المنخول من تعليقات الأصول
كتاب القياس
وفيه عشرة أبواب
الباب الأول في حده واثباته
على منكريه
أما حده فقد قيل إنه رد الشئ إلى الشئ بجامع وهذا فاسد لان
الجامع مجهول والشئ لا يطلق على المعدم وقد يبغى القياس
نفيا وعدما
(1/421)
وقيل انه
اعتبار فرع بأصل بجامع وهذا فيه احتمال اصلا والاصح ما
قاله القاضي رحمه الله من انه حمل معلوم على معلوم في
اثبات حكم أو نفيه باثبات صفة أو حكم أو نفيهما عنهما وكذا
كل عبارة تنطبق على هذا المعنى وهذه ترجمة للتمييز وليس
حدا يقوم المحدود كما يرتضيه اهل التحقيق في الاجناس
والانواع والقياس ينقسم إلى عقلي وشرعي وانكرهما أبي
الحشوية واثبتهما الجماهير
(1/422)
والحنبلية ردوا
قياس العقل دون الشرع والداوودية ردوا قياس الشرع دون
العقل وصار إلى رد قياس الشرع جملة الروافض سوى الزيدية
وجملة الخوارج من الإباضية والازارقة وبعض النجدات ومعهم
النظام وأبو هاشم انكره إلا ما نص الشارع عليه من تشبيه
وتمثيل كقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم
(1/423)
ورد القاشاني
والنهرواني جملته إلا ما في معنى الأصل كالأمة في معنى
العبد في حكم السراية والهرة في معنى الفأر في معنى
التنجيس بالموت في الماء واليه صار بعض من لم يقل بالقياس
من اصحاب الظواهر ثم المنكرة انقسموا منهم من تلقى رده في
استقباح العقل ومنهم من قال في الشرع ما يدل على تحريمه
ومنهم من قال هو مردود لانه لا دليل على قبوله من عقل ونقل
والذين تلقوا من الاستحسان انقسموا منهم من قال الظن قبيح
في نفسه لانه ضد العلم والعلم حسن
(1/424)
وهذا يبطل
الموت والغفلة والجنون والوساوس فإنها اضداد العلم وهي من
فعل الله تعالى ويبطل بالنظر والشك فإنه مأمور به والقبيح
لا يؤمر به وهو ضد العلم ومنهم من قال لا يقبح الظن في
نفسه لكن يستقبح من الشارع القاء الشرع إلى مختبط الظنون
ومرتبك الجهالات والخيالات وجعل الأمر فوضى بين العقلاء
حتي يتيهوا فيه ويمتد تنازعهم على انقراض العصور كما تراها
فنقول لا بل هو المستحسن قطعا فان الأفعال بجملتها اقداما
واحجاما (يحسن كونه مستندا إلى رسم الشارع والوقائع لا
نهاية لها والالفاظ المحصورة لا تحويها وتركها سدى مهملا
ليفعل كل ما يشاء قبيح
فتعين تفويضه إلى اراء العقلاء وأرباب الدراية بمأخذ
الشريعة ومصالها ليحكموا بها ملتفتين على مجاريها يحققه ان
مثار القبح هو الاعتياد والعقلاء بأجمعهم مطبقون على
الالتجاء إلى الظن والراي عند الارتباك في واقعة فانهم
يقدمون عليها على ظن غالب ولا يستقبحونه هذا بعد النزول عن
قاعدة الاستقباح وهو مردود فإن كل ممكن يجوز ورود الشرع به
عندنا
(1/425)
فإن قيل لا شك
في ان ردهم إلى النصوص احسن قلنا هذا يحسن من قائله في ترك
النص على الخلافة وتعيين الخليفة فإن ذلك ترك الناس على
جهالة افضى الى فساد وتقاتل هائل وضبطه بالنص امر ممكن
فإنه امر معين أما الوقائع فلا ضبط لها فبيانها بالنصوص
امر محال تصويره والذين زعموا أن في الشرع ما يدل على رده
تمسكوا بقوله إن بعض الظن إثم وبقول أبي بكر الصديق رضي
الله عنه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا حكمت على القرآن
برأيي وقول ابن مسعود رضي الله عنه لو حكمنا بالرأي لحرمنا
كثيرا مما أحله الله وحللنا كثيرا مما حرمه الله وقول ابن
عباس رضي الله عنه إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في
المال الثلث والثلث والنصف في رد قياس العول قلنا قوله
تعالى إن بعض الظن إثم مقول به عندنا
فليوصف ما بعضه بخلافه
(1/426)
وقول أبي بكر
رضي الله عنه يتبع ولا نحكم في القرآن برأينا فإن للتفسير
مسلكا مضبوطا لا نتعداه وقد قال عليه السلام من فسر القرآن
برأيه فليتبوأ مقعده من النار وقول ابن مسعود رضي الله عنه
محمول على قياس يحرم محللا بالنص ومثل هذا الرأي متروك
وقول ابن عباس رضي الله عنهما دليل على قبول القياس فإنه
ما قال ذلك عن نص لكنه غلظ الأمر في تفضيل القياس وقد
كانوا يعتادون ذلك لاعتمادهم على قلة الرعونات ونحن لا
نغلظ لا الآن على المجتهدين لأنهم لا يحتملون ثم نعلم على
القطع منهم أنهم كانوا يشتورون ويقيسون قطعا ثم يعارضها
ظواهر أظهر منها كقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار
وقوله عليه السلام للسائل عن تقبيل الصائم أرأيت لو تمضمضت
وهو قياس
(1/427)
وقوله للخثعمية
حيث سألته عن أداء الحج عن أبيها الميت فقال أرأيت لو كان
على أبيك دين فقضيته وهذا عين القياس والفرقة الثالثة
قالوا رددنا ما كان العقل لا يدل عليه وليس فيه نص كتاب
ولا خبر متواتر يقطع به فلا يتحكم به قلنا يدل عليه ثلاث
مسالك أحدهما
ما نقل إلينا من الصحابة من اشتوارهم في الوقائع المتفرقة
ورجوعهم إلى المصالح والمقاييس وهذا منقول في صور متفرقة
تورث علم القطع كأخبار التواتر وقد أجمعوا عليه والإجماع
حجة مقطوع بها كما ذكرناه المسلك الثاني أن يجمل الأمر
فنقول نعلم أنهم أعني الصحابة رضي الله عنهم
(1/428)
من مفتتح أمرهم
من بيعة السقيفة إلى موت واثلة بن الأسقع وهو آخر من مات
من الصحابة كانوا يفتون في التحليل والتحريم والحقن
والإهدار والأمور الخطيرة والوقائع كثرت على متعرض أيامهم
ونقطع بأن النصوص لم تكن وافية بها فإنها كانت محصورة وهم
كانوا يهجمون على الفتوى هجوم من لا يرى له ضبطا وأخبار
الآحاد لا تبلغ ألفا ولا يظن بهم بناء الأمر على التمني
والتحكم فلا مستند لهم سوى المصالح والنظام لما أنكره حمله
على قصدهم جلب المال واكتساب الحشمة وهذا من قلة دين المرء
فإن قيل فقد قاسوا في صورة مخصوصة ولو اتفقت واقعة لم يعهد
مثلها فقستم فيها فمن أين تلقيتموه وهلا توقفتم على ما نقل
منهم قلنا فهمنا على الضرورة مما نقل عنهم تشوفهم إلى
القياس في وقائع لم تتفق لو وقعت وأنهم كانوا لا يمتنعون
عن الفتوى فيها بل كانوا يقيسون
(1/429)
فإنهم كانوا
على طول آمادهم لم ينقل واحد منهم أنه أبى عن الفتوى في
واقعة
وقال لا نص فيها المسلك الثالث روي عن النبي عليه السلام
أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن بماذا تحكم فقال بكتاب
الله قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال فإن لم تجد قال اجتهد رأيي فقال الحمد لله الذي
وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وقرره عليه وأثنى
عليه بسببه وهو نص مقطوع به فإن قيل كيف تثبتون قاعدة
قطعية بخبر واحد يتطرق إليه الاحتمال قلنا نعلم على
الضرورة أن الصحابة لو ارتكبوا في قبول القياس ورده ونقل
لهم الصديق على اتحاده هذا الحديث لقضوا بموجبه ونعلم أن
الصحف التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
ولاته على البلاد لو اشتملت على الحكم بالقياس لاكتفوا
فيها بقول الواحد فإن قيل كيف يتلقى القطع من الظن قلنا
وقوع الظن مقطوع به ووجوب العمل عنده مقطوع به
(1/430)
تلقيا من إجماع
قاطع وهو كوجوب الإتمام على المقيم إذا تحقق إقامته بخبر
الواحد فكذلك العمل بخبر الواحد عند وقوع الظن
(1/431)
الباب الثاني في مراتب القياس وضبط أقسامه
رتب علماء الأصول القياس على خمس مراتب
المرتبة الأولى المفهوم من الفحوى كتحريم ضرب التعنيف من
فهم النهي عن التأفيف والثانية تنصيص الشارع على قياس
والثالثة إلحاق الشئ بما في معناه كقولنا الأمة في معنى
العبد والرابعة قياس المعنى وهو ينقسم إلى الأجلى والأخفى
والخامسة قياس الشبه وهو مصدر بالطرد والعكس وقال الأستاذ
القياس ينقسم إلى مظنون وإلى معلوم
(1/432)
ثم المعلوم قد
يقرب دركه وقد يبعد مثاله لافتقاره إلى مزيد تأمل والمظنون
ينقسم إلى جلي وخفي إلى أن تتعارض الظنون فيرجح بمسالك
نذكرها في الترجيح قال القاضي الظنون متقاربة لا ترتيب
فيها ولم يقم لمسالك الظنون وزنا ومنه ثار الخلاف بينهما
في تصويب المجتهدين على ما سنذكره ولم يختلفوا في أن قياس
المعنى والشبه من أبواب القياس وما عداها من الأقسام
الثلاثة اختلفوا فيها أعني المفهوم من التأفيف ومنصوص
الشارع وإلحاق الأمة بالعبد وأما فحوى الخطاب وهو فهم
تحريم الضرب من آية التأفيف فقال قائلون إنه قياس لأنه ليس
بمنصوص وهو ملحق بالنص ولا معنى للقياس سواه
قال القاضي ليس بقياس لأنه مفهوم من فحوى فهم المنصوص من
غير حاجة إلى تأمل وطلب جامع والمختار أنه من المفهوم لا
لما ذكره القاضي إذ لا يبعد في العرف أن يقول الملك لخادمه
اقتل الملك الفلاني ولا تواجهه بكلمة سيئة فليس
(1/433)
فهم ذلك من
اللفظ من صورته ولكن لسياق الكلام وقرينة الحال فهم على
القطع إذ الغرض منه الاحترام فلا يعد قياسا والخلاف آيل
إلى عبارة وأما منصوب الشارع نصا في حق شخص معين هل يعد
قياسا قال قائلون لا يعد قياسا لأنه مفهوم من النص فهو
الحكم وتأيدوا بأمور أحدها أن خطاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعمم على جميع الأعصار ولا يعد ذلك قياسا ومنها
أن الشارع لو قال لشخص لا تأكل اللبن فإنه سم فهم على
القطع منه أن سبب تحريمه كونه قاتلا في حق جميع الناس من
نفس النص ومنها أن هذا القياس إن لم يفهم من النص فهو محال
وإن فهم فأي حاجة إلى القياس والمختار أن هذا قياس لا
تنقطع مواد النظر عنه وعلينا نظران فيه أحدهما بيان محله
(1/434)
والثاني بيان
أنه لا يتخصص وعلل الشارع يجوز تخصيصها ويتبين هذا بضرب
مثال وهو أن يقول الرجل لوكيله بع هذا الغلام
فإنه سيئ الأدب أو ذميم الوجه فوجد في غلمانه من هو فوقه
في ذلك المعنى لم يبعه وكذلك الشارع قد يطلق الرجم ويعلله
بالزنا ولا يتعرض للإحصان ثم نحن نستنبطه ويستند هذا إلى
أمر وهو أن القياس ليس موجبا لذاته ولكنه أمارة الحكم شرعا
وهذه أمارة نصبها الشارع وأما ما ذكروه من إلحاق أحد
العصرين بالآخر فينقلب عليهم فإنه لا يفهم أيضا من اللفظ
فما مستنده فسيقولون هو الإجماع فنقول الإجماع أغنانا عن
القياس فيه وأما ما ذكروه من أمر السم فذاك مفهوم من
