الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه [الحكم إِذا تعَارض الْعَام مَعَ الْخَاص،
وَإِذا كَانَ كل مِنْهُمَا خَاصّا من وَجه وعاما من آخر]
قَالَ: (وَإِن كَانَ أَحدهمَا خَاصّا، وَالْآخر عَاما: فيخص
الْعَام بالخاص، وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا خَاصّا من
وَجه وعاماً من وَجه: فيخص عُمُوم كل وَاحِد بِخُصُوص الآخر) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْقسمَيْنِ من التَّعَارُض: شرع
فِي الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة:
أَحدهَا: إِذا ورد الدَّلِيل عَاما كَقَوْلِه عَلَيْهِ
السَّلَام: (فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر) فَهَذَا عَام فِي
الْقَلِيل وَالْكثير.
وَالثَّانِي: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (لَيْسَ فِيمَا دون
خَمْسَة أوسق صَدَقَة) .
(1/198)
فَهَذَا معَارض للْأولِ لَكِن ورد للخصوص
فَحمل الْعَام عَلَيْهِ، وَجعلت الزَّكَاة فِي خَمْسَة أوسق
فَصَاعِدا، وَلم تجْعَل فِي أقل من ذَلِك.
وَالثَّالِث: الْعَام من وَجه وَالْخَاص من وَجه كَقَوْلِه
عَلَيْهِ السَّلَام: (إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل
خبثاً) فَظَاهره الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم
يتَعَرَّض لتغيره، وَلَا لغيره، وَخص من وَجه آخر وَهُوَ:
تَقْيِيده بالقلتين.
وَالرَّابِع: الْعَام من وَجه، وَالْخَاص من آخر قَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام: (المَاء طهُور لَا يُنجسهُ إِلَّا مَا غير
طعمه، أَو رِيحه، أَو لَونه) فَظَاهره: الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَام لم يتَعَرَّض للقليل، وَلَا للكثير.
وَخص من وَجه آخر، وَهُوَ: تَقْيِيده بالتغير، فَحمل عُمُوم
الأول وَهُوَ قَوْله:
لم ينجس " على خُصُوص الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: " إِلَّا مَا
غير طعمه " الحَدِيث.
(1/199)
وَحمل عُمُوم الثَّانِي، وَهُوَ: "
طَهَارَة المَاء " على خُصُوص الأول، وَهُوَ " القلتان ".
فَظهر: أَن المَاء إِذا بلغ قُلَّتَيْنِ لم ينجس إِلَّا
بالتغير، وَمَا تغير تنجس سَوَاء قل، أَو كثر، وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْإِجْمَاع، وَبَيَان حجيته]
قَالَ: (و [أما] الْإِجْمَاع: [ف] اتِّفَاق عُلَمَاء أهل
الْعَصْر على حكم الْحَادِثَة، ونعني بالعلماء: الْفُقَهَاء و
[نعني] بالحادثة: الْحَادِثَة الشَّرْعِيَّة، وَإِجْمَاع هَذِه
الْأمة حجَّة، دون غَيرهَا؛ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا
تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة، وَالشَّرْع ورد بعصمة هَذِه
الْأمة) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان النّسخ: شرع فِي بَيَان الْإِجْمَاع
وَهُوَ: الْبَاب الْحَادِي عشر، الْإِجْمَاع فِي اللُّغَة:
الْعَزْم والاتفاق، يُقَال: " أجمع الْقَوْم " أَي: عزموا،
وَاتَّفَقُوا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَأَجْمعُوا أَمركُم}
[يُونُس الْآيَة: 71] وَفِي الِاصْطِلَاح: اتِّفَاق عُلَمَاء
أهل الْعَصْر على حكم شَرْعِي.
(1/200)
فَقَوله: " اتِّفَاق الْعلمَاء " ليخرج
الْعَوام؛ إِذْ لَيْسُوا من أهل الِاجْتِهَاد، وَلَا يُمكن
الْوُقُوف على قَول كل فَرد مِنْهُم؛ لكثرتهم، بِخِلَاف
الْعلمَاء.
وَذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى اعْتِبَار مُوَافقَة
الْعَوام؛ لأَنهم من الْأمة، وَقد حكم لَهُم بالعصمة؛ لعدم
اجْتِمَاعهم على الضَّلَالَة.
