الموافقات

ج / 1 ص -451-       النوع الرابع: في الصحة والبطلان1
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في معنى الصحة، ولفظ الصحة يطلق باعتبارين:
أحدهما:
أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، كما نقول في العبادات: إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة، ومبرئة للذمة، ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء، وما أشبه ذلك2 من العبارات المنبئة عن هذه المعاني، وكما نقول في العادات3: إنها صحيحة، بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك, واستباحة4 الأبضاع، وجواز الانتفاع، وما يرجع5 إلى ذلك.
والثاني:
أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة، كترتب الثواب؛ فيقال: هذا عمل صحيح، بمعنى أنه يرجى6 به الثواب في الآخرة؛ ففي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الصحة والبطلان ليسا على التحقيق من الأحكام الوضعية في شيء، بل من الأمور العقلية؛ لأنه بعد ورود أمر الشارع بالفعل ومعرفة شرائطه وموانعه لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف بمجرد العقل صحته أو بطلانه، ولذا أسقطهما كثير من الأصوليين؛ فلم يعدوهما في الأحكام. "د".
2 كموافقة أمر الشرع كما قالوه. "د".
3 المعاملات. "ماء".
4 ولا يقال: حصول الانتفاع وحصول التوالد والتناسل؛ لأنها قد تترتب على الباطل، وقد تتخلف عن الصحيح. "د".
5 كصحة تصرفاته الشرعية فيما ابتاعه بيعا صحيحا مثلا. "د".
6 لم يقل: يحصل الثواب في الآخرة تفاديا مما اعترض به عليه من أن الثواب قد لا يترتب على الصحة الصحيحة كما سيأتي. "د".

 

ج / 1 ص -452-       العبادات ظاهر، وفي العادات1 يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع، وقصد به مقتضى الأمر والنهي، وكذلك في المخير إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره، لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع، غافلا عن أصل التشريع؛ فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى، وهو وإن كان إطلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه؛ فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره، وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون، وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك2.
المسألة الثانية:
في معنى البطلان، وهو ما يقابل معنى الصحة؛ فله معنيان:
أحدهما:
أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا، كما نقول في العبادات: إنها غير مجزئة، ولا مبرئة للذمة، ولا مسقطة للقضاء؛ فكذلك نقول: إنها باطلة بذلك المعنى، غير أن هنا نظرا؛ فإن كون العبادة باطلة إنما هو لمخالفتها لما قصد الشارع فيها، حسبما هو مبين في موضعه، ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة3؛ فيطلق عليها لفظ البطلان إطلاقا؛ كالصلاة من غير نية، أو ناقصة ركعة أو سجدة، أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل، وقد تكون راجعة إلى وصف خارجي منفك عن حقيقتها وإن كانت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما تقدم له في النكاح أنه مندوب بالجزء وهو عادي؛ فلا ثواب إلا بهذه النية، وكما سيأتي في الواجب العادي كأداء الديون والنفقة على الأولاد ورد الودائع. "د".
2 "إحياء علوم الدين" "4/ 370 وما بعد"، أثناء "بيان تفصيل الأعمال المتعلقة بالنية"، ثم انظر في "الإخلاص" "حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب عليه, 4/ 384".
3 كخلل في بعض شروطها أو أركانها. "د".

 

ج / 1 ص -453-       متصفة به؛ كالصلاة1 في الدار المغصوبة مثلا؛ فيقع الاجتهاد:
في اعتبار الانفكاك؛ فتصح الصلاة؛ لأنها واقعة على الموافقة للشارع، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف.
أو في اعتبار الاتصاف؛ فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة2 من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هي المنفكة عن هذا الوصف، وليس الصلاة في الدار المغصوبة كذلك، وهكذا سائر ما كان في معناها.
ونقول أيضا في العادات: إنها باطلة، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا؛ من حصول أملاك، واستباحة فروج، وانتفاع بالمطلوب، ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا؛ كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين:
أحدهما: من حيث هي أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا.
والثاني: من حيث هي راجعة إلى مصالح العباد.
فأما الأول؛ فاعتبره قوم بإطلاق، وأهملوا النظر في جهة المصالح، وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق؛ كالعبادات المحضة سواء، وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد -وسيأتي في كتاب "المقاصد" بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا- وإذا كان كذلك؛ فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه، والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير مشروعة، وغير المشروع باطل؛ فهذا كذلك، كما لم تصح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكصوم الأيام المنهية. "د".
2 والبطلان والفساد مترادفان عند غير الحنفية، أما عندهم؛ فيقولون في مثله فاسد لا باطل، وبنوا على الفرق إمكان تصحيح الفاسد لا الباطل كما يأتي "ص455" من هذا الجزء.

