الموافقات ج / 1 ص -464-
النوع الخامس في العزائم
والرخص:1
والنظر فيه في مسائل:
المسألة الأولى:
العزيمة2 ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء.
ومعنى كونها "كلية" أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم
مكلفون دون بعض، ولا ببعض الأحوال دون بعض؛ كالصلاة مثلا؛
فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال،
وكذلك الصوم، والزكاة، والحج، والجهاد، وسائر شعائر
الإسلام الكلية، ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في
الأصل؛ كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين,
من البيع، والإجارة، وسائر عقود المعاوضات، وكذلك أحكام
الجنايات، والقصاص، والضمان، وبالجملة جميع كليات الشريعة.
ومعنى "شرعيتها ابتداء" أن يكون قصد الشارع بها إنشاء
الأحكام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جرى المصنف في جعل الرخصة من خطاب الوضع على طريقة بعض
الأصوليين كالآمدي, وعدها آخرون من قبيل الحكم الشرعي وهو
الذي يقتضيه صنيع من قسمها إلى واجب ومندوب ومباح، وخلاف
الأولى كما فعل تاج الدين ابن السبكي في "جمع الجوامع" [1/
162- مع "حاشية العطار"]. "خ".
2 المحققون على أنه لا تطلق العزيمة إلا فيما كانت فيه
الرخصة مقابلة لها, أما ما لا رخصة فيه بحال؛ فلا يطلق
عليه عزيمة, وإن كان حكما ابتدائيا كليا؛ فالتعريف للعزيمة
شامل لها، وذلك خلاف رأي المحققين. "د".
قلت: انظر كلام ابن القيم على الرخصة والعزيمة في
"المدارج" "2/ 57-59، 282"، و"الزاد" "3/ 88"، و"روضة
المحبين" "ص163-165"، و"الوابل الصيب" "ص9، 17".
ج / 1 ص -465-
التكليفية1 على العباد من أول الأمر؛ فلا يسبقها حكم شرعي
قبل ذلك، فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير؛ كان2 هذا
الأخير كالحكم الابتدائي، تمهيدا للمصالح الكلية العامة.
ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردا على سبب؛ فإن
الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك, فإذا وجد اقتضت أحكاما؛
كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104].
وقوله تعالى:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108].
وقوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقوله تعالى:
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 187].
وقوله:
{فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
وما كان مثل ذلك؛ فإنه تمهيد لأحكام وردت [شيئا]3 بعد شيء
بحسب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا ينافي هذا وما يأتي له في المسألة الثانية من أن حكم
الرخصة الإباحة جعله العزيمة والرخصة أحكاما وضعية؛ فإن
الصوم والصلاة مثلا يتعلق بهما حكم تكليفي هو الوجوب مثلا،
وحكم وضعي هو كونهما عزيمة أو رخصة، قال في "التحرير":
"للشارع في الرخص حكمان: كونها وجوبا أو ندبا أو أباحة،
وهي من أحكام التكليف، وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق
المكلف يناسبه تخفيف الحكم مع قيام الدليل على الأصل، وهو
من أحكام الوضع؛ فإيجاب الجلد للزاني من أحكام الاقتضاء من
وجه، ومن أحكام الوضع من حيث كونه مسببا عن الزنى"، وعليه
مشى الأبهري. "د".
2 في "ط": "كان منسوخا... وكان هذا...".
3 سقط من الأصل.
ج / 1 ص -466-
الحاجة
إلى ذلك؛ فكل هذا يشمله اسم العزيمة، فإنه شرع ابتدائي
حكما1، كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات
كليات ابتدائية أيضا؛ كقوله [تعالى]2:
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا
إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229].
وقوله تعالى3:
{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ}
[النساء: 19].
وقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
[التوبة: 5].
ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان4، هذا وما
أشبهه من العزائم؛ لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية.
وأما الرخصة؛ فما شرع لعذر شاق، استثناء من أصل كلي يقتضي
المنع5، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
فكونه "مشروعا لعذر" هو الخاصة التي6 ذكرها علماء الأصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل أصل العبارة: "فإنه حكم كلي شرع ابتداء"، ولا داعي
للفظ "حكما"؛ لأن الابتداء حقيقي في جميع هذه الأمثلة، إلا
في آية
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ}؛ فإنها من قبيل الناسخ، وهو ابتدائي حكما كما تقدم له. "د".
2 سقط من الأصل.
3 كلمة "تعالى" ليست في "م" و"خ" و"ط" و"ج".
4 أخرجه البخار في "صحيحه" "كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان
والنساء في الحرب، 6/ 148/ رقم 3014، 3015"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء
والصبيان في الحرب، 3/ 1364/ رقم 1744" من حديث عبد الله
بن عمرو.
وورد عن جماعة من الصحابة حتى عده بعضه متواترا، وتفصيل
ذلك يطول, ولا يتسع المقام له، والله الموفق.
5 في قول كل العلماء. "ماء".
6 ظاهر صنيعه أنه يريد الاستدراك على الأصوليين بأن
تعريفهم غير مانع، وأنه لولا زيادته كلمة "شاقة"؛ لاختل
التعريف، ودخل في الرخصة القراض وما معه، ولكن الواقع أنهم
لم يقتصروا على هذه الخاصة، بل قالوا: "ما شرع لعذر مع
قيام الدليل المحرم لولا العذر"، ولا يخفى أن هذه الخاصة
التي ذكروها لا تبقي شيئا من القراض وما معه داخلا في
الرخصة؛ لأن معنى قيام الدليل المحرم بقاؤه معمول به لولا
العذر، ولا شيء من ذلك في القراض وما معه. "د".
ج / 1 ص -467-
وكونه
"شاقا"؛ فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة، من غير مشقة
موجودة؛ فلا يسمى ذلك رخصة؛ كشرعية القراض مثلا، فإنه لعذر
في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض، ويجوز حيث
لا عذر ولا عجز، وكذلك المساقاة، والقرض، والسلَم؛ فلا
يسمى هذا كله رخصة وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع، وإنما
يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات، والحاجيات
لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة، وقد يكون العذر راجعا
إلى أصل تكميلي، فلا يسمى رخصة أيضا، وذلك أن من لا يقدر
على الصلاة قائما، أو يقدر بمشقة؛ فمشروع في حقه الانتقال
إلى الجلوس، وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة، لكن بسبب
المشقة استثني فلم يتحتم عليه القيام؛ فهذا رخصة محققة،
فإن كان هذا المترخص إماما؛ فقد جاء في الحديث:
"إنما جعل
الإمام ليؤتم به -ثم قال:- وإن صلى جالسا؛ فصلوا جلوسا
أجمعون"1؛ فصلاتهم جلوسا وقع لعذر، إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة، بل
لطلب الموافقة2 للإمام وعدم المخالفة عليه؛ فلا يسمى مثل
هذا رخصة، وإن كان مستثنى لعذر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل
الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 688، وكتاب تقصير الصلاة،
باب صلاة القاعد، 2/ 584/ رقم 1113، وكتاب السهو، باب
الإشارة في الصلاة، 3/ 108/ رقم 1236"، ومسلم في "الصحيح"
"كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 309/ رقم
412" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
2 هذا هو الأصل التكميلي؛ فصلاة الإمام جالسا رخصة،
وموافقتهم له ليس برخصة. "د".
ج / 1 ص -468-
وكون
هذا المشروع لعذر "مستثنى من أصل كلي" يبين لك أن الرخص
ليست بمشروعة ابتداء؛ فلذلك لم تكن كليات في الحكم، وإن
عرض لها ذلك؛ فبالعرض، فإن المسافر إذا أجزنا له القصر
والفطر؛ فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم،
هذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة؛ فإن الاستثناء
ثانٍ عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة، وكذلك أكل
الميتة للمضطر في قوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ} الآية [البقرة: 173].
وكونه "مقتصرا به على موضع الحاجة" خاصة من خواص الرخص
أيضا لا بد منه1، وهو الفاصل بين ما شُرع من الحاجيات
الكلية وما شرع من الرخص؛ فإن شرعية الرخص جزئية يُقتصر
فيها على موضع الحاجة، فإن المصلي إذا انقطع سفره؛ وجب
عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم،
والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصلِّ قاعدا،
وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم، وكذلك سائر الرخص، بخلاف
القرض، والقراض، والمساقاة، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة؛
فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح؛ لأنه مشروع أيضا
وإن زال العذر، فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة
إلى الاقتراض، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله
بنفسه أو بالاستئجار عليه، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا
على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار، وكذلك ما أشبهه.
فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي، والرخصة
راجعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يلوح أنه حكم مفرع على الرخصة لازم لها، ولا يتوقف
تعريفها عليه؛ لأنه تم بالقيود قبله، بدليل أنه أخرج به
القرض وما معه وهو نفس ما أخرجه بقيد المشقة؛ فإن كان
مراده أنه لا بد منه في التعريف؛ فغير ظاهر، وإن كان مراده
أنه وصف ملازم وحكم ثابت للرخصة؛ فظاهر، وهو مفهوم من
تعريفها بما شرع لعذر شاق؛ لأن موضع الحاجة هو العذر
الشاق؛ فعند زوال هذا العذر لا يوجد محل الرخصة؛ فلا يتأتى
الترخص حينئذ. "د".
ج / 1 ص -469-
إلى
جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي.
فصل:
وقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع
مطلقا، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق، فيدخل فيه القرض،
والقراض، والمساقاة، ورد الصاع من الطعام في مسألة
المصراة، وبيع العريَّة بخرصها تمرا، وضرب الدية على
العاقلة، وما أشبه ذلك، وعليه يدل قوله: "نهى عن بيع ما
ليس عندك"1،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج أحمد في "المسند" "2/ 174، 178-179، 205"،
والطيالسي في "المسند" "2257"، وأبو داود في "السنن" "كتاب
البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده/ رقم 3504"،
والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع، باب كراهية بيع ما
ليس عندك/ رقم 1234"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع،
باب بيع ما ليس عند البائع، 7/ 288"، وابن ماجه في "السنن"
"كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، 2/
737-738/ رقم 2188"، والدارمي في "السنن" "2/ 253"، وابن
الجارود في "المنتقى" "رقم 601"، والدارقطني في "السنن"
"3/ 15"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 17"، والبيهقي في
"الكبرى" "5/ 339-340، 348" بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ:
"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن،
ولا بيع ما ليس عندك".
وصححه الحاكم، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ولفظ الطيالسي:
"نهى عن سلف وبيع".
وكتب "خ" ما نصه: "أبقى أكثر أهل العلم هذا الحديث وهو
قوله, عليه الصلاة والسلام:
"لا تبع
ما ليس عندك" على ما
يقتضيه لفظه من العموم، وجعلوا السلم مستثنى منه بالأدلة
الدالة على جوازه، وذهب ابن القيم في "إعلام الموقعين" إلى
أن المراد من الحديث النهي عن بيع العين المعينة وهي لم
تزل في ملك الغير، أو بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان
في الذمة، وصرح بأن جعل السلم داخلا في الحديث من قبيل
التوهم، والفرق بين طريقة الجمهور وهذه الطريقة أن ابن
القيم يجعل الحديث من قبيل العام الذي أريد به الخصوص،
والجمهور يجعلونه من العام المخصوص، ويقولون مع هذا: إن
بين السلم وبين بقية الصور الممنوعة وجها من الفرق يستدعي
الاختلاف في الحكم؛ فكلام ابن القيم إنما يطعن في قول من
صرح بأن السلم مخالف للقياس، ونفي أن يكون هناك فارق بين
بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين المضمون في
الذمة المقدور على تسليمه".
ج / 1 ص -470-
"وأرخَصَ في السلم"1، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات؛ فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى
الأول في هذا الأصل، فيجري عليها حكمها في التسمية، كما
جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع، وهنا أيضا
يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام
المعذور، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا، لكن
هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات2 لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب السلم، باب السلم في وزن
معلوم، 4/ 429/ رقم 2240، 2241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
المساقاة، باب السلم، 3/ 1226-1227/ رقم 1604"، وأحمد في
"المسند" "1/ 282"، والترمذي في "الجامع" "أبواب البيوع،
باب ما جاء في السلف في الطعام والتمر، 3/ 602-603/ رقم
1311"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب البيوع، باب السلف في
الثمار، 7/ 290"، وأبو داود في "السنن" "كتاب البيوع
والتجارات، باب في السلف, 3/ 741-742/ رقم 3463", وابن
ماجه في "السنن" "كتاب التجارات, باب السلف في كيل معلوم،
2/ 765/ رقم 2280"، والدارمي في "السنن" "2/ 260"، وابن
الجارود في "المنتقى" "614، 615"، والبيهقي في "الكبرى"
"6/ 18" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي
-صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يسلفون في التمر
السنتين والثلاث، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم:
"من أسلف، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وعند الدارقطني في "السنن" "3/ 3": "وهم يسلمون" بدل "يسلفون".
2 أي: التكميلات للتحسينيات؛ فإن الجماعة على العموم من
أصل التحسينيات، وموافقة الإمام في الجلوس مكمل لها، كما
أن قسمة الجيش إلى فرقتين تؤديان الصلاة مع الإمام تكميل
لها أيضا، وليس في المسألتين خاصة المشقة حتى يندرجا في
سلك الرخصة بالمعنى الأول. "د". وفي "ط": "التكميليات".
ج / 1 ص -471-
من أصل
الحاجيات؛ فيطلق عليها لفظ1 الرخصة وإن لم تجتمع معها في
أصل واحد، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل
الضروريات، كالمصلي لا يقدر على القيام؛ فإن الرخصة في حقه
ضرورية لا حاجية، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه،
لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه، وهذا كله ظاهر.
فصل:
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف
الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى:
{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
وقوله تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين، وعلى هذا يحمل
ما جاء في بعض الأحاديث: "أنه -عليه الصلاة والسلام- صنع
شيئا ترخص فيه"2،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بغير الإطلاق الأول؛ لأن مثل هذا لا يتعلق به حكم
آخر يسمى عزيمة، بل إن صلاته جالسا هي العزيمة؛ فالرخصة
بالإطلاق الأول إنما تكون في أصل الحاجيات لا غير، فما كان
من التحسينيات أو الضروريات لا تطلق عليه الرخصة بالمعنى
الأول، وإن أطلقت عليه بالمعنى الذي في هذا الفصل. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الأدب، باب من لم يواجه
الناس بالعتاب، 10/ 513/ رقم 6101، وكتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين
والبدع، 13/ 276/ رقم 7301" من حديث عائشة قالت: صنع النبي
-صلى الله عليه وسلم- شيئا ترخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ
ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب، فحمد الله، ثم قال:
"ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؛ فوالله إني لأعلمهم بالله،
وأشدهم له خشية".
ج / 1 ص -472-
ويمكن
أن يرجع إليه معنى1 الحديث الآخر:
"إن الله يحب
أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"2،
وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله3؛ فكان ما جاء في هذه الملة
السمحة من المسامحة واللين رخصة، بالنسبة إلى ما حملته4
الأمم السالفة من العزائم الشاقة.
فصل:
وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على
العباد مطلقا5، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم؛
فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ} [الذاريات: 56].
وقوله:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا} الآية [طه: 132].
وما كان نحو ذلك مما دل على أن العباد ملك الله6 على
الجملة والتفصيل؛ فحق عليهم التوجه إليه، وبذل المجهود في
عبادته؛ لأنهم عباده وليس لهم حق لديه، ولا حجة عليه، فإذا
وهب لهم حظا ينالونه؛ فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير
المعبود، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية.
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي
على الإطلاق والعموم، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا،
والنواهي كراهة أو تحريا، وترك7 كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "بمعنى".
2 سيأتي تخريجه في "ص480".
3 انظر: "ص506-507".
4 كذا في "ط"، وفي غيره: "حمله".
5 عن القيود والاعتبارات التي لوحظت في الإطلاقات الثلاثة
السابقة؛ فهو أوسع الإطلاقات الأربعة، ولكنه على ما ترى
منظور فيه إلى الخاصة من أرباب الأحوال. "د".
6 في "ط": "ملك لله".
7 هو محل الفرق بين هذا الإطلاق وغيره. "د".
ج / 1 ص -473-
ما
يشغل عن ذلك من المباحات، فضلا عن غيرها؛ لأن الأمر من
الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة، والإذن في نيل الحظ
الملحوظ من جهة العبد رخصة؛ فيدخل في الرخصة على هذا الوجه
كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف؛ فالعزائم حق الله على
العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله؛ فتشترك المباحات مع
الرخص على هذا الترتيب، من حيث كانا معا توسعة1 على العبد،
ورفع حرج عنه، وإثباتا لحظه، وتصير المباحات -عند هذا
النظر- تتعارض مع المندوبات على الأوقات؛ فيؤثر حظه2 في
الأخرى على حظه في الدنيا، أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه؛
فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا، أو آخذا له حقا لربه؛
فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله، وحق الله هو المقدم
المقصود؛ فإن [على]3 العبد بذل المجهود، والرب يحكم ما
يريد.
وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال، ويعتبره
أيضا غيرهم ممن رقي عن الأحوال، وعليه يربون التلاميذ، ألا
ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة،
حتى آل الحال بهم أن عدوا أصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شامل للرخصة بالمعنى المعروف، وبالمعنى الذي أريد هنا،
وقوله: "ورفع حرج عنه" خاص بمحل الرخص المعروف، وقوله:
"وإثباتا لحظه" هذا ما زاده هنا على ما سبق، وهو تلك
المباحات التي تشغل عن مقام العبودية. "د".
