الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كُلُّ كَلَامٍ مُفِيدٍ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ: فَأَمَّا الْحَقِيقَةُ , فَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ , وَحْدَهُ: كُلُّ لَفْظٍ اسْتُعْمِلَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ , فَقَدْ يَكُونُ لِلْحَقِيقَةِ مَجَازٌ , كَالْبَحْرِ , فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَاءِ الْمُجْتَمِعِ الْكَثِيرِ , وَمَجَازٌ فِي الرَّجُلِ الْعَالِمِ وَالْفَرَسِ وَالْجَوَادِ

(1/213)


أنا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ , - بِالْبَصْرَةِ - , نا أَبُو الْحَسَنِ , عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَادَرَائِيُّ , نا ابْنُ أَبِي زَكَرِيَّا , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعَنَزِيُّ , نا أَبُو أُسَامَةَ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ مُجَاهِدٍ , قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ «يُسَمَّى الْبَحْرَ مِنْ كَثْرَةِ عِلْمِهِ»

(1/213)


أنا أَبُو الْقَاسِمِ , عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْفَقِيهُ , نا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ النِّجَادُ , نا جَعْفَرٌ الصَّائِغُ , نا فُضَيْلُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ , نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , عَنْ ثَابِتٍ , عَنْ أَنَسٍ , قَالَ: رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ , فَلَمَّا نَزَلَ عَنْهُ قَالَ: «وَجَدْتُهُ بَحْرًا» [ص:214] قَالَ لَنَا أَبُو الْقَاسِمِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَجَازِ , لِأَنَّهُ شَبَّهَ سُرْعَةَ الْفَرَسِ فِي جِرْيِهِ بِالْبَحْرِ وَجَرَيَانِهِ وَهَوْلِهِ وَعِظَمِهِ فَإِذَا وَرَدَ لَفْظٌ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِإِطْلَاقِهِ , وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ إِلَّا بِدَلِيلٍ , وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ مَجَازٌ , فَيُحْمَلُ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ وَأَمَّا الْمَجَازُ فَحَدُّهُ: كُلُّ لَفْظٍ نُقِلَ عَمَّا وُضِعَ لَهُ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ , وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ , أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ , إِنَّمَا يَكُونُ لِلضَّرُورَةِ , وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ , فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ مَجَازٌ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَعَادَتُهَا , فَإِنَّهَا تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ , أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ , وَتَحْذِفُ جُزْءًا مِنَ الْكَلَامِ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ , إِذَا كَانَ فِيمَا أُبْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُلْقِيَ , وَتَحْذِفُ الْمُضَافَ وَتُقِيمُ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَتُعْرِبُهُ بِإِعْرَابِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ , وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِهَا وَمَذَاهِبِهَا وَلُغَاتِهَا , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] , وَنَحْنُ نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّ الْجِدَارَ لَا إِرَادَةَ لَهُ

(1/213)


أنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ , أنا أَبُو بَكْرٍ , أَحْمَدُ بْنُ كَامِلِ بْنِ خَلَفِ بْنِ شَجَرَةٍ الْقَاضِي , أنا أَبُو الْعَبَّاسِ , أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ , [ص:215] نا عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْأَثْرَمُ , عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ , مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: " لَيْسَ لِلْحَائِطِ إِرَادَةٌ وَلَا لِلْمَوَاتِ وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَهُوَ إِرَادَتُهُ , وَهَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ فِي غَيْرِهِ:
[البحر الوافر]
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ ... وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عَقِيلٍ"

(1/214)


أنا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ , نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ , نا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ السَّمُرِيُّ , حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] , يُقَالُ: كَيْفَ يُرِيدُ الْجِدَارُ أَنْ يَنْقَضَّ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: " وَذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا: الْجِدَارُ يُرِيدُ أَنْ يَسْقُطَ" وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154] , وَالْغَضَبُ لَا يَسْكُتُ , إِنَّمَا يَسْكُتُ صَاحِبُهُ , وَمَعْنَاهُ: سَكَنَ , وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21] , إِنَّمَا يَعْزِمُ الْأَمْرَ أَهْلُهُ , وَقَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الخفيف]
إِنَّ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجَمَلِ ... لَزَمَانٌ يَهُمَّ بِالْإِحْسَانِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
[البحر الرجز]
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى

(1/215)


وَالْجَمَلُ لَمْ يَشْكُ , إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَطَقَ لَقَالَ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
[البحر الكامل]
وَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ ... وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
قُلْتُ: وَنَحْوُ مَا ذَكَرْنَا , قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] , وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ , أَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تُخَاطَبُ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]

(1/216)


أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ , أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ الْمُقْرِئُ , أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بُكَيْرٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ , يَقُولُ: " قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] , فَذَهَبَ بِهِ قَوْمٌ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ بَكَتِ الرِّيحُ وَالْبَرْقُ , كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ حِينَ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَهُمْ , وَأَوْرَثَ مَنَازِلَهُمْ وَجَنَّاتِهِمْ غَيْرَهُمْ , لَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ بَاكٍ , وَلَمْ يَجْزَعْ جَازِعٌ , وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمْ فَقْدٌ وَقَالَ آخَرُونَ: أَرَادَ فَمَا بَكَا عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَلَا أَهْلُ الْأَرْضِ , فَأَقَامَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مَقَامَ أَهْلِهِمَا , كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ , وَقَالَ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] , أَيْ: يَضَعَ

(1/216)


أَهْلُ الْحَرْبِ السِّلَاحَ " قُلْتُ: وَالْمَجَازُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ , يَشْتَمِلُ عَلَى فُنُونٍ: فَمِنْهَا: الِاسْتِعَارَةُ , وَالتَّمْثِيلُ , وَالْقَلْبُ , وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ , وَالْحَذْفُ , وَالتِّكْرَارُ , وَالْإِخْفَاءُ وَالْإِظْهَارُ , وَالتَّعْرِيضُ , وَالْإِفْصَاحُ , وَالْكِنَايَةُ , وَالْإِيضَاحُ , وَمُخَاطَبَةُ الْوَاحِدِ مُخَاطَبَةَ الْجَمِيعِ , وَمُخَاطَبَةُ الْجَمِيعِ مُخَاطَبَةَ الْوَاحِدِ , وَخِطَابُ الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ خَطَّابَ الِاثْنَيْنِ , وَالْقَصْدُ بِلَفْظِ الْخُصُوصِ مَعْنَى الْعُمُومِ , وَبِلَفْظِ الْعُمُومِ مَعْنَى الْخُصُوصِ , وَبِجَمِيعِ ذَلِكَ نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى كِتَابَ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَرَسَمَ الْعُلَمَاءَ مِنْ بَعْدِهِ فِي ذَلِكَ كُتُبًا , عُرِفَتْ وَاشْتَهَرَتْ , لَا يَتَعَذَّرُ وُجُودُهَا عَلَى مَنْ أَرَادَهَا , إِنْ شَاءَ اللَّهُ

(1/217)