
هَذَا مَا فِي هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ.
وَأَمَّا وَجْهُ الضَّعْفِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ نُسِخَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ.
بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ لَا بَعْدَهُ.
وَلَا سَبِيلَ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ أَنَّ وَقْتَ الْأَمْرِ كَانَ مُضَيَّقًا لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ صَغَائِرُ الْمَعَاصِي، وَالْكُلُّ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ فِعْلِهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّدِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} .
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الْخُصُومِ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَمَرَنَا بِالْمُوَاصَلَةِ فِي الصَّوْمِ سَنَةً، جَازَ أَنْ يَنْسَخَهُ عَنَّا بَعْدَ شَهْرٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ نَسْخٌ لِلصَّوْمِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِهِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أُحِلَّتْ لِي مَكَّةُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» " وَمَعَ ذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الْقِتَالِ فِيهَا، وَهُوَ نَسْخٌ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ الْحُجَجُ أَيْضًا ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَسْخَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ كَانَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: عِتَابُ اللَّهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الْفِعْلِ قَدْ حَضَرَ لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ.

(3/129)


الثَّانِي: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَاجَى بَعْدَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ (1) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُضُورِ وَقْتِ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ تَمَكُّنِ الْمُهَاجَرَةِ فِيهِ إِلَيْهِ مَعَ رَدِّهِنَّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَلِأَنَّ النَّسْخَ وَرَدَ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ السَّنَةِ، وَيَكُونُ النَّهْيُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا نُسِخَ قَبْلَ دُخُولِ شَيْءٍ مِنَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ ثَمَّ جَوَازُهُ هَاهُنَا.
وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْقِتَالِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْقِتَالِ وَلَا بُدَّ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّاعَةِ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: " «أُحِلَّتْ لِي مَكَّةُ سَاعَةً» " عَلَى إِبَاحَةِ الْقِتَالِ بَلْ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إِبَاحَةَ قَتْلِ أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ كَابْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ.
وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ حُجَّتَانِ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِقِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ مَا صَحَّ بِالرِّوَايَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى نَبِيِّهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَأَشَارَ عَلَيْهِ مُوسَى بِالرُّجُوعِ، وَقَالَ لَهُ: " «أُمَّتُكَ ضُعَفَاءُ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَاسْتَنْقِصِ اللَّهَ يَنْقُصْكَ» " وَأَنَّهُ قَبِلَ مَا أَشَارَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ الْخَمْسِينَ إِلَى أَنْ بَقِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَذَلِكَ نَسْخٌ لِحُكْمِ الْفِعْلِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى زَيْدًا بِفِعْلٍ فِي الْغَدِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ بِمَانِعٍ عَائِقٍ لَهُ عَنْهُ قَبْلَ الْغَدِ، فَيَكُونَ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ فِي الْغَدِ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
وَإِذَا جَازَ الْأَمْرُ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ النَّاسِخِ مَعَ تَعْقِيبِهِ بِالنَّسْخِ إِذِ الْفِعْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ إِلْزَامٌ مُلْزِمٌ.
_________
(1) ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مُنَاجَاةَ عَلِيٍّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَقْدِيمِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَارْجِعْ إِلَى تَفْصِيلِ الْقِصَّةِ فِيهِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ.

(3/130)


فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ فَهِيَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ حُكْمِ الْفِعْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ لِنَسْخِهِ قَبْلَ الْإِنْزَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الثَّوَابُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْأَدْوَاءِ وَالِاعْتِقَادِ لِوُجُوبِهِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ زَيْدًا فِي الْغَدِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْغَدِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو.
إِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ مُطْلَقًا وَيُرِيدَ مِنْهُ الْفِعْلَ أَوْ بِشَرْطِ زَوَالِ الْمَنْعِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَمَنْعُهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْأَمْرُ بِالشَّرْطِ مِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنَ الْعَالِمِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا أَمَرَ جَمَاعَةً بِفِعْلٍ فِي الْغَدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ بَعْضَهُمْ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِخِطَابِهِ مَنْ عَلِمَ مَنْعَهُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي الْمَنْعِ، فَكَذَلِكَ فِي النَّسْخِ.
ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا نَهَى الْمُكَلَّفَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ، فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَدْ تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْلُو الْبَارِي تَعَالَى عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ النَّهْيِ أَوْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِهِ أَصْلًا أَوْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ فِي حَالَةِ النَّهْيِ دُونَ حَالَةِ الْأَمْرِ أَوْ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ دُونَ حَالَةِ النَّهْيِ:
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ حَسَنًا فَقَدْ نَهَى عَنِ الْحَسَنِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبِيحِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْجَهْلِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الثَّالِثَ أَوِ الرَّابِعَ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ فِي حَالَةِ النَّهْيِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ فَهُوَ عَيْنُ الْبَدَاءِ، وَالْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ.

(3/131)


الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِيقَاعَهُ، وَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لَنَا وُثُوقٌ بِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الشَّارِعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ ضِدَّ مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى إِرَادَتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عِنْدَكُمْ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ أَمْرًا نَهْيًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ إِنَّهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ.
قُلْنَا: وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَلِذَلِكَ لَا يُكَفَّرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا وَلَا يُبَدَّعُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ.
قُلْنَا: فَقَدْ نُسِخَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَلَكِنْ لِمَ قَالُوا بِامْتِنَاعِهِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةُ الثَّوَابِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا.
قَوْلُهُمْ عَلَى الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّا لَا نُسَلِّمُ الْأَمْرَ مَعَ الْمَنْعِ.
قُلْنَا: قَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ.
قَوْلُهُمْ إِنْ أَرَادَ مِنْهُ الْفِعْلَ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ.
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ.
قَوْلُهُمْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهُ، فَهُوَ أَمْرٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمَنْعِ مِنَ الْعَالِمِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا سَبَقَ.
قُلْنَا: وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا فِي الْأَوَامِرِ جَوَازُ ذَلِكَ، وَإِبْطَالُ كُلِّ مَا تَخَيَّلُوهُ مَانِعًا.
قَوْلُهُمْ فِي الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى آمِرًا وَنَاهِيًا عَنْ فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ لَا نُسَلِّمُ إِحَالَتَهُ.
قَوْلُهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَبَقَ.
فَلَئِنْ قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَقَدْ نَهَى عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ أَمَرَ بِمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ.

(3/132)


قُلْنَا: وَهَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا لِمَصْلَحَةٍ وَلَا لِمَفْسَدَةٍ.
وَإِنْ سَلِمَ عَدَمُ خُلُوِّهِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، بَلْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ حَالَةَ الْأَمْرِ، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ حَالَةَ النَّهْيِ، وَلَا مَفْسَدَةَ حَالَةَ الْأَمْرِ، وَلَا مَصْلَحَةَ حَالَةَ النَّهْيِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْجَهْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا الْبَدَاءُ لِعِلْمِهِ حَالَةَ الْأَمْرِ بِمَا الْفِعْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ لِمَا يُلَازِمُهُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّسْخِ حَالَةَ النَّسْخِ كَمَا عُلِمَ.
قَوْلُهُمْ فِي الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ: إِذَا أَمَرَ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ بِمَا لَمْ يُرِدْ مُسَلَّمٌ.
وَعِنْدَنَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ إِرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ.
قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْوُثُوقِ بِجَمِيعِ أَقْوَالِ الشَّارِعِ إِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خَاطَبَ بِمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، أَنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِرَادَتِهِ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ، فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ احْتِمَالِ إِرَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَهُ.
قَوْلُهُمْ: فِي الْمُعَارَضَةِ الثَّالِثَةِ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَأْمُورًا مَنْهِيًا.
قُلْنَا: مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ مَعًا، أَوْ لَا مَعًا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
قَوْلُهُمْ إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، إِنْ سَلَكْنَا مَذْهَبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ سَلَكْنَا مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فَلِمَ قَالُوا بِالْإِحَالَةِ.
قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ أَمْرًا نَهْيًا.
قُلْنَا: إِنَّمَا تُسَمَّى الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ تَعَلُّقَاتِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْفِعْلِ سُمِّيَتْ أَمْرًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالتَّرْكِ سُمِّيَتْ نَهْيًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَوِ اتَّحَدَ زَمَانُ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ زَمَانُ التَّعَلُّقِ مُخْتَلِفًا فَلَا، وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَإِنْ كَانَ زَمَانُهُ مُتَّحِدًا لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْأَمْرِ بِهِ غَيْرُ زَمَانِ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ، وَمَعَ التَّغَايُرِ فَلَا امْتِنَاعَ.

(3/133)


[الْمَسْأَلَةُ الْثالثة نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: " صُومُوا أَبَدًا " خِلَافًا لِشُذُوذٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَدَلِيلُ جَوَازِهِ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِعُمُومِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مُرِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ، كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ النَّاسِخِ الْمُعَرِّفِ لِإِرَادَةِ الْمُخَاطِبِ لِذَلِكَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ الْمُحَالُ وَكَانَ جَائِزًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ التَّأْبِيدِ جَارٍ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ بِخُصُوصِهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِخُصُوصٍ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَأَيْضًا، لَوْ أُمِرْنَا بِالْعِبَادَةِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، جَازَ النَّسْخُ، فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ مَعْنًى.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمَا بَقِيَ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِدَوَامِ الْعِبَادَةِ فِي زَمَانِ إِرَادَةِ التَّكْلِيفِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمُخَاطِبَ إِذَا أَخْبَرَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْخَبَرِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ التَّأْبِيدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ هُوَ فِي الْعُرْفِ قَدْ يُطْلَقُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: لَازِمْ فُلَانًا أَبَدًا، وَفُلَانٌ أَبَدًا يُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَأَدَامَ اللَّهُ مُلْكَ الْأَمِيرِ أَبَدًا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، فَعِنْدَنَا لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ، إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا إِذَا قَالَ: " صَلِّ وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ فَائِدَةَ التَّأْبِيدِ تَأْكِيدُ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ، كَانَتْ فَائِدَتُهُ تَأْكِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِمْرَارِ لَا نَفْسَ الِاسْتِمْرَارِ.
ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ

(3/134)


مَا إِذَا أَتَى بِلَفْظٍ عَامٍّ، كَمَا لَوْ قَالَ: " كُلُّ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِكُلٍّ وَجَمِيعٍ، فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي التَّخْصِيصِ فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا فِي النَّسْخِ.
عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ لَفْظُ التَّأْبِيدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلَا طَرِيقَ يُفِيدُ سِوَاهُ، وَالْأَمْرَانِ مَمْنُوعَانِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَا يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْيَقِينِ، كَمَا فِي الْقَرَائِنِ الْمُقْتَرِنَةِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ تَوَجُّهِ مَا ذَكَرُوهُ فِي النَّسْخِ بِعَيْنِهِ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَّحِدًا.
وَعَنِ الرَّابِعِ: بِمَنْعِ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا.

