اللمع في أصول الفقه الكلام في الأمر
والنهي
باب القول في بيان الأمر وصيغته
أعلم أن الأمر قول يستدعي به الفعل ممن هو دونه ومن أصحابنا من
زاد فيه على سبيل الوجوب فأما الأفعال التي ليست بقول فإنها
تسمى أمرا على سبيل المجاز ومن أصحابنا من قال ليس بمجاز قال
الشيخ الإمام أيده الله وقد نصرت ذلك في التبصرة والأول أصح
لأنه لو كان حقيقة في الفعل كما هو حقيقة في القول لتصرف في
الفعل كما تصرف في القول فيقال أمر يأمر كما يقال ذلك إذا أريد
به القول.
فصل
وكذلك ما ليس فيه استدعاء كالتهديد مثل قوله عز وجل:
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 1 والتعجيز كقوله تعالى: {قُلْ
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} 2 والإباحة
مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 3
فذلك كله ليس بأمره وقال البلخي من المعتزلة: الإباحة أمر وهذا
خطأ لأن الإباحة هي الإذن وذلك لا يسمى أمرا ألا ترى أن العبد
إذا استأذن مولاه في الاستراحة وترك الخدمة فأذن له في ذلك لا
يقال انه أمره بذلك.
2-فصل
وكذلك ما كان من النظير للنظير ومن الأدنى للأعلى فليس بأمر
وإن
__________
1 سورة فصلت الآية: 40.
2 سورة هود الآية: 13.
3 سورة المائدة الآية: 2.
(1/12)
كان صيغته صيغة أمر وذلك كقول العبد لربه
اغفر لي وارحمني فإن ذلك مسألة ورغبة.
فصل
وأما الاستدعاء على وجه الندب فليس بأمر حقيقة ومن أصحابنا من
قال هو أمر حقيقة والدليل على أنه ليس بأمر قوله صلى الله عليه
وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".
ومعلوم أن السواك عند كل صلاة مندوب إليه وقد أخبر أنه لم يأمر
به فدل على أن المندوب إليه غير مأمور به.
فصل
للأمر صيغة موضوعة في اللغة تقتضي الفعل وهو قوله افعل وقالت
الأشعرية: ليست للأمر صيغة والدليل على أن له صيغة أن أهل
اللسان قسموا الكلام فقالوا في جملتها أمر ونهي فالأمر قولك
افعل والنهي قولك لا تفعل فجعلوا قوله افعل بمجرده أمراً فدل
على أن له صيغة.
(1/13)
باب ما يقتضي الأمر
من الإيجاب
إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب في قول أكثر أصحابنا ثم
اختلف هؤلاء فمنهم من قال يقتضي الوجوب بوضع اللغة ومنهم من
قال يقتضي الوجوب بالشرع ومن أصحابنا من قال يقتضي الندب. وقال
بعض الأشعرية لا يقتضي الوجوب ولا غيره إلا بدليل وقالت
المعتزلة الأمر يقتضي إرادة الفعل فإن كان ذلك من حكيم اقتضت
الندب وإن كان من غيره لم يقتض أكثر من الإرادة، والدليل على
أنها تقتضي الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على
أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". فدل على أنه لو أمر لوجب
ولو شق ولأن السيد من العرب إذا قال لعبده اسقني ماء فلم يسقه
استحق الذم والتوبيخ فلو لم يقتض الوجوب لما استحق الذم عليه.
فصل
سواء وردت هذه الصيغة ابتداء أو وردت بعد الحظر فإنها تقتضي
(1/13)
الوجوب. وقال بعض أصحابنا: إذا وردت بعد
الحظر اقتضت الإباحة والدليل على أنها تقتضي الوجوب أن كل لفظ
اقتضى الإيجاب إذا لم يتقدمه حظر اقتضى الإيجاب وإن تقدمه حظر
كقوله: أوجبت وفرضت.
فصل
إذا دل الدليل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجز الاحتجاج
به في الجواز ومن أصحابنا من قال يجوز والأول أظهر لأن الأمر
لم يوضع للجواز وإنما وضع للإيجاب والجواز يدخل فيه على سبيل
التبع فإذا سقط الوجوب سقط ما دخل فيه على سبيل التبع.
(1/14)
باب في أن الأمر
يقتضي الفعل مرة واحدة أو التكرار
إذا وردت صيغة الأمر لإيجاب فعل وجب العزم على الفعل ويجب
تكرار ذلك كلما ذكر الأمر لأنه إذا ذكر ولم يعزم على الفعل صار
مصرا على العناد وهذا لا يجوز وأما الفعل المأمور به فإن كان
في اللفظ ما يدل على تكراره وجب تكراره وإن كان مطلقا ففيه
وجهان. ومن اصحابنا من قال: يجب تكراره على حسب الطاقة ومنهم
من قال: لا يجب أكثر من مرة واحدة إلا بدليل يدل على التكرار
وهو الصحيح، والدليل على أن إطلاق الفعل يقتضي ما يقع عليه
الاسم ألا ترى أنه لو حلف ليفعلن بر بمرة واحدة فدل على أن
الإطلاق لا يقتضي أكثر من ذلك.
فصل
فأما إذا علق الأمر بشرط بأن يقول إذا زالت الشمس فهل يقتضي
التكرار إن قلنا إن مطلق الأمر يقتضي التكرار فالمعلق بالشرط
مثله؛ وإن قلنا إن مطلقه لا يقتضي التكرار ففي المعلق بالشرط
وجهان. ومن أصحابنا من قال: يقتضي التكرار كلما تكرر الشرط
ومنهم من قال لا يقتضي وهو الأصح لأن كل ما لا يقتضي التكرار
إذا كان مطلقا لم يقتض التكرار إذا
(1/14)
كان بالشرط كالطلاق لا فرق بين أن يقول أنت
طالق وبين أن يقول إذا زالت الشمس فأنت طالق.
فصل
فأما إذا تكرر الأمر بالفعل الواحد بأن قال: صل ثم قال: صل فإن
قلنا إن مطلق الأمر يقتضي التكرار فتكرار الأمر يقتضي التأكيد،
وإن قلنا أنه يقتضي الفعل مرة واحدة ففي التكرار وجها: أحدهما
أنه تأكيد وهو قول الصيرفي. والثاني: إنه استئناف وهو الصحيح،
والدليل عليه أن كل واحد من الأمرين يقتضي إيجاد الفعل عند
الانفراد فإذا اجتمعا أوجبا التكرار كما لو كانا فعلين.
(1/15)
باب في أن الأمر هل
يقتضي الفعل على الفور أم لا
إذا ورد الأمر بالفعل مطلقا وجب العزم على الفعل على الفور كما
مضى في الباب قبله وهل يقتضي الفعل على الفور بنية على
التكرار، فإن قلنا إن الأمر يقتضي التكرار على حسب الاستطاعة
وجب على الفور لأن الحالة الأولى داخلة في الاستطاعة فلا يجوز
إخلاؤها من الفعل، وإن قلنا إن الأمر يقتضي مرة واحدة فهل
يقتضي ذلك على الفور أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا. أحدهما أنه لا
يقتضي الفعل على الفور ومن أصحابنا من قال يقتضي ذلك على الفور
وهو قول الصيرفي والقاضي أبي حامد والأول أصح لأن قوله أفعل
يقتضي إيجاد الفعل من غير تخصيص بالزمان الأول دون الثاني فإذا
صار ممتثلا بالفعل في الزمان الأول وجب أن يصير ممتثلا بالفعل
في الزمان الثاني.
فصل
فأما إذا ورد الأمر مقيدا بزمان نظرت فإن كان الزمان يستغرق
العبادة كالصوم في شهر رمضان لزمه فعلها على الفور عند دخول
الوقت وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة كصلاة الزوال ما بين
الظهر إلى أن يصير ظل كل
(1/15)
شيء مثله وجب الفعل في أول الوقت وجوبا
موسعا، ثم اختلفوا هل يجب العزم في أول الوقت بدلا عن الصلاة
فمنهم من لم يوجب ومنهم من أوجب العزم بدلا عن الفعل في أول
الوقت.
وقال أبو الحسن الكرخي: يتعلق الوجوب أحد شيئين إما بالفعل أو
بأن يضيق الوقت. وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة: يتعلق الوجوب بآخر
الوقت. واختلف هؤلاء فيمن صلى في أول الوقت، فمنهم من قال أن
ذلك نفل فإن جاء آخر الوقت وليس من أهل الوجوب فلا كلام في أن
ما فعله كان نفلا وإن كان من أهل الوجوب منع ذلك النفل الذي
فعله من توجه الفرض عليه في آخر الوقت، ومنهم من قال فعله في
أول الوقت مراعى فإن جاء آخر الوقت وهو من أهل الوجوب علمنا
أنه فعل واجبا وإن لم يكن من أهل الوجوب علمنا أنه فعل نفلا
والدليل على ما قلناه أن المقتضي للوجوب هو الأمر وقد تناول
ذلك أول الوقت بقوله {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 1
فوجب أن يجب في أوله.
