المنخول من تعليقات الأصول

كتاب الترجيح
والكلام فيه بعد بيان حقيقته وإثبات أصله وبيان ما يجري فيه الترجيح يحصره بابان وحقيقته ترجيح أمارة على أمارة في مظان الظنون ونهايته إبداء مزيد وضوح في مأخذ الدليل وهذا في اللسان مشتق من رجحان الميزان وعزى القاضي إلى أبي الحسين البصري بالرمز إلى أنه أنكر الترجيح ويدل عليه أمران أحدهما علمنا بأن الصحابة كانوا يرجحون الأدلة ويقدمون بعض المصالح على بعض ويقدمون رواية أبي بكر الصديق على رواية معقل بن يسار وغيره ولا معنى للترجيح سواه

(1/533)


الثاني أن منكر الترجيح إن لم يقل بالقياس فيثبت عليه وإن قال به فكيف ينكر القياس والمسائل المظنونة يتعارض الظن فيها فلا معنى للقياس فيها سوى تغليب أحد الظنين على الآخر ولا معنى للترجيح إلا قول المرجح ظني أغلب ورأيي أثبت ولا انفكاك للقياس عنه إلا إذا دل قاطع على بطلان ظن الخصم وذلك مما يندر ولا مجال للترجيح في القطعيات لأنها واضحة والواضح لا يستوضح ونفس المذهب لا يرجح فإن الترجيح بيان مزيد وضوح في مأخذ الدليل فلا بد من دليل نعم يقدم مذهب مجتهد على مجتهد بمسالك نذكرها في كتاب الفتوى وأما العقائد قال الأستاذ لا يرجح بعضها على بعض وهذا إشارة منه إلى أنها معارف ولا ترجيح في المعارف والمختار: أن العقائد يرجح البعض بالبعض فإنها ليست علوما والثقة بها تختلف وسبيله أن يقول المعتقد انطبق اعتقادي على اعتقاد الصحابة والسلف الصالحين فإنهم لم يتعرضوا لكذا ولم ينفوا كذا وهم أجدر بتسديد الاعتقاد في قواعد الدين منا

(1/534)


الباب الأول
من البابين الموعودين في ترجيح الألفاظ إذ مآخذ الشرع تنقسم إلى ألفاظ ومعاني والألفاظ تنقسم إلى ألفاظ الكتاب والسنة وهي تنقسم إلى نصوص وظواهر ورب ترجيح يطرد في ظاهر ولا يطرد في نص وكل ما يطرد في النص فيطرد في الظاهر ومجموع ما نذكره عليهما يحصره ستة عشر نوعا أحدهما: أن يظن على أحدهما مخايل التأخير فيقدم على المتقدم إذا لم يقطع بكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا وذلك يبين بالزمان تارة كما روي أن قيس بن طلق روى في مس

(1/535)


الذكر عن الرسول عليه السلام أنه قال هل هو إلا بضعة منك وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك على عريش وروى أبو هريرة رضي الله عنه من مس ذكره فليتوضأ وهو متأخر في الإسلام أسلم بعد الهجرة بست سنين فالغالب أن حديثه متأخر وقد يظهر بالمكان فالمنقول بمكة يغلب على الظن تأخره وإن اتفقت له عودات إلى المدينة

(1/536)


وقد يبين بالحال كما روي أن النبي عليه السلام صلى بالناس في مرض موته قاعدا وهم قيام فهو مقدم على حديث مطلق رواه أحمد بن حنبل حيث قال وإذا قعد الإمام فصلوا قعودا أجمعين
والمختار أن هذا الترجيح إنما يجري إذا عجزنا في هذه المسألة عن مستند آخر فأما إذا وجدنا مستندا آخر وتعارضت النصوص تساقطت فإنا نرد الحديث بأدنى خيال فالحديث الآخر إن لم يقاومه يعارضه ويوهي التمسك به محالة ثانيها أن يكون راوي أحدهما أوثق وهو ترجيح من مأخذ الدليل فإن الثقة مستند الأحاديث ثالثها أن يكون في رواة احمدهما كثرة وسببه ظاهر

(1/537)