القرينة لا من اللفظ إذ بأن على القطع شفقة الشارع على
جميع الخلق وأما إلحاق الشئ بما في معناه قال قائلون إنه
قياس
(1/435)
والمختار أنه
ليس بقياس ولا منصوص أيضا ولكنه مفهوم من النص على
الاضطرار من غير افتقار فيه إلى افتكار ثم قالوا فائدته إن
كان قياسا قدم على الخبر وإلا فلا وقال الأستاذ أبو اسحق
هو قياس ولكن لا يقدم على الخبر وهذا ما نعتقده في منع
التقديم والخلاف بعده يرجع إلى إطلاق عبارة ولا بد من ذكر
ضابط لهذا القسم وقد قال الأستاذ أبو اسحق هو منقسم إلى ما
يستند إلى ما منه اشتقاق النص كالأمة مع العبد إذا قال عبد
وعبدة إذ العبودية تشملهما
وما لا يستند إليه فهو دونه والضابط عندنا لهذا القسم ما
يهجم الفقيه على فهمه من غير تدبر ونظر فيقع معلوما على
الضرورة فلو صار نظريا خرج عن كونه معلوما والعجب أن
العلوم العقلية تنقسم إلى النظرية والضرورية وهذا لا
انقسام فيه نعم يدرك المرء تفاوتا بين علمه بنفسه وعلمه
بغيره فمثل هذا
(1/436)
التفاوت لا
ينكر وقوعه ههنا وهو في الرتبة دون فهم الفحوى كما ذكرناه
في تحريم التأفيف لأن ذلك يشترك في دركه العوام والخواص
وكون الأمة في معنى العبد لا يدركه إلا الفقيه المتثبت
وذلك لا يخرجه عن كونه معلوما كما أن التواتر المورث للعلم
يعتبر في كل فن في حق أهل الخبرة به في القراءة بالقراء
وفي الحديث بالمحدثين وبالله التوفيق
(1/437)
الباب الثالث فيما تثبت به علل الأصول
إذا حرر المعلل قياسا فرده إلى أصل فإذا طولب بإثبات علة
الأصل فمحصول ما يستند إليه عند المطالبة ثلاثة أقسام
القسم الأول أن يسلك مسلك الجدال فيقول السائل مطالب
بالاعتراض عليه وليس علي إثباته وهذا مما صار بعض الناس
إلى الاكتفاء به
وهو باطل فإن ادعى علة الأصل مذهبا كأهل الفتوى فلا يخلى
فيه والتحكم ويبطل ذلك بمسلكين أحدهما أن يقول إن كنت
طاردا فسنذكر وجه بطلان الطرد وإن لم تقنع بالطرد فلم
ادعيت كونه علة
(1/438)
والآخر أن يقول
تثبت تعليل الأصول بما ذكرته على التشهي أم لك فيه مستند
فإن اشتغلت بإثباته تشهيا فالكفر خير من هذا المقام وإن
زعمت أنه منصوب للشارع فبم عرفت ذلك ولم تحكمت به ابتداء
من غير مستند فإن أبان الإخالة دليلا عليه كفاه ذلك وعلى
السائل الاعتراض بعده وليس عليه أن يعد جميع الاعتراضات
ويدفعها فإن المناظرة معاونة على النظر وقد أسس كلاما عند
إبداء الإخالة وقبله لا يطالب السائل ببيان أنه ليس بمخيل
لأن المسئول بعد لم يدل ولم يؤسس حتى يستوجب الاعتراض فإن
قال المسئول دليلي على ثبوته عجزك عن الاعتراض عليه معتصما
بأن المعجزة صارت دليلا بالعجز عن المعارضة قلنا غمرات
المعجزات لا مطمع في الخوض فيها الآن فلا تثبت العلة
بأمثاله
(1/439)
ثم المعجزة إذا
لم تقم بين يدي السحرة أو أهل الخبرة لا تكون حجة فالتحدي
أن بالفصاحة ليكن مع الفصحاء وقلب العصا حية ليكن مع
السحرة فالسائل المقل إذ عجز كيف يدل ذلك على صحة الدليل
فإن قال الدليل عليه اطراده فهذا أوان ذكر مسألة الطرد
مسألة الطرد المحض لا حجة فيه عندنا وقال قائلون هو حجة
على الإطلاق يعتمد عليه المفتي وخصصه مخصصون بالمناظر على
المجادل دون المفتي
(1/440)
وقال قائلون
ممن ردوا الطرد يكتفى بإحالة أحد وصفي العلة والثاني يحتمل
وإن لم يخل الاحتراز عن النقض وهذا أيضا باطل فإن وصف
العلة ينبغي أن يكون مناط حكم الشرع والعبارة المجردة
حركات اللسان واصطلاح أهل اللغة فلا يكون مناطا للحكم فلا
يضمن وصف التعليل من غير مستند من إخالة أو غيرها فالآن
نرد على القائلين بالطرد بأربع مسالك بعد الإحاطة بأن
الطرد المحض هو الذي لا يناسبه الحكم أو يناسبه حسب
مناسبته لنقيضه المسلك الأول أن تقول إذا ناسب حسب مناسبته
لنقيضه فليس إثبات الحكم به أولى من نفيه فيؤدي ذلك إلى
تكافؤ الأدلة وتساقطها الثاني
أن الشارع لم يؤهل لمنصب الفتوى إلا متتجرا الله في العلم
موصوفا بصفات فلا مستند له إلا أن يكون من أهل النظر في
مصالح الشريعة ولو اكتفى بالطرد لعلق الحكم بكل ما يسنح
لكل أحد من غير افتقار إلى منصب مخصوص
(1/441)
الثالث ما ذكره
القاضي وهو أن المخيل لا يدل لعينه ولكن المستند فيه مسالك
الصحابة رضي الله عنهم فهم الأسوة والقدوة وقد كانوا
يعتبرون مصالح الشرع ولا يتمسكون بالطرديات الرابع وهو
المختار أن باب التحكم مسدود في الشرع وانما امر ببناء
الأمر على معلوم أو مظنون والعلم لا مطمع فيه في هذا
المقام وغلبة الظن لها في مطرد العادة مسلك لا يحصل دونه
فالظن لا يغلب من غير سبب كما لا يشبع الجائع في العادة
دون الاكل والاطراد لا يغلب على الظن قطعا نعم للشارع ان
يتحكم بنصب ما ليس بمخيل امارة كما يتحكم باثبات الحكم
ابتدء ومثال الطرد قول القائل في مسألة ازالة النجاسة
بالخل مائع لا تبنى
(1/442)
القناطر على
جنسه فلا تزال النجاسة به كالدهن فهذا طرد لا نقض عليه ولا
يستجيز التمسك به من آمن بالله واليوم الآخر القسم الثاني
ما يتمسك المعلل به في اثبات علة الاصول وهي ثلاثة انواع
اولها التمسك بنص الشارع على وصف فنجعله علة ومثاله قوله
تعالى كيلا يكون دولة بين الاغيناء منكم وقوله تعالى ذلك
بأنهم شاقوا الله ورسوله وما يضاهيه من الفاظ التعليل
النوع الثاني ايماؤه إليه من غير تنصيص كقوله عليه السلام
في بيع الرطب بالتمر فلا إذن لما أن سأل عن الجفاف
(1/443)
وكقوله تعالى
والسارق والسارقة فاقطعوا فإن السرقة مخيلة فإنها جريمة
يليق بها العقوبة الزاجرة وقوله تعالى جزاء بما كسبا ايماء
لانا نعلم انه لا يجازى لإسلامه وحسن عبادته وقوله نكالا
كذلك ايماء إليه وكذلك في قوله الزانية والزاني فاجلدوا
الآية وإذا حصل الايماء كفى ذلك عن الا خالة ولذلك قلنا
توقع الجفاف في الرطب سبب بطلان العقد وان كان لا يخيل فإن
قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش
لما سألته عن الاستحاضة توضئي فإنها دم عرق فهلا طردتموه
في الفصد واوجبتم قال به الطهارة لانه دم عرق
(1/444)
قلنا اجاب
أصحابنا بأن ذلك تنصيص على العلة ولم يذكر المحل
ونحن جعلنا احد السبيلين محلا للعلة لدليل آخر وهذا مزيف
فإن حق علة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تطرد إذ ثبتت
ولا تخصيص بغلبات الظنون إذ طردها اغلب على الظن وقد نص
عليه فيمنع من تخصيصه ولكن الجواب أنها سألته عن الغسل
فقال بل توضي عن فإنه دم عرق علل به في اسقاط الغسل وهو
المفهوم منه قطعا فإن قيل قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لبريرة لما ان اعتقت تحت عبد ملكت نفسك فاختاري وهذا
ايماء ظاهر إلى التعليل بالاستقلال فهلا طردتموه في
اعتقاقها من تحت حر قلنا اجمع اهل الحديث على رده فلا
نقبله ثم قال القاضي نعلم ان النبي عليه السلام ما عني
بقوله ملكت نفسك ملك مورد النكاح إذ لو حصل ذلك لانفسخ
العقد ولا ملك غير مورد
(1/445)
النكاح فإنه لا
يشعر بالتخيير في مودر في النكاح فإن معناه ملكت الاختيار
فاختاري وهو تكرير عبارة ومثل ذلك جار في اللسان وقال
قائلون هو تنصيص على العلة فيخصص بمحل وهو إذا كانت تحت
عبد والمختار ان الحديث ان صح فهو ظاهر في الايماء إلى
التعليل لا يمكن جحده وانكاره النوع الثالث ان يثبت علته
بكونه منبها على المعنى الذي منه اشتقاق اللفظ الذي ربط
الحكم به في الشرع كقوله تعالى والسارق والسارقة
وكقوله عليه السلام الثيب احق بنفسها وكقوله عليه السلام
لا تبيعوا الطعام بالطعام فنقول إذا ربط الشارع الحكم باسم
مشتق فما منه الاشتقاق ينتهض علة فيه واليه صار الشافعي
رضي الله عنه في مسألة علة الربا واول القاضي رحمه الله
مذهب الشافعي رضي الله عنه فقال لعله تمسك بالحديث في
اثبات حكم الربا لا في علته
(1/446)
وليس الأمر كما
ظنه القاضي فإنه أثبت علة الطعم به والمختار ان ما منه
الاشتقاق ان كان مخيلا كالسرقة والربا والسوم في قوله في
سائمة الغنم زكاة كانت علة وإن لم يكن مخيلا فهو كالتعليق
باللقب فنقول من أين قلتم إنه أومأ إلى العلة وما مستنده
وما الفرق بين الوصف الذي لا يخيل والطرد الذي لا يخيل
وربط الحكم بهما لا يختلف وتصرف الاسم في موضع اللسان لا
يوهم اخالة فهو كاللقب الموضوع نعم ان كان مخيلا ابتدر إلى
الافهام من قوله انه معلل به والفهم لا مقايسة فيه ولا
يحصل هذا من الوصف الذي لا يخيل ولا إيماء اذن حتى يبنى
عليه ان طرد الشارع كمخيله بن لانه لا بد من اثبات نص من
جهته اولا نعم لو قال قائل تبينا بقوله لا تبيعوا الطعام
بالطعام
(1/447)
ثبوت الحكم عند
ثبوته وانتفاءه عند انتفائه فيغلب على الظن كونه علة
فإنه انتهض أمارة له ولا معنى لعلل الفقه سواه قلنا هذه
تمسك بالمفهوم وقد بينا ان الصفة التي لا تخيل ليس لتخصيص
الحكم بها مفهوم وقد ذكرناه في كتاب المفهوم والله اعلم
القسم الثالث في اثبات علل الاصول بمسالك الفقه وهي أربعة
الشبه والاخالة هذه ولهما باب سيأتي والطرد والعكس والسبر
والتقسيم أما الطرد والعكس فلا يتمسك به في اثبات العلة
عند القاضي واستدل عليه بأربعة مسالك احدها ان الطرد
بمجرده لا حجة فيه والعكس لا يقلب الطرد مخيلا ولا حاصل
للعكس إلا انتفاء الحكم عند انتفاء العلة وانتفاء الحكم
مسألة اخرى
(1/448)
يطلب لها علة
فلا يثبت حكم هذه المسألة بعلة بسبب الحكم في مسألة اخرى
لعلة اخرى وصورته ان تقول الشدة في الخمر علة التحريم لأن
الحكم يتبعه فإنه يقضي بحل الخل عند زوالها وتحريم الخمر
مسألة وحل الخل مسألة اخرى لا بد من طلب علة لها يحققه ان
الطرد عكس العكس كما ان العكس عكس الطرد ولو فرض النزاع في
الخل لكان يقول العلة في تحليله عدم الشدة بدليل ثبوت
التحريم عند وجود الشدة وهذا محال تخيله
المسلك الثاني ان باب التحكم مسدود والمخيل ليس دليلا
لعينه والرجوع إلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم ولم يصح
عنهم التمسك بالطرد والعكس والثالث ان العكس وجوده كعدمه
في المخيل ولا أثر له فيستحيل ان نقلب الطرد الذي ليس بحجة