وَقَوله: " عُلَمَاء الْعَصْر " ليخرج من بعدهمْ؛ لأَنهم إِذا
اجْتَمعُوا فِي الْعَصْر الْوَاحِد على حكم لَا يضر من خالفهم
بعده.
(1/201)
وَقَوله: " ونعني بالعلماء " الْفُقَهَاء
"؛ ليخرج الْمُتَكَلِّمين والنحويين وَغَيرهم.
المُرَاد بالفقهاء: المجتهدون المستنبطون الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة بالأدلة.
بِخِلَاف من نقل مذْهبه عَن غَيره، فَإِنَّهُ لم يكن مِنْهُم،
وَلَا تضر مخالفتهم.
وَقَوله: " إِجْمَاع هَذِه الْأمة حجَّة " إِلَى آخِره؛ ليخرج
غَيرهَا كاليهود وَالنَّصَارَى؛ فَإِن إِجْمَاعهم لَيْسَ
بِحجَّة.
وَإِنَّمَا كَانَ إِجْمَاع هَذِه الْأمة حجَّة؛ لعدم إِمْكَان
اتِّفَاق جمَاعَة عَظِيمَة شريفة مشهود لَهُم بالعصمة [عَن]
الْبَاطِل، وَلِهَذَا كَانَ السّلف يشددون التنكير على
(1/202)
مُخَالف الْإِجْمَاع وَالله أعلم.
[حجية إِجْمَاع الْمُجْتَهدين مُطلقًا، وَهل يشْتَرط انْقِرَاض
الْعَصْر]
قَالَ: (وَالْإِجْمَاع حجَّة على الْعَصْر الثَّانِي، وَأي عصر
كَانَ، وَلَا يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر على الصَّحِيح، فَإِن
قُلْنَا: انْقِرَاض الْعَصْر شَرط: فَيعْتَبر قَول من ولد فِي
حياتهم، وتفقه، وَصَارَ من أهل الِاجْتِهَاد، وَلَهُم أَن
يرجِعوا عَن ذَلِك) .
أَقُول: يُشِير إِلَى أَن إِجْمَاع الْعَصْر الأول حجَّة فِي
الْعَصْر الثَّانِي.
وَكَذَا: إِجْمَاع كل عصر حجَّة لمن يعدهم إِلَى الْأَبَد.
(1/203)
خلافًا للظاهرية فَلم يثبتوا الْإِجْمَاع
إِلَّا للصحابة - فَقَط - وَلِهَذَا قَالَ: " وَأي عصر كَانَ
".
وَهل يشْتَرط لانعقاد [إِجْمَاع] الْعَصْر الثَّانِي انْقِرَاض
الْعَصْر الأول؟ قَولَانِ: -
صحّح الشَّيْخ - رَحمَه الله - وَجَمَاعَة: أَنه لَا يشْتَرط
انقراضهم؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام شهد لَهُم بالعصمة من
غير تَخْصِيص وَقت دون وَقت.
(1/204)
وَذهب أَبُو بكر بن فورك وَغَيره إِلَى
اشْتِرَاط انقراضهم؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ رُجُوع بعض من
اتّفق مَعَهم كَمَا جرى لعَلي رَضِي الله عَنهُ - وافقهم فِي
عدم بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، ثمَّ - بعد ذَلِك - رأى
بيعهنَّ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي
(1/205)
رَأْيك فِي الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من
رَأْيك وَحدك " فَدلَّ على اشْتِرَاط انقراضهم، وَإِلَّا: لم
يجز لَهُ الرُّجُوع وخرق الْإِجْمَاع.
(1/206)
وَالأَصَح: الأول؛ لِأَن الانقراض لَو
كَانَ شرطا: لأمتنع حُصُول الْإِجْمَاع؛ لِإِمْكَان أَن يرجع
بَعضهم.
ورد قَول من اسْتدلَّ بقول عَليّ ب: أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد
على عدم بيع أم الْوَلَد، وَلم يلتفتوا إِلَى أَي رَأْي
وَاحِد؛ إِذْ لَا تَأْثِير لَهُ فِي خرق الْإِجْمَاع.