فصل
فإن فات الوقت الذي علق عليه العبادة فلم يفعل فهل يجب القضاء
أم لا؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال يجب ومنهم من قال لا يجب
إلا بأمر ثان وهو الأصح لأن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر فلا
يجب الفعل فيه كما قبل الوقت.
فصل
إذا أمر بأمر بعبادة في وقت معين في وقت معين ففعلها في ذلك
الوقت سمي أداء على سبيل الحقيقة ولا يسمى قضاء إلا مجازا كما
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} 2 وكما
قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
__________
1 سورة الإسراء الآية: 78.
2 سورة البقرة جزء من الآية: 200.
(1/16)
الْأَرْضِ} 1 أما إذا دخل فيها فأفسدها أو
نسي شرطا من شروطها فأعادها والوقت باق سمي إعادة وأداء وإن
فات الوقت ففعلها بعد فوات الوقت سمي قضاء.
__________
1 سورة الجمعة الآية: 10.
(1/17)
باب الأمر بأشياء
على جهة التخيير والترتيب
إذا خير الله تعالى بين أشياء مثل كفارة اليمين خير فيها بين
العتق والإطعام والكسوة فالواجب منها واحد غير معين فأيها فعل
فقد فعل الواجب وإن فعل الجميع سقط الفرض عنه بواحد منها
والباقي تطوع، وقالت المعتزلة: الثلاثة كلها واجبة فإن أرادوا
بوجوب الجميع تساوي الجميع في الخطاب فهو وفاق وإنما يحصل
الخلاف في العبارة دون المعنى وإن أرادوا بوجوب الجميع أنه
مخاطب بفعل الجميع فالدليل على فساده أنه إذا ترك الجميع لم
يعاقب على الجميع ولو كان الجميع واجبا لعوقب على الجميع فلما
لم يعاقب إلا على واحد دل على أنه هو الواجب.
فصل
فأما إذا أمر بأشياء على الترتيب كالمظاهر أمر بالعتق عند وجود
الرقبة وبالصيام عند عدمها بالإطعام عند العجز عن الجميع
فالواجب من ذلك واحد معين على حسب حاله فإن كان موسرا ففرضه
العتق وإن كان معسرا ففرضه الصيام وإن كان عاجزا ففرضه الإطعام
فإن جمع من فرضه العتق بين الجميع سقط الفرض عنه بالعتق وما
عداه تطوع وإن جمع من فرضه الصيام بين الجميع ففرضه أحد
الأمرين من العتق أو الصيام والإطعام تطوع وإن جمع من فرضه
الإطعام بين الجميع ففرضه واحد من الثلاثة كالكفارة المخيرة.
(1/18)
مشروطا بذلك الغير كالاستطاعة في الحج
والمال في الزكاة لم يكن الأمر بالحج والزكاة أمرا بتحصيل لأن
الأمر بالحج لم يتناول من لا استطاعة له وفي الزكاة من لا مال
له فلو ألزمناه تحصيل ذلك ليدخل في الأمر لأسقطنا شرط الأمر
وهذا لا يجوز وإن كان الأمر مطلقا غير مشروط كان الأمر بالفعل
أمرا به وبما لا يتم إلا به وذلك كالطهارة للصلاة الأمر
بالصلاة أمر بالطهارة أو كغسل شيء من الرأس لاستيفاء الفرض عن
الوجه، فلو لم يلزمه ما يتم به الفعل المأمور به أقسطنا الوجوب
في المأمور ولهذا قلنا فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة
ولم يعرف عينها أنه يجب عليه قضاء خمس صلوات لتدخل المنسية
فيها.
فصل
وأما إذا أمر بصفة عبادة فإن كانت الصفة واجبة كالطمأنينة في
الركوع دل على وجوب الركوع لأنه لا يمكنه أن يأتي بالصفة
الواجبة إلا بفعل الموصوف وإن كانت الصفة ندبا كرفع الصوت
بالتلبية لم يدل ذلك على وجوب التلبية ومن الناس من قال: تدل
على وجوب التلبية وهذا خطأ لأنه قد يندب إلى صفة ما هو واجب
وما هو ندب فلم يكن في الندب دليل على وجوب الأصل.
فصل
وإذا أمر بشيء كان ذلك نهيا عن ضده من جهة المعنى فإن كان ذلك
الأمر واجبا كان النهي عن ضده على سبيل الوجوب. وإن كان ندبا
كان النهي عن ضده على سبيل الندب ومن أصحابنا من قال ليس بنهي
عن ضده وهو قول المعتزلة والدليل على ما قلناه انه لا يتوصل
إلى فعل المأمور إلا بترك الضد فهو كالطهارة في الصلاة.
فصل
فأما إذا أمر باجتناب شيء ولم يمكنه الاجتناب إلا باجتناب غيره
فهذا على ضربين.
(1/18)
أحدهما: أن يكون في اجتناب الجميع مشقة
فيسقط حكم المحرم فيه فيسقط عنه فرض الاجتناب وهو كما إذا وقع
في الماء الكثير نجاسة أو اختلطت أخته بنساء بلد فلا يمنع من
الوضوء بالماء ولا من نكاح نساء ذلك البلد.
والثاني: أن لا يكون في اجتناب الجميع مشقة فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون المحرم مختلطا بالمباح كالنجاسة في الماء
القليل والجارية المشتركة بين الرجلين فيجب اجتناب الجميع.
والثاني: أن يكون غير مختلط إلا أنه لا يعرف المباح بعينه فهذا
على ضربين: ضرب يجوز فيه التحري وهو كالماء الطاهر إذا اشتبه
بالماء النجس فيتحرى "صفحة 10" فيه وضرب لا يجوز فيه التحري
وهو الأخت إذا اختلطت بأجنبية والماء إذا اشتبه بالبول فيجب
اجتناب الجميع.
(1/19)
باب إيجاب ما لا يتم
المأمور إلا به
إذا أمر بفعل ولم يتم ذلك الفعل إلا بغيره نظرت فإن كان ذلك
الأمر
(1/17)
باب الأمر يدل على
إجراء المأمور به
واعلم أنه إذا أمر الله تعالى بفعل لم يخل المأمور إما أن يفعل
المأمور به على الوجه الذي تناوله الأمر أو يزيد على ما تناوله
الأمر أو ينقص، فإن فعل على الوجه الذي تناوله الأمر أجزأه ذلك
بمجرد الأمر وقال بعض المعتزلة: الأمر لا يدل على الإجزاء بل
يحتاج الآخر إلى دليل آخر وهذا خطأ لأنه قد فعل المأمور به على
الوجه الذي تناوله الأمر فوجب أن يعود إلى ما كان قبل الأمر.
فصل
فأما إذا زاد على المأمور بأن يأمره بالركوع فيزيد على ما يقع
عليه الاسم سقط الفرض عنه بأدنى ما يقع عليه الاسم والزيادة
على ذلك تطوع لا يدخل في الأمر وقال بعض الناس: الجميع واجب
داخل في الأمر وهذا باطل لأن ما زاد على الاسم يجوز له تركه
على الإطلاق فإذا فعله لم يكن واجبا كسائر النوافل.
(1/19)
فصل
فأما إذا نقص عن المأمور نظرت فإن نقص منه ما هو شرط في صحته
كالصلاة بغير قراءة لم يجزه ولم يدخل في الأمر لأنه لم يأت
بالمأمور على الوجه الذي أمر به وإن نقص منه ما ليس بشرط
كالتسمية في الطهارة أجزأه في المأمور وهل يدخل ذلك في الأمر
الظاهر؟ من قول أصحابنا أنه لا يدخل في الأمر وقال أصحاب أبي
حنيفة: يدخل في الأمر وهذا غير صحيح لأن المكروه منهي عنه فلا
يجوز أن يدخل في لفظ الأمر كالمحرم.
(1/20)
باب من يدخل في
الأمر ومن لا يدخل فيه
اعلم أن الساهي لا يجوز أن يدخل في الأمر والنهي لأن القصد إلى
التقرب بالفعل والترك يتضمن العلم به حتى يصح القصد إليه وهذا
يستحيل في حق الناسي ألا ترى أنه لو قيل له: لا تتكلم في صلاتك
وأنت ساه لوجب أن يقصد إلى ترك ما يعلم أنه ساه فيه وعلمه بأنه
ساه يمنع كونه ساهيا فبطل خطابه على هذه الصفة.
