اللمع في أصول الفقه الكلام في المجمل
والمبين
باب ذكره وجوه المبين
فأما المبين: فهو ما استقل بنفسه في الكشف عن المراد ولا يفتقر
في معرفة المراد إلى غيره وذلك على ضربين: ضرب يفيد بنطقه،
وضرب يفيد بمهفومه، فالذي يفيد بنطقه هو النص والظاهر والعموم،
فالنص كل لفظ دل على الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه وذلك
مثل قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 1 وكقوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 2 {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 3 وكقوله صلى الله
عليه وسلم: "في كل خمس شاة، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها
الغنم" وغير ذلك من الألفاظ الصريحة في بيان الأحكام.
فصل
وأما الظاهر فهو كل لفظ احتمل أمرين وفي أحدهما أظهر كالأمر
والنهي وغير ذلك من أنواع الخطاب الموضوعة للمعاني المخصوصة
المحتملة لغيرها.
فصل
والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعداً كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} 4 وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 5وغير
__________
1 سورة الفتح الآية: 29.
2 سورة الإسراء الآية: 32.
3 سورة الأنعام الآية: 151.
4 سورة التوبة جزء من الآية: 5.
5 سورة المائدة الآية: 38.
(1/48)
ذلك فهذه كلها من المبين الذي لا يفتقر في
معرفة المراد إلى غيره وإنما يفتقر إلى غيره في معرفة ما ليس
بمراد به فيصح الاحتجاج بهذه الأنواع. وقال أبو ثور وعيسى بن
أبان العموم إذا دخله التخصيص صار مجملا لا يحتج بظاهره. وقال
أبو الحسن الكرخي إن خص بدليل متصل لم يصر مجملا وإن خص بدليل
منفصل صار مجملا وقال أبو عبد الله البصري إن كان حكمه يفتقر
إلى شروط كآية السرقة فهي مجملة لا يحتج بها إلا بدليل وإن لم
يفتقر إلى شروط لم يصر مجملا والدليل على ما قلناه هو أن
المجمل ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر في معرفة المراد إلى
غيره وهذه الآيات يعقل معناها من لفظها ولا يفتقر في معرفة
المراد بها إلى غيرها فهي كغيرها من الآيات.
فصل
وأما ما يفيد بمفهومه فهو فحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل
الخطاب وقد بينتها قبل هذا الباب فأغنى عن الإعادة
(1/49)
باب ذكر وجوه المجمل
وأما المجمل فهو ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر في معرفة
المراد إلى غيره وذلك على وجوه:
منها أن يكون اللفظ لم يوضع للدلالة على شيء بعينه كقوله
تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1 وكقوله صلى الله
عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فإن الحق
مجهول الجنس والقدر فيفتقر إلى البيان.
فصل
ومنها أن يكون اللفظ في الوضع مشتركا بين شيئين كالقرء يقع على
الحيض ويقع على الطهر فيفتقر إلى البيان.
__________
1 سورة الأنعام الآية: 141.
(1/49)
فصل
ومنها أن يكون اللفظ موضوعا لجملة معلومة إلا أنه دخلها
استثناء مجهول كقوله عز وجل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ} 1 فإنه قد صار مجملا بما دخله من الاستثناء ومن هذا
المعنى العموم إذا علم أنه مخصوص ولم يعلم ما خص منه فهذا أيضا
مجمل لأنه لا يمكن العمل به قبل معرفة ما خص منه.
فصل
ومن ذلك أيضا أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا يحتمل
وجهين احتمالا واحدا مثل ما روي أنه جمع في السفر فإنه مجمل
لأنه يجوز أن يكون في سفر طويل أو في سفر قصير فلا يجوز حمله
على أحدهما دون الآخر إلا بدليل. وكذلك إذا قضى في عين تحتمل
حالين احتمالا واحدا مثل أن يروي أن الرجل أفطر فأمره النبي
صلى الله عليه وسلم بالكفارة فهو مجمل فإنه يجوز أن يكون أفطر
بجماع ويجوز أن يكون أفطر بأكل فلا يجوز حمله على أحدهما دون
الآخر إلا بدليل فهذه الوجوه لا يختلف المذهب في إجمالها
وافتقارها إلى البيان.
فصل
واختلف المذهب في ألفاظ فمنها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2 وفيه قولان قال في أحدهما هو
مجمل لأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا، والربا هو الزيادة
وما من بيع إلا وفيه زيادة وقد أحل الله البيع وحرم الربا
فافتقر إلى بيان ما يحل مما يحرم. وقال في القول الثاني ليس
بمجمل وهو الأصح لأن البيع معقول في اللغة فحمل على العموم إلا
فيما خصه لدليل.
__________
1 سورة المائدة الآية: 1.
2 سورة البقرة الآية: 275.
(1/50)
فصل
ومنها الآيات التي ذكر فيها الأسماء الشرعية وهو قوله عز وجل:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 1 وقوله: {فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2 وقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 3 فمن أصحابنا من
قال: هي عامة غير مجملة فتحمل الصلاة على كل دعاء والصوم على
كل إمساك والحج على كل قصد إلا ما قام الدليل عليه وهذه طريقة
من قال ليس في الأسماء شيء منقول، ومنهم من قال: هي مجملة لأن
المراد بها معان لا يدل اللفظ عليها في اللغة وإنما تعرف من
جهة الشرع فافتقر إلى البيان كقوله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ} 4 وهذه طريقة من قال: إن هذه الأسماء منقولة
وهو الأصح.