رابعها أن يعارض الثقة العدد فالثقة مقدمة وقدم آخرون العدد لأنه أقرب من التواتر ونحن نعلم أن الصحابة كانوا يقدمون قول أبي بكر رضي الله عنه على قول معقل بيسار ومعقل بن سنان وأمثالهم خامسها أن يعتضد أحدهما بعمل بعض الصحابة وإن كنا نرى أن عمل الصحابة لا يقدم على الحديث خلافا لمالك لأن المخالف محجوج به والعمل في مظنة التردد والمختار أنا إن قطعنا بأن الحديث بلغهم فتركوه نترك الحديث ولا نسئ الظن
بهم وإن ترددنا عملنا بالحديث وإن غلب على الظن أنه بلغهم توقفنا والغالب أن حديث المتبايعين لم يخف على أهل المدينة مع عموم البلوي به وحيث لا يقدم على الحديث يرجح به أمارة

(1/538)


سادسها أن يعتضد أحدهما بعمل التابعي فهو كالصحابي عندنا لأن إساءة الظن به محال وخصص آخرون الترجيح بالصحابة ولا شك أن العمل ببعض مضمون الحديث كالعمل بكله حتى يرجح جملة الحديث به سابعها أن يعتضد أحدهما بظاهر الكتاب كقوله عليه السلام الحج والعمرة مفروضتان ولا يضرك بأيهما بدأت يعتضد بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ولا شك أن ما جمع الله يقدم على حديثهم حيث رووا أنه قال عليه السلام الحج جهاد والعمرة تطوع وأنكر القاضي هذا الترجيح وقال هو مستند لا من مأخذ الدليل فالحديثان يتعارضان ويبقى الظاهر متمسكا مستقلا

(1/539)


وهو المختار
لأن الحديث لا أقل من أن يهي بالمعارضة فيتمسك بالظاهر وهو قريب من النص من حيث أنه أمر بهما والأمر للإيجاب ولا معنى لقولهم المعني بالإتمام المضي فيه بعد الخوض وعند بطلان هذا التفسير ينتهض الأمر نصا وعلى الجملة العمل بالظاهر أو بما يطابق الظاهر ثامنها أن يعتضد أحدهما بقياس الأصول كما قدم الشافعي رواية خباب ابن الأرت في صلاة الخوف لما أن قلت فيه الأفعال على رواية ابن عمر قال القاضي للشافعي إن كنت تكذب ابن عمر لحيده عن القياس أو تتهمه فمحال وليس القياس مناسبا لمأخذ الدليل حتى يقدح فيه وإن قلت الغالب من الرسول الجري على قياس الأصول فيعارضه أن الغالب أن الناقل عن القياس يكون أثبت في الرواية من المستمر عليه ولهذا تقدم شهادة الابراء على شهادة أصل الدين ثم قال القاضي كل دليل مستقل يرجح به حديث نظر إن كان دونه فهو باطل لا ترجيح فيه فيرد لأنه لا يوهي أحد الحديثين

(1/540)


وإن كان فوقه فهو متمسك به لا بطريق الترجيح كنص الكتاب وإن كان مثله فهو كحديث آخر يعضد به أحد الحديثين فيؤل الأمر إلى الترجيح بالعدد فإن قيل فما قولكم في مسألة صلاة الخوف قلنا إذا صحت الروايتان حملناهما على صلاتي الظهر والمغرب لكيلا
تتناقض وهو متمكن ثم تقول الأولى ما ترك فيه الفعل المستغنى عنه وإن فرض ازدحام على صلاة واحدة فمقدار التوافق مقبول والباقي مطرح لا يتمسك به تاسعها أن يتأكد أحدهما بالاحتياط وأنكر القاضي هذا الترجيح من حيث أن التكذيب غير ممكن بسببه ولا يورث ذلك تهمة ولعل الناقل عن الاحتياط أثبت كالمشهور بالسخاوة وإن إذا نقلت عنه حالة مخالفة لها لا نكذب الناقل فيه ثم قال استحباب الاحتياط لا ينكر وإيجابه تحكم لا مستند له عاشرها فيما قيل أن يتضمن أحدهما إثباتا والآخر نفيا فهو مقدم على النفي كقوله لا شفعة للجار يؤخر عن قوله للجار الشفعة لو نقل وهذا هذيان

(1/541)


فإن كل واحد من الراويتين مثبت وإنما ينقدح هنا فيما إذا نقل أحدهما فعلا والآخر نفاه وأمكن حمله على ذهوله فيفعل ذلك لأنه معرض للغفلات كما والمثبت أبعد عنه حتى لو تكاذبا وقال النافي كنت أتحفظ وانتهى فلم يفعل ولا ترجيح أصلا هذا ما يجري في النصوص وما يجري في الظواهر أنواع أحدها
أن يتعارض عمومان يتطرق إلى كل واحد تأويل يعتضد بقياس وقياس أحد التأويلين أوضح فهذا التأويل مقدم والعمل بالحديث الآخر واختلفوا في أن هذا هل يكون ترجيحا بالقياس قال القاضي جوز الشافعي ترجيح النص والظاهر بالقياس وأنا أجوز ترجيح الظاهر دون النص والمختار أن هذا تقديم غير مؤول على حديث مؤول ولكن تبين التأويل بالقياس ثانيها أن يظهر في أحدهما قصد العموم بأمارة من الأمارات كما ذكرنا في كتاب التأويل