[الْمَسْأَلَةُ الرابعة نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ لَا إِلَى بَدَلٍ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
مَذْهَبُ الْجَمِيعِ جَوَازُ نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ لَا إِلَى بَدَلٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّذُوذِ، وَدَلِيلُهُ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلْجَائِزِ عَقْلًا سِوَى هَذَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا يُقَالَ بِرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى (1) أَوْ يُقَالَ بِذَلِكَ:
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَرَفْعُ حُكْمِ الْخِطَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ بَدَلِهِ.
الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي الشَّرْعِ كَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) وَنَسْخِ الِاعْتِدَادِ بِحَوْلٍ كَامِلٍ فِي حَقِّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَنَسْخِ وُجُوبِ ثَبَاتِ الرَّجُلِ لِعَشَرَةٍ، وَنَسْخِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ
_________
(1) سَبَقَ تَعْلِيقًا الرَّدُّ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَتَشْرِيعِهِ فَتَعَيَّنَ الشِّقُّ الثَّانِي مِنَ التَّرْدِيدِ الْمَذْكُورِ.
(2) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 130 ج 3.

(3/135)


الْفِطْرِ فِي اللَّيْلِ (1) وَنَسْخِ تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ (2) وَكُلُّ ذَلِكَ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي نُسِخَتْ لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَالْوُقُوعُ فِي الشَّرْعِ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِبَدَلٍ، وَالْخُلْفُ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ مُحَالٌ.
قُلْنَا: مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ لُزُومِ الْبَدَلِ فِي نَسْخِ لَفْظِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَسْخِ حُكْمِهَا، وَذَلِكَ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ حُكْمٍ وَإِنْ سَلَّمْنَا، وَلَكِنَّهُ مُخَصَّصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصُّوَرِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُخَصَّصٍ، لَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَدَلَ إِثْبَاتِهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نُسِخَ فِيهِ، لِكَوْنِ الْمَصْلَحَةِ فِي الرَّفْعِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وَإِنْ سَلِمَ امْتِنَاعُ وُقُوعِ ذَلِكَ شَرْعًا، لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
_________
(1) يَعْنِي وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ.
(2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ خُضْرَةَ الْأَضَاحِيِّ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ادَّخِرُوا ثَلَاثًا ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ "، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمِنَ النَّاسِ يَتَّخِذُونَ الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَجْمُلُونَ فِيهَا الْوَدَكَ، فَقَالَ: " نَهَيْتُ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا "، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَاتٌ

(3/136)


[الْمَسْأَلَةُ الخامسة نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ إِلَى بَدَلٍ أَخَفَّ مِنْهُ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
وَكَمَا يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ، يَجُوزُ نَسْخُهُ إِلَى بَدَلٍ أَخَفَّ مِنْهُ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ إِلَى حِلِّهِ، وَإِلَى بَدَلٍ مُمَاثِلٍ، كَنَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقُدْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَانِ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى بَدَلٍ أَثْقَلَ مِنْهُ.
وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَقْلًا، وَمَنَعَ مِنْهُ سَمْعًا.
وَدَلِيلُ جَوَازِهِ عَقْلًا مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ رَمَضَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مُخَيِّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ بِالْمَالِ، وَنَسَخَهُ بِتَحَتُّمِ الصَّوْمِ، وَهُوَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَوَّلِ. (1) وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ الْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ وَالتَّعْنِيفَ حَدًّا عَلَى الزِّنَا، وَنَسَخَهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ وَالتَّغْرِيبِ عَنِ الْوَطَنِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ وَبِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، (2) وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ. (3) وَكُلُّ ذَلِكَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَوَّلِ.
_________
(1) يُشِيرُ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الصِّيَامِ وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ " حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .
(2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيَّ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي "، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ.
(3) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: " مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ". وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

(3/137)


فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ: فَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ عَبَثٌ وَقَبِيحٌ، فَلَا يَكُونُ جَائِزًا عَلَى الشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَدْنَى مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَنْسُوخِ، أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا، أَوْ رَاجِحَةً عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ أَرْجَحِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَاعْتِبَارِ أَدْنَاهُمَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَيْسَ النَّاسِخُ أَوْلَى مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّالِثِ.
وَإِذَا كَانَ النَّسْخُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ وَالْأَقْرَبِ إِلَى حُصُولِ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ (1) إِنَّمَا يَكُونُ بِنَقْلِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَخَفِّ، وَمِنَ الْأَصْعَبِ إِلَى الْأَسْهَلِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى حُصُولِ الطَّاعَةِ، وَأَسْهَلَ فِي الِانْقِيَادِ، وَإِذَا كَانَ بِالْعَكْسِ كَانَ إِضْرَارًا بِالْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا الْتَزَمُوا الْمَشَقَّةَ الزَّائِدَةَ، وَإِنْ تَرَكُوا اسْتَضَرُّوا بِالْعُقُوبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِحِكْمَةِ الشَّارِعِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَنُصُوصٌ:
أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَلَا تَخْفِيفَ فِي نَسْخِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَفِي نَسْخِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ إِرَادَةُ الْعُسْرِ، وَفِيهِ تَكْذِيبُ خَبَرِ الصَّادِقِ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وَالْإِصْرُ هُوَ الثِّقَلُ، أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ عَنْهُمُ الثِّقَلَ الَّذِي حَمَّلَهُ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَلَوْ نَسَخَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ كَانَ تَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
_________
(1) وَذَلِكَ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فَلِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَإِذَا كَانَ.

(3/138)


وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا إِذِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَخَفُّ وَالْأَسْهَلُ فِي الْأَحْكَامِ. (1) وَالْجَوَابُ عَنِ الْمَعْقُولِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَنَقْلِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إِلَى مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ فِي نَقْلِهِمْ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْجِدَةِ إِلَى الْعَدَمِ، وَإِعْدَامِ الْقَوِيِّ وَالْحَوَاسِّ بَعْدَ وُجُودِهَا، فَإِنَّ مَا نَقَلَهُمْ إِلَيْهِ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا نَقَلَهُمْ عَنْهُ.
وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ بِعَيْنِهِ لَازِمٌ هَاهُنَا، وَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي صُورَةِ الْإِلْزَامِ فَهُوَ جَوَابُنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَعَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَبِتَقْدِيرِ الْعُمُومِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فِي الْمَآلِ بِرَفْعِ أَثْقَالِ الْآخِرَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي بِمَا يَحْصُلُ لَنَا مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا وَعَلَى طِبَاعِنَا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِعَاقِبَتِهِ. (2) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي} ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ( «لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ» ) (3) وَبِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْفَوْرِ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ كَمَا خَصَّ بِأَثْقَالِ تَكَالِيفِهِ الْمُبْتَدَأَةِ وَابْتِلَائِهِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ صَالِحٌ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْيُسْرُ وَالْعُسْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَآلِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ مِنْهُ كَثْرَةُ التَّخْصِيصِ بِابْتِدَاءِ التَّكَالِيفِ، وَمَا وَقَعَ بِهِ الِابْتِلَاءُ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ.
_________
(1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنْ وُجُوهِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
(2) تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفُ.
(3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا " الْحَدِيثَ، وَنَقَلَ الْقَارِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِمَّا يَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا أَصْلَ لَهُ. انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ لِلْعَجْلُونِيِّ.

(3/139)


وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا هُوَ أَشَقُّ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ ثَوَابُهُ الْمَآلُ أَكْثَرَ وَأَدْفَعَ لِلْعِقَابِ الْمُجْتَلَبِ بِالْمَعَاصِي أَنَّهُ يُسْرٌ لَا عُسْرٌ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِرَادَةُ الْيُسْرِ وَعَدَمُ إِرَادَةِ الْعُسْرِ الْعَاجِلِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
وَعَنِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَضْعِ الْإِصْرِ وَالثِّقَلِ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا عَنَّا، امْتِنَاعُ وُرُودِ نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ فِي شَرْعِنَا.
وَعَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى نَسْخِ التِّلَاوَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذِ النِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ فَالْخَيْرُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ فِي الثَّوَابِ.
وَمِنْهُ يُقَالُ: الْفَرْضُ خَيْرٌ مِنَ النَّفْلِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَكْثَرُ فِي الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ أَشَقَّ مِنَ النَّفْلِ عَلَى النَّفْسِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ فِي الْعَاجِلِ وَأَصْلَحُ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَسْهَلِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ: " الْجُوعُ وَالْعَطَشُ أَصْلَحُ لَكَ وَخَيْرٌ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ ".
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِالْأَشَقِّ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَأَصْلَحَ فِي الْمَآلِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " «ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» " (1) فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْأَشَقِّ خَيْرًا مِنَ الْأَخَفِّ.
_________
(1) ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ " أَجْرُ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ فَقِيلَ لَهَا: انْتَظِرِي فَإِذَا طَهُرْتِ فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ " وَذَكَرَ مُسْلِمٌ مِثْلَهُ فِي بَابِ " وُجُوهِ الْإِحْرَامِ ". . . إِلَخْ. وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا: " إِنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ ". وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَيْضًا شَاهِدًا لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا: " إِنَّمَا أَجْرُكِ فِي عُمْرَتِكِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ ".

(3/140)


[الْمَسْأَلَةُ السادسة نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَبِالْعَكْسِ وَنَسْخِهِمَا مَعًا]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَبِالْعَكْسِ، وَنَسْخِهِمَا مَعًا خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ.
أَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ جَوَازَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ حُكْمٌ، وَلِهَذَا يُثَابُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» " (1) وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُكْمٌ، وَإِذَا كَانَا حُكْمَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُهُمَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ، وَمَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا مَصْلَحَةً مُطْلَقًا، وَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ رَفْعُهُمَا مَعًا، وَرَفْعُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَأَمَّا النَّقْلُ، إِمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا قَالَتْ: " «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ، فَنُسِخَتْ بِخَمْسٍ» (2) وَلَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ، وَلَا حُكْمُهَا، فَهُمَا مَنْسُوخَانِ.
وَأَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، فَكَنَسْخِ حُكْمِ آيَةِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ (3) وَنَسْخِ حُكْمِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ.
_________
(1) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَ فِي قِرَاءَتِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ إِعْرَابٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ " انْظُرْ كِتَابَ الْبُرْهَانِ، مَسْأَلَةٌ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّفْخِيمِ.
(2) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا " نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ".
(3) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا رَآهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ آيَةَ " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ " نَزَلَتْ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى، أَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيَانِ حَقِّ السُّكْنَى دُونَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ آيَةِ اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْآيَتَيْنِ.

(3/141)


وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ: فَمَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» " فَإِنَّهُ مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ.
وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ نَسْخِ تِلَاوَةِ الْآيَةِ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ وَيَتْلُوهَا الْجُنُبُ.
فَذَلِكَ مِمَّا تَرَدَّدَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ، وَالْأَشْبَهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ مَعَ التِّلَاوَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ، وَالْحَرَكَةِ مَعَ الْمُتَحَرِّكِيَّةِ، وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ، وَكَمَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالَمِيَّةِ وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ، فَكَذَلِكَ التِّلَاوَةُ مَعَ حُكْمِهَا.
وَأَمَّا مَا يَخُصُّ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نُسِخَ وَبَقِيَتِ التِّلَاوَةُ كَانَتْ مُوِهَمَةً بَقَاءَ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُعَرِّضُ الْمُكَلَّفُ إِلَى اعْتِقَادِ الْجَهْلِ، وَالْحَكِيمُ يَقْبُحُ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا إِذَا بَقِيَتِ التِّلَاوَةُ دُونَ حُكْمِهَا، تَبْقَى عَرِيَّةً عَنِ الْفَائِدَةِ، وَيَمْتَنِعُ خُلُوُّ الْقُرْآنِ عَنِ الْفَائِدَةِ.
وَأَمَّا مَا يَخُصُّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، فَوَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، فَإِذَا نُسِخَتِ الْآيَةُ دُونَ الْحُكْمِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ، وَفِيهِ تَعْرِيضُ الْمُكَلَّفِ لِاعْتِقَادِ الْجَهْلِ، وَهُوَ قَبِيحٌ مِنَ الشَّارِعِ.
الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ حُكْمِهَا يَكُونُ عَرِيًّا عَنِ الْفَائِدَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ وَلَا رَفْعُهُ، وَمَا عَرِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ كَانَ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ الْعَالَمِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِقِيَامِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَلَا الْمُتَحَرِّكِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِقِيَامِ الْحَرَكَةِ بِالذَّاتِ، وَلَا الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ لِيَصِحَّ التَّمْثِيلُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التِّلَاوَةَ مَعَ الْحُكْمِ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ مَا ذَكَرُوهُ بَلْ هِيَ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ دُونَ حَالَةِ دَوَامِهِ.

