اللمع في أصول الفقه

الكلام في النسخ
باب بيان النسخ
والنسخ في اللغة يستعمل في الرفع والإزالة. يقال: نسخت الشمس الظل ونسخت الرياح الآثار إذا إزالتها ويستعمل في النقل. يقال: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه وإن لم تزل شيئا عن موضعه. وأما في الشرع على الوجه الأول في اللغة وهو الإزالة فحده الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه ولا يلزم ما سقط عن الإنسان بالموت فإن ذلك ليس بنسخ لأنه ليس بخطاب ولا يلزم رفع ما كانوا عليه كشرب الخمر وغيره فإنه ليس بنسخ لأنه لم يثبت بخطاب ولا يلزم ما أسقطه بكلام متصل كالاستثناء والغاية كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 1 فإنه ليس بنسخ لأنه غير متراخ عنه. وقالت المعتزلة: هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالمنسوخ غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول وهذا فاسد لأنه إذا حد بهذا لم يكن الناسخ مزيلا لما ثبت بالخطاب الأول، لأن مثل الحكم ما ثبت بالمنسوخ حتى يزيله بالناسخ وقد بينا أن النسخ في اللغة هو الإزالة والرفع.
فصل
والنسخ جائز في الشرع، وقالت طائفة من اليهود: لا يجوز. وبه قال شرذمة من المسلمين وهذا خطأ لأن التكليف في قول بعض الناس إلى الله تعالى يفعل فيه ما يشاء وعلى قول بعضهم التكليف على سبيل المصلحة فإن كان إلى مشيئته فيجوز أن يشاء في وقت تكليف فرض وفي وقت إسقاطه وإن كان
__________
1 سورة البقرة الآية: 187.

(1/55)


على وجه المصلحة فيجوز أن تكون المصلحة في وقت في أمر وفي وقت آخر في غيره فلا وجه للمنع منه.
فصل
وأما البداء فهو أن يظهر له ما كان خفيا عليه من قولهم: بدا لي الفجر إذا ظهر له وذلك لا يجوز في الشرع. وقال بعض الرافضة: يجوز البداء على الله تعالى وقال منهم زرارة بن أعين في شعره:
ولولا البدا سميته غير هائب ... وذكر البدا نعت لمن يتقلب
ولولا البدا ما كان فيه تصرف ... وكان كنار دهرها تتلهب
وكان كضوء مشرق بطبيعة ... وبالله عن ذكر الطبائع يرغب
وزعم بعضهم أنه يجوز على الله تعالى البداء فيما لم يطلع عليه عباده وهذا خطأ لأنهم إن أرادوا بالبداء ما بيناه من أنه يظهر له ما كان خفيا عنه فهذا كفر وتعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا وإن كانوا أرادوا به تبديل العبادات والفروض فهذا لا ننكره إلا أنه لا يسمى بداء لأن حقيقة البداء ما بينا ولم يكن لهذا القول وجه.
فصل
فأما نسخ الفعل قبل دخول وقته فيجوز وليس ذلك ببداء ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك وهو قول المعتزلة وزعموا أن ذلك بداء، والدليل على جواز ذلك أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ثم نسخه قبل وقت الفعل فدل على جوازه، والدليل على أنه ليس ببداء ما بيناه من أن البداء ظهور ما كان خفيا عنه وليس في النسخ قبل الوقت هذا المعنى.

(1/56)


باب بيان ما يجوز نسخه من الأحكام وما لا يجوز
أعلم أن النسخ لا يجوز إلا فيما يصح وقوعه على وجهين كالصوم والصلاة والعبادات الشرعية فأما ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد مثل التوحيد وصفات الذات كالعلم والقدرة وغير ذلك فلا يجوز فيه النسخ وكذلك ما

(1/56)


أخبر الله عز وجل عنه من أخبار القرون الماضية والأمم السالفة فلا يجوز فيها النسخ وكذلك ما أخبر عن وقوعه في المستقبل كخروج الدجال وغير ذلك لم يجز فيه النسخ: وحكي عن أبي بكر الدقاق أنه قال: ما ورد من الأمر بصيغة الخبر كقوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1
يجوز نسخه. وقال بعض الناس: يجوز {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أنه أمر، ألا ترى أنه يجوز أن يقع فيه المخالفة ولو كان خبرا لم يصح أن يقع فيه المخالفة وإذا ثبت أنه أمر جاز نسخه كسائر الأوامر والدليل على القائل الآخر أنا إذا جوزنا النسخ في الخبر صار أحد الخبرين كذبا وهذا لا يجوز.
فصل
وكذلك لا يجوز نسخ الإجماع لأن الإجماع لا يكون إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لا يجوز بعد موته.
فصل
وكذلك لا يجوز نسخ القياس لأن القياس تابع الأصول والأصول ثابتة فلا يجوز نسخ تابعها، فأما إذا ثبت الحكم في عين بعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم في تلك العين بطل الحكم في الفرع المقيس عليه، ومن أصحابنا من قال: لا يبطل وهو قول أصحاب أبي حنيفة رحمه الله وهذا غير صحيح لأن الفرع تابع للأصل فإذا بطل الحكم في الأصل بطل في الفرع.
__________
1 سورة البقرة الآية: 228.

(1/57)


باب بيان وجوه النسخ
فصل
اعلم أن النسخ يجوز في الرسم2 دون الحكم كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فهذا نسخ رسمه وحكمه باق ويجوز في الحكم دون الرسم
__________
2 انظر: كتاب الإتقان للسيوطي.

(1/57)


كالعدة كانت1 حولا ثم نسخت بأربعة اشهر وعشرا ورسمها باق وهو قوله: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 2 ويجوز في الرسم والحكم كتحريم الرضاع كان بعشر رضعات وكان مما يتلى3 فنسخ الرسم والحكم جميعا وذهب طائفة إلى أنه لا يجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لأنه يبقى الدليل ولا مدلول معه وقالت طائفة: لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم تابع التلاوة فلا يجوز أن يرتفع الأصل ويبقى التابع وهذا خطأ4 لأن التلاوة والحكم في الحقيقة حكمان فجاز رفع أحدهما وتبقية الآخر كما تقول في عبادتين يجوز أن تنسخ إحداهما وتبقي الأخرى.
فصل
ويجوز النسخ إلى غير بدل كالعدة نسخ ما زاد على أربعة أشهر وعشرا إلى غير بدل ويجوز النسخ إلى بدل كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ويجوز النسخ إلى أخف من المنسوخ كنسخ مصابرة الواحد للعشرة نسخ إلى اثنين ويجوز إلى ما هو أغلظ منه كالصوم كان مخيرا بينه وبين الفطر ثم نسخ إلى الانحتام بقوله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 5 ويجوز النسخ في الحظر إلى الإباحة كقوله تعالى:
{لِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} 6 حرم عليهم المباشرة. ثم أبيح لهم ذلك وقال بعض أصحابنا لا يجوز النسخ إلى ما هو أغلظ من المنسوخ وهو قول أهل الظاهر وهذا خطأ لأنا قد وجدنا ذلك في الشرع وهو التخيير بين الصوم والفطر إلى انحتام الصوم ولأنه إذا جاز أن يوجب تغليظا لم يكن فلأن يجوز أن ينسخ واجبا بما هو أغلظ أولى.
__________
1 قوله كالعدة كانت الخ: ذهب كثير إلى أن الآيتين محكمتين لانسخ في إحداهما للأخرى. هذا مارواه البخاري في صحيحه. وحكاه غير واحد من المفسرين. اهـ. جما الدين.
2 سورة البقرة الآية: 240.
3 انظر: كتاب الإتقان للسيوطي.
4 قوله وهذا خطأ: في كتاب الإتقان أدلة أخرى للقائلين فانظره. اهـ. جمال الدين.
5 سورة البقرة الآية: 185.
6 سورة البقرة الآية: 187.