(1/542)


ثالثها أن يرد أحدهما ابتداء دون الآخر على سبب فالمطلق مقدم لأن ما تخيله الصائرون إلى أن الوارد على سبب يخصص به يصلح للترجيح وفيه خلاف رابعها أن يتطرق إلى أحد العمومين تخصيص بالاتفاق فما حمل الصائرين إلى أن الباقي مجمل أو مجاز يصلح للتجريح هو وفيه خلاف خامسها أن يكون في أحدهما إيماء إلى التعليل فهو مقدم لأنه يبعد عن التخصيص وهو أحرى ما تثبت به العلل إذ صيغة التعليل من أعم الصيغ سادسها
فيما قاله الشافعي أن يتمسك المتمسك بأحد الحديثين من جعل لفظه علة حكم المسألة دون الخصم الآخر كما روي أن بريرة أعتقت تحت عبد يمكن أن يجعل علة عندنا ونقل أنها أعتقت تحت حر ولا يمكن أن يجعل ذلك علة فإن الخيار لا يختص بالحر بالإجماع وهذا ترجيح فاسد فإن مثاره انفراد الخصم بمذهبه ولا يرجح الحديث بالمذاهب وختم الباب بما ذكره بعض الناس من أن العمومين قد يتسلط كل واحد على تخصيص الآخر من غير دليل

(1/543)


وهذا كقوله تعالى اقتلوا المشركين فإنه يخصص قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد بأهل الكتاب وقوله تعالى حتى يعطوا الجزية لقوله تعالى اقتلوا المشركين بأهل الحرب من غير افتقار إلى دليل آخر وكذا قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله يخصصه بغير أهل الذمة قوله عليه السلام خذ من كل حالم دينارا وبتخصص وسلم هذا الحديث بأهل الكتاب بالحديث الأول وهذا فاسد فإن التخصيص بأهل الكتاب إن ظهر فيه دليل فهو مستند التخصيص وإلا فهو تحكم وليس لأحد الخصمين أن يكتفي بعمومه الذي تمسك به دليلا على تخصيص عموم صاحبه إذا أنكر هو أصل التخصيص لأنه لا يسلم عن المعارضة بمثله

(1/544)


الباب الثاني في ترجيح بعض الأقيسة المتعارضة على بعض
ومما لا بد من تقديمه على الخوض في ترجيح المقاييس فصل ذكره القاضي في ترتيب النظر في قواعد الأقيسة فقال النظر فيها ينقسم إلى ما لا يتفاوت في نفسه والمتفاوت وعني بالمتفاوت ما يتفاوت فيه نظر النظار وتتعارض فيه الخواطر قال والنظر الذي لا يتفاوت ينقسم إلى ما يقع في مرتبة البديهي كعلمنا أن المخنق والقاتل بالمثقل عامد للقتل ومن أضمر خلافه يسفه في عقله وإلى ما يقع في مرتبة النظري كعلمنا بوجوب القصاص عليه فإن من علم مقصود الشارع من القصاص في الحقن والعصمة استبان بأدنى نظر على القطع إيجاب القصاص ولا ينبغي أن يتمارى فيه وكذلك علمنا بأن العقوبة الرادعة عن الفواحش شرعت زجرا عنها وإذا تجمعت أسبابها من ارتكاب الفاحشة مع تمحض التحريم ومسيس الحاجة إلى

(1/545)


