المنخول من تعليقات الأصول

كتاب النسخ
وفيه أربعة أبواب
الباب الأول في اثبات النسخ على منكريه وبيان حقيقته
وقد انكر اليهود جواز النسخ فنقول لهم ان تلقيتم استحالته من عدم تصوره فتصويره ان يقول السيد لعبده افعل ثم يقول بعده لا تفعل وان تلقيتموه من استصلاح واستقباح فلا تساعدون عليه ثم لا بعد في تقدير مصلحة فيه وان نقلوا استحالة النسخ من موسى عليه السلام فقد كذبوا إذ شريعة عيسى عليه السلام نسخت شريعته ولا طريق لهم إلى انكار معجزته فإن قالوا النسخ يدل على البداء قلنا ان عنيتم انه يدل على تبين شئ بعد استبهام شئ فليس كذلك

(1/383)


وان قلتم يؤدي إلى افتتاح امر لم يكن فالله تعالى يبدل الأحوال يحيي ويميت ويحرك ويسكن وان قالوا كلام الله تعالى قديم والقديم كيف ينسخ قلنا تعلق الخطاب بنا ليس قديما فلا بعد في انقطاعه كما ينقطع بالجنون وغيره فدل ان استحالة النسخ لا تعلم بضرورة العقل ولا بنظره فإن قيل امر الله ان فهم منه التأبيد فنسخه يشعر بالخلف وان لم يدل إلا على التأقيت فلا حاجة إلى النسخ إذ النسخ رفع ولا رفع قلنا يندفع هذا السؤال ببيان حقيقة النسخ وقد اختلفت العبارات فيه فقال قائلون النسخ بيان امد العبادة وهو فاسد من وجهين أحدهما ان النسخ لا يختص بالعبادة الثاني ان البيان لو قارن لم يكن نسخا فلا بد من التراخي وقال الفقهاء النسخ تخصيص الأمر بزمان قال القاضي رحمه الله في روم افاسده ثم اجمع الفقهاء واليهود على رد

(1/384)


النسخ إذ الأمة مجمعة على اثباته معنى وراء التخصيص فلا تغني الموافقة في اللقب ورد المعنى إلى التخصيص إذ النسخ رفع لا رفع فيما قلوه والتخصيص بالقياس واخبار الآحاد مسوغ دون النسخ قال القاضي والنسخ رفع الحكم الثابت وهذا يرد على ما ذكره اليهود من ان رفع الثابت خلف
وقالت المعتزلة النسخ هو النص الذي يتضمن رفع مثل الحكم الثابت في مستقبل الزمان الذي لولاه لاستمر الحكم والمختار ان النسخ ابداء ما ينافي شرط استمرار الحكم فنقول قول الشارع افعلوا شرط استمراره ان لا ينهى وهذا شرط تضمنه الأمر وان لم يصرح به كما ان شرطه استمرار القدرة ولو قدر عجز المأمورين تبين به بطلان شرط الاستمرار فإن قيل ما الفرق بينكم وبين المعتزلة قلنا نفارقهم في مسألتين إحداهما انا نجوز نسخ الأمر قبل مضي مدة الامكان وهم لا يجوزون لأن الأمر ليس بثابت

(1/385)


والاخرى انه لو قال افعلوا أبدا جوزنا نسخه لأنا لا نتلقاه من اللفظ وهو كما لو قال افعلوا أبدا ان لم أنهكم عنه إذ شرط استمراره عدم النهي ونقول للذين حملوا النسخ على التخصيص ان عنيتم به ان الحكم في علم الله تعالى كان متخصصا بهذا الوقت فهو مسلم وان عنيتم ان اللفظ في وضعه تخصص به فليس كذلك فإنه لو قال افعلوا أبدا فهو نص ويجوز نسخه نعم لا يجوز الهجوم عليه بالقياس لأن التخصيص أيضا تلقيناه من الصحابة لا من العقل ولم ينقل عنهم ذلك في النسخ فإن قيل هذا نسخ لا يتضمن رفعا قلنا يتضمن رفع اعتقادنا ووهمنا
فإنا كنا نظن استمرار الحكم ابدا وإلا فالثابت في علم الله تعالى لا ينقلب فإذن تحصلنا على اثبات النسخ وراء التخصيص متضمنا لرفع الاعتقاد دون الحكم في علم الله تعالى مفارقا للإستثناء إذ شرط النسخ الاستئخار ولو قارن لناقض وشرط الإستثناء المقارنة ولو إستأخر لناقض فبان بما ذكرناه وجه الرد على اليهود فيما ذكروه من السؤال