(1/58)


باب ما يجوز به النسخ وما لا يجوز
...
بان ما يجوز به النسخ وما لا يجوز
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1.
فصل
وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب الآحاد بالآحاد والتواتر بالتواتر والآحاد بالتواتر، فأما التواتر بالآحاد فلا يجوز لأن التواتر يوجب العلم فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن.
فصل
ويجوز نسخ الفعل بالفعل لأنهما كالقول مع القول وكذلك نسخ القول بالفعل والفعل بالقول، ومن الناس من قال لا يجوز نسخ القول بالفعل والدليل على جوازه أن الفعل كالقول في البيان فكما يجوز بالقول جاز بالفعل.
فصل
أما نسخ السنة بالقرآن ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأن الله تعالى جعل السنة بيانا للقرآن فقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 فلو جوزنا نسخ السنة بالقرآن لجعلنا القرآن بيانا للسنة. والثاني: أنه يجوز وهو الصحيح لأن القرآن أقوى من السنة فإذا جاز نسخ السنة بالسنة فلأن يجوز بالقرآن أولى.
فصل
وأما نسخ القرآن بالسنة: فلا يجوز من جهة السمع ومن أصحابنا من قال: لا يجوز من جهة السمع ولا من جهة العقل والأول أصح. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز بالخبر المتواتر وهو قول أكثر المتكلمين وحكي ذلك عن أبي
__________
1 سورة البقرة الآية: 106.
2 سورة النحل الآية: 44.

(1/59)


العباس بن سريج والدليل على ذلك من جهة العقل أنه ليس في العقل ما يمنع جوازه والدليل على أنه لا يجوز من جهة السمع قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} والسنة ليست من مثل القرآن. ألا ترى أنه لا يثاب على تلاوة السنة كما يثاب على تلاوة القرآن ولا إعجاز في لفظه كما في لفظ القرآن فدل على أنه ليس مثله.
فصل
وأما النسخ بالإجماع فلا يجوز لأن الإجماع حادث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ينسخ ما يتقرر في شرعه ولكن يستدل بالإجماع على النسخ فإن الأمة لا تجتمع على الخطأ، فإذا رأيناهم قد أجمعوا على خلاف ما ورد به الشرع دلنا ذلك على أنه منسوخ.
فصل
ويجوز النسخ بدليل الخطاب لأنه معنى النطق على المذهب الصحيح. ومن أصحابنا من جعله كالقياس فعلى هذا لا يجوز النسخ به والأول أظهر، وأما النسخ بفحوى الخطاب وهو التنبيه فلا يجوز لأنه قياسٌ ومن أصحابنا من قال: النسخ به لأنه كالنطق.
فصل
ولا يجوز النسخ بالقياس وقال بعض أصحابنا: يجوز بالجلي منه دون الخفي ومن الناس من قال: يجوز بكل دليل يقع به البيان والتخصيص وهذا خطأ لأن القياس إنما يصح إذا لم يعارضه نص فإذا كان هناك نص يخالف القياس لم يكن للقياس حكم فلا يجوز النسخ به.
فصل
ولا يجوز النسخ بأدلة العقل لأن دليل العقل ضربان: ضرب لا يجوز أن يرد الشرع بخلافه فلا يتصور نسخ الشرع به، وضرب يجوز أن يرد الشرع بخلافه

(1/60)


وهو البقاء على حكم الأصل وذلك إنما يوجب العمل به عند عدم الشرع فإذا وجد الشرع بطلت دلالته فلا يجوز النسخ به.

(1/61)


باب ما يعرف به الناسخ من المنسوخ
واعلم أن النسخ قد يعلم بصريح النطق كقوله عز وجل: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} 1 وقد يعلم بالإجماع وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر فيستدل بذلك على أنه منسوخ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، وقد يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض وذلك مثل ما روي أنه قال: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" ثم روي أنه رجم ماعزا ولم يجلده فدل على أن الجلد منسوخ.
فصل
ويعلم التأخير في الأخبار بالنطق كقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" ويعلم بأخبار الصحابة أن هذا نزل بعد هذا وورد هذا بعد هذا، كما روي أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك الوضوء مما مست النار. فأما إذا كان راوي أحد الخبرين أقدم صحبة والآخر أحدث صحبة كابن مسعود وابن عباس لم يجز نسخ خبر الأقدم بخبر الأحدث، لأنهما عاشا إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يكون الأقدم سمع ما رواه بعد سماع الأحدث، ولأنه يجوز أن يكون الأحدث أرسله عمن قدمت صحبته ولا تكون روايته متأخرة عن رواية الأقدم فلا يجوز النسخ مع الاحتمال. وأما إذا كان راوي أحد الخبرين أسلم بعد موت الآخر أو بعد قصته مثل ما روى طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر وهو يبني مسجد المدينة فلم يوجب منه الوضوء وروى أبو هريرة إيجاب الوضوء وهو أسلم عام حنين بعد بناء المسجد، فيحتمل أن ينسخ حديث طلق بحديثه لأن الظاهر أنه لم يسمع ما رواه إلا بعد
__________
1 سورة الأنفال الآية: 66.

(1/61)


هذه القصة فنسخه، ويحتمل أن لا ينسخ لجواز أن يكون قد سمعه قبل أن يسلم وأرسله عمن قدم إسلامه.
فصل
فأما إذا قال الصحابي هذه الآية منسوخة أو هذا الخبر منسوخ لم يقبل منه حتى يبين الناسخ فينظر فيه، ومن الناس من قال: ينسخ بخبره ويقلد فيه. ومنهم من قال: إن ذكر الناسخ لم يقلد بل ينظر فيه وإن لم يذكر الناسخ نسخ وقلد فيه، والدليل على أنه لا يقبل هو أنه يجوز أن يكون قد اعتقد النسخ بطريق لا يوجب النسخ ولا يجوز أن يترك الحكم الثابت من غير نظر وبالله التوفيق.