الزجر فلا بد منه كعلمنا بأن الشهود إذا شهدوا على الزنا فلا يسقط الحد بقول المشهود عليه صدقوا كما قاله أبو حنيفة وكعلمنا عنه بأن الحد لا يتعلق إلا بفاحشة ولكن الشارع تولى بيانه فإنا لا ندركه بأفهامنا إن وقد خصصها بتغييب الحشفة واستثنى مقدماتها من معانقة وتقبيل وممازحة منها
وعلمنا بأن أقل مراتب موجب العقوبة أن يتمحض تحريمه فالوطء بالشبهة لا يوجب الحد وإشارته إلى الذي صادف امرأة على فراشه ظنها حليلته القديمة قال فهذه جهة لا يتفاوت فيها نظر العقلاء ولا اكتراث بمخالفة أبي حنيفة فيها فإني أقطع بخطئه في تسعة أعشار مذهبه الذي خالف فيه خصومه فإنه أتى فيها من الزلل في قواعد أصولية يترقى القول فيها عن مظان الظنون كتقديم القياس على الخبر ورجوعه إلى الاستحسان الذي لا مستند له وزعم أن الزيادة على النص نسخ في مسائل ذكرناها وتمسكه بمسائل شاذة في خرم القواعد فليس الكلام معه فيها في مظنة النظر في المظنونات والعشر الباقي يستوي فيه قدمه وقدم خصومه ولعلهم يرجحون عليه فيه

(1/546)


فأما ما يتفاوت النظر فيه كإلحاق الأيدي بالأنفس في الاستيفاء بحكم القصاص من حيث إن قطع الأطراف يتوقع منها السراية ففيه زاجر وذلك لا يتحقق في النفس إلا أن هذا يعارضه ما ذكره الشافعي رضي الله عنه من أن الغرض من القصاص الزجر والأطراف معصومة عصمة النفوس فقضية المصلحة فيه تنزيلها منزلته نعم لم يطرد الشافعي رضي الله عنه هذه المصلحة فيما إذا قطع أحدهما من جانب والآخر من جانب من حيث لم ير استفتاح المصالح ابتداء ورأى
هذه المصلحة ثابتة عند الاشتراك في النفس فألحق الطرف به عند تحقق الاشتراك ومما يظهر التفاوت إيجاب الشافعي القصاص على الشهود ولم يصدر منهم إلا كلمة ولو قال ذلك مما يتسبب به إلى القتل كالإكراه فيعارضه أن التزوير من العدول مما لا يغلب والقصاص مبناه على الدرء وأبعد منه قوله يجب الحد على المرأة بلعان الزوج مع أن اللعان حجة ضرورية وليست بينة يثبت بها الزنا على الإطلاق ولو قال زنا المخدرات لا يطلع عليه إلا الأزواج فلا بد من تمهيد طريق إثباته يعارضه أن الزوج قد يريبه من أمر المرأة شئ فيغتاظ عليها فيسعى في دمها والعقوبات على الدرء مبناها قال وأبعد منه إسقاطه الحد عن الزوج في حق المقذوف به وقد صرح به في قذفه ولا خفاء ببعده

(1/547)


ثم قال وقد شاع في الألسنة أن العقوبات مبناها على السقوط فلا بد من درك معناها فليعلم أن العقوبة ثابت وجوبها ودرؤها والغرض من كل واحد منهما الحقن والغرض من استيفاء القصاص حقن الدماء كي يكون ذلك وازعا للفساق والغرض من الدرء حقن دم الجاني فإنه معصوم وحقن دمه ناجز والعصمة المبتغاة من الاستيفاء متوقعة فإنا لا نرد المقتول إلى الأحياء ولكن يتوقى وقوع مثله فإذا تعارضت أسباب الحقن والدرء غلب السقوط والمقصود منه الحقن
أيضا إلا أن المستفاد حقن ناجز فإذا اعتضد بمؤكد كان مراعاته أولى من عصمة متوقعة فهذه مقدمة لم نجد بدا من ذكرها ليستمد الناظر منها في مسالك الترجيح في القياس وليعلم أن القياس على مراتب وأقواها أن سميناها قياسا إلحاق الشئ بما في معناه ولا ترجيح فيه فإنه مقطوع به وأثر الترجيح يعود إلى النص المقطوع به

(1/548)


ودونه المخيل ويقل فيه التعارض وإن اتفق فالغالب وقوع الكلام في تقديم مرتبة على مرتبة ويكثر التعارض في الأشباه وعندها يحتاج إلى الترجيح ومعظم المسائل مع أبي حنيفة قطعي فيما يتعلق بالأصول وما فيها يعود إلى تمسكنا بقاعدة وتمسكهم بقاعدة شاذة وذلك أيضا محكوم ببطلانه وحاصل ما يذكر من فنون الترجيح أنواع أحدها أن يعارض قياس مستنبط من نص كتاب ما في معنى لحديث آحاد قال قائلون إن سميناه قياسا رجحنا عليه فإن مستند هذا مقطوع والمختار أنه لا يرجح لأن تسميته قياسا يرجع إلى لقب وهو مقطوع به كالمنصوص وأخبار الآحاد تقدم على قياس مستنبط من القرآن ثانيها
أن يعارض قياس عام تشهد له القواعد قياسا هو أخص منه بالمسألة فالأخص مقدم فيما قاله القاضي لأنا دفعنا إلى البحث عن هذه المسألة فالنظر إلى القواعد اضراب عن مقصوده فلينظر إليه