(3/142)


وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْأَمَارَةِ فِي طَرَفِ الدَّوَامِ انْتِفَاءُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.
وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ التِّلَاوَةَ إِذَا ثَبَتَتْ بَعْدَ نَسْخِ الْحُكْمِ عَرَّضَتِ الْمُكَلَّفَ لِاعْتِقَادِ الْجَهْلِ مَتَى إِذَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَنْصِبْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا عَرَفَ دَلِيلَ النَّسْخِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَغَرَضُهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الْعَارِفِ بِدَلِيلِ النَّسْخِ.
ثُمَّ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى فَاسِدِ أَصْلِ مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. (1) وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي بَقَاءِ التِّلَاوَةِ فَائِدَةٌ بَعْدَ نَسْخِ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (2) . وَإِنَّ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ عَلِمَ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ بِذَلِكَ.
وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْآيَةَ إِذَا نُسِخَتْ عَرَّضَتِ الْمُكَلَّفَ لِاعْتِقَادِ الْجَهْلِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الدَّوَامِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى نَسْخِ التِّلَاوَةِ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ.
وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ بَقَاءَ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ مَعَ نَسْخِ الْحُكْمِ.
_________
(1) 8 انْظُرْ مَسْأَلَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ مَعَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ.
(2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِرَارًا فِي التَّعْلِيقِ

(3/143)


[الْمَسْأَلَةُ السابعة مَا يَتَعَلَّقُ بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ
وَالنَّسْخُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِنَسْخِ الْخَبَرِ أَوْ لِمَدْلُولِهِ وَثَمَرَتِهِ:
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَإِمَّا أَنْ تُنْسَخَ تِلَاوَتُهُ أَوْ تَكْلِيفُنَا بِهِ بِأَنْ نَكُونَ قَدْ كُلِّفْنَا أَنْ نُخْبَرَ بِشَيْءٍ فَيُنْسَخَ عَنَّا التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ الْإِخْبَارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ النَّسْخِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا نُسِخَ تَكْلِيفُ الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ مَدْلُولُهُ، كَالْإِخْبَارِ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُدُوثِ الْعَالَمِ.
أَوْ يَتَغَيَّرُ كَالْإِخْبَارِ بِكُفْرِ زَيْدٍ وَإِيمَانِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ، وَمَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ.
لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ تَكَلُّفُنَا بِالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا يَتَغَيَّرُ، بِتَكْلِيفِنَا بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْكَذِبِ قَبِيحٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَوُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ.
وَعَلَى هَذَا، فَلَا مَانِعَ مِنْ نَسْخِ التَّكْلِيفِ بِالْخَبَرِ بِنَقِيضِ الْخَبَرِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّسْخُ لِمَدْلُولِ الْخَبَرِ وَفَائِدَتِهِ، فَذَلِكَ الْمَدْلُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ كَمَدْلُولِ الْخَبَرِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، أَوْ مِمَّا يَتَغَيَّرُ:
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَنَسْخُهُ مُحَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَاضِيًا كَالْإِخْبَارِ بِمَا وُجِدَ مِنْ إِيمَانِ زَيْدٍ وَكُفْرِهِ، أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَسَوَاءٌ كَانَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَنَسْخِهِ.
فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى امْتِنَاعِ رَفْعِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى جَوَازِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْخَبَرِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَمَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

(3/144)


وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَانَ الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا وَالْخَبَرُ عَامٌّ فِيهِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُبَيِّنًا لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، كَمَا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنَّ نَسْخَ الْخَبَرِ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا " ثُمَّ قَالَ: " مَا أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا " كَانَ كَذِبًا بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا إِمْكَانَ نَسْخِ مَدْلُولِ الْخَبَرِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ مَدْلُولُهُ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَكْلِيفًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمُهُ تَكْلِيفًا كَانَ الْخَبَرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْأَمْرُ يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: " أَمَرْتُكُمْ وَنَهَيْتُكُمْ وَأَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ " بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الْكَذِبِ إِنْ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ النَّاسِخِ عَلَى غَيْرِ مَا أُرِيدُ مِنَ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: (أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا) فَإِهْلَاكُهُ إِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْهُ النُّسَخُ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ حَتَّى يُمْكِنَ رَفْعُ بَعْضِهِ وَتَبْقِيَةُ الْبَعْضِ، بَلْ إِنَّمَا يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِهِ مَعَ اتِّحَادِهِ كَانَ كَذِبًا لِاتِّحَادِ الْمُثْبَتِ وَالْمَنْفِيِّ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إِنَّ الْخَبَرَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَنَّ صِيغَتَهُ كَصِيغَتِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْحَسَنِ (1) وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ يُفِيدُ إِيجَابَ الْفِعْلِ كَمَا فِي الْأَمْرِ، فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ عَامٍّ لَهُمَا - اتِّحَادُهُمَا.
وَغَايَتُهُ تَسْلِيمُ نَسْخِ مَدْلُولِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ غَيْرِهِ مَعَ مَا قَدْ بَيَّنَّا.
_________
(1) الْحَسَنُ: الصَّوَابُ الْحِسِّ بِالسِّينِ الْمُشَدَّدَةِ.

(3/145)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ مِن السنة بِالْآحَادِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ ; لِتَسَاوِيهِ فِي الْعِلْمِ بِهِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ نَسْخِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ} الْآيَةَ.
وَنَسْخِ وُجُوبِ ثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْمُتَوَاتِرَةِ مِنْهَا، وَنَسْخِ الْآحَادِ مِنْهَا بِالْمُتَوَاتِرِ، وَنَسْخِ الْآحَادِ بِالْآحَادِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ بِنَهْيِهِ عَنْهَا ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلَا فَزُورُوهَا» " (1) وَكَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: " «فَإِنْ شَرِبَهَا الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ» " (2) فَنُسِخَ ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَيْهِ مَنْ شَرِبَهَا الرَّابِعَةَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ.
وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ مِنْهَا بِالْآحَادِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ سَمْعًا، فَأَثْبَتَهُ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ.
وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى.
_________
(1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ.
(2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا شَرِبُوا الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُمْ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ، هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ " قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى قَتْلِهِ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّسْخِ.

(3/146)


أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ " (1) وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ ". (2) وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُمَا لَمْ يَعْمَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَحْكُمَا بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَمَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ تَوَاتُرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مُشْتَهِرًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْآحَادَ ضَعِيفٌ وَالْمُتَوَاتِرَ أَقْوَى مِنْهُ، فَلَا يَقَعُ الْأَضْعَفُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى. (3) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَدَمُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ قَبُولِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: " لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ " وَقَالَ عَلِيٌّ فِي الْأَعْرَابِيِّ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ مَا بَيَّنَّا مِنْ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَمَعَ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ تَخْصِيصِ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ. (4) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ بِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَا سَبَقَ.
_________
(1) ثُبُوتُ السُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَقَدْ رَأَى عُمَرُ الْحُكْمَ بِهَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا فِي نَظَرِهِ وَخَالَفَتْهُ فِي ذَلِكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَغَيْرُهَا وَهِيَ صَاحِبَةُ الْوَاقِعَةِ، وَأَنْكَرَتْ عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ فِي آيَةِ (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) وَآيَةِ (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ، وَرَأَتْ أَنَّ حَدِيثَ حِرْمَانِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ حَقِّ السُّكْنَى لَا يُعَارِضُ الْآيَةَ فَلَا نَسْخَ. انْظُرْ ص 79 ج2.
(2) قِيلَ: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ مِنْ رَدِّ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوَّضَةِ لَمْ يَثْبُتْ.
(3) انْظُرْ جَوَابَهُ الثَّالِثَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى فِي مَسْأَلَةِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّعْلِيقَ ص 151 ج3.
(4) تَخْصِيصُ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ، الصَّوَابُ تَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ.

(3/147)


كَيْفَ وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ آحَادًا إِلَّا أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَاصًّا وَالْمُتَوَاتِرُ عَامًا. وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ آحَادًا أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنَ الْعَامِّ الْمُتَوَاتِرِ ; لِأَنَّ تَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ كَذِبِهِ وَاحْتِمَالِ غَلَطِهِ، وَتَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْعَامِ مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِهِ وَاحْتِمَالِ إِرَادَةِ بَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دُونَ الْبَعْضِ وَاحْتِمَالِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ - أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ إِلَى الْعَدْلِ، فَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَقْوَى.
وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى.
أَمَّا النَّقْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَلَى السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَلَمَّا نُسِخَ «جَاءَهُمْ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ» ) (1) فَاسْتَدَارُوا بِخَبَرِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ لِتَبْلِيغِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَوْلَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ لَمَا كَانَ قَبُولُهُ وَاجِبًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ أَحَدُ الْبَيَانَيْنِ فَكَانَ جَائِزًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَالتَّخْصِيصِ.
الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَنَسْخُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِهِ أَوْلَى. (2)
_________
(1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ.
(2) هَذِهِ الْقَاعِدَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لِلنَّظَرِ فِيهَا مَجَالٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَأَمْثَالِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَنْ يَسْتَدِلُّ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ.

(3/148)


وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا قِصَّةُ أَهْلِ قُبَاءٍ فَمِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِهِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ قَرَائِنُ أَوْجَبَتِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ مِنْ قُرْبِهِمْ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِهِمْ لِضَجَّةِ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ. (1) وَأَمَّا تَنْفِيذُ الْآحَادِ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا لَا فَلَا. (2) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ النَّسْخِ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُفِيدُ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ فَلِمَ قَالُوا: إِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. (3) كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا سَبَقَ مَعْرِفَتُهُ (4) فَلِمَ قَالُوا: بِأَنَّهُ إِذَا قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا لَا يَقْتَضِي الرَّفْعَ لِمَا ثَبَتَ؛ يُقْبَلُ فِي رَفْعِ مَا ثَبَتَ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا يَأْتِي.
_________
(1) حَدِيثُ تَحَوُّلِ الصَّحَابَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ ظَاهِرٌ فِي إِضَافَةِ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى خَبَرِ الْمُنَادِي فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِضَافَةِ لِلْقَرَائِنِ إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهَا.
(2) ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ لِتَبْلِيغِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَتَحْفِيظِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَعْمُولٌ بِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ.
(3) تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ ظَنِّيَّةٌ بَلْ فِيهَا مَا خَرَجَ مِنْهُ الْمُؤَلِّفُ بِالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ، وَإِذًا فَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ.
(4) قَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ لِأَمَدِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ وَتَعْرِيفٌ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ خِطَابِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْ إِطْلَاقِ خِطَابِهِ الْأَوَّلِ الِاسْتِمْرَارَ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ، انْظُرْ قَوْلَهُ فِي ص 122 ج 3: " فَإِنَّا وَإِنْ أَطْلَقْنَا لَفْظَةَ الرَّفْعِ فِي النَّسْخِ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ امْتِنَاعَ اسْتِمْرَارِ الْمَنْسُوخِ. . . إِلَخْ " - وَقَوْلَهُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ: " بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُرِدْ بِخِطَابِهِ الْأَوَّلِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ النَّسْخِ " لِتَعْرِفَ طَرِيقَتَهُ الْجَدَلِيَّةَ فِي نِقَاشِهِ وَدِفَاعِهِ.