حجة
(1/449)
الرابع ان يقال
له ان ادعيت الطرد والعكس في جمع احكام الشريعة فمحال إذ
لو كان كذلك لما فرض نزاع وان قلت جرى في الخمر مطردا
منعكسا فليجر في غيره فهو تحكم لا حاصل له فلم قلت ذلك ولا
يلزم هذا في المخيل فإن طبع المخيل الجريان والسيلان وليست
الشدة مخيلة والمختار ان المسألة في مظنة الاجتهاد فإنا لا
نقطع بقبولها ولا ردها من جهة الصحابة رضي الله عنهم وعدم
القاطع في قبوله عندنا لا يكون قاطعا في رده كما ذكرناه من
قبل ولا يبعد افضاؤه إلى غلبة الظن في بعض الصور فهو مفوض
إلى رأي المجتهد فلينظر فيه والنوع الآخر مما يثبت علل
الاصول السبر والتقسيم وقال القاضي لا بد منه في العلل
الشرعية كما في العقلية
(1/450)
ولا يظن به انه
اراد به سوى ابطال علة الخصم فإن ذلك لا يدل على
اثبات علتك ولكن يحتمل انه اراد به ابطال سائر العلل بعد
ان كانت علته المستبقاة سنة مخيلة لتبين ان الحكم معلل به
فإنه لا يجوز ازدحام العلل على حكم واحد وإذا لم يتبين
بطلان الاقسام على هذا المذهب لم يستفد بالإخالة شيئا مع
توقع مخيل آخر أظهر منه يعلل به دون ما ذكره إلا ان الذي
نراه جواز تعليل الحكم بعلتين على ما سيأتي بيانه ويحتمل
انه اراد بالسبر والتقسيم في مسألة يتفق على كونها معللة
بعلة واحد كمسألة الربا فيستفيد بابطال الاقسام تعين محل
الإجماع إلا ان هذه صورة لا يفرض وقوعها لندورها ومسألة
الربا مما اجمعوا على تعليلها فإذن الوجه ان يقال السبر في
المعقولات ان دارت بين النفي والاثبات كقولك واجب ام لا
جائز ام لا وقد بطل أحدها فتعين الثاني لا محالة فيورث
العلم
(1/451)
فإن كثرت
الاقسام ولم تدر بين النفي والاثبات لم يحصل العلم
كالتقسيم المعتاد في مصحح تعلق الرؤية وتعليله بالوجود
فأما الشريعات عمرو فالتقسيم فيها يورث غلبة الظن بعد كون
الحكم معللا ولا يشترط ارتفاع مواد الاحتمال بعد حصول غلبة
الظن وقد اختلفوا في مسأله جدلية وهو ان المسؤول لو قال
سبرت هل يلزمه ابداء كيفية السبر منهم من قال لا لأنه لا
يستفيد درأ قوله يحتمل ان يكون وراءه تقسيم فإنه متوجه
ذكره أو لم يذكره وهو محتاج في رسم الجدال إلى ابداء قسم
آخر والمختار انه لا بد من ابداء كيفية السبر ليكون مؤسسا
دليلا غير
مقتصر على مجرد الحكاية والدعوى للتشوف إلى استيعاب
الاقسام كما تقول الخمر هو مائع احمر يقذف الزب ويسكر ولا
يعلل بهذه الاقسام لبطلانها لم يبق إلا الاسكار
(1/452)
الباب الرابع في الاستدلال المرسل وقياس المعنى
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في بيان حقيقته
وذكر الدليل فيه
فليعلم اولا ان هذا عمدة كتاب القياس وجه اعواصه قبل ان
الصحابة رضي الله عنهم هم قدوة الأمة في القياس وعلم قطعا
واعتمادهم على المصالح مع انهم لم ينحصروا عليها في بعض
المسائل ولم يسترسلوا ايضا استرسالا عاما إذ المصالح كانت
تنقسم لديهم إلى المتروك وإلى معمول به ولم يضبطوا لنا ما
نتمسك به ولا يظن بهم بهم أنهم ضنوا بإبدائها بعد ان
(1/453)
عرفوها
والمصالح شتى وقد عسرت المآخذ وقصرت عن الدلالة على ضبطها
فمنه ثار الثوار وردوا اصل القياس والقائلون به انقسموا
فاسترسل مالك رضي الله عنه على المصالح حتى رأى قتل ثلث
الأمة لإستصلاح ثلثيها
وقتل في التعزير وقطع اللسان في الهذر وللشافعي رضي الله
عنه مسلكان يحصر في أحدهما التمسك في الشبه أو المخيل الذي
يشهد له اصل معين ويرد كل استدلال مرسل وفي المسلك الثاني
يصحح الاستدلال المرسل ويقرب فيه من مالك وان خالفه في
مسائل فان قال قائل وبم يتميز المرسل عن المردود إلى الاصل
ولا يشترط
(1/454)
كون العلة في
الاصل منصوصا عليها ولا ان يشهد لها اصل اخر فإن ذلك
يتسلسل وسيكون الإعتماد فيه على المصلحة المرسلة قلنا نص
الشارع على الحكم امارة لانتصاب تلك المصلحة علما فأنا
نفهم تلك المصلحة من تنصيصه على مجرد الحكم ونحن نجعل
المصلحة تارة علما للحكم ونجعل الحكم اخرى علما لها واما
المرسل فهو الذي لا يشهد له في الشريعة حكم ينطبق عليه
والآن إذ لاح حقيقة الاستدلال ووجه الاشكال نذكر ما تمسك
به الثقات وأهل الإثبات والقاضي رحمه الله من نفاة
الاستدلال وقد تمسك بثلاث مسالك بعد ان فرق بين الشافعي
ومالك رضي الله عنهما وقال للشافعي إذا قلت بالاستدلال فلا
فرق بين ان تقول في المعاملات والاموال وبين ان تقضي به في
العقوبات كما فعله مالك وكل حقير فإثباته في الشرع تحكما
خطر عظيم وما أثبته بالنسبة إلى ما اجمله الشارع في
المعاملات كما أثبته مالك بالنسبة
إلى العقوبات التي اجملها الشارع
(1/455)
المسلك الاول
من المسالك الثلاثة ان الاستدلال لو قيل به لصارت الشريعة
فوضى بين العقلاء يتجاذبون بظنونهم اطرافها من غير التفات
إلى الشريعة والنبي انما بعث ليدعو الناس إلى اتباعه في
قوله والمفهوم من قوله من المصالح فأما ما يعين ابتداء ولم
يفهم منه فما بعث الشارع للدعاء إليه الثاني ان المستدل ان
لاحظ مصالح الشريعة فهو صحيح وإن اضرب عنها فهو شارع
تحقيقا فيطالب بالمعجزة فإنه افتتح امرا لا مستند له في
الشرع مع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خاتم
النبيين فكيف يفتتح بعده شرع الثالث ان قال إذا اوجب اتباع
المصالح لزم تغيير الاحكام عند تبدل الاشخاص وتغيير
الاوقات واختلاف البقاع عند تبدل المصالح وهذه تفضي إلى
تغيير الشرع بأسره وافتتاح شرع آخر لم يثبت من الشارع وهذا
محال
(1/456)
إلا انهم
يقولون نحن مع المصالح بشرط ان لا نهجم على نص الرسول صلى
الله عليه وسلم بالرفع
وتمسك الشافعي رضي الله عنه بثلاث مسالك احدها الاسترواح
إلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم وفي التعبير عنه ثلاث صيغ
احدها انهم استرسلوا على الفتوى وكانوا لا يرون الحصر
والنصوص ومعانيها لا تفي بجملة المسائل فلا بد من المصير
إلى المصالح في كل فتوى الثانية ان الاصول ان كانت محصورة
فلا تفيد إلا وقائع محصورة فإن المحصور لا يستوفي مالا
يتناهى وان لم تكن محصورة فقد انسل الأمر عن الضبط وصار
الأمر فوضى بين العقلاء لا مرد له فلا فرق بين خروجه عن
الضبط به أو بانتشار المصالح الثالثة انهم اعني الصحابة
رضي الله عنهم على طول زمانهم كانوا
(1/457)
يقيسون ولا
يعرفون رد الفروع إلى الاصول ولو كانوا يعتقدون ذلك
لاعتنوا يحيى به ثم كانوا يرسلون الاقيسة من غير تكلف جمع
واعتبار قال القاضي في الجواب لعلهم كانوا يعتمدون معاني
يعلمون أن اصول الشريعة تشهد لها وان كان لا يعينونها
كالفقيه يتمسك في مسألة المثقل بقاعدة الزجر فلا يحتاج إلى
تعيين اصل فأجيب عنه بأنه لو كان كذلك لاوشك ان يصنفوا
الاصول ويميزوا ما يعقل عما لا يعقل مع شدة اعتنائهم
بتمهيد قواعد الشرع والذي نراه ان هذا في مظنة الاحتمال
والاحتكام عليهم بعد تمادي الزمان لا معنى له المسلك
الثاني
ان معاذ بن جبل قال اجتهد رأيي حيث قال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم فإن عدمت النص فأثنى عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم واعدام النص يشعر بإعوازه الرحمن واعوازه
المفهوم عنه واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في
المصلحة ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه المسلك الثالث
ان الاصل المستشهد به ليس معللا بالمعنى المستثار قطعا
بالعقل
(1/458)
ولا بالنص
وانما هو مظنون لكونه مناسبا منطبقا على المصالح فليستند
إليه في الفرع ابتداء هذه نهاية ما تمسك به الفريقان
(1/459)
الفصل الثاني في بيان المختار عندنا
والصحيح ان الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم
فيه بنفي أو أثبات إذ الوقائع لا حصر لها وكذا المصالح وما
من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو
بالرد فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى
خلافا لما قاله القاضي كما سنذكره في باب الفتوى
فإن الدين قد كمل وقد استأثر الله برسوله وانقطع الوحي ولم
يكن ذلك إلا بعد كمال الدين قال الله تعالى اليوم أكملت
لكم دينكم
(1/460)
والذي يدل على
عدم تصوره أن أحكام الشرع تنقسم إلى مواقع التعبدات
والمتبع فيها النصوص وما في معناها وما لم ترشد النصوص
إليه فلا تعبد به وإلى ما ليس من التعبدات وهو منقسم إلى
ما يتعلق بالألفاظ كالإيمان والمعاملات والطلاق والعتاق
وقد أحالنا الشرع في موجباتها على قضايا الشرع في موجباتها
على قضايا العرف ولا تنفك لفظة عن قضايا العرف فيها بنفي
أو إثبات إلا ما استثناه الشارع كالإكتفاء وكان بالعثكال
الذي عليه مائة شمراخ إذا حلف أن يضرب مائة خشبة لما ورد
في قصة أيوب ولم ينسخ في شرعنا وإلى ما يتعلق بغير الألفاظ
وهو منقسم إلى ما ينضبط في نفسه كالنجاسات والمحظورات وطرق
تلقي الملك فهذه الأقسام منضبطة ومستنداتها روى معلومة
وإلى ما لا ينضبط إلا الضبط في مقابلته كالأشياء الطاهرة
والأفعال المباحة تنضبط بضبط النجاسة والحظر وكذلك الأملاك
منتشرة تنضبط بضبط طرق النقل والإيذاء محرم على الاسترسال
من غير ضبط
(1/461)
وينضبط بضبط ما
استثنى الشرع في مقابلته فالوقائع إن وقعت في جانب الضبط
الحق به وإن وقعت في الجانب الآخر الحق به وإن ترددت
بينهما
وتجاذبه ولم الطرفان الحق بأقربهما ولا بد وأن يلوح
الترجيح لا محالة فخرج به أن كل مصلحة تتخيل في كل واقعة
محتوشة بالأصول المتعارضة لا بد أن تشهد الأصول لردها أو
قبولها فأما تقدير جريانها مهملا غفلا لا يلاحظ أصلا محال
تخيله ونحن نضرب في ذلك مثالين أحدهما ما قاله الشافعي رضي
الله عنه في مسالة الأمة الكتابية حيث قال اعتروها بين
نقصان بعد ان ثبت لكل واحد اثر وأن ازدحام الاسباب مؤثرة
في تغليظ الاحكام لا يحتاج فيه إلى اصل معين فان أصول
الشرعية شاهدة له على الاجمال وان لم تتعين قطعا ولا حاجة
إلى القياس على المجوسية وهذ المثال ذكرناه لضرب المثال
وان كنا لا نعتمد هذه الطريقة في تلك المسألة المثال