(1/549)


ومثاله توجيه قولنا لا تتحمل العاقلة قيمة عبد لأن الجاني أولى بجنايته ويعتضد بسائر الغرامات ويعارضه قياس أخص منه وهو أن الغالب على العبد الذمية بدليل الكفارة والقصاص وضرب العقل سببه مسيس حاجة القن إلى معاطاة الأسلحة واتفاق هفوات وثقل الأروش على الجناة وهذا فاسد فإن ضرب العقل مستنثى من القياس وهذه الحكمة لا تعويل عليه والأصل أنه لا يضرب عليها إلا في محل القطع أو فيما هو مقطوع به وإنما المثل القريب قول أبي حنيفة رحمه الله لا يضرب القليل على العاقلة واعتضاده بهذا الأصل ونحن نحلق القليل بالكثير هو أخص إذ ثبت أن العقل يجري في الأجزاء والأروش وثبت بطلان معنى الإجحاف إذ المتوسط يعقل الغني ويتحمل عنه فصار القليل في معنى الكثير ويعتضد بما روى أنه عليه السلام ضرب العقل على العاقلة وهو

(1/550)


اسم جنس يتناول الكل كما يتناول اسم الحمام الفروخ وإن كانت الحمامة لا تتناوله فهذا مقدم على قياس أبي حنيفة
ولكن شرط جريان الترجيح أن يسلم المستدل بالقياس الخاص لخصمه قياسا عاما فإن نسبه إلى الإضراب عن القاعدة الثابتة في الشريعة فهو باطل وكذلك ان لم يسلم المستدل بالقياس العام خصوص هذا القياس ثم قال القاضي هذا شبه قوي مقدم على المخيل فكأنا نشبه القليل بالكثير وهذا كما تقول جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته تشبيها لإحدى النسبين بالأخرى وإن كان القياس المخيل في المالية يقتضي اتباع النقصان ولهذا وجبت قيمته بالغة ما بلغت وكما تشبه الزبيب بالتمر والارز بالبر ويتنبه للمقصود الأخص في المنصوص وهو الطعم ليشبه به غيره فيعمل عمل العلة وإن لم يكن مخيلا فيقدم على مخيل يعارضه فإن قيل القوت أخص قلنا قال القاضي الجمع بينهما ممكن فيفعل ذلك إذ لا مانع ثالثها أن يكون للقياس العام إلتفات على خصوص الحكم وهو معتضد بالقواعد فهو مقدم

(1/551)


كقياسهم المرض على الإحصار في جواز التحلل ولكن منعه أولى إن كان تمسكا بعموم حكم الحج في اللزوم لأنه يجد أصلا من الضلال والنسيان وغيره فليس إعراضا عن خصوص حكمه كما ذكرناه في إلحاق القليل بسائر الغرامات فإنه إضراب عن خصوص هذه القاعدة رابعها
إذا انعكست إحدى العلتين فهو مقدم لأن ما حمل بعض الناس على المصير إلى كونه شرطا يصلح للترجيح وقد بينا أن العكس من طباع العلة فانعكاسه إلا يزيد وضوحا في جوهره ومنع القاضي الترجيح به وزعم أن العكس نفي حكم في مسألة أخرى فيتوقف فيه إلى ورود الدليل ولا أثر للعكس ثم مزيد الإخالة مقدم على العكس بالإجماع خامسها تقدم المتعدية على القاصرة بزعم الأستاذ أبي منصور والقاضي لأنه أغزر فائدة ولأن الصحابة كانوا يتمسكون بالمتعدية دون القاصرة إذ لا فائدة فيها

(1/552)


وقال الأستاذ أبو إسحاق القاصرة مقدمة لأنها معتضدة بالنص فيقال له الحكم هو المعتضد دون العلة والمختار أنهما إن تواردا على حكم واحد يجمع بينهما ولا ترجيح وإن تناقضا فلا يلتقيان نعم يكفي طرد المتعدية عكس القاصرة ولا يقاوم العكس الطرد أصلا وإن فرض ازدحام على حكم مع تقدير الاتفاق على اتحاد العلة فالمتعدية أولى لما ذكره القاضي سادسها أن يكون فروع أحدهما أكثر من الآخر فيرجح به كما قال الأستاذ
أبو منصور وهو مزيف لأن تقديم المتعدية على القاصرة تلقيناه من مسلك الصحابة ولم يظهر ذلك عند كثرة الفروع سابعها أن يتحد وصف إحدى العلتين ويتعدد وصف الآخر فالمتحد وصفه

