الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه [أَنْوَاع الْأَحْكَام]
قَالَ: (الْأَحْكَام سَبْعَة: " الْوَاجِب " و " الْمَنْدُوب "
و " الْمُبَاح " و " الْمَحْظُور " و " الْمَكْرُوه " و "
الصَّحِيح " و " الْبَاطِل ") .
أَقُول: إِنَّه أَخذ فِي عدد الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة
بِأَفْعَال الْمُكَلّفين وَهِي سَبْعَة على مَا اخْتَار - هَا
هُنَا؛ لِأَن خطابة تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال
الْمُكَلّفين فِي الْمُعَامَلَات وَغَيرهَا.
فَإِن تعلق بهَا إِمَّا أَن يكون صَحِيحا أَو بَاطِلا؛ لِأَن
الْمُعَامَلَات إِن كَانَت على الْوَجْه الشَّرْعِيّ تعلق
الحكم بِصِحَّتِهَا وَإِلَّا ببطلانها.
وَإِن تعلق الْخطاب بغَيْرهَا من أَفعَال الْمُكَلّفين فَلَا
يَخْلُو: أَن يَقْتَضِي الطّلب،
(1/85)
أَو التّرْك.
فَالْأول: إِن كَانَ لَازِما فَهُوَ الْوَاجِب كأمره تَعَالَى
بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاة وَالْحج وَغير ذَلِك.
وَإِن لم يكن الطّلب لَازِما فَهُوَ الْمَنْدُوب كَسَائِر
السّنَن.
وَالثَّانِي وَهُوَ التّرْك؛ لِأَن الْخطاب إِذا اقْتضى
التّرْك فَإِن كَانَ جَازِمًا فَهُوَ الْحَظْر أَي: الْحَرَام
كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا تقربُوا الزِّنَا} [سُورَة
الْإِسْرَاء: 32] {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم
بِالْبَاطِلِ} [سُورَة الْبَقَرَة: 188] {وَلَا تقتلُوا
النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} [سُورَة
الْإِسْرَاء: 33] وَمَا أشبه ذَلِك.
فَهَذَا خطاب يَقْتَضِي التّرْك جزما.
وَإِن لم يقتض التّرْك جزما [فمكروه كَقَوْلِه عَلَيْهِ
السَّلَام: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي
الْمَسْجِد) ، وَكَذَا الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ،
وَالْكَلَام] على الْغَائِط وَالسَّلَام على الْآكِل،
وَالْمُصَلي، وَالْقَاضِي حَاجته، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَإِن أذن فِي فعله من غير حث، أَو خير بَين فعله وَتَركه
فَهُوَ مُبَاح كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا}
[سُورَة الْمَائِدَة: 2] فَهُوَ [للتَّخْيِير] ؛ إِذْ لَا يجب
الصَّيْد عِنْد الْإِحْلَال من الْإِحْرَام، وَلَا يسن فَحمل
على الْإِبَاحَة.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا
فِي الأَرْض} [سُورَة الْجُمُعَة: 10] وَمَا أشبههما.
(1/86)
وَمِنْهُم من جعل الْأَحْكَام خَمْسَة؛
لِأَن الصَّحِيح فِي حكم الْمُبَاح، وَالْبَاطِل فِي حكم
الْمَحْظُور وَالله أعلم.
(1/87)
[تَعْرِيف الْوَاجِب]
قَالَ: (الْوَاجِب مَا يُثَاب على فعله ويعاقب على تَركه) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْأَحْكَام شرع فِي تَعْرِيف
الْأَفْعَال الْمُتَعَلّقَة بهَا فرسمه أَولا؛ لِأَنَّهُ أصل
بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْأَحْكَام.
فَأصل الْوَاجِب فِي اللُّغَة: السُّقُوط؛ لِأَن السَّاقِط
يلْزم مَكَانَهُ، فَسُمي اللازام الَّذِي لَا خلاص مِنْهُ
وَاجِبا.
ويرسم الْوَاجِب فِي اصْطِلَاح أهل هَذَا الْفَنّ [ب] " مَا
يُثَاب فَاعله،
(1/88)
ليخرج " الْحَرَام " و " الْمَكْرُوه " و "
الْمُبَاح " فَإِن هَؤُلَاءِ لَا يُثَاب فاعلهم.
قَوْله: " ويعاقب تَاركه " ليخرج " الْمَنْدُوب "؛ فَإِنَّهُ
يُثَاب على فعله، لَكِن لَا يُعَاقب على تَركه.
فانطبق الرَّسْم على الْوَاجِب كالصلوات الْخمس، وَصَوْم
رَمَضَان وَالْحج [وَغَيرهَا لتحَقّق] الوصفين فِيهِ وهما: "
الثَّوَاب على الْفِعْل " و " الْعقَاب على التّرْك " وَالله
أعلم.
