الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي بَابُ تَقْسِيمِ الْأَسْئِلَةِ
وَالْجَوَابَاتِ , وَوَصْفِ وُجُوهِ الْمَطَاعِنِ
وَالْمُعَارَضَاتِ السُّؤَالُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرِبٍ ,
يُقَابِلُ كُلَّ ضَرْبٍ مِنْهَا ضَرْبٌ مِنَ الْجَوَابِ مِنْ
جِهَةِ الْمَسْئُولِ فَأَوَّلُهَا: السُّؤَالُ عَنِ
الْمَذْهَبِ , بِأَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: مَا تَقُولُ فِي
كَذَا؟ فَيُقَابِلُهُ جَوَابٌ مِنْ جِهَةِ الْمَسْئُولِ ,
فَيَقُولُ: كَذَا وَالثَّانِي: السُّؤَالُ عَنِ الدَّلِيلِ ,
بِأَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: مَا دَلِيلُكَ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ
الْمَسْئُولُ: كَذَا وَالثَّالِثُ: السُّؤَالُ عَنْ وَجْهِ
الدَّلِيلِ , فَيْبَيِّنُهُ الْمَسْئُولُ وَالرَّابِعُ:
السُّؤَالُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ ,
وَالطَّعْنِ فِيهِ , فَيُجِيبُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ
وَيُبَيِّنُ بُطْلَانَ اعْتِرَاضِهِ وَصِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ
مِنْ وَجْهِ دَلِيلِهِ فَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ حُكْمٍ
مُطْلَقٍ نَظَرَ الْمَسْئُولُ فِيمَا سَأَلَهُ عَنْهُ , فَإِنْ
كَانَ مَذْهَبُهُ مُوَافِقًا لِمَا سَأَلَهُ عَنْهُ مِنْ
غَيْرِ تَفْصِيلٍ أَطْلَقَ الْجَوَابَ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ
عِنْدَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ , كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ
يَفْصِلَهَ فِي جَوَابِهِ , وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ
لِلسَّائِلِ: هَذَا مُخْتَلِفٌ عِنْدِي , فَمِنْهُ كَذَا ,
وَمِنْهُ كَذَا , فَعَنْ أَيِّهِمَا
(2/77)
تَسْأَلُ؟ فَإِذَا ذَكَرَ أَحَدَهُمَا
أَجَابَ عَنْهُ , وَإِنْ أَطْلَقَ الْجَوَابِ عَنْهُ كَانَ
مُخْطِئًا مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَسْأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ
جِلْدِ الْمَيْتَةِ هَلْ يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ؟ وَعِنْدَ
الْمَسْئُولِ أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ , وَمَا
تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُطَهَّرُ
بِالدِّبَاغِ , وَيُطَهَّرُ مَا عَدَا ذَلِكَ , فَيَقُولُ
لِلسَّائِلِ هَذَا التَّفْصِيلَ , وَإِنْ شَاءَ قَالَ: مِنْهُ
مَا يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ , وَمِنْهُ مَا لَا يُطَهَّرُ ,
فَعَنْ أَيِّهِمَا تَسْأَلُ؟ فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ
الْجَوَابَ , وَقَالَ: يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ , فَإِنَّهُ
يَكُونُ مُخْطِئًا
(2/78)
وَقَدْ جَرَى لِأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي
مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أنا
الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ , أنا عُمَرُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ , نا مُكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ ,
نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَعْنِي الْحِمَّانِيَّ , نا
الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ , قَالَ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ مَرِيضًا
شَدِيدَ الْمَرَضِ , فَعَادَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِرَارًا ,
فَصَارَ إِلَيْهِ آخِرَ مَرَّةً , فَرَآهُ ثَقِيلًا ,
فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ
بَعْدِي لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَئِنْ أُصِيبَ النَّاسُ بِكَ ,
لَيَمُوتَنَّ مَعَكَ عِلْمٌ كَثِيرٌ ثُمَّ رُزِقَ
الْعَافِيَةَ» , وَخَرَجَ مِنَ الْعِلَّةِ , فَأَخْبَرَ أَبُو
يُوسُفَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ , فَارْتَفَعَتْ
نَفْسُهُ , وَانْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهِ ,
فَعَقَدَ لِنَفْسِهِ مَجْلِسًا فِي الْفِقْهِ , وَقَصَّرَ عَنْ
لُزُومِ مَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ , فَسَأَلَ عَنْهُ ,
فَأُخْبِرَ أَنَّهُ قَدْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ مَجْلِسًا ,
وَأَنَّهُ بَلَغَهُ كَلَامُكَ فِيهِ , فَدَعَى رَجُلًا كَانَ
لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ , فَقَالَ: " صِرْ إِلَى مَجْلِسِ
يَعْقُوبَ , فَقُلْ لَهُ: مَا تَقُولُ
(2/78)
فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى قَصَّارٍ ثَوْبًا
لِيُقَصِّرَهُ بِدِرْهَمٍ , فَصَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَيَّامٍ
فِي طَلَبِ الثَّوْبِ , فَقَالَ لَهُ الْقَصَّارُ: مَا لَكَ
عِنْدِي شَيْءٌ , وَأَنْكَرَهُ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الثَّوْبِ
رَجَعَ إِلَيْهِ , فَدَفَعَ إِلَيْهِ الثَّوْبَ مَقْصُورًا ,
أَلَهُ أُجْرَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لَهُ أُجْرَةٌ , فَقُلْ:
أَخْطَأْتَ وَإِنْ قَالَ: لَا أُجْرَةَ لَهُ فَقُلْ أَخْطَأْتَ
" فَصَارَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ , فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ
الْأُجْرَةُ , فَقَالَ: أَخْطَأْتَ , فَنَظَرَ سَاعَةً , ثُمَّ
قَالَ: لَا أُجْرَةَ لَهُ فَقَالَ: أَخْطَأْتَ , فَقَامَ أَبُو
يُوسُفَ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَتَى أَبَا حَنِيفَةَ , فَقَالَ
لَهُ: «مَا جَاءَ بِكَ إِلَّا مَسْأَلَةُ الْقَصَّارِ؟» قَالَ
أَجَلْ , قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ قَعَدَ يُفْتِي
النَّاسَ وَعَقَدَ مَجْلِسًا يَتَكَلَّمُ فِي دِينِ اللَّهِ
وَهَذَا قَدْرُهُ , لَا يَحْسُنُ أَنْ يُجِيبَ فِي مَسْأَلَةٍ
مِنَ الْإِجَارَاتِ» فَقَالَ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ ,
عَلِّمْنِي: فَقَالَ: «إِنْ كَانَ قَصَّرَهُ بَعْدَ مَا
غَصَبَهْ فَلَا أُجْرَةَ , لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِنَفْسِهِ ,
وَإِنْ كَانَ قَصَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْصِبَهُ فَلَهُ
الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِصَاحِبِهِ» ثُمَّ قَالَ:
«مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعْلِيمِ ,
فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ»
(2/79)
فَصْلٌ وَإِذَا صَحَّ الْجَوَابُ مِنْ
جِهَةِ الْمَسْئُولِ قَالَ لَهُ السَّائِلُ: مَا الدَّلِيلُ
عَلَيْهِ؟ وَهُوَ السُّؤَالُ الثَّانِي: فَإِذَا ذَكَرَ
الْمَسْئُولُ الدَّلِيلَ فَإِنْ كَانَ السَّائِلُ يَعْتَقِدُ
أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ
احْتَجَّ بِالْقِيَاسِ , وَالسَّائِلُ ظَاهِرِيٌّ لَا يَقُولُ
بِالْقِيَاسِ فَقَالَ لِلْمَسْئُولِ: هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ،
فَإِنَّ المَسْئُولَ يَقُولُ لَهُ: هَذَا دَلِيلٌ عِنْدِي ,
وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُسْلِمَهُ وَبَيْنَ أَنْ
تَنْقُلَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ , فَأَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ,
فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: لَا أُسْلِمُ لَكَ مَا احْتَجَجْتَ
بِهِ , وَلَا أَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى الْأَصْلِ , كَانَ
مُتَعَنِّتًا مُطَالِبًا لِلْمَسْئُولِ بِمَا لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ
لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُثْبِتَ مَذْهَبَهُ إِلَّا بِمَا هُوَ
دَلِيلٌ عِنْدَهُ , وَمَنْ نَازَعَهُ فِي دَلِيلِهِ دَلَّ
عَلَى صِحَّتِهِ , وَقَامَ بِنُصْرَتِهِ , فَإِذَا فَعَلَ
ذَلِكَ , فَقَدْ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ , وَإِنْ
عَدَلَ إِلَى دَلِيلٍ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا ,
لِأَنَّ ذَلِكَ لِعَجْزِ السَّائِلِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى
مَا احْتَجَّ بِهِ , وَقُصُورِهِ عَنِ الْقَدْحِ فِيهِ ,
وَلِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَا تَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مُذْهِبِ
السَّائِلِ , لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مُخالَفَتُهُ , وَلَا
تَنْفَعُهُ مُوَافَقَتُهُ , وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى
الدَّلِيلِ , وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَأَمَّا السَّائِلُ
إِذَا عَارَضَهُ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَهُ , وَلَيْسَ
بِدَلِيلٍ عِنْدَ الْمَسْئُولِ , مِثْلَ أَنْ يُعَارِضَ
خَبَرَهُ الْمُسْنَدَ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ , أَوْ خَبَرِ
الْمَعْرُوفِ بِخَبَرِ الْمَجْهُولِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ,
وَقَالَ لِلْمَسْئُولِ , إِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ ذَلِكَ لِي
فَيَكُونُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْتُهُ , وَإِمَّا أَنْ
تَنْقُلَ الْكَلَامَ إِلَى مَسْأَلَةِ الْمُرْسَلِ
وَالْمَجْهُولِ , فَهَذَا لَيْسَ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَهُ
وَيُخَالِفَ الْمَسْئُولَ فِيهِ , لِأَنَّ
(2/80)
السَّائِلَ تَابِعٌ لِلْمَسْئُولِ فِيمَا
يُورِدُهُ الْمَسْئُولُ وَيَحْتَجُّ بِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ
كَذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ دَلِيلِهِ الَّذِي
دَلَّهُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ , وَالطَّرِيقُ الَّذِي
أَدَّاهُ إِلَى إِعْتِقَادِهِ , لَزِمَهُ أَنْ يَنْظُرَ مَعَهُ
فِيمَا يُورِدُهُ , فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا بَيِّنَ فَسَادَهُ ,
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا صَارَ إِلَيْهِ وَسَلَّمَهُ لَهُ
, وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَفْرِضَ
الْمَسْأَلَةَ حَيْثُ اخْتَارَهُ وَكَانَ السَّائِلُ تَابِعًا
لَهُ فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ لِلسَّائِلِ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى
جَنْبَةٍ أُخْرَى وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِيهَا وَيَكْفِي
الْمَسْئُولَ إِذَا عَارَضَهُ السَّائِلُ بِمَا لَيْسَ
بِدَلِيلٍ عِنْدَهُ , مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ
التَّمْثِيلِ فِي الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ وَخَبَرِ الْمَجْهُولِ
أَنْ يَرُدَّهُ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى
أَصْلِي , ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُبَيِّنَ
لِلسَّائِلِ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِ ,
وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ بِمُجَرَّدِ مَذْهَبِهِ , وَقَدْ
وَرَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ , قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:
171] وَقَالَ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَعْلِيلًا , وَقَالَ
تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ
مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ}
[المؤمنون: 91] فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ قَوْلِ مَنْ
قَالَ: إِنَّ لَهُ وَلَدًا , وَإِنَّ لَهُ شَرِيكًا
(2/81)
فَصْلٌ وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ:
وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ وَجْهِ الدَّلِيلِ وَكَيْفِيَّتِهِ ,
فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِ , فَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الَّذِي
اسْتَدَلَّ بِهِ غَامِضًا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَجَبَ
السُّؤَالُ عَنْهُ , وَإِنْ تَجَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ
مُخْطِئًا , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إِلَّا بَعْدَ
أَنْ يَنْكَشِفَ وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ , مِنْ وِجْهَةِ
الْمَسْئُولِ عَلَى مَا سَأَلَهُ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ
الدَّلِيلُ ظَاهِرًا جَلِيًّا لَمْ يَجُزْ هَذَا السُّؤَالُ ,
وَكَانَ السَّائِلُ عَنْهُ مُتَعَنِّتًا أَوْ جَاهِلًا ,
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ جِلْدِ الْكَلْبِ
أَوْ جِلْدٍ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ هَلْ يُطَهَّرُ
بِالدِّبَاغِ؟ فَيَقُولُ الْمَسْئُولُ: يُطَهَّرُ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ
دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ فَيَقُولُ السَّائِلُ: مَا وَجْهُ
الدَّلِيلِ مِنْهُ؟ فَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي هَذَا الْقَوْلِ ,
لِظُهُورِ مَا سَأَلَهُ عَنْ بَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ , وَإِذَا
قَصَدَ بَيَانُهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى لَفْظِهِ
(2/82)
أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ
أَيُّوبَ الْقُمِّيُّ , أنا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ: مُحَمَّدُ
بْنُ عِمْرَانَ الْمَرْزَبَانِيُّ , أنا ابْنُ دُرَيْدٍ ,
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ , عَنْ أَبِي زَيْدٍ , قَالَ:
" كَانَ كَيْسَانُ ثِقَةً , وَجَاءَهُ صَبِيٌّ يَقْرَأُ
عَلَيْهِ شِعْرًا حَتَّى مَرَّ بِبَيْتٍ فِيهِ ذِكْرُ الْعِيسِ
, فَقَالَ لَهُ: مَا الْعِيسُ؟ قَالَ: الْإِبِلُ الْبِيضُ ,
الَّتِي تَخْلِطُ بَيَاضَهَا حُمْرَةٌ , قَالَ: وَمَا
الْإِبِلُ؟ قَالَ: الْجِمَالُ , قَالَ: وَمَا الْجِمَالُ؟
فَقَامَ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَرَغَا فِي الْمَسْجِدِ "
(2/82)
فَصْلٌ وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ:
وَهُوَ السُّؤَالُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ
فِي الدَّلِيلِ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ
اخْتِلَافِ الدَّلِيلِ: فَإِنْ كَانَ دَلِيلُهُ مِنَ
الْقُرْآنِ كَانَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُنَازِعَهُ فِي كَوْنِهِ مُحْكَمًا
, وَيَدَّعِي أَنَّهُ مَنْسُوخٌ مِثَالُهُ: أَنْ يَحْتَجَّ
الشَّافِعِيُّ , بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَيَدَّعِي خَصْمُهُ
أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَيَقُولُ
الْمَسْئُولُ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا , لَمْ
يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى النَّسْخِ وَالثَّانِي: أَنْ
يُنَازِعَهُ فِي مُقْتَضَى لَفْظِهِ مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ
يَحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيتَاءِ مِنْ مَالِ
الْكِتَابَةِ , بِقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فَيَقُولُ
الْمُخَالِفُ: إِنَّهُ إِيتَاءٌ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ
مَالِ الْكِتَابَةِ , فَيَقُولُ الْمَسْئُولُ: هُوَ خِطَابٌ
لِلسَّادَاتِ , لِأَنَّهُ قَالَ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فَلَا يَصْلُحُ لِإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَارِضَهُ بِغَيْرِهِ ,
فَيَحْتَاجُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
لَا يُعَارِضُهُ أَوْ يُرَجِّحُ دَلِيلَهُ عَلَى مَا عَارَضَهُ
بِهِ مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى تَحْرِيمِ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ
(2/83)
الْيَمِينِ , بِقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فَيُعَارِضُهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء: 3] أَوْ يُعَارِضُهُ بِالسُّنَّةِ وَيَكُونُ جَوَابُ
الْمَسْئُولِ مَا ذَكَرْنَاهُ , وَإِنْ كَانَ دَلِيلُهُ مِنَ
السُّنَّةِ , فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ خَمْسَةِ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُطَالِبَهُ بِإِسْنَادِ حَدِيثِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْدَحَ فِي إِسْنَادِهِ وَالثَّالِثُ:
أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى مَتْنِهِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَدَّعِيَ
نَسْخَهُ وَالْخَامِسُ: أَنْ يُعَارِضَهُ بِخَبَرِ غَيْرِهِ
فَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِإِسْنَادِهِ , فَهِيَ صَحِيحَةٌ ,
أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادُهُ ,
وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْنَادِ , وَهَذَا
لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَشْهُورَةِ
وَالْأَحَادِيثِ الْمَحْفُوظَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ , فَأَمَّا الْغَرِيبُ الشَّاذُّ فَإِنَّهُ
يَجِبُ الْمُطَالَبَةُ بِإِسْنَادِهِ , فَإِنْ قَالَ
الْمُخَالِفُ: هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ فِي الْأُصُولِ , أَوْ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فِي
الْأَمَالِي , لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ يَرْوُونَ الْمَرَاسِيلَ وَالْبَلَاغَاتِ
وَيَحْتَجُّونَ بِهَا , وَلَا حُجَّةَ فِيهَا عِنْدَنَا ,
وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي وَهُوَ: الْقَدْحُ فِي
الْإِسْنَادِ فَمِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي
غَيْرَ عَدْلٍ وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا وَمِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا
(2/84)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ
الْعَدَالَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّاوِي لَيْسَ
بِثِقَةٍ , فَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ يَجِبُ
أَنْ يُفَسَّرَ فَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ إِذَا فُسِّرَ يُوجِبُ
إِسْقَاطَ الْعَدَالَةِ وَالْجَوَابُ عَمَّنْ قَالَ: رَاوِي
خَبَرِكَ مَجْهُولٌ , هُوَ أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ
عَدْلَانِ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ أَحَدِ الْجَهَالَةِ عَلَى
شَرْطِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , فَيَبِينُ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ
رَجُلَانِ عَدْلَانِ وَالْجَوَابُ عَمَّنْ قَالَ الْحَدِيثُ
مُرْسَلٌ: أَنْ يَبِينَ اتِّصَالُهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ , وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ
وَهُوَ عَلَى الْمَتْنِ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ
يَكُونَ الْمَتْنُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ , وَالسُّؤَالٌ
مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ , فَيَدَّعِي الْمُخَالِفُ قِصَرَهُ
عَلَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ
الِاعْتِبَارَ بِجَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دُونَ سُؤَالِ السَّائِلِ , وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا
فِي مَوْضِعِهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ غَيْرَ
مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى السُّؤَالِ
, وَيَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ فِعْلٍ خَاصٍّ يَحْتَمِلُ
مَوْضِعَ الْخِلَافَ وَغَيْرَهُ , فَيُلْزِمُ السَّائِلُ
الْمَسْئُولَ التَّوَقُّفَ فِيهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ
عَلَى الْمُرَادِ بِهِ
(2/85)
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَحْتَجَّ شَافِعِيٌّ
فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ بِمَا: أنا
أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الْقُرَشِيُّ , أنا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ
الطَّبَرَانِيُّ , نا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ , نا
أَبُو [ص:86] مُسْهِرٍ , نا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ , قَالَ:
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ , قَالَ:
حَدَّثَنِي الْغَرِيفُ بْنُ عَيَّاشٍ , عَنْ فَيْرُوزَ
الدَّيْلَمِيِّ , عَنْ واثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ , قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ , فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ , فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِنَّ صَاحِبًا
لَنَا قَدْ أَوْجَبَ , فَقَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً ,
يَفُكُّ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ
النَّارِ» وأنا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْهَاشِمِيُّ , نا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ , نا أَبُو دَاوُدَ ,
نا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ , نا ضَمْرَةُ , عَنِ
ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ , عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ ,
قَالَ: أَتَيْنَا واثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ , قَالَ:
أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ يَعْنِي: النَّارَ بِالْقَتْلِ
فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فَيَقُولُ الْمُخَالِفُ
يَحْتَمِلُ هَذَا الْقَتْلَ بِالْمِثْقَلِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ
فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَرِدَ الْبَيَانُ،
وَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلنَّارِ
مُوجِبًا لِلرَّقَبَةِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ
(2/85)
وَمِنْ ذَلِكَ: الْحَدِيثُ الَّذِي أناه
الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
الْحَسَنِ الشَّافِعِيُّ , نا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ
الْفَقِيهُ , نا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ , نا أَبُو حُذَيْفَةَ
, أنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ , عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ,
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ:
«أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ , الْأَذَانَ وَيُوتِرَ
الْإِقَامَةَ» إِذَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى
إِيتَارِ الْإِقَامَةِ , فَقَالَ الْمُخَالِفُ: لَيْسَ فِيهِ
ذِكْرُ الْآمِرِ مَنْ هُوَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ
بِهِ بَعْضُ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ
هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضُ
الْأُمَرَاءِ بِتَغْيِيرِ إِقَامَةٍ فَعَلَهَا بِلَالٌ
بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَانًا
طَوِيلًا , وَبَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وُعُمَرَ , عَلَى
أَنَّ بِلَالًا لَمْ يَعِشْ إِلَى وِلَايَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ,
وَإِنَّمَا مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ , وَلَوْ أَمَرَ
بِلَالًا آمِرٌ بِتَغْيِيرِ الْإِقَامَةِ لَمْ يَقْبَلْ
أَمْرَهُ , وَلَوْ قَبِلَهُ بِلَالٌ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ
سَائِرُ الصَّحَابَةِ , وَقَدْ:
(2/87)
أنا أَبُو بَكْرٍ الْبُرْقَانِيُّ , قَالَ:
قَرَأْنَا عَلَى عُمَرَ بْنِ نُوحٍ الْبَجَلِيِّ , حَدَّثَكُمُ
الْفِرْيَابِيُّ , نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَجَّاجٍ السَّامِيُّ
, نا وُهَيْبٌ , عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ , عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: " لَمَّا
كَثُرَ النَّاسُ ذَكَرُوا شَيْئًا يَعْلَمُونَ بِهِ وَقْتَ
الصَّلَاةِ , فَقَالُوا: يُورُوا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا
نَاقُوسًا , قَالَ: فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ
[ص:88] وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ " أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ
الصَّحِيحِ , وَذِكْرُ هَذَا السَّبَبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْآمِرَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ,
إِذْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ , وَقَدْ رُوِيَ
بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ:
(2/87)
أَخْبَرَنِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ , نا عَلِيُّ بْنُ
عُمَرَ الْخُتَّلِيُّ , نا أَبُو حَمْزَةَ: أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَرْوَزِيُّ , أنا أَحْمَدُ
بْنُ سَيَّارٍ , أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ , عَنْ
خَارِجَةَ , عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ
أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ
الْإِقَامَةَ» وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ , وَهُوَ
دَعْوَى النَّسْخِ
(2/88)
فَمِثَالُهُ مَا: أنا الْقَاضِي أَبُو
بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الدَّاوُدِيُّ
, أنا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الْوَاعِظُ , نا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْبَغَوِيُّ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ فَرْوَةَ , نا مُلَازِمُ بْنُ
عَمْرٍو , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ , عَنْ قَيْسِ بْنِ
طَلْقٍ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمْنَا
عَلَيْهِ , فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ , فَجَاءَ
رَجُلٌ , كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ؟
فَقَالَ [ص:89]: «وَهَلْ هُوَ إِلَّا مُضْغَةٌ مِنْكَ أَوْ
بَضْعَةٌ مِنْكَ» فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا
الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
(2/88)
أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّازُ , أنا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ جَعْفَرٍ الْخُرْقِيُّ , نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
الْجَعْدِ , نَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ , نا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نَافِعٍ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ , عَنْ
أَبِي مُوسَى الْخَيَّاطِ , عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ,
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ
فَلْيَتَوَضَّأْ» قَالَ الشَّافِعِيُّونَ: رَاوِي هَذَا
الْحَدِيثِ مُتَأَخِّرٌ , وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ , فَإِنَّهُ
صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَلَاثَ سِنِينَ , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ مُتَقَدِّمٌ ,
فَإِنَّ قَيْسَ بْنَ طَلْقٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ , قَالَ:
قَدِمْتُ [ص:90] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُؤَسِّسُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ , فَوَجَبَ
أَنْ يَنْسَخَ الْمُتَقَدِّمَ بِالْمُتَأَخِّرِ، قُلْتُ: وَفِي
هَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي نَظَرٌ , لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ,
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ
صَحَابِيٍّ قَدِيمِ الصُّحْبَةِ , وَأَرْسَلَهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيَكُونُ
حَدِيثُهُ وَحَدِيثُ طَلْقٍ مُتَعَارِضَيْنِ , لَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِنَاسِخٍ لِلْآخَرِ , فَيَحْتَاجُ إِلَى
اسْتِعْمَالِ التَّرْجِيحِ فِيهِمَا , وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ وَهُوَ مُعَارَضَةُ
الْخَبَرِ بِخَبَرِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ:
بِأَنْ يُسْقِطَ الْمَسْئُولُ مُعَارَضَةَ السَّائِلِ , أَوْ
يُرَحِّجَ خَبَرَهُ , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا تَرْجَحُ بِهِ
الْأَخْبَارُ فِي كِتَابِ الْكِفَايَةِ
(2/89)
فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ دَلِيلُهُ
الْإِجْمَاعَ , فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنُ يُطَالِبَ بِظُهُورِ الْقَوْلِ
لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
(2/91)
مِثَالُ ذَلِكَ مَا: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ , أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيُّ , أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , نا أَبُو عُبَيْدٍ
الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ , حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ , عَنْ
إِسْرَائِيلَ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ,
عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ , أَنَّ بِلَالًا , قَالَ
لِعُمَرَ: «إِنَّ عُمَّالَكَ يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ
وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ» , فَقَالَ: لَا تَأْخُذُوهَا
مِنْهُمْ , وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَنْتُمُ
الثَّمَنَ فَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ فِي حَقِّ أَهْلِ
الذِّمَّةِ , يَصِحُّ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَمَلُّكُهُمْ
لِثَمَنِهَا , فَطَالَبَهُمْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ
بِظُهُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عُمَرَ وَانْتِشَارِهِ ,
حَتَّى عَرَفَهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَكَتَ
عَنْ مُخَالَفَتِهِ , وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ
بَطَلَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي:
أَنْ يُبَيِّنَ ظُهُورَ خِلَافِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ [ص:92]
وَذَلِكَ مِثَالُ مَا:
(2/91)
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ , أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ , نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ , نا سَعِيدُ
بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ , نا أَبِي , نا ابْنُ جُرَيْجٍ ,
أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ , قَالَ:
سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنِ الرَّجُلِ ,
يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَيَبُتُّهَا ثُمَّ يَمُوتُ فِي
عِدَّتِهَا؟ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: «طَلَّقَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَتَهُ تَمَاضُرَ بِنْتَ
الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيِّ , ثُمَّ مَاتَ , وَهِيَ فِي
عِدَّتِهَا فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ» فَاحْتَجَّ أَصْحَابُ
أَبِي حَنِيفَةَ , بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى
تَوْرِيثِ تَمَاضُرَ , هِيَ مَبْتُوتَةٌ فِي الْمَرَضِ
(2/92)
فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: قَدْ
خَالَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ: فَرَوَى الشَّافِعِيُّ , عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ
, ومُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ , عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ , أَنَّهُ قَالَ:
«طَلَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَتَهُ
تَمَاضُرَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ , وَمَاتَ وَهِيَ فِي
الْعِدَّةِ , فَوَرِثَهَا عُثْمَانُ» قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
[ص:93]: وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ صَانَ اللَّهُ
قَدْرَهُ: وَحَدِيثُ الشَّافِعِيِّ هَذَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ
بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فِي
الْأَنْبَاءِ الْمُحْكَمَةِ , قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ:
وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى قَوْلِ
الْمُجْمِعِينَ , إِنْ لَمْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِالْحُكْمِ ,
بِمِثْلِ مَا يُعْتَرَضُ عَلَى لَفْظِ السُّنَّةِ
(2/92)
فَصْلٌ وَإِنْ كَانَ دَلِيلُهُ الَّذِي
احْتَجَّ بِهِ هُوَ الْقِيَاسُ , فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ
عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا
لِنَصِّ الْقُرْآنِ , أَوْ نَصِّ السُّنَّةِ , أَوِ
الْإِجْمَاعِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , فَإِنَّهُ قِيَاسٌ
غَيْرُ صَحِيحٍ , لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَقْوَى مِنَ
الْقِيَاسِ , وَأَوْلَى مِنْهُ , فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا
عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُنْضَوِيَةً
لِمَا لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ , كَأَقَلِّ الْحَيْضِ
وَأَكْثَرِهِ , فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِهَا وَمِنْهَا:
إِنْكَارُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْفَرْعِ , مِثْلَ
قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا لَمْ يَصُمِ
الْمُتَمَتِّعُ فِي الْحَجِّ سَقَطَ الصَّوْمُ , لِأَنَّهُ
بَدَلٌ مُؤَقَّتٌ , فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ
, أَصْلُ ذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَعِلَّةُ الْأَصْلِ
غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ , لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ
عَنِ الظُّهْرِ , وَإِنَّمَا الظُّهْرُ بَدَلٌ عَنِ
الْجُمُعَةِ , وَكَذَلِكَ عِلَّةُ الْفَرْعِ غَيْرُ
مُسَلَّمَةٍ , لِأَنَّ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِي
الْحَجِّ بَدَلٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ , لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي
الْحَجِّ دُونَ الزَّمَانِ , وَالْمُؤَقَّتُ مَا خُصَّ
فِعْلُهُ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ , وَمِنْهَا: أَنْ يُعَارِضَ
النُّطْقَ بِالنُّطْقِ مِثْلَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَنْعِ
مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فَيُعَارِضُهُ الْمُخَالِفُ
بِقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون
(2/94)
: 6] فَيَقُولُ الْمَسْئُولُ: مَعْنَاهُ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانَهُمْ , فِي غَيْرِ الْجَمْعِ
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَيَقُولُ السَّائِلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي غَيْرِ مِلْكِ
الْيَمِينِ فَيَحْتَاجُ الْمَسْئُولُ إِلَى تَرْجِيحِ
اسْتِعْمَالِهِ , وَتَقْدِيمِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ خَصْمِهِ ,
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُنْقَطِعًا , وَوَجْهُ
التَّرْجِيحِ أَنْ يَقُولَ: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ , أَنَّهُ قَالَ: حَرَّمَتْهَا آيَةٌ , وَأَحَلَّتْهَا
آيَةٌ , وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] قَصَدَ بِهِ
بَيَانَ التَّحْرِيمِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فَإِنَّهُ
قَصَدَ بِهِ مَدْحَ قَوْمٍ , فَكَانَ مَا قَصَدَ بِهِ
التَّحْرِيمَ , وَبَيَانُ الْحُكْمِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ,
وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ , وَتَرَتُّبُ الْآيَةِ
الْأُخْرَى عَلَيْهِ , وَلِلْاعْتِرَضَاتِ عَلَى الْقِيَاسِ
وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ
(2/95)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ
, وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَرْذَعِيُّ , نا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ , نا الرَّبِيعُ بْنُ
سُلَيْمَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ , يَقُولُ: قَالَ
رَبِيعَةُ: يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «مَنْ
أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ , قَضَى اثْنَيْ
عَشَرَ يَوْمًا , لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ,
اخْتَارَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا» قَالَ
الشَّافِعِيُّ: يُقَالُ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ [ص:96] شَهْرٍ فَمَنْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ
أَلْفَ شَهْرٍ , عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ وَهَذِهِ فُصُولٌ
مَنْثُورَةٌ , لَهَا أَمْثِلَةٌ فِي الْقُرْآنِ , يَحْتَاجُ
إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَهْلُ النَّظَرِ
(2/95)
فَصْلٌ يَجُوزُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ
الْخَصْمَ , فَيَقُولَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي كَذَا؟
وَيُفَوِّضُ الْجَوَابَ إِلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ عَالِمًا
بِجَوَابِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا
وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُ مِنْ جَوَابِهِمْ , وَهَذَا يُسَمَّى
سُؤَالَ التَّفْوِيضِ , وَلَوْ سَأَلَ سُؤَالَ حُجَّةٍ
فَقَالَ: لِمَ عَبَدْتُمُ الْأَصْنَامَ؟ أَوْ لِمَ قُلْتُمْ
إِنَّهَا تُعْبَدُ؟ لِعِلْمِهِ بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ كَذَلِكَ
جَازَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
(2/97)
فَصْلٌ إِذَا ذَكَرَ الْمُجَادِلُ جَوَابَ
أَقْسَامٍ قَسَمَهَا , أَوْ أُلْزِمَ أَسْئِلَةٍ سَأَلَهَا ,
فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرَتِّبَ جَوَابَهُ , بَلْ يَجُوزُ
أَنْ يَذْكُرَ جَوَابَ سُؤَالٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ مُتَأَخِّرٍ ,
وَيَأْتِي بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ , قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل
عمران: 106] فَقَسَمَ الْوُجُوهَ قِسْمَيْنِ بَدَأَ مِنْهُمَا
بِذِكْرِ الْمُبْيَضَّةِ وُجُوهُهُمْ , ثُمَّ ذَكَرَ أَوَّلًا
حُكْمَ الْقِسْمِ الثَّانِي , فَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106]
(2/98)
فَصْلٌ التَّقْسِيمُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
كِلَاهُمَا جَائِزٌ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْسِمَ الْمُقْسِمُ
حَالَ الشَّيْءِ , فَيَذْكُرُ جَمِيعَ أَقْسَامِهِ , ثُمَّ
يَرْجِعُ فَيَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ قِسْمٍ , كَمَا فَعَلْنَا
فِي تَقْسِيمِ الْأَسْئِلَةِ وَالْجَوَابَاتِ , وَوَصْفِ
وُجُوهِ الْمَطَاعِنِ وَالْمُعَارَضَاتِ وَالضَّرْبُ
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ قِسْمًا ثُمَّ يَذْكُرُ حُكْمَهُ
ثُمَّ يَذْكُرُ الْقِسْمَ الْآخَرَ ثُمَّ يَذْكُرُ حُكْمَهُ
وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِالْجَمِيعِ , قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل
عمران: 106] فَفَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْقِسْمَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ
فَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَالَ فِي
الْقَارِعَةِ: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ
فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] فَذَكَرَ الْقِسْمَ
وَحُكْمَهُ , ثُمَّ ذَكَرَ الْقِسْمَ الْآخَرَ وَحُكْمَهُ
فَقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ
هَاوِيَةٌ} [القارعة: 8]
(2/99)
فَصْلٌ قَدْ يُعَبِّرُ السَّائِلُ عَنِ
الْمَسْأَلَةِ بِالِاسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ
وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلِاسْمِ فِيهَا
كَقَائِلٍ سَأَلَ حَنَفِيًّا فَقَالَ: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ
الطَّهَارَةَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ تَصِحُّ؟ فَلَيْسَ
لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَلَّمْتَ لِي أَنَّهَا
طَهَارَةٌ فِي لَفْظِ سُؤَالِكَ , وَمَسْأَلَتِكَ عَنْ
بُطْلَانِهَا بِفَقْدِ النِّيَّةِ دَعْوَى , فَقَدْ سَقَطَ
عَنِّي إِقَامَةُ الْحِجَّةِ فِي كَوْنِهَا طَهَارَةً , فَإِنْ
قَالَ ذَلِكَ , فَلِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا لَمُ
أُسَلِّمْ أَنَّهَا طَهَارَةٌ وَلَكِنَّ تَقْدِيرَ سُؤَالِي:
هَذِهِ الَّتِي تَقُولُ أَنْتَ أَنَّهَا طَهَارَةٌ , لِمَ
زَعَمْتَ أَنَّهَا تَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؟ فَلَا
تُؤَخِذْنِي بِلَفْظٍ أَنَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي
تَعْرِيفِكَ الْمَسْأَلَةَ , وَبِهَذِهِ الْعِبَارَةِ
تَتَعَيَّنُ , وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ , قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ:
{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}
[الشعراء: 27] فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مُوسَى: قَدِ اعْتَرَفْتَ
بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَادَّعَيْتَ أَنِّي مَجْنُونٌ ,
فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْكَ , وَقَدْ سَقَطَ عَنِّي قِيَامُ
الدَّلَالَةِ عَلَى رِسَالَتِي بِتَسْمِيَتِكَ أَنِّي رَسُولٌ
إِلَيْهِمْ , وَتَقْدِيرُهُ إِنَّ الَّذِي يَقُولُ: إِنِّي
أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ
(2/100)
فَصْلٌ يَجُوزُ لِمَنْ طُولِبَ
بِمُقَدِّمَةٍ فِي كَلَامِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى مَنْ
طَالَبَهُ بِهَا الِالْتِزَامَ لِمَا تَقْتَضِيهِ
الْمُقَدِّمَةُ وَالْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَالْوَفَاءُ
بِمُقْتَضَاهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ
قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:
112] إِلَى أَنْ قَالَ: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا
عَلَيْكُمْ} [المائدة: 115] وَقَدْ وَعَدْتُمْ أَنِّي إِذَا
أَنْزَلْتُهَا اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُكُمْ , وَعَلِمْتُمْ
أَنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ وَتَكُونُوا عَلَيْهَا مِنَ
الشَّاهِدِينَ فَاعْلَمُوا إِنِّي إِذًا أَنْزَلْتُهَا
عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرُ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي
أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ
(2/101)
فَصْلٌ يَجُوزُ لِلْمُتَكَلِّمِ تَقْدِيمُ
عِلَّةِ الْحُكْمِ , ثُمَّ يُعْقِبُ ذَلِكَ بِالْحُكْمِ ,
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الْحُكْمِ ثُمَّ يَذْكُرُ عِلَّتَهُ
, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
[البقرة: 222] فَقَدَّمَ الْعِلَّةَ قَبْلَ الْفَتْوَى
بِحُكْمِ مَا سُئِلَ عَنْهُ , وَقَدَّمَ الْحُكْمِ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ , فَقَالَ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] ثُمَّ عَلَّلَ , فَقَالَ:
{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}
[الطلاق: 1]
