الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي بَابُ الْقَوْلِ فِي تَعَارُضِ
الْعِلَّتَيْنِ وَتَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
اعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ
مُوجِبَيْنِ لِلْعِلْمِ , لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَزَايَدُ ,
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ لَا
يَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ
عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لَهُ , وَبَيْنَ دَلِيلٍ أَوْ عِلَّةٍ
يُوجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الظَّنَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ,
وَلَأَنَّ الْمُقْتَضِي لِلظَّنِّ لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ
الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ , وَلَوْ رَجَحَ بِمَا رَجَحَ لَكَانَ
الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ مُقَدِّمًا عَلَيْهِ , فَلَا مَعْنَى
لِلتَّرْجِيحِ , فَمَتَى تَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ , وَاحْتِيجَ
فِيهِمَا إِلَى التَّرْجِيحِ , رُجِّحَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى بِوَجْهٍ مِنَ التَّرْجِيحِ: فَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ
تَكُونَ إِحْدَاهُمَا مُنْتَزَعَةً مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ
, وَالْأُخْرَى مِنْ أَصْلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ ,
فَالْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّ
أَصْلَهَا أَقْوَى وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ
إِحْدَاهُمَا مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ قَدْ عُرِفَ
دَلِيلُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَيَكُونُ أَقْوَى مِمَّا
أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْرَفْ دَلِيلُهُ عَلَى
التَّفْصِيلِ , لِأَنَّ مَا عُرِفَ دَلِيلُهُ يُمْكِنُ
النَّظَرُ فِي مَعْنَاهُ , وَتَرْجِيحُهُ عَلَى غَيْرِهِ
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ إِحْدَاهُمَا قَدْ عُرِفَ
بِنُطْقٍ , وَأَصْلُ الْأُخْرَى
(1/524)
قَدْ عُرِفَ بِمَفْهُومٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ
, فَمَا عُرِفَ بِالنُّطْقِ أَوْلَى , وَالْمُنْتَزَعُ مِنْهُ
يَكُونُ أَقْوَى وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ إِحْدَاهُمَا
مِنْ جِنْسِ الْفَرْعِ , فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ
قِيَاسِهِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَمِنْهَا: أَنْ
تَكُونَ إِحْدَاهُمَا مَرْدُودَةً إِلَى أَصْلٍ , وَالْأُخْرَى
مَرْدُودَةً إِلَى أُصُولٍ , فَالْمَرْدُودَةُ إِلَى أُصُولٍ
أَوْلَى , لِأَنَّ مَا كَثُرَتْ أُصُولُهُ أَقْوَى وَمِنْهَا:
أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا مَنْصُوصًا عَلَيْهَا ,
وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , فَالْعِلَّةُ
الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا أَوْلَى , لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى
مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا
تَقْتَضِي احْتِيَاطًا فِي فَرْضٍ , وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ
كَذَلِكَ , فَالَّتِي تَقْتَضِي الِاحْتِيَاطَ أَوْلَى ,
لِأَنَّهَا أَسْلَمُ فِي الْمُوجِبِ وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ
مَعَ إِحْدَاهُمَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ فَهِيَ أَوْلَى , لِأَنَّ
قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ , فِي مَذْهَبِ بَعْضِ
الْعُلَمَاءِ , فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى الْقِيَاسِ قَوَّاهُ
(1/525)
|