(3/149)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّاسعة نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ شَرْعًا.
احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَالْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ.
أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَ مَتْلُوٌّ، وَالسُّنَّةَ غَيْرُ مَتْلُوَّةٍ، وَنَسْخُ حُكْمِ أَحَدِ الْوَحْيَيْنِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وَلِهَذَا فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا خِطَابَ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ الشَّرْعِيُّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا رَدَّهُ حَتَّى إِنَّهُ رَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَجَمَاعَةً مِنَ الرِّجَالِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} » ) وَهَذَا قُرْآنٌ نَسَخَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنَ السُّنَّةِ (1) وَقَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ مَعْلُومًا بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ; لِأَنَّ قَوْلَهُ {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقُدْسِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجِهَاتِ، وَالْمَنْسُوخُ إِنَّمَا هُوَ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ عَيْنًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي اللَّيْلِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الصَّائِمِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} .
الرَّابِعُ: أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
الْخَامِسُ: أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى انْجِلَاءِ الْقِتَالِ كَانَ جَائِزًا بِالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا «قَالَ
_________
(1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 149 ج3.

(3/150)


يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ: " حَشَا اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا» " ; لِحَبْسِهِمْ لَهُ عَنِ الصَّلَاةِ (1) ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ الْجَوَازُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ صُوَرِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ثَابِتًا بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ وَقَعَ بِالسُّنَّةِ، وَدَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَحْكَامِهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ بِالسُّنَّةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَأَحْكَامِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ أَنْكَرَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمَا كَانَ إِنْكَارُهُ صَحِيحًا، ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} جَعَلَ السُّنَّةَ بَيَانًا فَلَوْ نُسِخَتْ لَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا بَيَانًا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ نُسِخَتِ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ لَزِمَ تَنْفِيرُ النَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ طَاعَتِهِ ; لِإِيهَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ، وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} .
الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ وَمَتْلُوٌّ وَمُحَرَّمٌ تِلَاوَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَلَا كَذَلِكَ السُّنَّةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مِنْ جِنْسِ السُّنَّةِ امْتَنَعَ نَسْخُهُ لَهَا كَمَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِحُكْمِ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِالْعَكْسِ.
_________
(1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) "، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَقَامَ الظَّهْرَ فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) .

(3/151)


وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ إِسْنَادَ إِثْبَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِهَا، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِهَا الْإِثْبَاتُ فَكَانَ الْإِثْبَاتُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي إِسْنَادِ نَسْخِهَا إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ الْآيَاتِ الصَّالِحَةِ لِلنَّسْخِ مِنْ تَرَتُّبِ النَّسْخِ عَلَيْهَا، فَبِتَقْدِيرِ (1) وُجُودِ خِطَابٍ آخَرَ يَكُونُ إِسْنَادُ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ إِلَيْهِ بِتَقْدِيرِ نَسْخِهِ.
وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ وُجُودِ سُنَّةٍ نَاسِخَةٍ لَهَا مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَإِمْكَانُ إِسْنَادِ نَسْخِهَا إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ الْآيَاتِ الصَّالِحَةِ لِنَسْخِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَكُونُ مُمْتَنِعًا.
وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمَا اسْتَقَرَّ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِي إِثْبَاتِ نَاسِخٍ وَلَا مَنْسُوخٍ ; لِأَنَّ مَا مِنْ نَاسِخٍ يُقَدَّرُ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ غَيْرُهُ، وَمَا مِنْ مَنْسُوخٍ حُكْمُهُ يُقَدَّرُ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ ذَلِكَ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُكْمِ عَلَى كَوْنِ مَا وُجِدَ مِنَ الْخِطَابِ الصَّالِحِ لِنَسْخِ الْحُكْمِ هُوَ النَّاسِخُ، وَأَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الدَّلِيلِ الصَّالِحِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ هُوَ الْمُثْبِتُ، وَإِنِ احْتَمَلَ إِضَافَةَ الْحُكْمِ وَالنَّسْخَ إِلَى غَيْرِ مَا ظَهَرَ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ، وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالنَّصِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} إِنَّمَا هُوَ التَّبْلِيغُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ تَبْلِيغَ النَّاسِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ.
الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} " إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى انْحِصَارِ مَا يَنْطِقُ بِهِ فِي الْبَيَانِ، بَلْ جَازَ مَعَ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا أَنْ يَنْطِقَ بِغَيْرِ الْبَيَانِ، وَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ.
وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ مَا شَرَعَهُ أَوَّلًا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لَامْتَنَعَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ.
_________
(1) فَبِتَقْدِيرِ: فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: فَتَقْدِيرُ. . . . إِلَخْ.

(3/152)


الثَّالِثُ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَوَّلًا غَيْرُ مَرْضِيٍّ أَنْ لَوْ كَانَ النَّسْخُ رَفَعَ مَا ثَبَتَ أَوَّلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ بِخِطَابِهِ الْأَوَّلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ النَّسْخِ دُونَ مَا قَبْلَهُ.
وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَافِ جِنْسِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَحْيِ بِمَا اخْتَصَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - امْتِنَاعُ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.
وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ نَاسِخًا.

[الْمَسْأَلَةُ العاشرة نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
قَطَعَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الظَّاهِرِ بِامْتِنَاعِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْوُقُوعِ.
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ عَقْلًا ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ - نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ". (1) قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ النَّاسِخَ لِلْوَصِيَّةِ آيَةُ الْمِيرَاثِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي (2) ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمِيرَاثِ مَانِعًا مِنَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ جَلْدَ الزَّانِي الثَّابِتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} نُسِخَ بِالرَّجْمِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِآحَادِ السُّنَّةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي (3) ، وَفِي حَقِّ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَمْكَنَ
_________
(1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ
(2) سَيَأْتِي أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
(3) سَيَأْتِي أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ

(3/153)


أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَسْخَ الْجَلْدِ بِالرَّجْمِ إِنَّمَا كَانَ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ) (1) وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْلَا أَنَّنِي أَخْشَى أَنْ يُقَالَ زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَكَتَبْتُ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا " عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ; لِأَنَّا نَقُولُ: غَايَةُ قَوْلِ عُمَرَ الدَّلَالَةُ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ عَنِ الْمُصْحَفِ وَالْقُرْآنِ لِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، فَإِنْ قِيلَ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ بِقَوْلِ عُمَرَ وَنَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا أَوْ سُنَّةً.
_________
(1) يَتَلَخَّصُ الْكَلَامُ عَلَى رَجْمِ الْمُحْصَنِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: نَقْلُهُ عَمَلِيًّا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا، فَلَمْ يَخْلُ عَهْدٌ مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا جَلْدًا لِلْبِكْرِ وَرَجْمًا لِلثَّيِّبِ، وَنَقْلُهُ أَيْضًا بِالْقَوْلِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا، وَكُلٌّ مِنَ النَّقْلَيْنِ يُفِيدُ وَحْدَهُ الْعِلْمَ بِثُبُوتِ حَدِّ الرَّجْمِ وَبِاجْتِمَاعِهِمَا يَتَأَكَّدُ الْعِلْمُ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَلَا مَدْخَلَ بَعْدَ هَذَا لِشُبْهَةٍ وَلَا مَوْضِعَ لِرِيبَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ مِمَّا نَزَلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ قَرَأَهَا الصَّحَابَةُ وَحَفِظُوهَا وَعَمِلَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ فِي خُطْبَةٍ طَوِيلَةٍ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ - آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. الْحَدِيثَ، إِلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ لَمْ تَذْكُرْ نَصَّ الْآيَةِ وَلَمْ تُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ " وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ أَنَّهَا مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ عُمَرَ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ أَنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ لَأَثْبَتُّهَا كَمَا نَزَلَتْ "، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ فِيهَا نَظَرٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ لِيَمْنَعُهُ قَوْلُ النَّاسِ أَوِ الْخَوْفُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مِنْهُ فِي عَقِيدَتِهِ، وَقَدْ عُرِفَ بِالصَّرَاحَةِ فِي الْقَوْلِ وَالصَّلَابَةِ فِي الْحَقِّ، لَا يَخْشَى فِي ذَلِكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَذِرًا فِي ذَلِكَ لَاعْتَذَرَ بِمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا. الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي أَسَانِيدِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ ضَعْفًا، فَفِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا عِنْدَ أَحْمَدَ - هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ السُّلَمِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُشَيْمٌ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ، وَقَدْ عَنْعَنَ وَهُوَ لَيِّنٌ فِي الزُّهْرِيِّ، وَفِي سَنَدٍ آخَرَ عِنْدَهُ: هُشَيْمٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. وَعَلَيٌّ ضَعِيفٌ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ رِيبَةٌ وَفَتْحٌ لِبَابِ الظِّنَّةِ فِي الصَّحَابَةِ وَالْقُرْآنِ، فَيَجِبُ أَنْ تُبْحَثَ وَتُحَقَّقَ كَمَا يَنْبَغِي وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

(3/154)


قُلْنَا: وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ رَجْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى الرَّجْمِ وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ، بَلْ هُوَ دَلِيلُ وُجُودِ النَّاسِخِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ إِحَالَتُهُ عَلَى سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ لَمْ تَظْهَرْ لَنَا أَوْلَى مِنْ إِحَالَتِهِ عَلَى قُرْآنٍ مُتَوَاتِرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا تَوَاتُرُهُ بِسَبَبِ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ. (1) وَأَمَّا النَّافُونَ لِذَلِكَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ:
أَمَّا النَّقْلِيَّةُ فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وَصَفَ نَبِيَّهُ بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا وَالنَّاسِخُ رَافِعٌ، وَالرَّافِعُ غَيْرُ الْبَيَانِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُبَدِّلُ الْآيَةَ بِالْآيَةِ لَا بِالسُّنَّةِ.
_________
(1) الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ فِي إِجْمَاعِهَا عَلَيْهِ إِلَى نَقْلِهِ عَمَلِيًّا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي الدُّوَلِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْحُدُودُ، وَإِلَى نَقْلِهِ بِالْقَوْلِ نَقْلًا صَحِيحًا إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا اسْتِفَاضَةً يُفِيدُ مَعَهَا الْعِلْمَ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ وَعَدَالَةِ رُوَاتِهِ.

