الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه

 [هَل الْأَمر يَقْتَضِي الْفَوْر أَو لَا.]

قَالَ: (وَلَا يَقْتَضِي الْفَوْر، لِأَن الْفَرْض مِنْهُ إِيجَاد الْفِعْل من غير اخْتِصَاص بِالزَّمَانِ الأول، دون الزَّمَان الثَّانِي) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْأَمر الْمُطلق [وَبَين] أَنه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار على الْأَصَح: شرع فِي بَيَان أَنه لَا يَقْتَضِي الْفَوْر - أَيْضا -؛ لِأَن مُقْتَضى الْأَمر إِيجَاد الْفِعْل وَلَو مرّة وَاحِدَة من غير اخْتِصَاص بِالزَّمَانِ الأول، دون الثَّانِي، بل فِي أَي زمَان وجد فِيهِ أَجْزَأَ.

(1/120)


وَذهب أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ إِلَى الْفَوْرِيَّة.
وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة، وَذكروا وُجُوهًا كَثِيرَة تدل على الْفَوْرِيَّة لَا يَلِيق إيرادها فِي هَذَا الْمُخْتَصر.
وَأجِيب عَن جَمِيعهَا وَالْحَمْد لله.
وَهَذَا فِي الْأَمر الْمُطلق.
فَأَما الْأَمر الْمُقَيد بِوَقْت أَو سَبَب فَلَا يَقْتَضِي الْفَوْر، بل يجوز التَّأْخِير كَالصَّلَاةِ إِذا أخرت إِلَى آخر الْوَقْت، وَقَضَاء الصَّوْم إِذا فَاتَ وَالله أعلم.

(1/121)


[مَا لَا يتم الْأَمر إِلَّا بِهِ]

قَالَ: (وَالْأَمر بإيجاد الْفِعْل أَمر بِهِ، وَبِمَا لَا يتم، الْفِعْل إِلَّا بِهِ كالأمر بِالصَّلَاةِ أَمر بِالطَّهَارَةِ المؤدية إِلَيْهَا) .
أَقُول: لما فرغ من تَقْسِيم الْأَمر وَمَا يَقْتَضِيهِ من عدم التّكْرَار والفور شرع فِي بَيَان: مَا لَا يتم الْأَمر إِلَّا بِهِ فَهُوَ أَيْضا أَمر كَالصَّلَاةِ - مثلا - فَإنَّا أمرنَا بهَا وَلَا شكّ أَنَّهَا لَا تصح من غير طَهَارَة.
وَهَذَا من قَول الْفُقَهَاء مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب فَهُوَ وَاجِب كالأمر بِالصَّلَاةِ أَمر بِالطَّهَارَةِ؛ إِذْ لَا تصح إِلَّا بهَا.
وَكَذَا كل وَاجِب تتَوَقَّف صِحَّته على غَيره.

(1/122)


وَلِهَذَا نَظِير فِي الحسيات كأمر السَّيِّد عَبده بِرَفْع سقف، أَو صعُود إِلَى سطح فَلَا بُد للْعَبد من أَن يُهَيِّئ شَيْئا من جِدَار، أَو مرقاة وَغَيرهمَا ليتوصل إِلَى امْتِثَال الْأَمر فَكَأَنَّهُ لما أمره بالصعود والارتفاع أمره بِمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَيْهَا.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا مَعْلُوم فِي الحسيات كَانَ مثله فِي الشرعيات وَالله أعلم.
[حكم من فعل الْمَأْمُور بِهِ]

قَالَ: (وَإِذا فعل خرج الْمَأْمُور عَن الْعهْدَة) .
أَقُول: إِن الشَّيْخ - رَحمَه الله - يُشِير إِلَى أَن الْمُكَلف إِذا أَتَى بِمَا أَمر بِهِ خرج عَن الْعهْدَة وَهِي: سُقُوطه عَنهُ.
لَكِن فِي الْمَسْأَلَة خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ وَبَين الْفُقَهَاء: -
فَذهب الأصوليون إِلَى أَن غَايَة الْعِبَادَة: امْتِثَال الْأَمر.
وَقَالَ الْفُقَهَاء: غايتها سُقُوطهَا.
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي من ظن الطَّهَارَة وَصلى، ثمَّ بَان مُحدثا صحت

(1/123)


صلَاته عِنْد الْأُصُولِيِّينَ؛ لامتثال الْأَمر.
خلافًا للفقهاء؛ لِأَن غايتها: سُقُوطهَا، وَلم تسْقط عَنهُ.
وَكَذَا لَو ظن الْقبْلَة فَظهر خلَافهَا وَالله أعلم
[من لَا يدْخل فِي الْأَمر]

