المحصول للرازي الكلام في المفتي والمستفتي والنظر فيه
يتعلق بالمفتي والمستفتي
وما فيه الاستفتاء
(6/67)
القسم الأول في المفتي
وفيه مسائل مسألة إذا أفتى المجتهد بما أدى إليه اجتهاده ثم
سئل ثانيا عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد
الأول أو لا يكون فإن كان ذاكرا له فهو مجتهد وتجوز له الفتوى
وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده إلى خلاف
فتواه في الأول أفتى بما أداه اجتهاده إليه ثانيا ثم الأحسن به
أن يعرف من استفتاه أولا أنه رجح عن ذلك القول لأن ذلك
المستفتي إنما يعول على قوله فإذا ترك هو قوله بقي عمل
المستفتي به بعد ذلك عملا من غير موجب روي عن ابن مسعود أنه
كان يقول في تحريم أم المرأة مشروط بالدخول بالمرأة فلقي أصحاب
رسول الله ص وذاكرهم فكرهوا أن يتزوجها فرجع ابن مسعود إلى من
كان أفتاه قال
(6/69)
سألت أصحابي فكرهوا وأما إن لم يستأنف
الاجتهاد لم تجز له الفتوى ولقائل أن يقول لما كان الغالب على
ظنه أن الطريق الذي تمسك به أولا كان طريقا قويا حصل له الآن
ظن أن ذلك القوي حق جاز له
الفتوى به لأن العمل بالظن واجب مسألة اختلفوا في أن غير
المجتهد هل تجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير
(6/70)
فنقول لا يخلوا إما أن يحكى عن ميت أو عن
حي فإحكي لأنه عن ميت لم يجز الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت
بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا وينعقد مع موته وهذا
يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته فإن قلت فلم صنفت كتب
الفقه مع فناء أربابها قلت لفائدتين إحداهما استفادة طريق
الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بعضها على بعض
والأخرى معرفة المتفق عليه من المختلف فيه ولقائل أن يقول اذا
كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام المجتهد الذي مات ثم
روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه ثم إذا كان المجتهد عدلا
ثقة فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى وحينئذ يتولد للعامي من
هذين الظنين ظن أن حكم الله تعالى ما روى له هذا الراوى الحي
عن ذلك المجتهد الميت والعمل بالظن واجب
فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك وأيضا فقد إنعقد الإجماع في
زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع
(6/71)
من الفتوى لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد
والإجماع حجة وأما إن حكى عن حي من أهل الاجتهاد فإما أن يكون
سمعه مشافهة أو يرجع فيه إلى كتاب أو حكاية حال فإن كان سمعه
منه مشافهة جاز أن يعمل به وجاز أن يعمل الغير أيضا بقوله
ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها عن
المفتين ورجع علي رضي الله عنه إلى حكاية المقداد عن رسول الله
ص في شأن المذي وإن رجع في ذلك إلى حكاية من يوثق بقوله فحكم
ذلك حكم السماع وإن رجع إلى كتاب فإن كان كتابا موثوقا به جرى
مجرى المكتوب من جواب المفتي في أنه يجوز العمل به وإلا فلا
لكثرة ما يتفق من الغلط في الكتب
(6/72)
القسم الثاني في المستفتي مسألة يجوز
للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع خلافا لمعتزلة بغداد
وقال الجبائى يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد
لنا وجهان الأول إجماع الأمة قبل حدوث المخالف لأن العلماء في
كل عصر لا ينكرون على العامة الاقتصار على مجرد أقاويلهم ولا
يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم
(6/73)
الثاني أن العامي إذا نزلت به حادثة من
الفروع فإما أن لا يكون مأمورا فيها بشئ وهو باطل بالاجماع
لأنا نلزمه إلى قول العلماء والخصم يلزمه الرجوع إلى الاستدلال
وإما أن يكون مأمورا فيها بشئ وذلك إما بالاستدلال أو بالتقليد
والاستدلال باطل لأنه إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية
أو التمسك بالأدلة السمعية والأول باطل بالإجماع والثاني أيضا
باطل لأنه لو لزمه أن يستدل لم يخل من أن يلزمه ذلك حين كمل
عقله أو حين حدثت المحادثة والأول باطل لوجهين أحدهما أن
الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم ولم يطلب
رتبة المجتهد في أول ما يكمل عقله وثانيهما أن وجوب ذلك عليه
يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا وذلك سبب
لفساد العالم والثاني أيضا باطل لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب
صفة المجتهدين عند نزول الحادثة وذلك غير مقدور له ولقائل أن