فصل
وكذلك لا يجوز خطاب النائم ولا المجنون ولا السكران لأنه لو
جاز خطابهم مع زوال العقل لجاز خطاب البهيمة والطفل في المهد
وهذا لا يقوله أحد.
فصل
وأما المكره فيصح دخوله في الخطاب والتكليف وقالت المعتزلة لا
يصح دخوله تحت التكليف وهذا خطأ لأنه لو لم يصح تكليفه لما كلف
ترك القتل مع الإكراه ولأنه عالم قاصد إلى ما يفعله فهو كغير
المكره.
فصل
وأما الصبي فلا يدخل في خطاب التكليف فإن الشرع قد ورد بإسقاط
(1/20)
التكليف عنه وأما إيجاب الحقوق في ماله
فيجوز أن يدخل فيه كالزكوات والنفقات فإن التكليف والخطاب في
ذلك على وليه دونه.
فصل
وأما العبيد فإنهم يدخلون في الخطاب ومن أصحابنا من قال: لا
يدخلون في خطاب الشرع إلا بدليل وهذا خطأ لأن الخطاب يصلح لهم
كما يصلح للأحرار.
فصل
وأما الكفار فإنهم يدخلون أيضا في الخطاب ومن أصحابنا من قال
لا يدخلون في الشرعيات ومن الناس من قال يدخلون في المنهيات
دون المأمورات والدليل على أنهم يدخلون في الجميع قوله عز وجل
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ} 1 ولو لم يكونوا مخاطبين بالصلاة لما عاقبهم
عليها ولأن صلاح الخطاب لهم كصلاحه للمسلمين فكما دخل المسلمون
وجب أن يدخل الكفار.
فصل
وأما النساء: فإنهن لا يدخلن في خطاب الرجال وقال أبو بكر بن
داود وأصحاب أبي حنيفة يدخلن وهذا خطأ لأن للنساء لفظا مخصوصا
كما أن للرجال لفظا مخصوصا فكما لم تدخل الرجال في خطاب النساء
لم تدخل النساء في خطاب الرجال.
فصل
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل في كل خطاب خوطب
به الأمة كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} و {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا} وغير ذلك لأن صلاح اللفظ له كصلاحه لكل أحد
من الأمة فكما دخلت الأمة دخل النبي
__________
1 سورة المدثر الآية: 42, 43.
(1/21)
صلى الله عليه وسلم وأما إذا خوطب النبي
صلى الله عليه وسلم بخطاب خاص لم يدخل معه غيره إلا بدليل
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} 1
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} 2 ومن
الناس من قال ما ثبت أنه شرع له دخل غيره معه فيه وهذا خطأ لأن
الخطاب مقصور عليه فمن زعم أن غيره يدخل فيه فقد خالف مقتضى
الخطاب.
فصل
فأما إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بشيء لم يدخل هو فيه ومن
أصحابنا من قال يدخل فيما يأمر به الأمة وهذا خطأ لأن ما خاطب
به الأمة من الخطاب لا يصح له فلا يجوز أن يدخل فيه من غير
دليل.
فصل
وأما ما خاطب الله عز وجل به الخلق خطاب المواجهة كقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
فإنه لا يدخل فيه سائر من لم يخلق من جهة الصيغة واللفظ لأن
هذا الخطاب لا يصلح إلا لمن هو موجود على الصفة التي متى ذكرها
فأما من لم يخلق فلا يصلح له هذا الخطاب وكذلك إذا خاطب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بخطاب لم يدخل غيره فيه من جهة اللفظ
لأن الذي خاطبه به لا يتناول غيره وإنما يدخل الغير في حكم ذلك
الخطاب بدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "حكمي على واحد
حكمي على الجماعة". والقياس وهو أن يوجد المعنى الذي حكم به
فيمن حكم عليه في غيره فيقاس عليه.
فصل
إذا ورد الخطاب بلفظ العموم دخل فيه كل من صلح له الخطاب ولا
يسقط ذلك الفعل عن بعضهم بفعل البعض إلا فيما ورد الشرع به
وقرره أنه
__________
1 سورة المزمل الآية: 1, 2.
2 سورة الأحزاب الآية: 28. والآية: 59.
(1/22)
فرض كفاية كالجهاد وتكفين الميت والصلاة
عليه ودفنه فإنه إذا قام به من يقع به الكفاية سقط عن الباقين.
(1/23)
باب بيان الفرض
والواجب والسنة والندب
والواجب والفرض والمكتوبة واحد وهو ما يعلق العقاب بتركه. وقال
أصحاب أبي حنيفة الواجب ما ثبت وجوبه بدليل مجتهد فيه كالوتر
والأضحية عندهم والفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به كالصلوات
الخمس والزكوات المفروضة وما أشبهها وهذا خطأ لأن طريق الأسماء
الشرع واللغة والاستعمال وليس في شيء من ذلك فرق بين ما ثبت
بدليل مقطوع به أو بطريق مجتهد فيه.
فصل
وأما السنة فما رسم ليحتذي به على سبيل الاستحباب وهي والنفل
والندب بمعنى واحد، ومن الناس من قال السنة ما ترتب كالسنن
الراتبة مع الفرائض والنفل والندب ما زاد على ذلك وهذا لا يصح
لأن كل ما ورد الشرع باستحبابه فهو سنة سواء كان راتبا أو غير
راتب فلا معنى لهذا الفرق.
فصل
إذا قال الصحابي أمر رسول صلى الله عليه وسلم بكذا وجب قبوله
ويصير كما لو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بكذا،
وقال داود لا يقبل حتى ينقل لفظه والدليل على ما قلناه هو أن
الراوي مصدق فيما يرويه وهو عارف بالأمر والنهي لأنه لغته فوجب
أن يقبل كسائر ما يرويه.
فصل
وكذلك إن قال من السنة كذا حمل على سنة النبي صلى الله عليه
وسلم، وأما إذا قال أمر فلان بكذا أو أمرنا أو نهينا ولم يسم
الآمر حمل ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أصحاب أبي
حنيفة: لا يحمل على ذلك إلا
(1/23)
بدليل وهو قول أبي بكر الصيرفي وهذا غير
صحيح لأن الذي يحتج بأمره ونهيه وسنته هو الرسول صلى الله عليه
وسلم فإذا أطلق الصحابي ذلك وجب أن يحمل عليه.
(1/24)
باب القول في النهي
فصل
النهي يقارب الأمر في أكثر ما ذكرناه إلا أني أشير إليه على
جهة الاختصار وأبين ما يخالف الأمر فيه إن شاء الله تعالى وبه
الثقة، فأما حقيقته فهو القول الذي يستدعي به ترك الفعل ممن هو
دونه ومن أصحابنا من زاد فيه على سبيل الوجوب كما ذكرناه في
الأمر.
فصل
وله صيغة تدل عليه في اللغة وهو قوله: لا تفعل وقالت الأشعرية:
ليس له صيغة وقد مضى الدليل عليه في الأمر.
فصل
وإذا تجردت صيغته اقتضت التحريم وقالت الأشعرية: لا تقتضي
لتحريم ولا غيره إلا بدليل، والدليل على ما قلناه أن السيد من
العرب إذا قال لعبده: لا تفعل كذا ففعل استحق الذم والتوبيخ
فدل على أنه ينبغي التحريم.
فصل
وإذا تجردت صيغته اقتضت الترك على الدوام وعلى الفور بخلاف
الأمر وذلك أن الأمر يقتضي إيجاد الفعل فإذا فعل مرة في أي
زمان فعل سمي ممتثلا وفي النهي لا يسمى منتهيا إلا إذا سارع
إلى الترك على الدوام.
فصل
وإذا نهى عن شيء فإن كان له ضدٌّ واحدٌ فهو أمر بذلك الضد
كالصوم
(1/24)
في العيدين وإن كان له أضداد كالزنا فهو
أمر بضد من أضداد هـ لأنه لا يتوصل إلى ترك المنهي عنه إلا بما
ذكرناه.
فصل
وإذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما ويجوز له
فعل أحدهما وقالت المعتزلة: يكون ذلك نهياً عنهما فلا يجوز فعل
واحد منهما والدليل على ما قلناه هو أن النهي أمر بالترك كما
أن الأمر أمر بالفعل ثم الأمر بفعل أحدهما لا يقتضي وجوبهما
فكذلك الأمر بترك أحدهما لا يقتضي وجوب تركهما.