2 أي: فتارة يقدم المندوب على المباح؛ فيؤثر حظه في الآخرة
على حظه في الدنيا، وفي هذه الحالة يصح أن يقال أيضا: إنه
آثر حق ربه المطلوب بفعل هذا المندوب على حظ نفسه وهو
المباح، وتارة يقدم المباح على المندوب، لكن بقصد أن من حق
الله عليه ألا يعرض عن رخصته وتفضله عليه بالتوسعة بهذا
المباح، وحينئذ يكون آخذا للمباح لا من جهة حظ نفسه بل من
جهة أنه حق لربه وإن كان في ضمنه حصل حظ نفسه بالمباح؛ إلا
أنه تابع؛ فعلى التقدير الأول يكون رفع المباح وباعده عن
عمله رأسا، وعلى الثاني يكون فعل المباح لكن على أنه حق
لربه لا لحظ نفسه. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
ج / 1 ص -474-
الحاجيات كلها أو جلها من الرخص، وهو ما يرجع إلى حظ العبد
منها1، حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير، وسيأتي لهذا
الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع, إن شاء الله تعالى.
فصل:
ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة؛ ظهر أن منها ما هو
خاص ببعض الناس، وما هو عام للناس كلهم، فأما العام للناس
كلهم؛ فذلك الإطلاق الأول، وعليه يقع التفريع في هذا
النوع، وأما الإطلاق الثاني؛ فلا كلام عليه هنا؛ إذا لا
تفريع يترتب عليه، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي، وكذلك
الثالث، وأما الرابع، فلما كان خاصا بقوم؛ لم يتعرض له على
الخصوص، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه؛
فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى.
المسألة الثانية:
حكم الرخصة الإباحة مطلقا1 من حيث هي رخصة، والدليل
على ذلك أمور:
أحدها:
موارد النصوص عليها؛ كقوله تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وقوله:
{فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
وقوله:
{وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما ما يرجع إلى حق الله منها؛ فليس من الرخص كما أشرنا
إليه. "د".
2 أي: من غير تفصيل حتى فيما يتوهم فيه الوجوب أو الندب.
"د".
ج / 1 ص -475-
[النساء: 101].
وقوله:
{مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] الآية إلى آخرها1.
وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا
لقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله:
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل
إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة، وهو الإثم
والمؤاخذة، على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل؛
كقوله تعالى:
{لَا جُنَاحَ2
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}
[البقرة: 236].
{لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا3
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
{وَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح، وبجواز
الإقدام خاصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشتمل على عقوبة من كفر وهو الغضب والعذاب العظيم، وقد
استثنى منه من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يعني: فلا غضب
ولا عذاب، أي: فلا إثم عليه؛ فالترخيص للمؤمن بالقول في
هذه الحالة إنما رفع عنه فيه الحرج والإثم، وهو معنى
الإباحة على أحد المعنيين السابقين في الكلام على المباح.
"د".
2 أي: لا تبعة مهر؛ فلا تطالبون به إلا بالمس ولو بدون فرض
للمهر، أو بفرض له ولو مع عدم المس, وهذا المعنى هو
الظاهر، وقيل: لا وزر، فكأنه لما كثر ذم الطلاق؛ فهموا أنه
لا يجوز، فقال: لا جناح، ولكن هذا المعنى كما ترى إذا نظر
فيه إلى بقية الكلام، وكلام المؤلف مبني على المعنى
الثاني. "د".
3 لما تحرجوا عن التجارة في موسم الحج؛ لأنها تستدعي جدالا
وقد نهوا عن الجدال، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فنزلت الآية. "د". "استدراك3".
ج / 1 ص -476-
وقال
تعالى:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ1}
[البقرة: 185].
وفي الحديث: "كنا نسافر
مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنا المقصر2, ومنا
المتم، ولا يعيب3، بعضنا على بعض"4.
والشواهد على ذلك كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إن فطر فعليه عدة، لكنه لم يأتِ فيه بما يقتضي جواز
الإقدام عليه، وظاهر أن الاستدلال بهذا المقدار من الآية
ضعيف، لكن ما بعدها وهو قوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} معناه: أنه لا يريد حرجكم؛ فهو يرفع عنكم إثم الإفطار في المرض
والسفر، وبهذا يظهر ما يستدل عليه المؤلف، أما مجرد عدم
ذكر حكم الإفطار من وجوب أو حرمة؛ فلا يفيد المطلوب،
وتأمل. "د".
2 من أقصر على لغة فيه. "د".
3 وذلك يدل على الإباحة. "د".
4 أخرجه الدارقطني في "السنن" "2/ 189"، ومن طريقه البيهقي
في "السنن الكبرى" "3/ 141"، وابن الجوزي في "التحقيق" "2/
1161- مع التنقيح" عن عائشة بلفظ: "إن النبي -صلى الله
عليه وسلم- كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم" بإسناد
فيه سعيد بن محمد بن ثواب، وهو مجهول الحال، وقد استنكر
هذا الحديث الإمام أحمد؛ كما قاله ابنه عبد الله في
"العلل" "3/ 29".
والذي صح من فعلها -رضي الله عنها- في "الصحيحين" وغيرهما،
ولذا قال البيهقي: "والصحيح عن عائشة أنها كانت تتم
موقوفا".
قلت: ويتأيد ذلك أن عروة لما ذكر إتمامها؛ قال: "تأولت ما
تأول عثمان"، فلو كان عندها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
رواية؛ لم يقل عروة: إنها تأولت.
واللفظ المذكور عند المصنف أخرجه أبو بكر الأثرم من حديث
أنس؛ غير أنه لا يصح، تفرد به زيد العمي وليس بشيء، وإنما
الحديث المعروف: "فمنا الصائم ومنا المفطر"، كذا في "تنقيح
التحقيق" "2/ 1164".
وانظر تفصيل ذلك في: "نصب الراية" "2/ 192"، و"الإرواء"
"رقم 563".
ج / 1 ص -477-
والثاني:
أن الرخصة
أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه؛ حتى يكون من ثقل
التكليف في سعة واختيار، بين الأخذ بالعزيمة، والأخذ
بالرخصة، وهذا أصله الإباحة؛ كقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
{قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}1 [الأعراف: 32].
{مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}
[النازعات: 33].
بعد تقرير نعم كثيرة.
وأصل الرخصة2 السهولة، ومادة "ر خ ص" للسهولة واللين؛
كقولهم: شيء رخص3: بيّن الرخوصة، ومنه الرخص ضد الغلاء،
ورخص له في الأمر فترخص هو فيه: إذا لم يستقص له فيه، فمال
هو إلى ذلك، وهكذا سائر استعمال المادة4.
والثالث:
أنه لو كانت5 الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا؛ كانت
عزائم لا رخصا، والحال بضد ذلك؛ فالواجب هو الحتم واللازم
الذي لا خيرة فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل زيادة "و".
2 أي: وقد ورد إطلاق الشارع هذه المادة بهذا المعنى؛ كما
في الحديث: "إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وكثيرا ما يرجعون في بيان المعاني الشرعية إلى معرفة المعاني
اللغوية، لكن ما هنا حكم شرعي، وكون الأحكام الشرعية من
إباحة أو غيرها يرجع فيها إلى مناسبات ومعانٍ لغوية هو كما
ترى يشبه أن يكون استئناسا لا دليلا في مسألة أصولية،
والمؤلف وإن كان من عادته أن يجمع على مدعاه ما يتيسر له
من أدلته قوية وغيرها؛ إلا أنه في العادة يجعل هذه بعد تلك
ويظهر على أسلوبه أن غرضه منها الاستئناس، لا أنها من صلب
الأدلة كظاهر صنيعه هنا. "د".
3 في "ط": "يرخص".
4 انظر: "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس.
5 في "م": "كان".
ج / 1 ص -478-
والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر؛ ولذلك لا يصح أن يقال في
المندوبات: إنها شرعت للتخفيف والتسهيل، من حيث هي مأمور
بها، فإذا كان كذلك؛ ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع
بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من
حيث هي رخصة.
فإن قيل: هذا معترض؛ من وجهين:
أحدهما:
أن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة؛ إذ لا
يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك
الشيء مباحا، فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا، أما أولا؛ فقد
قال تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وهما مما يجب الطواف بينهما، وقال تعالى:
{وَمَنْ تَأَخَّرَ1
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}
[البقرة: 203]، والتأخر مطلوب طلب الندب، وصاحبه أفضل عملا
من المتعجل، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى.
ولا يقال: إن هذه المواضع نزلت على أسباب حيث توهموا
الجناح، كما ثبت في حديث عائشة2؛ لأنا نقول: مواضع الإباحة
أيضا نزلت على أسباب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله:
{وَمَنْ
تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛
فإنه كما جاء في "روح المعاني" رد على الجاهلية حيث كان
بعضهم يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الحج، باب وجوب الصفا
والمروة وجعل من شعائر الله، 3/ 497-498/ رقم 1643" بسنده
إلى عروة؛ قال: "سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها:
أرأيت قول الله تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما
قلت يابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت "لا
جناح عليه أن لا يتطوف بهما"، ولكنها أنزلت في الأنصار،
كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كان
يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا
والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عن ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف
بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:
{إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية".
ج / 1 ص -479-
وهي
توهم الجناح، كقوله تعالى:
{لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ}1 [البقرة: 198].
وقوله:
{وَلا
عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ
تَأْكُلُوا2
مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى آخرها3.
وقوله:
{لَيْسَ
عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]. "استدراك4".
{وَلا جُنَاحَ4
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235].
جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج، وإذا
استوى الموضوعان5؛ لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج
والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص، فينبغي أن يؤخذ
حكمه من محل آخر ودليل خارجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قدمناه: "ص475- الاستدراك".
2 كان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعام فيقول: إني
لأجنح أن آكل منه "والجنح: الحرج"، ويقول: المسكين أحق به
مني؛ فنزلت الآية. ا. هـ. تيسير "د".
3 في "م": "آخره". وانظر: "أسباب النزول" "ص223-224"
للواحدي.
4 لم أرَ في كتب التفسير والحديث وأسباب النزول ذكرًا لسبب
نزول هذه الآية أو ما يفيد أنهم توهموا الحرج؛ فلذا قال:
"هذا وما كان مثله متوهم فيه الحرج"، وهو يشمل ما حصل فيه
التوهم بالفعل، ونزلت الآيات لنفي ذلك التوهم، وما كان
شأنه ذلك وإن لم يحصل فيه توهم بالفعل حتى كان سببا
للنزول، فيكون ذكر هذه الآية وجيها، لكنه لا يناسب قوله في
الدخول على هذه الآيات: "مواضع الإباحة أيضا نزلت على
أسباب وهي توهم الجناح؛ كقوله تعالى... إلخ"؛ فعله يريد
التوهم ولو شأنا وإن لم يكن سببا للنزول. "د".
5 في الأصل و"ط": "الموضعان".
ج / 1 ص -480-
والثاني:
أن العلماء
قد نصوا على رخص مأمور بها؛ فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب
عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية1 ونصوا على
طلب الجمع بعرفة والمزدلفة، وأنه سنة، وقيل في قصر
المسافر: إنه فرض أو سنة أو مستحب، وفي الحديث:
"إن الله يحب أن تؤتى رخصه2"3،
وقال ربنا تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلى كثير من ذلك؛ فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص
الإباحة دون التفصيل.
فالجواب عن الأول: أنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع
اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول
والاستعمال، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن
في الفعل على الجملة، فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص؛
فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب؛ فقد
يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما، بناء على استقرار
عادة تقدمت، أو رأي عرض، كما توهم بعضهم الإثم في الطواف
بالبيت بالثياب، وفي بعض المأكولات، حتى نزل:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ماء": "العادية".
2 أي: والمباح الصرف لا تتعلق به محبة الله تعالى، وأيضا
إرادته تعالى لنا اليسر ومحبته لذلك تقتضي أن الرخص محبوبة
له تعالى، وأقل ذلك أن تكون مطلوبة طلب المندوب. "د".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "2/ 108" من حديث ابن عمر بإسناد
صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أيضا من حديث ابن عمر, ابن حبان في "صحيحه" "914-
موارد"، وابن خزيمة في "صحيحه" "2/ 73"، والبيهقي في
"الكبرى" "3/ 140"، وابن منده في "التوحيد" "3/ 223-224/
رقم 716، 717"، وله شواهد من حديث عبد الله بن عباس وعبد
الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وأبي أمامة
وواثلة بن الأسقع، انظرها في "الإرواء" "رقم 564".
ج / 1 ص -481-
والأمهات وسائر من ذكر في الآية، وفي التعريض بالنكاح في
العدة وغير ذلك؛ فكذلك قوله:
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، يعطي معنى الإذن، وأما كونه واجبا1؛ فمأخوذ من
قوله:
{إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}
[البقرة: 158]، أو من دليل آخر؛ فيكون التنبيه هنا على
مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام، مع قطع
النظر عن جواز الترك أو عدمه.
ولنا أن نحمله2 على خصوص السبب، ويكون قوله في مثل الآية3:
{مِنْ شَعَائِرِ}
[البقرة: 158] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع،
أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح؛ فيستوي مع ما لا سبب
له في معنى الإذن، ولا إشكال فيه، وعلى هذا الترتيب يجري
القول في الآية الأخرى4، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
والجواب عن الثاني: أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر
والرخصة جمع بين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويكون مثاله أن يجاب سائل فاتته صلاة العصر مثلا وظن أنه
لا يجوز قضاؤها عند الغروب؛ فيقال له: لا جناح عليك إن
صليتها في هذا الوقت، فالغرض إجابته بمقدار ما يدفع شبهته،
لا بيان أصل وجوب العصر عليه. "د".
2 أي: فيكون المراد منه الطلب والوجوب، ولوحظ في هذا
التعبير السبب وهو كراهة المسلمين الطواف؛ لمكان إساف
ونائلة "الصنمين اللذين كانا يتمسح بهما أهل الجاهلية فوق
الصفا والمروة" فنزلت الآية بطلب السعي، ولوحظ في التعبير
تحرج المسلمين وكراهتهم، ويكون قوله:
{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} صارفا للفظ
{لَا جُنَاحَ} عن
أصل وضعه من رفع الإثم فقط. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "ويكون مثل قوله في الآية", وما
أثبتناه من الأصل و"ط".
4 إلا أنه لا يوجد فيها قرينة لفظية لصرف اللفظ عن ظاهره
إذا اعتبرنا السبب وجعلناها للطلب، نعم فيها قرينة حالية
وهي نفس السبب، وهو أن بعضهم كان يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم
المتأخر. "د".
ج / 1 ص -482-
متنافيين؛ فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة
أصلية1، لا إلى الرخصة بعينها، وذلك أن المضطر الذي لا يجد
من الحلال ما يرد به نفسه أرخص له في أكل الميتة؛ قصدا
لرفع الحرج عنه وردا2 لنفسه من ألم الجوع فإن خاف التلف
وأمكنه تلافي نفسه بأكلها؛ كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله
تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
[النساء: 29]، كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا
أمكنه تلافيه، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه؛
فلا شك أن3 الزوال عنه مطلوب، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع،
ومثل هذا لا يسمى رخصة؛ لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي،
فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء
نفسه؛ فلا يسمى رخصة من هذا الوجه وإن سمي رخصة من جهة رفع
الحرج عن نفسه.
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة،
وهذا فرد من أفراده، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع
الحرج، وهذا فرد من أفرادها؛ فلم تتحد الجهتان، وإذا تعددت
الجهات؛ زال التدافع، وذهب التنافي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: أكل الميتة حال الاضطرار وإن كان عزيمة من
حيث هو واجب استبقاء للمهجة فرخصة من جهة ما في الميتة من
الخبث المحرم، وواضح من كلامه أنه رخصة من جهة وعزيمة من
جهة أخرى، ولكن كلاهما حالة الاضطرار, وكلام المؤلف
يخالفه؛ إذ جعله رخصة في غير الاضطرار، وهو وقت الحرج
والمشقة الزائدة بألم الجوع الذي لا يصل إلى التلف، وعزيمة
إذا وصلت المسألة لتلف النفس لرجوعها لأصل كلي وهو وجوب
المحافظة على النفس، هذا ما يقتضيه بيانه الأول، لكنه قال
آخرا: "وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه" فكأنه في
حالة خوف التلف يصح أن يكون عزيمة ورخصة من جهتين، وحينئذ
يرجع إلى كلام الآمدي، ويوضحه الحاصل بعده؛ إلا أنه لا
يبقى لقوله أولا: "وذلك أن المضطر إلى قوله: فإن خاف"
فائدة في هذا المقام. "د".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "ردا" من غير واو.
3 مكررة في "د".
ج / 1 ص -483-
وأمكن
الجمع1.
وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه؛ فلا نسلم أنه عند القائل
بالطلب رخصة، بل هو عزيمة متعبد بها عنده، ويدل عليه حديث
عائشة -رضي الله عنها- في القصر: "فرضت الصلاة ركعتين
ركعتين"2 الحديث، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على
أنه رخصة؛ إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة3 على هذا
الاصطلاح العام، وإلا؛ فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة
لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة، أو يكون شرع الصلاة
خمسا رخصة؛ لأنها شرعت في السماء خمسين, ويكون القرض،
والمساقاة، والقراض، وضرب الدية على العاقلة رخصة، وذلك لا
يكون كما تقدم؛ فكل ما خرج4 عن مجرد الإباحة فليس برخصة.