(1/553)


قالوا يرجح لأن فروعه أكثر والاجتهاد فيه أقصر فيبعد عن الخطأ وهذا فاسد لأن كثرة الفروع لا تتلقى من الاتحاد فإن التعدية متحدة وقد قصرت وقصر الاجتهاد وطوله خوف وترجي ولا يؤخذ الترجيح من هذا المأخذ ثامنها أن ما كان فروعه أكثر يقدم عليه ما كان شواهده أكثر فيما قاله الأستاذ أبو منصور كقولنا في تعليل وجوب الكفارة بالوطء في رمضان إيلاج فرج في فرج ويشهد له اختصاص بالوطء بمن أتى في الحج وغيره به وهم يقولون هتك حرمة الصوم بمقصود الجنس وقد كثر فروعه وهذا فاسد فإن قولنا إيلاج فرج في فرج طرد لا تخييل ومعتمد الشافعي تشبيه الصوم بالحج في أن ما اشتمل على مخطورات الوطء من جملتها كان الوطء مزيد تغليظ كالحج
وما ذكروه منقوض عليهم بمناقضات لهم في تلك المسألة

(1/554)


تاسعها أن ما كثر أصوله قالوا يرجح وشرطه ان لا تتحد الرابطة فإن اتحدت كقولنا كل ما جاز بيعه جاز رهنه وقسنا على الدار والفرس والعبد فليس هذا من كثرة الأصول نعم إن شهدت أصول متباينة بمسالك متغايرة فيرجح ولا خفاء بسببه فإنه علتان في معارضة علة واحدة عاشرها كثرة الشواهد عند عدم الجامع الفقهي مثاله قول أحمد يمسح على العمامة كالخف فنقول لا يمسح على ساترة كسائر الأعضاء وكثرة الشواهد مع اليأس عن المعنى يرجح به الحادي عشر تقدم ما يقتضي الاحتياط فيما وضعه على الاحتياط كالابضاع فيه والدماء فأما حل الصيود فلا فإن الأصل فيها الإباحة وإن كان الورع فيها الاحتياط

(1/555)


الثاني عشر تقديم العلة الناقلة على العلة المستصحبة كما يقدم الراوي الناقل على
المستصحب وهذا فاسد فإنا نظن أن الناقل أثبت في الرواية من المستصحب ولا نتهمه في العلة فلتقدم المستصحبة ثم يحتمل أن يقضي بالتعارض ويتمسك بالاستصحاب استقلالا ويحتمل أن يقال هو ساقط في معارضته القياس فلا يصلح إلا للترجيح الثالث عشر اعتضاد أحدهما بظاهر يترجح به أو يعمل به استقلالا وفيه احتمال كما في الاستصحاب الرابع عشر النافية والمثبتة وقد اختلف الناس فيهما على التناقض وعندنا أن لا ترجيح بهما وإنما ينقدح الترجيح بالإثبات في الروايات الخامس عشر أن تنطبق صيغة التعليل على ظاهر القرآن

(1/556)


كقولنا لا تقبل شهادة الكافر لأنه فاسق ويشهد له قوله تعالى أولئك هم الفاسقون وقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا وهذا الترجيح فاسد لأنه يسمى فاسقا لخروجه من الدين يقال فسقت الرطبة ولكن خصص بالكافر كما يخصص الملحد بالكافر والحنيف بالمسلم وكل واحد منهما بمعنى الميل
السادس عشر ان يعتضد أحدهما بمذهب واحد من الصحابة فيرجح لأن مذهبه إن لم يجعل حجة على الاستقلال فيرجح به والمعتضد بمذهب زيد في الفرائض يرجح على ما يعتضد بقول معاذ ابن جبل وإن قال عليه السلام أعرفكم بالحلال والحرام معاذ لأن شهادته عليه السلام لزيد في الفرائض على الخصوص حيث قال عليه السلام أفرضكم زيد

(1/557)


ويقدم أيضا على مذهب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإن قال فيهما اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر لأن ذلك يمكن حمله على الخلافة والسيرة المرضية وهذا في الشهادة أخص منه والله أعلم

(1/558)