فصل
والنهي يدل على فساد المنهي عنه في قول أكثر أصحابنا كما يدل
الأمر على أجزاء المأمور به، ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال:
يقتضي الفساد من جهة الوضع في اللغة ومنهم من قال: يقتضي
الفساد من جهة الشرع ومن أصحابنا من قال: النهي لا يدل على
الفساد وحكي عن الشافعي رحمه الله ما يدل عليه وهو قول طائفة
من أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتكلمين واختلف القائلون بذلك في
الفصل بين ما يفسد وبين ما لا يفسد فقال بعضهم: إن كان في فعل
المنهي إخلال بشرط في صحته إن كان عبادة أو في نفوذه إن كان
عقد أوجب القضاء بفساده وقال بعضهم إن كان النهي يختص بالفعل
المنهي عنه كالصلاة في المكان النجس اقتضى الفساد وإن لم يختص
المنهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة لم يقتض الفساد: والدليل
على أن النهي يقتضي الفساد على الإطلاق أنه إذا أمر بعبادة
مجردة عن النهي ففعل على وجه منهي عنه فإنه لم يأت بالمأمور
على الوجه الذي اقتضاه الأمر فوجب أن تبقى العبادة عليه كما
كانت.
(1/25)
باب القول في العموم
والخصوص
ذكر حقيقة العموم وبيان مقتضاه
والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا وقد يكون متناولا لشيئين كقولك
عممت زيدا وعمرا بالعطاء وقد يتناول جميع الجنس كقولك عممت
الناس بالعطاء وأقل ما يتناول شيئين وأكثره ما استغرق الجنس.
فصل
وألفاظه أربعة أنواع:
أحدها اسم الجمع إذا عرف بالألف واللام كالمسلمين والمشركين
والأبرار والفجار وما أشبه ذلك: وأما المنكر منه كقولك مسلمون
ومشركون وأبرار وفجار فلا يقتضي العموم ومن أصحابنا من قال هو
للعموم وهو قول أبي علي الجبائي والدليل على فساد ذلك أنه نكرة
فلم يقتض الجنس كقولك رجل ومسلم.
فصل
والثاني اسم الجنس إذا عرف بالألف واللام كقولك الرجل والمسلم
ومن أصحابنا من قال: هو للعهد دون الجنس والدليل على أنه للجنس
قوله عز وجل {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1
والمراد به الجنس ألا ترى أنه استثنى منه الجمع فقال {إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا} وتقول العرب: أهلك الناس الدينار والدرهم
ويريدون الجنس.
فصل
والثالث: الأسماء المبهمة وذلك من فيمن يعقل وما فيما لا يعقل
في الاستفهام والشرط والجزاء تقول في الاستفهام: من عندك وما
عندك وفي
__________
1 سورة العصر الآية: 1, 2.
(1/26)
الجزاء تقول من أكرمني أكرمته ومن جاءني
رفعته، وأي فيما يعقل وفيما لا يعقل في الاستفهام وفي الشرط
والجزاء تقول في الاستفهام أي شيء عندك وفي الشرط والجزاء: أي
رجل أكرمني أكرمته وأين وحيث في المكان، ومتى في الزمان تقول
اذهب أين شئت وحيث شئت واطلبني متى شئت.
فصل
والرابع: النفي في النكرات تقول: ما عندي شيءٌ ولا رجل في
الدار.
فصل
أقل الجمع ثلاثة فإذا ورد لفظ الجمع كقوله: مسلمون ورجال حمل
على ثلاثة ومن أصحابنا من قال: هو اثنان وهو قول مالك وابن
داود ونفطويه وطائفة من المتكلمين والدليل على ما قلناه أن ابن
عباس رضي الله عنهما احتج على عثمان رضي الله عنه في حجب الأم
بالأخوين وقال: ليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال عثمان: لا
أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار
فادعى ابن عباس أن الأخوين ليس بأخوة فأقره عثمان كرم الله
وجهه على ذلك وإنما اعتذر عنه بالإجماع ولأنهم فرقوا بين
الواحد والاثنين والجمع فقالوا: رجل ورجلان ورجال فلو كان
الاثنان جمعا كالثلاثة لما خالفوا بينهما في اللفظ.
فصل
إذا تجردت ألفاظ العموم التي ذكرناها اقتضت العموم واستغراق
الجنس والطبقة وقالت الأشعرية: ليس للعموم صيغة موضوعة وهذه
الألفاظ تحتمل العموم والخصوص فإذا وردت وجب التوقف فيها حتى
يدل الدليل على ما يراد بها من الخصوص والعموم ومن الناس من
قال: لا تحمل على العموم في الأخبار وتحمل في الأمر والنهي ومن
الناس من قال: تحمل على أقل الجمع ويتوقف فيما زاد والدليل على
ما ذكرناه أن العرب فرقت بين الواحد والاثنين والثلاثة فقالوا:
رجل ورجلان ورجال كما فرقت بين الأعيان في الأسماء
(1/27)
فقالوا: رجل وفرس وحمار فلو كان احتمال لفظ
الجمع للواحد والاثنين كاحتماله لما زاد لم يكن لهذا التفريق
معنى ولأن العموم مما تدعو الحاجة إلى العبارة عنه في
مخاطباتهم فلا بد أن يكونوا قد وضعوا له لفظا يدل عليه كما
وضعوا لكل ما يحتاجون إليه من الأعيان فأما من قال أنه يحمل
على الثلاث ويتوقف فيما زاد فالدليل عليه أن تناول اللفظ
للثلاث ولما زاد عليه واحد فإذا وجب الحمل على الثلاث وجب
الحمل على ما زاد.
فصل
ولا فرق في ألفاظ العموم بين ما قصد بها المدح أو الذم أو قصد
بها الحكم في الحمل على العموم ومن أصحابنا من قال: أن قصد بها
المدح كقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ} 1 والذم كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} 2 لم يحمل على العموم وهذا خطأ لأن
ذكر المدح والذم يؤكد في الحث عليه والزجر عنه فلا يجوز أن
يكون مانعا من العموم.
فصل
وإذا وردت ألفاظ العموم فهل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها
قبل البحث عما يخصها اختلف أصحابنا فيه فقال أبو بكر الصيرفي:
يجب العمل بموجبها واعتقاد عمومها ما لم يعلم ما يخصها وذهب
عامة أصحابنا أبو العباس وأبو سعيد الأصطخري وأبو إسحاق
المروزي إلى أنه لا يجب اعتقاد عمومها حتى يبحث عن الدلائل
فإذا بحث فلم يجد ما يخصها اعتقد حينئذ عمومها وهو الصحيح
والدليل عليه أن المقتضى للعموم وهو الصيغة المتجردة ولا يعلم
التجرد إلا بعد النظر والبحث فلا يجوز اعتقاد العموم قبله.
__________
1 سورة المؤمنون الآية: 5.
2 سورة التوبة الآية: 34.
(1/28)
باب بيان ما يصح
دعوى العموم فيه وما لا يصح
وجملته أن العموم يصح دعواه في نطق ظاهر يستغرق الجنس بلفظه
كالألفاظ التي ذكرناها في الباب الأول وأما الأفعال فلا يصح
فيها دعوى
(1/28)
العموم لأنها تقع على صفة واحدة فإن عرفت
تلك الصفة اختص الحكم بها وإن لم تعرف صار مجملا مما عرف صفته
مثل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في
السفر فهذا مقصور على ما روي فيه وهو السفر لا يحمل على العموم
فيما لم يرد فيه وما لم يعرف مثلما روى أنه جمع بين الصلاتين
في السفر فلا يعلم أنه كان في سفر طويل أو سفر قصير إلا أنه
معلوم أنه لم يكن إلا في سفر واحد فإذا لم يعلم ذلك بعينه وجب
التوقف فيه حتى يعرف ولا يدعى فيه العموم.
فصل
وكذلك القضايا في الأعيان لا يجوز دعوى العموم فيها وذلك مثل
أن يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة للجار وقضى
في الإفطار بالكفارة وما أشبه ذلك فلا يجوز دعوى العموم فيها
بل يجب التوقف فيه لأنه يجوز أن يكون قضى بالشفعة لجار لصفة
يختص بها وقضى بكفارة بإفطار في جماع أو غيره مما يختص به
المحكوم له وعليه فلا يجوز أن يحكم على غيره إلا أن يكون في
الخبر لفظ يدل على العموم. ومن الناس من قال: إن كان قد روى
أنه قضى بكفارة بالإفطار وبالشفعة للجار لم يدع فيه العموم وإن
كان قد روى أنه قضى بأن الكفارة في الإفطار وبأن الشفعة للجار
تعلق بعمومه لأن ذلك حكاية قول فكأنه قال: الكفارة في الإفطار
والشفعة للجار وقال بعضهم: إن روى أنه كان يقضي تعلق بعمومه
لأن ذلك للدوام ألا ترى أنه يقال: فلان كان يقري الضيف ويصنع
المعروف وقال الله تعالى:
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} 1 وأراد التكرار
والصحيح أنه لا فرق بين أن يكون بلفظ إن أو غيره لأنه قد يروى
لفظة إن في القضاء بمعنى الحكم في القصة المقضي فيها ولا يقتضي
الحكم في غيرها ولا فرق أيضا بين أن يقول كان وبين غيره لأنه
وإن اقتضى الكرار إلا أنه يجوز أن يكون التكرار على صفة مخصوصة
لا يشاركها فيه سائر الصفات.
