المنخول من تعليقات الأصول
كتاب الاجتهاد
والكلام فيه في أربعة فصول
الفصل الأول في أن كل مجتهد في
الأصول لا يصيب
وأجمع العقلاء عليه سوى أبي الحسين العنبري حيث صوب كل
مجتهد في العقليات ولا يظن به طرد ذلك في قدم العالم ونفي
النبوات ولعله أراده في خلق الأفعال وخلق القرآن وأمثالهما
إذ المسلم لا يكلف الخوض فيه لعلمنا بأن العقول لا تحتمل
كل غامض عقلي
والصحابة كانوا لا يأمرون الناس به فإذا خاض متبرعا فلا
يأثم بما يعتقد لأن عقله لا يحتمل سواه وهذا مع هذا القرب
فاسد فإن اعتقاد الاصابة المحققة على التناقض محال إذ من
ضرورة أحدهما أن يكون جهلا وهو كاعتقاد اللون الواحد سوادا
وبياضا
(1/559)
وإن عنى به نفي
التأثيم معللا بقصور عقل فليطرد في النصارى واليهود كيف
والصحابة كانوا يشددون القول على كل مبتدع غير مكترث بقصور
عقله ثم العقول إذا نقضت عن العقليات وألفت التقليدات
تقاربتو أدركت المعقولات نعم لا يجب الخوض في دركها ويكفي
التقليد عندنا ولكن إذا خاض فيه فهو مأمور بالاصابة
(1/560)
الفصل الثاني في المجتهدين في المظنونات
وقد ذهب الشافعي والاستاذ أبو اسحق وجماعة من الفقهاء إلى
أن المصيب واحد وله أجران وللمخطئ أجر واحد وغلا غالون
وأثموا المخطئ وصار القاضي والشيخ أبو الحسن في طبقة
المتكلمين إلى أن كل واحد منهما مصيب والغلاة منهم اثبتووا
صلى التخيير ونفوا مطلوبا معينا وقالوا لا فائدة في اجتهاد
ولا في تقليد معين لتقدمه في المرتبة ولكنه يتخير إذ ما من
حكم
إلى ويجوز أن يغلب على الظن والمتقصدون وقال أوجبوا
الاجتهاد والعمل بما يغلب على الظن وعزى القاضي مذهبه إلى
الشافعي رضي الله عنه وقال لولاه لكنت لا أعده من أحزاب
الأصوليين
(1/561)
تمسك من صار
إلى أن المصيب واحد بمسلكين أحدهما أن الحل يناقض الرحمة
والسفك يضاد الحقن فيستحيل جمعهما وهو سفسطة من هذا الوجه
ولكنهم يقولون ذلك لا يتناقض في حق شخصين كالميتة تحل
للمضطر وتحرم على غيره وكل مجتهد مصيب في حق نفسه وإن فرض
في حق مقلد فيستفتي الأفضل وإن تساووا انعكس الاشكال عليهم
أيضا المسلك الثاني أن التحريم لا بد له من مسلك في الظن
ويستحيل تعارض المسلكين على التناقض يفضي أحدهما إلى
التحريم والآخر إلى التحليل على التناقض
(1/562)
وهذا فاسد
فإنهم ينفون مطلوبا معينا فضلا من إثبات مسلك يدل عليه ولو
فرضت مفتية تحت مفت قالوا على المرأة الامتناع إذا رأت
التحريم وعلى الزوج مد اليد وكل يأخذ باجتهاده ولا يستبعد
هذا التناقض فإنه ينعكس على من يقول المصيب واحد فإنه لا
يعنيه
ولو وجب على كل واحد أن يعمل باجتهاده تمسك القاضي بأن قال
يجب قطعا على كل مجتهد العمل باجتهاده شرعا والوجوب بأمر
الله وما وجب بإيجاب الله فهو حق فهو المعني بكون كل واحد
مصيبا للحق في حق نفسه وإن قيل لم ينه الاجتهاد نهايته
قلنا إذا غلب على ظنه ولم يبق له مضطرب في اعتقاده فتكليفه
امرا وراءه تكليف مالا يطاق فإنه أدى ما كلف ولم يكلف الا
استفادة أنه غلبة الظن وقد استفاده والمختار عندنا أن كل
مجتهد مصيب في عمله قطعا فإنه وجب بإيجاب الله ولا معنى
للقضاء بإصابة كل واحد على معنى نفي مطلوب معين في علم
الله من تحريم أو تحليل
(1/563)
إذ لو قيل به
لما تصور الطلب في حق كل مجتهد يقدم على اجتهاد إذ يعتقد
في علم الله حكما هو مطلوبه من كتاب أو سنة أو إجماع فإن
لم يجد فما هو إلا شبه بأصول الشريعة وإذا لم يتخيل ذلك لم
يتصور طلبه وهو كالذي يطلب زيدا في الدار ولا يتعين في
خياله احد التقديرين على البدل ويتبين هذا بمثال وهو أن
المجتهد في القبلة ينبغي أن يعتقد تعين القبلة في احدى
الجهات وكونه مأمورا بطلبها بغلبة الظن ولو لم يتخيل ذلك