وأما قوله:
"إن الله يحب
أن تؤتى رخصه"5؛ فسيأتي
بيانه إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تردد ابن دقيق العيد كإمام الحرمين في أن الواجبات هل
يوصف شيء منها بالرخصة؟ والحق ما أشار إليه المصنف، من أن
وصف العمل بالوجوب والرخصة معا لا يصح إلا مع اختلاف
الجهة؛ فإساغة الغصة بالخمر كتناول الميتة للمضطر هو من
حيث الدليل المانع رخصة، ومن حيث الوجوب عزيمة. "خ".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب تقصير
الصلاة إذا خرج من موضعه، 2/ 569/ رقم 1090", ومسلم في
"صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين
وقصرها، 1/ 478/ رقم 685" من حديث عائشة, رضي الله عنها.
3 أي: بل لا بد فيه من قيد "مستثنى من أصل كلي يقتضي
المنع" كما سبق له، وإذا كان الذي فرض أولًا هو الركعتين
فقط؛ فيكون هو الأصل فلا رخصة. "د".
4 أي: وهذا هو مدعاه في رأس المسألة؛ فثبت. "د".
5 مضى تخريجه في "ص480".
ج / 1 ص -484-
وأيضا؛
فالمباحات منها ما هو محبوب1، ومنها ما هو مبغض؛ كما تقدم
بيانه في الأحكام التكليفية؛ فلا تنافي.
وأما قوله:
{يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]2}
[البقرة: 185]، وما كان نحوه فكذلك أيضا؛ لأن شرعية الرخص المباحة
تيسير ورفع حرج، وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة:
إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ
بها فقيه نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده، وبيان
ذلك من أوجه:
أحدها:
أن سبب الرخصة المشقة3، والمشاق تختلف بالقوة والضعف
و4 بحسب الأحوال، وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب
الأزمان، وبحسب الأعمال؛ فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم
وليلة في رفقة مأمونة، وأرض مأمونة، وعلى بطء، وفي زمن
الشتاء، وقصر الأيام؛ كالسفر على الضد من ذلك في الفطر
والقصر، وكذلك الصبر5 على شدائد السفر ومشقاته يختلف؛
فرُبَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلا يلزم من كونه محبوبا ألا يكون مباحا، وأن يكون
مطلوبا كما هو مبنى الاعتراض. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط".
3 أسباب التخفيف في الشريعة حسبما دل عليه الاستقراء سبعة،
وهي: المرض، والسفر، والنسيان، والإكراه، والجهل، والحرج،
وعموم البلوى، والضعف المعنوي؛ كالأنوثة، والرقية، وجميعها
تدور حول المشقة. "خ".
4 لو حذفت الواو وجعل ما بعدها من الحيثيات أسبابا للقوة
والضعف في المشقة؛ لكان أوجه. "د".
5 ما قبله بيان لاختلاف المشقة قوة وضعفا باختلاف الأزمان
والأحوال الخارجة عن صفات الشخص، وهذا بيان لاختلاف
العزائم، ويصح أن يكون راجعا لاختلاف الأحوال بقطع النظر
عن قوة الإرادة وضعفها، ويكون مرجعه التعود وعدمه ولا دخل
لقوة العزيمة فيه. "د".
ج / 1 ص -485-
رجل
جلد ضَرِيَ على قطع المهامه1 حتى صار له ذلك عادة لا يحرج
بها ولا يتألم بسببها، يقوى على عباداته، وعلى أدائها على
كمالها وفي أوقاتها، ورب رجل بخلاف ذلك، وكذلك في الصبر
على الجوع والعطش، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة،
وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها، وكذلك المريض
بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، وإذا كان كذلك؛
فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص، ولا حد
محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها
السبب مقام العلة؛ فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود
المشقة، وترك كل مكلف على ما يجد، أي: إن كان قصر أو فطر؛
ففي السفر، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض،
وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر؛
فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر،
وهذا لا مِرْيَةَ فيه، فإذًا؛ ليست أسباب الرخص بداخلة تحت
قانون أصلي، ولا ضابط مأخوذ باليد، بل هو إضافي بالنسبة
إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادا للصبر
على الجوع، ولا تختل حاله بسببه، كما كانت العرب، وكما ذكر
عن الأولياء؛ فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف
ذلك2، هذا وجه.
والثاني:
أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف
عليه ما يثقل على غيره من الناس، وحسبك من ذلك أخبار
المحبين الذين صابروا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضري: تعود.
والمهامه: جمع مهمه: المفازة البعيدة. انظر: "لسان العرب"
"ض ر ا"، "م هـ م".
2 أي: فمن تختل حاله يجب عليه الترخص، ومن لا تختل وتلحقه
المشقة فقط يكون مخيرا، هذا مراده؛ فلذا لم يقل: "فلا
يترخص في أكلها" بعد وصفه بالمضطر. "د".
ج / 1 ص -486-
الشدائد، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم، من إتلاف
مهجهم إلى ما دون ذلك، وطالت عليهم الآماد وهم على أول
أعمالهم، حرصا عليها واغتناما لها، طمعا في رضى المحبوبين،
واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم
ونعيم، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم؛ فهذا
من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات، وذلك
يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات.
والثالث:
ما يدل على هذا من الشرع؛ كالذي جاء في وصال الصيام،
وقطع الأزمان في العبادات؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة
بالعباد، ثم فعله1 من بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- علما
بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم؛ ولذلك
أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن
حوائجهم، ولا يقطهم عن سلوك طريقهم؛ فلا حرج في حقهم،
وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته
وحاجاته2، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا، ويلزم منه أن
تكون الرخصة كذلك، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة3 على
نوع من أنواعها، وهو غير منتهض إلا أن يجعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي "ص526".
2 ما قرره المصنف من التفصيل في حكم الوصال منقول عن عبد
الله بن الزبير وجماعة من التابعين، وقال جمهور أهل العلم
بمنعه على وجه التحريم لحديث ابن عمر؛ أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- نهى عن الوصال، وحديث أبي هريرة:
"إياكم والوصال"،
وقوله, عليه الصلاة والسلام:
"إني لست كهيئتكم أو لست مثلكم"
صريح في أن الوصال من خصائصه. "خ".
3 لأن المشقة هنا نوع آخر غير السابق؛ فالمشقة فيما تقدم
تقتضي الترخص، وهنا المشقة تمنع مفارقة الحكم الأصلي وهو
النهي عن الوصال، وعدم المشقة يجعلهم يترخصون بفعل المنهي
عنه، وهو أيضا ليس حكما سهلا انتقل إليه من حكم صعب، فليست
من مواضع الرخصة؛ إلا أنه على كل حال وُجد فيه نوع من
المشقة ينبني عليه حكم في اجتهادهم، فالاستدلال به على أن
المشقة في النوع الأول تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص
يكون استدلالا بجنس المشقة لا بنفس نوع المشقة؛ فيكون من
الاستدلال بالمطلق على المقيد من حيث هو مقيد، أو بالعام
على الخاص من حيث هو خاص، وذلك لا يصح كما يأتي، إلا أن
يجعل منضما إلى ما قبله؛ فيفيد مجرد أن المشقة تختلف
باختلاف الأحوال والأشخاص وإن كان لا يفيد أن ذلك في موضوع
الرخصة المعروفة؛ فتنبه. "د".
ج / 1 ص -487-
منضما
إلى ما قبله؛ فالاستدلال بالمجموع صحيح, حسبما هو مذكور في
فصل العموم في كتاب الأدلة.
فإن قيل1: الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة؛ إما أن يكون
مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا
لعبادة، أو لا يمكن2 له ذلك على حسب ما أمر به، أو يكون
غير مؤثر، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه، فإن كان الأول؛
فظاهر أنه محل الرخصة، إلا أن يطلب فيه الأخذ بالرخصة
وجوبا3 أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم
تمامه، وإذا كانت مأمورا بها4؛ فلا تكون رخصة كما تقدم، بل
عزيمة، وإن كان الثاني؛ فلا حرج5 في العمل ولا مشقة، إلا
[ما]6 في الأعمال المعتادة، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة
للرخصة، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما؛
ارتفعت الرخصة من أصلها، والاتفاق على وجودها معلوم، هذا
خلف؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا السؤال وإن كان واردا على أصل وجود الرخصة، وكان
يناسبه أول الباب، لكن لمناسبة الكلام في المشقة؛ صح أن
يذكر هنا. "د".
2 في "ط": "يكمل".
3 أي: فيما يعجز فيه عن أصل العبادة والعادة، وقوله: "أو
ندبا"؛ أي: إذا كان لا يعجز ولكنه لا يكون كاملا على حسب
ما أمر به. "د".
4 في الأصل: "به".
5 فرض فيه أنه مغلوب صبره ومهزوم عزمه؛ فكيف مع هذا يقال:
لا مشقة إلا ما في الأعمال المعتادة؟ وذلك ينفي كونه حرجا
ينتهض علة للرخصة؛ فوضع السؤال هكذا غير وجيه؛ فتأمل. "د".
6 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
ج / 1 ص -488-
فما
انبنى عليه مثله.
فالجواب من وجهين:
أحدهما:
أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر؛ لأنه يقتضي أن تكون
الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا، إذ ما من رخصة تفرض
إلا وهذا البحث جارٍ فيها, فإذا كان مشترك الإلزام؛ لم
ينتهض دليلا1، ولم يعتبر في الإلزامات.
والثاني:
أنه إن سلم؛ فلا يلزم السؤال لأمرين:
أحدهما:
أن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه؛ لإمكان قسم
ثالث بينهما، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل، ولا
يكون المكلف رخي البال عنده2، وكل أحد يجد من نفسه في
المرض أو السفر حرجا في الصوم، مع أنه لا يقطعه عن سفره،
ولا يخل به في مرضه، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل، وكذلك
سائر ما يعرض من الرخص، جارٍ فيه هذا التقسيم، والثالث هو
محل الإباحة؛ إذ لا جاذب [له]3 يجذبه لأحد الطرفين.
والآخر:
أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه4 ليس من جهة كونه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه يقال للسائل: الاعتراض مشترك، فما هو جوابكم هو
جوابنا، يعني ومثله لا يذكر في طريق الإلزام. "د".
2 هو الذي قال فيه: "مغلوب صبره، مهزوم عزمه". "د".
قلت: وفي الأصل: "البال عنه".
3 ما بين المعقوفتين من الأصل و"م" و"خ" و"ط"، وليست في
"د".
4 راجع لقوله: "وإذا كانت مأمورا بها؛ فلا تكون رخصة"؛
فالجواب الأول: يراعى أن هناك محلا للرخصة التي الكلام
فيها وهي المباحة؛ لوجود قسم ثالث لم يذكره في السؤال، على
ما فيه مما أشرنا إليه، والجواب الثاني: ترق على هذا يقول:
الرخصة موجودة حتى في المأمور به، =
ج / 1 ص -489-
رخصة،
بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها، أو كونها تؤدي إلى
الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا؛ فالطلب من حيث
النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة، ولذلك نهي
عن الصلاة بحضرة الطعام، ومع مدافعة الأخبثين1، ونحو ذلك2؛
فالرخصة3 باقية على أصل الإباحة من حيث هي رخصة، فليست
بمرتفعة من الشرع بإطلاق، وقد مر بيان جهتي الطلب
والإباحة، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولكن الطلب من جهة غير جهة كونه رخصة؛ فجهة العزيمة
ظاهرة من نفس الطلب وجهة الرخصة أنه حكم سهل انتقل إليه من
حكم صعب مع بقاء دليل الصعب معمولا به في الجملة، وإنما
قلنا في الجملة؛ لأنه ليس معمولا به في حق الشخص الذي طولب
بالرخصة، ولا يخفى عليك أنهم اشترطوا بقاء العمل به في حق
الشخص نفسه، وإلا لخرج عن كونه رخصة إلى كونه عزيمة، قال
الأبهري: "إن المكلف إذا لم يبق مكلفا عند طرو العذر لم
تثبت رخصة في حقه؛ لأن الرخصة إنما تكون في الأحكام
التكليفية، والتكليف شرط لها فلا يكون عدم تحريم إجراء
كلمة الكفر على لسان المكره رخصة؛ لأن الإكراه يمنع
التكليف، ومثله يقال في الإكراه على إفطار رمضان، وإتلاف
مال الغير عدم تحريمه ليس رخصة، يعني لأن الدليل القائم
على التحريم ليس باقيا بالنسبة لهذا الشخص، فلا رخصة إلا
حيث يبقى دليل الصعب معمولا به بالنسبة للشخص نفسه، وبهذا
تعلم ما في هذا الجواب الثاني، هذا ولا يذهب عنك أنه عرف
الرخصة بما ينطبق على هذا فقال: "ما شرع من الأحكام لعذر
شاق استثناء عن حكم كلي"؛ فلا يرد عليه ما تقدم. "د".
1 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة
بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، 1/ 393/ رقم 560"،
وأبو داود في "السنن" "كتاب الصلاة، باب أيصلي الرجل وهو
حاقن، 1/ 22/ رقم 89"، وأحمد في "المسند" "6/ 43، 54، 73"
من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا:
"لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان".
2 كالصلاة في الأرض المغصوبة، يعني: فهناك جهتان تسلط على
إحداهما الطلب والعزيمة، وعلى الأخرى الرخصة، كما توجه
النهي والطلب في الصلاة في هذه المسائل على جهتين
مختلفتين، ولامانع من ذلك ما دامت الجهة لم تتحد؛ فالغرض
تقريب الجواب بذكر شبيه بالمقام. "د".
3 هذا التفريع ظاهر على الجواب الأول، أما الثاني؛ فلم
يبين فيه إلا أن الترخيص له جهة غير جهة الطلب، أما كونه
مباحا في هذه الحالة؛ فإنه لم يبينه هنا اعتمادا على ما
سبق، ولذا قال: "وقد مر بيان... إلخ". "د".
ج / 1 ص -490-
المسألة الرابعة:
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة؛ هل هي من قبيل الإباحة بمعنى
رفع الحرج، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل
والترك؟
فالذي يظهر من نصوص الرخص أنه بمعنى رفع الحرج، لا بالمعنى
الآخر، وذلك ظاهر في قوله تعالى:
{فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله في الآية الأخرى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]؛ فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك، وإنما ذكر أن
التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم.
وكذلك قوله:
{فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ولم يقل: فله الفطر، ولا فليفطر1، ولا يجوز له2، بل
ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر؛ فعدة من أيام أخر.
وكذلك قوله:
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ} [النساء: 101] على القول3 بأن المراد القصر من عدد الركعات، ولم
يقل: فلكم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ليس ظاهرا؛ لأن الكلام في أنه لم يذكر لفظا يدل على
التخيير بين الفعل والترك؛ فلا يتوهم أن يؤتى هنا بلفظ
الأمر أو النهي، وهو أيضا خلاف صنيعه السابق واللاحق. "د".
2 في "خ" و"ط": "لك", ومكانها في الأصل بياض.
3 نسب إلى طاوس والضحاك أن القصر يرجع لأحوال الصلاة من
الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه شاء، وحينئذ
يبقى الشرط في الآية على ظاهره
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ} إلا أنه على هذا أيضا تكون رخصة؛ فلماذا قيد بقوله: "على القول...
إلخ"؟ "د".
ج / 1 ص -491-
تقصروا، أو: فإن شئتم فاقصروا1.
وقال [تعالى]2 في المكره:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ...} الآية إلى قوله:
{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللَّهِ}
[النحل: 106]؛ فالتقدير أن من أكره؛ فلا غضب عليه، ولا
عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولم
يقل: فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق.
وفي الحديث: أكذب امرأتي؟ قال له:
"لا خير في الكذب". قال له:
أفأعدها وأقول لها؟ قال:
"لا جناح عليك3"4، ولم يقل له نعم، ولا افعل إن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل و"م": "أن تقصروا".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 يقتضي أن الوعد وهو عارف أنه لا يقدر على الوفاء، رخصة
للزوج بالنسبة لامرأته. "د".
4 أخرجه الحميدي في "مسنده" "رقم 329"، ثنا سفيان ثنا
صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار؛ قال: جاء رجل إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: هل علي جناح أن
أكذب أهلي؟ قال:
"لا؛ فلا يحب الله الكذب"، قال: يا رسول الله! أستصلحها وأستطيب نفسها. قال:
"لا جناح عليك".
هكذا وقع فيه عن عطاء بن يسار مرسلا، وهو قد أورده تحت
"أحاديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط, رضي الله عنها"؛
فلا أدري أسقط اسمها من السند أو الناسخ، أم الرواية عند
الحميدي هكذا مرسلا؟ والسند صحيح إلى عطاء بن يسار، قاله
شيخنا في "السلسلة الصحيحة" "رقم 498".
قلت: وأخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" من رواية صفوان بن
سليم عن عطاء مرسلا، وهو في "الموطأ" عن صفوان بن سليم
معضلا من غير ذكر عطاء، قاله الزبيدي في "شرح الإحياء" "7/
524".
إلا أن الحديث صحيح وله شواهد عديدة، انظرها في "السلسلة
الصحيحة" "رقم 498، 545".
ج / 1 ص -492-
شئت1.
والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور؛ أن
الجمهور أو الجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع
الإكراه مأجور وفي أعلى الدرجات، والتخيير ينافي ترجيح أحد
الطرفين على الآخر؛ فكذلك غيره2 من المواضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الكذب لا يجوز في شيء،
وحملوا الكذب الذي وردت الرخصة به في الحرب والإصلاح بين
الناس وحديث الرجل لزوجته على معنى التورية والتعريض، ومن
شهد رجلا يحرك لسانه بالكذب الصريح ولو ليتخذه وسيلة إلى
قضاء مصلحة؛ فإنه يحس كيف أخذ مقام ذلك الرجل ينحط في
نفسه، وكيف ابتدأت الثقة به تتداعى إلى انحلال، وهذا ما
ينبهك على أن الشريعة لا تأذن بالكذب؛ إلا أن تضيق على
الرجل دائرة المعاريض، ويضطر إليه في مثل تخليص النفس
البريئة من ظالم يريد إتلافها، ولعل السياسي يرى أنه أحرى
بهذه الرخصة حيث يضطر إليها في إحياء أمة أو إنقاذها من
قارعة الاستعمار، والمخلص من الكذب في حديث الزوجة أن
يعدها بالعطية في قوة العازم وينوي في ضميره التعليق على
تقدير الله ومشيئته. "خ".
2 تقدم له في مباح المباح أن الصبر على عدم ذكر الكلمة
مندوب، إلا أنه يبقى الكلام في قوله: "فكذلك غيره" الذي
يقتضي أن الجمهور أو الكل قائلون بأن ترك الرخصة أفضل، مع
أن أبا حنيفة يقول بوجوب القصر والفطر، وتسمى رخصة إسقاط
بحيث لا يصح منه الإتمام والصيام، والشافعي يقول: إذا زادت
المسافة عن مرحلتين؛ كانا أفضل من الصيام والإتمام، قال
عياض في "الإكمال": "كون القصر سنة هو المشهور من مذهب
مالك وأكثر أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف"، ونص
المالكية على أن رخصة الجمع بين الظهرين والعشاءين للمسافر
رخصة جائزة والجائز بمعنى التخيير؛ فانظر هذا مع ما قاله
المؤلف. "د".
قلت: وقد صرح بعض المالكية أن الجمع بين الظهرين والعشاءين
سنة، فقال ابن العربي في "القبس" "1/ 326-327": "لا يطمئن
إلى الجمع ولا يفعله إلا جماعة مطمئنة النفوس بالسنة، كما
لا يكع -أي: يبتعد وينحي- عنه إلا أهل الجفاء والبداوة".
انظر: "التاج والإكليل" "2/ 156"، و"الفواكه الدواني" "1/
271"، و"أسهل المدارك" "1/ 237"، وكتابي "الجمع بين
الصلاتين في الحضر" "ص117".
ج / 1 ص -493-
المذكورة وسواها.
وأما الإباحة التي بمعنى التخيير؛ ففي قوله تعالى:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، يريد: كيف شئتم: مقبلة، ومدبرة، وعلى جنب؛ فهذا
تخيير واضح، وكذلك قوله:
{وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}
[البقرة: 35]، وما أشبه ذلك، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف
فرق ما بين المباحين.
فإن قيل: ما الذي ينبني على الفرق بينهما؟
قيل: ينبني عليه فوائد كثيرة، ولكن العارض في مسألتنا أنا
إن قلنا: [إن]1 الرخصة مخير فيها حقيقة؛ لزم أن تكون مع
مقتضى العزيمة من الواجب المخير، وليس كذلك إذا قلنا: إنها
مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها؛ إذ رفع الحرج لا يستلزم
التخيير، ألا ترى أنه موجود مع الواجب؟ وإذا كان كذلك؛
تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود
شرعا، فإذا عمل بها؛ لم يكن بين المعذور وبين غيره في
العمل بها فرق، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن
اختار لنفسه الانتقال، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة:
الترخص المشروع ضربان:
أحدهما:
أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا؛ كالمرض
الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا، أو
عن الصوم لفوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين زيادة من "م" و"خ" و"ط".
ج / 1 ص -494-
النفس.
أو شرعا؛ كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في
الصلاة، أو على إتمام أركانها، وما أشبه ذلك.
والثاني:
أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها،
وأمثلته ظاهرة.
فأما الأول؛ فهو راجع إلى حق الله؛ فالترخص فيه مطلوب، ومن
هنا جاء:
"ليس من البر الصيام في السفر"1، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو:
"وهو يدافعه الأخبثان"2، و:
"إذا حضر3 العشاء
وأقيمت الصلاة؛ فابدءوا بالعشاء"4
إلى ما كان نحو ذلك؛ فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا
الأصل5، ولا كلام أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم،
ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف، وإن من لم
يفعل ذلك فمات؛ دخل النار.
وأما الثاني؛ فراجع إلى حظوظ العباد، لينالوا من رفق الله
وتيسيره بحظ؛ إلا أنه على ضربين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي تخريجه في "ص517".
2 مضى تخريجه "ص489"، والحديث صحيح.
3 في الأصل و"ط": "حضرت".
4 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الأذان، باب إذا حضر
الطعام وأقيمت الصلاة، 2/ 159/ رقم 671، وكتاب الأطعمة،
باب إذا حضر العشاء؛ فلا يعجل عن عشائه، 9/ 584/ رقم
5465".
5 فهو راجع إلى حق الله؛ لأنه لا يتأتى الحضور في الصلاة
والإتيان بها على كمالها مع هذه الأمور. "د".
ج / 1 ص -495-
أحدهما:
أن يختص
بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها؛ كالجمع
بعرفة والمزدلفة؛ فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق
بالعزائم، من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم، حتى عده
الناس سنة لا مباحا، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة؛ إذ
الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة؛ كما يقوله
العلماء في أكل الميتة للمضطر، فإذًا هي رخصة من حيث وقع
عليها حد الرخصة، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب
العزائم.
والثاني:
أن لا يختص بالطلب، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع
الحرج؛ فهو على أصل الإباحة، فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة
وإن تحمل في ذلك مشقة، وله الأخذ بالرخصة.
والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة؛ فلا حاجة
إلى إيرادها، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك؛ فنقول:
أما الأول، فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي؛ لزم
أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة، إذ قد صار إكمال العبادة هنا
والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها1،
فالإتيان بما قدر عليها2 منها -وهو مقتضى الرخصة- هو
المطلوب، وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا
الكتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: عدم تحصيلها، هذا فيما كان العجز* فيه بالطبع، أما
ما كان العجز فيه شرعا كأمثلته المتقدمة؛ فيكون رفعا
للكمال لا للأصل، وتأمله؛ فإن الحضور في الصلاة ليس ركنا
لقوله: "إتمام أركانها"؛ إن كان معناه هو معنى استيفاء
أركانها السابق له؛ فظاهر، وإن كان معناه الإكمال الزائد
على أصل الركن؛ فلا يتأتى فيه ظاهر دليله. "د".
2 في الأصل: "عليه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في المطبوع: "المعجز".
ج / 1 ص -496-
وأما
الثاني، فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب
[العمل بها على الخصوص؛ خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة
في نفسها، كما ثبت عند مالك]1 [الدليل على]2 طلب الجمع
بعرفة والمزدلفة؛ فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة،
ولا كلام فيه.
وأما الثالث؛ فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن3 في
الرخصة، أو في رفع الإثم عن فاعلها.
المسألة السادسة:
حيث قيل4 بالتخيير5 بين الأخذ بالعزيمة والأخذ
بالرخصة؛ فللترجيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 ما بين المعقوفتين من "ط" فقط.
3 ما تقدم له من الأدلة واضح في رفع الإثم لا في الإذن،
غايته أنه في آخر المسألة الرابعة بنى على كل من الوجهين
فائدته؛ فراجعها. "د".
4 وأما إذا قيل برفع الإثم عن فاعلها؛ فالظاهر أن الرجحان
أخذًَا للعزيمة مما تقدم له في آخر المسألة الرابعة من
مسائل المباح، حيث قال: "وأما قسم ما لا حرج فيه؛ فيكاد
يكون شبيها باتباع الهوى المذموم؛ لأنه كالمضاد لقصد
الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة" غير أن رجحان
العزيمة يحتاج إلى تقييد بما إذا لم تصر الرخصة مطلوبة
شرعا؛ كالجمع بمزدلفة مثل. "د".
5 مع كونه لم يرتض هذا، وأقام الدليل على أن الإباحة في
الرخصة بمعنى رفع الحرج، ولم يقم على هذا التخيير دليلا
فرع عليه ما أطال به في المسألتين السادسة والسابعة، ويبقى
الكلام في المراد بالترجيح بعد فرض التخيير: هل المراد به
أنه هو الأحب والمثاب عليه في نظر الشارع؟ ويدل على هذا ما
يأتي له في أدلة ترجيح الأخذ بالعزيمة المفيد أنهم لما
أخذوا بها مدحهم الله، وأن الأمر بالمعروف مستحب، وإن أدى
إلى الإضرار بالمال... إلخ، وإذا كان كذلك؛ فكيف يتأتى أن
يكون هنا تخيير؟ وقد تقدم له في المسألة الأولى في المباح
بمعنى المخير فيه سبعة أدلة على أنه لا فرق بين الفعل
والترك في نظر الشارع بالنسبة للمباح المخير فيه، وما
عورضت به الأدلة دفعه كله، وحقق أنه لا فرق بين الفعل
والترك؛ فلم يبق إلا أن يكون غرضه بالترجيح هنا أمرا آخر =
ج / 1 ص -497-
بينهما
مجال رحب، وهو محل نظر، فلنذكر جملا مما يتعلق بكل طرف من
الأدلة.
فأما الأخذ بالعزيمة؛ فقد يقال: إنه أولى لأمور:
أحدها:
أن العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به،
وورود الرخصة عليه وإن كان مقطوعا به أيضا؛ فلا بد أن يكون
سببها مقطوعا به في الوقوع، وهذا المقدار بالنسبة إلى كل
مترخص غير متحقق إلا في القسم المتقدم1، وما سواه لا تحقق
فيه، وهو موضع اجتهاد؛ فإن مقدار المشقة المباح من أجلها
الترخص غير منضبط، ألا ترى أن السفر قد اعتبر في مسافته
ثلاثة أميال فأكثر، كما اعتبر أيضا ثلاثة أيام بلياليهن،
وعلة القصر المشقة، وقد اعتبر فيها أقل ما ينطلق عليه اسم
المشقة، واعتبر في المرض أيضا أقل ما ينطلق عليه الاسم؛
فكان منهم من أفطر لوجع أصبعه، كما كان منهم من قصر في
ثلاثة أميال، واعتبر آخرون ما فوق ذلك، وكل مجال الظنون لا
موضع فيه للقطع، وتتعارض فيه الظنون، وهو محل الترجح2
والاحتياط؛ فكان من مقتضى هذا كله أن لا يقدم على الرخصة
مع بقاء احتمال في السبب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غير كونه محبوبا للشارع ومطلوبا ومثابا عليه؛ فلينظر ما
هو معنى كونه أولى وأرجح في نظر الشارع غير هذه المعاني؛
حتى لا يتنافى كلامه هنا مع كلامه في المباح فيا سبق؛ فقد
يقال: إن مراده بالترجح الأخذ بما هو أحوط فقط وإن لم يكن
بالغا مبلغ الاستحباب والثواب عليه؛ كما يشير إليه قوله:
"وهو محل الترجح والاحتياط"، ولكن يبقى الكلام في الأدلة
الآتية، وسيأتي له في آخر المسألة السابعة قبل الفصل الأول
أن الأحروية في الأخذ بالعزيمة تارة تكون بمعنى الندب
وتارة تكون بمعنى الوجوب؛ فتنبه للتوفيق بين كلامه في هذه
المواضع؛ فإنه يحتاج إلى فطنة وقوة ذاكرة للجمع بين أطراف
الكلام في هذا المقام الذي طالت جولته فيه. "د".
1 وهو ما ألحق بالعزائم بقسميه، وقوله: "وما سواه" هو
القسم الثالث. "د".
2 في "ماء": "الترجيح".
ج / 1 ص -498-
والثاني:
أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي؛ لأنه مطلق عام
على الأصالة في جميع المكلفين، والرخصة راجعة إلى جزئي
بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأحوال وبعض
الأوقات في أهل الأعذار، لا في كل حالة ولا في كل وقت، ولا
لكل أحد؛ فهو كالعارض الطارئ على الكلي، والقاعدة المقررة
في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي؛ فالكلي مقدم؛
لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية،
ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية بخلاف
ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية؛ فإن المصلحة الكلية
ينخرم نظام كليتها، فمسألتنا كذلك؛ إذ قد علم أن العزيمة
بالنسبة إلى كل مكلف أمر كلي ثابت عليه، والرخصة إنما
مشروعيتها أن تكون جزئية، وحيث يتحقق الموجب، وما فرضنا
الكلام فيه1 لا يتحقق في كل صورة تفرض إلا والمعارض الكلي
ينازعه؛ فلا ينجي من طلب الخروج عن العهدة إلا الرجوع إلى
الكلي، وهو العزيمة.
والثالث:
ما جاء في الشريعة من الأمر2 بالوقوف مع مقتضى الأمر
والنهي مجردا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتهض موجب
الرخصة، وأدلة ذلك لا تكاد تنحصر، من ذلك قوله تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}
[آل عمران: 173]؛ فهذا مظنة التخفيف، فأقدموا3 على الصبر
والرجوع إلى الله؛ فكان عاقبة ذلك ما أخبر الله به4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو القسم الثالث. "د".
2 وهل مع الأمر يكون مجرد احتياط، أم يقتضي هذا الأمر أن
يكون أفضل مثابا عليه؟
وكيف يبنى هذا على التخيير؟ "د".
3 كذا في الأصل و"ط"، وفي غيرهما: "فأقاموا".
4 ومنه:
{وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}، وأي
ثواب أجزل من رضوان الله؟ وفي الآية بعدها:
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}؛ فكلتا الآيتين فيهما الجزاء والثواب، ولا يكون مع التخيير،
وبالجملة لو ترك الأدلة التي فيها طلب الأخذ بالعزيمة
والثواب عليها؛ لكان موافقا لأصل الموضوع من بناء المسألة
على التخيير. "د".
ج / 1 ص -499-
وقال
تعالى:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ
زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ...} إلى آخر القصة حيث قال:
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 10-23]؛ فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال الشديد والأحوال
الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر1 وقد عرض النبي -صلى
الله عليه وسلم- على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار
المدينة؛ لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر؛ فأبوا من ذلك،
وتعززوا بالله وبالإسلام2؛ فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء
عليهم.
وارتدت العرب عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان
الرأي من الصحابة, رضي الله تعالى عنهم -أو من بعضهم غير
أبي بكر- استئلافهم بترك أخذ الزكاة ممن منعها منهم؛ حتى
يستقيم أمر الأمة، ثم يكون ما يكون؛ فأبى أبو بكر -رضي
الله عنه-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع حنجور بالضم؛ أي: الحلقوم. "ماء".
2 أخرج البزار في "مسنده" "رقم 1803- زوائده"، والطبراني
بإسناد فيه محمد بن عمرو -وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات؛
كما في "مجمع الزوائد" "6/ 132"- من حديث أبي هريرة -رضي
الله عنه- قال: "جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! شاطرنا تمر المدينة. فقال
صلى الله عليه وسلم:
"حتى أستأمر السعود". فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن مسعود، وسعد بن
خيثمة؛ فقال:
"إني قد علمت
أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث سألكم أن
تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا في
أمركم بعد".
فقالوا: يا رسول الله! أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله،
أو عن رأيك وهواك؟ فرأينا نتبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما
تريد الإبقاء علينا؛ فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء،
ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى. فقال رسول الله، صلى
الله عليه وسلم:
"هو ذا تسمعون
ما يقولون". قالوا:
غدرت يا محمد، فرد عليهم حسان بن ثابت بأبيات من الشعر.
وانظر: "شرح الزرقاني على المواهب" "3/ 131".
ج / 1 ص -500-
فقال:
"والله لأقاتلنهم1 حتى تنفرد سالفتي"، والقصة مشهورة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "لأقاتلهن".
2 انظر تفصيل ذلك عند البخاري في "الصحيح" "كتاب الزكاة،
باب وجوب الزكاة، 3/ 262/ رقم 1399، 1400، وكتاب استتابة
المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض
وما نسبوا إلى الردة، 12/ 275/ رقم 6924، 6925" مع كلام
الشارح ابن حجر في الموطن الثاني، والتعليل المذكور في عدم
قتال مانعي الزكاة اجتهاد من المصنف، والمذكور في الروايات
والشرح خلافه؛ فراجعه، والله الموفق والهادي.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "لا يظهر في هذه القضية معنى الرخصة
والعزيمة بعد قول أبي بكر -رضي الله عنه- في محاجة عمر:
"إن الزكاة حق المال"، وقول عمر, رضي الله عنه: "ما هو إلا
أن شرح الله صدر أبي بكر فعرف أنه الحق"، وإذا كان رأي أبي
بكر الصديق هو الحق، ورأي غيره خطأ؛ كان العمل على الرأي
الخطأ بعد أن انكشف أمره باطلا شرعا، والباطل لا يدخل في
معنى الرخصة بحال".
