الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه

 [تَعْرِيف الْعَام]

قَالَ: (وَأما الْعَام: فَهُوَ: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، من قَوْلك: " عممت زيدا وعمراً بالعطايا، و " عممت جَمِيع النَّاس بالعطايا ") .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْبَاب الثَّالِث: شرع فِي الرَّابِع وَهُوَ: الْعَام، وَإِنَّمَا سمي عَاما؛ لِكَثْرَة الْأَفْرَاد الَّذِي يدل عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُقَال: " عَم الْجَرَاد الْبِلَاد " أَي: كثر فِيهَا.
وَقَوله: " مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا " لتخرج أَسمَاء الْعدَد كالخمسة وَالْعشرَة - مثلا - فَلَا تسمي عَاما؛ لانحصارهما وَإِن دلا على أَفْرَاد لَكِن منحصرة؛ فَإِن الْخَمْسَة لَا تتَنَاوَل شَيْئا زَائِدا عَلَيْهَا، وَكَذَا الْعشْرَة وَنَحْوهمَا من الْأَعْدَاد فَبَانَت أَنَّهَا لَيست من أَلْفَاظ الْعُمُوم.
بِخِلَاف قَوْلك " عممت زيدا وعمراً بالعطايا " و " جَمِيع النَّاس " إِذْ لَا حصر للنَّاس وَالله أعلم.

(1/137)


[صِيغ الْعُمُوم]

قَالَ: (وَأَلْفَاظه: الِاسْم الْوَاحِد الْمُعَرّف بِالْألف وَاللَّام، وَالْجمع الْمُعَرّف بهما، والأسماء المبهمة ك " من " فِيمَن يعقل، و " مَا " فِيمَا لَا يعقل، و " أَي " فِي الْجَمِيع، و " أَيْن " فِي الْمَكَان و " مَتى " فِي الزَّمَان " و " مَا " فِي الِاسْتِفْهَام وَالْجَزَاء وَغَيره، و " لَا " فِي النكرات كَقَوْلِك: " لَا رجل فِي الدَّار ") .
أَقُول: لما فرغ من رسم الْعَام: شرع فِي صِيغَة، فَذكر من صيغه ثَلَاثَة أَلْفَاظ: -
أَحدهَا: الِاسْم الْوَاحِد الْمُعَرّف.
وَالثَّانِي " الْجمع الْمُعَرّف.
وَالثَّالِث الْأَسْمَاء المبهمة.
ثمَّ قسم الْأَسْمَاء المبهمة إِلَى سَبْعَة أَقسَام.
وسأوضحها وَاحِدًا [وَاحِدًا] إِن شَاءَ الله - تَعَالَى - من غير تَطْوِيل، تسهيلاً من غير ذكر الْخلاف فِيهَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان.
أما الِاسْم الْوَاحِد كَقَوْلِك: " الرجل أفضل من الْمَرْأَة " و " الدِّينَار خير من

(1/138)


الدِّرْهَم " فهما من أَلْفَاظ الْعُمُوم، لِأَن المُرَاد بهَا جنس الرِّجَال، وَالدَّنَانِير، لَا بعض أفرادهما.
وَأما الْجمع الْمُعَرّف كَقَوْلِك: " الرِّجَال " و " وَالْفُقَهَاء " وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [سُورَة التَّوْبَة: 5] وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله} [سُورَة الْمَائِدَة: 33] ف " الْمُشْركُونَ " و " الَّذين " من الْعُمُوم؛ لصِحَّة اسْتثِْنَاء الْجمع الْمُنكر مِنْهُ كَقَوْلِك: " اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا مُشْركي أهل الْكتاب "

(1/139)