(3/155)


الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ تَبْدِيلِ الْآيَةِ مَكَانَ آيَةٍ قَالُوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ.
الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تُنْسَخُ إِلَّا بِآيَةٍ.
وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الَّذِي يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَالنَّاسِخُ قُرْآنٌ لَا سُنَّةٌ.
الثَّالِثُ: وَصْفُ الْبَدَلِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُبْدَلِ، أَمَّا الْمَثَلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَا هُوَ خَيْرٌ ; فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: (لَا آخُذُ مِنْكَ دِرْهَمًا إِلَّا وَآتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ) فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٍ مِنَ الْأَوَّلِ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْآنُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا وَجَبَ اتِّبَاعُهَا بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وَقَوْلِهِ (فَاتَّبِعُوهُ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فَرْعُ الْقُرْآنِ، وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ، كَمَا لَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ بِالْفَرْعِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ أَقْوَى مِنَ السُّنَّةِ، وَدَلِيلُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ، قَدَّمَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ ; لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ مُعْجِزَةً.

(3/156)


الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ حُكْمِهِ حَيْثُ اعْتُبِرَتِ الطَّهَارَةُ فِي تِلَاوَتِهِ عَنِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، وَفَى مَسِّ مَسْطُورِهِ مُطْلَقًا، وَالْأَقْوَى لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالْأَضْعَفِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} عَلَى مَعْنَى لِتُظْهِرَ لِلنَّاسِ ; لِكَوْنِهِ أَعَمَّ مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعُمُومِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ إِظْهَارَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْمَنْسُوخِ، وَإِظْهَارُ الْمَنْسُوخِ أَعَمُّ مِنْ إِظْهَارِهِ بِالْقُرْآنِ.
الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْآيَةِ بَيَانٌ لَهَا فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} وَتَبَيُّنُ الْقُرْآنِ أَعَمُّ مِنْ تَبْيِينِهِ بِالْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّسْخُ بَيَانًا؛ غَيْرَ أَنَّ وَصْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَا يُخْرِجُهُ عَنِ اتِّصَافِهِ بِكَوْنِهِ نَاسِخًا.
وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي تَبْدِيلِ رَسْمِ آيَةٍ بِآيَةٍ، النِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي تَبْدِيلِ حُكْمِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَبْدِيلِ حُكْمِهَا بِآيَةٍ أُخْرَى.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ إِذَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قَالُوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْآيَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِآيَةٍ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: (إِذَا أَكَلْتَ فِي السُّوقِ سَقَطَتْ عَدَالَتُكَ) فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا فِي السُّوقِ.
وَعَنْ قَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا رُوحُ الْقُدُسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; إِذِ السُّنَّةُ مِنَ الْوَحْيِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُتْلَى عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَعَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ فِي تَبْدِيلِ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ تَبْدِيلِ حُكْمِ الْآيَةِ بِغَيْرِ الْآيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ وَإِنْ كَانَ بِالسُّنَّةِ فَهِيَ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِهِ.
وَعَنِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَتَهَا عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ بِغَيْرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ.

(3/157)


قُلْنَا قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ نَسْخُ رَسْمِهَا أَوْ نَسْخُ حُكْمِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ وَصَفَ الْبَدَلَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْهَا، وَالْقُرْآنُ خَيْرٌ كُلُّهُ وَلَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ (1) ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ النَّاسِخَ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ النَّاسِخُ أَصْلَحَ فِي التَّكْلِيفِ وَأَنْفَعَ لِلْمُكَلَّفِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ السُّنَّةَ إِذَا كَانَتْ نَاسِخَةً فَالْآتِي بِمَا هُوَ خَيْرٌ، إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالرَّسُولُ مَبْلَغٌ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ إِلَّا قُرْآنًا بَلِ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْآيَةِ الْمَنْسُوخِ حُكْمُهَا وَبَيْنَ نَاسِخِهِ ; لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَيْرًا، وَالْقُرْآنُ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَالْحُكْمِ النَّاسِخِ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُ: " مَا آخُذُ مِنْكَ دِرْهُمًا إِلَّا وَآتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ " أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُجَانَسَةِ فَإِنَّ مَا هُوَ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " آتِيكَ بِشَيْءٍ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَخَذْتُ مِنْكَ " وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْآيَةُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " بِخَيْرٍ مِنْهَا " وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَيْهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْمُضْمَرِ وَالْمُظْهَرِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنْ إِزَالَةِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَسْخِ كُلِّ آيَةٍ مِنَ الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ مِثْلُهَا ضَرُورَةَ الْإِخْبَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمَأْتِيَّ بِهَا هِيَ النَّاسِخَةُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ غَيْرَهَا.
_________
(1) الْخَيْرِيَّةُ قَدْ تَكُونُ فِي الثَّوَابِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي تَأَثُّرِ التَّالِينَ وَالسَّامِعِينَ، وَقَدْ تَكُونُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ مِنَ الْأَحْكَامِ أُصُولًا وَفُرُوعًا ضَرُورِيَّاتٍ وَمُكَمِّلَاتٍ، وَقَدْ تَكُونُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأَطْوَارِهِمْ فَيَكُونُ حُكْمٌ فِي حَالٍ وَظُرُوفٍ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، انْظُرْ مَا كَتَبَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ " جَوَابُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ".

(3/158)


الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ نَسْخَ رَسْمِ الْآيَةِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ صَرْفُهُ إِلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ لَا فِي نَسْخِ الرَّسْمِ.
وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ رَافِعَةً لِمَا هِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا هِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بِهَا وَمَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِهَا لَيْسَتْ فَرْعًا عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِمَا يَأْتِي بِهِ الرَّسُولُ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، فَإِذَا أَتَى بِنَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ وَلَمْ يُتَّبَعْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرُوهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِلْقُرْآنِ وَإِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ لِحُكْمِهِ، وَحُكْمُهُ لَيْسَ أَصْلًا لَهَا، فَإِذًا الْمُرْتَفِعُ لَيْسَ هُوَ الْأَصْلُ وَمَا هُوَ الْأَصْلُ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ.
وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا فِي نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَمَتْلُوًّا وَمُحْتَرَمًا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ عَامٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَخَاصٌّ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَانَتِ السُّنَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ تَعَارَضَتْ آيَةٌ وَدَلِيلٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ يَكُونُ حَاكِمًا عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي التَّرْجِيحَاتِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ رَفْعُ حُكْمِ الْآيَةِ بِدَلِيلِ السُّنَّةِ.
كَيْفَ وَإِنَّ السُّنَّةَ النَّاسِخَةَ لَيْسَتْ مُعَارِضَةً وَلَا نَافِيَةً لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، بَلْ مُبَيِّنَةٌ وَمُخَصِّصَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ. (1)
_________
(1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْجَوَابِ الثَّالِثِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ

(3/159)


[الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ]
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ، فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ.
وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقِرَاضِ زَمَنِ الْوَحْيِ لَوْ نُسِخَ حُكْمُهُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ أَوْ قِيَاسٍ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقًا عَلَى هَذَا الْإِجْمَاعِ لِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ نَصٍّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِجْمَاعِ لَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ خَطَأً، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ رَافِعٍ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلٍ كَانَ خَطَأً وَالْأُمَّةُ مَصُونَةٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا.
لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَصًّا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِجْمَاعَيْنِ مُتَحَقِّقًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ - الْخَطَأُ فِي الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ مُتَجَدِّدٍ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ أَوْ سَابِقٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ إِمَّا إِجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ لِاسْتِحَالَةِ تَجَدُّدِ النَّصِّ، فَإِنْ كَانَ إِجْمَاعًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ قِيَاسًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلْسَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ، وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ، وَالثَّانِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ سَابِقًا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَصِحَّةُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى مُنَاقَضَتِهِ، وَنَسْخُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.
هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ دَلِيلُ أَصْلِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ مُتَجَدِّدًا، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ فَعُدُولُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُهُمْ خَطَأً وَهُوَ مُحَالٌ.

(3/160)


وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّاسِخُ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ هُوَ الْقِيَاسُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ، وَالْكَلَامُ فِي نَسْخِ النَّصِّ بِهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَهُ الْأَخْذُ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ شَاءَ، وَلَوْ أَجْمَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى حَصْرِ (1) مَا أَجْمَعَتْ أَوَّلًا عَلَى تَجْوِيزِهِ، وَهُوَ نَسْخُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ.
قُلْنَا: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ. (2) وَدَلِيلُ الِامْتِنَاعِ أَنَّ الْمَنْسُوخَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمَ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.
الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ أَوْ لَيْسَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فَالنَّاسِخُ ذَلِكَ النَّصُّ لَا الْإِجْمَاعُ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَاسِخٌ فَلَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ إِجْمَاعٍ سَابِقٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ قِيَاسٍ فَالْقِيَاسُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ، إِنْ كَانَ لَا لِدَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ كَانَ لِدَلِيلٍ فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ نَصًّا فَالرَّافِعُ لِحُكْمِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ هُوَ النَّصُّ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا، فَإِنْ كَانَ رَاجِحًا فَالْأَوَّلُ لَا يَكُونُ مُقْتَضَاهُ ثَابِتًا ; لِأَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ رُجْحَانُ مُقْتَضِيهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُسَاوِيًا، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ رَاجِحًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّانِي خَطَأٌ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
_________
(1) حَصْرِ: الصَّوَابُ حَظْرِ بِالظَّاءِ
(2) هُوَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ بْنِ صَدَقَةَ أَبُو مُوسَى الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي مَاتَ عَامَ 221 هـ

(3/161)


فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَعَارَضٌ بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى.
أَمَّا النَّقْلُ: فَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ قَالَ لِعُثْمَانَ: كَيْفَ تُحْجَبُ الْأُمُّ عَنِ الثُّلُثِ بِالْأَخَوَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ قَالَ عُثْمَانُ: حَجَبَهَا قَوْمُكَ يَا غُلَامُ. (1) وَذَلِكَ دَلِيلُ النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ فَجَازَ النَّسْخُ بِهِ كَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ.
قُلْنَا: أَمَّا قِصَّةُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ عُثْمَانَ إِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا أَنْ لَوْ كَانَ حُكْمُ الْأُمِّ مَعَ الْأَخَوَيْنِ مَنْسُوخًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْعُمُومِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ نَاسِخًا بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمِ الصِّحَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا يَمْتَنِعُ التَّمَسُّكُ بِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
_________
(1) مُنَاظَرَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رَدِّ الْأُمِّ لِلسُّدُسِ بِالْأَخَوَيْنِ خَرَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَخَوَيْنِ لَا يَرُدَّانِ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِلِسَانِ قَوْمِكَ إِخْوَةً، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ مَا كَانَ قَبْلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ وَتَوَارَثَ بِهِ النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ نَظَرٌ فَإِنَّ شُعْبَةَ هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ الْأَخِصَّاءُ.

(3/162)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاس]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاسِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَالْحَنَابِلَةِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ أَصْلٍ، فَالْقِيَاسُ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُ حُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، لَكِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ بَعْدَهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَصْلٍ كَتَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُتَفَاضِلًا، وَتَعَبَّدَ النَّاسُ بِقِيَاسِ غَيْرِ الْبُرِّ عَلَى الْبُرِّ بِوَاسِطَةِ الْكَيْلِ مِثْلًا بِأَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَضَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْأُرْزِ بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الْبُرِّ فَلَا يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ بِالنَّصِّ وَبِالْقِيَاسِ.
أَمَّا النَّصُّ: فَبِأَنْ يُنَصَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ الْأُرْزِ وَبِنَسْخِ تَحْرِيمِهِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبِأَنْ يُنَصَّ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ وَيُتَعَبَّدُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ مَأْكُولًا بِأَمَارَةٍ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبُرِّ هِيَ الْكَيْلُ.
وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَوْجُودًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدِ اجْتَهَدَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فَأَدَّاهُ الْقِيَاسُ إِلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ قِيَاسٍ أَرْجَحَ مِنْ قِيَاسِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ حُكْمِ قِيَاسِهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا.
قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ حَيْثُ إِنَّهُ تُعُبِّدَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رُفِعَ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِتَعَبُّدِهِ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ مُتَحَقِّقًا، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ.