(1/62)


باب الكلام في نسخ بعض العبادة والزيادة فيها
إذا نسخ شيئا يتعلق بالعبادة لم يكن ذلك نسخا للعبادة، ومن الناس من قال: إن ذلك نسخ للعبادة، ومن الناس من قال: إن كان ذلك بعضا من العبادة كالركوع والسجود من الصلاة كان ذلك نسخا لها، وإن كان شيئا منفصلا منها كالطهارة لم يكن نسخا لها، وقال بعض المتكلمين: إن كان ذلك مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ به إلا به كان نسخا لها سواء كان جزأ منها أو منفصلا عنها، وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ مع عدمه كالوقوف على يمين الإمام ودعاء التوجه وما أشبهه لم يكن ذلك نسخا لها، والدليل على أن ذلك ليس بنسخ. أن الباقي من الجملة على ما كان عليه لم يزل فلم يجز أن يجعل منسوخا كما لو أمر بصوم وصلاة ثم نسخ أحدهما.
فصل
فأما إذا زاد في العبادة شيئا لم يكن ذلك نسخا وقال أهل العراق إن كانت الزيادة توجب تعيين الحكم المزيد عليه كإيجاب النية في الوضوء، والتغريب في الحد كان نسخا وإن كان ذلك في نص القرآن لم يجز بخبر الواحد والقياس. وقال بعض المتكلمين: إن كانت الزيادة شرطا في المزيد كزيادة

(1/62)


ركعة الصلاة كانت نسخا وإن لم تكن شرطا في المزيد لم تكن نسخا، والدليل على ما قلناه هو أن النسخ هو الرفع والإزالة، وهذا لم ذلك نسخا.

(1/63)


باب القول في شرع من قبلنا وما ثبت في الشرع ولم يتصل بالأمة
اختلف أصحابنا في شرع من قبلنا على ثلاثة أوجه: فمنهم من قال: ليس بشرع لنا. ومنهم من قال: هو شرع لنا إلا ما ثبت نسخه. ومنهم من قال: شرع إبراهيم صلوات الله عليه وحده شرع لنا دون غيره. ومنهم من قال: شرع موسى شرع لنا إلا ما نسخ بشريعة عيسى صلوات الله عليه. ومنهم من قال: شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم شرع لنا دون غيره.
وقال الشيخ الإمام رحمه الله ونور ضريحه: والذي نصرت في التبصرة أن الجميع شرع لنا إلا ما ثبت نسخه والذي يصح الآن عندي أن شيئا من ذلك ليس بشرع لنا، والدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرجع في شيء من الأحكام ولا أحد من الصحابة إلى شيء من كتبهم ولا إلى خبر من أسلم منهم، ولو كان ذلك شرعا لنا لبحثوا عنه ورجعوا إليه ولما لم يفعلوا ذلك دل ذلك على ما قلناه.
فصل
ما ورد به الشرع أو نزل به الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتصل بالأمة من حكم مبتدأ أو نسخ أمر كانوا عليه فهل يثبت ذلك من حق الأمة فيه وجهان. من أصحابنا من قال: إنه يثبت في حق الأمة فإن كانت في عبادة وجب القضاء، ومنهم من قال: لا يجب القضاء وهو الصحيح لأن القبلة قد حولت إلى الكعبة وأهل قباء يصلون إلى بيت المقدس فأخبروا بذلك وهم في الصلاة، فاستداروا ولم يؤمروا بالإعادة فلو كان قد ثبت في حقهم ذلك لأمروا بالقضاء.

(1/63)


باب القول في حروف المعاني
واعلم أن الكلام في هذا الباب كلام في باب من أبواب النحو غير أنه لما كثر احتياج الفقهاء إليه ذكرها الأصوليون وأنا أشير إلى ما يكثر من ذلك إن شاء الله تعالى فمن ذلك.
من: ذلك من ويدخل ذلك في الاستفهام والشرط والجزاء والخبر. وتقول في الاستفهام من عندك ومن جاءك وتقول في الشرط والجزاء من جاءني أكرمته ومن عصاني عاقبته وتقول في الخبر جاءني من أحبه ويختص بذلك من يعقل دون من لا يعقل.
فصل
وأي: تدخل في الاستفهام والشرط والجزاء والخبر تقول في الاستفهام أي شيء تحبه وأي شيء عندك، وفي الشرط والجزاء تقول أي رجل جاءني أكرمته، وفي الخبر أيهم قام ضربته ويستعمل ذلك فيمن يعقل وفيما لا يعقل.
فصل
وما: تدخل للنفي والتعجب والاستفهام تقول في النفي: ما رأيت زيدا وفي التعجب تقول: ما احسن زيدا. وفي الاستفهام: ما عندك ويدخل في الاستفهام عما لا يعقل وقد قيل: أنه يدخل أيضا لما يعقل كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} 1.
فصل
ومن: تدخل لابتداء الغاية والتبعيض والصلة تقول في ابتداء الغاية سرت من البصرة وورد الكتاب من فلان وفي التبعيض تقول: خذ من هذه
__________
1 سورة الشمس الآية: 5.

(1/64)


الدراهم وأخذت من علم فلان وفي الصلة تقول ما جاءني من أحد، وما بالربع من أحد.
وإلى: تدخل لانتهاء الغاية كقولك ركبت إلى زيد وقد تستعمل بمعنى مع إلا أنه لا تحمل على ذلك إلا بدليل كقوله عز وجل: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} والمراد به مع المرافق. وزعم قوم من أصحاب أبي حنيفة أنه يستعمل في معنى مع على سبيل الحقيقة وهذا خطأ لأنه لا خلاف أنه لو قال لفلان على من درهم إلى عشرة لم يلزمه الدرهم العاشر وكذلك إذا قال لامرأته أنت طالق من واحد إلى ثلاث لم تقع الطلقة الثالثة فدل على أنه للغاية.
فصل
والواو: للجمع والتشريك في العطف. وقال بعض أصحابنا: هي للترتيب وهذا خطأ لأنه لو كان للترتيب لما جاز أن يستعمل فيه لفظ المقارنة وهو أن تقول جاءني زيد وعمرو معاً كما لا يجوز أن يقال: جاءني زيد ثم عمرو معا، وتدخل بمعنى رب في ابتداء الكلام كقوله:
ومهمه مغبرة أرجاؤه
أي: ورب مهمه، وفي القسم تقوم مقام الباء تقول والله بمعنى بالله.
فصل
والفاء: للتعقيب والترتيب تقول: جاءني زيدٌ فعمرو ومعناه جاءني عمرو عقيب زيد، وإذا دخلت السوق فاشتر كذا يقتضي ذلك عقيب الدخول.
فصل
وثم: للترتيب مع المهلة والتراخي وتقول جاءني زيد ثم عمرو ويقتضي أن يكون بعده بفصل.
فصل
وأم: للاستفهام تقول: أكلت أم لا وتدخل بمعنى أو تقول: سواء أحسنت أم لم تحسن.

(1/65)


فصل
وأو: تدخل في الشك للخبر تقول كلمني زيد أو عمرو، وتدخل في التخيير في الأمر كقوله تعالى:
{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} 1 وقال بعضهم: في النهي تدخل للجمع والأول هو الأصح لأن النهي أمر بالترك كالأمر أمر بالفعل فإذا لم يقتض الجمع في الأمر لم يقتض في النهي.
فصل
والباء: تدخل للإلصاق كقولك: مررت بزيد وكتبت بالقلم وتدخل للتبعيض كقولك مسحت بالرأس. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: لا تدخل للتبعيض وهذا غير صحيح لأنهم أجمعوا على الفرق بين قوله أخذت قميصه وبين قوله أخذت بقميصه فعقلوا من الأول أخذ جميعه ومن الثاني الأخذ ببعضه فدل على ما قلناه.
فصل
واللام: تقتضي التمليك وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: تقتضي الاختصاص دون الملك وهذا غير صحيح لأنه لا خلاف أنه لو قال هذه الدار لزيد اقتضى أنها ملكه فدل على أن ذلك مقتضاه، وتدخل أيضا للتعليل كقوله عز وجل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2 وتدخل للغاية فيه والصيرورة كقوله عز وجل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 3.
فصل
وعلى: للإيجاب كقوله لفلان عليّ كذا ومعناه واجبٌ.
__________
1 سورة المائدة الآية: 89.
2 سورة النساء الآية: 165.
3 سورة القصص الآية: 8.