(2/102)
فَصْلٌ يَجُوزُ لِلْمُتَكَلِّمِ إِذَا
عَيَّنَ فِي نَوْبَةٍ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا ثُمَّ أَعَادَ
النَّوْبَةَ أَنْ يُعِيدَ مَا كَانَ عَيَّنَهُ بِلَفْظٍ
مُبْهَمٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا عَجُوزًا فِي
الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171] وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ هِيَ
الْعَجُوزُ , وَذَلِكَ بَعْدَ مَا عَيَّنَهَا فِي قَوْلِهِ:
{إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ
مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33]
(2/103)
فَصْلٌ يَجُوزُ لِلْمُتَكَلِّمِ إِذَا
عَادَتْ نَوْبَتُهُ فِي النَّظَرِ وَاقْتَضَى الْكَلَامُ
إِعَادَةَ مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ:
هَذَا قَدْ تَكَلَّمْتَ بِهِ أَوَّلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ
جَوَابِي عَنْهُ , فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ طَلَبًا
لِلتَّخْفِيفِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ}
[النحل: 118] وَلَمْ يُعِدْهُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ
(2/104)
فَصْلٌ كَثِيرًا يَجْرِي مِنَ الْمُنَاظِرِ
فِي حَالِ الْكَلَامِ وَاشْتِدَادِ الْخَاطِرِ , إِذَا وَثِقَ
بِمَا يَقُولُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ ,
إِنَّهُ لَصَحِيحٌ , فَيَقُولُ لَهُ الْخَصْمُ: لَيْسَ فِي
يَدِكَ حُجَّةٌ , وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَجِيءُ بِالْإِيمَانِ ,
وَخَصْمُكَ أَيْضًا يَحْلِفُ عَلَى ضِدِّ مَا تَقُولُ؟
فَجَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ: مَا حَلَفْتُ لِيُلْزَمَكَ يَمِينِي
حُجَّةً , وَلَا أَرَدْتُ ذَلِكَ , وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ
أُعْلِمَكَ ثِقَتِي بِمَا أَقُولُهُ , وَسُكُونَ نَفْسِي
إِلَيْهِ , وَتَصَوُّرِي لَهُ عَلَى حَدِّ التَّقْرِيرِ
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنْكَرٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}
[الذاريات: 23] وَقَالَ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا
الْقَسَمُ مِنَ اللَّهِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ , لِأَنَّ
الْيَمِينَ فِي ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ لَا يُخْصَمُ بِهَا
الْمُلْحِدُ , فَإِنَّهَا تُضْعِفُ نَفْسَهُ , وَتُقَوِّي
نَفْسَ الْمُوَافِقَ
(2/105)
وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ , فِيمَا: أنا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ
بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَشِيُّ , أنا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْقِلٍ الْمَيْدَانِيُّ ,
نَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هُوَ
الذُّهْلِيُّ , نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى , أنا
الْأَعْمَشُ , عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ , عَنْ زِرِّ بْنِ
حُبَيْشٍ , قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا , يَقُولُ: وَالَّذِي
فَلَقَ الْحَبَّةَ , وَبَرَأَ النَّسْمَةَ , إِنَّهُ لَعَهْدُ
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَيَّ: «أَنَّهُ لَا يُحِبُّكُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا
يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ»
(2/105)
فَصْلٌ قَدْ يُشَبِّهُ الْخَصْمُ
لِخَصْمِهِ الْحَقَّ عِنْدَهُ بِمَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَهُ
أَيْضًا , فَيَقُولُ: هَذَا عِنْدِي مِثْلُ أَنَّ الشَّمْسَ
طَالِعَةٌ , أَوْ هَذَا وَاجِبٌ , كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ
الْخَمْسِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] وَلَيْسَ هَذَا مِثَالَ حِجَاجٍ ,
وَإِنَّمَا هُوَ مِثَالُ تَشْبِيهٍ , أَيْ أَنَّ حُكْمَ هَذَا
عِنْدِي فِي الْوُضُوحِ وَالصِّحَّةِ حُكْمُ مَا تُشَاهِدُونَ
مِنْ نُطْقِكُمْ
(2/106)
فَصْلٌ قَدْ يُمَثِّلُ الْخَصْمُ
لِخَصْمِهِ قَوْلَهُ بِقَوْلٍ بَاطِلٍ عِنْدَهُ , لِيَعْلَمَ
خَصْمُهُ بُطْلَانَ قَوْلِهِ , كَبُطْلَانِ مَا مَثَّلَهُ بِهِ
, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ
يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] وَتَقْدِيرُهُ:
إِنَّكُمْ فِي إِيَاسِكُمْ مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنَ الْمَوْتَى , وَهُمَا فِي الْبُطْلَانِ
سَوَاءٌ
(2/107)
فَصْلٌ إِذَا اعْتَرَضَ أَحَدُ
الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ يُخَالِفُ أَصْلَهُ
فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِأَصْلِهِ , وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ
بِمَعْنًى نَظَرِيٍّ أَوْ فِقْهِيٍّ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِقَوْلِ السُّفَهَاءِ - وَهُوَ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ - وَقِيلَ:
الْيَهُودُ وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ عِلَّةِ ذَلِكَ
فَأَجَابَهُمْ بِمَا بَنَى عَلَيْهِ أَفْعَالَهُ مِنْ كَوْنِهِ
مَالِكًا غَيْرَ مُمَلَّكٍ أَوْ غَيْرَ مَأْمُورٍ لَا يَدْخُلُ
تَحْتَ رَسْمٍ وَلَا حَدٍّ , وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ,
لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ فِعْلِهِ مَنْ هُوَ تَحْتَ
حَدٍّ أَوْ رَسْمٍ , فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذَا كُنْتُ
مَالِكَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِي فَمَا
مَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ لَمْ نَفْلِتْ عَبِيدِي , وَهَذَا هُوَ
الْجَوَابُ النَّظَرِيُّ رَدَّهُ بِأَصْلِهِ وَمُوجِبِ
قَعِيدَةِ أَمْرِهِ , فَسَقَطَ السُّؤَالُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ
أَنْ يُبَيِّنَ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ , ثُمَّ لِمَا ثَبَتَ
ذَلِكَ أَجَابَ بِجَوَابٍ فِقْهِيٍّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ
فَقَالَ وَقُلْ لَهُمْ أَيْضًا: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ
الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:
143] يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ أَنْ تُصَلِّيَ
إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ لِيُصَلُّوا مَعَكَ عَلَى مَا
أَلِفُوهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , ثُمَّ
نَقَلْتُكَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِتَعْلَمَ أَنْتَ , وَتُخْبِرَ
مَنْ صَلَّى مَعَكَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , تَبَعًا لَكَ
وَطَاعَةً لِأَمْرِكَ وَقَبُولًا مِنْكَ , فَإِنَّهُ
يَنْتَقِلُ مَعَكَ لِمَا الْتَزَمَهُ مِنَ الطَّاعَةِ , وَمَنْ
صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , لِكَوْنِهِ شَرِيعَةً لَهُ
لَا لِطَاعَتِكَ ,
(2/108)
فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ مَعَكَ , بَلْ
يُقِيمُ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ,
فَتَعْلَمُ أَنْتَ أَنَّهُ مُنْقَلِبٌ عَلَى عَقِبَيْهِ