قَالَ: (وَمَا لَا يدْخل فِي الْأَمر: النَّائِم، والساهي، وَالصَّبِيّ، وَالْمَجْنُون) .
أَقُول: لما بَين أَن الْأَمر للمكلف: شرع فِي بَيَان مَا خرج عَن الْخطاب كالنائم

(1/124)


والساهي؛ لِأَن شَرط الْخطاب: الْفَهم وَهُوَ مَفْقُود فيهمَا.
فَإِن قيل: فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام شرع سُجُود السَّهْو للساهي.
وَأوجب على النَّائِم مَا أتْلفه حَال النّوم.
فَهَذَا دَلِيل على أَنَّهُمَا داخلان فِي الْخطاب.

(1/125)


قُلْنَا: لم يَكُونَا داخلين؛ لارْتِفَاع الْقَلَم عَنْهُمَا؛ فَإِذا زَالَ مَا بهما أمرا بتدارك مَا فاتهما عِنْد الْغَفْلَة.
وَأما الصَّبِي وَالْمَجْنُون لم يدخلا؛ لظَاهِر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) فعد النَّائِم، وَالصَّبِيّ، وَالْمَجْنُون وَالله أعلم.

(1/126)


[الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرِيعَة]

قَالَ: (وَالْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرَائِع، وَبِمَا لَا تصح إِلَّا بِهِ وَهُوَ: الْإِسْلَام؛ لقَوْله تَعَالَى: - حِكَايَة عَن الْكفَّار - {قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} . .)
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْمجمع على خُرُوجهمْ شرع فِيمَا اخْتلف الأصوليون فيهم، وهم الْكفَّار: -
فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى عدم خطابهم بِفُرُوع الشَّرَائِع.
وَاحْتج بِأَنَّهُ لَو كَانُوا مخاطبين بهَا فَلَا يَخْلُو أَن يكون قبل الْإِسْلَام، أَو بعده.
فَإِن قُلْتُمْ: قبله فَهُوَ محَال؛ لعدم صِحَة الْعِبَادَات من الْكَافِر.
" وَإِن قُلْتُمْ بعده فَكَذَلِك؛ لإِجْمَاع الْعلمَاء أَن لَا يُؤمر الْكَافِر بعد الْإِسْلَام بِمَا فَاتَهُ فِي حَالَة الْكفْر، وَلَا يُؤَاخذ بارتكاب مَا فعله من الْمُحرمَات.

(1/127)


وَذهب آخَرُونَ [إِلَى] أَنهم مخاطبون بالمنهيات، دون الْعِبَادَات.
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْكَافِر يتَصَوَّر مِنْهُ [الِانْتِهَاء] عَن المنهيات فِي حَالَة الْكفْر.
بِخِلَاف الْعِبَادَات فَعلم أَنهم لم يَكُونُوا مخاطبين بهَا.
وَذهب الشَّافِعِي إِلَى انهم مخاطبون بالأوامر والنواهي.
وَاحْتج بَان الْخطاب مُتَعَلق بِكُل بَالغ عَاقل، وهما موجودان فِي الْكَافِر فهم

(1/128)


مخاطبون بهَا، لَكِن لَا تصح إِلَّا بِالْإِسْلَامِ كَالصَّلَاةِ؛ فَإِن الْمُؤمن مُخَاطب بهَا لَكِن كَمَا سبق لَا بُد من الطَّهَارَة، فَالْأَمْر بهَا أَمر بِالطَّهَارَةِ - كَمَا سبق -.
وَكَذَا الْكَافِر أمره بِالْعبَادَة أَمر بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ من لوازمها؛ إِذْ لَا تصح إِلَّا بِهِ.
وَقد جَاءَ مَا يُؤَيّد هَذَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - حِكَايَة عَن جَوَاب سُؤَالهمْ -: {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين} .
فَهَذَا دَلِيل على تَضْعِيف الْعَذَاب بترك المأمورات، وَهِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وارتكاب المنهيات وَهِي: الْخَوْض مَعَ الخائضين فِيمَا نهوا عَنهُ، وَإِنَّمَا يكون عذَابا زَائِدا على عَذَاب الْكفْر.
وعَلى الأول إِنَّمَا يَكُونُوا معذبين على الْكفْر - فَقَط - وَالله أعلم.