(1/66)


فصل
وفي: للظرف تقول على تمرٍ في جراب ومعناه أن ذلك فيه.
فصل
ومتى: ظرف زمان تقول متى رأيته.
فصل
وإذ، وإذا: ظرف للزمان إلا أن إذ لما مضى تقول: أنت طالق إذ دخلت الدار معناه في الماضي، وإذا للمستقبل تقول: أنت طالق إذا دخلت الدار ومعناه في المستقبل.
فصل
وحتى: للغاية كقوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} 1 وتدخل للعطف كالواو إلا أنه لا يعطف به إلا على وجه التعظيم والتحقير تقول في التعظيم جاءني الناس حتى السلطان وتقول في التحقير كلمني كل أحد حتى العبيد وتدخل ليبتدأ الكلام بعده كقولك: قام الناس حتى زيد قائم.
فصل
وإنما: للحصر وهو جمع الشيء فيما أشير إليه ونفيه عما سواه تقول إنما في الدار زيد أي ليس فيها غيره، وإنما الله واحد أي لا إله إلا واحد.
__________
1 سورة القدر الآية: 5.

(1/67)


باب الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجملته أن الأفعال لا تخلو إما أن تكون قربة أو ليس بقربة فإن لم تكن قربة كالأكل والشرب واللبس والقيام والقعود فهو يدل على الإباحة لأنه لا يقر على الحرام فإن كان قربة لم يخل من ثلاثة أوجه.

(1/67)


أحدها: أن يفعل بيانا لغيره فحكمه مأخوذ من المبين فإن كان المبين واجبا كان البيان واجبا وإن كان ندبا كان البيان ندباً، ويعرف بأنه بيان لذلك بأن يصرح بأن ذلك بيان لذلك، أو يعلم في القرآن آية مجملة تفتقر إلى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فيعلم أن هذا الفعل بيان لها.
والثاني: أن يفعل امتثالا لأمر فيعتبر أيضا بالأمر فإن كان على الوجوب علمنا أنه فعل واجبا وإن كان على الندب علمنا أنه فعل ندبا.
والثالث: أن يفعل ابتداء من غير سبب فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على الوجوب إلا أن يدل الدليل على غيره وهو قول أبي العباس وأبي سعيد وهو مذهب مالك وأكثر أهل العراق.
والثاني: أنه على الندب إلا أن يدل الدليل على الوجوب.
والثالث: أنه على الوقف فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب إلا بدليل وهو قول أبي بكر الصيرفي وهو الأصح، والدليل عليه أن احتمال الفعل للوجوب كاحتماله للندب فوجب التوقف فيه حتى يدل الدليل.
فصل
إذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وعرف أنه فعله على وجه الوجوب أو على وجه الندب كان ذلك شرعا لنا إلا أن يدل الدليل على تخصيصه بذلك، وقال أبو بكر الدقاق: لا يكون ذلك شرعا لنا إلا بدليل، والدليل على فساد ذلك قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1 ولأن الصحابة كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم إلى أفعاله فيقتدون به فيها فدل على انه شرع في حق الجميع.
__________
1 سورة الأحزاب الآية: 21.

(1/68)


فصل
ويقع بالفعل جميع أنواع البيان من بيان المجمل وتخصيص العموم وتأويل الظاهر والنسخ. فأما بيان المجمل فهو كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة والحج فكان في فعله بيان المجمل الذي في القرآن. وأما تخصيص العموم فكما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ثم روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر صلاة لها سبب فكان في ذلك تخصيص عموم النهي. وأما تأويل الظاهر فكما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القود في الطرف قبل الاندمال فيعلم أن المراد بالنهي الكراهية دون التحريم. وأما النسخ فكما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". ثم روى أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده فدل على أن ذلك منسوخ.
فصل
وإن تعارض قول وفعل في البيان ففيه أوجه: من أصحابنا من قال: القول أولى، ومنهم من قال: الفعل أولى، ومنهم من قال: هما سواء والأول أصح لأن الأصل في البيان هو القول: ألا تراه يتعدى بصيغته والفعل لا يتعدى إلا بدليل فكان القول أولى.

(1/69)


باب القول في الإقرار والسكت عن الحكم
والإقرار: أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلا ينكره أو يرى فعلا فلا ينكره مع عدم الموانع فيدل ذلك على جوازه، وذلك مثل ما روى أنه سمع رجلا يقول الرجل يجد مع امرأته رجلا إن قتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت، سكت على غيظ أم كيف يصنع ولم ينكر عليه فدل ذلك على أنه إذا قتل قُتِل وإذا قذف جُلِد وكما روى أنه صلى الله عليه وسلم: رأى قيسا يصلي ركعتي الفجر بعد الصبح فلم ينكر عليه فدل على

(1/69)


جواز ما لها سبب بعد الصبح لأنه يجوز أن يرى منكرا فلا ينكره مع القدرة عليه لأن في ترك الإنكار إيهام أن ذلك جائز.
فصل
وأما ما فعل في زمانه صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فإنه ينظر فيه فإن كان ذلك مما لا يجوز أن يخفى عليه من طريق العادة كان بمنزلة ما لو رآه فلم ينكره، وذلك مثل ما روى أن معاذا كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه في بني سلمى فيصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء فيدل ذلك على جواز الافتراض خلف المتنفل وإن كان مثل ذلك لا يجوز أن يخفى عليه فإن كان لا يجوز لأنكر. وأما ما يجوز إخفاؤه عليه وذلك مثل ما روى عن بعض الأنصار أنه قال كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكسل ولا نغتسل فهذا لا يدل على الحكم لأن ذلك يفعل سرا ويجوز أن لا يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يغتسلون لأن الأصل أن لا يجب الغسل فلا يحتج به في إسقاط الغسل ولهذا قال علي كرم الله وجهه: حين روي له ذلك أو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقركم عليه فقالوا: لا فقال: فمه1.
فصل
وأما السكت عن الحكم: فهو أن يرى رجلا يفعل فعلا فلا يوجب فيه حكما فينظر فيه فإن لم يكن ذلك موضع حاجة ولم يكن في سكوته دليل على الإيجاب ولا إسقاط لجواز أن يكون قد أخر البيان إلى وقت الحاجة وإن كان موضع حاجة مثل الأعرابي الذي سأله عن الجماع في رمضان فأوجب عليه العتق ولم يوجب على المرأة دل سكوته على أنه واجب عليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
__________
1 أي: فاسكت

(1/70)


باب القول في الأخبار
بيان الخبر وإثبات صيغته
الخبر الذي لا يخلو من أن يكون صدقا أو كذبا وله صيغة موضوعة في اللغة تدل عليه وهو قوله: زيد قائم وعمرو قاعد وما أشبههما. وقالت الأشعرية: لا صيغة له والدليل على فساد ذلك أن أهل اللغة قسموا الكلام أربعة أقسام فقالوا: أمر ونهي وخبر واستخبار. فالأمر قولك: افعل. والنهي قولك: لا تفعل. والخبر قولك: زيد في الدار. والاستخبار قولك: أزيد في الدار فدل على ما قلناه.