فصل
ومنها الألفاظ التي علق التحليل والتحريم فيها على أعيان كقوله
تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 5 فقال بعض
أصحابنا: إنها مجملة لأن العين لا توصف بالتحليل والتحريم
وإنما الذي يوصف بذلك أفعالنا وأفعالنا غير مذكورة فافتقر إلى
بيان ما يحرم من الأفعال مما لا يحرم، ومنهم من قال إنها ليست
بمجملة وهو الأصح لأن التحليل والتحريم في مثل هذا إذا أطلق
عقل منها التصرفات المقصودة في اللغة، ألا ترى أنه إذا قال
لغيره حرمت عليك هذا الطعام عقل منه تحريم الأكل وما عقل
المراد من لفظه لم يكن مجملا.
فصل
وكذلك اختلفوا في الألفاظ التي تتضمن نفيا وإثباتا كقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وقوله صلى الله
عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" وما أشبهه فمنهم من قال: إن ذلك
مجمل لأن الذي نفاه هو
__________
1 سورة البقرة الآية: 43, والآية: 110.
2 سورة البقرة الآية: 185.
3 سورة آل عمران الآية: 97.
4 سورة الأنعام الآية: 141.
5 سورة المائدة الآية: 3.
(1/51)
العمل والنكاح وذلك موجود فيجب أن يكون
المراد به نفي صفة غير مذكورة فافتقر إلى بيان تلك الصفة،
ومنهم من قال: ليس بمجمل وهو الأصح لأن صاحب الشرع لا ينفي ولا
يثبت المشاهدات وإنما ينفي ويثبت الشرعيات فكأنه قال لا عمل في
الشرع إلا بنية ولا نكاح في الشرع إلا بولي وذلك معقول من
اللفظ فلا يجوز أن يكون مجملا.
فصل
وكذلك اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان" فمنهم من قال: هو مجمل لأن الذي رفعه هو الخطأ وذلك
موجود فيجب أن يكون المراد بها معنى غير مذكور فافتقر إلى
البيان، ومنهم من قال غير مجمل هو الأصح لأنه معقول المعنى في
اللغة ألا ترى أنه إذا قال لعبده رفعت عنك جنايتك عقل منه رفع
المؤاخذة بكل ما يتعلق بالجناية من التبعات فدل على أنه مجمل.
فصل
وأما المتشابه فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو والمجمل
واحد. ومنهم من قال: المتشابه ما استأثر الله تعالي بعلمه وما
لم يطلع عليه أحدا من خلقه. ومن الناس من قال: المتشابه هو
القصص والأمثال والحكم والحلال والحرام. ومنهم من قال:
المتشابه الحروف المجموعة في أوائل السور كـ "المص" و "المر"
وغير ذلك والصحيح هو الأول لأن حقيقة المتشابه ما اشتبه معناه
وأما ما ذكروه فلا يوصف بذلك.
(1/52)
باب الكلام في
البيان ووجوهه
اعلم أن البيان هو الدليل الذي يتوصل بصحيح النظر إلى ما هو
دليل عليه، وقال بعض أصحابنا: هو إخراج الشيء من حيز الأشكال
إلى حيز التجلي
(1/52)
فصل
ويقع البيان بالقول. ومفهوم القول. والفعل. والإقرار.
والإشارة. والكتابة. والقياس. فأما البيان بالقول كقوله صلى
الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" وقوله صلى الله عليه
وسلم: "في خمس من الإبل شاة".
وأما المفهوم فقد يكون تنبيها كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ} فيدل على أن الضرب أولى بالمنع وقد يكون دليلا
كقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" فيدل على أنه
لا زكاة في المعلوفة.
وأما بالفعل فمثل بيان مواقيت الصلاة وأفعالها والحج ومناسكه
بفعله صلى الله عليه وسلم.
وأما الإقرار: فهو كما روى أنه رأى قيسا يصلي بعد الصبح ركعتين
فسأله فقال ركعتا الفجر ولم ينكر فدل على جواز التنفل بعد
الصبح.
وأما بالإشارة فكما قال صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا
وهكذا" وحبس إبهامه في الثالثة.
وأما الكتابة فكما بين فرائض الزكاة وغيرها من الأحكام في كتب
كتبها.
وأما القياس فكما نص على أربعة أعيان في الربا ودل القياس على
أن غيرها من المطعومات مثلها.
(1/53)
باب تأخير البيان
ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه لا يمكن الاحتفال من
غير بيان، وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها:
يجوز وهو قول أبي العباس وأبي سعيد الأصطخري وأبي بكر القفال،
والثاني: أنه لا يجوز
(1/53)
وهو قول أبي بكر الصيرفي وأبي إسحاق
المروزي وهو قول المعتزلة. والثالث: أنه يجوز تأخير بيان
المجمل ولا يجوز تأخير بيان العموم وهو قول أبي الحسن الكرخي،
ومن الناس من قال: يجوز ذلك في الإخبار دون الأمر والنهي ومنهم
من قال يجوز في الأمر والنهي دون الأخبار، والصحيح أنه يجوز في
جميع ما ذكرناه ولأن تأخيرها لا يخل بالامتثال فجاز كتأخير
بيان النسخ.
(1/54)
|