الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه [إِذا لم يدل دَلِيل على أَن فعله
عَلَيْهِ السَّلَام خَاص بِهِ فعلى مَاذَا يحمل؟]
قَالَ: (وَإِن لم يدل: لم يخْتَص بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى
قَالَ: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة}
فَيحمل على الْوُجُوب عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَمِنْهُم من
قَالَ: يحمل على النّدب، وَمِنْهُم من قَالَ: يتَوَقَّف فِيهِ،
وَإِن كَانَ على غير الْقرْبَة وَالطَّاعَة فَيحمل على
الْإِبَاحَة) .
أَقُول: هَذَا شُرُوع فِي تَقْسِيم أَفعاله عَلَيْهِ
السَّلَام: -
فَذهب قوم إِلَى أَن أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام تحمل على
الْوُجُوب، مِنْهُم: أَبُو سعيد الاصطخري، وَأَبُو الْعَبَّاس
بن سُرَيج، وَأَبُو عَليّ بن خيران.
(1/175)
واحتجزوا بقوله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم
تحبون الله فَاتبعُوني} [سُورَة آل عمرَان: 31] فَدلَّ على أَن
محبته تَعَالَى مستلزمة لمتابعة رَسُوله - عَلَيْهِ السَّلَام
-
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ}
[سُورَة الْحَشْر: 7] وَفعله عَلَيْهِ السَّلَام من جملَة مَا
أَتَى بِهِ فَدلَّ - أَيْضا - على أَن الْأَخْذ بأفعاله
وَاجِب.
وَمَا ذكر الشَّيْخ - رَحمَه الله - من قَوْله تَعَالَى: {لقد
كَانَ لكم} [سُورَة الْأَحْزَاب: 21] دَالَّة على الْوُجُوب
فِيهِ نظر على مَا يَأْتِي.
وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يحمل على النّدب؛ لِأَن قَوْله
تَعَالَى: (لقد كَانَ
(1/176)
لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة}
لِأَن الأسوة الْحَسَنَة فِي أَفعاله قد يكون وَاجِبا، وَقد
يكون ندبا.
وَالْأَصْل: عدم الْوُجُوب، فَحمل على النّدب حَتَّى يدل
دَلِيل على الْوُجُوب.
وَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي وَأَبُو حَامِد الْغَزالِيّ،
وَالْإِمَام الرَّازِيّ إِلَى
(1/177)
التَّوَقُّف؛ لِأَن أَفعاله تدل على
الْوُجُوب تَارَة، وعَلى النّدب تَارَة، وعَلى الْإِبَاحَة
تَارَة فَتعين التَّوَقُّف ليدل دَلِيل على أحدهم.
وَغَايَة مَا فِي هَذَا الْبَاب: أَن أَفعاله عَلَيْهِ
السَّلَام لَا تَخْلُو: أَن تخْتَص بِهِ أَو لَا: -
فَإِن اخْتصّت بِهِ كالوصال: فَلَا بحث فِيهِ.
وَإِن لم تخْتَص بِهِ فَلَا يَخْلُو: -
أَن تكون على وَجه الطَّاعَة أَو لَا: -
فَإِن كَانَت على وَجه الطَّاعَة: نظر: -
(1/178)
إِن دلّ دَلِيل على وُجُوبه: حمل عَلَيْهِ،
كغسله من التقاء الختانين، وَزِيَادَة الرُّكُوع فِي صَلَاة
الْكُسُوف دون سَائِر الصَّلَوَات.
وَإِن دلّ على النّدب: حمل عَلَيْهِ كالسنة الرَّاتِبَة،
والتهجد لَيْلًا وَغير ذَلِك.
أما إِذا لم تكن على وَجه الطَّاعَة فمباحة كنومه عَلَيْهِ
السَّلَام، وَأكله، وَالله أعلم.
(1/179)
[إِقْرَار الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]]
قَالَ: (وَإِقْرَاره على الْفِعْل كَفِعْلِهِ، وَمَا فعل فِي
غير مَجْلِسه وَفِي وقته وَعلم بِهِ، وَلم يُنكره فَحكمه حكم
مَا فعل فِي مَجْلِسه) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان أَفعاله - عَلَيْهِ السَّلَام -
أَخذ فِي بَيَان مَا يفعل بَين يَدَيْهِ، وَفِي زَمَنه وَلم
يُنكره فَقَالَ الشَّيْخ - رَحمَه الله -: هُوَ كَفِعْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَام؛ إِذْ لَا يجوز لصَاحب الشَّرِيعَة أَن يقر
أحدا على الْخَطَأ، وَلِهَذَا حكم بِحل الضَّب مَعَ عدم أكله
مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لَكِن لما أقرّ خَالِدا على أكله
من غير إِنْكَار: علم
(1/180)
حلّه.