(1/71)


باب القول في الخبر المتواتر
اعلم أن الخبر ضربان: متواتر وآحاد. فأما الآحاد فله باب يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى وبه الثقة. وأما المتواتر فهو كل خبر علم مخبره ضرورة وذلك ضربان تواتر من جهة اللفظ كالأخبار المتفقة عن القرون الماضية والبلاد النائية وتواتر من طريق المعنى كالأخبار المختلفة عن سخاء حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك ويقع العلم بكلا الضربين وقال البراهمة: لا يقع العلم بشيء من الأخبار وهذا جهل فأنا نجد أنفسنا عالمة بما يؤدي إليها الخبر المتواتر أخبار مكة وخراسان وغيرهما كما نجدها عالمة بما تؤدي إليه الحواس فكما لا يجوز إنكار العلم الواقع بالحواس لم يجز إنكار العلم الواقع بالأخبار.
فصل
والعلم الذي يقع به ضروري. وقال البلخي من المعتزلة: العلم الواقع به الكتاب وهو قول أبي بكر الدقاق وهذا خطأ لأنه لا يمكن نفي ما يقع به من العلم عن نفسه بالشك والشبهة فكان ضروريا كالعلم الواقع عن الحواس.
فصل
ولا يقع العلم الضروري بالتواتر إلا بثلاث شرائط.

(1/71)


إحداها: أن يكون المخبرون عددا لا يصح منهم التواطؤ على الكذب وإن يستوي طرفاه ووسطه فيروي هذا العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه. وأن يكونا لخبر في الأصل عن مشاهدة أو سماع.
فأما إذا كان عن نظر واجتهاد مثل أن يجتهد العلماء فيؤديهم الاجتهاد إلى شيء لم يقع العلم الضروري بذلك ومن أصحابنا من اعتبر أن يكون العدد مسلمين ومن الناس من قال: لا يجوز أن يكون العدد أقل من اثني عشر ومنهم من قال أقله سبعون ومنهم من قال: ثلاثمائة وأكثر وهذا كله خطأ لأن وقوع العلم به لا يختص بشيء مما ذكروه فسقط اعتبار ذلك.

(1/72)


باب القول في أخبار الآحاد
واعلم أن خبر الواحد ما انحط عن حد التواتر وهو ضربان مسند ومرسل. فأما المرسل فله باب يجيء إن شاء الله تعالى. وأما المسند فضربان:
أحدهما: يوجب العلم وهو على أوجه منها خبر الله عز وجل وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يحكي الرجل بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويدعي علمه فلا ينكر عليه فيقطع به على صدقه؛ ومنها أن يحكي الرجل شيئا بحضرة جماعة كثيرة ويدعي علمهم فلا ينكرونه فيعلم بذلك صدقه، ومنها خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول فيقطع بصدقه سواء عمل الكل به أو عمل البعض وتأوله البعض فهذه الأخبار توجب العمل ويقع العلم بها استدلالا.
والثاني: يوجب العمل ولا يوجب العلم وذلك مثل الأخبار المروية في السنن والصحاح وما أشبهها. وقال بعض أهل العلم: توجب العلم وقال بعض المحدثين ما يحكى إسناده أوجب العلم وقال النظام يجوز أن يوجب العلم إذا قارنه سبب مثل أن يرى رجل مخرق الثياب فيجيء ويخبر بموت قريب له وقال القاشاني وابن داود: لا يوجب العلم وهو مذهب الرافضة ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال: العقل يمنع العمل به ومنهم من قال العقل لا يمنع إلا أن الشرع لم يرد به فالدليل على أنه لا يوجب العلم أنه لو كان

(1/72)


يوجب العلم لوقع العلم بخبر كل مخبر ممن يدعي النبوة أو مالا على غيره ولما لم يقع العلم بذلك دل على انه لا يوجب العلم. وأما الدليل على أن العقل لا يمنع من التعبد به هو أنه إذا جاز التعبد بخبر المفتي وشهادة الشاهد ولم يمنع العقل منه جاز بخبر المخبر وأما الدليل على وجوب العمل به من جهة الشرع أن الصحابة رضي الله عنهم رجعت إليهما في الأحكام فرجع عمر إلى حديث حمل بن مالك في دية الجنين وقال: لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ورجع عثمان كرم الله وجهه في السكنى إلى حديث فريعة بنت مالك وكان علي كرم الله وجهه يرجع إلى أخبار الآحاد ويستظهر فيها باليمين وقال إذا حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلفته فإذا حلف لي صدقته إلا أبا بكر وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، ورجع ابن عمر إلى خبر رافع بن خديج في المخابرة ورجعت الصحابة إلى حديث عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين، فدل على وجوب العمل به.
فصل
ولا فرق بين أن يرويه واحد أو اثنان وقال أبو علي الجبائي: لا يقبل حتى يرويه اثنان عن اثنين وهذا خطأ لأنه إخبار عن حكم شرعي فجاز قبوله من واحد كالفتيا.
فصل
ويجب العمل به فيما تعم به البلوى وفيما لا تعم وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز العمل به فيما تعم به البلوى والدليل على فساد ذلك أنه حكم شرعي يسوغ فيه الاجتهاد فجاز إثابته بخبر الواحد قياسا على ما لا تعم به البلوى.
فصل
ويقبل أن خالف القياس ويقدم عليه وقال أصحاب مالك رحمه الله: إذا خالف القياس لم يقبل. وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا خالف

(1/73)


القياس الأصول لم يقبل وذكروا ذلك في خبر التفليس والقرعة والمصراة والدليل على أصحاب مالك أن الخبر يدل على قصد صاحب الشرع بصريحه والقياس يدل على قصده بالاستدلال والصريح أقوى فيجب أن يكون بالتقديم أولى. وأما أصحاب أبي حنيفة رحمه الله فإنهم إن أرادوا بالأصول القياس على ما ثبت بالأصول فهو الذي قاله أصحاب مالك وقد دللنا على فساده، وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسنة والإجماع فليس معهم في المسائل التي ردوا فيها خبر الواحد كتاب ولا سنة ولا إجماع فسقط ما قالوه.