(1/129)


[هَل الْآمِر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه؟]

قَالَ: (وَالْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان من يتَعَلَّق بِهِ الْخطاب، وَمن لَا يتَعَلَّق بِهِ: شرع فِي حَقِيقَته فَقَالَ: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه كَمَا: إِذا قدر على كلمة حق لتخليص مظلوم فَهُوَ مَأْمُور بهما، وَإِذا كَانَ مَأْمُورا بهما فَهُوَ مَنْهِيّ عَن ضدهما، وَهُوَ: التّرْك لكلمة الْحق وتخليص الْمَظْلُوم.
وَمثله فِي الحسيات كَمَا لَو أَمر بِالْقيامِ فَهُوَ مَنْهِيّ عَن أضداده، وَهُوَ الْقعُود والإتكاء. وَالله أعلم.

(1/130)


[النَّهْي أَمر بضده، وتعريف النَّهْي]

قَالَ: (وَالنَّهْي أَمر بضده وَهُوَ: استدعاء التّرْك بالْقَوْل مِمَّن هُوَ دونه على سَبِيل الْوُجُوب) .
أَقُول: لما فرغ من رسمي الْبَابَيْنِ وهما: " الْكَلَام " و " الْأَمر ". شرع فِي الْبَاب الثَّالِث وَهُوَ: النَّهْي فرسمه بِأَنَّهُ استدعاء التّرْك. إِلَى آخِره؛ لِأَنَّهُ يُقَابل الْأَمر؛ لِأَنَّهُ لما رسم الْأَمر بِأَنَّهُ استدعاء الْفِعْل رسم النَّهْي بِأَنَّهُ استدعاء التّرْك؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا استدعاء لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ، أَو لتَركه.
وَقَوله: " بالْقَوْل " لتخرج الْإِشَارَة؛ لِأَنَّهَا لم تكن بالْقَوْل وَقَوله " على سَبِيل الْوُجُوب " ليخرج التضرع فَإِنَّهُ لَيْسَ أمرا على سَبِيل الْوُجُوب، وَذَلِكَ كَمَا أَن العَبْد إِذا سَأَلَ سَيّده: أَن لَا يكلفه غير طاقته، وَأَن لَا يفتنه عِنْد مَوته، وَمَا أشبه ذَلِك. فَلَا يُقَال لهَذَا نهي، وَلَا على سَبِيل الْوُجُوب.

(1/131)


[النَّهْي يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ]

قَالَ: (وَيدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ) .
أَقُول: إِن الشَّيْخ - رَحمَه الله - يُشِير إِلَى أَن النَّهْي عَن الشَّيْء يَقْتَضِي فَسَاده؛ لِأَن الشَّارِع ناه عَن الْمَفَاسِد، آمُر بالمصالح كالنهي عَن الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة أَو لغير الْقبْلَة، وَالْبيع بِمَا فِي أَرْحَام الْإِنَاث وحبل الحبلة وَهُوَ ولد الْوَلَد.
فالنهي عَن هَذِه الْأَشْيَاء يدل على فَسَادهَا وَالله أعلم.

(1/132)


[مَعَاني صِيغَة " إفعل "، وَصِيغَة " لَا تفعل "]

قَالَ: (وَترد صِيغَة الْأَمر، وَالْمرَاد بهَا الْإِبَاحَة، أَو التهديد، أَو التَّسْوِيَة، أَو التكوين) .
أَقُول: يُشِير إِلَى صِيغ أَمر تَأتي، وَلم تكن للْوُجُوب: -
أَحدهَا: للْإِبَاحَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [سُورَة الْمَائِدَة: 2]
وَالثَّانيَِة: للتهديد كَقَوْلِه تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [سُورَة فصلت: 40]

(1/133)


وَالثَّالِثَة: للتسوية كَقَوْلِه تَعَالَى: {اصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} [سُورَة الطّور: 16]
وَالرَّابِعَة للتكوين كَقَوْلِه تَعَالَى: {كونُوا قردة} [سُورَة الْبَقَرَة: 65] و {يَا نَار كوني بردا} [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 69] انْتهى كَلَام الشَّيْخ - رَحمَه الله -، وَلم يذكر

(1/134)


للنَّهْي صيغا.
أَقُول: تَأتي صِيغَة لثمان معَان:
للتَّحْرِيم نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [سُورَة آل عمرَان: 130]
وَالْكَرَاهَة كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تفعلي هَذَا " أَي: لما نهاها عَن المشمس.

(1/135)


وللتحقير كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} [سُورَة الْحجر: 88]
ولبيان الْعَافِيَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الله غافلا} [سُورَة إِبْرَاهِيم: 42]
وللدعاء كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تُؤَاخِذنَا} [سُورَة الْبَقَرَة: 286]
ولليأس كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تعتذروا} [سُورَة التَّحْرِيم: 7]
وللإرشاد كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء} [سُورَة الْمَائِدَة: 101] . وللتسلية كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} [سُورَة النَّحْل: 137] وَالله أعلم.

(1/136)