الفروق للكرابيسي [كِتَاب الْوَدِيعَة]
446 - وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: اسْتَوْدَعْتَنِي أَلْفَ
دِرْهَمٍ فَضَاعَتْ، وَقَالَ الطَّالِبُ: بَلْ غَصَبْتَهَا،
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَخَذْتُ مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَدِيعَةً فَضَاعَتْ، وَقَالَ الطَّالِبُ: لَا بَلْ
غَصَبْتَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ اسْتَوْدَعْتَنِي فَلَمْ
يَحْكِ عَنْ نَفْسِهِ فِعْلًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ،
وَإِنَّمَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى غَيْرِهِ، فَأَفْرَدَهُ
بِالْفِعْلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَضَعْتهَا بِالْقُرْبِ
مِنِّي فَضَاعَتْ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَمْ يَجِبْ
الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ هَذَا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا قَالَ: " أَخَذْتهَا؛ لِأَنَّهُ
أَضَافَ فِعْلَ الْأَخْذِ إلَى نَفْسِهِ، وَالْأَخْذُ فِعْلٌ
مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ:
(2/29)
«عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى
تَرُدَّ» ، فَقَدْ أَقَرَّ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ،
وَادَّعَى الْبَرَاءَةَ فَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى دَعْوَى
الْبَرَاءَةِ وَغَرِمَ، كَمَا لَوْ قَالَ: " هَدَمْت جِدَارَك
بِإِذْنِك، وَمَزَّقْت ثَوْبَك بِإِذْنِك.
447 - إذَا اسْتَعَارَ شَيْئًا لَهُ حِمْلٌ وَمَئُونَةٌ مِثْلُ
الرَّحَى وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ
فَمَئُونَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَكَذَلِكَ
مَئُونَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ.
وَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ شَيْئًا لَهُ حِمْلٌ وَمَئُونَةٌ
فَمَئُونَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُكْرِي دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ يَدٌ لِنَفْسِهِ،
بِدَلِيلِ مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ، فَلَوْ
أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مَئُونَةَ الرَّدِّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ
الرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ، فَجَازَ أَنْ تَلْزَمَهُ،
الْمَئُونَةُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ
لِلْمُكْرِي، بِدَلِيلِ مَا بَيَّنَّا فَلَوْ أَوْجَبْنَا
عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ فِيمَا يَرُدُّ لَجَعَلْنَا لَهُ
الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، فَمِنْ حَيْثُ يَرُدُّ يَرْجِعْ
عَلَيْهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ.
448 - قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَإِنْ قَالَ الْمُودِعُ: بَعَثْتُ
الْوَدِيعَةِ إلَيْك مَعَ رَسُولِي وَسَمَّى أَجْنَبِيًّا
فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يُقِرَّ الْمُعِيرُ بِوُصُولِهَا
إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُودِعَ،
وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ.
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ لَهُ الْإِمْسَاكَ عَلَى
وَجْهٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُ،
وَالْإِعَارَةُ نَوْعُ انْتِفَاعٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ
الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ، وَانْتِفَاعُهُ وَانْتِفَاعُ
(2/30)
غَيْرِهِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ وَصَارَ
مَأْذُونًا فَلَا يَغْرَمُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا أَوْدَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يُمْسِكْهُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي أُذِنَ لَهُ
فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ
لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِالْإِيدَاعِ فَإِذَا لَمْ
يُمْسِكْهُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ
أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا لَهُ
أَنْ يُودِعَ لَجَعَلْنَاهُ كَأَنَّهُ أَوْدَعَ بِإِذْنِ
الْمُعِيرِ، فَيُؤَدِّي إلَى إلْزَامِ رَبِّ الْمَالِ
مَئُونَةَ الرَّدِّ، وَسَقَطَ مَئُونَةُ الْمُودِعِ عَنْ
الْمُسْتَعِيرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا أَعَارَ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ الرَّدِّ
عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الثَّانِي،
وَتَسْقُطُ مَئُونَةُ الْمُودِعِ إذَا جَعَلْنَا إعَارَتَهُ
بِإِذْنِ الْمَوْلَى الْمَالِيِّ، فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ
بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى إغْرَامِ رَبِّ الْمَالِ
مَئُونَةَ الرَّدِّ، فَجَازَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/31)
|