[تَعْرِيف الْمَنْدُوب]
قَالَ: (وَالْمَنْدُوب: مَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على
تَركه) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْوَاجِب: شرع فِي رسم الْمَنْدُوب؛
ليميزه عَن أقسامه. فَقَالَ: " الْمَنْدُوب: مَا يُثَاب على
فعله " كالسنن مثلا؛ فَإِنَّهُ يُثَاب على فعلهَا.
وَخرج بِهَذَا الْقَيْد " الْمَحْظُور " و " الْمَكْرُوه و "
الْمُبَاح " فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على فعلهم.
(1/89)
و [ب] قَوْله: " وَلَا يُعَاقب على تَركه "
خرج الْوَاجِب.
وانطبق الرَّسْم على الْمَنْدُوب لتحَقّق الوصفين وهما: "
الثَّوَاب على الْفِعْل، و " عدم الْعقَاب على التّرْك ".
وَيُسمى الْمَنْدُوب أَيْضا " نَافِلَة " و " سنة " وَالله
أعلم.
[تَعْرِيف الْمُبَاح]
قَالَ: (والمباح: مَا لَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على
تَركه)
أَقُول: لما فرغ من رسم الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب شرع فِي رسم
الْمُبَاح فَقَالَ: مَا لَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على
تَركه " وَفِيه دَلِيل على أَن صل الْمُبَاح الاتساع وَمِنْه
يُقَال: " بحبوحة الْجنَّة " وَهُوَ: مَا اتَّسع مِنْهَا.
وَقد وسع على الْمُكَلف فِيهِ؛ إِذْ لَا يُعَاقب على فعله
وَتَركه، وَلَا يُثَاب عَلَيْهِمَا
(1/90)
فَخرج " الْوَاجِب " و " الْمَنْدُوب "
بقوله " لَا يُثَاب على فعله "؛ لِأَنَّهُ يُثَاب على فعلهمَا.
وَكَذَا " الْحَرَام " و " الْمَكْرُوه " فَإِنَّهُ لَا يُثَاب
على فعلهمَا.
وَخرج بقوله: " وَلَا يُعَاقب على تَركه " الْوَاجِب؛
فَإِنَّهُ يُعَاقب على تَركه.
وانطبق الرَّسْم على الْمُبَاح؛ لتحَقّق الوصفين وهما: " عدم
الثَّوَاب " و " [عدم] الْعقَاب فِيهِ " وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْمَحْظُور]
قَالَ: (والمحظور مَا يُثَاب على تَركه، ويعاقب على فعله) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَحْكَام الثَّلَاثَة: شرع فِي
الرَّابِع وَهُوَ " الْحَرَام "؛ لِأَن أصل الْحَظْر:
الْمَنْع، وَلِهَذَا يُقَال لكل مَا يمْنَع الْمَاشِيَة من
الْخُرُوج: " حَظِيرَة "
وَالْحرَام مَمْنُوع مِنْهُ شرعا كَالزِّنَا، وَشرب الْخمر،
وَمَا أشبههما.
(1/91)
وَقَوله: " مَا يُثَاب على تَركه " ليخرج "
الْوَاجِب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركه، بل يُعَاقب
كَمَا سبق
وَخرج " الْمُبَاح " أَيْضا، إِذْ لَا يُثَاب على تَركه.
وَكَذَا " الْمَنْدُوب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركه -
أَيْضا -
وَقَوله: " ويعاقب على فعله " يخرج " الْوَاجِب "؛ فَإِنَّهُ
لَا يُعَاقب على فعله، بل يُثَاب على فعله.
وَكَذَا " الْمَنْدُوب "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله، بل
يُثَاب على فعله.
وَكَذَا " الْمُبَاح "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله
وَكَذَا " الْمَكْرُوه "؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقب على فعله.
وَقد انطبق الرَّسْم على الْمَحْظُور؛ لتحَقّق الصفتين وهما: "
وجود الثَّوَاب على تَركه " و " وجود الْعقَاب على فعله "
وَهَذَا إِذا تَركه؛ لامتثال الْأَمر والتقرب إِلَى الله -
تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُثَاب على تَركه.
أما إِذا تَركه لعدم وُصُوله إِلَيْهِ، أَو من غير نِيَّة
لامتثال الْأَمر فَلَيْسَ لَهُ ثَوَاب على تَرِكَة. وَالله
أعلم.
(1/92)
[تَعْرِيف الْمَكْرُوه]
قَالَ: (وَالْمَكْرُوه مَا يُثَاب على تَركه، وَلَا يُعَاقب
على فعله) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة شرع فِي رسم
الْخَامِس وَهُوَ: الْمَكْرُوه.
وَهُوَ مُشْتَقّ من الْكَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ كلما نهى عَنهُ
الشَّرْع تَنْزِيها فَهُوَ مَكْرُوه.
وَقد سبق لَهُ أَمْثِلَة فِي تَقْسِيم الْأَحْكَام.
ثمَّ رسمه ب " مَا يُثَاب على تَركه ".
وَكَذَا إِذا كَانَ التّرْك بِقصد التَّقَرُّب إِلَى الله -
تَعَالَى - كَمَا سبق - أَيْضا - فِي رسم الْحَرَام.