 

ج / 1 ص -454-       العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع.
في اعتبار الانفكاك؛ فتصح الصلاة؛ لأنها واقعة على الموافقة للشارع، ولا على اعتبار المصلحة، بمعنى أن المعنى أن الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه: فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل، بحيث1 لا يمكن التلافي فيه؛ بطل العمل من أصله، وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه؛ لأن النهي يقتضي أن لا مصلحة للمكلف فيه، وإن ظهرت مصلحته لبادئ الرأي؛ فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام وإن ظنها العامل، وإن لم يحصل ولا2 كان في حكم الحاصل لكن أمكن تلافيه، لم يحكم بإبطال ذلك العمل؛ كما يقول مالك3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كبيع الملاقيح، فإن المعنى الذي بطل البيع من أجله حاصل مستديم؛ لأن بيع ما في بطون الأمهات منعدم فيه ركن البيع، ولا يتأتى تلافي تصحيحه. "د".
2 كذا في "ط" فقط، وفي غيره: "يحصل مدة كان"، وكتب "د": "لعل الأصل: "وإن كان حاصلا مدة أو في حكم الحاصل" يعني: مدة أيضا؛ فيكون مقابلا للقسم قبله، وتنطبق عليه التفاريع الآتية، فإن المفوت غالبا للعتق وهو البيع في حكم الحاصل، ولكن أثره لم يدم، بل ارتفع بالعتق، وأمكن تلافي مفوت العتق بسبب عتق المشتري، وإنما قلنا: "في حكم الحاصل"؛ لأن التفويت إنما يظهر أثره بعد موت السيد، فهناك كان يغلب عتقه، أعني إذا لم يوجد مانع، كبعض الصور التي يسترق فيها المدبر ولا ينفذ عتقه، أما الكتابة الفاسدة لفقد شرط مثلا؛ فالمعنى الذي لأجله بطلت حاصل بالفعل، لكن لمدة، وهي ما قبل خروجه حرا بسببها, وأمكن التلافي بسبب الحرية؛ فجعل الأمر في المثال وما قبله منزلا على المصلحة، وهي تشوف الشارع للحرية مع إمكان التلافي بإهدار بقاء الموجب للبطلان، ومثالا الغصب والبيع والسلف مما فيه حصول المعنى الموجب للبطلان فعلا، ولكنه لمدة وهي ما قبل الإجازة، وإسقاط الشرطين اللذين أمكن بهما إهدار الموجب للبطلان".
قلت: وانظر نحو ما ذكره المصنف في "مجموع فتاوى ابن تيمية" "25/ 283 و29/ 281-292 و32/ 87-88".
قلت: وفي حاشية الأصل: "هنا تحريف في لفظ مرة".
3 انظر: "الموطأ" "2/ 423- رواية أبي مصعب".

 