الثاني قول الشافعي رضي الله عنه في المعتدة الرجعية ان
العدة لبراءة الرحم والوطء للشغل فهو مناقض للمقصود من
العدة فهذا معنى مرسل لا حاجة فيه إلى الاستشهاد بأصل معين
لان اصول الشرع على اجمالها أهل تشهد له
(1/462)
وقد قاس
اصحابنا على المعتدة البائنة قال القاضي وهو باطل فإن
الحكم في الاصل معلل بالبينونة لا بالعدة ويستحيل التعليل
بهما عنده فإنه يقدم اجلى العلتين على الاخفى كما سنذكره
في باب
التركيب ونحن نبطل هذا القياس مع اعتقاد جواز الجمع بين
العلتيين حديث بطريق اخر نذكره في باب التركيب والذي نذكره
الآن ان العدة في البائنة لا تخيل التحريم على الزوج فإنها
حرمت عليه بالبينونة والعدة أريدت لصيانة مائه والاعتزال
عن سائر الرجال ولهذا حرم نكاح غيره ولم يحرم نكاحه والعلة
في الاصل شرطها ان تكون مخيلة وليس كذلك في الفرع فإن
العلية بمجردها تخيل تحريم الوطء على الزوج فان الغرض منه
الاعتزال عنه مع استمرار النكاح وبراءة الرحم هو المقصود
والوطء مناقض له ويعتضد ذلك بأمرين أحدهما ان العدة لا
يعتد بها في صلب النكاح ولذلك لو قال ان استبرأت رحمك فأنت
طالق لزمها استئناف العدة بعد الطلاق وكان يليق بأبي حنفية
رحمه الله المصير إلى وجوب استئناف
(1/463)
العدة ههنا كما
قال في المرأة تسلم في دار الحرب فتتوقف ثلاثة أقراء فان
اصر الزوج على الكفر بانت واستئأنفت عند العدة والآخر ان
الرجعة ثابتة والغرض منه تدارك فائت وإذا قدر استمرار
النكاح على حالة فلا معنى للرجعة فان قيل لو حرمت العدة
الوطء لما استقل الزوج بقطعها قلنا لو قطعها بالوطء الشاغل
لكان متناقضا ولكنه يقطع بالرجعة ثم يستبيح الوطء بعد
انقطاعها
فإن قيل نعارضكم فنقول زوجة منكوحة فحل وطؤها وهذا أقوى
قلنا هذه معارضة لو ضمناها إلى وصف تعليلنا لم يضرنا فنقول
زوجة منكوحة معتدة وكأن العدة أبطلت الحل المستفاد من
الزوجية مع إستمراره فكل معارضة امكن المعلل ادرجها في وصف
التعليل فلا اثر لها فقد تبين أن كل مصلحة مرسلة فلا بد ان
تشهد اصول الشريعة لردها أو قبولها
(1/464)
الفصل الثالث في ذكر ضابط الاستدلال الصحيح
وننقحه لأنه بتوجيه الاشكالات والانفصال عنها فنقول كل
معنى مناسب للحكم مطرد في احكام الشرع لا يرده اصل مقطوع
به مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع فهو مقول به وان لم
يشهد له اصل معين ثم اقسامه لا ضبط لها فإنها لا يحويها عد
ولا يضبطها حد فقد يتفق معنى مرسل يفيد أمرا كليا على
اجمال وقد يفيد حكما جزئيا في صورة خاصة وقد يستثار أخبرنا
من عكس علة إذ العلل يفيد عكسها عندنا نفي الحكم كما يخيل
طردها على ما سيأتي وقد يفهم من قصد الشارع كقوله عليه
السلام لا نكاح إلا بولي وشهود يفهم العدالة لان مقصوده
الاثبات
(1/465)
إلى غير ذلك من
اقسامه فإن قيل ما الفرق بين مذهبكم ومذهب مالك رضي الله
عنه حيث انتهى الأمر به في اتباع المصالح إلى القتل في
التعزير والضرب لمجرد التهمة وقتل ثلث الأمة لاستصلاح
ثلثيها ومصادرة الاغنياء عند المصحلة وما الذي منعكم من
اتبعاها يا والحاجة قد تمس إلى التعزيز بالتهمة فان
(1/466)
الأموال محقونة
والسارق لا يقر واثباته بالبنية عسر ولا وجه لإظهارها إلا
بالضرب وهذه مصلحة ظاهرة إلى غير ذلك مما عداها قلنا الفرق
بيننا أننا تنبهنا لاصل عظيم لم يكترث مالك به وهو انا
قدمنا الصحابة على قضية المصلحة وكل مصلحة يعلم على القطع
وقوعها في زمن الصحابة رضي الله عنهم وامتناعهم عن القضاء
بموجبها فهي متروكة ونعلم على القطع ان الاعصار لا تنفك عن
السرقة وكان ذلك يكثر في زمن الصحابة ولم يعزروا بالتهمة
ولم يقطعوا قط لسانا في الهذر مع كثرة الهذزان لو ولا
صادروا يكون غنيا مع كثرة الاغنياء ومسيس الحاجات وكل ما
امتنعوا عنه نمتنع عنه ومالك لم يتنبه لهذا الاصل فإن قيل
روي ان عمر رضي الله عنه صادر خالدا وعمرو بن العاص على
نصف المال وقال لمن مد يده إلى لحيته ليأخذ القذى منها ابن
ما أنبت وإلا أبنت
(1/467)
يدك وقطع اليد
لا توجبونه في مثله ولا المصادرة وقد فعله قلنا نعلم أنه
لو لم يبن ما أبان لما قطع يده ولكن ذكره تهويلا وتخويفا
وتعظيما لأبهة الإمامة كيلا يباسط فتضعف حشمته في الصدرور
مع وأما مصادرة خالد فلا تدل على جواز المصادرة مطلقا لأن
عمر كان أعلم بأحوالهما وكان يتجسس بالنهار ويتعسس بالليل
وكان قد نصب خالدا أميرا في بعض البلاد فجمع عليه أموالا
عظيمة فلعل عمر اطلع على أمر خفي اقتضى ذلك وذلك مسلم
لمثله وهو الذي كان يقول لو تركت جرباء على ضفة واد لم تطل
بالهناء فأنا المجيب عنها يوم القيامة فلا ينبغي أن يتخذ
ذلك ذريعة إلى مصادرة الأغنياء على الإطلاق كيف وقد كثر
الأغنياء في زمن الصحابة رضي الله عنهم فلم يتفق ذلك مع
غيرهم قط والتمسك بهذا القطع أولى
(1/468)
فإن قيل حد
السرقة شرع للزجر وقد يسرق المرء ما دون الربع بحبة فيحتاج
إلى الزجر فهلا زجرتموه سعيد قلنا تقديرات الشرع متبعة لا
تغير ويسحب ذيل الحسم على تفاصيل الصور وهذا من أعظم
المصالح فإن تتبع تفاصيل الأحوال غير ممكن فاتبعنا التقدير
فيه ولم نقس فإن قيل ما بال علي قاس في حد الشرب وهو مقدر
فقال من
شرب سكر ومن سكر هذي ومن هذي افترى فأرى أن أقيم عليه حد
المفتري ورقى الحد إلى ثمانين للمصالح قلنا حد الشرب لم
يكن مقدرا من جهة الشارع ولكنه كان عليه السلام يأمر
بالضرب بالنعال وأطراف الأكمام وقدره أبو بكر رضي الله عنه
بالأربعين وكان ذلك في مظنة الاجتهاد وعن هذا قال علي رضي
الله عنه ما أقمت الحد على رجل فمات فوجدت في نفسي أن الحق
قبله إلا حد الشرب فإنه شئ أحدثناه بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم
(1/469)
فإن قيل أليس
قد روي أن عليا رضي الله عنه كان يشق بطون أصابع الصبيان
لأجل المصلحة وأنتم تركتم هذه المصلحة قلنا هذه المسألة في
مظنة الاجتهاد لأن الشق اليسير قريب من الضرب في التخويف
والصبيان يضربون على السرقة فنحن رأينا معنى أظهر منه
فلذلك تركناه فإن قيل لو حدثت واقعة لم يعهد مثلها في عصر
الأولين وسنحت بكر مصلحة لا يردها أصل ولكنها حديثة فهل
تتبعونها قلنا نعم ولذلك نقول لو فرضنا انقلاب أموال
العالمين بجملتها محرمة لكثرة المعاملات الفاسدة واشتباه
المغصوب بغيره وعسر الوصول إلى الحلال المحض وقد رفع فما
بالنا بقدر نبيح لكل محتاج أن يأخذ مقدار كفايته من كل مال
لأن تحريم التناول يفضي إلى القتل وتجويز الترفه تنعم في
محرم وتخصيصه بمقدار سد الرمق يكف الناس
عن معاملاتهم الدينية والدنيوية ويتداعى ذلك إلى فساد
الدنيا وخراب العالم وأهله فلا يتفرغون وهم على حالتهم
مشرفون على الموت إلى
(1/470)
صناعاتهم
وأشغالهم والشرع لا يرضى بمثله قطعا فيبيح لكل غني من ماله
مقدار كفايته من غير ترفه ولا اقتصار على سد الرمق ويباح
لكل مقتر في مال من فضل من هذا القدر مثله ويشهد لهذا
قاعدة وهي أن الشخص الواحد إذا اضطر إلى طعام غيره أو إلى
ميتة يباح له مقدار الاستقلال محافظة على الروح فالمحافظة
على الأرواح أولى وأحق وكذلك نقول في المستظهر بشوكته
المستولي على الناس المطاع فيما بينهم وقد شغر الزمان عن
مستجمع لشرائط الإمامة ينفذ أمره لأن ذلك يجر فسادا عظيما
لو لم نقل به
(1/471)
[...]
(1/472)
[...]
(1/473)
الباب الخامس في الاستصحاب
ليس من الاستصحاب المقول به استدامة الحكم مع تبدل الصورة
كما استصحب أبو حنيفة رضي الله عنه وجوب الحقتين في المائة
والعشرين فيه إذ زادت واحدة لأن الصورة قد تبدلت فلا بد من
دليل على النفي
وكذلك لو سئل عن النكاح بلا ولي مثلا فقال الأبضاع أصلها
على التحريم فهو مستصحب إلى أن يلوح دليل في الإباحة لأنه
مطالب بإقامة الدليل على فساد العقد المعقود بشرائطه وأن
الولي شرط فيه فالاستصحاب لا يغني وإنما الاستصحاب الصحيح
ما نذكره في منع وجوب الوتر والأضحية بعد سبر مدارك الوجوب
وإبطال كل قياس يذكرونه
(1/474)
فبعد ذلك نقول
الحال لم تتبدل ولا مأخذ للوجوب وبراءة الذمة يشهد لها
العقل والسمع فيستصحب هذا الأصل المستقر فلابد من دليل وقد
بطل مأخذ الوجوب وبالله التوفيق
(1/475)
الباب السادس في الاستحسان
قال الشافعي رضي الله عنه من استحسن فقد شرع
(1/476)
ولا بد أولا من
بيان حقيقة الاستحسان وقد قال قائلون من أصحاب أبي حنيفة
رضي الله عنه الاستحسان مذهب لا دليل عليه وهذا كفر ممن
قاله وممن يجوز التمسك به ولا حاجة فيه إلى دليل وقال
قائلون هو معنى خفي تضيق العبارة عنه وهذا أيضا هوس فإن
معاني الشارع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير
عنها فما لا عبارة عنه لا يعقل والصحيح في ضبط الاستحسان
ما ذكره الكرخي وقد قسمه أربعة أقسام منها اتباع الحديث
وترك القياس كما فعلوا في مسألة القهقهة ونبيذ التمر ومنها
اتباع قول الصحابي على خلاف القياس كما قاله في تقدير أجرة
(1/477)
رد العبد الآبق
بأربعين اتباعا لابن عباس رضي الله عنهما وتقدير ما يحط عن
قيمة العبد إذا ساوى دية الحر أو زاد بعشر اتباعا لابن
مسعود ومنها اتباع عادات الناس وما يطرد به عرفهم كمصيرهم
إلى أن المعطاة صحيحة لأن الاعصار لا تنفك عنه ويغلب على
الظن جريانه في عصر الرسول ومنها اتباع معنى خفي هو اخص
بالمقصود وامس له من المعنى الجلي فنقول أما اتباع الخبر
تقديما له على القياس فواجب عندنا أبو حنيفة لم يف به في
مسألة المصارة والعرايا وخيار المتبايعين ولم يستحسن اتباع
هذه الاحاديث مع اتفاق ائمة الحديث على صحتها وضعف حديث
القهقة واما قول الصحابي إذا خالف القياس فهو متبع عندنا
وخالفه أبو حنفية في مسألة تغليظ الدية مع ما نقل فيه عن
الصحابة وتقدير ابن عباس أجرة رد الأبق بأربعين يحتمل ان
يكون بحكم مصالحة أو مصلحة اقتضاها نزاع في تلك الحالة
(1/478)
وقول ابن مسعود
في قيمة العبد يلتفت على قياس الذمية ومراعاتها وتقدير
الحط ملاحظة لنصاب السرقة فإنه عظيم في الشرع يظهر التفاوت