وَكَذَا يُقَاس على مَا فعل فِي مَجْلِسه مَا لم يفعل فِي
مَجْلِسه، بل فِي زَمَنه وبلغه ذَلِك وَلم يُنكر عَلَيْهِ
كَقَوْل الصَّحَابَة: " أفضل النَّاس - بعد رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] أَبُو بكر وَعمر، فَلم يُنكر عَلَيْهِم.
وَالله أعلم.
(1/181)
[تَعْرِيف النّسخ لُغَة]
قَالَ: (والنسخ مَعْنَاهُ: الْإِزَالَة، يُقَال: " نسخت
الشَّمْس الظل " أَي " أزالته، وَقيل: مَعْنَاهُ: النَّقْل من
قَوْلهم: " نسخت مَا فِي الْكتاب " أَي: نقلته) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام: شرع
فِي بَيَان النّسخ، وَهُوَ الْبَاب الْعَاشِر وَيُشِير إِلَى
تَعْرِيفه فِي اللُّغَة، وَإِلَى حَده عِنْد الْفُقَهَاء،
وتقسيمه على مَا ستراه وَاضحا - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - أما
أصل النّسخ فِي اللُّغَة: الْإِزَالَة والعدم، يُقَال: " نسخت
الرّيح آثَار الْقَوْم " أَي: أزالتها، وأعدمتها، " وَنسخت
الشَّمْس الظل ": إِذا أزالته وأعدمته
(1/182)
وَذهب أَبُو حنيفَة، والقفال، وَأَبُو
الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ إِلَى أَن النّسخ فِي اللُّغَة
النَّقْل، يُقَال: " نسخت مَا فِي الْكتاب " أَي: نقلته،
وَكَذَا يُقَال: " تناسخت الْمَوَارِيث " أَي: نقلت. وَاحْتج
الْأَولونَ: أَن النّسخ حَقِيقَة فِي الْإِزَالَة والعدم،
مجَاز فِي النَّقْل فَحَمله على الْحَقِيقَة أولى.
وَكَذَا نسخ الْكتاب لَيْسَ هُوَ نقل فِي الْحَقِيقَة، بل
إِيجَاد مثله فِي مَكَان آخر وَالله أعلم.
(1/183)
[تَعْرِيف النّسخ فِي الِاصْطِلَاح]
قَالَ: (وَحده: الْخطاب الدَّال على رفع الحكم الثَّابِت
بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم، على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا
مَعَ تراخيه عَنهُ.
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيفه فِي اللُّغَة: شرع فِي تَعْرِيفه
عِنْد اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ.
فَاخْتَارَ الشَّيْخ هَذَا الْحَد، وَكَذَا القَاضِي أَبُو
بكر.
فَقَوله: " وَحده " أَي: حد النّسخ فِي الِاصْطِلَاح: الْخطاب
الدَّال على رفع
(1/184)
الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ
الْمُتَقَدّم، وَلَا شكّ أَن لَوْلَا الْخطاب الثَّانِي.
لَكَانَ الْعَمَل على الأول؛ لِأَن النّسخ ضد الحكم السَّابِق
وَهُوَ: الْمَنْسُوخ.
وَقَوله: " الدَّال على رفع الحكم الثَّابِت " احْتِرَازًا عَن
الْعَجز للْقِيَام فِي الصَّلَاة، أَو بِالْمرضِ عَن الصَّوْم،
فَلَا يُقَال لهَذَا الْعَجز نسخا للْقِيَام الثَّابِت بالحكم
الْمُتَقَدّم، وَلَا للصَّوْم، بل إِنَّمَا هُوَ سَبَب طَرَأَ
على الحكم الثَّابِت.
وَقَوله: " على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا " أَي: لَوْلَا
الثَّانِي لَكَانَ الأول ثَابتا وَالله أعلم.