[الْإِجْمَاع السكوتي وحجية قَول الصَّحَابِيّ]
قَالَ: (وَالْإِجْمَاع يَصح بقَوْلهمْ، وفعلهم، وَبقول
الْبَعْض، وَفعل الْبَعْض وانتشار ذَلِك، وسكوت البَاقِينَ
عَنهُ، وَقَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة لَيْسَ بِحجَّة على
الْجَدِيد، وَفِي الْقَدِيم حجَّة) .
أَقُول: غَايَة مَا فِيهِ: أَن الْإِجْمَاع ينْعَقد بأفعالهم،
كَمَا ينْعَقد بأقوالهم.
و" بقول الْبَعْض، وَفعل الْبَعْض " يُشِير إِلَى أَن بعض
عُلَمَاء الْعَصْر إِذا ذَهَبُوا إِلَى قَول وَلم يخالفوهم
الْآخرُونَ، أَو إِلَى فعل، وانتشر ذَلِك القَوْل أَو الْفِعْل
وَسكت الْبَاقُونَ من غير إِنْكَار: كَانَ إِجْمَاعًا
كَأَنَّهُمْ راضون بِهِ، وَلِهَذَا قَيده بالانتشار.
(1/207)
وَإِن لم ينتشر: فَلَيْسَ بِإِجْمَاع؛
لاحْتِمَال ذُهُول الْبَعْض عَنهُ.
وَأما قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة: [ف] لَيْسَ بِحجَّة فِي
الْجَدِيد؛ لجَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ.
وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى انه حجَّة.
وَلِهَذَا قدر جعل رد الْآبِق بِأَرْبَعِينَ درهما لأثر ابْن
مَسْعُود.
وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ،
بِأَيِّهِمْ افتديتم اهْتَدَيْتُمْ) وَهَذَا
(1/208)
دَلِيل على وجوب الْأَخْذ بقول كل وَاحِد
مِنْهُم.
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم وَالله أعلم.
[تَعْرِيف الْخَبَر، وأقسامه، وتعريف الْمُتَوَاتر]
قَالَ: (وَأما الْأَخْبَار: فَالْخَبَر: مَا يدْخلهُ الصدْق
وَالْكذب، وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى:
آحَاد، ومتواتر، فالمتواتر: مَا يُوجب الْعلم، وَهُوَ: أَن
يروي جمَاعَة لَا يَقع التواطؤ على الْكَذِب من مثلهم إِلَى
أَن يَنْتَهِي إِلَى الْمخبر عَنهُ، وَيكون فِي الأَصْل عَن
مُشَاهدَة، أَو سَماع، لَا عَن اجْتِهَاد وأخبار) .
أَقُول: لما فرغ من بَيَان الْإِجْمَاع: شرع فِي بَيَان
الْأَخْبَار، وَهُوَ الْبَاب الثَّانِي عشر.
وَالْأَخْبَار هِيَ: طَرِيق ثُبُوت السّنة الشَّرِيفَة
إِلَيْنَا.
وَقد اخْتلفُوا فِي رسم الْخَبَر: - فَذهب جمَاعَة إِلَى عدم
رسمه؛ إِذْ الرَّسْم للتعريف، وَالْخَبَر مَعْرُوف بِنَفسِهِ؛
(1/209)
إِذْ كل وَاحِد من الْعُقَلَاء يفرق بَين "
قَامَ زيد " وَبَين " قُم يَا زيد " فَهَذَا ظَاهر من غير رسم.
وَذهب الشَّيْخ - رَحمَه الله - إِلَى رسمه بِأَنَّهُ [مَا]
يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب.
وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ للْخَبَر، وَهُوَ جنس
لَهَا، وَلَا يجوز تَعْرِيف الْجِنْس بالنوع؛ لِأَن النَّوْع
لَا يعرف إِلَّا بِالْجِنْسِ.
وَفِيه نظر آخر: أَن الْخَبَر قد لَا يحْتَمل الْكَذِب
الْبَتَّةَ كَقَوْل الْقَائِل: " الله رَبنَا " و " مُحَمَّد
نَبينَا " و " النَّار حارة "، وَمَا أشبه ذَلِك مِمَّا لَا
يحْتَمل الْكَذِب.