وكتب "د" ما نصه: "ولا يخفى على المطلع على أخبار هذه
الردة أنه لم يبق مذعن لأحكام الإسلام من قبائل العرب إلا
قريش وثقيف والأنصار، واضطرمت نار الفتنة في سائر الجزيرة،
فتجمع القبائل قرب المدينة، وأرسلوا وفودهم إلى أبي بكر
على أن يقيموا الصلاة ولا يؤدوا الزكاة؛ لأنهم اعتبروها
كإتاوة لا تتفق مع عزة نفوس العرب، وقام متنبئون من العرب
ذكورا وإناثا، فارتد معهم كثير ممن لم تخالط بشاشة الإيمان
قلوبهم وهكذا أصبح أكثر القبائل بين باغ ومرتد، بل شاع
تسمية الكل مرتدين "ردة عامة أو خاصة"، وكان جيش المسلمين
إذ ذاك مع أسامة بالشام؛ فكاد يجمع الصحابة على أنه ليس من
المصلحة حرب جزيرة العرب كلها، وأن الضرورة تقضي باستئلاف
مانعي الزكاة بعدم طلبها منهم؛ فأرادوا أن يأخذوا إذ ذاك
بالرخصة في عدم حرب هؤلاء البغاة حتى لا يتعرض الإسلام
لطعنة نجلاء تقضي عليه في مهده، وأن يتربصوا حتى يقوى أمر
المسلمين بانطفاء هذه الفتن، ثم يكون الرجوع للجهاد لإعلاء
كلمة الله الذي هو واجب ضروري من أقوى العزائم؛ فأبى أبو
بكر وتشدد وأقسم، وحاجهم؛ فحجهم، ورجعوا إلى رأيه، وقال
عمر كلمته المشهورة؛ فمعنى الحق في كلام عمر أنه الأوفق
بالمصلحة، وهذا لا ينافي أنه اجتهد ورأى المصلحة في الحرب،
واجتهدوا بقبول الرخصة خوفا على الإسلام؛ فحل الخلاف
الترجيح بين الأخذ بالعزيمة كما هو رأيه أو الأخذ بالرخصة
المتحقق سببها كما هو رأي غيره، ومعلوم أن أسباب الرخص
ظنية، والظنون تتعارض كما قال المؤلف، ثم انشرح صدرهم
لموافقته؛ فكان رأيه الأوفق؛ فأذعن البغاة، وشرد
المتنبئون، وسكنت الجزيرة، وسار الإسلام في طريقه.
وبهذا تبين أن هذا المثال كسابقه من الأمثلة التي يستدل
بها على ترجيح الأخذ بالعزيمة مع انتهاض موجب الرخصة؛ فلم
يكن رأي الصحابة خطأ في وجود سبب الرخصة، حتى يقال: إنه لا
يظهر في هذه القصة معنى الرخصة والعزيمة كما اعترض به
بعضهم".
ج / 1 ص -501-
وأيضا
قال الله تعالى:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية
[النحل: 106]؛ فأباح التكلم بكلمة الكفر، مع أن ترك ذلك
أفضل عند جميع الأمة، أو عند الجمهور1، وهذا جارٍ في قاعدة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أن الأمر مستحب، والأصل
مستتب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس، لكن يزول
الانحتام ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك.
ومن الأدلة قوله، عليه الصلاة والسلام:
"إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا"2؛ فحمله الصحابة -رضي الله عنهم- على عمومه، ولا بد أن يلحق من
التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة، ولم يأخذوه إلا على
عمومه حتى اقتدى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "جمهورها".
2 أخرج أبو يعلى في "المسند" "1/ 156/ رقم 167" -ومن طريقه
الضياء في "المختارة" "1/ 181-182/ رقم 89"- وعبد بن حميد
في "المنتخب" "رقم 42" بإسناد صحيح عن عمر؛ قال: قلت: يا
رسول الله! أليس قد قلت لي: إن خيرا أن لا تسأل أحدا من
الناس شيئا؟. قال:
"إنما ذاك أن تسأل، وما أتاك الله من غير مسألة؛ فإنما هو رزق رزقكه
الله".
قال الهيثمي في "المجمع": "هو في "الصحيح" باختصار، ورواه
أبو يعلى، ورجاله موثقون".
قلت: ليس في "الصحيح" ما أورده المصنف، والحديث أخرجه
البخاري في "صحيحه" "رقم 1473، 7193، 7164"، ومسلم في
"صحيحه" "رقم 1045"، والنسائي في "المجتبى" "5/ 105"،
والحميدي في "المسند" "رقم 21"، وأحمد في "المسند" "1/
21"، والدارمي في "السنن" "1/ 388"، وغيرهم كثير.
ج / 1 ص -502-
بهم
الأولياء، منهم أبو حمزة الخراساني؛ فاتفق له ما ذكره
القشيري1 وغيره من وقوعه في البئر، وقد كان هذا النمط مما
يناسب استثناؤه2 من ذلك الأصل.
وقصة الثلاثة الذين خلفوا3 حتى أتوا رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وصدقوه، ولم يعتذروا له في موطن كان مظنة
للاعتذار، فمدحوا لذلك، وأنزل الله توبتهم ومدحهم في
القرآن بعد ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم
أنفسهم، ولكن ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه؛ ففتح لهم
باب القبول، وسماهم صادقين لأخذهم بالعزيمة دون الترخص4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "رسالته" المشهورة "ص80"، وستأتي في "2/ 497".
2 فيكون رخصة، ولكنهم لم يأخذوا بها، وما ذاك إلا لأولوية
العزيمة. "د".
3 أخرج قصتهم بتفصيل البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي،
باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418، وكتاب التوبة،
باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769"،
وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء
وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وأحمد في "المسند" "3/
454، 456-459"، وغيرهم.
4 كان من السهل التمسك بالأعذار العامة في حق الثلاثة؛ إذ
كان الوقت قيظا والسفر بعيدا، وكان أوان جني الثمار، ولا
داعي لأعذار خاصة، وقد قال كعب: إنه أوتي جدلا لم يؤته
غيره، فكان يتأتى له أن يحسن الاعتذار مع لزوم الصدق،
وهلال بن أمية كان شيخا مسنا؛ فعذره الخاص مقبول أيضا، وقد
اعتذر بضعة وثمانون؛ فقبل منهم عليه الصلاة والسلام
واستغفر لهم، ولم يثبت أن هؤلاء جميعا منافقون وإن كانت
عبارة كعب في رواية القصة ربما يؤخذ منها أن أكثرهم كانوا
كذلك؛ فالثلاثة لم يرتضوا المواربة بالأعذار العامة أو
الأعذار الخاصة الضعيفة، وتحملوا مشاق الصدق وأثره؛ فمكثوا
في البلاء خمسين يوما يبكون وينتحبون، وكان لهم منجى منه
بعذر عام أو خاص صادق ولو ضعيفا، فكان يقبل منهم ويستغفر
لهم، فتركوا الرخصة لهذه العزيمة؛ كما قال المؤلف. "د".
وكتب "خ" ما نصه: "لا يظهر في هذه الواقعة وجه للرخصة حتى
يعقد بينها وبين اعترافهم بالذنب موازنة، ويقال: إن أولئك
الثلاثة رجحوا جانب العزيمة؛ إذ ليس لهم أعذار صادقة
يقدمونها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أنهم
لفقوا أعذارا ابتدعوها؛ لكانوا قد أضافوا إلى ذنب التخلف
عن الغزو ذنب الكذب المذموم، واعتذارات كاعتذارات
المنافقين وإن كانت نافعة لهم في الدنيا لا تدخل في قبل
الرخصة؛ إذ الرخصة رفع الحرج الذي لا يلحقه العقاب عاجلا
وآجلا".
ج / 1 ص -503-
وقصة
عثمان بن مظعون1 وغيره2 ممن كان في أول الإسلام لا يقدر
على دخول مكة إلا بجوار، ثم تركوا الجوار رضى بجوار الله،
مع ما نالهم من المكروه، ولكن هانت عليهم أنفسهم في الله؛
فصبروا إيمانا بقوله:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقال تعالى:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
وقال لنبيه عليه [الصلاة و] 3 السلام:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
وقال:
{وَلَمَنِ
انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ
مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
ثم قال:
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
ولما نزلت هذه الآية:
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284]؛ شق ذلك على الصحابة، فقيل لهم: قولوا: سمعنا
وأطعنا, فقالوها؛ فألقى الله الإيمان في قلوبهم؛ فنزلت:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أنه -رضي الله عنه- بعد رجوعه من الحبشة دخل في جوار
الوليد بن المغيرة، ثم رد جواره ورضاه بما عليه النبي, صلى
الله عليه وسلم. انظر: "الإصابة" "2/ 464".
2 كقصة أبي بكر لما قبل من ابن الدغنة ترك جواره وبقي
مستعلنا بشعائر الإسلام اعتمادا على جوار الله، مع تألب
الكفار عليه ألا يستعلن القرآن خشية على من كان يسمعه من
نسائهم وشبانهم أن يميلوا إلى الإسلام. "د".
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
ج / 1 ص -504-
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}
الآية [البقرة: 285]1.
وجهز النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة في جيش إلى الشام
قبيل موته2، فتوقف خروجه بمرضه -عليه السلام- ثم جاء موته؛
فقال الناس لأبي بكر: احبس أسامة بجيشه تستعين به على من
حاربك من المجاورين لك3. فقال: لو لعبت4 الكلاب بخلاخيل
نساء أهل المدينة؛ ما رددت جيشا أنفذه رسول الله, صلى الله
عليه وسلم. ولكن سأل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أين الرخصة هنا متى كانت آية
{آمَنَ الرَّسُولُ}
ناسخة؟ وكذا لو قيل: إنها محكمة على معنى "إن تبدوا ما
استقر في أنفسكم من الأخلاق الذميمة؛ كالكبر، والحسد،
وكتمان الشهادة، أو تخفوه؛ يحاسبكم به الله" فلا رخصة
أيضا، إنما يكون موضع رخصة إذا بقي الحكم الصعب معمولا به
ورفع الحرج في فعله عند المشقة، وأين هذا؟ فإذا كان مناط
دليله ما ذكره بقوله: "فشق عليهم فقيل لهم قولوا: سمعنا
فقالوها... إلخ" يعني: فليس كلامه فيما بين الآيتين بل في
الآية مع بقية القصة التي ذكرها، قلنا أيضا: نعم، يكون
تكليفا شاقا، ولكن أين الرخصة التي كان يمكنهم الأخذ بها
في مقابلته فتركوها؛ لأنه أفضل من الترخص؟ "د".
قلت: ومضى تخريج "سبب النزول" "ص93"، وانظر: "مجموع فتاوى
ابن تيمية" "14/ 130، 131".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة
من أرض الشام، 7/ 510/ رقم 4261"، من حديث عبد الله بن
عمر, رضي الله عنهما.
وانظر: "مسند الحب ابن الحب" "رقم 1، 2" لابن المرزبان،
و"طبقات ابن سعد" "4/ 67"، و"مسند أحمد" "5/ 205، 206،
209"، و"سنن أبي داود" "رقم 2616"، و"مسند الطيالسي" "رقم
526"، و"سنن ابن ماجه" "رقم 2843".
3 قامت القبائل المرتدة بمحاربة المسلمين حول المدينة
واشتد الأمر عليهم جدا، وفي الوقت نفسه لا يترخص باستبقاء
جيش أسامة وفيه وجوه الصحابة وأعيانهم وأقوى المقاتلة من
المؤمنين، لا شك أن هذا كان محل الرخصة في بقاء الجيش،
ولكنه أخذ بالعزيمة والعزم؛ فكان خيرا رضي الله عنه، قال
ابن مسعود: "لقد قمنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أن من الله علينا بأبي بكر، حتى
أجمعنا على ألا نقاتل على بنت مخاض؛ فعزم الله لأبي بكر
على قتالهم". "د".
4 المثبت من "ط"، وفي غيره: "لعب".
ج / 1 ص -505-
أسامة
أن يترك له عمر؛ ففعل، وخرج فبلغ الشام ونكى1 في العدو
بها؛ فقالت الروم: إنهم لم يضعفوا بموت نبيهم، وصارت تلك
الحالة هيبة في قلوبهم لهم2.
وأمثال هذا كثيرة مما يقتضي الوقوف مع العزائم وترك
الترخص؛ لأن القوم عرفوا أنهم مبتلون، وهو:
الوجه الرابع:
وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع
للمكلفين من أنواع المشاق؛ هي مما يقصدها الشارع3 في أصل
التشريع، أعني أن المقصود في التشريع إنما هو جارٍ على
توسط مجاري العادات، وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض
الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون
مقصودا له؛ لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية،
وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرا إلى أصل الحاجيات بحسب
الاجتهاد، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول
للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي، ولذلك لم يعمل
العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره؛ كالصنائع
الشاقة في الحضر، مع وجود المشقة التي هي العلة في مشروعية
الرخصة، فإذًا؛ لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض
المشقات التي لا تطرد ولا تدوم؛ لأن ذلك جارٍ أيضا في
العوائد الدنيوية، ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية؛ فصار
عارض المشقة -إذا لم يكن كثيرا أو دائما- مع أصل عدم
المشقة، كالأمر المعتاد أيضا؛ فلا يخرج عن ذلك الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: قتل فيهم وجرح. انظر: "لسان العرب" "ن ك ا".
2 انظر: "البداية والنهاية" "6/ 308-309".
3 ولا ينافيه ما يأتي في كتاب "المقاصد" من أن الشارع لم
يقصد من التكليف بالشاق الإعنات فيه، بل ما يأتي في
المسألتين السادسة والسابعة من النوع الثاني من المقاصد
يوضح هذا المقام. "د".
ج / 1 ص -506-
لا
يقال: كيف يكون اجتهاديا وفيه نصوص كثيرة؛ كقوله:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
وقوله:
{فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
[فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]1} الآية [البقرة: 184].
و"إن الله يحب أن تؤتى رخصه"2.
إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما في معناه.
لأنا نقول: حالة الاضطرار قد تبين أنه الذي يخاف معه فوت
الروح3، وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات،
وهو في نفسه عذر أيضا، وما سوى ذلك؛ فمحمول على تحقق
المشقة4 التي يعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو
الدنيوية، بحيث ترجع العزيمة إلى نوع من تكليف ما لا يطاق،
وهو منتفٍ سمعا، وما سوى ذلك من المشاق مفتقر إلى دليل يدل
على دخوله تحت تلك النصوص، وفيه تضطرب أنظار النظار كما
تقدم؛ فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه،
وسبب ذلك -وهو روح هذا الدليل- هو أن هذه العوارض الطارئة
تقع للعباد ابتلاء واختبارا لإيمان المؤمنين، وتردد
المترددين، حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة، ممن هو
في شك، ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت؛
لانخرمت الكليات كما تقدم، ولم يظهر لنا شيء من ذلك، ولم
يتميز الخبيث من الطيب؛ فالابتلاء في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة.
2 مضى تخريجه في "ص480".
3 أي: أو العضو. "د".
4 تقدم أن ذلك فيما لم يحد فيها حد شرعي، كالسفر مثلا وجمع
العشاءين بمزدلفة. "د".
ج / 1 ص -507-
التكاليف واقع، ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة؛ فيبتلى
المرء على قدر دينه، قال تعالى:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
{الم،
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ}
الآية [العنكبوت: 1-3].
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}
ثم قال:
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
[البقرة: 155] إلى آخرها.
فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها، ولم يخرجوا بها عن أصل ما
حملوه إلى غيره، وقوله:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} [البقرة: 155] يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى
جمهور الأحوال، كما تقدم في أحوال التكليف، فإذا كان
المعلوم من الشرع في مثل هذه الأمور طلب الاصطبار عليها،
والتثبت فيها، حتى يجري التكليف على مجراه الأصلي؛ كان
الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل
العمل على أصالته لتكميل الأجر.
والخامس:
أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق؛ كان
ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق،
فإذا أخذ بالعزيمة؛ كان حريا1 بالثبات في التعبد والأخذ
بالحزم فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "م": "حرى".
ج / 1 ص -508-
بيان
الأول أن
"الخير عادة، والشر لجاجة"1، وهذا مشاهد محسوس، لا يحتاج إلى إقامة دليل، والمتعود لأمر يسهل
عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره؛ كان خفيفا في نفسه أو
شديدا، فإذا اعتاد الترخص؛ صارت كل عزيمة في يده كالشاقة
الحرجة، وإذا صارت كذلك؛ لم يقم بها حق قيامها، وطلب
الطريق إلى الخروج منها، وهذا ظاهر، وقد وقع هذا المتوقع
في أصول كلية، وفروع جزئية، كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف
أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم
بالمنع والجواز، وغير ذلك مما نبه عليه في أثناء الكتاب أو
لم ينبه عليه.
وبيان الثاني ظاهر أيضا مما تقدم؛ فإنه ضده.
وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة
لا محققة، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها؛ فأدى ذلك
إلى عدم صحة التعبد، وصار عمله ضائعا وغير مبني على أصل,
وكثيرا ما يشاهد الإنسان ذلك؛ فقد يتوهم الإنسان الأمور
صعبة، وليست كذلك إلا بمحض التوهم؛ ألا ترى أن المتيمم
لخوف لصوص أو سباع، إذا وجد الماء في الوقت أعاد عند مالك،
لأنه عده مقصرا؛ لأن هذا يعتري في أمثاله مصادمة الوهم
المجرد الذي لا دليل عليه، بخلاف ما لو رأى اللصوص أو
السباع وقد منعته من الماء؛ فلا إعادة هنا، ولا يعد هذا
مقصرا، ولو تتبع الإنسان الوهم؛ لرمى به في مهاوٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: البقاء عليه والعودة إليه تمادٍ من صاحبه لأنه ممقوت
بخلاف الخير، انظر: "لسان العرب" "ل ج ج"، وسيأتي "2/ 150"
على أنه حديث، وهو في "مجمع الأمثال" للميداني "1/ 247/
رقم 1325" على أنه مثل.