[وُجُوه النّسخ فِي الْقُرْآن وَبَعض صوره]
قَالَ: (وَيجوز نسخ الرَّسْم وَبَقَاء الحكم، وَنسخ الحكم
وَبَقَاء الرَّسْم، والنسخ إِلَى بدل، وَإِلَى غير بدل،
وَإِلَى مَا هُوَ أغْلظ، وَمَا هُوَ أخف مِنْهُ) .
أَقُول: لما فرغ من تَعْرِيف النّسخ لُغَة وَاصْطِلَاحا: شرع
فِي بَيَان صور تتَعَلَّق بالنسخ:
أَحدهَا: نسخ الرَّسْم من الْمُصحف فَلَا تتلى فِيهِ مَعَ
بَقَاء حكمهَا مثل: قَوْله تَعَالَى: " الشَّيْخ وَالشَّيْخَة
إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا " فَكَانَت قِرَاءَة تقرى، فنسخت
قِرَاءَة وَكِتَابَة، مَعَ بَقَاء حكمهَا وَهُوَ الرَّجْم.
(1/185)
الثَّانِيَة: الْعَكْس، وَهُوَ نسخ الحكم
وَبَقَاء الرَّسْم، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون
مِنْكُم} إِلَى قَوْله: {إِلَى الْحول غير إِخْرَاج}
[الْبَقَرَة الْآيَة: 240] فَهَذِهِ ثَابِتَة فِي الْخط
والتلاوة، مَعَ أَن حكمهَا مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى:
{أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة الْآيَة: 234] . فَظهر:
أَن هَذِه ناسخة للأولى، وَإِن كَانَت مُقَدّمَة فِي الرَّسْم،
لَكِن هِيَ مؤخرة فِي الزَّوَال، لِأَن الْأَحْكَام ثَابِتَة
للزوال، لَا للرسم.
(1/186)
الثَّالِثَة: [النّسخ] إِلَى بدل كنسخ
اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس، إِلَى اسْتِقْبَال الْكَعْبَة.
الرَّابِعَة: النّسخ إِلَى غير بدل، مثل: قَوْله تَعَالَى:
{إِذا نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ
صَدَقَة} [المجادلة الْآيَة: 12] ، فنسخت من غير بدل.
(1/187)
الْخَامِسَة: النّسخ إِلَى مَا هُوَ أثقل،
مثل: الْكَفّ عَن قتال الْكفَّار أَولا، ثمَّ نسخ ذَلِك بأثقل
مِنْهُ، وَهُوَ: وجوب قِتَالهمْ.
السَّادِسَة: النّسخ إِلَى مَا هُوَ أخف، مثل: أمره تَعَالَى
إِبْرَاهِيم بِذبح وَلَده، ثمَّ نسخ بِالْفِدَاءِ.
وَكَذَا تَكْلِيف مُسلم وَاحِد بِعشْرَة بِآيَة الْمِائَة
للمائتين وَالله أعلم.
[مسَائِل النّسخ بَين الْكتاب وَالسّنة]
قَالَ: (وَيجوز نسخ الْكتاب بِالْكتاب، وَنسخ السّنة بِالْكتاب
وَالسّنة، وَنسخ الْمُتَوَاتر بالمتواتر وَنسخ الْآحَاد
بالآحاد والمتواتر، وَلَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ،
(1/188)
والمتواتر بالآحاد، لِأَن الشَّيْء ينْسَخ
بِمثلِهِ أَو بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ) .
أَقُول: لما بَين النّسخ لُغَة وَاصْطِلَاحا شرع فِي تقسيمه،
فَقَالَ:
يجوز نسخ الْكتاب بِالْكتاب، وَلَا شكّ فِي ذَلِك، وَلَا خلاف
بَينهم فِيهِ، وَذَلِكَ كَمَا سبق فِي عدَّة الْوَفَاة؛
لِأَنَّهُ تَعَالَى أوجب عَلَيْهَا سنة، ثمَّ خففها إِلَى
أَرْبَعَة أشهر وَعشرَة وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا
الْيَهُود وَقَالُوا: يَسْتَحِيل أَن يكون آمرا ناهيا فِي حكم
وَاحِد.
قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِك بمستحيل عقلا، وَلَا نقلا، لِأَنَّهُ
لَهُ الْفِعْل الْمُطلق يحكم كَيفَ يَشَاء لَا يسْأَل عَمَّا
يفعل، وَقد قَالَ تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت
بِخَير مِنْهَا} [الْبَقَرَة الْآيَة: 106] .