وَمن الْأَخْبَار مَا لَا يكون إِلَّا كذبا كَقَوْل الْكفَّار:
" اتخذ الله ولدا " أَو " صاحبا " أَو " ثَالِث ثَلَاثَة "
تَعَالَى الله عَن ذَلِك، و " الْجُزْء أعظم من الْكل "
فَهَذَا لم
(1/210)
يحْتَمل الصدْق الْبَتَّةَ.
وَقَوله: " وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى آحَاد ومتواتر " ورسم
الْمُتَوَاتر بِمَا يُوجب الْعلم يَقِينا من غير ظن، وَلِهَذَا
أَشَارَ إِلَى حَقِيقَة التَّوَاتُر بقوله: وَهُوَ أَن يروي
جمَاعَة لَا يَقع التواطؤ على الْكَذِب من مثلهم عَن جمَاعَة
مثلهم - أَيْضا - وَكَذَلِكَ دَائِما: فَمَتَى خلت طبقَة من
الطَّبَقَات لم يكن متواتراً؛ لِأَن التَّوَاتُر: تواصل شَيْء
بعد شَيْء من غير انحصار عدد، بل إِذا أَفَادَ الْخَبَر الْعلم
يَقِينا علم كَمَال عدد
(1/211)
التَّوَاتُر.
وَذهب جمَاعَة إِلَى حصرهم:
مِنْهُم من قَالَ: أَرْبَعَة؛ لأَنهم أَكثر نِصَاب
الشَّهَادَة.
وَمِنْهُم من قَالَ: اثْنَي عشر، متمسكون بقوله تَعَالَى
{وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا} [الْمَائِدَة الْآيَة:
12] .
وَمِنْهُم من قَالَ: سَبْعُونَ؛ لقَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ
مُوسَى قومه سبعين رجلا} [الْأَعْرَاف الْآيَة: 155]
وَمِنْهُم من قَالَ: ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر رجلا كأصحاب
بدر.
(1/212)
وَالظَّاهِر: مَا سبق.
وَقَوله: " عَن مُشَاهدَة أَو سَماع " يُشِير إِلَى شَرط
التَّوَاتُر الْمُفِيد للْعلم: أَن يَنْتَهِي المخبرون إِلَى
الْمخبر عَنهُ بمشاهدة لفعله، أَو سَماع لقَوْله مَعَ تَصْدِيق
مَا سَمِعُوهُ، أَو شاهدوه.
فَلَو حصل لَهُم ذَلِك مِنْهُ بِظَنّ أَو اجْتِهَاد من أنفسهم:
لم يفد الْعلم؛ لتطرق الظنون إِلَيْهِ، فَيخرج عَن
التَّوَاتُر. وَالله أعلم.
[خبر الْآحَاد، تَعْرِيفه، تَعْرِيف الْمسند، والمرسل، حجية
الْمُرْسل]
قَالَ: (والآحاد: الَّذِي يُوجب الْعَمَل، وَلَا يُوجب الْعلم،
وينقسم إِلَى قسمَيْنِ: مُسْند، ومرسل، فَالْمُسْنَدُ: مَا
اتَّصل إِسْنَاده، والمرسل: مَا لم يتَّصل إِسْنَاده، فَإِن
كَانَ من مَرَاسِيل غير الصَّحَابَة فَلَيْسَ بِحجَّة، إِلَّا
مَرَاسِيل سعيد بن الْمسيب،
(1/213)
فَإِنَّهَا فتشت فَوجدت مُسْنده، والعنعنة
تدخل على الْإِسْنَاد) .
أَقُول: لما فرغ من أَخْبَار التَّوَاتُر: شرع [فِي] أَخْبَار
الْآحَاد، ورسم الْآحَاد ب: الَّذِي يُوجب الْعَمَل، وَلَا
يُوجب الْعلم؛ لِأَن خبر الْآحَاد ظَنِّي؛ لتطرق الْوَهم إِلَى
الْآحَاد.
وَالْمرَاد بالآحاد: مَا لم يبلغُوا رُتْبَة التَّوَاتُر.
لَا أَن يروي وَاحِد عَن وَاحِد، بل لَو روى خَمْسَة عَن
خَمْسَة وَلم تتواتر، أَو
(1/214)
خلق كثير عَن كثير، وَانْقطع بَين الروَاة
- كَمَا سبق - كَانَ آحاداً.