ج / 1 ص -455-       في بيع المدبر: إنه يرد إلا أن يعتقه المشتري فلا يرد؛ فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق، أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير؛ فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد، فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق؛ فلم يرد لذلك، وكذلك الكتابة الفاسدة ترد ما لم يعتق المكاتب, وكذلك بيع الغاصب للمغصوب، موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده؛ لأن المنع إنما كان لحقه، فإذا أجازه جاز، ومثله البيع والسلف منهي عنه، فإذا1 أسقط مشترط السلف شرطه؛ جاز ما عقداه، ومضى على بعض الأقوال، وقد يتلافى بإسقاط الشرط شرعا2، كما في حديث بريرة3، وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة4؛ كنكاح الشغار، والدرهم بالدرهمين، ونحوهما، إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه؛ فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة، فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر، فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي؛ فصار العقد موافقا لقصد الشارع؛ إما على حكم الانعطاف5 إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول، أو غير حكم الانعطاف إن قلنا: إن تصحيحه وقع الآن لا قبل, وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد.
والثاني من الإطلاقين: أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "إذا".
2 ما قبله كان بإسقاط مشترط السلف، أما هذا؛ فإن أهل بريرة لم يسقطوه، بل بقوا متمسكين به، ولكن أسقطه الشارع كما في الحديث. "د".
3 مضى تخريجه "ص340".
4 الباطل عندهم هو ما يكون غير مشروع ألبتة؛ كبيع الملاقيح، لا ما كان النهي باعتبار وصف عارض؛ فإنه يسمى فاسدا، والثاني يمكن تصحيحه بإهدار الوصف الموجب للفساد، كإسقاط الزيادة في الربا، ولا يحتاج لعقد جديد؛ كالأمثلة التي ذكرها. "د".
5 وانسحاب آثار العقد الأول على ما تم بعد زوال الوصف. "د".

 

ج / 1 ص -456-       الآخرة، وهو الثواب، ويتصور ذلك في العبادات والعادات.
فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول؛ فلا يترتب عليها جزاء؛ لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ولا يترتب عليها ثواب أيضا.
فالأول: كالمتعبد رئاء الناس؛ فإن تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب.
والثاني: كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى، وقد قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}1 الآية [البقرة: 264].
وقال:
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}2 [الزمر: 65].
وفي الحديث: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقد قضت الآية بأنها كالعدم في الآخرة؛ لأنها كتراب على حجر صلد نزل عليه وابل فلم يترك له أثرا، وظاهر أن هذا باعتبار الآخرة. "د".
2 فالعبادة التي حصل فيها الإشراك مع الله باطلة بالمعنيين؛ أي: في الدنيا والآخرة. "د".
3 أخرج عبد الرزاق في "المصنف" "8/ 184-185/ رقم 4812، 4813"، وأحمد في "المسند"، وسعيد بن منصور -كما في "نصب الراية" "4/ 16"- والدارقطني في "السنن" "3/ 52"، والبيهقي في "الكبرى" "5/ 320-331" عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته "أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها؛ فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية؛ فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى أجل، ثم اشتريتها منها بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة؛ فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت، وبئس والله ما بعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتوب".

 

ج / 1 ص -457-       على تأويل من جعل الإبطال حقيقة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي رواية البيهقي: إن التي باعت الجارية من زيد بن أرقم هي أم محبة، وهي امرأة أبي السفر، وزوجة أبي إسحاق هي العالية بنت أيفع؛ كما عند الدارقطني.
وضعفه الدارقطني بقوله: "أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما".
وأعله الشافعي في "الأم" "3/ 33-ط الشعب"، وابن حزم في "المحلى" "9/ 60" بجهالة العالية.
وأم محبة لا وجود لها في الإسناد، وإنما هي التي باعت الجارية، وهذا ظاهر في رواية الدارقطني خاصة، أما إعلاله بالعالية؛ فمتعقب بما قاله ابن الجوزي في "التحقيق" كما في "نصب الراية" "4/ 16": "قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" "8/ 487"؛ فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت عائشة"، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" "5/ 330": "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح"؛ فإسناد هذا الأثر حسن إن شاء الله تعالى، وجوده محمد بن عبد الهادي، وابن القيم في "إعلام الموقعين" "3/ 216"، وقال: "وهذا حديث فيه شعبة، وإذا وجد شعبة في حديث؛ فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله؛ فقد استوثق لدينه"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "20/ 259-260".
قال "د": "ولا يتجه جواب بعضهم هنا عن الشافعية بأن إنكار عائشة راجع إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين".
1 يعني: ويكون من الإطلاق الثاني. "د".
وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل هذا الحديث أن امرأة ذكرت لعائشة -رضي الله عنها- شيئا باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من ذلك؛ فقالت عائشة: بئس ما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم... إلخ" الحديث.
وحيث كانت صورة العقد المشتمل عليها الحديث جائزة عند الشافعية؛ أجابوا عنه بوجوه، أحدها: القدح في سنده بجهالة الراوي، ثانيها: القدح في متنه بأن الأعمال الصالحة لا يحبطها إلا الردة، ومحال أن تلزم عائشة زيدا برأيها وتكفره باجتهاده، ثالثها: أن إنكار عائشة على فرض صحة الحديث عائد إلى البيع لأجل مجهول لا لتفاوت الثمنين، رابعها: أن الحديث يتضمن اختلاف صحابيين في حكم، وإذا اختلف الصحابة في شيء؛ أخذنا بقول الذي يعضده القياس، وهو قول زيد".