وَلَا شكّ: أَن آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - زوج الْأَوْلَاد
بالأخوات، ثمَّ نسخ ذَلِك.
وَأما نسخ الْكتاب بِالسنةِ فَذهب الشَّيْخ - رَحمَه الله -
إِلَى أَنَّهَا لَا تنسخ؛ إِذْ
(1/189)
الْقوي لَا ينْسَخ بأضعف مِنْهُ.
وَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازه كَجلْد الزَّانِي
بِالْكتاب فنسخ بِالرَّجمِ للمحصن؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَام رجم ماعزاً وَغَيره، ورجمت الصَّحَابَة بعده؛
لِئَلَّا [يُقَال] : كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ عَلَيْهِ
السَّلَام.
وَأما نسخ السّنة بِالْكتاب - وَهَذَا أَيْضا - لَا شكّ فِيهِ،
لِأَنَّهُ لما كَانَت السّنة تنسخ
(1/190)
بِمِثْلِهَا فبالكتاب أولى؛ مِثَال ذَلِك:
نسخ التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة عَن بَيت الْمُقَدّس؛
فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام صلى إِلَيْهِ نَحوا من سَبْعَة
عشر شهرا، فَأمره الله - تَعَالَى - بالتوجه شطر الْمَسْجِد
الْحَرَام.
وَأما نسخ السّنة بِالسنةِ فَجَائِز - أَيْضا - وَذَلِكَ مثل:
نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام عَن زِيَارَة الْقُبُور، ثمَّ
أَمرهم - بعد ذَلِك - بالزيارة، وَقَالَ: (إِنَّهَا تذكركم
الْآخِرَة) .
وَأما نسخ الْآحَاد بالآحاد فَجَائِز - أَيْضا -؛ لِأَنَّهُ
نسخ بِمثلِهِ.
وَإِذا نسخ الْآحَاد بِمثلِهِ فبالتواتر أولى.
(1/191)
وَإِنَّمَا لم نتكلم فِي الْمُتَوَاتر
والآحاد، لِأَن الْكَلَام يَأْتِي فِي بابهما - إِن شَاءَ الله
تَعَالَى -.
وَقَوله: " لَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ " فِيهِ نظر؛ لِأَن
السّنة إِذا تَوَاتَرَتْ كَانَت قَطْعِيَّة مثل الْكتاب،
فَحِينَئِذٍ جَازَت أَن تكون ناسخة للْكتاب كَمَا - سبق - فِي
رجم الْمُحصن.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم
الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة} [الْبَقَرَة الْآيَة: 180]
فنسختها السّنة وَجعلت الْوَصِيَّة سنة، لَا فرضا: إِن شَاءَ
أوصى من مَاله وَإِن شَاءَ ترك؛ إِذا لَا حرج.
وَالْمرَاد بِالسنةِ الناسخة للْكتاب: السّنة المتواترة.
بِخِلَاف آحَاد السّنة؛ إِذْ لم تكن ناسخة؛ لِأَن الْكتاب
قَطْعِيّ، وَكَذَا السّنة المتواترة، فَلَا ينسخان بآحاد
السّنة؛ لِأَنَّهُ مظنون، والظني لَا يكون نَاسِخا للقطعي
وَالله أعلم.
(1/192)
[تعَارض النُّصُوص]
قَالَ: (فصل: فِي التَّعَارُض. إِذا تعَارض نطقان فَلَا
يَخْلُو: [إِمَّا] أَن يَكُونَا عَاميْنِ، أَو خاصين، أَو
أَحدهمَا عَاما، وَالْآخر خَاصّا، أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا
عَاما من وَجه وخاصاً من وَجه) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان النّسخ لُغَة وَاصْطِلَاحا
وتقسيماته: شرع فِي التَّعَارُض، وَهُوَ من تَتِمَّة النّسخ؛
لِأَن النطقين من الْكتاب، أَو السّنة إِذا تَعَارضا أَي: كل
مِنْهُمَا عرض لنظيره بالمخالفة فَلَا يَخْلُو: " أَن يَكُونَا
عَاميْنِ " أَو " خاصين " أَو
(1/193)
أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا " أَو " كل
مِنْهُمَا عَاما من وَجه وخاصاً من وَجه ".
فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا مفصلا
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
[تعَارض العامين، وتعارض الخاصين]
قَالَ: (فَإِن كَانَا عَاميْنِ، وَأمكن الْجمع بَينهمَا: جمع،
وَإِلَّا: يتَوَقَّف فيهمَا إِن لم يعلم التَّارِيخ فَإِن علم
التأريخ فَينْسَخ الْمُتَقَدّم بالمتأخر، وَكَذَلِكَ إِن
كَانَا خاصين) .
أَقُول: هَذَا شُرُوع فِي بَيَان الْقسمَيْنِ من الْأَقْسَام
السِّتَّة.
فالعامان: إِن أمكن الْجمع بَينهمَا: جمع؛ لِأَنَّهُ أولى من
إِلْغَاء أَحدهمَا كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: (شَرّ
الشُّهُود: الَّذين يشْهدُونَ قبل أَن يستشهدوا) ، وَقَالَ
مرّة أُخْرَى: (خير الشُّهُود: الَّذين شهدُوا قبل أَن
يستشهدوا) فَحمل الأول على المبادر بهَا،
(1/194)
وَهُوَ يعلم أَن الْمَشْهُود لَهُ عَالم
بهَا فَهَذَا حرَام.
بِخِلَاف من بَادر؛ ليعلم صَاحبهَا، ليتوصل لحقه، فَهَذَا حسن.
وَإِن لم يُمكن الْجمع بَين العامين كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء الْآيَة: 23]
فَهَذَا لفظ عَم النِّكَاح وَالْملك: فَوَجَبَ التَّوَقُّف.
وَلِهَذَا لما سُئِلَ عُثْمَان عَن الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ
بِملك الْيمن: توقف وَقَالَ: " أَحَلَّتْهُمَا آيَة وحرمتهما
آيَة.
(1/195)
ثمَّ أَجمعت الْعلمَاء على عُمُومه فِي
الْوَطْء وَالنِّكَاح، دون الْملك أَي: لَا يجمع بَينهمَا إِذا
كَانَتَا عِنْده بِملك أَن يطأهما، بل إِذا وطيء إِحْدَاهمَا:
حرمت الْأُخْرَى إِلَى أَن تَزُول الْمَوْطُوءَة عَن ملكه،
وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يجمع بَينهمَا بِنِكَاح وَاحِد، بل
لَهُ أَن يجمع بَينهمَا بِالْملكِ.
وَإِن لم يُمكن الْجمع؛ وَلَا الْحمل على أَحدهمَا، لَكِن علم
التَّارِيخ: كَانَ الثَّانِي نَاسِخا للْأولِ، كَمَا سبق فِي
عدَّة الْوَفَاة. وَالله أعلم.
وَأما قَوْله: " وَكَذَلِكَ إِذا كَانَا خاصين " أَي:
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ النُّطْق خاصين وَأمكن الْجمع بَينهمَا:
جمع لِأَنَّهُ أولى من إِلْغَاء أَحدهمَا كَمَا - سبق - فِي
العامين، وَذَلِكَ مَا روى عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام " أَنه
تَوَضَّأ وَغسل رجلَيْهِ " وَفِي
(1/196)
رِوَايَة " رش عَلَيْهِمَا " فَحمل الْغسْل
على الْحَدث، والرش على أَنه كَانَ طَاهِرا من غير حدث.
وَإِن لم يُمكن الْجمع، وَعلم التَّارِيخ: كَانَ الثَّانِي
نَاسِخا للْأولِ كَمَا سبق من النَّهْي عَن زِيَارَة
الْقُبُور، ثمَّ أذن فِي زيارتها.
وَإِن لم يُمكن الْجمع، وَلَا علم التَّارِيخ: وَجب
التَّوَقُّف كَمَا انه عَلَيْهِ السَّلَام لما سُئِلَ عَن مَا
يحل للرجل من الْحَائِض، فَقَالَ: (مَا فَوق الْإِزَار) وَفِي
رِوَايَة: (اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح) .
فَالْأول مَخْصُوص بِمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة.
وَالثَّانِي مَخْصُوص بالفرج - فَقَط -.
فَذهب جمَاعَة إِلَى الأول؛ احْتِيَاطًا.
(1/197)
وَآخَرُونَ إِلَى الثَّانِي؛ لِأَن الأَصْل: الْإِبَاحَة عِنْد
الْإِطْلَاق والتعارض، ليدل دَلِيل على التَّحْرِيم، وَالله
أعلم. |