يقول على هذا الوجه القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع لا
يقولون بالإجماع ولا بخبر الواحد ولا بالقياس ولا يجوزون
التمسك بالظواهر المحتملة
(6/74)
وإذا كان كذلك سها الأمر عليهم فإنهم قالوا
قد تقرر في عقل كل عاقل أن الأصل في اللذات الإباحة وفي المضار
الحرمة فإن جاء في بعض الحوادث نص قاطع المتن قاطع الدلالة
يوجب ترك ذلك الأصل العقلي قلنا به وإن لم يوجد ذلك وجب البقاء
على حكم العقل وإذا ثبت هذا فالعامي إذا وقعت له واقعة فإما أن
يكون فيه شئ من الذكاء أو لا يكون بل يكون في غاية البلادة فإن
كان فيه شئ من الذكاء عرف حكم العقل فيه وان كان في غاية
البلادة نبهه المفتي على حكم العقل وليس لأحد أن يقول الاشتغال
بذلك يمنعه عن عمل المعاش لأنه إذا جاز تكليفه بمعرفة الأدلة
الدقيقة في مسائل الأصول ولا يمنعه ذلك عن المعاش فكيف تمنعه
معرفة هذا القدر من طلب المعاش ثم إذا عرف العامي حكم العقل
وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك العمل بحكم العقل قاطع المتن
قاطع الدلالة نبهه المفتي عليه ولا حاجة في فهم مثل هذا النص
إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش
وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص وجب عليه العمل بحكم العقل فثبت
أن المنع من التقليد إنما يصعب على قول من يوجب العمل بالقياس
وخبر الواحد أما من لا يقول بذلك فلا صعوبة عليه ألبتة وأيضا
فهذه الدلالة لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول
لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد
(6/75)
الكثير ونحن نعلم من حال الصحابة أنهم ما
كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام في أول زمان بلوغه وأيضا
الأشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش أجابوا بأن
الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق
الجملة لا على طريق التفصيل ومعرفة تلك الأدلة على سبيل
الإجمال أمر سهل هين يحصل بأدنى سبب بخلاف الاجتهاد في فروع
الشرع فإنه لا بد فيه من علوم كثيرة وتبحر شديد واعلم أن هذا
الفرق إنما يتلخص إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة ومباحث
التفصيل وعندي أن هذا الفرق باطل وذلك لأن الدليل إذا كان
مركبا مثلا من مقدمات عشر فالمستدل إن كان عالما بها بأسرها
وجب حصول العلم النظري له لا محالة وأن امتنعت الزيادة عليه
لأن تلك المقدمات العشر إذا كانت مستقلة بالانتاج أخبرنا فلو
انضمت مقدمة أخرى إليها استحال أن يكون لها أثر ألبتة وأما إن
لم يحصل العلم بأسرها مثل أن يحصل العلم بتسع منها
ولم تكن المقدمة العاشرة معلومة بالضرورة ولا بالدليل بل
مقبولة على سبيل التقليد فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك
العشر تقليدا لا يقينا فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة
والنقصان ألبتة مثاله أنهم يقولون صاحب الجملة يكفيه الاستدلال
بحدوث الحوادث
(6/76)
من البرق والرعد والحر والبرد على وجود
الصانع فنقول هذا لا يكفي لأنا نقول هذه الحوادث لا بد لها من
مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلا مختارا أما المقدمة الأولى
فمعلومة للعوام وأما الثانية فغير معلومة لهم لأنه ما لم يثبت
أن ذلك ليس أثرا لمؤثر موجب لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار
فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارا من غير
دليل عليه كان مقلدا في هذه المقدمة وإذا كان مقلدا فيها لم
يكن محققا في النتيجة وأيضا إذا رأى حدوث فعل خارق للعادة على
يد مدعي النبوة فلو قطع عند ذلك بنبوته كان ذلك تقليدا لأن قبل
الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى بل خاصية
لنفس الرسول أو خاصية لدواء أو فعلا من أفعال الجن وبتقدير أن
يكون فعلا لله تعالى لكن يجوز أن لا يكون لله تعالى فيه غرض
وإن كان له فيه غرض جاز أن يكون ذلك الغرض شيئا سوى التصديق
فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة لا بد وأن يكون
دالا على
صدق المدعي من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام كان مقلدا في
اعتقاد هذه المقدمة فلم يكن محققا في النتيجة فظهر بهذا فساد
ما قالوه من الفرق بين صاحب الجملة وبين صاحب التفصيل وحينئذ
لا يبقى إلا أحد أمرين إما أن يقال بأن الإحاطة بأدلة الدين
(6/77)
على تفصيلها وتدقيقها شئ سهل هين وذلك
مكابرة وإما أن يقال يجوز فيه التقليد كما جوزوا في فروع الشرع
التقليد وحينئذ لا يبقى بينهما فرق ألبتة واحتج منكرو التقليد