 

ج / 1 ص -458-       وتكون أعمال العادات باطلة أيضا بمعنى عدم ترتب الثواب عليها، سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا؛ فالأول كالعقود المفسوخة شرعا، والثاني كالأعمال التي يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة، من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها؛ كالأكل والشرب والنوم وأشباهها، والعقود المنعقدة بالهوى ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعي بحكم الاتفاق، لا بالقصد إلى ذلك؛ فهي أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن، لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا؛ فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه, وتبقى جهة قصد الامتثال مفقودة؛ فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا؛ لأن الأعمال بالنيات.
والحاصل أن هذه الأعمال التي كان الباعث عليها الهوى المجرد، إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل، فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20].
وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر، أو فيه إشارة إلى هذا المعنى؛ فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة. وانظر في "الإحياء"1 وغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظره "4/ 374" أثناء "بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار".

 

ج / 1 ص -459-       المسألة الثالثة:
ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي؛ إذ لا يخلو الفعل العادي -إذا خلا عن قصد التعبد- أن يفعل بقصد أو بغير قصد، والمفعول بقصد إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل، أو في المخالفة فيترك؛ إما اختيارا، وإما اضطرار؛ فهذه أربعة أقسام:
أحدها:
أن يفعل من غير قصد؛ كالغافل والنائم؛ فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير، فليس فيه ثواب ولا عقاب؛ لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف، فما لا يتعلق به خطاب تكليف؛ لا يترتب عليه ثمرته.
والثاني:
أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا؛ فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك, كالأول، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا؛ كأداء الديون، ورد الودائع والأمانات، والإنفاق على الأولاد، وأشباه ذلك، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع؛ لأن الأعمال بالنيات، وقد قال في الحديث:
"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه"1، ومعنى الحديث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها: "كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/ 9/ رقم 1", ومسلم في "صحيحه" "كتاب الإمارة، باب قوله, صلى الله عليه وسلم:
"إنما الأعمال بالنيات"، 3/ 1515/ رقم 1907"، والترمذي في "الجامع" "أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، 4/ 179/ رقم 1647"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات، 2/ 651/ رقم 2201"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب الطهارة، باب النية في الوضوء، 1/ 58"، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الزهد، باب النية، 2/ 1413/ رقم 4227"، وأحمد في "المسند" "1/ 25، 43" من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يصح إلا من حديثه.

 

ج / 1 ص -460-       متفق عليه ومقطوع به في الشريعة.
فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني.
والثالث:
أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا؛ كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها؛ عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد؛ فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني؛ لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول، ومثل ذلك الزكاة1 المأخوذة كرها؛ فإنها صحيحة على الإطلاق الأول, إذ كانت مسقطة للقضاء [أ]2 ومبرئة للذمة، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا، أو استحياء من الناس، أو ما أشبه هذا، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط3؛ فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال: "ومثل ذلك" لأنه أتى به لمجرد الفائدة المناسبة، وإلا؛ فهذا ليس من موضوع المسألة؛ لأن الزكاة من العبادات. "د".
2 زيادة من الأصل.
3 إقامة الحدود من خطاب التكليف المسبب عن خطاب الوضع بفعل المحدود عليه، وهذا بالنسبة للإمام، أما بالنسبة لمن أقيمت عليه؛ فلا خطاب يتوجه عليه فيها، فلا ينتظر أن تكون له نية؛ لأن إقامة الحد ليس من فعله؛ إلا أنه يبقى الكلام فيما إذا طلبها كماعز -رضي الله عنه- والغامدية والجهنية, طلبوا إقامة الحد للطهر من الزنى؛ فتم الرجم، وقال عليه الصلاة والسلام لخالد حين سب الماعزية*:
"مهلا يا خالد؛ فقد تابت توبة لو قالها صاحب مَكْس لغفر له"، ولما صلى =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "الخالدية". 