(3/163)


فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَهِيَ فِي مَعْنَى النَّصِّ، وَمَا مِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ فَلْيَكُنْ نُسِخَ حُكْمُهُ بِنَصٍّ أَوْ بِقِيَاسٍ فِي مَعْنَاهُ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَاهِبٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، فَرَفْعُ حُكْمِهِ فِي حَقِّهِ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى النَّاسِخِ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُتَحَدِّدًا بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَحُكْمُهَا فِي حَقِّهِ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالْخِطَابِ، فَرَفْعُهُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الظَّفَرِ بِدَلِيلٍ يُعَارِضُهُ وَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ النَّسْخَ رَفْعُ حُكْمِ خِطَابٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلنَّسْخِ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَقَطْعِ اسْتِمْرَارِهِ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ لَمْ نَقُلْ بِذَلِكَ.

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ (1) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ مَنْصُوصَةً فَهِيَ فِي مَعْنَى النَّصِّ، فَيَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ.
فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ النَّصِيبِ عَلَى السَّيِّدِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمِ دَلِيلٍ آخَرَ كَانَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِخِطَابٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابٍ آخَرَ.
وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ ظَنِّيًّا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا ; لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا، الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُحَالٌ إِنْ كَانَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ
_________
(1) أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ

(3/164)


خَاصًّا لِكَوْنِ النَّصِّ الْخَاصِّ وَالْإِجْمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَامًا فَلَا نَسْخَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِخِطَابٍ عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ الثَّانِي رَاجِحًا عَلَى الْأَوَّلِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَتَارَةً نَقُولُ: إِنَّ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ قِيَاسًا لِعَدَمِ تَرَجُّحِهِ وَأَنَّ التَّرَجُّحَ شَرْطٌ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَتَارَةً نَقُولُ: إِنَّهُ وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُ حُكْمِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلِلْمُخَالِفِ شُبْهَتَانِ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَوْجَبَ نَسْخَ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ، وَلَيْسَ مُصَرَّحًا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ نَفْسُ نَسْخِ حُكْمِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: النَّسْخُ أَحَدُ الْبَيَانَيْنِ فَجَازَ بِالْقِيَاسِ كَالتَّخْصِيصِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى: أَنَّهَا إِنَّمَا تَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ الرَّافِعُ ثُبُوتَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ اسْتِفَادَتُهُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ نَفْسِ مَفْهُومِ اللَّفْظِ.
وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ.

[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ
اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ كَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَعَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْأَصْلِ دُونَ الْفَحْوَى وَالْفَحْوَى دُونَ الْأَصْلِ.
غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ يُفِيدُ نَسْخَ الْفَحْوَى ; لِأَنَّ الْفَحْوَى تَابِعٌ لِلْأَصْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَتْبُوعِ.
وَأَمَّا نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَ الْأَصْلِ، فَقَدْ تَرَدَّدَ فِيهِ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فَجَوَّزَهُ تَارَةً ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، وَتَحْرِيمِ

(3/165)


الضَّرْبِ الْعَنِيفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَضْرِبْهُمَا. فَرَفْعُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا يُفِيدُ رَفْعَ حُكْمِ الْآخَرِ، وَمَنَعَ مِنْهُ تَارَةً، وَوَافَقَهُ عَلَى الْمَنْعِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مَصِيرًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ التَّأْفِيفِ إِنَّمَا كَانَ إِعْظَامًا لِلْوَالِدَيْنِ، فَإِذَا أُبِيحَ ضَرْبُهُمَا كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ.
وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِثْبَاتُ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، أَوْ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْأَصْلِ يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ ; لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْفَرْعِ دُونَ أَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ نَسْخًا لِمَا سَبَقَ، وَأَنَّ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ التَّابِعِ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِجِهَةِ صَرِيحِ اللَّفْظِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِجِهَةِ الْفَحْوَى، وَهُمَا دَلَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، غَيْرَ أَنَّ دَلَالَةَ الْفَحْوَى تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ رَفْعَ حُكْمِ إِحْدَى الدَّلَالَتَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ حُكْمِ الدَّلَالَةِ الْأُخْرَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ دَلَالَةُ الْفَحْوَى تَابِعَةً لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ فَرَفْعُ الْأَصْلِ مِمَّا يَمْتَنِعُ مَعَهُ بَقَاءُ التَّابِعِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ إِعْظَامُ الْوَالِدَيْنِ، فَرَفْعُ حُكْمِ الْفَحْوَى مِمَّا يُخِلُّ بِالْغَرَضِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ فَيَمْتَنِعُ مَعَهُ بَقَاءُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفَحْوَى وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ فَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لَيْسَ نَسْخًا لِدَلَالَتِهِ بَلْ نَسْخًا لِحُكْمِهِ، وَدَلَالَةُ الْفَحْوَى تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ عَلَى حُكْمِهِ لَا أَنَّهَا تَابِعَةٌ لِحُكْمِهِ، وَدَلَالَتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ نَسْخِ حُكْمِهِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِهِ، فَمَا هُوَ أَصْلٌ لِدَلَالَةِ الْفَحْوَى غَيْرُ مُرْتَفِعٍ، وَمَا هُوَ الْمُرْتَفِعُ لَيْسَ أَصْلًا لِلْفَحْوَى.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْفَحْوَى إِبْطَالُ الْغَرَضِ مِنْ أَصْلِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ غَرَضَ إِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ لِلتَّأْفِيفِ مُغَايِرٌ لِغَرَضِ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ أَحَدِ الْغَرَضَيْنِ إِبْطَالُ الْغَرَضِ الْآخَرِ.

(3/166)


[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ: هَلْ يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ أَوْ لَا؟
فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى بَقَائِهِ وَالْبَاقُونَ إِلَى امْتِنَاعِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ تَابِعٌ لِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ خَرَجَتِ الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَبَطَلَ مَا كَانَ تَابِعًا لِاعْتِبَارِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ نَسْخُ حُكْمِ الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ تَابِعًا لِرَفْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّابِعِ لِانْتِفَاءِ الْمَتْبُوعِ مَتَى يَلْزَمُ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْحُكْمُ يَفْتَقِرُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ سَبَبِهِ أَوْ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ.
الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَلِمَ قُلْتُمْ بِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالْأَبِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ الطِّفْلُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَلَوْ زَالَ إِسْلَامُ الْأَبِ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ زَوَالُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْوَلَدِ مِنَ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لَهُ.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى رَفْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَإِلَّا لَافْتَقَرَ إِلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ نَافِيَةٍ لَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قِيلَ بِرَفْعِهِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَبَيْنَ انْتِفَائِهِ بِالْقِيَاسِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِافْتِقَارِ الْحُكْمِ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرِ الْحُكْمُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ ضَابِطِ حِكْمَةِ الْحُكْمِ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فِي ابْتِدَائِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَوَامِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوِ انْتَهَتْ حِكْمَةُ الْحُكْمِ قَطْعًا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ بَعْدَهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ دَوَامِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ لِحِكْمَةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ، وَبِنَسْخِ حُكْمِ الْأَصْلِ زَالَ اعْتِبَارُهَا وَانْتِفَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَوَامِ الْحُكْمِ يُوجِبُ رَفْعَ الْحُكْمِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدِ انْدَفَعَ النَّقْضُ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِسْلَامَ الْأَبِ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِإِسْلَامِ الِابْنِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنِ انْتِفَاءِ إِسْلَامِهِ انْتِفَاءُ إِسْلَامِ الِابْنِ، وَلَا أَنَّ دَوَامَ إِسْلَامِ الْأَبِ مُعْتَبَرٌ فِي دَوَامِ إِسْلَامِ الِابْنِ لِيَلْزَمَ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاؤُهُ.

(3/167)


[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَرَدَ النَّسْخُ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام وَلَمْ يَبْلُغِ الْأُمَّةَ هَلْ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ النَّسْخُ فِي حَقِّهِمْ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ
لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ النَّاسِخَ إِذَا كَانَ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، بَلْ هُمْ فِي التَّكْلِيفِ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِلْقَاءِ النَّاسِخِ إِلَى جِبْرِيلَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وَرَدَ النَّسْخُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغِ الْأُمَّةَ، هَلْ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ النَّسْخُ فِي حَقِّهِمْ أَوْ لَا؟
فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى النَّفْيِ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَهُ لَازِمٌ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِ الْخِطَابِ السَّابِقِ وَامْتِنَاعُ الْخُرُوجِ بِالْفِعْلِ الْوَاجِبِ أَوَّلًا عَنِ الْعُهْدَةِ، وَلُزُومُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْوَاجِبِ النَّاسِخِ وَالْإِثْمُ بِتَرْكِهِ وَالثَّوَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ مُنْتَفِيَةٌ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ، أَمَّا أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَرْتَفِعْ فَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ (1) وَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ إِلَيْهِ (2) بِالْإِجْمَاعِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ اسْتَدَارُوا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَدَّ لَهُمْ بِالرَّكَعَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا بَعْدَ نُزُولِ النَّسْخِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا أَنَّ الْخِطَابَ بِالنَّسْخِ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَبَيَانُهُ بِالنَّصِّ وَالْحُكْمِ.
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} .
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّاسِخُ عَلَى وَجْهِهَا كَانَ آثِمًا عَاصِيًا غَيْرَ خَارِجٍ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ لَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَلَمَا كَانَ عَاصِيًا بِفِعْلِ مَا خُوطِبَ بِهِ.
_________
(1) يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ: أَيْ بِتَقْدِيرِ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ
(2) وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ إِلَيْهِ: أَيْ بِتَقْدِيرِ وُجُوبِهِ

(3/168)


وَلِلْمُخَالِفِينَ خَمْسُ شُبَهٍ:
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ مِنَ الشَّارِعِ، فَلَزِمَ رَفْعُهُ بِرَفْعِ الشَّرْعِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ بِالرَّفْعِ، كَمَا لَوْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ عَنِ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّسْخَ إِسْقَاطٌ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ رِضَا مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عِلْمُهُ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْإِبْرَاءِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ النَّسْخَ إِبَاحَةُ تَرْكِ الْفِعْلِ بَعْدَ إِيجَابِهِ أَوْ إِبَاحَةُ فِعْلِهِ بَعْدَ حَظْرِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: " إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ أَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِخُرُوجِهَا.
الرَّابِعَةُ: أَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ إِبَاحَةُ تَرْكِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الشَّارِعِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ قَبْلَ عِلْمِ الْمُبَاحِ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " أَبَحْتُ ثَمَرَةَ بُسْتَانِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَهُ " فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِكُلِّ دَاخِلٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالنَّسْخِ، فَرَفْعُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعِلْمِهِ أَوْ بِالنَّسْخِ، وَالْعِلْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الرَّفْعِ فَكَانَ الرَّفْعُ بِالنَّسْخِ، وَلَزِمَ رَفْعُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ النَّسْخِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى: بِمَنْعِ عَزْلِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ.
وَعَنِ الثَّانِيَةِ: لِمَ قَالُوا بِأَنَّ النَّسْخَ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الْمَنْسُوخِ عَنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْعِلْمِ فِي صُورَةِ الِاسْتِشْهَادِ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ فِي النَّسْخِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِلْمِ ثَمَّ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهِ رَفْعَ حُكْمِ خِطَابٍ سَابِقٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَكَانَ الْعِلْمُ مُشْتَرَطًا فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَعَنِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ: بِمَنْعِ الْحُكْمِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ.
وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ، وَلَا تَحَقُّقَ لِلْمَشْرُوطِ دُونَ شَرْطِهِ.

