التمهيد في تخريج الفروع على الأصول الْفَصْل الثَّانِي فِي النواهي
مَسْأَلَة 1
النَّهْي هُوَ القَوْل الدَّال بِالْوَضْعِ على التّرْك وَقد
سبق فِي الْكَلَام على حد الْأَمر مَا يعلم مِنْهُ شرح هَذَا
الْحَد وَشرح مَا يتَعَلَّق بِهِ وَأَن الْعُلُوّ والاستعلاء
هَل يشترطان أم لَا
وَأَن لفظ النَّهْي يُطلق على الْمحرم وَالْمَكْرُوه بِخِلَاف
لَا تفعل وَنَحْوه فَإِنَّهُ عِنْد تجرده عَن الْقَرَائِن يحمل
على التَّحْرِيم على الصَّحِيح عِنْد الإِمَام فَخر الدّين
والآمدي وَغَيرهمَا وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الرسَالَة
فِي بَاب الْعِلَل فِي الْأَحَادِيث
وَاخْتلفُوا ايضا فِي دلَالَته على التّكْرَار والفور
وَالْمَشْهُور دلَالَته عَلَيْهَا
إِذا علمت ذَلِك كُله فيتفرع على أَنه للتَّحْرِيم
(1/290)
1 - مَا إِذا أَشَارَ السَّيِّد إِلَى
شَيْء من الْمُبَاحَات بطرِيق الْأَصَالَة وَقَالَ لَا
تَفْعَلهُ أَو أذن لَهُ فِي تصرف ثمَّ ذكر بعده هَذَا اللَّفْظ
إِلَّا إِذا قَامَت قرينَة على إِلْزَام تَحْصِيله وَهُوَ
الْغَالِب
مَسْأَلَة 2
سبق فِي الْفَصْل الأول وَهُوَ الْمَعْقُود للأوامر أَن
الْأَمر بعد التَّحْرِيم للْإِبَاحَة على الْمَعْرُوف وَقيل
للْوُجُوب وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَحْصُول ومختصراته
وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ للْإِبَاحَة فِي النَّهْي
بعد الْوُجُوب فَقيل إِنَّه للْإِبَاحَة أَيْضا طردا للقاعدة
وَقيل للتَّحْرِيم لِأَن النَّهْي يعْتَمد الْمفْسدَة
وَالْأَمر يعْتَمد الْمصلحَة واعتناء الشَّارِع بِدفع
الْمَفَاسِد أَشد من اعتنائه بجلب الْمصَالح
وَقد سبق عَن الْمَحْصُول أَن الْأَمر بعد الاسْتِئْذَان
كالأمر بعد التَّحْرِيم لِأَن الْمَقْصُود رفع الْمَانِع
وَقِيَاسه أَن يكون النَّهْي أَيْضا بعد الاسْتِئْذَان كالنهي
بعد الْوُجُوب
إِذا تقرر هَذَا فَمن فروع الْمَسْأَلَة
1 - مَا إِذا أوصى باكثر من الثُّلُث وَفِيه قَولَانِ أصَحهمَا
أَنه صَحِيح وَلَكِن يتَوَقَّف على إجَازَة الْوَرَثَة
وَالثَّانِي أَنه بَاطِل
(1/291)
بِالْكُلِّيَّةِ وَسبب التَّرَدُّد قصَّة
سعد بن أبي وَقاص فَإِنَّهُ مرض فِي حجَّة الْوَدَاع فعاده
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن
لي مَالا كثيرا وَلَيْسَ لي إِلَّا ابْنة وَاحِدَة أفأتصدق
بِالنِّصْفِ قَالَ لَا قَالَ فبالثلث قَالَ بِالثُّلثِ وَالثلث
كثير إِلَى آخر الحَدِيث ومنشأ الْخلاف فِي مَسْأَلَتنَا من
تِلْكَ الْقَاعِدَة غير خَافَ
مَسْأَلَة 3