__________
1 سورة مريم الآية: 55.
(1/29)
فصل
وكذلك المجمل من القول المفتقر إلى إضماره لا يدعى في إضماره
العموم وذلك مثل قوله عز وجل:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 فإنه يفتقر إلى إضماره
فبعضهم يضمر وقت إحرام الحج أشهر معلومات وبعضهم يضمر وقت
أفعال الحج أشهر معلومات فالحمل عليهما لا يجوز بل يحمل على ما
يدل الدليل على أنه يراد به لأن العموم من صفات النطق فلا يجوز
دعواه في المعاني وعلى هذا من جعل قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، ولا نكاح إلا بولي، ولا
أحل المسجد لجنب ولا لحائض، ورفع القلم عن ثلاثة". وما أشبهه
مجملا منع من دعوى العموم فيه لأنه يجعل المراد معنى غير مذكور
ويجوز أن يريد شيئا دون شيء فلا يجوز دعوى العموم فيه ومن
الفقهاء من يحمل في مثل هذا على العموم في كل ما يحتمله لأنه
أعم فائدة ومنهم من يحمله على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه
معلوم بالإجماع وهذا كله خطأ لما بيناه من أن الحمل على الجميع
لا يجوز وليس هناك لفظ يقتضي العموم ولا يجوز حمله على موضع
الخلاف لأن احتماله لموضع الخلاف ولغيره واحد فلا يجوز تخصيصه
لموضع الخلاف..
__________
1 سورة البقرة جزء من الآية: 197
(1/30)
باب القول في الخصوص
التخصيص تمييز بعض الجملة بالحكم ولهذا نقول خص رسول الله صلى
الله عليه وسلم بكذا وخص الغير بكذا. وأما تخصيص العموم فهو
بيان ما لم يرد باللفظ العام.
فصل
ويجوز دخول التخصيص في جميع ألفاظ العموم من الأمر والنهي
والخبر، ومن الناس من قال: لا يجوز التخصيص في الخبر كما لا
يجوز النسخ وهذا خطأ لأنا قد بينا أن التخصيص ما لم يرد باللفظ
العام وهذا يصح في الخبر كما يصح في الأمر والنهي
(1/30)
فصل
ويجوز التخصيص إلى أني يبقى من اللفظ العام واحد وقال أبو بكر
القفال من أصحابنا: يجوز التخصيص في أسماء الجموع إلى أن يبقى
ثلاثة ولا يجوز أكثر منه والدليل على جواز ذلك هو أنه لفظ من
ألفاظ العموم فجاز تخصيصه إلى أن يبقى واحد دليله الأسماء
المبهمات كـ "من" "وما".
فصل
وإذا خص من العموم شيء لم يصر اللفظ مجازا فيما بقي. وقالت
المعتزلة: يصير مجازا. وقال الكرخي: إن خص بلفظ متصل
كالاستثناء والشرط لم يصر مجازا وإن خص بلفظ منفصل صار مجازا
وهو قول القاضي أبي بكر الأشعري فالدليل على المعتزلة خاصة هو
أن الأصل في الاستعمال الحقيقة وقد وجدنا الاستثناء والشرط في
الاستعمال كغيرهما من أنواع الكلام فدل على أن ذلك حقيقة
والدليل على الجميع أن اللفظ تناول كل واحد من الجنس فإذا خرج
بعضه بالدليل بقي الباقي على ما اقتضاه اللفظ وتناوله فكان
حقيقة فيه.
(1/31)
باب ذكر ما يجوز
تخصيصه وما لا يجوز
وجملته أنه يجوز تخصيص ألفاظ العموم. وأما تخصيص ما عرف من
فحوى الخطاب كتخصيص ما عرف قوله عز وجل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ} 1 فلا يجوز لأن التخصيص إنما يلحق القول وهذا معنى
القول ولأن تخصيصه نقض للمعنى الذي تعلق المنع به ألا ترى أنه
لو قال: ولا تقل لهما أف ولكن أضربهما كان ذلك مناقضة فصار
كتخصيص القياس.
فصل
وأما تخصيص دليل الخطاب فيجوز لأنه كالنطق فجاز تخصيصه فإذا
قال في سائمة الغنم زكاة فدل على أنه لا زكاة في المعلوفة جاز
أن يخص لا زكاة في المعلوفة فيحمل على معلوفة دون معلوفة.
__________
1 سورة الإسراء الآية: 23.
(1/31)
فصل
وأما النص: فلا يجوز تخصيصه كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي
بردة: "يجزئك ولا يجزئ أحدا بعدك". لأن التخصيص أن يخرج بعض ما
تناوله وهذا لا يصح في النص على شيء بعينه.
فصل
وكذلك ما وقع من الأفعال لا يجوز تخصيصه لما بينا فيما تقدم أن
الفعل لا يجوز أن يقع على صفتين فيخرج إحداهما بدليل فإن دل
الدليل على أنه لم يقع إلا على صفة من الصفتين لم يكن ذلك
تخصيصا.
(1/32)
باب بيان الأدلة
التي يجوز التخصيص بها وما لا يجوز
والأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان: متصل ومنفصل فالمتصل هو
الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة ولها أبواب تأتي إن شاء الله
تعالى وبه الثقة. وأما المنفصل فضربان من جهة العقل ومن جهة
الشرع فالذي من جهة العقل ضربان أحدهما: لا يجوز ورود الشرع
بخلافه وذلك ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز
التخصيص به لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع
سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع. والثاني: ما لا يجوز ورود
الشرع بخلافه وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفي الخلق عن صفاته
فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ} 1 في الصفات وقلنا المراد ما خلا الصفات لأن
العقل قد دل على أنه لا يجوز أن يخلق صفاته فخصصنا العموم به.
فصل
وأما الذي من جهة الشرع فوجوه نطق الكتاب والسنة ومفهومهما
وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره وإجماع الأمة
والقياس. فأما الكتاب
__________
1 سورة الزمر الآية: 62.
(1/32)
فيجوز تخصيص الكتاب به كقوله تعالى
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 1 خص به
قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ} 2 ويجوز تخصيص السنة به ومن الناس من قال لا يجوز
والدليل على جوازه هو أن الكتاب مقطوع بصحة طريقه والسنة غير
مقطوع بطريقها فإذا جاز تخصيص الكتاب به فتخصيص السنة به أولى.
فصل
فأما السنة: فيجوز تخصيص الكتاب بها وذلك كقوله صلى الله عليه
وسلم: "لا يرث القاتل". خص به قوله عز وجل: {يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 3 وقال بعض المتكلمين: لا يجوز
تخصيص الكتاب بخبر الواحد. وقال عيسى بن أبان: إن دخله التخصيص
بدليل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإن لم يدخله التخصيص لم يجز؛
والدليل على جواز ذلك أنهما دليلان أحدهما خاص والآخر عام فقضى
بالخاص منهما على العام كما لو كانا من الكتاب والدليل على من
فرق بين أن يكون قد خص بغيره أو لم يخص هو أنه إنما خص به إذا
دخله التخصيص لأنه يتناول الحكم بلفظ غير محتمل والعموم
يتناوله بلفظ محتمل وهذا المعنى موجود وإن لم يدخله التخصيص.
ويجوز تخصيص السنة بالسنة وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به". يخص به قوله صلى
الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". ومن الناس من
قال: لا يجوز من جهة أن السنة جعلت بيانا فلا يجوز أن يفتقر
البيان إلى بيان. وقال بعض أهل الظاهر: يتعارض الخاص والعام
وهو قول القاضي أبي بكر الأشعري والدليل على ما قلناه يجيء إن
شاء الله تعالى.
فصل
وأما المفهوم فضربان: فحوى الخطاب ودليل الخطاب.
فأما فحوى الخطاب: فهو التنبيه ويجوز التخصيص به كقوله تعالى:
{فَلا
__________
1 سورة المائدة الآية: 5.
2 سورة البقرة الآية: 221.
3 سورة النساء الآية: 11.
(1/33)
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}
1 لأن هذا في قول الشافعي رحمة الله عليه يدل على الحكم بمعناه
إلا أنه معنى جلي وعلى قوله يدل على الحكم بلفظه فهو كالنص.
وأما دليل الخطاب الذي هو مقتضى النطق فيجوز تخصيص العموم به
وقال أبو العباس ابن سريج: لا يجوز التخصيص به وهو قول أهل
العراق لأن عندهم أنه ليس بدليل والكلام معهم يجيء إن شاء الله
تعالى وعندنا هو دليل كالنطق في أحد الوجهين وكالقياس في الوجه
الآخر وأيهما كان في جاز التخصيص.
