الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي بَابُ الْكَلَامِ فِي: اسْتِصْحَابِ
الْحَالِ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ ضِرْبَانِ: أَحَدُهُمَا:
اسْتِحْبَابُ حَالِ الْعَقْلِ وَالثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ
الْإِجْمَاعِ فَأَمَّا اسْتِصْحَابُ حَالِ الْعَقْلِ فَهُوَ:
الرُّجُوعُ إِلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فِي الْأَصْلِ ,
وَذَلِكَ طَرِيقٌ يَفْزَعُ الْمُجْتَهِدُ إِلَيْهِ عِنْدَ
عَدَمِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ , مِثَالُهُ: أَنْ يُسْأَلَ
شَافِعِيُّ عَنِ الْوِتْرِ فَيَقُولُ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ ,
فَإِذَا طُولِبَ بِدَلِيلٍ يَقُولُ: لِأَنَّ طَرِيقَ وُجُوبِهِ
الشَّرْعُ , وَقَدْ طَلَبْتُ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ مِنْ
جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَمْ أَجِدْ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ
وَاجِبًا وَأَنْ تَكُونَ ذِمَّتُهُ بَرِيئَةً مِنْهُ كَمَا
كَانَتْ قَبْلُ , فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: مَا تُنْكِرُ أَنْ
يَكُونَ الدَّلِيلُ مَوْجُودًا , وَأَنْتَ مُخْطِئٌ فِي
الطَّلَبِ , وَتَارِكٌ لِلدَّلِيلِ الْمُوجِبِ قَالَ لَهُ: لَا
يَجِبُ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنَ الطَّلَبِ , وَإِذَا لَمْ أَجِدْ
لَزِمَنِي تَبْقِيَهُ الذِّمَّةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ كَمَا
كَانَتْ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ لَيْسَ يَلْزَمُهُ
الِانْتِقَالُ عَنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ إِلَّا بِدَلِيلٍ
شَرْعِيٍّ يَنْقُلُهُ عَنْهُ , فَإِنْ وَجَدَ دَلِيلًا مِنْ
أَدِلَّةِ الشَّرْعِ انْتَقَلَ عَنْهُ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ
الدَّلِيلُ نُطْقًا أَوْ مَفْهُومَ نَصٍّ أَوْ ظَاهِرًا ,
لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ إِنَّمَا اسْتَصْحَبَهَا لِعَدَمِ
دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ , فَأَيُّ دَلِيلٍ ظَهَرَ مِنْ جِهَةِ
الشَّرْعِ حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ بَعْدَهُ
(1/526)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ
الْإِجْمَاعِ , مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ , فِي
الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ
أَنَّهُ يَمْضِي فِيهَا , لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا قَبْلَ
رُؤْيَةِ الْمَاءِ عَلَى انْعِقَادِ صَلَاتِهِ فَيَجِبُ أَنْ
يَسْتَصْحِبَ هَذِهِ الْحَالَ , بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ ,
حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يَنْتَقِلُ عَنْهُ لِأَجْلِهِ وَقَدِ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ
هُوَ دَلِيلٌ كَمَا أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ
شَكَّ فِي الْحَدَثِ , أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ ثُمَّ شَكَّ
فِي الطَّهَارَةِ , أَوْ تَيَقَّنَ النِّكَاحَ وَشَكَّ فِي
الطَّلَاقِ , أَوْ تَيَقَّنَ الْمِلْكَ وَشَكَّ فِي الْعِتْقِ
, أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ , وَيَكُونُ حُكْمُ
السَّابِقِ مُسْتَدَامًا فِي حَالِ الشَّكِّ فَكَذَلِكَ
هَاهُنَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِدَلِيلٍ , لِأَنَّ
الدَّلِيلَ هُوَ الْإِجْمَاعُ , وَالْإِجْمَاعُ إِنَّمَا
حَصَلَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ , فَإِذَا رَأَى الْمَاءَ ,
فَقَدْ زَالَ الْإِجْمَاعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ
حُكْمَ الْإِجْمَاعِ , فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ مِنْ غَيْرِ
عِلَّةٍ تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا
(1/527)
|