وفي حاشية الأصل: "في القاموس: اللجاجة: الخصومة"، ثم ذكر
آخر المادة أنه يقال في مواده لجاجة؛ أي: خفقا من الجوع.
ج / 1 ص -509-
بعيدة،
ولأبطل عليه أعمالا كثيرة، وهذا مطرد في العادات
والعبادات1 وسائر التصرفات.
وقد تكون شديدة، ولكن الإنسان مطلوب بالصبر في ذات الله
والعمل على مرضاته، وفي "الصحيح":
"من يصبر
يصبره الله"2، وجاء في
آية الأنفال في وقوف الواحد للاثنين بعدما نسخ وقوفه
للعشرة:
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، قال بعض الصحابة لما نزلت: "نقص من الصبر بمقدار ما
نقص من العدد"3، هذا بمعنى الخبر، وهو موافق للحديث
والآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل من يهاب المصاعب وتساور فكره الأوهام لا يرتفع شأنه
في عمل الخير ولا يبعد شأوه في مجال الصلاح والتقوى، وكم
من إنسان يقضي حياته الطويلة دون أن يقوم فيها بعمل ذي
بال, ولا علة لوقوعه في هذا الخسران سوى تغلب الوهم
وانحلال العزم عند ما يلاقي مشقة أو تتمثل أمامه المخاوف،
وكذلك الجماعات لا تقع في خزي وخمول أو يضيع من يدها
استقلالها إلا أن تلقى أمرها إلى رأي من أسلمه فساد النشأة
وقلة التجارب إلى خور العزيمة، والانقياد إلى الأوهام.
"خ".
2 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ رقم 1469،
وكتاب الرقائق، باب الصبر عن محارم الله، 13/ 303/ رقم
6470"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزكاة، باب فضل التعفف
والصبر، 2/ 729/ رقم 1053" من حديث أبي سعيد الخدري وفيه:
"ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن
يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "ومن يتصبر".
3 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب التفسير، باب
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}، 8/ 312/ رقم 4653"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب
التولي يوم الزحف/ رقم 2646"، وابن الجارود في "المنتقى"
"رقم 1049"، وابن المبارك في "الجهاد" "237"، والبيهقي في
"الكبرى" "9/ 76"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 40"،
والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" "ص157" عن ابن عباس- رضي
الله عنهما- قال: "لما نزلت
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}؛ شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء
التخفيف، فقال:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة؛ نقص من الصبر بقدر ما خفف
عنهم".
لفظ البخاري.
ج / 1 ص -510-
والسادس:
أن مراسم
الشريعة مضادة للهوى من كل وجه؛ كما تقرر في كتاب المقاصد
من هذا الكتاب، وكثيرا ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة
مخالفة الهوى، واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة؛ فالمتبع
لهواه يشق عليه كل شيء، سواء أكان في نفسه شاقا أم لم يكن؛
لأنه يصده عن مراده، ويحول بينه وبين مقصوده، فإذا كان
المكلف قد ألقى هواه ونهى نفسه عنه، وتوجه إلى العمل بما
كلف به؛ خف عليه، ولا يزال بحكم الاعتياد يداخله حبه،
ويحلو له مره، حتى يصير ضده ثقيلا عليه، بعدما كان الأمر
بخلاف ذلك؛ فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض المكلف؛
فرب صعب يسهل لموافقة الغرض، وسهل يصعب لمخالفته.
فالشاق على الإطلاق في هذا المقام إنما هو1 ما لا يطيقه من
حيث هو مكلف2؛ كان مطيقا له بحكم البشرية، أم لا، هذا لا
كلام فيه, إنما الكلام في غيره مما هو إضافي، لا يقال فيه:
[إنه]3 مشقة على الإطلاق، ولا إنه ليس بمشقة على الإطلاق،
وإذا كان دائرا بين الأمرين، وأصل العزيمة حقيقي ثابت؛
فالرجوع إلى أصل العزيمة حق، والرجوع إلى الرخصة ينظر فيه
بحسب كل شخص، وبحسب كل عارض، فإذا لم يكن في ذلك بيان
قطعي، وكان أعلى ذلك الظن الذي لا يخلو عن معارض؛ كان
الوجه الرجوع إلى الأصل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": "المقام وهو"، وفي "م": "المقام هو".
2 وهو الذي أشار إليه أول المسألة الخامسة بقوله: "أو شرعا
كالصوم..." إلخ. "د".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل و"ط".
ج / 1 ص -511-
حتى
يثبت أن المشقة المعتبرة في حق هذا الشخص حق، ولا تكون حقا
على الإطلاق؛ حتى تكون بحيث لا يستطيعها، فتلحق حينئذ
بالقسم الأول الذي لا كلام فيه، هذا إذا لم يأتِ دليل من
خارج يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقا؛ كفطره عليه
[الصلاة و] السلام1 في السفر2 حين أبى الناس من الفطر وقد
شق الصوم عليهم؛ فهذا ونحوه أمر آخر يرجع إلى ما تقدم من
الأقسام، وإنما الكلام في غيره.
فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى، والأخذ بها في محال
الترخص أحرى.
فإن قيل: فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو
المندوب على الإطلاق3، أم ثَمَّ انقسام؟
فالجواب: أن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات؛ وهي:
المسألة السابعة:
فالمشقات4 التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على
ضربين:
أحدهما:
أن تكون حقيقية، وهي5 معظم ما وقع فيه الترخص؛ كوجود
المشقة المرضية والسفرية، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع.
والثاني:
أن تكون توهمية مجردة، بحيث لم يوجد السبب المرخص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
2 سيأتي نصه في التعليق على "ص523" وتخريجه هناك.
3 بقطع النظر عن قوله قبله: "وإنما الكلام في غيره؛ فثبت
أن الوقوف مع العزائم أولى"؛ فهو سؤال من يريد التثبت من
الموضوع بأكمله، بالجواب المبني على التفصيلات التي يذكرها
بعد ما ذكر تفاصيل كثيرة لم تنضبط بضابط مملوك باليد؛
فغرضه التمهيد لإعضاء هذا الضابط. "د".
4 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل: "في المشقات".
5 كذا في "ط"، وفي غيره: "وهو".
ج / 1 ص -512-
لأجله،
ولا وجدت حكمته1, وهي المشقة، وإن وجد منها شيء، لكن غير
خارج عن مجاري العادات.
فأما الضرب الأول:
فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا
يطيقه طبعا أو شرعا، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا
متوهما، أو لا، فإن كان الأول؛ فرجوعه إلى الرخصة مطلوب،
ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه؛ لأن الرخصة هنا حق
لله، وإن كان الثاني -وهو أن يكون مظنونا- فالظنون تختلف،
والأصل البقاء على أصل العزيمة، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى
العزيمة، ومتى ضعف الظن قوي؛ كالظان2 أنه غير قادر على
الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه، ولكن؛ إما أن
يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين، وهو أنه دخل في الصوم
مثلا فلم يطق الإتمام، أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام
فقعد فهذا هو الأول إذ ليس عليه ما لا3 يقدر عليه، وإما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا لم يوجد السبب؛ فلا توجد حكمته، فما فائدة ذكره؟ وهو
لم يدرج في التوهمية صورة وجوب السبب فعلا مع عدم وجود
حكمته، أو وجودها غير خارجة عن مجاري العادات، بل قصرها
على ما لم يتحقق فيه السبب، وهذا متعين، وإلا كل مثل السفر
مع الترفه مما لا يصح فيه القصر والفطر أو مما يختلف فيه،
وليس كذلك. "د".
2 المثال لقوة الظن وضعفه باعتبار الفرضين، وقوله: "دخل في
الصوم مثلا، فلم يطق الإتمام، فلم يقدر؛ فقعد"، أي: إنه
جرب نفسه في هذا المرض قبل هذا اليوم في الصوم، أو قبل هذه
الصلاة في صلاة سابقة؛ فلم يطق, فصار لذلك عنده ظن قوي في
الصلاة الحاضرة أو اليوم الحاضر بأنه لا يقدر، وليس الغرض
أنه فعل ذلك في نفس هذا اليوم للصوم أو نفس هذه الصلاة
فعجز؛ لأنه حينئذ يكون العجز محققا لا مظنونا؛ فيختل نظم
كلامه، وهو ظاهر، فقوله: "فهذا هو الأول"؛ أي: حكمه حكمه،
وقول: "إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه"؛ أي: ولو بظن قوي
كمثاله. "د".
3 سقطت من ناسخ الأصل، واستظهرها ثم قال: "وبه يستقيم
الكلام"، وفي "ط": "عليه غير ما يقدر".
ج / 1 ص -513-
أن
يكون مستندا إلى سبب مأخوذ1 من الكثرة والسبب موجود عينا
بمعنى أن المرض حاضر، ومثله لا يقدر معه على الصيام ولا
على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة، من غير أن
يجرب نفسه في شيء من ذلك؛ فهذا قد يلحق بما قبله، ولا يقوى
قوته، أما لحوقه به؛ فمن جهة وجود السبب، وأما مفارقته له؛
فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد2 عنده؛ لأنه إنما يظهر عند
التلبس بالعبادة، وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب في
العزيمة، حتى يتبين له قدرته عليها أو3 عدم قدرته؛ فيكون
الأولى هنا الأخذ بالعزيمة، إلى أن يظهر بعد ما يبتنى
عليه.
وأما الضرب الثاني:
وهو أن تكون توهمية، بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة؛
فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة في أنه يوجد بعد أو لا،
فإن كان الأول؛ فلا يخلو أن يوجد أو لا، فإن وجد فوقعت
الرخصة موقعها؛ ففيه خلاف، أعني في إجزاء العمل بالرخصة لا
في جواز الإقدام ابتداء؛ إذ لا يصح4 أن يبنى حكم على سبب
لم يوجد بعد، بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه وإن
وجد السبب وهو المقتضى للحكم؛ فكيف إذا لم يوجد نفس السبب؟
وإنما الكلام في نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على
عادته في أدوارها؛ فيفطر قبل مجيئها، وكذلك الطاهر إذا بنت
على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم، وهذا كله أمر
ضعيف جدا، وقد استدل بعض العلماء على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مأخوذ أثره وما يترتب عليه من كثرة التجارب في هذا
السبب الحاصل بالفعل، وتكون التجارب من غيره، أو من نفسه
في زمن بعيد لا يقاس عليه، حتى يغاير ما قبله. "د".
2 أي: بمقتضى ظن قوي جاء له من تجربة في نفسه، وإنما عنده
ظن بسبب كثرة التجارب في غيره، أو في نفسه لكن في زمن مضى
بعيدا بحيث يحتمل تغير الحال. "د".
3 في النسخ المطبوعة: "وعدم"، والمثبت من الأصل و"ط".
4 أي: فلا يجوز الإقدام عليه. "د".
ج / 1 ص -514-
صحة
هذا الاعتبار في إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]؛ فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم1 بأن الغنائم ستباح
لهم وهذا غير ما نحن فيه؛ لأن كلامنا فيما يترتب على
المكلف من الأحكام الشرعية، وترتب العذاب هنا ليس براجع
إلى ترتب شرعي، بل هو أمر إلهي كسائر العقوبات اللاحقة
للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه، من قوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة؛ فلا إشكال هنا.
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة
راجعة إلى قسم التوهمات، وهي مختلفة، وكذلك أهواء النفوس؛
فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها؛ فالصواب الوقوف مع أصل
العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة، فإن الصبر2 أولى ما
لم يؤدِّ ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه، وحقيقة ذلك
أن لا يقدر على الصبر؛ لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه،
فأنت ترى بالاستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها
بل حكمها أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من
الأحوال، فإذًا ليست المشقة بحقيقية، والمشقة الحقيقية هي
العلة الموضوعة للرخصة، فإذا لم توجد؛ كان الحكم غير لازم،
إلا إذا قامت المظنة -وهي السبب3- مقام الحكمة؛ فحينئذ
يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على أحد التفاسير في الآية، وعده في "روح المعاني" [10/
34] تكلفا فراجعه. "د".
2 حتى مع المخلة الفادحة، هذا غير واضح، وسيأتي له في
الفصل التالي أن الرخص المحبوبة ما ثبت الطلب فيه وهو ما
فيه المشقة القادحة التي ينزل عليها مثل قوله, عليه الصلاة
والسلام:
"وليس من البر الصيام في السفر"؛
فكيف تكون مطلوبة والصبر على العزيمة أولى؟ "د".
3 أي: الذي وضعه الشارع كالسفر. "د".
ج / 1 ص -515-
السبب
منتهضا على الجواز لا على اللزوم؛ لأن المظنة لا تستلزم
الحكمة التي هي العلة على كمالها؛ فالأحرى البقاء مع
الأصل، وأيضا؛ فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على
المشقة الحقيقية, والحقيقية ليست في الوقوع على وزان واحد،
فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا.
وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا؛ فإنها ضد الأولى؛ إذ
قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن
أهوائها وعوائدها، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى
كل من هويت نفسه أمرا، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر
بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص؟ كقوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الآية [التوبة: 49]؛ لأن الجد بن قيس قال: ائذن لي في التخلف عن
الغزو، ولا تفتني ببنات الأصفر؛ فإني لا أقدر على الصبر
عنهن1، وقوله تعالى:
{وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ
حَرًّا} الآية
[التوبة: 81]، ثم بين العذر الصحيح في قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}
[التوبة: 91] الآيات؛ فبين أهل الأعذار هنا، وهم الذين لا
يطيقون الجهاد، وهم الزَّمْنى، والصبيان، والشيوخ،
والمجانين، والعميان، ونحوهم، وكذلك من لم يجد نفقة أصلا,
ولا وجد من يحمله وقال فيه:
{إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}
[التوبة: 91]، ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من
أنفسهم بقية في طاعة الله، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{انْفِرُوا خِفَافًا
وَثِقَالًا}؟ [التوبة: 41] وقال:
{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية [التوبة: 39]؛ فما ظنك بمن كان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 308" من حديث ابن
عباس -رضي الله عنهما- وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف،
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "14/ 287-288" عن يزيد بن
رومان والزهري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر وغيرهم
به.
وهذه مقاطيع لا تثبت.
ج / 1 ص -516-
عذره
هوى نفسه؟!
نعم، وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود
الشارع فيها، وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم
وأحوالهم وتنعماتهم، على وجه لا يفضي إلى مفسدة، ولا يحصل
بها المكلف على مشقة، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه
على الوجه المحدود له؛ فلذلك شرع له ابتداء رخصة السَّلَم،
والقِرَاض، والمساقاة، وغير ذلك مما هو توسعة عليه، وإن
كان فيه مانع في قاعدة أخرى1، وأحل له من متاع الدنيا
أشياء كثيرة، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه
مخرجا وإليه سبيلا فلم يأته من بابه؛ كان هذا هوى شيطانيا
واجبا عليه الانكفاف2 عنه؛ كالمولع بمعصية من المعاصي، فلا
رخصة له ألبتة؛ لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف
الرخص المتقدمة، فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت
بميزانها.
فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة،
والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، وإذا لم يوجد شرطها؛
فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل
العزيمة، إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب،
وتارة تكون من باب الوجوب، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا مبني على ما يقوله بعض الفقهاء من أن الأصل في هذه
الأبواب المنع؛ ظنا منهم أن القرض والمساقاة من نوع
الإجارة، وقد اختل منهما شرط صحتهما الذي هو العلم بالعوض
والمعوض، وأن السلم من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده,
الوارد في حقه النهي، وقد حقق ابن القيم نقلا عن أستاذه
ابن تيمية أن القرض والمساقاة ليسا من الإجارة في شيء؛ إذ
الإجارة ما يقصد منها العمل المعلوم المقدور على تسليمه,
وأما القرض والمساقاة؛ فإنهما من قبيل المشاركة؛ هذا
بماله، وهذا ببدنه، وكذلك السلم غير داخل في حديث نهي
الإنسان عن بيع ما ليس عنده؛ إذ المراد من الحديث النهي عن
بيع العين أو ما في الذمة مما لا يقدر على تسليمه. "خ".
2 كذا في "ط", وفي غيره: "الانفكاك".
ج / 1 ص -517-
فصل:
- ومن الفوائد في هذه الطريقة: الاحتياط في اجتناب الرخص
في القسم المتكلم فيه، والحذر من الدخول فيه؛ فإنه موضع
التباس، وفيه تنشأ خدع الشيطان، ومحاولات النفس، والذهاب
في اتباع الهوى على غير مَهْيَع1، ولأجل هذا أوصى شيوخ
الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أصولهم
الأخذ بعزائم العلم، وهو أصل صحيح مليح, مما أظهروا من
فوائدهم رحمهم الله، وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا
به، أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات، أو كان ابتدائيا
كالمساقاة2 والقرض؛ لأنه حاجي، وما سوى ذلك؛ فاللَّجَأ إلى
العزيمة.
- ومنها: أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها؛
فقوله, عليه الصلاة والسلام3:
"إن الله يحب
أن تؤتى رخصه"4؛ فالرخص
التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها، فإنا إذا حملناها على
المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله, صلى الله
عليه وسلم:
"ليس من البر الصيام في السفر"5،
كان موافقا لقوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريق مهيع: واضحة بينة. انظر: "لسان العرب" "هـ ي ع".