وَقَوله: " مَا يُثَاب على تَركه " يخرج " الْوَاجِب "؛
فَإِنَّهُ لَا يُثَاب على تَركه، بل يُعَاقب.
وَكَذَا يخرج " الْمَنْدُوب " و " الْمُبَاح "؛ فَإِنَّهُ لَا
يُثَاب على تَركهمَا.
وَأخرج الْحَرَام بقوله: " وَلَا يُعَاقب على فعله "؛ فَإِن
الْحَرَام يُعَاقب على فعله
وانطبق الرَّسْم على الْمَكْرُوه لتحَقّق الصفتين وهما: "
الثَّوَاب على ترك فعله " و " عدم الْعقَاب على فعله " وَالله
أعلم.
(1/93)
[تَعْرِيف الصَّحِيح]
قَالَ: (وَالصَّحِيح: مَا يعْتد بِهِ وَيتَعَلَّق بِهِ
النّفُوذ) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْأَحْكَام الْخَمْسَة غير
الْمُتَعَلّقَة بالمعاملات: شرع فِي رسم الحكم السَّادِس
الْمُتَعَلّق بالمعاملات وَهُوَ: الصَّحِيح؛ لِأَن الْعُقُود
إِذا أفادت الْمَقْصُود الشَّرْعِيّ سميت صَحِيحا كَالْبيع -
مثلا - إِذا أَفَادَ الْملك، وَالنِّكَاح إِذا أَفَادَ حل
الْوَطْء وَمَا أشبههما فَإِن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة يعْتد
بهَا، وَمَا يعْتد بِهِ يُوصف بِالصِّحَّةِ وَيكون نَافِذا.
فَلَو اكْتفى بِإِحْدَى اللَّفْظَيْنِ: كَانَ أولى؛ لِأَن
الرسوم مَبْنِيَّة على الِاقْتِصَار من غير ترادف. وَالله
أعلم.
(1/94)
تَعْرِيف الْبَاطِل
قَالَ: (وَالْبَاطِل: مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ النّفُوذ وَلَا
يعْتد بِهِ) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الصَّحِيح الْمُتَعَلّق بالمعاملات شرع
فِي رسم مَا يُقَابله فِيهَا وَهُوَ الْبَاطِل، وَيُقَال لَهُ
الْفَاسِد - أَيْضا -؛ إِذْ لَا فرق بَينهمَا عندنَا.
وَفرق بَينهمَا أَبُو حنيفَة وَقَالَ: كل مَا لم يشرع
بِأَصْلِهِ وَوَصفه فَبَاطِل كَبيع الملاقيح - وَهُوَ: مَا فِي
بطُون
(1/95)
الْأُمَّهَات فَإِنَّهُ لم يشرع
بِأَصْلِهِ، وَلَا وَصفه؛ لِأَن من أصل الْمَبِيع: أَن يكون
مَوْجُودا عِنْد العقد، وَمن وَصفه: أَن يكون مَقْدُورًا على
تَسْلِيمه، وهما منتفيان هُنَا.
وَمَا شرع بِأَصْلِهِ دون وَصفه كالربا فَإِنَّهُ مَشْرُوع فِي
أَصله؛ لِأَن بيع الْجِنْس بِالْجِنْسِ مَشْرُوع، لَكِن الصّفة
منتفية هُنَا؛ لوُجُود الزِّيَادَة فيسمى هَذَا عِنْده
فَاسِدا.
وَكَذَا نِكَاح العَبْد الْحرَّة بِشَرْط أَن تكون رقبته
صَدَاقهَا، فَإِن النِّكَاح مَشْرُوع دون الْوَصْف.
وَكَذَا مخالعة الصَّغِيرَة وَنَحْو ذَلِك.
وَمَا بَطل من أَصله يُسمى بَاطِلا.
وَفِي الْجُمْلَة: فَهَذِهِ الْعُقُود - كلهَا - سَوَاء
قُلْنَا ببطلانها أَو فَسَادهَا فَلَا تفِيد الْمَقْصُود،
وَلَا يعْتد بهَا.
وَلَو اقْتصر الشَّيْخ - رَحمَه الله تَعَالَى - على أحد
اللَّفْظَيْنِ لَكَانَ أولى، كَمَا سبق فِي الصَّحِيح وَالله
أعلم.
(1/96)
[الْفرق بَين الْفِقْه وَالْعلم]
قَالَ: (وَالْفِقْه أخص من الْعلم) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْأَحْكَام وتعريفها شرع فِي
الْفرق بَين " الْفِقْه " و " الْعلم ".
فَقَالَ: " الْفِقْه أخص من الْعلم " وَهُوَ كَذَلِك؛ لِأَن
الْفِقْه هُوَ: معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة - فَقَط.
بِخِلَاف الْعلم فَإِنَّهُ يُطلق على الْفِقْه والنحو
والْحَدِيث وَغَيرهَا فَكَانَ الْفِقْه نوعا مِنْهَا وَلِهَذَا
يُقَال: " كل فقه علم "، وَلَا يُقَال " كل علم فقه " وَالله
أعلم. |