(1/386)


الباب الثاني الناسخ
هو الله تعالى وهو المثبت وقولنا الخبر ناسخ أو الشئ ناسخ تجوز ثم لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ الكتاب بالسنة جائز عند الاصوليين خلافا لمالك والشافعي والاستاذ أبي اسحق في زمرة الفقهاء

(1/387)


فنقول ليس في العقل ولا في الشرع ما يحيل قوله النبي عليه السلام لأمته هذه الآية منسوخة من غير ان يتلو معها آية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يقوله إلا عن وحي وكان لا ينطق عن الهوى وان كان يجتهد لم يكن مترددا في اجتهاده بل كان يقطع بما يقول

(1/388)


فإن قيل نسخ المعجز بغير المعجز محال
قلنا ليس كذلك بدليل جواز نسخ آية بنصف آية لا اعجاز فيها فإن تمسكوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها الآية قلنا هذا ان دل فإنه يدل على أنه لم يقع ثم لا يدل عليه ايضا فإنه محمول على العلم والامارة

(1/389)


ثم لم يذكر انه لم ينسخ إلا بالكتاب وانما فيه تعرض للمنسوخ والاتيان بآية أخرى وان لم يكن هو الناسخ ثم الاية مجملة لترددها بين هذه الجهات هذا هو الكلام في جوازه ونحن نقطع بوقوعه فإنا نرى آيات من الكتاب منسوخة كآية الوصية وغيرها وليس لها ناسخ من الكتاب فأما ورود آية على مناقضة ما تضمنه الخبر جائز بالاتفاق ولكن الفقهاء قالوا النبي صلى الله عليه وسلم هو الناسخ لخبره دون الآية وهذا كلام لا فائدة فيه فلا استحالة في كون الآية ناسخة للخبر

(1/390)


وعزي إلى الشافعي رضي الله عنه المصير إلى استحالته ولعله عني في المسألتين ان النبي علي السلام لا ينسخ فلا يثبت أيضا حتى تكون الآية ناسخة لحديثه وانما الناسخ والمثبت هو الله تعالى والنسخ بأخبار الآحاد تردد القاضي فيه وقال لا أدري لو نقل
الصديق عن الرسول عليه الصلاة والسلام نسخ آية هل كانوا يحكمون وهو في مظنة التردد كما قال ولا شك في أنهم كانوا لا يسلطون القياس على الكتاب بالنسخ والله اعلم

(1/391)


الباب الثالث فيما يجوز ان ينسخ
ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم جائز خلافا للمعتزلة فنقول التلاوة حكم مستقل بنفسه فلا يستحيل نسخه كنسخ الحكم دون التلاوة والدليل عليه قوله تعالى والشيخ والشخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله تعالى فالتلاوة منسوخة والحكم باق مسألة 1 يجوز نسخ الأمر قبل مضي زمان امكان الامتثال خلافا للمعتزلة

(1/392)


بدليل نسخ الذبح عن ابراهيم قبل امتثاله وكان قد اعتقد وجوب الذبح ولذلك تعاطى سببه فإن قيل لم يكن مأمورا إلا بمعالجة الذبح قلنا فلم فدي وكان قد فعل ثم لا نظر في ذلك وقد قال تعالى ان هذا لهو البلاء المبين
ولا يظن أيضا به التقصير في التأخير حتى يقال كان النسخ بعد الإمكان وقوله صدقت الرؤيا معناه حاولت الاقدام اعتمادا على الرؤيا والمسلك المختار انا نقول لا يدرك استحالة هذا النسخ بضرورة العقل ولا بنظره وغاية المسألة انه يبين بالنسخ ان الأمر ثابت والنسخ رفع حكم ثابت وقد قال القاضي رضي الله عنه الحكم قبل الامكان ثابت ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن ونحن نقول كان ثابتا في وهمنا فارتفع وهمنا

(1/393)