" وَجَاءَنِي الرِّجَال إِلَّا رجَالًا "؛ وَالْفُقَهَاء إِلَّا فُقَهَاء " فَعلم أَن الْمُعَرّف أَعم من الْجمع الْمُنكر.
وَأما الْأَسْمَاء المبهمة فَمِنْهَا: -
" من " وتختص بِمن يعقل كَقَوْلِك: " من دخل دَاري فَلهُ دِرْهَم " فعمت كل عَاقل دخل سَوَاء كَانَ حرا أَو عبدا، ذكرا أَو أُنْثَى؛ لإِطْلَاق اللَّفْظ عَلَيْهِم.
وَمِنْهَا: " مَا " و " أَي " فهما يعمان من يعقل، وَمن لَا يعقل تَقول: " لَا

(1/140)


أملك مَا فِي يَد زيد شَيْئا " فَيكون عَاما فِيمَن يعقل، وَمن لَا يعقل كالعبيد وَالْإِمَاء والمباع والأثمان.
وَكَذَا إِذا قلت " أَي عبد جَاءَنِي من عَبِيدِي فَهُوَ حر " عَم الْجَمِيع، فَأَيهمْ جَاءَ عتق و " أَي الْأَشْيَاء أردْت أَعطيتك " كَانَ عَاما فِي جَمِيع مَا يملك.
وَمِنْهَا: " أَيْن " فَهِيَ تفِيد الْعُمُوم تَقول: " أَيْن كنت كنت مَعَك " فَعم كل مَكَان كَانَ فِيهِ وَلَا يتَعَيَّن مَكَان دون مَكَان.
وَمِنْهَا: " مَتى " فَهِيَ تفِيد الْعُمُوم فِي الزَّمَان كَمَا إِذا قلت: " مَتى جئتني أكرمتك " فَلَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْإِتْيَان فِي وَقت من الْأَوْقَات، بل عَم، حَتَّى فِي أَي وَقت جَاءَ تعين الْإِكْرَام.
وَمِنْهَا: " مَا " فَهِيَ تفِيد الْعُمُوم فِي الِاسْتِفْهَام، وَالْخَبَر، وَالْجَزَاء، وَالنَّفْي تَقول: - " مَا تصنع؟ " فَيَقُول الْمُخَاطب " أصنع شَيْئا " ف " مَا " الأولى عَام فِي

(1/141)


الِاسْتِفْهَام، وَالثَّانيَِة عَام فِي الْأَخْبَار.
وَفِي الْجَزَاء: " مَا تصنع أصنع ".
وَفِي النَّفْي: " مَا جَاءَك من أحد " فَهِيَ عَام فِي النَّفْي.
وَمِنْهَا -: " لَا " فَإِنَّهَا تفِيد الْعُمُوم فِي النكرات كَمَا مثل الشَّيْخ - رَحمَه الله تَعَالَى -: " لَا رجل فِي الدَّار "، و " لَا أحد فِي الْمَسْجِد " فَأفَاد أَنه لم يكن فِيهَا أحد من جنس الرِّجَال وَالله أعلم
[الْعُمُوم من صِفَات الْأَلْفَاظ، وَالْفِعْل لَا عُمُوم لَهُ]

قَالَ: (والعموم من صِفَات النُّطْق، فَلَا يجوز دَعْوَى الْعُمُوم فِي الْأَفْعَال، وَمَا يجْرِي مجْراهَا) .
أَقُول: يُشِير إِلَى أَن الْعُمُوم لَا يكون إِلَّا فِي الملفوظ، فَلَا يُؤْخَذ من الْأَفْعَال كَمَا يُقَال: إِنَّه عَلَيْهِ [السَّلَام] " جمع فِي السّفر بَين صَلَاتَيْنِ " فَلَا يُؤْخَذ من

(1/142)


فعله الْعُمُوم؛ لِأَن السّفر قد يكون طَويلا وَقد يكون قَصِيرا، فَعلم أَن الْفِعْل لَا يُفِيد الْعُمُوم بل لابد من النُّطْق.