في فروع الشرع بأمور أحدها قوله تعالى وإن تقولوا على الله
مالا تعلمون وثانيها أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى
إنا وجدنا آباءنا على أمة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام
طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة توافقنا على خروج بعض
العلوم عن هذا العموم فبقي العلم بفروع الشرع وأحكامه ورابعها
القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه لأنه يقتضي جواز تقليد من
يمنع
(6/78)
من التقليد وما يفضي ثبوته إلى عدمه كان
باطلا وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام اجتهدوا فكل ميسر لما
خلق له أمر بالإجتهاد مطلقا وسادسها أن العامي إذا قلد لم يأمن
من جهل المفتي وفسقه فيكون فاعلا للمفسدة وسابعها لو جاز
التقليد في فروع الشرع لكان ذلك لأنه حصلت أمارات توجب ظن صدق
المفتي وهذا المعنى قائم في أصول الدين فوجب الاكتفاء بالفتوى
في الأصول أيضا والجواب عن الأول أنه منقوض بكل ظن وجب العمل
به كما في أحوال الدنيا وقيم المتلفات وأروش الجنايات وبخبر
الواحد والقياس إن سلموا جواز العمل بهما
(6/79)
وعن السادس والسابع أن نذكر الفرق الذي
تقدم وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد
وغير مسائل الاجتهاد أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين لكنا
قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأنه إنما يفصل بينهما أهل
الاجتهاد فيعود المحذور المذكور واحتج المخالف
بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد فالحق فيها واحد فلو قلدنا فيها
لم نأمن أن نقلد في خلاف الحق وليس كذلك مسائل الاجتهاد لأن كل
قول فيها حق والجواب أنا لا نأمن أيضا في مسائل الاجتهاد أن لا
يجتهد المفتى أو يقصر في اجتهاده أو يفتيه بخلاف اجتهاده فإن
قلتم إن مصلحة العامي هو أن يعمل بما يفتيه المفتي قلنا وكذلك
الأمر في تقليده فيما نحن فيه وإن كان غير مصيب مسألة في شرائط
الاستفتاء
(6/80)
اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا
إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل الاجتهاد ومن أهل الورع
وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبا للفتوى بمشهد الخلق ويرى اجتماع
المسلمين على سؤاله واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من
يظنه غير عالم ولا متدين وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر
المجتهد في الأمارات ثم هاهنا بحث وهو أن أهل الاجتهاد إذا
أفتوه فإن اتفقوا على فتوى لزم المصير إليها وإن اختلفوا فقال
قوم وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لأن ذلك طريق قوة ظنه
يجري مجرى قوة ظن المجتهد وقال آخرون لا يجب عليه هذا الاجتهاد
لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في
أحوال العلماء
ثم بعد الاجتهاد إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقا أو ظن الرجحان
مطلقا أو ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فإن
حصل ظن الاستواء مطلقا فها هنا طريقان أحدهما أن يقال هذا لا
يجوز وقوعه كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة والآخر أن
يقال يسقط عنه التكليف لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء
(6/81)
وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقا تعين العمل
به أما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون
وجه فها هنا صور إحداها أن يستويا في الدين ويتفاضلا في العلم
فمنهم من خيره ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم وهو الأقرب
لمزيته ولهذا يقدم في إمامة الصلاة وثانيتها أن يتساويا في
العلم ويتفاضلا في الدين فها هنا وجب الأخذ بقول الأدين
وثالثها أن يكون أحدهما أرجح في علمه فقيل يؤخذ بقول الأدين
والأقرب ترجيح قول الأعلم لأن الحكم مستفاد من علمه لا من
ديانته
فإن قلت العامي ربما اغتر بالظواهر وقدم المفضول على الفاضل
فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض
فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداء وإلا فأي
فرق بين الأمرين قلت من مرض له طفل وليس له طبيب فإن سقاه
دواءا برأيه كان متعديا مقصرا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا
(6/82)
فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في
الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ثم أنه يعلم كون أحدهما أعلم من