وكان الله عالما بأن لا مطلوب ولا طلب كما إذا امره ثم عجز قبل التمكن ولا فرق بينهما فان قيل وما فائدة هذا الأمر قلنا لا يطلب لافعال الله تعالى فائدة ثم فائدته اعتقاد الوجوب كما إذا امر ثم عجز قبل الامكان فإن قيل لو أمر لاراد وإذا اراد نفذت ارادته فكيف ينسخ قبل الفعل قلنا عندنا قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد ثم يعارضه ما إذا امر ثم سلب القدرة مسألة 2 الزيادة على النص إذا لم ترتبط بالمزيد عليه كالامر بالصلاة بعد الأمر
بالزكاة لا تكون نسخا بالاتفاق وإذا ارتبطت بالمزيد على وجه ابطل الانحصار المتلقى من النص فهو نسخ كما إذا قدر صلاة الصبح بركعتين ثم زيد فيهما ثالثة

(1/394)


فأما إذا لم يرتبط به لا يكون نسخا كقولنا الايمان شرط في كفارة الظهار كما ذكرنا في كتاب التأويل وقد يدعي أبو حنيفة رحمه الله ذلك في شرط النية في الطهارة من حيث ان الله تعالى تولى بيانها ولم يتعرض لها ولا يغني في الجواب المعارضة بطهارة الماء وستر العورة واستقبال القبلة لان ذلك لا يتعلق بمقصود فعل المتطهر ولا المتيمم فان ذلك مناقضة من ابي حنيفة فالجواب ان نقول الظاهر يدل على الاقتصار ولكن خصصناه بدليل آخر وعن هذا قال الشافعي رضي الله عنه الزيادة على النص تخصيص عموم ووجه الإجمال ان الله تعالى اراد به التعرض للافعال الظاهرة فلم يتعرض للنية

(1/395)


وقد يستدلون به في الشاهد واليمين من حيث ان الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ولم يتعرض له فنعارضهم رسول باعتبار العدالة والحرية والقضاء بالنكول فإنه من احد الحجج
ثم الشاهد الواحد يقوي جانب المدعي والحجة هي اليمين والتحقيق فيه ان الله تعالى في سياق هذه الاية حث الناس على ما فيه مصلحتهم والاصلح الاستظهار بالبينة الكاملة

(1/396)


الباب الرابع في حكم المنسوخ
قال قائلون النسخ المطلق إذا ورد على الحكم يتضمن اثبات نقيضه وهذا فاسد إذ الاحكام تتلقى من اوامر الشرع ولفظ النسخ بمجرده لا يدل على اثبات نقيض المنسوخ ولكن يدل على رفع ذلك الحكم فيقدر كأن ذلك الحكم لم يكن اصلا وتلتحق تلك الواقعة بالافعال قبل ورود الشرع مسألة (1) قال قائلون من لم يبلغهم خبر النسخ فالحكم في حقهم ثابت مستمر إذ لو ثبت في حقهم النسخ لكان ذلك تكليف ما لا يطاق فان الامكان يترتب على الفهم ولهذا قالوا لا يجوز لهم ترك المأمور الاول والوجه عندنا رفع الخلاف فإن النسخ لو استعقب حكما آخر فلا يكلفون ذلك قطعا وليس لهم ترك ما امروا به قطعا

(1/397)


ولو فاتهم الفعل قبل بلوغ الخبر فوجوب القضاء من مجوزات العقول فلا نقطع به وانما يتلقى من امر متجدد ان ورد موجب وألا فلا مسألة 2
راى أبو حنيفة رضي الله عنه استنباط ترك التبيت من الحديث الوارد في صوم عاشوراء قبل ان ينسخ وجوبه وقال اصحابنا الاسنتباط ولا من المنسوخ باطل فإنه فرع ثبوت الحكم والمختار انه ان قدح فيه معنى مخيل اعني في المنسوخ جاز التمسك به صححنا الاستدلال بالمرسل ا لم نصححه لأن فريضة الصوم في وضع الشرع لم تنسخ ولكن ابدل زمان بزمان ولكن لا يستقيم لأبي حنيفة رضي الله عنه استنباط معنى مخيل من فرضية عاشوراء في ترك التبييت فالتشبيه في هذا المحل لا يقبل والله اعلم

(1/398)