فيه فلذلك لم نتبعه وأما دعواه بأن عمل الناس متبع في
المعاطاة لأن الأعصار فيه لا تتفاوت تحكم فإنا نعلم ان
العقود الفاسدة والربويات في عصرنا أكثر منه في إبتداء
الإسلام وصفوته وعوام الناس لا مبالاة بأجماعهم حتى يتمسك
بعملهم واما اتباع المعنى الخفي إذا كان اخص فهو متبع لان
الجلي الذي لا يمس المقصود باطل معه أو مقدم عليه ولكن أبا
حنيفة لم يف بموجبه حتى أتى بالعجائب والآيات وسماه
استحسانا فقال يجب الحد على من شهد عليه اربعة بالزنا في
اربع زوايا كل واحد منهم يشهد عليه في زاوية وقال لعله كان
يزحف في زنية واحدة في الزوايا واي استحسان في سفك دم مسلم
بمثل هذا الخيال مع انه لو خصص كل
(1/479)
شهادة بزمان
وتقاربت الازمنة واحتمل استدامة الزنا في مثلها لا حد وذلك
اغلب في العرف من تخيل سحبها في زوايا البيت بزنا واحد
فهذا ونحوه من الاستحسانات الباطلة وما استند إلى مأخذ مما
ذكرناه صحيح فهو مقول به والله اعلم بالصواب
(1/480)
الباب السابع في ذكر قياس الشبه وفيه فصلان
الفصل الأول في ذكر المذاهب
وبيان ماهيته
وقد صار الشافعي رضي الله عنه وابو حنيفية ومالك واشياعهم
في جملة الفقهاء إلا ابا اسحق المروزي إلى قبول قياس الشبه
وذهب القاضي في جمع من الاصولين إلى رده مع الاتفاق على
قبول ما في معنى الاصل كالحاق الأمة بالعبد
(1/481)
وزعم القاضي ان
الذرة في باب الربا في معنى البر المنصوص كالأمة في معنى
العبد وهذا فيه نظر فان الجنس مختلف ولهذا يجوز التفاضل
بين الذرة والبر وليس ذلك مما يبتدر إلى الفهم ابتدار
الأمة مع العبد والقائلون بالشبه في الاحكام اختلفوا في
التشابه الخلقي كالحاق الولد يالقيافة قد بالوالد والنظر
في الخلقة في جزاء الصيد وإلحاق المني بالبيض في تولد
الحيوان الطاهر منه في اثبات طهارته ومثال قياس الشبه تردد
العبد بين الحر والبهيمة فشبه البهيمة في كونه
مملوكا فلا يملك ويشبه الحر في كونه متصرفا نافذ العبادة
ومالكا للبضع بالنكاح إذ شرط هذا الفن ان لا يبالغ في
تقريره فليحلق بقياس المخيل عند المبالغة فيه وربما يضعف
مقرره فيضاهي الطرد فلا بد من الاقتصاد فيه
(1/482)
وعقد الباب
تمييز الشبه عن الطرد ولا خفاء بتميزه عن المخيل فإن الشبه
لا يناسب الحكم ويتميز عما في معنى الاصل فان ذلك يعلم
بالبديهة فنقول التشابه المعتبر هو الذي يوهم الإجتماع في
مخيل يناسب الحكم المطلوب وذلك المخيل مجهولا لا سبيل إلى
ابدائه فإذا قلنا العبد يتصرف وتنفذ عبارته كالحر يشعر ذلك
باجتماعهما في المخيل الذي هو مناط الملك فكأنه يفضي إلى
الحكم بواسطة والطرد هو الذي لا يشعر بالحكم لا بنفسه ولا
بواسطة والمخيل هو الذي يشعر بنفسه فيمس المقصود على وجه
المناسبة وان شئت قلت الشبه ما يغلب على الظن كونه في معنى
الاصل وهو مشابه لالحاق الشئ بما في معناه إلا ان ذلك
مقطوح وفي به وهذا غالب على الظن
(1/483)
ويظهر قبول
الطرد والعكس في اثبات العلة إذا قبل قياس الشبه فإنه يغلب
على الظن كونه مناط الحكم ولذلك ردد القاضي فيه كلامه مع
قطيعة برد الشبه والشبه جار فيما لا يعقل معناه على معنى
انه لا ينقدح فيه معنى مخيل فإن قيل ما ذكره الشافعي رضي
الله عنه من قياس تعيين لفظ التكبير على تعيين السجود
والركوع هل هو من فن التشبيه قلنا قال الشافعي رضي الله
عنه ليس ذلك من الشبه ولكنه ضرب مثلا ليبين ان المحل محل
الاتباع ولا جريان للقياس كما في السجود والركوع في ان
مذهب الشافعي رضي الله عنه في هذه المسالة قريب من القطع
وليس للشبه هذه القوة فإن قيل قول الشافعي رضي الله عنه
الشهيد إذا لم يغسل لم يصل عليه شبه ام لا قلنا قال القاضي
يكاد ان يكون شبها من حيث إن الصلاة مترتبة على الغسل فإذا
سقط الغسل اوشك سقوط الصلاة وابدي فيه ترددا فلم يقطع
بكونه شبها وهو شبه ضعيف في الجملة
(1/484)
الفصل الثاني في ذكر أدلة الفريقين
قال القاضي اقول للمتمسك بالشبه اعلمت انه مناط الحكم أو
ظننته
فان علمته فبالضرورة ام بالنظر لا وجه لإدعاء واحد منهما
وان ظننت فما مستند ظنك والظن في هذا المقام كالعلم وان
ابان مستندا لظنه بابداء الا خالة فذاك وان لم يبد اخالة
عجز عن اثبات مستنده فلا نزال نطالبه حتى نتبين تحكمه وعضد
هذا بأن المنقول عن الصحابة النظر إلى المصالح فأما الشبه
فلم ينقل عنهم
(1/485)
وقولك ان العبد
إذا نفذت عبارته ملك تحكم فإن نفوذ العبارة اشارة إلى
انتظامها وصحتها وهذا لا يناسب الملك وان قلت يوهم
الاجتماع في مخيل قلنا أبد ذلك المخيل وإلا فلا يتمسك
بالمجهول فإن قلت ملك البضع فملك الأعيان كان ذلك تحكما إذ
لا مناسبة بينهما على انه ينقدح في النكاح مصلحة واضحة وهي
محاذرة الإضرار بالعبيد في سد باب النكاح ولا ضرار فيما
دونه من الأملاك والمختار عندنا أن الشبه مقبول وهو ما غلب
على الظن كونه في معناه فنقول للقاضي قال الشافعي رضي الله
عنه طهارتان فكيف تفترقان وعني به الوضوء والتيمم في حكم
النية أيغلب على ظنك كون الوضوء في
معنى التيمم في حكم النية وكل واحد منهما طهارة عن حدث لا
يعقل معناه ويغلب عليه التعبد وقد عسر ذلك الفرق بينهما
فإن أنكر غلبة الظن فقد عاند
(1/486)
وإن اعترف به
فيطالب بمستنده وينعكس عليه الأمر ولا خفاء بظهور الظن
ويعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لو عدموا قياس المعنى
لتمسكوا بمثل هذه الظنون قطعا فإن جملة المسائل لا ينقدح
فيها معنى مخيل والصحابة استرسلوا على الفتاوى فيعلم أنهم
اعتمدوا الشبه الشبه نعم يشترط أن لا ينقدح في الأصل معنى
مخيل فلو اتجه بطل التشبيه إذ الحكم منوط به ولم يجر ذلك
في الفرع فلا يوهم الإجتماع في مخيل موهوم وقد رأينا
المخيل المعلوم فيه لم يطرد كما ذكره القاضي في قياس ملك
العين على ملك النكاح ثم المعلل المتمسك بالشبه لو قال هذا
يشبه ذاك ولم يبين وجه التشبيه قال قائلون يكتفي به وعلى
السائل قطع التشبيه
(1/487)
والمختار أنه
لا بد من الإيماء إلى جهة المشابهة وبيان أن الفرق عسر
فلعسر الفرق وتحقق المشابهة غلب على الظن الحكم حتى يكون
مناسبا كما إذا ألحق الذرة بالبر فيقربه منه في مقصود
الطعم وغيره مما يتشابهان
فيه
(1/488)
الباب الثامن فيما لا يعلل من الأحكام
لا يطمع في تعليل كل حكم في الشرع ولكنها منقسمة والضابط
أن كل ما انقدح فيه معنى مخيل مناسب مطرد لا يصدمه أصل من
أصول الشرع فهو معلل وما لم يتجه ذلك فيه كالعبادات
والمقدرات فيجري فيه قياس ما في معنى الأصل وقياس الشبه إن
أمكن تشبيه يورث غلبة الظن وقال أبو حنيفة رحمه الله لا
يجري القياس في الحدود والكفارات والمقدرات والرحض ثم أفحش
القياس في درء الحدود في السرقة والقصاص حتى أبطل قاعدة
الشرع وفي إثباتها حتى أوجب في شهود الزوايا
(1/489)
وأوجب قطع
السرقة بشهادة شاهدين شهدا أحدهما على أنه سرق بقرة بيضاء
وشهد الآخر على بقرة سوداء لإحتمال أن البقرة كانت ملمعة
وقاسوا غير الجماع على الجماع في الصوم في إيجاب الكفارة
والخطأ في قتل الصيد على العمد في إيجاب الجزاء مع اختصاص
النص بالعمد وقدر نزح ماء البئر عند نجاسته بثلاثين دلوا
قياسا ولا ينفعهم قولهم إنا قلدنا الأوزاعي فإنهم أبوا عن
تقليد الصحابة في مسائل فكيف قلدوه وقدروا العفو عن
النجاسة بربع الثوب والمسح على الرأس بربعه
(1/490)
وقاسوا في
الرخص في سائر النجاسات على مقدار ما عفي عنه على محل
النجو رخصة فقد خبطوا هذه الأصول مسألة إذا وردت قاعدة
خارجة عن قياس القواعد كالكتابة والإجارة قال قائلون لا
يجري القياس لا في أصلها ولا في فرعها وقال آخرون يجري في
فروعها ولا يقاس عليه أصل آخر والمختار أن إطلاق الأمرين
سقيم فإن القواعد وإن تباينت في خواصها فقد تتلاقى في أمور
جميلة كملاحظة كل النكاح والبيع والإجارة في كونه معاوضة
وإن باينها في مقصوده فيمتنع الاعتبار في المقصود الذي فيه
التباين لا فيما فيه التلاحظ والتناسب ومثاله من الكتابة
أن أبا حنيفة رحمه الله يقيس الشراء الفاسد على الكتابة
الفاسدة ولو استقام له استنباط معنى يجعل الفاسد في مقصود
الكتابة
(1/491)
كصحيحه فيبني
عليه أن فاسد البيع بالنسبة إلى صحيحه في مقصوده الخاص
كفاسد الكتابة فيستقيم هذا القياس إلا أنه لم يتمكن منه
فرد عليه قياسه لتحكمه في قياس فاسد البيع على فاسد
الكتابة مع تباين مقصوديهما فلا وأما فروع الكتابة يجري
فيها القياس ولولاها لما اتسعت فروعها
فصل
قال القاضي من الأحكام ما يعلل جملة بعلة لا تطرد في
التفاصيل وذكر ثلاثة أمثلة أحدها أنه قال لا يستقيم قول
أبي حنيفة إن رفع الحدث لا يعقل معناه فلا يقاس عليه إزالة
النجاسة لأن الغرض منه معقول وهو الوضاءة فلهذا اختص
بالأعضاء البادية غالبا واكتفى في الناصية بالمسح لأن
الغالب عليه الستر ويشهد لهذا إيماء الشارع من قوله ولكن
يريد ليطهركم
(1/492)
ويدل عليه أن
الإنسان في حالاته في ترددات لا تخلوا من غبرات تلحقه
والشرع يستحب مكارم الأخلاق والتنقي عن الدنس والدرن من
أحبها نعم اختص بحالة خروج الحدث فوقت وجوبه غير معقول
كاختصاص وجوب إزالة النجاسة بوقت الصلاة لا يعقل معناه
ولكن أصله معقول والمثال الثاني أن الشرع قدر الحدث مانعا
من الصلاة وهو غير معقول ولكن بعد اعتقاده يعقل كون الوضوء
رافعا له وإذا ارتفع فلا مانع من الصلاة إلى أن يعود ولم
يفهم ذلك في التيمم فإنه لا يرفعه وإنما هو استباحة مع حدث
فيجب أن يتيمم لكل صلاة إذ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت
وقياسه يقتضي أن لا يتنفل به لعدم الضرورة فلعل ذلك من
وقفات معاني الشرع
(1/493)
أو يقال
النوافل جبران الفرائض وقد خففه الشرع حتى جوز القعود فيه
للقادر على القيام حثا عليه فلا يليق به تغليظ أمره فإن
ذلك إضرار بالمسافر المثال الثالث أن الحد شرع للزجر وعقل
على قياسه أصل تفرقة الشارع بين ما دون النصاب وبين النصاب
لأن النفوس لا تتحمل الأضرار لأجل مال نزر ولكن لا يطرد في