(1/74)


رضي الله عنه استئناسا بها لا أنها حجة، فأما إذا قال أخبرني الثقة عن الزهري فهو كالمرسل لأن الثقة مجهول عندنا فهو بمنزلة من لم يذكره أصلا وأما خبر العنعنة إذا قال أخبرنا مالك عن الزهري فهو مسند ومن الناس من قال حكمه حكم المرسل وهذا خطأ لأن الظاهر أنه سماع عن الزهري وإن كان بلفظ العنعنة فوجب أن يقبل.
فصل
وأما إذا قال أخبرني عمر بن شعيب عن أبيه1 عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يكون ذلك عن الجد الأدنى وهو محمد بن عبد الله بن عمرو فيكون مرسلا ويحتمل أن يكون عن جده الأعلى فيكون مسندا فلا يحتج به لأنه يحتمل الإرسال والإسناد فلا يجوز إثباته بالشك إلا أن يثبت أنه ليس يروي إلا عن جده الأعلى فحينئذ يحتج به.
__________
1 أبوه محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(1/75)


باب القول في المراسيل
والمرسل ما انقطع إسناده وهو أن يروي عمن لم يسمع منه فيترك بينه وبينه واحد في الوسط فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون مراسيل الصحابة أو من غيرها فإن كان من مراسيل الصحابة وجب العمل به لأن الصحابة رضي الله عنهم مقطوع بعدالتهم.
فصل
وإن كان من مراسيل غيرهم نظرت فإن كان من مراسيل غير سعيد بن المسيب لم يعمل به وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما: يعمل به كالمسند وقال عيسى بن أبان: إن كان من مراسيل التابعين وتابعي التابعين قبل وإن كان من مراسيل غيرهم لم يقبل إلا أن يكون المرسل إماما فالدليل على ما قلناه أن العدالة شرط في صحة الخبر والذي ترك تسميته يجوز أن يكون عدلا ويجوز أن لا يكون عدلاً فلا يجوز قبول خبره حتى يعلم.
فصل
وإن كان من مراسيل ابن المسيب فقد قال الشافعي رضي الله عنه مراسيله عندنا حسن فمن أصحابنا من قال مراسيله حجة لأنها تتبعت فوجدت كلها مسانيد ومنهم من قال: هي كغيرها وإنما استحسنها الشافعي

(1/73)


باب صفة الراوي ومن يقبل خبره
واعلم أنه لا يقبل الخبر حتى يكون الراوي في حال السماع مميزا ضابطا لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة عند السماع لم يعلم ما يرويه وإن لم يكن بالغا عند السماع جاز ومن الناس من قال يعتبر أن يكون في حال السماع بالغا وهذا خطأ لأن المسلمين اجمعوا على قبول خبر أحداث الصحابة والعمل بما سمعوه في حال الصغر كابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم فدل على ما قلناه.
فصل
وينبغي أن يكون عدلا مجتنبا للكبائر متنزها عن كل ما يسقط المروءة من المجون والسخف والأكل في السوق والبول في قارعة الطريق لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لم يؤمن من أن يتساهل في رواية مالا أصل له ولهذا رد أمير

(1/75)


المؤمنين علي كرم الله وجهه حديث أبي سنان الأشجعي وقال: بوال على عقبيه.
فصل
وينبغي أن يكون ثقة مأمونا لا يكون كذابا ولا ممن يزيد في الحديث ما ليس منه فإن عرف بشيء من ذلك لم يقبل حديثه لأنه لا يؤمن أن يضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
فصل
وكذلك يجب أن يكون غير مبتدع يدعو الناس إلى البدعة فإنه لا يؤمن أن يضع الحديث على وفق بدعته، وأما إذا لم يدع الناس إلى البدعة فقد قيل أن روايته تقبل.
قال الشيخ الإمام رحمه الله: والصحيح عندي أنها لا تقبل لأن المبتدع فاسق فلا يجوز أن يقبل خبره.
فصل
وينبغي أن يكون غير مدلس والتدليس هو أن يروي عمن لم يسمع منه ويوهم أنه سمع منه ويروى عن رجل يعرف بنسب أو اسم فيعدل عن ذلك إلى ما لا يعرف به من أسمائه يوهم أنه غير ذلك الرجل المعروف، وقال كثير من أهل العلم يكره ذلك إلا أنه لا يقدح ذلك في روايته وهو قول بعض أصحابنا لأنه لم يصرح بكذب. ومن الناس من قال يرد حديثه لأنه في الإيهام عمن لم يسمع توهيم ما لا أصل له فهو كالمصرح بالكذب وفي العدول عن الاسم المشهور إلى غيره تغرير بالرواية عمن لعله غير مرضي فوجب التوقف عن حديثه.
فصل
ويجب أن يكون ضابطا حال الرواية محصلا لما يرويه فأما إذا كان مغفلا لم يقبل خبره فإنه لا يؤمن أن يروي بما لم يسمعه فإن كان له حال غفلة

(1/76)


وحال تيقظ فما يرويه في حال تيقظه مقبول، وإن روي عنه حديثا ولم يعلم أنه رواه في حال التيقظ أو الغفلة لم يعمل به.

(1/77)


باب القول في الجرح والتعديل
وجملته أن الراوي لا يخلو إما أن يكون معلوم العدالة أو معلوم الفسق أو مجهول الحال، فإن كانت عدالته معلومة كالصحابة رضي الله عنهم أو أفاضل التابعين كالحسن وعطاء والشعبي والنخعي وأجلاء الأئمة كمالك وسفيان وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق ومن يجري مجراهم وجب قبول خبره ولم يجب البحث عن عدالته، وذهبت المعتزلة والمبتدعة إلى أن في الصحابة فساقا وهم الذين قتلوا عليا كرم الله وجهه من أهل العراق وأهل الشام حتى اجترءوا ولم يخافوا الله عز وجل وأطلقوا هذا القول على طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم وهذا قول عظيم في السلف والدليل على فساد قولهم أن عدالتهم قد ثبتت ونزاهتهم قد عرفت فلا يجوز أن تزول عما عرفناه إلا بدليل قاطع ولأنهم لم يظهر منهم معصية اعتمدوها وإنما دارت بينهم حروب كانوا فيها متأولين ولهذا امتنع خلق كثير من خيار الصحابة والتابعين عن معاوية في قتال علي كرم الله وجهه على ذلك واستعفوا عن القتال معه لما دخل عليهم من الشبهة في ذلك كسعد بن أبي وقاص وأصحاب ابن مسعود وغيرهم ولهذا كان علي رحمة الله عليه يأذن في قبول شهادتهم والصلاة معهم فلا يجوز أن يقدح ذلك في عدالتهم.
فصل
فأما أبو بكرة ومن جلد معه في القذف فإن أخبارهم تقبل لأنهم لم يخرجوا مخرج القذف بل أخرجوه مخرج الشهادة وإنما جلدهم عمر كرم الله وجهه باجتهاده فلم يجز أن يقدح بذلك في عدالتهم ولم يرد خبرهم.
فصل
وإن كان معلوم الفسق لم يقبل خبره سواء كان فسق بتأويل أو بغير

(1/77)