2 لا داعي لهذا؛ فإنه من الإطلاق الذي قال فيه: إنه "لا
تفريع يترتب عليه وإنما ذكر لمعرفة أنه إطلاق شرعي لا
غير". "د".
3 في "م": "عليه السلام".
4 مضى تخريجه في "ص480".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم، باب قول النبي
-صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر:
"ليس من البر الصوم في السفر"،
4/ 183/ رقم 1946" -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" "6/
308/ رقم 1864"- والبيهقي في "السنن" "4/ 242" من طريق
آدم، وأبو داود في "الصوم، 2/ 796/ رقم 2407"، والدارمي في
"الصوم، ص405"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" "2/ 62" من
طريق أبي الوليد، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" "رقم
1721" =
ج / 1 ص -518-
تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28].
بعدما قال في الأولى:
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
[البقرة: 184].
وفي الثانية:
{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
[النساء: 25].
فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق؛ ليكون على
بينة في المجاري الشرعيات، ومن تتبع الأدلة الشرعية في هذا
المقام؛ تبين له ما ذكر أتم بيان، وبالله التوفيق، هذا
تقرير وجه النظر في هذا الطرف.
فصل:
وقد يقال: إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه:
أحدها1:
أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا؛ فأصل الترخص قطعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -ومن طريقه البيهقي في "السنن" "4/ 242"- والنسائي في
"الصيام، 4/ 177/ رقم 2262"، وأحمد في "مسنده" "3/ 319" من
طريق يحيى بن سعيد، وأيضا النسائي في "الصيام، 4/ 177/ رقم
2262" من طريق خالد بن الحارث بدون القصة، والدارمي في
"الصوم، ص405" عن هشام بن القاسم، والطحاوي في "شرح معاني
الآثار" "2/ 62" من طريق روح بن عبادة، وابن أبي شيبة في
"المصنف" "3/ 14"، وعنه مسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام،
باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، 2/ 786/ رقم
1115"، والفريابي في "الصيام" "رقم 78، 79"، وابن خزيمة في
"الصحيح" "3/ 254/ رقم 3017" عن غندر، كلهم عن شعبة عن
محمد بن عبد الرحمن بن سعد عن محمد بن عمرو عن جابر بن عبد
الله مرفوعا.
وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة كما تراه مبسوطا عند
الفريابي في "الصيام" "ص69-76".
1 هذا معارض للوجه الأول من الوجوه الستة التي أقامها على
ترجيح العزيمة، وهذا الوجه لا يفيد ترجح الرخصة، إنما يفيد
-كما قال- أن العزيمة ليست بأولى؛ لأن غلبة الظن في وجود
سبب الرخصة لا تجامع القطع في العزيمة الذي كان مناط
الترجيح في ذلك الوجه. "د".
ج / 1 ص -519-
أيضا،
فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية، فإن
الشارع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع، فمتى ظن
وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار؛ فقد قام الدليل
القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى
الدلائل القطعية.
ولا يقال: إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن؛ لأنا
نقول: إنما ذلك في باب تعارض الأدلة، بحيث يكون أحدهما
رافعا لحكم الآخر جملة، أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع
الخاص، أو المطلق مع المقيد؛ فلا، ومسألتنا من هذا الثاني
لا من الأول؛ لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا
حرج، فإن كان الحرج؛ صح اعتباره واقتضى العمل بالرخصة.
وأيضا؛ فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق، كما إذا
كان الأصل التحريم في الشيء، ثم طرأ سبب محلل ظني، فإذا
غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد، وإن أمكن
أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره؛ فالعمل على مقتضى
الظن صحيح، وإنما كان هذا لأن الأصل وإن كان قطعيا؛
فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن؛ إذ لا يصح بقاء
القطع بالتحريم مع وجود الظن هنا، بل مع الشك؛ فكذلك ما
نحن فيه، وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقي للقطع المتقدم
حكما، وغلبات الظنون معتبرة؛ فلتكن معتبرة في الترخص.
والثاني1:
أن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معارض للوجه الثاني في ترجيح العزيمة، وهو أيضا إنما
يفيد أنه لا ترجح للعزيمة. "د".
ج / 1 ص -520-
فذلك
غير مؤثر وإلا لزم أن يقدح فيما أمر به1 بالترخص، بل
الجزئي إذا كان مستثنى من كلي؛ فهو معتبر في نفسه لأنه من
باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للإطلاق، وقد مر في
الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني؛ فهذا أولى2،
وأيضا إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني، دون أصل
العموم وهو قطعي؛ فكذلك هنا، وكما لا ينخرم الكلي بانخرام
بعض جزئياته -كما هو مقرر في موضعه من هذا الكتاب- فكذلك
هنا، وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها، وذلك فاسد؛
فكذلك ما أدى إليه.
والثالث3:
أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ
القطع؛ كقوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وسائر ما يدل على هذا المعنى؛ كقوله:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ
ضَعِيفًا} [النساء: 28].
{مَا كَانَ
عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "منه".
2 لأنه تخصيص قطعي بقطعي، فإن ورود الرخصة مقطوع به أيضا،
وقوله: "وأيضا" يعني بعد تسليم أن النظر في الرخصة إلى
سببها، وهو موضع اجتهاد وظن لا قطع؛ فإن التخصيص كله يرجع
إليه، ولو كان بظني في مقابلة عموم قطعي، وقد راعى في هذا
معارضة كل ما سبق في الوجه الثاني تفصيلا. "د".
3 وهذا معارض للثالث، وهو أن الأدلة جاءت بالوقوف عند حد
الأمر والنهي مجردا، والصبر على حلوه ومره وإن انتهض موجب
العزيمة، أي: إن هذا يعارضه الأدلة الدالة على التيسير
ورفع الحرج عن الأمة والامتنان به عليها، وهذا أيضا إنما
يفيد أن العزيمة ليست بأولى كأصل دعواه، ثم أضرب عنه في
آخر الدليل بما يقتضي ترجح الرخصة، ويكون فيه المدعى
وزيادة. "د".
وانظر في تفصيل ما ذكره المصنف هنا: "مجموع فتاوى ابن
تيمية" "10/ 622".
ج / 1 ص -521-
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ}
[الأعراف: 157].
وقد سمي هذا الدين "الحنيفية السمحة"1 لما فيها من التسهيل
والتيسير، وأيضا قد تقدم في المسائل2 قبل هذا أدلة إباحة
الرخص، وكلها وأمثالها جارية هنا، والتخصيص ببعض الرخص دون
بعض تحكم من غير دليل.
ولا يقال: إن المشقة إذا كانت قطعية؛ فهي المعتبرة دون
الظنية.
فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم، وإنما يقع الفرق في
التعارض، ولا تعارض في اعتبارهما معا ههنا، وإذ ذاك لا
يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى، بل قد يقال: الأولى
الأخذ بالرخصة؛ لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا؛ فإن
العبادة المأمور بها واقعة لكن على مقتضى الرخصة، لا أنها
ساقطة رأسا بخلاف العزيمة؛ فإنها تضمنت حق الله مجردا،
والله تعالى غني عن العالمين، وإنما العبادة راجعة إلى حظ
العبد في الدنيا والآخرة؛ فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين
فيها.
والرابع3:
أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن
تحمل المشاق؛ فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده، بخلاف الطرف
الآخر؛ فإنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما ورد في "مسند أحمد" "6/ 116، 233" من حديث عائشة
مرفوعا بسند حسن، قاله ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/
43"، وفيه: "وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي
أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"،
ونحوه في "هدي الساري" "120"، وقد خرجتها في تعليقي على
"الجواب الذي انضبط..." للسخاوي "44/ 46"، وانظر تعليقي
عليه "2/ 122".
2 في الأصل: "المسألة".
3 معارض للوجه الرابع، وقوله: "بخلاف الطرف الآخر" يقتضي
ترجيح الرخصة؛ ففيه المدعى وزيادة. "د".
ج / 1 ص -522-
مظنة
التشديد، والتكلف، والتعمق المنهي عنه في الآيات
[والأحاديث]1؛ كقوله تعالى:
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ}
[ص: 86].
وقوله:
{وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
[البقرة: 185].
وفي التزام المشاق تكليف2 وعسر، وفيها3 روي عن ابن عباس في
قصة بقرة بني إسرائيل:
"لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم، ولكن شددوا؛ فشدد الله عليهم"4، وفي الحديث:
"هلك المتنطعون"5.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل وقال:
"من رغب عن سنتي؛ فليس مني"6 بسبب من عزم على صيام النهار، وقيام الليل، واعتزال النساء، إلى
أنواع [من] الشدة التي كانت في الأمم؛ فخففها الله عليهم
بقوله:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ}
[الأعراف: 157].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "د".
2 و3 سياق الأصل و"ط": "تكلف وعسر، وفيما روي".
4 مضى تخريجه "ص45"، وإسناده صحيح.
5 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب العلم، باب هلك المتنطعون،
4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند" "1/ 386"، وأبو
داود في "السنن" "كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 201/ رقم
4608"، والطبراني في "الكبير" "10/ 216".
6 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب الترغيب في
النكاح، 9/ 104/ رقم 5036"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب
النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة،
2/ 1020/ 1401" من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأخرجه
البخاري في "الصحيح" "كتاب فضائل القرآن، باب قول المقرئ
للقارئ: حسبك، 9/ 94/ رقم 5052" دون لفظة:
"من رغب..."،
وهي ثابتة من طريق سند البخاري؛ كما عند اللالكائي في "شرح
أصول اعتقاد أهل السنة" "1/ 97".
ج / 1 ص -523-
وقد
ترخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنواع من الترخص
خاليا1 وبمرأى من الناس؛ كالقصر والفطر في السفر2، والصلاة
جالسا حين جُحِشَ شِقُّه3، وكان -حين بَدَّنَ4- يصلي
بالليل في بيته قاعدا، حتى إذا أراد أن يركع؛ قام فقرأ
شيئا ثم ركع5، وجرى أصحابه -رضي الله عنهم- ذلك المجرى من
غير عَتْب ولا لوم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما ذكره؛ لأنه لو كان ترخصه بمرأى من الناس فقط لقيل:
إن ذلك للتشريع؛ فلا يقوم حجة على أن العزيمة لا تفضل
الرخصة. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب تقصير الصلاة، باب يقصر
إذا خرج من موضعه، 2/ 569"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة
المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، 1/ 480/ رقم
690" عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر
بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين.
وأخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب غزوة الفتح
في رمضان، 8/ 3/ رقم 4275"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في
غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، 2/ 784/ رقم 1113"
عن ابن عباس؛ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج
عام الفتح في رمضان؛ فصام حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وكان
صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعون الأحدث
فالأحدث من أمره.
3 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إنما جعل
الإمام ليؤتم به، 2/ 173/ رقم 689، وكتاب تقصير الصلاة،
باب صلاة القاعد، 3/ 584/ رقم 1114"، ومسلم في "الصحيح"
"كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 1/ 308/ رقم
411" من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ركب فرسا فصرع عنه، فجحش شقه، فصلى صلاة
من الصلوات وهو قاعد؛ فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال:
"إنما جعل الإمام ليؤتم به... وإذا صلى جالسا, فصلوا جلوسا أجمعون".
4 يقال: بَدَّنَ الرجل؛ بفتح الدال مشددة؛ إذا أسن،
وتوضحها رواية في البخاري:
"حتى أسن"،
وفي رواية أخرى:
"حتى إذا كبر" "خ".
5 أخرج البخاري في "الصحيح" "كتاب تقصير الصلاة، باب إذا
صلى قاعدا ثم صح، 2/ 589/ رقم 1118, 1119، وكتاب التهجد،
باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان
وغيره، 3/ 33/ رقم 1148"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة
المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا، 1/ 505/
رقم 731، 732" من حديث عائشة، رضي الله عنها.
ج / 1 ص -524-
كما
قال: "ولا يعيب بعضنا على بعض"، والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
والخامس1:
أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن
الاستباق إلى الخير، والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول
في العبادة، وكراهية العمل، وترك الدوام، وذلك مدلول عليه
في الشريعة بأدلة كثيرة؛ فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو
طلب [به] أو قيل له فيه؛ كره ذلك وملَّه، وربما عجز عنه في
بعض الأوقات؛ فإنه قد يصبر أحيانا وفي بعض الأحوال، ولا
يصبر في بعض، والتكليف دائم، فإذا لم ينفتح له من باب
الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق2، وسد عنه
ما سوى ذلك؛ عد الشريعة شاقة، وربما ساء ظنه بما تدل عليه
دلائل رفع الحرج، أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا،
وقد قال تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
[الحجرات: 7].
وقال:
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87].
قيل: إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس3؛
فسمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معارض للخامس. "د".
2 أي: تحقيقا أو بظن قوي يلحق به، كما سبق في ضابط المسألة
السابعة. "د".
3 يشير المصنف إلى ما أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب
التفسير، باب في تفسير سورة المائدة، 5/ 255-256/ رقم
3054"، وابن جرير في "التفسير" "10/ 520/ رقم 12350"،
والطبراني في "المعجم الكبير" "11/ 350/ رقم 11981"، وابن
عدي في "الكامل" "5/ 1817"، وابن أبي حاتم في "التفسير"
"3/ ق 24/ أ"، والواحدي في "أسباب النزول" "ص198"، جميعهم
من طريق الضحاك بن مخلد عن عثمان بن سعد عن عكرمة عن ابن
عباس؛ =
ج / 1 ص -525-
اعتداء
لذلك.
وفي الحديث:
"خذوا من العمل
ما تطيقون؛ فإن الله لن يمل حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول
الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوتي،
فحرمت علي اللحم؛ فأنزل الله، وذكر الآية. قال الترمذي
عقبه: "هذا حديث حسن غريب"، ثم قال: "ورواه بعضهم عن عثمان
بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن
عكرمة مرسلا".
قلت: إسناده ضعيف، فيه عثمان بن سعد، متكلم فيه من قبل
حفظه، ومع ضعفه يكتب حديثه، وقد خولف كما قال الترمذي،
وهذا البيان:
أخرج ابن جرير في "التفسير" "10/ 514، 515، 520-521/ رقم
12337، 12338، 12340، 12351" من طريق يزيد بن زريع
وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، ثلاثتهم عن خالد
الحذاء عن عكرمة؛ قال: كان أناس من أصحاب النبي -صلى الله
عليه وسلم- هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء؛ فنزلت هذه
الآية.
وإسناده صحيح؛ إلا أنه مرسل.
وأخرجه عبد الرزاق في "التفسير" "1/ 192", ومن طريقه ابن
جرير في "التفسير" "رقم 12341" عن معمر عن أيوب عن أبي
قلابة وذكر نحوه، وإسناده صحيح وهو مرسل.
وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور في "سننه" "رقم 771-ط
المحققة"، وأبو داود في "مراسيله" "رقم 201" من طريقين عن
خالد بن عبد الله عن حصين عن أبي مالك به.
وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "10/ 514/ رقم 12336" من
طريق آخر عن حصين به، وإسناده صحيح، وهو مرسل، أبو مالك هو
غزوان الغفاري الكوفي، مشهور بكنيته، من الثالثة؛ كما في
"التقريب" "5354".
وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "3/ 139" لعبد بن حميد
أيضا من مرسل أبي مالك.
فلم يثبت في سبب النزول إلا المراسيل، نعم، ثبت في "صحيح
البخاري" "رقم 4615، 5071، 5075"، و"صحيح مسلم" "رقم 1404"
عن ابن مسعود؛ قال: كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. ثم
رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله
الآية.
ج / 1 ص -526-
تملوا"1،
"وما
خُيِّر عليه [الصلاة و] السلام
بين أمرين؛ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما"2،
الحديث.
ونهى عن الوصال، فلما لم ينتهوا؛ واصل بهم يوما ثم يوما،
ثم رأوا الهلال، فقال:
"لو تأخر الشهر لزدتكم"3 كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب صوم شعبان،
4/ 213/ رقم 1969"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب الصيام، باب
صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير رمضان، 2/ 811/
رقم 782"، والنسائي في "المجتبى" "4/ 151" من طريق معاذ بن
هشام، وأحمد في "المسند" "6/ 128" من طريق عبد الوهاب،
و"6/ 249" من طريق عبد الصمد، و"6/ 249-250"، وابن خزيمة
في "صحيحه" "3/ 283/ رقم 2079" من طريق أبي عامر،
والفريابي في "الصيام" "رقم 6" من طريق خالد بن الحارث،
والطيالسي في "مسنده" "رقم 1475" -ومن طريقه البيهقي في
"الكبرى" "4/ 210"- جميعهم عن هشام الدستوائي عن يحيى بن
أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به، وزادوا
على المذكور:
"وأحب الصلاة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دُووم
عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها"، هذا لفظ
البخاري، ولفظ مسلم بعد المذكور: "وكان يقول:
"أحب
العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المناقب، باب صفة -النبي
صلى الله عليه وسلم- 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب
قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/
524/ رقم 6126، وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام
لحرمات الله، 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزير والأدب،
12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب
مباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام، 4/ 1813/ رقم 2327"
من حديث عائشة, رضي الله عنها. وما بين المعقوفتين سقط من
"م".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب التنكيل لمن
أكثر الوصال، 4/ 205-206/ رقم 1965، وكتاب الحدود، باب كم
التعزير والأدب، 12/ 175-176/ رقم 6848، وكتاب التمني، باب
ما يجوز من اللو، 13/ 225/ رقم 7242، وكتاب الاعتصام
بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في
الدين والبدع، 13/ 275/ رقم 7299"، ومسلم في "صحيحه"
"كتاب الصيام، باب النهي عن الوصل في الصوم، 2/ 774/ رقم
1103" من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه.