(3/169)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ
الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ إِذَا كَانَتْ عِبَادَةً مُنْفَرِدَةً بِنَفْسِهَا عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ عَلَى صَلَوَاتٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجَّةٍ أَوْ زَكَاةٍ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ زِيَادَةَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَكُونُ نَسْخًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الْمَأْمُورَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وُسْطَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ الْعِبَادَةِ وُسْطَى أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ أَوْجَبَ صَلَاةً خَامِسَةً أَوْ زَكَاةً أَوْ صَوْمًا؛ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِإِخْرَاجِ الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ كَوْنِهَا أَخِيرَةً، وَإِخْرَاجِ الْعِبَادَاتِ السَّابِقَةِ عَنْ كَوْنِهَا أَرْبَعًا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ: كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكَعَاتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَزِيَادَةِ جَلَدَاتٍ عَلَى جَلَدَاتِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَزِيَادَةِ صِفَةٍ فِي رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ كَالْأَيْمَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَاتِ.
فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا.
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: تَكُونُ نَسْخًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ.
ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَدْ أَفَادَتْ خِلَافَ مَا أَفَادَهُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَالشَّرْطِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا، كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ، فَإِنَّهُ خِلَافُ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» "؛ مِنْ نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ كَانَتْ نَسْخًا

(3/170)


وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا سَتْرَ الْفَخْذِ فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ بَعْضِ الرُّكْبَةِ، ضَرُورَةَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَإِيجَابِ قَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَدْ غَيَّرَتِ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغَيُّرًا شَرْعِيًّا، بِحَيْثُ صَارَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يُفْعَلُ قَبْلَهَا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، أَوْ كَانَ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ فِعْلَيْنِ فَزِيدَ فِعْلٌ ثَالِثٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ تَرْكِ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا، وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَزِيَادَةِ شَرْطٍ مُنْفَصِلٍ فِي شَرَائِطِ الصَّلَاةِ كَزِيَادَةِ الْوُضُوءِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ اتِّصَالَ اتِّحَادٍ رَافِعٍ لِلتَّعَدُّدِ، وَالِانْفِصَالِ كَزِيَادَةِ رَكْعَتَيْنِ عَلَى رَكْعَتِيِ الصُّبْحِ، فَهُوَ نَسْخٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ كَذَلِكَ كَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، فَلَا تَكُونُ نَسْخًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ رَافِعَةً لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا وَوَجَبَ النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ نَسْخُ حُكْمِ النَّصِّ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَتْ رَافِعَةً لِحُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ لَا غَيْرَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا شَرْعِيًّا وَإِنْ كَانَ نَسْخًا لُغَوِيًّا، وَجَازَ بِكُلِّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بِهِ النَّسْخُ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى شَرْحِ الْمَذَاهِبِ بِالتَّفْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَتِمَّةً لِلْمَقْصُودِ، وَهِيَ عَشَرَةُ فُرُوعٍ:

(3/171)


الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِحُكْمِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» " ; لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ كَمَا سَبَقَ فِي إِبْطَالِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ حُجَّةٌ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا يَكُونُ رَافِعًا لِمَا اقْتَضَاهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ فَيَكُونُ نَسْخًا.
الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا زِيدَتْ رَكْعَةٌ عَلَى رَكْعَتِيِ الصُّبْحِ بِحَيْثُ صَارَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الصُّبْحِ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الرَّكْعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَسْخًا لِلرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ نَسْخًا لِأَجْزَائِهَا وَوُجُوبِهَا، أَوْ نَسْخًا لِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ.
لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلرَّكْعَتَيْنِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، كَيْفَ وَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ قَارَّتَانِ لَمْ يَرْتَفِعَا.
وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِأَجْزَائِهَا، وَإِلَّا كَانَ زِيَادَةُ غَسْلِ عُضْوٍ آخَرَ فِي طَهَارَةِ الصَّلَاةِ نَاسِخًا لِأَجْزَائِهَا وَوُجُوبِهَا الَّذِي كَانَ قَبْلَ إِيجَابِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ كَمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ وَاجِبًا آخِرَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ وَلَا مُتَغَيِّرٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَغَيِّرُ آخِرُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ آخِرَهَا كَانَ بِآخِرِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالْآنَ صَارَ آخِرَ الثَّلَاثِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي إِبْطَالِهِ: لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالرَّكْعَتَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلنَّهْيِ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ.

(3/172)


وَقَدْ قِيلَ فِي إِبْطَالِهِ أَيْضًا: إِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْزَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهَا، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى كَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مُجْزِيَةً أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ.
وَمَعْنَى الْخُرُوجِ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ فِعْلِهَا شَيْءٌ آخَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِيَكُونَ رَفْعُهُ نَسْخًا شَرْعِيًّا، بَلْ هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِلْزَامِ بِاشْتِرَاطِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَغَيْرُ لَازِمٍ لِغَيْرِهِ كَالْغَزَالِيِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ ذَلِكَ نَسْخًا فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ وَإِنْ قُدِّرَ لُزُومُ ذَلِكَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَ التَّشَهُّدِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُغَيَّرَ إِنَّمَا هُوَ آخِرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّشَهُّدَ كَانَ وَاجِبًا عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ وَبِالزِّيَادَةِ صَارَ غَيْرَ وَاجِبٍ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةُ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ يَسْتَدْعِي رَفْعَ مَا ثَبَتَ لِلثَّمَانِينَ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا تَحْقِيقَ لَهُ إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ لَهَا مِنَ الْحُكْمِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ بَعْدَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الثَّمَانِينَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتْ كُلَّ الْحَدِّ الْوَاجِبِ، وَقَدْ صَارَتْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بَعْضَ الْحَدِّ.
الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَانِينَ كَانَتْ مُجْزِئَةً قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَ إِجْزَاؤُهَا بِالزِّيَادَةِ.
الثَّالِثُ: الثَّمَانُونَ وَحْدَهَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّفْسِيقُ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ زَالَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ بِالثَّمَانِينَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ زَالَ هَذَا الْوُجُوبُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ (1) وَقَدْ زَالَ هَذَا الْحُكْمُ بِإِيجَابِ الزِّيَادَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كُلَّ الْوَاجِبِ إِلَّا
_________
(1) أَنَّ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ: فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ قَبْلَ الزِّيَادَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ

(3/173)


أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَغَيْرُهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَوُجُوبُهَا لَمْ يَرْتَفِعْ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ بِالزِّيَادَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا شَرْعِيًّا.
وَعَنِ الثَّانِي: مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّفْسِيقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّمَانِينَ بَلْ بِالْقَذْفِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالثَّمَانِينَ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَى التَّفْسِيقِ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} فَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ دَلِيلِ إِيجَابِ الثَّمَانِينَ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ مَعْنَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَوُجُوبُهَا لَمْ يَرْتَفِعْ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ الْجَوَازِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِلْزَامِ الْخَامِسِ أَيْضًا.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، ثُمَّ خَيَّرَنَا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ خَيَّرَنَا فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، ثُمَّ زَادَ ثَالِثًا وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ وَوُجُوبِ التَّخَيُّرِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ (1) ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكَوْنُهُ
_________
(1) حَكَى الْإِسْنَوِيُّ فِي كِتَابِهِ " نِهَايَةُ السُّولِ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ " لِلْبَيْضَاوِيِّ عَنِ الْآمِدِيِّ أَنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَقَالَ فِي الْإِحْكَامِ: إِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَقَالَ فِي مُنْتَهَى السُّولِ: إِنَّهُ نَسْخٌ فِي الْأُولَى وَلَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَدْ وَجَدْتُ بِمَخْطُوطَةِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذِهِ الطَّبْعَةِ قَوْلَ الْآمِدِيِّ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَآثَرْتُ أَنْ أَجْعَلَ مَا فِيهَا فِي أَصْلِ هَذِهِ الطَّبْعَةِ وَأَجْعَلَ فِي التَّعْلِيقِ قَوْلَ الْآمِدِيِّ الْآخَرَ الَّذِي ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ قَوْلُهُ فِي مُنْتَهَى السُّولِ لَا فِي الْإِحْكَامِ وَهَذَا نَصُّهُ: (الْحَقُّ أَنَّهُ نَسْخٌ لِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَيْسَ نَسْخًا لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى التَّعْيِينِ)

(3/174)


وَاجِبًا لَمْ يَرْتَفِعْ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ كَوْنُ غَيْرِهِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى التَّعْيِينِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ كَوْنُ غَيْرِهِمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ: إِذَا أَوْقَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْحُكْمَ عَلَى شَاهِدَيْنِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} فَإِذَا جَوَّزَ الْحُكْمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ وَأَنَّ شَهَادَتَهُمَا حُجَّةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِحُجَّةٍ أُخْرَى إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَفْهُومِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً فَرَفْعُهُ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. (1) الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عِتْقَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَتَقْيِيدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِكَلَامِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَجْزَاءِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ وَغَيْرِهَا، كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا كَانَ تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقِ لَا نَسْخًا. (2) الْفَرْعُ السَّابِعُ: إِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ وَرِجْلِهِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِبَاحَةُ قَطْعِ رِجْلِهِ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ رَافِعًا لِعَدَمِ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا وَإِنْ كَانَ رَافِعًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ
_________
(1) مَتَّى صَحَّ خَبَرُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا، إِمَّا لِعَدَمِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) ، وَإِمَّا لِرُجْحَانِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمَفْهُومَ حَجَّةٌ وَجُهِلَ التَّارِيخُ ; لِأَنَّهُ مَنْطُوقٌ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُجِّيَّةِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لَهُ إِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَكَانَ مُتَأَخِّرًا
(2) يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ تَقْيِيدًا أَوْ نَسْخًا فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ إِفَادَتِهِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَقَطْ، فَإِفَادَةُ الْمُتَوَاتِرِ لِاسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ ظَنِّيَّةٌ مَا دَامَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ، فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُقْطَعَ الِاسْتِمْرَارُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إِذْ كِلَاهُمَا ظَنِّيٌّ: انْظُرِ التَّعْلِيقَ 4 ص 149 ج3

(3/175)