هَل يدل النَّهْي على الْفساد فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا لَا يدل عَلَيْهِ مُطلقًا وَنَقله فِي الْمَحْصُول عَن
أَكثر الْفُقَهَاء والآمدي عَن الْمُحَقِّقين
وَالثَّانِي يدل مُطلقًا وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب
وَالثَّالِث وَهُوَ الْمُخْتَار فِي الْمَحْصُول يدل عَلَيْهِ
فِي الْعِبَادَات
(1/292)
دون الْمُعَامَلَات
وَالرَّابِع أَنه يدل مُطلقًا فِي الْعِبَادَات كَمَا
ذَكرْنَاهُ وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَات إِلَّا إِذا رَجَعَ
إِلَى أَمر مُقَارن للْعقد غير لَازم لَهُ بل يَنْفَكّ عَنهُ
كالنهي عَن البيع يَوْم الْجُمُعَة وَقت النداء فَإِن النَّهْي
إِنَّمَا هُوَ لخوف تَفْوِيت الصَّلَاة لَا لخُصُوص البيع إِذْ
الْأَعْمَال كلهَا كَذَلِك والتفويت غير لَازم لماهية البيع
وَهَذَا القَوْل نَقله ابْن برهَان فِي الْوَجِيز عَن
الشَّافِعِي وَاخْتَارَهُ الإِمَام فَخر الدّين فِي المعالم
فِي أثْنَاء الِاسْتِدْلَال فتفطن لَهُ وَنَقله الْآمِدِيّ
بِالْمَعْنَى عَن أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي وَاخْتَارَهُ
فَتَأَمّله وَرَأَيْت فِي الْبُوَيْطِيّ والرسالة مثله إِلَّا
أَن الصِّحَّة فِي الْمُقَارن ذكرهَا فِي مَوضِع آخر
وَحَيْثُ قُلْنَا يدل على الْفساد فَقيل يدل من جِهَة اللُّغَة
وَالصَّحِيح عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب أَنه لَا يدل
إِلَّا من جِهَة الشَّرْع
وَإِذا قُلْنَا النَّهْي لَا يدل على الْفساد فَبَالغ بَعضهم
وَقَالَ يدل على الصِّحَّة لِأَن التَّعْبِير بِهِ يَقْتَضِي
انْصِرَافه إِلَى الصَّحِيح إِذْ يَسْتَحِيل النَّهْي عَن
المستحيل وَاخْتَارَ الْغَزالِيّ فِي مَوضِع من الْمُسْتَصْفى
(1/293)
هَذَا القَوْل ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فِي
هَذَا الْبَاب إِنَّه فَاسد
إِذا علمت ذَلِك فالتفاريع الْفِقْهِيَّة عندنَا فِي الْعُقُود
مُوَافقَة لما ذَكرْنَاهُ وَلِهَذَا صححنا البيع وَقت النداء
وَبيع الْحَاضِر للبادي وَالْبيع وَالشِّرَاء على بيع أَخِيه
وشرائه وَنَحْو ذَلِك لكَونه مُقَارنًا غير لَازم وأبطلناه فِي
شِرَاء الْغَائِب وَبيعه والتفريق بَين الْجَارِيَة وَوَلدهَا
وَنَحْو ذَلِك للُزُوم الْمَعْنى
وَأما الْعِبَادَات فأجبنا بالقاعدة فِي أَكثر الْأَشْيَاء على
خلاف فِي بَعْضهَا كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة
وَصَوْم يَوْم الشَّك وَنَحْو ذَلِك لَكِن خالفناها فِي
أَشْيَاء فأجبنا بِالصِّحَّةِ مَعَ التَّحْرِيم وَهُوَ أَشد
فِي الْمُخَالفَة
مِنْهَا الصِّحَّة عِنْد اسْتِعْمَال الْمَغْصُوب فِي الطهارات