تأويل، وقال بعض المتكلمين يقبل الفاسق بتأويل إذا كان أمينا في دنيه حتى الكافر. والدليل على ما قلناه قوله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1 ولم يفرق، ولأنه إذا لم يخرجه التأويل عن كونه كافرا أو فاسقا لم يخرجه عن أن يكون مردود الخبر.
الفصل
فإذا كان مجهول الحال لم يقبل حتى تثبت عدالته، وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يقبل، والدليل على ما قلناه أن كل خبر لم يقبل من الفاسق لم يقبل من مجهول العدالة كالشهادة.
فصل
ويجب البحث عن العدالة الباطنة كما يجب ذلك في الشهادة، ومن أصحابنا من قال يكفي السؤال عن العدالة في الظاهر فإن مبناه على الظاهر وحسن الظن ولهذا يجوز قبوله من العبد.
فصل
فإن اشترك رجلان في الاسم والنسب وأحدهما عدل والآخر فاسق فروي خبر عن هذا الاسم لم يقبل حتى يعلم أنه عن العدل.
فصل
ويثبت التعديل والجرح في الخبر بواحد، ومن أصحابنا من قال لا يثبت إلا من نفسين كتزكية الشهود والأول أصح لأن الخبر يقبل من واحد فكذلك تزكية المخبر.
فصل
ولا يقبل التعديل إلا ممن يعرف شروط العدالة وما يفسق به الإنسان
__________
1 سورة الحجرات الآية: 6

(1/78)


لأنا لو قبلنا ممن لا يعرف لم نأمن أن نشهد بعدل من هو فاسق أو فسق من هو عدل.
فصل
ويكفي في التعديل أن يقول هو عدل. ومن أصحابنا من قال يحتاج أن يقول هو عدل على ولي ومن الناس من قال لا بد من ذكر ما صار به عدلا، والدليل على انه يكفي قوله عدل أن قوله عدل يجمع أنه عدل عليه وله ولا يحتاج إلى الزيادة عليه، والدليل على أنه لا يحتاج إلى ذكر ما يصير به عدلا أنا لا نقبل إلا قول من تعرف فيه شروط العدالة فلا يحتاج إلى بيان شروط العدالة.
فصل
ولا يقبل الجرح إلا مفسرا فأما إذا قال هو ضعيف أو فاسق لم يقبل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال هو فاسق قبل من غير تفسير وهذا غير صحيح لأن الناس يختلفون فيما يرد به الخبر ويفسق به الإنسان فربما اعتقد في أمر أنه جرح وليس بجرح فوجب بيانه.
فصل
فإن عدله واحد وجرحه آخر قدم الجرح على التعديل لأن مع شاهد الجرح زيادة علم فقدم على المزكى.
فصل
فإن روي عن المجهول عدل لم يكن ذلك تعديلا وقال بعض أصحابنا: إن ذلك تعديل والدليل على فساد ذلك هو أنا نجد العدول يروون عن المدلسين والكذابين ولهذا قال الشعبي: أخبرني الحارث الأعور وكان والله كذابا فلم يكن في الرواية عنه دليل على التعديل.
فصل
فأما إذا عمل العدل بخبره وصرح بأنه بخبره فهو تعديل لأنه يجوز

(1/79)


أن يعمل به إلا وقد قبله وإن عمل بموجب خبره ولم يسمع منه أنه عمل بالخبر لم يكن ذلك تعديلا لأنه قد يعمل بموجب الخبر من جهة القياس ودليل غيره فلم يكن ذلك تعديلا.

(1/80)


باب القول في حقيقة الرواية وما يتصل به
والاختيار في الرواية أن يروي الخبر بلفظه لقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداعها" كما سمع: "رب حامل أفقه منه" فإن أورد الرواية بالمعنى نظرت فإن كان ممن لا يعرف معنى الحديث لم يجز لأنه لا يؤمن أن يغير معنى الحديث وإن كان ممن يعرف معنى الحديث نظرت فإن كان ذلك في خبر محتمل لم يجز أن روي بالمعنى لأنه ربما نقل بلفظ لا يؤدي مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يتصرف فيه وإن كان خبرا ظاهرا ففيه وجهان: من أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه ربما كان التعبد باللفظ كتكبير للصلاة. والثاني: أنه يجوز وهو الأظهر لأنه يؤدي معناه فقام مقامه ولهذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أصبت المعنى فلا بأس".
فصل
والأولى أن يروى الحديث بتمامه فإن روي البعض وترك البعض لم يجز ذلك على قول من يقول إن نقل الحديث بالمعنى لا يجوز وأما على قول من قال إن ذلك جائز فقد اختلفوا في هذا. فمنهم من قال: إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره بتمامه مرة جاز أن ينقل البعض وإن لم يكن قد نقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز، ومنهم من قال: إن كان يتعلق بعضه ببعض لم يجز فإن كان الخبر يشتمل على حكمين لا يتعلق أحدهما بالآخر جاز نقل أحد الحكمين بترك الآخر وهو الصحيح، ومن الناس من قال: لا يجوز بكل حال والدليل على الصحيح هو أنه إذا تعلق بعضه ببعض كان في ترك بعضه تقرير لأنه ربما عمل بظاهره فيخل بشرط من شروط الحكم وإذا لم يتعلق بعضه ببعض فهو كالخبرين يجوز نقل أحدهما دون الآخر.

(1/80)


فصل
وينبغي لمن لا يحفظ الحديث أن يرويه من الكتاب فإن كان يحفظ فالأولى أن يرويه من كتاب لأنه أحوط فإن رواه من حفظه جاز، وأما إذا لم يحفظ وعنده كتاب وفيه سماعه بخطه وهو يذكر أنه سمع جاز أن يرويه وإن لم يذكر كل حديث فيه وإن لم يذكر أنه سمع هذا الخبر فهل يجوز أن يرويه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز وعليه يدل قوله في الرسالة. والثاني: لا يجوز وهو الصحيح لأنه لا يأمن أن يكون قد زور على خطه فلا تجوز الرواية بالشك.
فصل
فإذا روى عن شيخ ثم نسى الشيخ الحديث لم يسقط الحديث، وقال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: يسقط الحديث وهذا غير صحيح لأن الراوي عنه ثقة ويجوز أن يكون الشيخ قد نسى فلا تسقط رواية صحيحة في الظاهر فأما إ ذا جحد الشيخ الحديث وكذب الراوي عنه سقط الحديث لأنه قطع بالجحود ورد الحديث فتعارض روايته جحود الشيخ فسقطا ولا يكون هذا التكذيب قدحا في الرواية عنه لأنه كما يكذبه الشيخ فهو أيضا يكذب الشيخ.
فصل
فإذا قرأ الشيخ الحديث عليك جاز أن تقول سمعته وحدثني وأخبرني وقرأ عليّ. سواء قال أروه عني أو لم يقل وإن أملى عليك جاز جميع ما ذكرناه ويجوز أن يقول أملى عليّ لأن جميع ذلك صدق فأما إذا قرأت عليه الحديث وهو ساكت يسمع لم يجز أن تقول سمعته ولا حدثني ولا أخبرني ومن الناس من قال يجوز ذلك وهذا خطأ لأنه لم يوجد شيء من ذلك فإن قال له هو كما قرأت عليك فأقرأ به جاز أن يقول أخبرني ولا يقول حدثني لأن الأخبار يستعمل في كل ما يتضمن الإعلام، والحديث لا يستعمل إلا فيما سمعه مشافهة، فأما إذا أجازه لم يجز أن يقول حدثني ولا أخبرني ويجوز أن يقول أجازني وأخبرني إجازة ويجب العمل به وقال بعض أهل الظاهر لا يجب

(1/81)


العمل به وهذا خطأ لأن القصد أن يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا فرق بين النطق وبين ما يقوم مقامه فأما إذا كتب إليه رجل وعرف خطه جاز أن يقول كتب إليّ به فأخبرني كتابة، ومن أصحابنا من قال لا يعمل بالخط كما لا يعمل في الشهادة وهذا غير صحيح لأن الأخبار مبناها على حسن الظن.