 

ج / 1 ص -461-       حال، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات.
والرابع:
أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا؛ كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله؛ فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال، أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا؛ فهو من الصحيح بالاعتبارين, كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة؛ فهو من الباطل بالاعتبارين، فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير، فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه؛ فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه:
أحدها:
أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول، باطلا بالاعتبار الثاني، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه، لا بالنظر إلى ما يستلزم.
والثاني:
أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا، بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه، دون ما لم يؤذن له فيه، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة، وقولهم: أيقضي شهوته ثم يؤجر؟ فقال:
"أرأيتم لو وضعها في حرام!"1، وهذا مبسوط في كتاب "المقاصد" من هذا الكتاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على الجهنية؛ قال له عمر, رضي الله عنه: أتصلي عليها وقد زنت؟ قال له عليه الصلاة والسلام:
"لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله, عز وجل"، والظاهر أنه يترتب عليه المغفرة لا غير؛ لأنه الذي ورد في الحديث في هؤلاء الذين جادوا بأنفسهم لله، وقد يقال: إن الطلب غير إقامة الحد الذي هو من فعل الغير؛ فليس فيه إلا التكفير، أما الطلب من المحدود كما حصل من هؤلاء؛ فعمل آخر مستقل له فضله ونيته، كما يدل على قوله: "أن جادت بنفسها لله"، وهذا عمل ديني خطير؛ فلا يحرم ثوابه. "د".
1 أخرجه مسلم في "الصحيح" "كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/ 697/ رقم 1006". =

 

ج / 1 ص -462-       والثالث:
أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا, في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني, في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح، والأول بالنظر إليه في نفسه.
فصل:
وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني؛ فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة، فإن كان عبادة؛ فلا تقسيم فيه على الجملة، وإن كان عادة؛ فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ، أو لا، والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها:
ما لا يصحبه حظ؛ فلا إشكال في صحته.
والثاني:1
كذلك لأن الغالب هو الذي له الحكم، وما سواه في حكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكتب "خ" هنا ما نصه: "أصل الحديث في "صحيح مسلم": "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال:
"أرأيتم لو وضعها في حرام: أكان عليها فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"".
ثبت عليه الصلاة والسلام الأجر لوضع الشهوة في حلال مقارنا له على وجه التمثيل بثبوت الوزر بوضعها في حرام، وهذا ما يسميه الأصوليون قياس العكس، وهو الاستدلال بنقيض العلة على الحكم، والتحقيق أنه بطريق أضعف من قياس الشبه؛ فلا يستقل بتفصيل الحكم، والحديث خبر آحاد، وهو لا يكفي في تقرير الأصول الواجب إقامتها على أدلة تفيد القطع، ومن الجائز أن يكون ثبوت الأجر لوضع الشهوة في الحلال متلقى من طريق الوحي، وتكون مقارنته بوضعها في حرام واردة لغرض آخر كتقريب المعنى إلى فهم المخاطب، لا للتنبيه على دخول هذا النوع في المقاييس المعتد بها في أصول الأحكام".
1 وهو ما يكون قصد الحظ فيه مغلوبا؛ فالنشر على عكس اللف. "د".

 

ج / 1 ص -463-       المطرح.
والثالث:
محتمل لأمرين: أن يكون صحيحا بالاعتبار الثاني أيضا؛ إعمالا للجانب المغلوب، واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح في العاديات بخلاف العباديات، وأن يكون صحيحا بالاعتبار الأول دون الثاني؛ إعمالا لحكم الغلبة، وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب، والحمد لله.