وَإِنَّمَا أَوجَبْنَا الْعَمَل بِهِ؛ اقتداءاً بِأَصْحَابِهِ
- رَضِي الله عَنْهُم -؛ لأَنهم كَانُوا إِذا اخْتلفُوا فِي
وَاقعَة رجعُوا إِلَى قَول آحَاد الصَّحَابَة، وَلم يُنكر
بَعضهم على بعض، وَلِهَذَا أَوجَبْنَا الْعَمَل بالآحاد: -
فَإِنَّهُم رجعُوا إِلَى الْغسْل من الْوَطْء من غير إِنْزَال
بقول عَائِشَة، وَفِي
(1/215)
تَوْرِيث الْجدّة بقول الْمُغيرَة،
وَمُحَمّد بن مسلمة.
وَغير ذَلِك.
(1/216)
ثمَّ قسم الْأَخْبَار [الآحادية] إِلَى
قسمَيْنِ: " مُسْند " و " مُرْسل ".
ورسم الْمسند ب " مَا اتَّصل إِسْنَاده.
وَالْمرَاد بالاتصال: أَن يروي شخص عَن شخص إِلَى الْمخبر
عَنهُ يُقَال: " أسْند الْخَبَر إِلَى فلَان: إِذا تَلقاهُ
مِنْهُ.
بِخِلَاف الْمُرْسل، وَهُوَ: إِذا قَالَ التَّابِعِيّ: قَالَ
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلم يذكر من سَمعه
مِنْهُ من الصَّحَابَة؛ إِذْ التَّابِعِيّ: لم يسمع من
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شَيْئا.
وَكَذَا من لم يسم من روى عَنهُ فَهَذَا لَيْسَ بِمُسْنَد؛
لعدم اتِّصَاله.
(1/217)
فَأَما مَرَاسِيل الصَّحَابَة فحجة.
وَهُوَ: أَن يخبر من غير تعرضه للمخبر عَنهُ، سَوَاء كَانَ
النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، أَو صَحَابِيّ مثله،
لِأَن فِي الْغَالِب لَا يروي الصَّحَابِيّ إِلَّا مَا سَمعه
من مثله، أَو من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
وَأما مَرَاسِيل غير الصَّحَابَة: فَذهب الشَّافِعِي إِلَى
أَنَّهَا لَيست بِحجَّة؛ لِأَن
(1/218)
إهمال الرَّاوِي الْإِسْنَاد دَال على
ضعفه.
وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى أَنه حجَّة؛ لِأَنَّهُ مَا
حذفه إِلَّا تَزْكِيَة لقائله.
وَرُبمَا يذكر الشَّيْخ؛ لعدم التَّزْكِيَة.
(1/219)
ثمَّ اسْتثْنى الشَّيْخ - رَحمَه الله
تَعَالَى - مَرَاسِيل سعيد.
ثمَّ عللها أَنَّهَا فتشت فَوجدت مسانيد.
وَفِي هَذَا التَّعْلِيل نظر فَكَأَن الْأَخْذ بالسند، لَا
بِالْإِرْسَال، لَكِن نقُول: إِنَّمَا كَانَ يُرْسل عَن أبي
هُرَيْرَة - فَقَط -، وَلَو ذكره لوَجَبَ الْعَمَل بِهِ،
بِخِلَاف غَيره لَو سَمَّاهُ: فَيحْتَمل أَن يقبل، وَيحْتَمل
أَن لَا يقبل.
قَوْله: " والعنعنة تدخل على الْإِسْنَاد " وَهُوَ: أَن يَقُول
الرَّاوِي " عَن فلَان " من غير أَن يُسَمِّي شَيْخه.
لَكِن هَذِه العنعنة لَا تخرجه عَن الْإِرْسَال، بل إِن كَانَ
الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ يُمكن لقاه: فَهُوَ مُسْند، إِلَّا إِذا
كَانَ الرَّاوِي مدلساً وَهُوَ: أَن يروي عَن رجل ضَعِيف
مَشْهُور يُوهِمهُ على السَّامع. فَهَذَا لم يكن مُرْسلا،
وَلَا مُسْندًا، وَلم يقبل وَالله أعلم.
(1/220)
|