التفاصيل لأنه قد يتشوق الشخص إلى ربع دينار دون حبة ولكن
لا نظر إليه وذلك لا يخرم أصل المعنى المعقول والربع وإن
كان قليلا في الهمم العالية فالغالب أنه لا يهجم على
السرقة إلا الأرذال من الناس وخساسهم منه فيكثر ذلك عندهم
ووجة الإشكال أنا نرى الروح تسفك في مقابلة الصيال على حبة
ولكن ذلك مما لا رادع منه في الطبع بحيث يعظم وقعه فما دام
المرء مواظبا
(1/494)
على هتك الحرمة
كان مدفوعا عن هتكه لا كوزن المال وههنا يجب بسرقة المال
عند اقتحام الغرر وقال القاضي فكان يليق به الفرق بين قليل
الخمر وكثيرة لنفرة الطبع عن قليله فلعل هذا من وقفات علة
الشرع
والعلل الكلية قد يفرض وقوفها بأصل مقطوع به وإن كان لا
يرد بغلبات الظنون ولعل المعنى فيه أن قليل الخمر يدعو إلى
كثيره والقدر المسكر لا ينضبط مع تفاوت الطباع فحسم الباب
حسما قال القاضي وإن عقلنا الفرق بين القليل والكثير فلا
يقاس به في هذا التقدير غيره ردا على مالك حيث قال بغلظ
اليمين في عظيم من المال وقدره بنصاب السرقة لأنه ينقدح
معنى مخيل في التقدير به ومسلك يشبه الإيمان بالسرقة غير
منقدح
(1/495)
الباب التاسع في التركيب والتعدية
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول بيان الجمع بين
علتين متظاهرتين على حكم واحد
وقد منه القاضي تمسكا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل
عنهم ذلك واعتصاما بإجماع القياسيين على إتحاد علة الربا
مع إمكان الجمع وقال إذا صادفنا علة منصوصا عليها من جهة
الشارع فيغلب على الظن أنه المناط على الخصوص وإن تعلق
بغيره معه لذكره الشارع وقد تولى بيانه وكذا لو أجمعت
الأمة على التعليل به واقتصروا عليه إذ يبعد أن يذهل
أهل الإجماع عن علة صحيحة مع شدة بحثهم
(1/496)
وإن هجمنا عليه
واستنبطناه فما هو أجلى تقدم على الآخر لا محالة والمختار
أن العلل قد تزدحم على حكم واحد ويعلم أن الصحابة رضي الله
عنهم في اشتوارهم كانت تتشعب أراؤهم إلى مصالح متظاهرة ولا
يشتغلون بالترجيح ومسألة الربا ليست معللة عندنا ولا هي
مجمع عليها ولكن كل اعتقد أن علة خصمه باطلة لا تستقل
ولذلك لم يجمعوا ومسالك الترجيح فيها باطلة عندنا وما ذكره
من نص الشارع أو الإجماع لا ينكر أن ذلك ينتج خيالا ولكن
لا بعد في وكول الشارع الباقي إلى استنباط الأئمة واستغنى
أهل الإجماع بإحدى العلتين عن الأخرى
(1/497)
وقوله إذا لاح
أحدهما ينبغي أن يقدم قلنا لا نرى بعدا في اعتقاد ثبوت
المسألة بحديث وقياس وإن تفاوتت مراتبهما وإذا تعارضت
المصالح من غير ترجيح فلا وجه للقضاء بتساقطها: وإلحاق
الحكم بالفذ غير الذي لا يعلل وليس بعضها أولى من بعض ولا
بعد في أن يحكم الشارع بحكم واحد لأجل مصلحتين ولا يلزم
على هذا أن يصحح قول القائل مس فصار كما لو مس وبال أو
معتدة فصارت كالمعتدة البائنة أو أنثى فصارت كالأنثى
الصغيرة فهذا باطل قطعا لأن المعلل يحتاج إلى أن يصرح بضم
علة أخرى
إلى علته لو ألغاها لكان قياسا على نفس المسألة فلتكن
العلة الجامعة بحيث لو وقع الذهول عن الثانية لصح الجمع
قال القاضي وقول الشافعي رضي الله عنه في جزاء الأسد حيوان
لا يجزى بقيمة ولا مثل فلا يجزى كالفواسق الخمس باطل لأن
معناه أن ما لا يجزى لا يجزى وهذا استدلال بنفس الحكم وهو
مطالب بنصب الدليل على نفي الضمان على الوجه الذي ذكروه
وليس فيه ما يدل عليه
(1/498)
الفصل الثاني في بيان مراتب التركيب
وهو منقسم إلى التركيب في الأصل وإلى التركيب في الوصف
فأما التركيب في الأصل فمن أبعد أبوابه قول أصحابنا أنثى
فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة سنة وهو باطل إذ للسائل أن
يقول إن كانت هي في علم الله كبيرة فقد قست على نفس
المسألة وإن كانت صغيرة صرت كمن قال مس فصار كما لو مس
وبال وأقرب منه قليلا قولهم في البكر البالغ لم تمارس
الرجال فتجبر كبنت خمس عشرة سنة فإن جهة الفساد تتحد فيه
(1/499)
إذ لو قدرت
صغيرة فالصغر ليس مستقلا عند الشافعي رضي الله عنه بإفادة
الإجبار، بدليل الثيب الصغيرة فإنها لا تجبر والتركيب في
الوصف أبعده كقولنا في قتل المسلم بالذمي لو قتل بالمثقل
لم يقتل فكذا بالسيف ووجه بعده أن النظر في الآلة لا يدل
على معنى المكافأة وهو المقصود في المسألة وأقربه قولنا في
اندراج الثمار غير المؤبرة تحت مطلق العقد ما يندرج تحت
استحقاق الشفيع يندرج تحت مطلق العقد ووجه قربه أنه يشير
إلى الجزئية المؤثرة في الاندراج إلا أنهم يقولون تخلينا
الضرار سببا لإثبات الشفعة في الثمار لئلا تنفى الداخلة
لذلك طردنا في المؤبرة فإن صح علة الضرار بطل التعليل وإن
بطل الضرار لم نقض باندراجه تحت الشفعة
(1/500)
الفصل الثالث في ذكر ضابط الأدلة فيه
قال الأستاذ أبو اسحق في جماعة إن التركيب صحيح وغلا حتى
قدمه على غير المركب لأنه أبعد عن الاعتراضات ومنهم من رجح
غيره ومنهم من سوى
قال القاضي أبو بكر التركيب باطل واستدل الأستاذ بأن الغرض
في المناظرة التضييق على الخصم وتنقيح الخاطر في المشكلات
والتركيب أقوى في تحصيل الغرض نعم لا يعول عليه في
الاجتهاد كمناقضة الخصم يتمسك بها في المناظرة دون الفتوى
ولا خلل في التركيب إلا كون علة الأصل مختلفا فيها فهو
مطالب بإثباته وإن عجز فهو باطل لا لأجل التركيب
(1/501)
والمختار أن
التركيب باطل لأنه فن من القياس لم ينقل عن الصحابة رضي
الله عنهم ولا كانوا يفهمونه وأحدث منذ خمسين سنة ولو كان
قياسا صحيحا لتنبه له الأولون وهو في رسم الجدال خروج عن
مقصود المسألة فإن سن البلوغ وسببه لا يثير نظرا في سلب
عبارة المرأة وليس من فروع هذه المسألة ونتيجته فهو تمسك
بأمر ظاهر لا في محل السؤال والمناقضة قد لا يرى التمسك
بها فيما قاله القاضي أبو بكر وإن رأيناها فهي مورطة للخصم
في فقه المسألة والتركيب مخرج لهما عنها وما ذكره من أن
علة الأصل أبدا هو مختلف فيها وهو متمكن من إثباته فلم
نرده لكون العلة مختلفا فيها ولكنه خروج عن المسألة ولو
تمكن من إثبات علة الأصل باخاله أحمد فقد استغنى عن الأصل
وصار مستدلا وبطل تركيبه وقوله إن الغرض تنقيح الخاطر قلنا
نعم في المسألة لا في هوسات لا تعلق لها بالمسألة
(1/502)
الفصل الرابع في التعدية
والقائلون بالتركيب اعتقدوا التعدية سؤالا صحيحا على
المركب وصورته أن يقول السائل عن قول الشافعي رضي الله عنه
أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس عشرة سنة إني استنبطت من
الأصل الصغر فعديته بعد إلى منع سائر التصرفات فيعارض ما
استنبطه من الأنوثة ويستوي فيه الأقدام وكذلك إذا قال أنثى
لم تمارس الرجال فتجبر كبنت خمس عشرة سنة في مسألة إجبار
البكر فيقول أنا استنبطت الصغر وطردته في الثيب الصغيرة
وزعموا أن هذه التعدية أقوى لأن الصغر عند الشافعي قط لا
يكون علة الإجبار بدليل الثيب الصغيرة فلا يمكنه القول به
والمختار أن سؤال التعدية باطل بعد قبول المركب لأن المعلل
يقول إن لم تسلم لي كون الأنوثة علة فأثبته وعليك إبطاله
وإن سلمت فلا نعيد كاستنباط المجبرة
(1/503)
أو يسلم
المسئول له وجود الصغر جدلا في مسألة نكاح بلا ولي وكونه
علة ويقول ليجمع بين العلتين ويسلم وجوده في مسألة إجبار
البكر وإن لم يعلل به فلا يغنيه التعليل به وأما المركب
الوصف زعموا أن التعدية علة في القبول والرد مبني على قبول
الفرق بين الوصف والحكم ورده كفرق السائل بين الطلاق
والظهار
إذا قال المعلل من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم والمختار أن
التعدية لا ترد على تركيب الوصف إذ من ضرورته أن يقع
التركيب من حكم فيقول من لا يقتل إذا قتل بالمثقل فكذا
بالسيف فلا يمكنه إبراز معنى من القتل بالمثقل في معارضته
والمسئول لم يتعرض للمعنى ولا يمكنه المعارضة بحكم آخر نعم
لو قال ذلك لخلل في الآلة فهذا بيان منه لخروج المسئول عن
مقصود المسألة وهو واقع وليس ذلك من التعدية في شئ والله
أعلم
(1/504)
الباب العاشر في الاعتراضات
وهي تنقسم إلى صحيح وفاسد الصحيح منه ثمانية أنواع النوع
الأول في المنع وذلك إذا توجه على وصف التعليل لزم المعلل
إثباتها ويتوجه على الأصل من أربعة أوجه أن يمنع كونه
معللا أو يمنع كون ما ذكره علة بعد ما سلم أصل التعليل أو
يمنع وجود ما نصبه علة أو يمنع الحكم ويكفي للمعلل بيان
معنى مخيل للحكم في الأصل فيندفع به جميعها
ويثبت كونه معللا بهذه العلة وعليه يترتب الحكم إذا ثبت
إخالته وله النقل إلى الأصل إذا منع أو افتتاح الكلام فيه
ابتداء إذا توقع المنع
(1/505)
وليس له نصب
الدليل على نقض يورده إذا منع والفرق أن ذلك خروج من
المسألة إذ قد يورد مسألة من النكاح نقضا على مسألة في
الكتابة وإما إثبات الأصل إذا منع انتهاض الإثبات في الفرع
تحقيقا وليس للسائل أن يدل على المنع بخلاف المسئول للأمر
الجدلي وهو أن المسئول لم يتطوق أن يعترض عليه فإن دل فلا
يصغى إليه لأنه لم يسأله وقال الأستاذ المنع ليس باعتراض
لأن إثباته ممكن للمسئول وقال القاضي هو اعتراض ولولا رسم
الجدال لحكم بانقطاعه فإنه إذا قاس على أصل ممنوع فكأنه ما
دل بعد في المسألة ولكن الرجوع إلى الرسم ولولاه لساغ
للسائل ابتداء إبطال فتوى المستدل ولكن لا بد من اتباع
الرسم لينضبط الكلام ويتميز السائل عن المسئول النوع
الثاني القول بالموجب من الاعتراضات التي ينقطع المسئول
فيها ويبطل به مقصوده وقد قيل لا يسمى اعتراضا لأنه مطابقة
للعلة والخلاف عائد إلى عبارة
(1/506)
ولا يتأتى
القول بالموجب مع التصريح بالحكم الذي فيه النزاع فإن فيه
رفعا للخلاف وإنما يتوجه إذا أجمل الحكم وقال كان كذا فجاز
أن يكون
كذا فيقول بموجبه في بعض الصور أو يتعرض لنفي علة الخصم
فنقول ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع جواز التوضئ
كما لو خالطه التراب فيقول أقول بموجبه إذ المخالطة لا
تمنع فينقطع المسئول فلو قال مع التغير فكذا نقول بالموجب
فلو قال منع مع التغير والاستغناء ينبغي أن لا يمنع لا