فصل في تعارض اللفظين
إذا تعارض لفظان فلا يخلو إما أن يكونا خاصين أو عامين أو
أحدهما خاصا والآخر عاما أو كل واحد منهما عاماً من وجه خاصاً
من وجه فإن كانا خاصين مثل أن يقول: لا تقتلوا المرتد واقتلوا
المرتد وصلوا ما لها سبب عند طلوع الشمس ولا تصلوا ما لا سبب
لها عند طلوع الشمس فهذا لا يجوز أن يرد إلا في وقتين ويكون
أحدهما ناسخا للآخر، فإن عرف التاريخ نسخ الأول بالثاني وإن لم
يعرف وجب التوقف وإن كانا عامين مثل أن يقول: من دينه فاقتلوه
ومن بدل دينه فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند
طلوع الشمس فهذا إن أمكن استعمالهما في حالين استعملا كما قال
صلى الله عليه وسلم: "خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد". وقال:
"شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد". فقال أصحابنا: الأول محمول
عليه إذا شهد وصاحب الحق لا يعلم أن له شاهدا فإن الأولى أن
يشهد وإن لم يستشهد ليصل المشهود له إلى حقه والثاني محمول
عليه إذا علم من له الحق أن له شاهدا فلا يجوز للشاهد أن يبدأ
بالشهادة قبل أن يستشهد وإن لم يمكن
__________
1 سورة الإسراء الآية: 23.
(1/34)
استعمالهما وجب التوقف كالقسم الذي قبله
وإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1. مع قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما
إهاب دبغ فقد طهر". وقوله: "فيما سقت السماء العشر". مع قوله:
"ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة". فالواجب في مثل هذا
وأمثاله أن يقضى بالخاص على العام ومن أصحابنا من قال: كان
الخاص متأخرا والعام متقدما نسخ الخاص من العموم بقدره بناء
على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب لا يجوز وهذا قول المعتزلة.
وقال بعض أهل الظاهر: يتعارض الخاص والعام وهو قول أبي بكر
الأشعري، وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الخاص مختلفا فيه والعام
مجمعا عليه لم يقض به على العام وإن كان متفقا عليه قضى به.
والدليل على ما ذكرناه أن الخاص هو أقوى من العام لأن الخاص
يتناول الحكم بلفظ لا احتمال فيه والعام يتناوله بلفظ محتمل
فوجب أن يقضي بالخاص عليه.
وأما إذا كان واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه يمكن أن يخص
بكل واحد منهما عموم الآخر مثل ما روى: أن النبي صلى الله عليه
وسلم: "نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس". مع قوله صلى الله عليه
وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". فإنه يحمل
أن يكون المراد بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ما لا سبب لها
من الصلوات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها". ويحتمل أن يكون المراد بقوله صلى
الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها في غير طلوع
الشمس". بدليل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
الصلاة عند طلوع الشمس فالواجب في مثل هذا أن لا يقدم أحدهما
على الآخر إلا بدليل شرعي من غيرهما يدل على المخصوص منهما أو
ترجيح يثبت لأحدهما على الآخر كما روى عن عثمان وعلي رضي الله
عنهما في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما
آية والتحريم أولى وهل يجوز أن يخلوا
__________
1 سورة المائدة الآية: 3
(1/35)
مثل هذا من الترجيح من الناس من قال لا
يجوز ومنهم من قال يجوز، وإذا خلى تعارضا وسقطا ورجع المجتهد
إلى براءة الذمة.
فصل
وأما أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز التخصيص بها
وذلك مثل أن يحرم أشياء بلفظ عام ثم يفعل بعضها فيخص بذلك
العام ومن الناس من قال: لا يجوز التخصص بها وهو قول بعض
أصحابنا لأنه يجوز أن يكون مخصوصا به والأول أصح لأنه وإن جاز
أن يكون مخصوصا إلا أن الأصل مشاركة الأمة في الأحكام ولهذا
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1.
فصل
وأما الإقرار فيجوز التخصيص به كما رأى قيسا يصلي ركعتي الفجر
بعد الصبح فأقره عليه فيخص به نهيه صلى الله عليه وسلم عن
الصلاة بعد الصبح لأنه لا يجوز أن يرى منكرا فيقر عليه فلما
أقره دل على جوازه.
فصل
وأما الإجماع فيجوز التخصيص به لأنه أقوى من الظواهر فإذا جاز
التخصيص بالظواهر فبالإجماع أولى.
فصل
وأما قول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يعرف له مخالف فهو
حجة يجوز التخصيص به وإن لم ينشر فإن كان له مخالف لم يجز
التخصيص به وإن لم يكن له مخالف فهل يجوز التخصيص به يبنى على
القولين في أنه حجة أم لا فإذا قلنا ليس بحجة لم يجز التخصيص
به وإذا قلنا أنه حجة فهل يجوز التخصيص به. فيه وجهان أحدهما.
يجوز. والثاني لا يجوز.
__________
1 سورة الأحزاب الآية: 21.
(1/36)
فصل
وأما القياس فيجوز التخصيص به. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز
التخصيص به وهو قول أبي علي الجبائي واختيار القاضي أبي بكر
الأشعري. وقال عيسى بن أبان: إذا ثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم
جاز التخصيص به، وإن لم يثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم لم يجز.
وقال بعض أهل العراق: إن دخله التخصيص بدليل غير القياس جاز
التخصيص به وإن لم يدخله التخصيص بغيره لم يجز. والدليل على
جواز ذلك أن القياس يتناول الحكم فيما يخصه بلفظ غير محتمل فخص
به العموم كاللفظ الخاص.
فصل
وأما قول الراوي: فلا يجوز تخصيص العموم به. وقال أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله: يجوز. والدليل على أنه لا يجوز هو أن تخصيصه
يجوز أن يكون بدليل ويجوز أن يكون بشبهة فلا يترك الظاهر بالشك
وكذلك لا يجوز ترك شيء من الظواهر بقوله مثل أن يحتمل الخبر
أمرين وهو في أحدهما اظهر فيصرفه الراوي إلى الآخر فلا يقبل
ذلك منه لما بيناه في تخصيص العموم. وأما إذا احتمل اللفظ
أمرين احتمالا واحدا فصرفه إلى أحدهما مثل ما روى عن عمر كرم
الله وجهه أنه حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب
ربا" إلا هاء وهاء على القبض في المجلس فقد قيل إنه يقبل ذلك
لأنه أعرف بمعنى الخطاب. وقال الشيخ الإمام رحمه الله وفيه نظر
عندي.
فصل
وأما العرف والعادة فلا يجوز تخصيص العموم به لأن الشرع لم
يوضع على العادة وإنما وضع في قول بعض الناس على حسب المصلحة
وفي قول الباقين على ما أراد الله تعالى وذلك لا يقف على
العادة.
فصل
وأما تخصيص أول الآية بآخرها وآخرها بأولها فلا يجوز ذلك مثل
قوله
(1/37)
تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 وهذا عام في الرجعية
وغيرها ثم قال في آخر الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ} 2 وهذا خاص بالرجعيات فيحمل أول الآية على
العموم وآخرها على الخصوص ولا يخص أولها بآخرها لجواز أن يكون
قصد بآخر الآية بيان بعض ما اشتمل عليه أول الآية فلا يجوز ترك
العموم بأولها.
__________
1 سورة البقرة جزء من الآية: 228.
2 سورة البقرة جزء من الآية: 228.
(1/38)
باب القول في اللفظ
الوارد على سبب
وجملته أن اللفظ الوارد على سبب لم يجز أن يخرج السبب منه لأنه
يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز وهل يدخل
فيه غيره نظرت فإن كان اللفظ لا يستقل بنفسه كان ذلك مقصورا
على ما ورد فيه من السبب ويصير الحكم مع السبب كالجملة الواحدة
فإن كان لفظ السائل عاما مثل أن قال: أفطرت قال: أعتق. حمل
الجواب على العموم في كل مفطر كأنه قال: من أفطر فعليه العتق
من جهة المعنى لا من جهة اللفظ وذلك أنه لما لم يستفصل دل على
أنه لا يختلف أو لما نقل السبب وهو الفطر فحكم فيه بالعتق صار
كأنه علل بذلك لأن ذكر السبب في الحكم تعليل وإن كان خاصا مثل
إن قال: جامعت فقال اعتق حمل الجواب على الخصوص في المجامع لا
يتعدى إلى غيره من المفطرين فكأنه قال من جامع في رمضان فعليه
العتق وأما إذا كان اللفظ يستقل بنفسه اعتبر حكم اللفظ فإن كان
خاصا حمل على خصوصه وإن كان عاما حمل على عمومه ولا يخص بالسبب
الذي ورد فيه وذلك مثل ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بئر
بضاعة فقيل: إنك تتوضأ من بئر بضاعة وأنه يطرح فيها المحائض
ولحوم الكلاب وما ينحى الناس فقال صلى الله عليه وسلم: "الماء
طهور لا ينجسه شيء" فهذا يحمل على عمومه ولا يخص بما ورد فيه
من السبب. وقال المزني وأبو ثور وأبو بكر الدقاق من أصحابنا
يقصر على ما ورد فيه من السبب. والدليل على ما
(1/38)
قلناه هو أن الحجة في قول الرسول صلى الله
عليه وسلم دون السبب فوجب أن يعتبر عمومه.
