المنخول من تعليقات الأصول
القول في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
لا يتوصل إلى ذلك إلا بذكر مقدمة في عصمة الأنبياء عن
المعاصي وهي منقسمة إلى الصغائر والكبائر وقد تقرر بمسلك
النقل كونهم معصومين عن الكبائر وأما الصغائر ففيه تردد
العلماء والغالب على الظن وقوعه وإليه يشير بعض الآيات
والحكايات هذا كلام في وقوعه أما جوازه فقد أطبقت المعتزلة
على وجوب عصمة النبي عليه السلام عقلا عن الكبائر تعويلا
على أنه يورث التنفير وهو مناقض لغرض النبوة وهذا يبطل
بكون الحرب سجالا بينه وبين الكفار وبه اعتصم بعض اليهود
في تكذيبه والمختار
(1/309)
ما ذكره القاضي
وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان استحالة وقوعه
بضرورة العقل ولا بنظر العقل وليس هو مناقضا لمدلول
المعجزة فإن مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر عن الله تعالى
فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب فيما يخبر به عن الرب تعالى
لا عمدا ولا سهوا ومعنى التنفير باطل فإنا نجوز أن ينبئ
الله تعالى كافرا ويؤيده بالمعجزة والمعتزلة يأبون ذلك
أيضا والذين أوجبوا عصمته عن الكبيرة اختلفوا فمنهم من قال
كل مخالفة كبيرة بالنسبة إلى عظمته فلا صغيرة أصلا وكل
مخالفة كبيرة
(1/310)
وهذا كما أن
رفع الصوت فوق صوت من يماثل الإنسان قد يعد صغيرة وهو
بعينه في مجلس الملوك كبيرة دونه تحز الرقاب فللنسبة بعد
تأثير في تعظيم أثر المخالفة والذين أثبتوا الصغيرة
اضطربوا ومثار الاضطراب في أنه هل يورث التنفير أما
النسيان فلا يجب كونه عندنا معصوما عنه في أفعاله وأقواله
إلا فيما يخبر عن الله تعالى لأن تجويزه مناقض مدلول
المعجزة ونرجع إلى المقصود فإذا نقل فعل عن رسول الله عليه
السلام فهل يتلقى منه حكم أما الواقفية فقد توقفوا فيه
وعزي إلى أبي حنيفة وابن سريج وأبي علي بن أبي هريرة رضي
الله عنهم أنه يتلقى منه الوجوب مطلقا
(1/311)
والمختار عندنا
وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إن اقترن به
قرينة الوجوب كقوله صلوا كما رأيتموني أصلي فهو الوجوب وإن
لم يقترن نظر فإن وقع من جملة الأفعال المعتادة من أكل
وشرب وقيام وقعود واتكاء واضطجاع فلا حكم له أصلا وظن بعض
المحدثين أن التشبه به في كل أفعاله سنة وهو غلط وإن تردد
بين الوجوب والندب فإن اقترنت به قرينة القربة فهو محمول
على الندب لأنه الأقل والوجوب متوقف فيه وإن تردد بين
القربة والإباحة فيتلقى منه رفع الحرج وليس هذا متلقى من
صيغة الفعل إذ الفعل لا صيغة له ومستنده مسلك الصحابة فإنا
نعلم أن الممنوع من فعل فيما بينهم لو نقل عن الرسول صلى
الله عليه وسلم فعله لفهموا منه رفع الحرج
(1/312)
وأما الإباحة
فلا نتلقاه فإنه حكم يقتضي التخيير مع تساوي الطرفين وهو
يناقض الندب والفعل متردد بينه وبين رفع الحرج فأقل
الدرجات رفع الحرج فإن تمسك أبو حنيفة رحمه الله بإجماع
الأمة على كون النبي عليه السلام أسوة وقدوة ومطاعا وشرطه
الاقتداء به في كل ما يأتي ويذر قلنا معناه أن أمره ممتثل
كما يقال الأمير مطاع في قومه لا يراد به أنهم يتربعون إذا
تربع أو ينامون إذا نام فإن تمسك بقوله تعالى وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا وقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره وقوله
فاتبعوني يحببكم الله فكل ذلك محمول على الأمر وهو الذي