وَالصَّلَاة كالمياه وَالتُّرَاب والخف وأحجار الِاسْتِنْجَاء
وَستر الْعَوْرَة وَمَكَان الصَّلَاة وَغير ذَلِك
مَسْأَلَة 4
التّرْك هَل هُوَ من قسم الْأَفْعَال أم لَا فِيهِ مذهبان
أصَحهمَا عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا نعم
وَلِهَذَا قَالُوا فِي حد الْأَمر إِنَّه اقْتِضَاء فعل غير كف
(1/294)
إِذا علمت ذَلِك فَمن فروعه
1 - مَا إِذا نزلت من رَأس الصَّائِم نخامة وحصلت فِي حد
الظَّاهِر من الْفَم فَإِن قطعهَا ومجها لم يفْطر وَإِن
ابتلعها قصدا افطر وَإِن تَركهَا حَتَّى نزلت بِنَفسِهَا
فَوَجْهَانِ أصَحهمَا الْفطر ايضا ومدركهما مَا ذَكرْنَاهُ
2 - وَمِنْهَا مَا لَو طعنه فوصلت الطعنة إِلَى جَوْفه وَكَانَ
قَادِرًا على دَفعه وَلَكِن تَركه فَفِي الْفطر ايضا وَجْهَان
حَكَاهُمَا النوي فِي شرح الْمُهَذّب وَقَالَ أقيسهما عدم
الْفطر
وَكَأن الْفرق بَين هَذِه وَالَّتِي قبلهَا أَن الطعْن لَيْسَ
محققا بل الْوَازِع من تعاطيه قَائِم وَهُوَ عُقُوبَة
الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى بِخِلَاف نزُول النخامة
3 - وَمِنْهَا لَو أَلْقَاهُ فِي نَار لَا يُمكنهُ الخلوص
مِنْهَا فَمَاتَ فَعَلَيهِ الْقصاص وَإِن أمكنه التَّخَلُّص
فَلم يفعل حَتَّى هلك فَلَا يجب وَفِيه وَجه وَأما الدِّيَة
فَفِيهَا قَولَانِ أصَحهمَا عدم الْوُجُوب أَيْضا لِأَنَّهُ
الْقَاتِل لنَفسِهِ باستمراره نعم يجب ضَمَان مَا تأثر
بالنَّار بِأول الملاقاة قبل تَقْصِيره فِي الْخُرُوج سَوَاء
كَانَ أرش عُضْو أَو حُكُومَة قطعا
4 - وَمن الْفُرُوع الْمُخَالفَة لمقْتَضى مَا سبق تَصْحِيحه
لَو دبت الزَّوْجَة الصَّغِيرَة فارتضعت من أم الزَّوْج مثلا
وَهِي مستيقظة ساكتة فَهَل يُحَال
(1/295)
الرَّضَاع على الْكَبِيرَة لرضاها أم لَا
لعدم فعلهَا فِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ عَن ابْن
كج من غير تَرْجِيح قَالَ فِي الرَّوْضَة من زوائده اصحهما
الثَّانِي
5 - وَمِنْهَا مَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي آخر تَعْلِيق
الطَّلَاق عَن فَتَاوَى الْقفال أَنه لَو قَالَ لزوجته إِن
فعلت مَا لَيْسَ لله تَعَالَى فِيهِ رضى فَأَنت طَالِق فَتركت
صوما أَو صَلَاة فَيَنْبَغِي أَن لَا تطلق لِأَنَّهُ ترك
وَلَيْسَ بِفعل فَلَو سرقت أَو زنت طلقت
قلت وعَلى قِيَاس مَا قَالَه يَنْبَغِي أَن لَا يَحْنَث فِي
الزِّنَا إِذا كَانَ الْمَوْجُود مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ
مُجَرّد التَّمْكِين على الْعَادة لِأَنَّهُ أَيْضا ترك
للدَّفْع وَلَيْسَ بِفعل من الْمَرْأَة
(1/296)
|