(1/39)
باب القول في
الاستثناء
والاستثناء يجوز تخصيص اللفظ به وهو مأخوذ من قولهم: ثنيت
فلانا عن رأيه إذا صرفته عنه. وقيل: أنه مأخوذ من تثنية الخبر
بعد الخبر ومن شرطه أن يكون متصلا بالمستثنى منه. وحكي عن ابن
عباس رضي الله عنهما جواز تأخيره وحكي عن قوم جواز تأخيره إذا
أورد معه كلام يدل على أن ذلك استثناء مما تقدم وهو أن يقول:
جاءني الناس ثم يقول بعد زمان إلا زيدا وهو استثناء مما كنت
قلت فأما المحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما فالظاهر أنه لا
يصح عنه وهو بعيد لأنهم لا يستعملون الاستثناء إلا متصلا
بالكلام ألا ترى أنه إذا قال جاءني الناس ثم قال بعد شهر إلا
زيدا لم يعد ذلك كلاما فدل على بطلانه وما حكي عن غيره خطأ
لأنه لو جاز ذلك على الوجه الذي قاله لجاز أن يؤخر خبر المبتدأ
ثم يخبر به مع كلام يدل عليه بأن يقول زيد ثم يقول بعد حين
قائم ويقرنه بما يدل على انه خبر عنه وهذا مما لا يقوله أحد
ولا يعد كلاما في اللغة فبطل.
فصل
ويجوز أن يتقدم الاستثناء على المستثنى منه كما يجوز أن يتأخر
كقول الكميت:
فمالي إلا آل أحمد شيعة ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
فصل
ويجوز الاستثناء من جنسه كقولك: رأيت الناس إلا زيدا وكذلك
استثناء بعض ما دخل تحت الاسم كقولك: رأيت زيدا إلا وجهه. وأما
الاستثناء من غير الجنس فهو مستعمل وقد ورد به القرآن
والأشعار. قال الله
(1/39)
عز وجل: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} 1 فاستثنى إبليس من الملائكة
وليس من الملائكة وقال الشاعر:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... أعيت جوابا وما بالربع من أحد
ألا أوارى لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
فاستثنى الأوارى من الناس وهل هو حقيقة أم لا فيه وجهان. من
أصحابنا من قال: هو حقيقة، ومنهم من قال. هو مجاز وهذا الأظهر
لأن الاستثناء مشتق من قولهم ثنيت عنان الدابة إذا صرفتها أو
من تثنية الخبر بعد الخبر وهذا لا يوجد إلا فيما دخل في الكلام
ثم يخرج منه.
فصل
ويجوز أن يستثنى الأكثر من الجملة وقال أحمد لا يجوز وهو قول
القاضي أبي بكر الأشعري وابن درستويه. والدليل على جوازه أن
القرآن ورد به قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغَاوِينَ} 2 ثم قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 3
فاستثنى الغاوين من العباد واستثنى العباد من الغاوين وأيهما
كان أكثر فقد استثناه من الآخر ولأن الاستثناء معنى يوجب تخصيص
اللفظ العام فجاز في القليل والكثير كالتخصيص بالدليل المنفصل.
فصل
إذا تعقب الاستثناء جملا عطف بعضها على بعض وجمع ذلك إلى
الجميع وذلك مثل قوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} 4 وقال أصحاب أبي
حنيفة رحمه الله: يرجع إلى ما يليه، وقال القاضي أبو بكر:
يتوقف فيه ولا يرد إلى شيء منهما إلا بدليل والدليل على ما
__________
1 سورة الحجر الآية: 30, 31.
2 سورة الحجر الآية: 42.
3 سورة ص الآية: 82, 83.
4 سورة النور الآية 4, 5.
(1/40)
قلناه هو أن الاستثناء كالشرط في التخصيص
ثم الشرط يرجع إلى الجميع وهو إذا قال: امرأتي طالق وعبدي حر
ومالي صدقة إن شاء الله تعالى فكذلك الاستثناء.
فصل
وإن دل الدليل على أنه لا يجوز رجوعه إلى جملة من الجمل
المذكورة في آية القذف فإن الدليل على أنه لا يجوز أن يرجع
الاستثناء فيها إلى الحد رجع إلى ما بقي من الجمل، وكذا أن
تعقب الاستثناء جملة واحدة ودل الدليل على أنه لا يجوز رجوعه
إلى بعضها كقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً} إلى قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} 1 فإنه قد
دل الدليل على أن الاستثناء لا يجوز رجوعه إلى الصغار
والمجانين رجع إلى ما بقي من الجملة لأن ترك الظاهر فيما قام
عليه الدليل لا يوجب تركه فيما لم يقم عليه الدليل.
__________
1 سورة البقرة الآية: 237.
(1/41)
باب التخصيص في
الشرط
واعلم أن الشرط ما لا يصح المشروط إلا به وقد ثبت ذلك بدليل
منفصل كاشتراط القدرة في العبادات واشتراط الطهارة في الصلاة
وقد دخل ذلك فيما ذكرناه من تخصيص العموم وقد يكون متصلا
بالكلام وذلك قد يكون بلفظ الشرط كقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} إلى قوله:
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} 2
وقد يكون بلفظ الغاية كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} 3
ويجوز تخصيص الحكم بالجميع فيكون الصيام لمن لم يجد الرقبة
والقتل فيمن لم يؤد الجزية.
فصل
يجوز أن يتقدم الشرط في اللفظ، ويجوز أن يتأخر كما يجوز
__________
2 سورة المجادلة الآية: 4.
3 سورة التوبة الآية: 29.
(1/41)
في الاستثناء ولهذا لم يفرق بين قوله أنت
طالق إن دخلت الدار وبين قوله إن دخلت الدار فأنت طالق.
فصل
وإذا تعقب الشرط جملا رجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء
ولهذا إذا قال امرأتي طالق وعبدي حر إن شاء الله لم تطلق
المرأة ولم يعتق العبد.
فصل
فأما إذا دخل الشرط في بعض الجمل المذكورة دون بعض لم يرجع
الشرط إلا إلى المذكورة وذلك مثل قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} إلى قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 1
فشرط الحمل في الإنفاق دون السكن فيرجع الشرط إلى الإنفاق ولا
يرجع إلى السكن وهكذا لو ثبت الشرط بدليل منفصل في بعض الجمل
لم يجب إثباته فيما عداه كقوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} 2 فإن الدليل قد دل
على أن الرد في الرجعيات فيرجع ذلك إلى الرجعيات ولا يوجب ذلك
تخصيص أول الآية وهكذا إذا ذكر جملا وعطف بعضها على بعض لم
يقتض الوجوب في الجميع أو يقتضي العموم في الجميع ثم دل الدليل
على أن في بعضها لم يرد الوجوب أو في بعضها ليس على العموم لم
يجب حمله في الباقي على غير الوجوب ولا "صفحة 23" على غير
العموم وذلك مثل قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا
أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 3 فأمر بالأكل
وإيتاء الحق والأكل لا يجب والإيتاء واجب والأكل عام في القليل
والكثير والإيتاء خاص في خمسة أوسق، فما قام الدليل عليه خرج
من اللفظ وبقي الباقي على ظاهره.
__________
1 سورة الطلاق الآية: 6.
2 سورة البقرة الآية: 228.
3 سورة الأنعام الآية: 141.
(1/42)
فصل
وهكذا كل شيئين قرن بينهما في اللفظ ثم ثبت لأحدهما حكم
بالإجماع لم يجب أن يثبت ذلك الحكم للآخر من غير لفظ يوجب
التسوية بينهما أو علة توجب الجمع بينهما ومن أصحابنا من قال
إذا ثبت لأحدهما نفع حكم ثبت لقرينه مثله وهذا غير صحيح لأن
الحكم الذي ثبت لأحدهما ثبت بدليل يخصه من لفظ أو إجماع وذلك
غير موجود في الآخر فلا تجب التسوية بينهما إلا بعلة تتجمع
بينهما.