(1/143)


وَكَذَا مَا يجْرِي مجْرى الْأَفْعَال كالقضايا، فَإِنَّهَا لَا تدل على الْعُمُوم، بل لَا بُد من تَقْيِيده كَمَا ورد أَنه عَلَيْهِ السَّلَام " قضى بِالشُّفْعَة للْجَار " فَلَا يحمل على الْعُمُوم، إِنَّمَا هِيَ للشَّرِيك - فَقَط -
وَكَذَا " قضى بِشَاهِد وَيَمِين " فَلَا يحمل على الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ فِي بعض الْأَشْيَاء، دون بعض وَالله أعلم.

(1/144)


[المُرَاد بالخاص، والتخصيص]

قَالَ: (وَالْخَاص يُقَابل الْعَام، والتخصيص تَمْيِيز بعض الْجُمْلَة) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْبَاب الرَّابِع وَهُوَ: الْعَام أَخذ فِيمَا يُقَابله، وَهُوَ: الْخَاص.
وَلِهَذَا لم يرسمه، بل اختصر على رسم الْعَام؛ لِأَنَّهُ يُقَابله.
فَإِذا قيل فِي رسم الْعَام هُوَ: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا: قيل فِي رسم الْخَاص: هُوَ: مَالا يعم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا. أَو مَالا يَقْتَضِي استغراق الْجِنْس، فَإِن الْعَام يَقْتَضِيهِ.

(1/145)


وَقَوله: " والتخصيص: تَمْيِيز بعض الْجُمْلَة " يُشِير إِلَى حَقِيقَة التَّخْصِيص وَهُوَ: إِخْرَاج شَيْء قد دخل فِي الْجُمْلَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [سُورَة التَّوْبَة: 5] فَهَذَا عَام، فَخرج مِنْهُ المعاهدون؛ إِذْ لَا يجوز قَتلهمْ.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} [سُورَة الْبَقَرَة: 185] فَهُوَ عَام ثمَّ خرج مِنْهُ الْمَرِيض وَالْمُسَافر؛ إِذْ لَا يجب عَلَيْهِمَا الصَّوْم بِرُؤْيَتِهِ
وَكَذَا إِخْرَاج بعض الْبيُوع عَن بعض؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام " نهى عَن بيع

(1/146)


الرطب " فَكَانَ عَاما؛ لأجل عله الرِّبَا، ثمَّ رخص فِي الْعَرَايَا وَهِي بيع الرطب فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ على وَجه الأَرْض.
فَهَذَا إِخْرَاج شَيْء معِين فِي جملَة عَامَّة. وَالله أعلم.

(1/147)


[أَقسَام الْمُخَصّص، وأنواع الْمُتَّصِل]

قَالَ: (وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى مُتَّصِل ومنفصل: فالمتصل: الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط، وَالتَّقْيِيد بِالصّفةِ) .
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف الْخَاص: أَخذ فِي تقسيمه إِلَى مُنْفَصِل، ومتصل، ثمَّ بَدَأَ بالمتصل وقسمه إِلَى ثَلَاث - إِجْمَالا -: -
الأول: الِاسْتِثْنَاء كَقَوْلِك: " اكرم الْفُقَهَاء إِلَّا زيدا " ف " زيد " خص بِالِاسْتِثْنَاءِ من عُمُوم الْإِكْرَام.
الثَّانِي: الشَّرْط كَقَوْلِك: " اكرم الْفُقَهَاء إِذا جاءوك " فَخص إكرامهم بِالشّرطِ وَهُوَ الْمَجِيء.
الثَّالِث: التَّقْيِيد بِالصّفةِ كَقَوْلِك: " أكْرم الْفُقَهَاء الحافظين لكتاب الله - تَعَالَى، فَخص إكرامهم بِصفة وَهِي: الْحِفْظ لكتاب الله - تَعَالَى - وَالله أعلم.