(1/82)


باب بيان ما يرد به خبر الواحد
إذا روي الخبر ثقة رد بأمور:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا.
والثاني: أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ.
والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل به على أنه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه.
والرابع: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم.
والخامس: أن ينفرد برواية ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية فأما إذا ورد مخالفا للقياس أو أنفرد الواحد برواية ما يعم به البلوى لم يرد وقد حكينا الخلاف في ذلك فأغنى عن الإعادة.
فصل
فأما إذا انفرد بنقل حديث واحد لا يرويه غيره لم يرد خبره وكذلك لو انفرد بإسناد ما أرسله غيره أو رفع ما وقفه غيره أو بزيادة لا ينقلها غيره وقال بعض أصحاب الحديث: يرد. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إذالم ينقل

(1/82)


الأصل لم يقبل وهذا خطأ لأنه يجوز أن يكون أحدهم سمع الحديث كله والآخر سمع بعضه أو أحدهم سمعه مسندا أو مرفوعا فلا تترك رواية الثقة لذلك.

(1/83)


باب القول في ترجيح أحد الخبرين على الآخر
وجملته أنه إذا تعارض خبران وأمكن الجمع بينهما وترتيب أحدهما على الآخر في الاستعمال فعل وإن لم يكن ذلك وأمكن نسخ أحدهما بالآخر فعل على ما بينه في باب بيان الأدلة التي يجوز التخصيص لها وما لا يجوز فإن لم يكن ذلك رجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح والترجيح يدخل في موضعين: أحدهما في الإسناد والآخر في المتن. فأما الترجيح في الإسناد فمن وجوه.
أحدها: أن يكون أحد الراويين صغيرا والآخر كبيرا فيقدم رواية الكبير لأنه أضبط ولهذا قدم ابن عمر روايته في الإفراد على رواية أنس فقال إن أنسا كان صغيرا يتولج على النساء وهن متكشفات وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها.
والثاني: أن يكون أحدهما أفقه من الآخر فيقدم على من دونه لأنه أعرف بما يسمع.
والثالث: أن يكون أحدهما أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقدم لأنه أوعى.
والرابع: أن يكون أحدهما مباشرا للقصة أو تتعلق القصة به فيقدم لأنه أعرف من الأجنبي.
والخامس: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواة فيقدم على الخبر الآخر، ومن أصحابنا من قال لا يقدم كما لا تقدم الشهادة بكثرة العدد والأول أصح لأن قول الجماعة أقوى في الظن وأبعد عن السهو ولهذا قال الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1.
__________
1 سورة البقرة الآية: 282.

(1/83)


والسادس: أن يكون أحد الروايين أكثر صحبة فروايته أولى لأنه اعرف بما دام من السنن.
والسابع: أن يكون أحدهما أحسن سياقا للحديث فيقدم لحسن عنايته بالخبر.
والثامن: أن يكون أحدهما متأخر الإسلام فيقدم لأنه يحفظ آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا كان أحدهما متأخر الصحبة كابن عباس وابن مسعود فرواية المتأخر منهما تقدم، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لا يقدم بالتأخير لأن المتقدم عاش حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فساوى المتأخر في الصحبة وزاد عليه بالتقدم وهذا غير صحيح لأنه وإن كان قد ساوى المتأخر في الصحبة إلا أن سماع المتأخر متحقق التأخر وسماع المتقدم يحتمل التأخر والتقدم فما تأخر بيقين أولى، ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحدث فالأحدث.
والتاسع: أن يكون أحد الروايين أورع أو أشد احتياطا فيما يروى فتقدم روايته لاحتياطه في النقل. والعاشر: أن يكون أحدهما قد اضطرب لفظه والآخر لم يضطرب فيقدم من لم يضطرب لفظه لأن اضطراب لفظه يدل على ضعف حفظه.
والحادي عشر: أن يكون أحد الخبرين من رواية أهل المدينة فيقدم على رواية غيرهم لأنهم يرثون أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته التي مات عليها فهم أعرف بذلك من غيرهم.
والثاني عشر: أن يكون راوي أحد الخبرين قد اختلفت الرواية عنه والآخر لم تختلف عنه فاختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال تتعارض الروايتان عمن اختلفت الرواية عنه وتسقطان وتبقى رواية من لم تختلف عنه الرواية، ومنهم من قال ترجح إحدى الروايتين عمن اختلفت الرواية عنه على الرواية الأخرى برواية من لم تختلف الرواية عنه.

(1/84)


فصل
وأما ترجيح المتن فمن وجوه.
أحدها: أن يكون أحد الخبرين موافقا لدليل آخر من كتاب أو سنة أو قياس فيقدم على الآخر لمعاضدة الدليل له.
والثاني: أن يكون أحد الخبرين عمل به الأئمة فهو أولى لأن عملهم به يدل على أنه آخر الأمرين وأولاهما، وهكذا إذا عمل بأحد الخبرين أهل الحرمين فهو أولى لأن عملهم به يدل على أنه قد استقر عليه الشرع وورثوه.
والثالث: أن يكون أحدهما يجمع النطق والدليل فيكون أولى ما يجمع أحدهما لأنه أبين.
والرابع: أن يكون أحدهما نطقا والآخر دليلا فالنطق أولى من الدليل لأن النطق مجمع عليه والدليل مختلف فيه.
والخامس: أن يكون أحدهما قولا وفعلا والآخر أحدهما فالذي يجمع القول والفعل أولى لأنه أقوى لتظاهر الدليلين وإن كان أحدهما قولا والآخر فعلا ففيه أوجه قد مضت في باب الأفعال.
والسادس: أن يكون أحدهما قصد به الحكم والآخر لم يقصد به الحكم فالذي قصد به الحكم أولى لأنه ابلغ في بيان الغرض وإفادة المقصود.
والسابع: أن يكون أحدهما ورد على سبب والآخر ورد على غير سبب فالذي ورد على غير سبب أولى لأنه متفق على عمومه والوارد على سبب مختلف في عمومه.
والثامن: أن يكون أحد الخبرين قضى به على الآخر فالذي قضى به منهما أولى لأنه ثبت له حق التقدم. والتاسع: أن يكون أحدهما إثباتاً والآخر نفياً فيقدم الإثبات، لأن مع المثبت زيادة علم فالأخذ بروايته أولى.

(1/85)


والعاشر: أن يكون أحدهما ناقلا والآخر منفيا فالناقل أولى لأنه يفيد حكما شرعيا.
والحادي عشر: أن يكون لأحدهما احتياطا فيقدم على الذي لا احتياط فيه لأن الأحوط للدين أسلم. والثاني عشر: أن يكون أحدهما يقتضي الحظر والآخر الإباحة ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء. والثاني: أن الذي يقتضي الحظر أولى وهو الصحيح لأنه أحوط.

(1/86)