(1/43)
باب القول في المطلق
والمقيد
واعلم أن تقييد العام بالصفة يوجب التخصيص كما يوجب الشرط
والاستثناء وذلك مثل قوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1 فإنه لو أطلق الرقبة لعمّ
المؤمنة والكافرة فلما قيده بالمؤمنة وجب التخصيص.
فصل
فإن ورد الخطاب مطلقا لا مقيد له حمل على إطلاقه وإن ورد مقيدا
لا مطلق له حمل على تقييده وإن ورد مطلقا في موضع ومقيدا في
موضع آخر نظرت فإن كان ذلك في حكمين مختلفين مثل أن يقيد
الصيام بالتتابع ويطلق الإطعام لم يحمل أحدهما على الآخر بل
يعتبر كل واحد منهما بنفسه لأنهما لا يشتركان في لفظ ولا معنى،
وإن كان ذلك في حكم واحد وسبب واحد مثل أن يذكر الرقبة في
كفارة القتل مقيدة بالإيمان ثم يعيدها في القتل مطلقة كان
الحكم للمقيد لأن ذلك حكم واحد استوفى بيانه في أحد الموضعين
ولم يستوف في الموضع الآخر، وإن كان في حكم واحد وشيئين
مختلفين نظرت في المقيد فإن عارضه مقيد آخر لم يحمل المطلق على
واحد من القيدين وذلك مثل الصوم في الظهار قيده بالتتابع وفي
التمتع قيده بالتفريق وأطلق في كفارة اليمين فلا يحمل المطلق
في اليمين على الظهار ولا على التمتع بل
__________
1 سورة النساء الآية: 92.
(1/43)
يعتبر بنفسه إذ ليس حمله على أحدهما بأولى
من الحمل على الآخر وإن لم يعارض المقيد مقيد آخر كالرقبة في
كفارة القتل والرقبة في الظهار قيدت بالإيمان في القتل وأطلقت
في الظهار حمل المطلق على المقيد، فمن أصحابنا من قال يحمل من
جهة اللغة لأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة-1-
ومنهم من قال يحمل من جهة القياس وهو الأصح وقال أصحاب أبي
حنيفة رحمه: الله لا يجوز حمل المطلق على المقيد لأن ذلك زيادة
في النص وذلك نسخ بالقياس وربما قال لأنه حمل منصوص والدليل
على أنه لا يحمل من جهة اللغة أن اللفظ الذي ورد فيه التقييد
وهو القتل لا يتناول المطلق وهو الظهار فلا يجوز أن يحكم فيه
بحكمه من غير علة كلفظ البر لما لم يتناول الأرز لم يجز أن
يحكم فيه بحكمه من غير علة فكذلك هاهنا، والدليل على أنه يحمل
عليه بالقياس هو أن حمل المطلق على المقيد تخصيص عموم بالقياس
فصار كتخصيص سائر العمومات.
(1/44)
باب القول في مفهوم
الخطاب
اعلم أن مفهوم الخطاب على اوجه:
أحدها فحوى الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من جهة التنبيه كقوله
عز وجل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وقوله تعالى: {وَمِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ} 1 وما أشبه ذلك مما ينص فيه على الأدنى لينبه به على
الأعلى وعلى الأعلى لينبه به على الأدنى وهل يعلم ما دل عليه
التنبيه من جهة اللغة أو من جهة القياس فيه وجهان: أحدهما أنه
من جهة اللغة وهو قول أكثر المتكلمين وأهل الظاهر. ومنهم من
قال: هو من جهة القياس الجلي ويحكى ذلك عن الشافعي وهو الأصح
لأن لفظ التأفيف لا يتناول الضرب وإنما يدل عليه بمعناه وهو
الأدنى فدل على أنه قياس.
فصل
والثاني: لحن الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من الضمير الذي لا
يتم
__________
1 سورة آل عمران الآية: 75.
(1/44)
الكلام إلا به وذلك مثل قوله عز وجل:
{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} 1 ومعناه: فضرب
فانفجرت ومن ذلك أيضا حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
كقوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2
ومعناه أهل القرية ولا خلاف إن هذا كالمنطوق به في الإفادة
والبيان ولا يجوز أن يضمر فيمثل هذا إلا ما تدعو الحاجة إليه
فإن استقل الكلام بإضمار واحد لم يجز أن يضاف إليه غيره إلا
بدليل فإن تعارض فيه إضماران أضمر ما دل عليه الدليل منهما وقد
حكينا في مثل هذا الخلاف عمن يقول أنه يضمر فيه ما هو أعم
فائدة أو موضع الخلاف وبينا فساد ذلك.
فصل
والثالث دليل الخطاب وهو أن يعلق الحكم على إحدى صفتي الشيء
فيدل على أن ما عداها بخلافه كقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3 فيدل على أنه إن جاء عدل لم
يتبين وكقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة". فيدل
على أن المعلوفة لا زكاة، فيها وقال عامة أصحاب أبي حنيفة رحمه
الله وأكثر المتكلمين: لا يدل على أن ما عداه بخلافه بل حكم ما
عداه موقوف على الدليل، وقال أبو العباس بن سريج: إن كان بلفظ
الشرط كقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} دل على أن ما عداه بخلافه وإن لم يكن بلفظ
الشرط لم يدل وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، والدليل
على ما قلناه أن الصحابة اختلفت في إيجاب الغسل من الجماع من
غير إنزال فقال بعضهم لا يجب واحتجوا بدليل الخطاب في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" وأنه لما أوجب من
الماء دل على أنه لا يجب من غير ماء ومن أوجب ذكر أن "الماء من
الماء" منسوخ فدل على ذكرناه ولأن تقييد الحكم بالصفة يوجب
تخصيص الخطاب فاقتضى بإطلاقه النفي والإثبات كالاستثناء.
__________
1 سورة البقرة الآية: 60.
2 سورة يوسف جزء من الآية: 82.
3 سورة الحجرات الآية: 6.
(1/45)
فصل
وأما إذا علق الحكم بغاية فإنه يدل على أن ما عداها بخلافها
وبه قال أكثر من أنكر القول بدليل الخطاب. ومنهم من قال: لا
يدل والدليل على ما قلناه هو أنه لو جاز أن يكون حكم ما بعد
الغاية موافقاً لما قبلها خرج عن أن يكون غاية وهذا لا يجوز.
فصل
وأما إذا علق الحكم على صفة بلفظ إنما كقوله صلى الله عليه
وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الولاء لمن اعتق". دل أيضا على أن ما عداها بخلافها وبه
قال كثير ممن لم يقل بدليل الخطاب. وقال بعضهم: لا يدل على أن
ما عداها بخلافها وهذا خطأ لأن هذه اللفظة لا تستعمل إلا
لإثبات المنطوق به ونفي ما عداه. ألا ترى أنه لا فرق بين أن
يقول إنما في الدار زيد، وبين أن يقول ليس في الدار إلا زيد
وبين أن يقول إنما الله واحد وبين أن يقول لا إله إلا واحد فدل
على أنه يتضمن النفي والإثبات.
فصل
فأما إذا علق الحكم على صفة في جنس كقوله صلى الله عليه وسلم:
"في سائمة الغنم زكاة". دل ذلك على نفي الزكاة عن معلوفة الغنم
دون ما عداها، ومن أصحابنا من قال يدل على نفيها عما عداها في
جميع الأجناس وهذا خطأ لأن الدليل يقتضي النطق فإذا اقتضى
النطق الإيجاب في سائمة الغنم وجب أن يقتضي الدليل نفيها عن
معلوفة الغنم.
فصل
فأما إذا علق الحكم على مجرد الاسم مثل أن يقول: في الغنم زكاة
فإن ذلك لا يدل على نفي الزكاة عما عدا الغنم، ومن أصحابنا من
قال يدل كالصفة، والمذهب الأول لأنه قد يخص اسم بالذكر وهو
وغيره سواء. ألا
(1/46)
ترى أنهم يقولون: اشتر غنما وإبلا وبقرا
فينص على كل واحد منها مع إرادة جميعها ولا يضم الصفة إلى
الاسم وهي وغيرها سواء، ألا ترى أنهم لا يقولون اشتر غنما
سائمة وهي والمعلوفة عندهم سواء فافترقا.
فصل
إذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب سقط الدليل وذلك مثل
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك" فإن دليله
يقتضي جواز بيع ما هو عنده وإن كان غائبا عن العين وإذا اجزنا
ذلك لزمنا ألا نجيز بيع ما ليس عنده لأن أحدا لم يفرق بينهما
وإذا اجزنا ذلك سقط الخطاب وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
تبع مال ليس عندك" فيسقط الدليل ويبقى الخطاب لأن الدليل فرع
الخطاب ولا يجوز أن يعترض الفرع على الأصل بالإسقاط.
(1/47)
|