يقال بموجبه ولكن لا نجد أصلا نقيس عليه وهذا من ألزم
أنواعه والذي دونه مما يخلص عنه بتغيير عبارة كقولنا
الجنون في أحد الواطئين لا يدرأ الحد كالجنون فيها فيقول
الجنون لا يدرؤه إذ الدافع خروجها عن كونها ممكنة من الزنا
فلو قال ينبغي أن لا يكون صبيا
(1/507)
قال قائلون
يكفي أن يعدل إلى لفظ السبب فيقول لا يكون الجنون سببا فيه
فإن ما ذكره أيضا مثارة الجنون وزعم آخرون أن السبب بمعنى
العلة فلا غنية فيه والخلاف فيه قريب المدرك وإنما يظهر
العدول إلى لفظ السبب إذا تمكن المسئول من بيان انحصار
الحكم في هذا السبب على الخصوص حتى لو قدر اقتصار أبي
حنيفة في ذلك على الجنون دون تنزل الصبي والخرس منزلته
لكان لفظ السبب أقوى في درء هذا السؤال فهذه مراتب ثلاثة
في القول بالموجب
النوع الثالث النقض ومعناه إبداء العلة مع تخلف الحكم ولا
يورد على العلة المجملة فإنها باطلة لإجمالها لا يعترض
عليها بل يستفسر عنها ومعنى الاستفسار طلب كشف عما استبهم
على السائل لقصور فهمه
(1/508)
وقد انقسم
الناس في النقض على ثلاثة مذاهب فقال قائلون ليس ذلك
باعتراض فإن العلل قابلة للتخصيص بمحل اطراده ومنع آخرون
التخصيص إطلاقا وسوغ آخرون تخصيص علة نصبها الشارع دون ما
نستنبطه وتمسك المانعون من التخصيص بثلاثة أمور أحدها أن
قالوا الأدلة العقلية تطرد فكذا الشرعية وهذا فاسد فإنها
توجب مدلولاتها لذواتها وأعيانها وهذه أمارة لا يعد في
تخصيصها قصور لا مانع من طردها ثانيها أن ذلك إلى تكافؤ
الأدلة فيقول أحد الخصمين مائع فتزال به النجاسة كالماء
ويقول الآخر مائع فلا تزال به النجاسة كالخمر واللبن وكل
لا يقبل النقض تخصيصا لعلته وهذا عندنا فاسد لكونهما طردين
ولا يقع التعارض قط في مخيلين على هذا الوجه وإن اتفق
فالترجيح ممكن ولا يؤدي إلى التكافؤ أصلا
(1/509)
ثالثها قال
الأستاذ يقال للمعلل إن زعمت أنك أتيت بعلة عامة فقد كذبت
وإن أتيت بعلة خاصة فلا حاجة إلى التخصيص وهذا تلفيق عبارة
لا خير فيه إذ له أن يقول كنت أظن عمومه والآن إذ منع مانع
فالتزم طرده حيث لا مانع والمخصصة تمسكوا أيضا بثلاثة أمور
أحدها أنه لو خصص العلة بالاتفاق بالزمان جاز فكذا
بالمسائل فإن من قال مشتد مسكر تنتقض علته بالخمر في
ابتداء الإسلام ثم يخصصه هذا الزمان وهذا فاسد فإن استيعاب
الأزمنة لا يشترط في العلل الشرعية وهي لا تدل لذاتها
وإنما تدل لظننا أنها منصوبة ولم ينصبها الشارع في ابتداء
الإسلام فإذا نصبها اقتضى وضعه العموم ثانيها أن عموم رسول
الله صلى الله عليه وسلم يخصص فكذا عموم علة المعلل وهذا
فاسد
(1/510)
فإن العام
عندنا لا يخصص بل نتبين خصوصه في وضعه وإنما لم نفهمه حتى
نتبينه لقرينة كيف وقد قيل إن الباقي من عموم الشارع يبقى
مجملا
وقال القاضي يبقى مجازا وهذا لا يحتمل من المعلل ثالثها ما
قال القاضي من أن المعلل وإن لم يصرح بتخصيص علة فيفهم من
قرينة قوله أنه لا ينبغي طرد العلة إلا إذا اطرد ولم يمنع
منه مانع كالذي يقول المتردي من سطح مسقطه الأرض يفهم منه
عند الإطلاق إذا لم يختطفه مختطف والمختار أن مسألة النقض
إن انقدح فيه فرق مخيل فهو مبطل فإنه مشعر باقتصار المعلل
على نصف العلة وحقه أن يأتي بتمامها إذا طولب بإبداء العلة
ولو كان مستثنى عن القياس وكان من مناقضات الخصم فالعلة
تبطل أيضا إذ حقه أن يطرد ولا مانع وإن كان مستثنى بنص أو
إجماع فالذي رآه القاضي أن هذا مجتهد فيه إذ يمكن أن يقال
غلبة الظن متبع إلا إذا منع نص يقدم عليه
(1/511)
ويمكن أن يقال
طبع العلة العموم فإذا لم يعم دل ذلك على بطلانه وهذا الفن
من القياس عنده باطل لا لانتقاضه ولكنه يقول ما لا قاطع في
قبوله فهو محكوم ببطلانه قطعا وعندنا أن هذا القياس باطل
في جوهره وإن كنا لا نرى جعل عدم القاطع على القبول قاطعا
في البطلان ولكن هذه العلة إنما ينصبها المعلل ظانا أنها
منصوب الشارع مقتصرا على غلبة الظن فيها وإذا رأينا الشرع
ينفي الحكم مع وجودها كيف يغلب على ظننا كونها
علة وكيف يظن برسول الله أن يأتي بالمتناقض المتدابر يقول
في نفسه وإذا بطل غلبة الظن فلا مستند
(1/512)
فإن زعم
المجتهد أن ظني وراءه باقي في هذه المسألة فيقال له إن
تدبرت استثنيت انتفاء الظن عند الانتقاض والفاصلون الذي
بين علتنا وعلة الشارع يفرقون بأن له أن يحتكم وليس لنا
ذلك فلا بد في تطرق التخصيص إلى علته والمختار أن التخصيص
لا يتطرق إلى جوهر علته فإنه من أعم الصيغ أعني صيغة
التعليل ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب
الشئ علما ثم ينفي الحكم مع وجوده من غير سبب نعم يتطرق
إلى محله كلام فيخصص ببعض المحال بدليل قوله تعالى والسارق
والسارقة وقوله تعالى الزانية والزاني فيذكر المحل دون
العلة وفائدة الخلاف أن من منع التخصيص لا يجوز أصلا تطرقه
إلى
(1/513)
ما نص الشارع
على التعليل به وإن أومأ إليه يتبين أن ذلك لم يكن إيماء
على تعليل بورود التخصيص والمجوز للتخصيص يقول نبقي ذلك في
محله
فصل في دفع النقض
إذا قال المعلل باع الطعام بالطعام متفاضلا فلا يجوز قياسا
للسفرجل لأن على البر فقيل ينتقض يبيع البر بالشعير قال
الجدليون يكفيه أن يقول صيغة الطعم تشمل الجنس والجنسين
وأنا إنما عنيت الجنس الواحد واللفظ صالح له وهذا ليس
بدافع فإنه أخل بأحد وصفي العلة أو بمحل العلة فلا بد من
ذكره ولا يغنيه التفسير ما لم يصرح به نعم لو قال متولد من
مال الزكاة وغيره فلا زكاة فيه فقيل يبطل بالمتولد من
المعلوفة والسائمة فهذا ليس بنقض فإنه فهم من قرينة حاله
قطعا قصده التعريض للجنس لا للنوع
(1/514)
فصل
قال الجدليون إن الكسر سؤال لازم ويفارق النقض فإنه يرد
على إخالة العلة لا على عبارتها والنقض يرد على العبارة
وعندنا لا معنى للكسر فإن كل عبارة لا إخالة فيها فهي طرد
محذوف والوارد على الإخالة نقض والوارد على أحد الوصفين
منع كونهما مخيلين فهو باطل لا يقبل نعم تردد القاضي في أن
المعلل هل يسوغ له الاحتراز عن المسألة المستثناة عن
القياس بطرد أم لا وقال يحتمل أن يقال لا يحتاج إليه أصلا
فإنه ليس بنقض ولو فعله استبان به تنبهه له وكان أحسن
وقد بينا أن العلة منتقضة به فلا يغني الاحتراز بالطرد
النوع الرابع
(1/515)
إبانة عدم
التأثير في وصف العلة إما في الفرع أو في الأصل وحاصله
بيان ثبوت الحكم مع انتفاء العلة على نقيض ما ذكرناه في
النقض ومثار هذا السؤال اشتراط العكس في التعليل وقد
اختلفوا فيه فقال قائلون لا يعتبر كما في الأدلة العقلية
إذ الأحكام تدل على المحكم ووجوده وعدمه لا يدل على جهله
وعدمه ولأن العكس فيما قاله القاضي لا معنى له إلا انتفاء
حكم في مسألة أخرى عند عدم العلة ولم يلزم من جعل الشئ
أمارة أن يجعل عدمه أمارة لنقيضه فإن نفي العلة مسألة يطلب
لها علة كما لهذه المسألة فلا تكون العلة مشروطة بها وقال
آخرون إن العكس معتبر كما في العلة العقلية أعني العلم
والعالمية ولأن العلة التي هي مناط الحكم ينبغي أن يزيد
وجوده على عدمه فإذا عم الحكم وجوده وعدمه فلا أثر له
والمختار عندنا أن العلة إن تعددت فلا يطالب بالعكس فإنا
نجوز ازدحام العلل على حكم واحد فلا مطمع في العكس معه
(1/516)
وكذا إذا استند
الحكم إلى حديث عام وقياس فقد لا يطرد القياس ويطرد الحديث
فلا يطلب العكس وإذا اتحدت العلة فلا بد من عكسها فإنه
مناط الحكم ولا مطمع في اعتقاد ثبوت الحكم دون مستنده
بخلاف وجود المحكم فإن اعتقاده مع عدم الفعل غير مستحيل
فلذلك لم ينعكس فكأنا نقول شرط العلة الانعكاس إلا إذا منع
مانع وليكن كل معلل ملتزما له لو تمكن فإن العكس من طباع
العلة فإن كل علة أخالت حكما أخال عدمها عدم الحكم ولهذا
قال الأستاذ يكفيه الانعكاس في مسألة واحدة وشنع القاضي
عليه فقال المسألة الواحدة كسائر المسائل فلا يشترط العكس
فيها ونحن نقول الردة والعدة والحيض والإحرام إذا ازدحمت
في إمرأة فالحكم معلل بالكل ولكن كل واحدة في حكم المنعكس
وإن لم يبن أثرها فإذا زالت الردة زال تحريمها وكذا العدة
فكأن التحريم متعدد بتعدد العلة
(1/517)
مسألة إذا زاد
المعلل وصفا يستقل الحكم في الأصل دونه ولكن رام به درء
النقض فهو مطرح إذا لم يبن كونه علة في الأصل وكذلك لو ركب
من وصفين كان أحدهما في الأصل مستقلا ولا يستقل في الفرع
إلا مع غيره كقوله أمة كافرة فصارت كالمجوسية فهذا فاسد
لأن الرق ساقط في المجوسية بالاتفاق ليس يستقل علة
بالإجماع حتى يخرج على الجمع بين العلل فيكون كقوله مس
فصار كما لو مس وبال فالمحرم في الأصل هو التمجس وهو معدوم
في الفرع قال القاضي لعل طريق إثباته أن يقال خصوص التمجس
على انفراده علة وعموم الكفر مع الرق علة أخرى فهو حكم
معلل بعلتين وهذا أيضا لا يكفي وإن عموم الكفر لا يزيد على
نفس التمجس وخصوصه فيستحيل أن يكون الشئ علة على استقلاله
ثم ينتصب علة مع غيره وليس من عدم التأثير ما إذا قال
المعلل مشتد مسكر فيحرم كالخمر فقيل له الميتة تحرم وليس
بمشتد مسكر فإن هذا طلب العكس في قاعدة أخرى
(1/518)
وليس يلزم
المعلل اتفاقا أن يضبط مدارك التحريم في جملة المحرمات
النوع الخامس القلب وهو ينقسم إلى مصرح وإلى مبهم أما
المصرح به فمثاله قولهم عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي في
وظيفته بما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء فيقال في
معارضته قولنا عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر بالربع وقد
اختلفوا في قبوله فقال المحققون هو مردود فإنه لم تقلب
عليه العلة في عين الحكم المنصوب له وعدل إلى حكم آخر ولا
يتصور القلب إلا كذلك
(1/519)
وليس يعارضه
فإن شرط المعارضة التعارض في نفس الحكم وليس من ضرورة عدم
الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم ثبوت التقدير بالربع
والمختار أن هذا باطل لأنهما طردان وقد فلا يجري هذا إلا
في طردين أو في مخيل وطرد إذ الشئ الواحد لا يخيل الإثبات