(1/148)


[الْمُخَصّص الْمُتَّصِل الأول: الِاسْتِثْنَاء تَعْرِيف الِاسْتِثْنَاء، وَبَيَان بعض شُرُوطه]

قَالَ: (وَالِاسْتِثْنَاء: إِخْرَاج مَا لولاه لدخل فِي الْعَام، وَإِنَّمَا يَصح بِشَرْط أَن يبْقى من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ شَيْء، وَمن شَرطه: أَن يكون مُتَّصِلا بالْكلَام) .
أَقُول: لما ذكر أَقسَام الْمُخَصّص الْمُتَّصِل إِجْمَالا: شرع فِي بَيَانهَا فرسم الِاسْتِثْنَاء [ب] : إِخْرَاج مَا لولاه لدخل فِي الْعَام كَقَوْلِك: " لَهُ عَليّ خَمْسَة إِلَّا ثَلَاثَة " فلولا الِاسْتِثْنَاء لَوَجَبَتْ الْخَمْسَة.

(1/149)


ثمَّ ذكر لصِحَّة الِاسْتِثْنَاء شرطين: -
أَحدهمَا: انه لَا يكون مُسْتَغْرقا للمستثنى مِنْهُ كَمَا لَو قَالَ: لَهُ عَليّ خَمْسَة إِلَّا خَمْسَة " فَهُوَ محَال؛ لِأَنَّهُ نفي مَا أثبت أَولا.
لَكِن اخْتلفُوا فِي نفس الِاسْتِثْنَاء: هَل يشْتَرط أَن يكون أقل من نصف الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَو أَكثر؟
فَذهب الْجُمْهُور إِلَى انه لَا فرق بل لَو قَالَ: " لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا وَاحِدًا " صَحَّ وَلَزِمَه تِسْعَة.
وَكَذَا لَو قَالَ: " إِلَّا تِسْعَة ": لزمَه وَاحِد.
وَذَهَبت الْحَنَابِلَة إِلَى أَنه لَا بُد من الزِّيَادَة على النّصْف كَقَوْلِك " لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا سِتَّة ".

(1/150)


وَذهب القَاضِي أَبُو بكر إِلَى النَّقْص كَقَوْلِك: " إِلَّا أَرْبَعَة ".
وَالشّرط الثَّانِي: أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْء من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ.
وَنقل جَوَاز الِانْفِصَال مِنْهُ عَن ابْن عَبَّاس حَتَّى لَو قَالَ: " لَهُ عَليّ عشرَة " ثمَّ

(1/151)


قَالَ بعد سَاعَة أَو أَكثر: " إِلَّا كَذَا ": صَحَّ.
وَالْجُمْهُور على خِلَافه
بل غلطوا النَّاقِل عَن ابْن عَبَّاس؛ ذَلِك لقُوَّة علمه باللغة وَغَيرهَا؛ لِأَنَّهُ يلْزم عدم انْعِقَاد يَمِين، واستقرار إِقْرَار

(1/152)


لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيمَا بعد وَالله أعلم

(1/153)


[جَوَاز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَجَوَاز الِاسْتِثْنَاء من الْجِنْس وَغَيره]

قَالَ: (وَيجوز تَقْدِيم الِاسْتِثْنَاء على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَيجوز الِاسْتِثْنَاء من الْجِنْس وَغَيره) .
أَقُول: لما فرغ من رسم الِاسْتِثْنَاء وشروطه: شرع فِيمَا يجوز فِيهِ من تَقْدِيم

(1/154)


الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَقَوْلِك: " مَا قَامَ إِلَّا زيدا أحد ".
وَمِنْه قَول الْكُمَيْت: -

(وَمَالِي إِلَّا آل أَحْمد شيعَة ... )
: ... . .
وَكَذَا فِيمَا يجوز الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس الِاسْتِثْنَاء مِنْهُ كَقَوْلِك: " لَهُ عَليّ

(1/155)


مَائه دِرْهَم إِلَّا ثَوَابه ".
وَمنعه آخَرُونَ وَقَالُوا: لَا يستحسن أَن يُقَال: رَأَيْت النَّاس إِلَّا حمارا؛ إِذْ الْحمار لم يكن من النَّاس.
وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بقوله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} [سُورَة الْحجر: 30] وَلم يكن من الْمَلَائِكَة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} [سُورَة الْكَهْف: 50] وَالله أعلم.

(1/156)