يَكُونَ نَسْخًا، فَلَيْسَ نَسْخًا لِمُقْتَضَى النَّصِّ الْأَوَّلِ (لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ) .
الْفَرْعُ الثَّامِنُ: إِذَا زِيدَ فِي الطَّهَارَةِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ زَائِدٍ عَلَى الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ ; إِذْ هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ وُجُوبِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَلَا لِأَجْزَائِهَا عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا مُجْزِئَةً أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ بِفِعْلِهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ التَّوَقُّفِ عَلَى شَرْطٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الْمُرْتَفِعُ وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ آخَرَ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا شَرْعِيًّا.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا زِيدَ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ آخَرُ.
الْفَرْعُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [الْبَقَرَةِ: 187] دَالٌّ عَلَى جَعْلِ أَوَّلِ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ، فَإِيجَابُ صَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ كَوْنِ أَوَّلِ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ وَظَرْفًا لَهُ؟
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَدِّ الْحُكْمِ إِلَى غَايَةٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَبْلَهَا، فَإِيجَابُ صَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِمَدْلُولِ الْآيَةِ، وَإِلَّا كَانَ نَسْخًا وَامْتَنَعَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. (1) الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: إِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " صَلُّوا إِنْ كُنْتُمْ مُتَطَهِّرِينَ " فَاشْتِرَاطُ شَرْطٍ آخَرَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ، أَوْ لِأَجْزَائِهَا، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ شَرْطٍ آخَرَ، أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ.
لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ.
وَالثَّانِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِمَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الثَّامِنِ.
وَلَا سَبِيلَ إِلَى الثَّالِثِ لِأَنَّهُ رَفَعَ حُكْمَ الْعَقْلِ الْأَصْلُ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا.
وَالرَّابِعُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ.
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مُوجِبٌ لِلطَّوَافِ مُطْلَقًا مَعَ الطَّهَارَةِ وَمِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ
_________
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 175 ج3

(3/176)


صَلَاةٌ» ". لَا يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ الطَّوَافِ لِبَقَاءِ وُجُوبِهِ، وَلَا لِإِجْزَائِهِ وَلَا لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الطِّهَارَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِجْزَاءِ بِقَوْلِهِ: " «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» ". (1) وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا لَمْ يَسَعْهُ مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ قَالَ بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ مَعَ بَقَاءِ الطَّوَافِ مُجْزِئًا مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ رَفْعَ الْإِجْزَاءِ يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
_________
(1) " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلَا يَنْطِقُ إِلَّا بِخَيْرٍ ". وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ بِهِ بِلَفْظِ: " الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ " قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُسٍ مَوْقُوفًا، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَتْنِهِ وَطُرُقِهِ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ وَتَلْخِيصِ الْحَبِيرِ

(3/177)


[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ نَسْخَ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نَسْخَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، كَنَسْخِ سَتْرِ الرَّأْسِ وَالْوُقُوفِ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ نَسْخَ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ؟ فَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْسُوخُ جُزْءًا مِنْ مَفْهُومِ الْعِبَادَةِ كَالرَّكْعَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا، أَوْ شَرْطًا خَارِجًا عَنْ مَفْهُومِ الصَّلَاةِ كَالْوُضُوءِ.
وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالشَّرْطِ، وَأَوْجَبَ نَسْخَ الْعِبَادَةِ بِنَسْخِ جُزْئِهَا دُونَ شَرْطِهَا كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَكُلُّ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، فَنَسْخُ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْوَاجِبِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً، وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِيهَا، فَنَسْخُ اشْتِرَاطِ الطِّهَارَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِنَسْخِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، بَلِ الْوُجُوبُ بَاقٍ بِحَالِهِ فَلَا نَسْخَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَسَخَ مِنْهَا وُجُوبَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَدْ نَسَخَ وُجُوبَ أَصْلِ الْعِبَادَةِ لَا أَنَّهُ نَسْخٌ لِلْبَعْضِ وَتَبْقِيَةٌ لِلْبَعْضِ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَيْسَتْ بَعْضَ الْأَرْبَعِ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ أُخْرَى، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ بَعْضًا مِنْهَا لَكَانَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ آتِيًا بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمَيْنِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ وُجُوبَ الرَّكْعَتَيْنِ بَاقٍ بِحَالِهِ غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا تُجْزِي، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِنَسْخِ الرَّكْعَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ حَيْثُ صَارَتْ تُجْزِئُ، وَكَانَ يَجِبُ تَأْخِيرُ التَّشَهُّدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ وَهُوَ عَيْنُ النَّسْخِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا نُسِخَ - شَرْطَ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ النَّسْخِ لَا تُجْزِئُ، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِنَسْخِ الشَّرْطِ.
وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ نَسْخَ الرَّكْعَتَيْنِ نَسْخٌ لِوُجُوبِ أَصْلِ الْعِبَادَةِ - لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ بَقَاءِ وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ.

(3/178)


قَوْلُهُمْ: الرَّكْعَتَانِ عِبَادَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْعِبَادَةِ الْأُولَى، إِنْ أَرَادُوا بِالْغَيْرِيَّةِ أَنَّهَا بَعْضٌ مِنْهَا وَالْبَعْضُ غَيْرُ الْكُلِّ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلرَّكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ نَسْخًا لِوُجُوبِ الْكُلِّ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ بَعْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ لَكَانَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا قَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ. قُلْنَا: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَعْضًا مِنَ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ بَلْ عِبَادَةً أُخْرَى لَافْتَقَرَتْ فِي وُجُوبِهَا إِلَى وُرُودِ أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَحَيْثُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الصُّبْحِ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَإِنَّمَا كَانَ لِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا تُجْزِئُ. قُلْنَا: إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهَا فَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَهُوَ نَسْخٌ لَكِنْ لَا لِنَفْسِ الْعِبَادَةِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ يَجِبُ تَأْخِيرُ التَّشَهُّدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ - لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّشَهُّدَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ جَائِزٌ.
نَعَمْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَعَدَمُ وُجُوبِهِ فَلِبَقَائِهِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا عَلَى مَا عُرِفَ.
نَعَمْ لَوْ قِيلَ بِرَفْعِ جَوَازِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا.
وَعَلَى هَذَا عُرِفَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعِبَادَةَ كَانَتْ لَا تُجْزِئُ دُونَ الطَّهَارَةِ ثُمَّ صَارَتْ مُجْزِئَةً.

(3/179)


[الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ بِإِعْدَامِ الْعَقْلِ]
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ بِإِعْدَامِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ أَحَدًا بِالنَّهْيِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِنَهْيِهِ، وَالْعِلْمُ بِنَهْيِهِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِذَاتِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْبَارِي تَعَالَى يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِنَهْيِهِ، فَإِذًا تَحْرِيمُ مَعْرِفَتِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ نَسْخُ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَنَسْخُ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ لِحُسْنِهِ وَتَحْرِيمِهِ لِقُبْحِهِ فِي ذَاتِهِ؟ فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِنَاءً عَلَى فَاسِدِ أُصُولِهِمْ فِي اعْتِقَادِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُقْتَضَى لِوُجُوبِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِنَّمَا هُوَ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا وَلَا تَغْيِيرُهَا، وَنَحْنُ قَدْ أَبْطَلْنَا هَذِهِ الْأُصُولَ وَنَبَّهْنَا عَلَى فَسَادِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنَّ جَازَ نَسْخُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَبَعْدَ أَنْ كَلَّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ أَوْ لَا؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالدَّلِيلِ الْمَنْصُوبِ عَلَيْهِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُمْكِنُ نَسْخُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ دُونَ عِلْمِهِ بِنُزُولِ النَّسْخِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ النَّسْخِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ فِي حَقِّهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِمَعْرِفَةِ النَّسْخِ.

(3/180)


[خَاتِمَةٌ فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ]
فَنَقُولُ: النَّصَّانِ إِذَا تَعَارَضَا إِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنْ تَنَافَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخِرُ مَظْنُونًا، فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ أَوِ اقْتِرَانُهُمَا أَوْ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ عُلِمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فَهُوَ نَاسِخٌ وَالْمُتَقَدِّمُ مَنْسُوخٌ.
وَذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ إِمَّا بِلَفْظِ النَّسْخِ وَالْمَنْسُوخِ كَمَا لَوْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا نَاسِخٌ وَهَذَا مَنْسُوخٌ " (1) أَوْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِمَّا بِالتَّارِيخِ، وَذَلِكَ قَدْ يُعْلَمُ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ".
وَإِمَّا بِإِسْنَادِ الرَّاوِي أَحَدَهُمَا إِلَى شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ كَقَوْلِهِ: كَانَ هَذَا فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهَذَا فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ. وَإِحْدَاهُمَا مَعْلُومَةُ التَّقَدُّمِ عَلَى الْأُخْرَى، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ سَنَدُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مُسْتَوِيًا.
وَلَيْسَ مِنَ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ فِي مَعْرِفَةِ النَّسْخِ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: " كَانَ الْحُكْمُ كَذَا ثُمَّ نُسِخَ " فَإِنَّهُ رُبَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَلَا أَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآخَرِ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ ضِمْنًا مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْقَابِلَةِ فِي الْوَلَدِ إِنَّهُ مِنْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهَا ابْتِدَاءً مِثْلَ ذَلِكَ هَاهُنَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، فَإِنَّ غَايَةَ ذَلِكَ الْجَوَازُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوُقُوعُ.
وَلَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبَتًا فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي النُّزُولِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ رَاوِي أَحَدِهِمَا مِنْ أَحْدَاثِ
_________
(1) هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا فِي عِبَارَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهُوَ غَيْرُ عَمَلِيٍّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ

(3/181)


الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُ عَمَّنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ، وَإِنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَلِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ مُتَقَدِّمِ الصُّحْبَةِ مُتَأَخِّرَةً.
وَلَا أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْآخَرِ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي رِوَايَةِ الْحَدَثِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مُتَجَدِّدَ الصُّحْبَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِ صُحْبَةِ الرَّاوِي الْآخَرِ ; لِجَوَازِ سَمَاعِهِ عَمَّنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ.
وَلَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ النَّصَّيْنِ عَلَى وِفْقِ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ تَقَدُّمُ الْمُوَافِقِ لِذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْمُخَالِفِ.
وَأَمَّا إِنْ عُلِمَ اقْتِرَانُهُمَا مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ وَإِنْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ فَالْوَاجِبُ إِمَّا الْوَقْفُ عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا (1) أَوِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخِرُ مَظْنُونًا، فَالْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ (2) ، أَوْ جُهِلَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَظْنُونِ كَانَ نَاسِخًا وَإِلَّا كَانَ مَعَ وُجُوبِهِ الْعَمَلُ غَيْرَ نَاسِخٍ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا تَنَافَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَأَمَّا إِنْ تَنَافَيَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمَّ مِنَ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ) (3) فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُبَدِّلِ وَعَامٌّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَقَوْلُهُ: " «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسْوَانِ» " (4) فَإِنَّهُ خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ وَعَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبَدِّلِ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَمَا لَوْ تَنَافَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَلَيْكَ بِالِاعْتِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
_________
(1) عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا: لَعَلَّهُ عَنِ الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا
(2) بَلِ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا وَاجِبٌ فَإِنَّ الْمُتَوَاتِرَ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الثُّبُوتِ لَكِنَّهُ ظَنِّيُّ الِاسْتِمْرَارِ مَا دَامَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ، فَيَجُوزُ قَطْعُ اسْتِمْرَارِهِ بِالْآحَادِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ تَخْصِيصِ مُتَوَاتِرٍ، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الزَّمَانِ - بِآحَادٍ، يُبَيِّنُ اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ الزَّمَانِ، وَتَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ الْعَامِّ بِالْآحَادِ لَا غَرَابَةَ فِيهِ، انْظُرِ التَّعْلِيقَ 4 ص 149 ج3
(3) مَنْ بَدَّلَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(4) رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ

(3/182)