والنفي وكذا الشبه الواحد مع أصل واحد لا يخيلهما علي
جميعا على الضرورة وأما المبهم فمثاله قلبنا عليهم قولهم
في مسألة المكره على الطلاق مكلف فيقع طلاقه بأنه مكلف
فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار وقيل هذا القلب أيضا فاسد
فإنه يتلقى من الأصل الاستواء في النفي والاستواء في الأصل
في الإثبات وهذا غير سديد لأن الاستواء قضية معقولة تتبادر
إلى فهم الفقيه قبل البحث عن طرفي النفي والإثبات ولكنه
باطل من حيث إن الاستواء ليس من نتيجة كونه مكلفا فلا
يناسب التكليف الاستواء وإن كان يناسب وقوع أصل الطلاق نعم
لو أورد فصل الإقرار ابتداء لكان سؤالا متجها ولم يكن من
القلب في شئ
(1/520)
النوع السادس
فساد الوضع وهو أن تخالف العلة أصلا تتقدم عليه من نص كتاب
أو سنة أو إجماع أو قاعدة كلية أو كان لا يخيل بأن تلقى
تغليظا من تخفيف
وهذا باطل لكونه طردا ولست أرى لفساد الوضع طريقا مضبوطا
سوى إبانة الإخلال بشرط من شرائط العلة أي شرط كان فيما
يعود إلى الإخالة وتقدم المرتبة وقياس المهر على الحد في
السقوط ليس فاسد الوضع إن استقام معنى جامع مخيل وإن كان
الحد مبناه على الدرء بخلاف المهر فإن للحد مع ذلك سقوطا
في بعض الأحوال وللمهر حتى أيضا سقوط فيلتقيان في الإثبات
والنفي جميعا النوع السابع في المعارضة وهي اعتراض مقبول
لا يجري إلا في الأدلة المظنونة إذ القطيعات لا تتعارض ثم
شرط المعلل أن يبطل المعارضة كما يبطل العلل أو يرجح دليله
على دليله وإنما تورد المعارضة على علة لو سلمت عنها
لأفادت الحكم وأما الفاسد فلا يعارض
(1/521)
وقال قائلون لا
تقبل المعارضة من السائل فإنه سيطالب بإثبات علة الأصل
وينتدب له وهو تعدي لنصب السائلين وهذا فاسد فان السائل
يمنع الدليل إذا افتتحه ابتداء فأما ما يستفيد به إبطال
كلام المسئول فيمكن منه ويستحيل أن ينقطع السائل مع انقداح
المعارضة وأما احتياجه إلى الإثبات لا يضر كما إذا تمسك
المستدل بظاهر فيؤولة تعالى
ويعضده بقياس بالإجماع ولا منع منه النوع الثامن الفرق وقد
قيل أنه لا يقبل من حيث تضمن الجمع بين أسئلة متفرقة إذ
فيه منع معنى الأصل وإبداء معنى آخر ومعارضته في الفرع
بعكس ما أبداه في الأصل فليأت الفارق بواحد منهما والمختار
أنه مقبول وعليه الجمهور ثم اختلفوا في أنه سؤال واحد أم
أسئلة فقال القائلون هو أسئلة سوغ الجمع بينها لتجمع شتات
الكلام وتوضح فقه المسألة والمختار أنه سؤال واحد والنظر
إلى مقصود الفرق
(1/522)
والغرض منه قطع
الجمع إذ المسئول يزعم أن الفرع في معنى الأصل بدليل
اجتماعهما في وصف العلة فيبين السائل افتراقهما في أمر خاص
ليقطع جمعه ولذلك قلنا الفرق ينبغي أن يكون أخص من الجمع
أو مثله فلو أبان الفرق في معنى عام لم يكفه مثاله إذا
قلنا من لا يثبت بشهادته النكاح لا ينعقد بحضوره كالصبي
فقالوا تقبل شهادته المعادة بخلاف الفاسق وكذلك إذا قلنا
أخطأ في اجتهاده في شرط من شرائط الصلاة
فيجب القضاء قياسا للقبلة على الوقت فقالوا أمر الوقت أضيق
من أمر القبلة فهذا وأمثاله لا يقدح ما لم يبين فرقا قادحا
في الجمع ثم ينبغي أن يتمكن من عكس المعنى في الفرع من غير
زيادة فلو افتقر إليها كان معارضا ولم يكن فارقا واختلفوا
في أن طرفي الفرق هل يحتاج إلى أصل والمختار أنه لا يحتاج
لأن الاستدلال المرسل عندنا مقبول
(1/523)
القسم الثاني في الاعتراضات الفاسدة
ولا مطمع في استيعابها ولا ضبط لها ولكن مجموع ما يقصد
ذكره مما تداولته الألسنة سبعة أنواع أحدها إدعاء قصور
العلة على محل النص والغرض ذكر أن العلة القاصرة صحيحة
وعليه دليلان أحدهما ما ذكره القاضي من أن من أبعد تصور
مصلحة في محل نص الشارع وإن كان مستوعبا استحث الشارع على
إثبات الحكم فقد عاند ومن جوز ثم أنكر جواز ورود التكليف
بالبحث عنه فقد هذي فإنا مصرفون يكلفنا ربنا بكل ممكن كما
يشاء وهذا ممكن وإذا ساغ ذلك فالباحث لا يدري قصور العلة
إلا بعد استنباطها وإذا عثر عليها
فلا معاب عليه إن اعتقده منصوب الشارع في محل النص فهذا
أمر لا يعرض فيه خلاف نعم إن قيل لا فائدة له فلا جرم لم
نربط به فائدة حتى يتناقض
(1/524)
الثاني ما ذكره
الأستاذ أبو إسحاق وعبر عنه بثلاث صيغ أحدها أن قال
القاصرة مستجمعة لكل الشرائط كالمتعدية ولم تفارقه إلا في
اعتضاده بالنص ولذلك نريده تأكيدا لا ضعفا ثانيها أن من
استنبط علة متعدية وحكم بصحته ثم ورد من الشارع نص عمم
جميع مجاري العلة يبعد الحكم ببطلانه بسبب شهادة رسول الله
صلى الله عليه وسلم على وفق علته ثالثها أن كل خائض في
الاستنباط من نص إذا استنبط فحقه أن يعتقد عموم حكم النص
وإن خص لفظه لأنه يظن أن العلة منصوب الشارع في جميع الصور
وإذا لم يكن من ظن العموم بد فاستيقان فإن العموم كيف يبطل
العلة وقد تمسك النفاة بأمرين أحدهما أن الصحابة كانوا لا
يستنبطون إلا العلل المتعدية والثاني أنها علة لا فائدة
لها فان الحكم مستقل بالنص وفائدة العلة إثبات حكم بها
وهذا لا يثبت قط
(1/525)
قلنا فيما
ذكرنها جواب عن هذا فإنا لم نربط به فائدة والمعلل لا
يتبين القصور إلا بعد العثور ثم قيل ما فائدته سد مسلك
التخصيص والتعليل نص في التعميم واللفظ معرض للخصوص وهذه
فائدة ظاهرة وإذا استنبطنا التعدية في الربا استفدنا به
منع التخصيص بالكثير الموزون واللفظ معرض له والفائدة
الثانية نفي الحكم شرعا عند انتفائها تلقيا من العكس وقد
ذكرنا أن العكس واجب عندنا في العلة إذا اتحدت وإن عدمها
ينفي كما ثبت وجودها فإن قيل يكفي في عدم الحكم عدم تناول
النص له قلنا ولكن ذلك ليس بحكم شرعي فهو كالتحريم المنفي
لأجل أن الشرع لم يرد به قبل ورود الشرع وإذا علل فهو منفي
بعلة شرعية وهي عكس العلة القاصرة وفي هذا جواب عن تحكمهم
على الصحابة بأنهم لم يستنبطوا عمر القاصرة وليس الأمر كما
قالوه وقد ظهرت فائدته وقال قائلون لا فائدة له ولكنها
صحيحة وبنى عليها أنه لا يجب استنباطها وإذا عثر الفقيه
عليها تبين أنه لم يجب عليه استنباط ذلك وقال آخرون يجب
استنباطها لما فيه من الفائدة
(1/526)
والخلاف يعود
إلى عبارة في الوجوب ونفيه ثانيها منع المعلل من الاستدلال
بفساد الفرع على فساد الأصل كقولهم إذا
قلنا نكاح لا يفيد الحل أو عدم إحاطة تمنع إلزام العقد
صريحا إذ الإلزام والحل ثاني الانعقاد فلا نتكلم فيه إلا
بعد الفراغ عن الأصل وغلا غالون فقالوا انقطع المسؤول لأنه
اعترف بأصل العقد وهذا هوس فإن المذاهب يمتحن مساقها فإذا
تخبطت فروعها انعكس الفساد على أصولها وغاية المعلل تغليب
ظن وما لا يفيد مقصوده يغلب على الظن فساده نعم اختلفوا في
أنه من فن الشبه أو من فن المخيل واختار الإمام كونه مخيلا
لأن العقد لا يراد إلا لمقصوده فإذا تخلف مقصوده لم يبق
للعقد معنى وقال القاضي هو شبه قوي ولعل ما ذكره القاضي
أقرب فإن منتهى المعلل تمسك بحكم من الأحكام وليس متمسكا
بمصلحة مناسبة للحكم مناسبة هجوم وآيته أنه لو طولب بعلة
امتناع الإلزام والحل لافتقر إلى إبداء علة فيه أو يقول
اجتماعهما فيه يوهم الاجتماع في مخيل لم يبق إلا أنه يورث
غلبة الظن وحق الشبه أن يكون كذلك
(1/527)
وكذلك قولنا من
صح طلاقه صح ظهاره مخيل ظاهر في إفادة غلبة الظن ولكنه من
الشبه القوي والخلاف فيه قريب المأخذ ثالثها مطالبة المعلل
بطرد علته في قاعدة تباعد ما فيه بطرد الكلام كما إذا
علقنا وجوب العشر بالاقتيات فطولبنا النبي بتعليق الربا به
موافقة لمالك
وهذا فاسد وليس عند المعلل ابداء فرق وقد تباين المأخذان
ولم يرد ذلك نقضا ولا استقام للسائل جمع نعم على المفتي أن
يتنبه لتباين المأخذين وأن وجوب العشر يتلقى من مسيس
الحاجات وهو مختص بالأقوات وتعليل الربا فيه متلقى من قوله
عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام رابعها كل فرق
مستنده الاتفاق في الأصل والاختلال في الفرع كقولهم
(1/528)
يكفر جاحد
الحكم في الأصل وينقض قضاء القاضي فيه بخلاف الفرع فإنا لا
نلتزم اخراج المسألة عن حيز المجتهدات وهذا من نتيجته
خامسها قلب العلة معلولا كقولهم ليس الطلاق بأن يجعل علة
للظهار بأولى من نقيضه وهذا فاسد فإنه لا بعد في تلازم
شبهين يدل كل واحد منهما على صاحبه فليكن كذلك ولا يطرد
هذا في الاشباه فأما المخيل فلا ينقلب معلولا للحكم أصلا
سادسها إدعاء تراخي الدليل عن المدلول في مسألة النية إذ
قسنا على التميمم وهو فاسد فيما قيل من ثلاثة أوجه
أحدها أن الأدلة الشرعية لا تزيد على الأدلة العقلية
والأحكام دليل على القديم وهو متراخي عنه وهذا الجواب فاسد
فإن الحكم الشرعي لا يثبت دون مستنده والعلم لا يستحيل
تقدير ثبوته دون الفعل
(1/529)
الجواب الثاني
أنا نتكلم في إثبات شرط النية الآن في زماننا وهو مسبوق
بنية التيمم الجواب الثالث وهو المختار أن النية تثبت في
هذه المسألة بأدلة سوى التيمم وهذا أحد أدلته فقد كانت
النية ثابتة قبل التيمم بدليل آخر ثم ورد التيمم عاضدا له
حتى لو قدر عدم ثبوت النية في الوضوء في الشرع لما كان
التيمم دليلا على ثبوته ابتداء فإنه نسخ والنسخ لا يثبت
بالقياس سابعها أن تقول اقتصرت على صورة المسألة فأين
المسألة إن كانت هي العلة وأين العلة إن كانت هي المسألة
وهذا فاسد فإن صورة المسألة إن أخالت حكمها فذاك وإلا فهو
طرد كيف ولو اقتصر على صورة المسألة لا يجد أصلا يقيس عليه
فلا بد من زيادة أو نقصان مثاله إذا سئل عن استدعاء العتق
بغير عوض فيقول استدعاء عتق كما إذا كان بعوض فقد غير
العبارة فإنه لو استدعى عتقا بغير عوض كما في صورة المسألة
لما وجد أصلا يقيس عليه
(1/530)
وختم هذا الباب
بذكر ضابط في الاعتراض الصحيح وهو أن كل اعتراض يبين
الإخلال بشرط من شرائط العلة وشرط العلة أن تكون مخيلا
ملتفتا على قواعد الشرع مطردا سليما عن معارضة ما يقاومه
أو يتقدم عليه في المرتبة مفيدا لمقصود المعلل لئلا يقول
السائل بموجبه هذا تمام الكتاب في القياس والله أعلم
(1/531)
|