الآخر ب الأخبار وبإذعان المفضول له وبأمارات تفيد غلبة الظن
فكذلك في حق العلماء يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن دون البحث
عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي
مسالة الرجل الذي تنزل به الواقعة فإما أن يكون عاميا صرفا أو
عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد أو عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن
كان عاميا صرفا حل له الاستفتاء وان كان عالما بلغ درجة
الاجتهاد فإن كان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فها هنا أجمعوا
على إنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بظن غيره أما إذا لم
يجتهد فها هنا قد اختلفوا فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز
للعالم تقليد العالم ألبتة وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وسفيان الثورى رحمهم الله
بجوازه مطلقا ومن الناس من فصل وذكر فيه وجوها أحدها أنه يجوز
لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة ولا يجوز تقليد غيرهم وهو القول
القديم للشافعي رضى الله عنه
(6/83)
وثانيها أنه يجوز تقليد العالم للأعلم وهو
قول محمد بن الحسن رحمه الله وثالثها أنه له التقليد فيما يخصه
دون ما يفتى به ورابعها أنه يجوز له التقليد فيما يخصه إذا كان
بحيث لو اشتغل بالاجتهاد لفاته الوقت وهو قول ابن سريج لنا
وجهان الأول أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى
فاعتبروا يا أولي الأبصار ولم يأت به فيكون تاركا للمأمور به
فيكون عاصيا فيستحق النار ترك العمل به في حق العامي لعجزه عن
الاجتهاد فيبقى معمولا به في حق المجتهد
(6/84)
الثاني أنه متمكن من الوصول إلى حكم
المسألة بفكرته فوجب فوجب أن يحرم عليه
التقليد كما في الأصول والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل
عند القدرة على الاحتراز عنه فإن قلت المعتبر في الأصول اليقين
وأنه لا يحصل بالتقليد بخلاف الفروع فإن البغية فيها الظن
ويمكن حصوله بالتقليد ولذلك جاز للعامي أن يقلد في الفروع دون
الأصول وأيضا فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي فإنه لا يجوز
خلافه وإن كان متمكنا من معرفة الحكم فإنه لا معنى للتقليد إلا
وجوب العمل عليه من غير حجة وينتقض أيضا بمن دنا من رسول الله
ص فإنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة مع أنه يجوز أن يسأل
من أخبر عن رسول الله ص قلت أما الجواب عن الأول فهو أنا إنما
أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين لأنه قادر والدليل حاضر فوجب
عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى حاصل في
مسألتنا لأن المكلف قادر والدليل المعين للظن الأقوى حاصل فوجب
عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل في الظن الضعيف وعن
الثاني أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضى به القاضي
لا يمكنه
(6/85)
نسخه بالاجتهاد فلم يكن العمل به تقليدا بل
عملا بذلك الدليل وعن الثالث
أنه لا نسلم بجواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول ص عند
القدرة واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى فاسئلوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب أن
يجوز له السؤال وثانيها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم والعلماء من أولي الأمر لأن أمرهم ينفذ على
الأمراء والولاة وثالثها قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين أوجب الحذر بانذار من تفقه في الدين
مطلقا فوجب على العالم قبوله كما وجب على العامي ذلك ورابعها
إجماع الصحابة روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان أبايعك
(6/86)
على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين
فقال نعم وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة ولم ينكر عليه أحد
فكان ذلك إجماعا فإن قلت إن عليا خالف فيه قلت إنه لم ينكر
جوازه لكنه لم يقبله ونحن لا نقول بوجوبه حتى يضرنا ذلك
وخامسها
أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد فجاز لمن لم يكن عالما به تقليد من
علمه كالعامي والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي
وسادسها أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن
مجتهد آخر بل عن عامي وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله ودينه
فها هنا إذا أخبر المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع
والطاقة فلأن يجوز العمل به كان أولى وسابعها أن المجتهد إذا
أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد حصل ظن أن حكم الله
تعالى ذلك وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به لا ستحق
العقاب فوجب أن يجب العمل به دفعا للضرر المظنون
(6/87)
والجواب عن الأول أن ظاهر الآية يقتضي وجوب
السؤال وإنه غير واجب بالاتفاق وأيضا فقوله إن كنتم لا تعلمون
يقتضي أن يجب على المجتهد بعد اجتهاده استفتاء غيره لأنه بعد
اجتهاده ليس بعالم بل هو ظان وبالإجماع لا يجوز ذلك وأيضا فإنه
أمر بالسؤال وليس فيه تعيين ما عنه السؤال فنحن نحمله على
السؤال عن وجه الدليل وعن الثاني أن الأصول دلت على وجوب
الطاعة لكنها لا تدل على وجوب الطاعة في كل شئ فنحن نحملها على
وجوب الطاعة في الأقضية
والأحكام والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع أنها لو
تناولته لوجب ذلك التقليد وبالإجماع التقليد غير واجب وعن
الثالث أن الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذار لا عند كل إنذار
ونحن نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته وعن الرابع أنه
يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل
والإنصاف والانقياد للحق والبعد عن الدنيا وعن الخامس أن الفرق
هو أن العامي قاصر فجاز له العمل بالتقليد والعالم ليس بقاصر
(6/88)
وعن السادس أن المفتي ربما بنى اجتهاده على
خبر واحد فإذا تمسك به المجتهد ابتداءا كان الاحتمال فيه أقل
مما إذا قلد فيه غيره وعن السابع أن مجرد الظن واجب العمل به
لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا عنه وما ذكرناه من الدلائل
السمعية يوجب العدول عن هذا الظن
(6/89)
القسم الثالث
فيما فيه الاستفتاء
مسألة لا يجوز التقليد في أصول الدين لا للمجتهد ولا للعوام
وقال كثير من الفقهاء بجوازه لنا أن تحصيل العلم في أصول الدين
واجب على الرسول ص فوجب أن يجب علينا وإنما قلنا أنه كان واجبا
على الرسول ص لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وإنما
قلنا إنه لما كان واجبا على الرسول ص وجب أيضا على أمته لقوله
تعالى واتبعوه
(6/91)
فان قيل لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم
بالله تعالى وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالما بالله تعالى
فحالما يا لا يكون عالما بالله استحال أن يكون عالما بأمر الله
تعالى وحالما يمتنع كونه عالما بأمر الله تعالى يمتنع كونه
مأمورا من قبله وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وان كان عالما
بالله تعالى استحال أمره به لأن تحصيل الحاصل محال سلمنا أن
الرسول ص كان مأمورا بذلك فلم قلت إنه يلزم من كون الرسول
مأمورا كون الأمة مأمورين به وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور
أحدها أن الأعرابى الجلف العامي كان يحضر ويتلفظ بكلمتي
الشهادة
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم بصحة إيمانه وما ذاك إلا
التقليد وثانيها أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد
ممارسة شديدة وإنهم لم يمارسوا شيئا من هذا العلم فيمتنع
اطلاعهم عليه وإذا كان كذلك تعين التقليد وثالثها أنه عليه
الصلاة والسلام لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة هل علمت
حدوث الأجسام وأنه تعالى مختار لا موجب فدل هذا على
(6/92)
أن خطور هذه المسائل بالبال غير معتبر في
الإيمان لا تقليدا ولا علما ومنهم من عول في هذه المسألة على
طريقة أخرى فقال اجمعت الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق
لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق فإذن
لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل ومتى صار مستدلا امتنع
كونه مقلدا فيقال لهم هذا معارض بالتقليد في الشرعيات فإنه لا
يجوز له تقليد المفتي إلا إذا كان المفتي قد أفتى بناءا على
دليل شرعى فإن قلت الظن فيه كاف فإن أخطأ كان ذلك الخطأ محطوطا
عنه قلت فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول واعلم أن في هذه
المسألة ابحاثا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية والأولى في هذه
المسألة أن يعتمد على وجه وهو أن يقال دل القرآن على ذم
التقليد لكن ثبت جواز التقليد في الشرعيات فوجب صرف الذم إلى
التقليد في الأصول وإذ قد وفقنا الله تعالى بفضله حتى تكلمنا
في جميع ابواب أصول
(6/93)
الفقه فلنتكلم الآن فيما اختلف فيه
المجتهدون أنه هل هو من أدلة الشرع أو ليس كذلك
(6/94)
|