أتانا به دون الفعل مسألة (1) إذا نقل عن الرسول عليه
السلام فعلان مختلفان في واقعة واحدة وعدل الرواة كما نقل
في صلاة الخوف قال الشافعي رضي الله عنه يتلقى منها جواز
الفعلين
(1/313)
والمختار في
ذلك أن نقول إن اتفق الفقهاء على صحة الفعلين واختلفوا في
الأفضل توقفنا في الأفضل فإن ادعى كل فريق يتمسك برواية
بطلان مذهب صاحبه فيتوقف ولا يفهم الجواز فيهما فإنهما
متعارضان ونعلم أن الواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحدهما ولا يترجح وإن اتفقوا على صحة واحد فنحكم به ونتوقف
في الآخر والشافعي رضي الله عنه إنما قال ذلك في صلاة
الخوف وقد رجح إحدى الروايتين على الأخرى لقربه إلى أبهة
الصلاة مسألة (2) إذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعل حمل على الوجوب بقرينة أو على غيره ثم نقل فعل يناقضه
قال القاضي لا يقطع بكونه نسخا لاحتمال أنه انتهى لمدة
الفعل الأول وإن كنا نعلم أن الفعل الأول لو بقي لاقتضى
الحكم على التأبيد ولكنه لا صيغة له
وهذا محتمل فيتوقف في كونه ناسخا ونعلم انتهاء ذلك الحكم
قطعا فإن
(1/314)
النسخ رفع للشئ
بعد الثبوت عندي وأما اللفظ فإنه بصيغته يتضمن إثبات الحكم
إطلاقا وابن مجاهد صار إلى أنه نسخ ويتردد في القول الطارئ
على الفعل ولا وجه لهذا الفرق والأصح ما ذكره القاضي مسألة
(3) قال الشافعي رضي الله عنه استبشار رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسروره بالشئ يدل على كونه حقا وتمسك بسروره في
قصة مجزز المدلجي وإلحاقه زيدا بأسامة في إثبات القيافة
وقال لا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالحق ولا
يستبشر بالباطل وهذا ضعيف فإنما سر بكلمة صدق صدرت ممن هو
مقبول القول في ما بين الكفار على مناقضة قولهم لما قدحوا
في نسب أسامة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نادى
به
(1/315)
فإن قيل لو كان
باطلا لرد فإنه حكم على الغيب قلنا من نسب ابنا إلى أبيه
الذي شهر به لا يمنع منه والفاسق إذا شهد على النسب لا
يزجر وإن لم يقبل منه ولا يقال هذا حكم على الغيب مسألة
(4)
تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما على فعل وتركه
النكير عليه مع فهمه الواقعة وعدم ذهوله عنه يتمسك به في
جواز التقرير إذا كان الفعل بحيث لو قدر الإقدام عليه لكان
كبيرة إذ كان يتحتم عليه بيان الحكم فسكوته مع العيان دل
على الجواز وإن كان الفعل صغيرة لو قدر محرما وكنا لا نجوز
الصغيرة على الرسول عليه السلام تمسكنا به
(1/316)
وإن جوزنا فلا
نتمسك به إلا أن يتكرر في مجلسه ذلك ولا ينكر إذ الإصرار
على الصغيرة كبيرة ولا يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الصغائر والذي أراه والعلم عند الله قطع القول بجواز
التمسك به من غير تفصيل بين الصغيرة والكبيرة فإنا نعلم أن
الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون منه الجواز وإن كان
الفعل من جملة الصغائر لو قدر محرما وإن تمسك متمسك به في
إثبات عصمة النبي عليه السلام عن الصغيرة لقبول الصحابة
ذلك من غير تفصيل فله وجه وأما تقريره الكافر فلا تمسك فيه
لأنه كان يعرض عنهم وفي تقرير المنافق خلاف لأنه كان ينحو
بهم نحو المسلمين فإن قيل إذا قرر مسلما فيحتمل أنه كان
ينتظر الوحي قلنا لو كان كذلك لأمر بالتوقف كما نقل عنه في
بعض الوقائع والله أعلم
(1/317)
|