وَيَنْكَشِفُ لَكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُطِيعًا لَكَ وَلَا
تَابِعًا , فَبَيَّنَ عِلَّةَ الْجَوَابِ وَعِلَّةَ
التَّحْوِيلِ , ثُمَّ أَجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ , وَهُوَ
أَنَّهُ ذَكَرَ جَوَازَ النَّسْخِ فِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا
, فَقَالَ: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] , يَقُولُ: وَإِنْ
كَانَ انْتِقَالُهُمْ مِنَ الْمَنْسُوخِ إِلَى النَّاسِخِ
ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ شَاقًا فِي تَرْكِ الْمَأْلُوفِ
الْمُعْتَادِ الَّذِي قَدْ نَشَئُوا عَلَيْهِ إِلَى مَا لَمْ
يَأْلَفُوهُ , وَهَذَا أَحَدٍ الْعِلَلِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ
عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ سُؤَالِهِمْ ,
وَقَدْ بَيَّنَّا مَوْضِعَهَا مِنَ النَّظَرِ وَأَفْضَلُ
النُّظَّارِ وَأَقْدَرُهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ
بِجَوَابٍ نَظَرِيٍّ يَحْرُسُ بِهِ قَوَانِينَ النَّظَرِ
وَقَوَاعِدَهُ , ثُمَّ يُجِيبُ بِجَوَابٍ يُبَيِّنُ فِيهِ
فِقْهَ الْمَسْأَلَةِ
(2/109)
فَصْلٌ الْقَلْبُ عَلَى الْخَصْمِ
وَالْمُعَارَضَةِ وَالنَّقْضِ , كُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي
النَّظَرِ , قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَاكِيًا
عَنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا
مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156] فَأَجَابَهُمْ بِمَا
أَقْلَبَهُ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ , وَإِنْ جَعَلْتَهُ
نَقْضًا صَحَّ , وَإِنْ جَعَلْتُهُ مُعَارَضَةً أَيْضًا صَحَّ
, وَلِكُلِّ وَاحِدٍ وَجْهٌ , فَقَالَ: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ
أَنْفُسِكِمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} , يَقُولُ:
إِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مَعِي فَقُتِلَ لَوْ كَانَ
عِنْدَكُمْ مَا قُتِلَ , وَكَانَ ذَلِكَ دَافِعًا لِقَضَائِي
فِيهِمْ فَادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ مَا قَضَيْتُهُ مِنَ
الْمَوْتِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(2/110)
فَصْلٌ السُّكُوتُ عَنِ الْجَوَابِ
لِلْعَجْزِ مِنْ أَقْسَامِ الِانْقِطَاعِ , قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]
وَأَقْسَامُ الِانْقِطَاعِ مِنْ وُجُوهٍ: هَذَا أَحَدُهَا،
وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلِّلَ وَلَا يُجْدِي، وَالثَّالِثُ:
أَنْ يَنْقُضَ بِبَعْضِ كَلَامِهِ بَعْضًا، وَالرَّابِعُ: أَنْ
يُؤَدِّيَ كَلَامُهُ إِلَى الْمُحَالِ، وَالْخَامِسُ: أَنْ
يَنْتَقِلَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَالسَّادِسُ: أَنْ
يُسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ فَيُجِيبُ عَنْ غَيْرِهِ،
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَجْحَدَ الضَّرُورَاتِ , وَيَدْفَعَ
الْمُشَاهَدَاتِ , وَيَسْتَعْمِلَ الْمُكَابَرَةَ وَالْبُهْتَ
فِي الْمُنَاظَرَةِ
(2/111)
أنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , أنا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ , نا صَالِحُ بْنُ
مُحَمَّدٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي صَدَقَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ
, قَالَ: قَالَ لِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ , قَالَ الْمَأْمُونُ: «غَلَبَةُ
الْحُجَّةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ غَلَبَةِ الْقُدْرَةِ ,
لِأَنَّ غَلَبَةَ الْقُدْرَةِ تَزُولُ [ص:112] بِزَوَالِهَا ,
وَغَلَبَةَ الْحُجَّةِ لَا يُزِيلُهَا شَيْءٌ» قُلْتُ:
فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ , وَوَضَحَتْ لَهُ
الدَّلَالَةُ , أَنْ يَنْقَادَ لَهَا , وَيَصِيرَ إِلَى
مُوجِبَاتِهَا , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّظَرِ
وَالْجَدَلِ طَلَبُ الْحَقِّ , وَإِتِّبَاعُ تَكَالِيفِ
الشَّرْعِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ}
(2/111)
أنا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ
بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رَامِينَ
الْإِسْتَرَابَاذِيُّ , نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ جَعْفَرٍ الْجُرْجَانِيُّ , نا أَبُو الْعَبَّاسِ
السَّرَّاجُ , قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ
, يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ
مَهْدِيٍّ , يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ:
قُلْتُ لِزُفَرَ: صِرْتُمْ حَدِيثًا فِي النَّاسِ وَضِحْكَةً،
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: تَقُولُونَ فِي الْأَشْيَاءِ
كُلِّهَا: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ , ادْرَءُوا
الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ، فَصِرْتُمْ إِلَى أَعْظَمِ
الْحُدُودِ فَقُلْتُمْ: يُقَامُ بِالشُّبُهَاتِ، قَالَ: وَمَا
ذَاكَ؟ قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَقُلْتُمْ:
يُقْتَلُ بِهِ، قَالَ: إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ
عَنْهُ السَّاعَةَ [ص:113] قُلْتُ: كَانَ زُفَرُ بْنُ
الْهُذَيْلِ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ,
فَلَمَّا حَاجَّهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ فِي مُنَاظَرَتِهِ ,
وَفَتَّ فِي عَضُدِهِ بِحُجَّتِهِ , أَشْهَدَهُ عَلَى
رَجْعَتِهِ , خِيفَةً مِنْ مُدَّعٍ يَدَّعِي ثَبَاتَهُ عَلَى
قَوْلِهِ الَّذِي سَبَقَ مِنْهُ , بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ زَلَّةٌ وَخَطَأٌ , وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ
مَنِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ أَنْ يَقْبَلَهُ ,
وَيُسَلِّمَ لَهُ , وَلَا يَحْمِلُهُ اللِّجَاجُ وَالْجَدَلُ
عَلَى التَّقَحُّمِ فِي الْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ , قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]
(2/112)
أنا أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ , نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عِمْرَانَ , أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى , نَا عَوْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ , نَا الْعَبَّاسُ بْنُ رُسْتُمَ , قَالَ: كَانَ
الْمَأْمُونُ , يَقُولُ: «إِذَا وَضَحَتِ الْحُجَّةُ ثَقُلَ
عَلَى الْأَسْمَاعِ اسْتِمَاعُ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا»
(2/113)
أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى الْكَازُرُونِيُّ
بنَيْسَابُورَ , قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو عَامِرٍ
النَّسَوِيِّ , قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو عَلِيٍّ: الْحُسَيْنُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْقُومَسِيُّ لِأَبِي سَعْدِ
بْنِ دَوْسَتَ: «
[البحر الكامل]
وَمُخَالِفٌ لِلْحَقِّ غَيْرُ مُخَالِفٍ ... لِلصِّدْقِ عِنْدَ
تَنَاظُرٍ وَحِجَاجٍ
تَرَكَ الْحِجَاجَ إِلَى اللِّجَاجِ فَقُلْتُ يَا ... طَرْدَ
الدَّجَاجِ وَمَنْزِلَ الْحِجَاجِ»
(2/113)
|