كان كمن يطلب جهة من أربع جهات ولا تميز لبعضها على بعض
فلا يكون
له مطلوب معين ولا يتصور له طلب فعلى هذا نقول إذ فرضنا
واقعة لو انتهى الاجتهاد فيها نهايته انتهى إلى التحريم
المحقق فانتهى المجتهد إلى الكراهية مثلا وجب العمل به وله
أجر واحد
(1/564)
ولو اتفق عثور
على منتهى التحريم لكان مصيبا ما هو شوف الطالبين وهو غاية
التحريم فقد تبين أنهما مصيبان في العمل واحدهما مخطئ في
الوصول إلى ما هو شوف الطالبين لا بعينه وقد يقول القاضي
ليس لله تعالى في الوقائع المظنونة حكم معين عام على جميع
الخلائق إذ الحكم توجيه الخطاب ويستحيل توجيه الخطاب على
التعيين مع انشعاب مسالك الظنون ولو كان معنيا لدلت عليه
امارة ولو دلت الامارة لعلمت وانقلب مقطوعا به وهذا غير
سديد فإن لله تعالى في كل واقعة حكما حق المجتهد أن يتشوف
إليه وعليه امارات تورث غلبة الظن وللظنون في العقول مسالك
كما للعلوم فهو كطالب القبلة بظنه ان اصاب جهة القبلة فله
أجران وإن بنى على غلبة الظن ولم يصب فله أجر واحد
(1/565)
الفصل الثالث فيما هو مطلوب المجتهد إذا عينا مطلوبا
قالوا والمطلوب هو الاشبه وعبر معبرون عن الاشبه بأنه ما
يظهر للفقيه في مجاري ظنه وهذا لا ضبط له فإن ذلك قد
يتعارض وقال آخرون هو ما لو ورد به نص لطائفة وهذا حكم على
الغيب وان ذكره ابن سريح من اصحابنا وقال آخرون هو الاشبه
بالاصلين الذين تردد الواقعة بينهما من نفي أو اثبات وهو
شوف الطالب من ظفر به فقد اصاب ومن لا فقد أخطأ وان اصاب
في العمل
(1/566)
الفصل الرابع فيما إذا اخطأ المجتهد نصا
والمصوبة اضطربوا فمنهم من طرد التصويب تعويلا على وجوب
العمل عليه وفيه اصابة الحق ومنهم من خطأه وغلا غالون حتى
أثموه وقال القاضي لا يؤثم لأنه لم يتعمد ولكنه يحتمل ان
يقال أخطأ من حيث ان المطلوب قد تعين ومنشأ التصويب نفي
المطلوب والنص هو المطلوب هنا ثم قال يمكن ان يقال هو مصيب
لأنه وجب عليه العمل وقد أدى ما كلف وحكم النص متعين في حق
من عثر عليه والاحكام تختلف باختلاف الاحوال والاشخاص كما
في تحريم الميتة لم يبق إلا ان يقال اخطأ النص فأقول نعم
ولكن هذا لفظ لا خير فيه فإنه لم يجب عليه الوصول إليه إذ
فيه تكليف وشطط بعد ان استفرغ كنه مجهودة وهو وهو كالمتيمم
يقال لم تتوضأ فيقال نعم ولكن لم يجب عليه ذلك
(1/567)
والمختار ان
المجتهد مصيب في علمه مخطئ في التشوف المطلوب وكذا نقول
إذا لم يكن نص فلا فرق عندنا ولكن إذا عثر على النص فقد
نقول يجب تدارك الفائت لأن الخطأ صار متيقنا أما إذا لم
يكن في المسألة نص فلا يستقين الخطا وهي مسألة فقهية إذ
القضاء يجب بأمر مجدد عندنا نعم المجتهد في القبلة إذا
تبين الخطأ والوقت باق هل تجب عليه الاعادة للشافعي رضي
الله عنه فيه تردد ومثاره ان المقصود من المكلف استقبال
عين القبلة مقصودا ام لا
(1/568)
فان قلنا انه
مقصود فيمكن ان يقال يجب لان المقصود قد فات
والاجتهاد وسيلة لم يفض إلى المقصود فلا يغني ولعل الظاهر
ان القبلة ليست مقصودة في عينها فان تكليف المصلي ذلك في
جهالاته وعماياته صلى الله عليه وسلم محال ولهذا قضى بسقوط
الإعادة في الأظهر واما العثور على النص فمقصود الشارع
قطعا وإنما فرضنا الكلام في الوقت لئلا يتورط في افتقار
القضاء إلى امر مجدد وعلى الجملة الفرق بين القبلة والنص
عسير وختم الكتاب بالرد على ابي حنيفة رحمه الله حيث قال
كل مجتهد مصيب في اجتهاده فان قيد بالاجتهاد واراد به انه
مخطئ في علمه فهذا زلل لما ذكرناه وان اراد به انه اصاب ما
هو شوف الطالب فكذلك وان عني به انه ادى ما كلف فهو مساعد
عليه والله اعلم بالصواب
(1/569)
|