ج / 1 ص -527-
وقال:
"لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم"1، وقد قال [عبد الله بن] عمرو بن العاص حين كبر: يا ليتني قبلت
رخصة رسول الله, صلى الله عليه وسلم2. وفي الحديث: هذه
الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل؛ فقال عليه
الصلاة والسلام:
"لا تنام الليل؟ خذوا من العمل ما تطيقون"3 الحديث؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التمني، باب ما يجوز من
اللو، 13/ 224-225/ رقم 7241"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، 2/ 775-776/ رقم
1104"، وأحمد في "المسند" "3/ 124، 253"، وابن أبي شيبة في
"المصنف" "3/ 82"، والفريابي في "الصيام" "28"، والبيهقي
في "السنن الكبرى" "4/ 282" من حديث أنس, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الصوم، باب حق الجسم في
الصوم، 4/ 217-218/ رقم 1975"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813-814/
رقم 11159"، والمذكور لفظ البخاري.
ولمسلم في رواية: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من أهلي ومالي"،
وما بين المعقوفتين سقط من "ط".
وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي
الله, صلى الله عليه وسلم".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من
التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح"
"كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو
استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب
عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب
الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/ 218".
قال ناسخ الأصل ما صورته: "الحولاء بالمد: اسمها، وتويت
أبوها بتاءين فوقيتين مصغر، ابن حبيب بن أسد بن عبد العزى
بن قصي من رهط خديجة, رضي الله عنها.
وقوله عليه السلام:
"لا تنام
الليل" إنكار للفعل، وقد رواه مالك بلفظ: فكره ذلك رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فانظره. ا. هـ.
ج / 1 ص -528-
فأنكر
فعلها كما ترى.
وحديث إمامة معاذ حين قال له النبي, صلى الله عليه وسلم:
"أفتَّان أنت يا معاذ؟"1، وقال رجل: والله يا رسول الله؛ إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل
فلان، مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال:
"إن منكم منفرين"2 الحديث.
وحديث الحبل المربوط بين ساريتين، [إذ] سأل عنه عليه
[الصلاة و]3 السلام، قالوا: حبل لزينب، تصلي, فإذا كسلت أو
فترت؛ أمسكت به. فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر؛ قعد"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب إذا طول
الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى، 2/ 192/ رقم 700، 701،
وباب من شكا إمامه إذا طول، 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب،
باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 10/
515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة، باب
القراءة في العشاء، 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن
عبد الله, رضي الله عنه.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الأذان، باب تخفيف
الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، 2/ 197-198/ رقم
702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو
غضبان، 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب
الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 1/ 340/
رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري, رضي الله عنه.
3 ما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التهجد، باب ما يكره من
التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1150"، ومسلم في "الصحيح"
"كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو
استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب
عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 784"، والنسائي في "المجتبى"
"كتاب الصلاة، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، 3/
218"، وابن خزيمة في "الصحيح" "2/ 200/ رقم 1180 و1181" من
حديث أنس, رضي الله عنه.
ج / 1 ص -529-
وأشباه
هذا كثير؛ فترك الرخصة من هذا القبيل؛ ولذلك قال عليه
الصلاة والسلام:
"ليس من البر الصيام1 في السفر"2،
فإذا كان كذلك؛ ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى، وإن سلم أنه
ليس بأولى؛ فالعزيمة ليست بأولى3.
والسادس4:
أن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى، كما تبين في
موضعه من هذا الكتاب؛ فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد
في دنياهم ودينهم، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا
لمراسم الشريعة، وليس كلامنا فيه، فإن كان موافقا؛ فليس
بمذموم، ومسألتنا من هذا؛ فإنه إذا نصب لنا الشرع سببا
لرخصة، وغلب على الظن ذلك, فأعملنا مقتضاه وعلمنا بالرخصة؛
فأين اتباع الهوى في هذا؟ وكما أن5 اتباع الرخص يحدث بسببه
الخروج عن مقتضى الأمر والنهي، كذلك اتباع التشديدات وترك
الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي،
وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمتبع للأسباب المشروعة في
الرخص والعزائم سواء، فإن كانت غلبة الظن في العزائم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخذه هنا على عمومه ليصح دليلا هنا، وفيما سبق حمله على
أن المراد منه ما كان فيه المشقة الفادحة؛ فكان بذلك
مناسبا للطرفين "د".
2 مضى تخريجه "ص517".
3 سيقول في الوجه السادس: "ليس أحدهما بأولى من الآخر"
بناء على هذا الوجه من المعارضة. "د".
4 هذا معارض لما سبق في السادس. "د".
5 يعارض به ما تقدم له في الوجه الخامس من أدلة ترجيح
العزيمة؛ إلا أنه صرح فيه بالوجهين المتعارضين، كأنه يقول:
كما يلزمنا هذا يلزمكم مثله عند التشدد بالأخذ بالعزائم،
بكل منهما يحدث بسببه ما ذكرتم؛ فما هو جوابكم فهو جوابنا،
وأما قوله: "وليس أحدهما بأولى من الآخر"؛ فهو عين الدعوى
فرعها على ما ذكره من الاشتراك في الإلزام، وكذا قوله:
"والمتبع... إلخ"؛ فلم يبق إلا دعوى مخالفة الإجماع في
التفريق بينهما؛ فأين هذا الإجماع؟ وعلى فرض وجوده ما
فائدة هذه المباحث، وهل تعد حينئذ من مُلَح العلم أم تنزل
عن ذلك؟ "د".
ج / 1 ص -530-
معتبرة؛ فكذلك في الرخص، وليس أحدهما أحرى من الآخر، ومن
فرق بينهما؛ فقد خالف الإجماع، هذا تقرير هذا الطرف.
فصل:1
وينبني عليه أن الأولوية في ترك الترخص إذا تعين سببه2
بغلبة ظن أو قطع، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع،
وقد يستويان، وأما إذا لم يكن ثَمَّ غلبة ظن؛ فلا إشكال في
منع الترخص.
[وأيضا]3؛ فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولة
على عمومها وإطلاقها، من غير تخصيص ببعض الموارد دون بعض،
ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل
المعتبر العلة التي هي المشقة، من غير اعتبار بالسبب الذي
هو المظنة، وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة
التي هي السبب؛ كالسفر والمرض؛ فعلى هذا إذا كانت4 العلة
غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة؛ فالمحل محل اشتباه،
وكثيرا ما يرجع هنا إلى أصل الاحتياط؛ فإنه ثابت معتبر
حسبما هو مبين في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقابل الفصل الأول، يذكر فيه ما ينبني على أن أحدهما ليس
بأولى من الآخر كما بين في ذلك ما ينبني على ترجح العزيمة.
"د".
2 أي: الترخص، يعني: ولم توجد الحكمة. "د".
3 مقابل لقوله هناك: "ومنها أن يفهم معنى الأدلة في رفع
الحرج على مراتبها". "د".
وما بين المعقوفتين سقط من "م".
4 أي: فإذا كانت المظنة منضبطة كالسفر؛ فالأمر ظاهر، وإذا
كانت غير منضبطة، والعلة التي هي المشقة غير منضبطة أيضا
كالمرض؛ فالواجب الاحتياط على كلا الطريقين، فلا يدخل تحت
النظرين السابقين، وهو ظاهر؛ لأنه لم يجعل هذا موضع النزاع
في الأولوية، بل لم يدخله في أصل موضوع الرخصة في تقريراته
السابقة. "د".
ج / 1 ص -531-
فصل:
فإن قيل: الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة، وذلك وضع
إشكال في المسألة؛ فهل له مخلص أم لا؟
قيل: نعم، من وجهين:
أحدهما:
أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد؛ فإنما أورد هنا استدلال
كل فريق، من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح، فيبقى موقوفا
على المجتهد، حتى يترجح له أحدهما مطلقا، أو يترجح له
أحدهما في بعض المواضع، والآخر في بعض المواضع، أو بحسب
الأحوال.
والثاني:
أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر في كتاب "المقاصد" في
تقرير أنواع المشاق وأحكامها، فإنه إذا تُؤُمِّلَ
الموضعان؛ ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله، وبالله
التوفيق.
المسألة الثامنة:
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا؛ فقصد الشارع
بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء، كما جاء في الرخص
شرعية المخرج من المشاق، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك
على الوجه الذي شرع له؛ كان ممتثلا لأمر الشارع، آخذا
بالحزم في أمره، وإن لم يفعل ذلك؛ وقع1 في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال ذلك أن الشارع جعل للزوج أن ينفس كربته الشديدة من
الزوجة بتطليقها واحدة؛ فيؤدبها بهذا الإزعاج الشديد، حتى
إذا عرف توبتها وراجع نفسه في أن يتحملها أكثر مما كان
حفظا لمصلحته أيضا؛ راجعها، فإذا اشتد كربه ثانيا؛ كان له
أن يطلق أيضا لذلك، لكنه إذا خالف الطريق الشرعي فطلق
ثلاثا ابتداء؛ فقد خالف ما رسمه له الشرع، وفقد المخرج من
ورطته؛ فلا مخلص له منها، وسيأتي له أمثلة كثيرة. "د".
ج / 1 ص -532-
محظورين:
أحدهما:
مخالفته لقصد الشارع، كانت تلك المخالفة في واجب أو
مندوب أو مباح.
والثاني:
سد أبواب التيسير عليه، وفقد المخرج عن ذلك الأمر
الشاق، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له، وبيان ذلك من
أوجه:
أحدها:
أن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد،
وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من
الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد؛ شرع له أيضا توابع
وتكميلات ومخارج، بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات، حتى
يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا، ولولا أنها
كذلك؛ لم يكن في شرعها زيادة على الأمور الابتدائية، ومن
نظر في التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل، فإذا كان كذلك؛
فالمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع؛
لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على القطع في
الجملة، فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق؛ لم يكن ما طلب من
التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا، لا حالا ولا مآلا، لا على
الجملة ولا على التفصيل؛ إذ لو كان كذلك؛ لكان مشروعا
أيضا، والفرض أنه ليس بمشروع؛ فثبت أن طالب التخفيف من غير
طريق الشرع لا مخرج له.
والثاني:
أن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع؛
فيكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه، والقصد إلى ذلك يمن
وبركة، كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع؛ يكفيه في عدم
حصول مقصوده شؤم قصده، ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}
[الطلاق: 2، 3]، ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل
له مخرجا.
ج / 1 ص -533-
خرَّج
إسماعيل القاضي عن سالم بن أبي الجعد؛ قال: جاء رجل من
أشجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر الجهد؛ فقال له
النبي, صلى الله عليه وسلم: "اذهب فاصبر"،
وكان ابنه أسيرا في أيدي المشركين، فأفلت من أيديهم، فأتاه
بغنيمة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره؛ فقال له
النبي, صلى الله عليه وسلم:
"طيبة".
فنزلت الآية:
{وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ} الآية1 [الطلاق: 2].
وعن ابن عباس؛ أنه جاءه رجل فقال له: إن عمي طلق امرأته
ثلاثا.
فقال: "إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له
مخرجا".
فقال: أرأيت إن أحلها له رجل؟ فقال: "من يخادع يخدعه
الله"2.
وعن الربيع بن خثيم في قوله:
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]؛ قال: "من كل شيء ضاق على الناس"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الحاكم في "المستدرك" "2/ 492"، والواحدي في
"أسباب النزول" "464" من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر
بن عبد الله به، وإسناده واهٍ جدا، فيه عبيد بن كثير تركه
الأزدي، وعباد بن يعقوب رافضي، أفاده الذهبي في "التخليص".
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 106-107"، وابن مردويه
في "تفسيره" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"
"4/ 52"- من طريق أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود به، وإسناده
منقطع، وفيه بعض المجاهيل.
وأخرجه الثعلبي في "تفسيره" "12/ 141/ أ" بسند ضعيف جدا
أيضا فيه الكلبي متروك، وأبو صالح ضعيف؛ فالحديث ضعيف.
وانظر: "الكافي الشاف" "4/ 445- مع الكشاف"، و"زاد المسير"
"8/ 290"، و"الدر المنثور" "6/ 232"، و"معالم التنزيل" "4/
357"، و"الفتح السماوي" "3/ 1046".
2 أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 11"، وعبد الرزاق في
"المصنف" "6/ 397/ رقم 11352"، وسعيد بن منصور في "سننه"
"رقم 1065"، وابن حزم في "المحلى" "10/ 181"، وابن بطة في
"إبطال الحيل" "ص48"، ولفظ: "فأبده" بدل من "فأندمه".
3 نقله عن الربيع, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/
291-292".
ج / 1 ص -534-
وعن
ابن عباس: من يتق الله؛ ينجه من كل كرب في الدنيا
والآخرة1.
وقيل: من يتق الحرام2 والمعصية؛ يجعل له مخرجا إلى الحلال.
وخرج الطحاوي عن أبي موسى؛ قال: قال رسول الله, صلى الله
عليه وسلم:
"ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل أعطى ماله سفيها؛ وقد قال الله
تعالى:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء: 5]،
ورجل داين بدين ولم يُشهِد، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا
يطلقها"3، ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره أيضا عن ابن عباس, ابن الجوزي في "زاد المسير" "8/
291".
وقال ابن الجوزي عقبه: "والصحيح أن هذا عامّ؛ فإن الله
تعالى يجعل للتقي مخرجا من كل ما يضيق عليه، ومن لا يتقي
يقع في كل شدة".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "الله والمعصية".
3 أخرجه ابن شاذان في "المشيخة الصغرى" "ق 57/ أ" -كما في
"السلسلة الصحيحة" "رقم 1805"- وابن مردويه كما في "تفسير
ابن كثير" "1/ 344"، والحاكم في "المستدرك" "2/ 302",
والبيهقي في "السنن الكبرى" "10/ 146" من طريق المثنى بن
معاذ العنبري عن أبيه، وأبو نعيم في "مسانيد أبي يحيى فراس
بن يحيى المكتب" "رقم 29" من طريق داود بن إبراهيم
الواسطي، والطحاوي في "المشكل" "3/ 216"، وأبو نعيم في
"مسانيد أبي يحيى المُكْتِب" "ص93" من طريق عمرو بن حكام،
وأبو نعيم من طريق عثمان بن عمر، أربعتهم عن شعبة عن فراس
عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا.
قال أبو نعيم عقبه: "ورواه غندر وروح موقوفا"، وقال
الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب
شعبة هذا الحديث على أبي موسى".
ورجح شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" "رقم 1805"
رواية الرفع، وقال: "وقد وجدت له طريقا أخرى عن الشعبي،
رواه ابن عساكر، 8/ 182/ 1-2, عن إسحاق بن وهب -وهو بخاري-
عن الصلت بن بهرام عن الشعبي به"، قال: "لكن إسحاق هذا
ذكره الخليلي في "الإرشاد" وقال: "يروى عنه ما يعرف وينكر،
ونسخ رواها ضعفاء"" ا. هـ.
قلت: عمرو بن الحكام ضعيف، وهو ممن رفعه، والآخرون موثقون،
ومن وقفه أثبت في شعبة ممن رفعه، ولا سيما أن منهم غندرا
ويحيى بن سعيد -كما عند ابن أبي شيبة- وروح، والله أعلم.
قال "خ" هنا: "وهو على تقدير ثبوته محمول على الدعاء على
الثلاثة الملوح إليهم في الحديث؛ لأنه هو الذي ابتلى نفسه
بمعاشرة تلك الزوجة، وقصر في عدم الإشهاد على المدين،
وألقى بماله في ذمة خربة".
ج / 1 ص -535-
لا
نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها، وعلمنا أن الطلاق شرع عند
الحاجة إليه؛ كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما
يكره، ولم يجب دعاؤه؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه.
والآثار في هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا
المعنى، وقد روي عن ابن عباس، أنه سُئِل عن رجل طلق امرأته
ثلاثا؛ فتلا:
{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...} حتى بلغ:
{يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}
[الطلاق: 1-2]، وأنت لم تتق الله، فلا1 أجد لك مخرجا2.
وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد
الله بن مسعود؛ فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. فقال
ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها قد بانت مني.
فقال ابن مسعود: صدقوا، من طلق كما أمره الله؛ فقد بين
الله له، ومن لبس3 على نفسه لبسا؛ جعلنا لبسه به، لا
تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما تقولون4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "لم".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 396/ رقم 11346"،
وسعيد بن منصور في "سننه" "رقم 1064"، والبيهقي في
"الكبرى" "7/ 337".
3 أي: خلط.
4 أخرجه مالك في "الموطأ" "1/ 605/ رقم 1570- رواية أبي
مصعب، و2/ 550/ رقم 2- رواية يحيى" بلغه أن رجلا جاء إلى
عبد الله بن مسعود "وذكره".
ووصله عبد الرزاق في "المصنف" "6/ 394-395/ رقم 11342"،
وابن أبي شيبة في "المصنف" "5/ 14"، وإسحاق بن راهوية -كما
في "المطالب العالية"- والبيهقي في "الكبرى" "7/ 335"،
وابن حزم في "المحلى" "10/ 172".
ج / 1 ص -536-
وتأمل
حكاية أبي يزيد البسطامي1 حين أراد أن يدعو الله أن يرفع
عنه شهوة النساء، ثم تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
لم يفعل ذلك، فأمسك عنه2؛ فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق
بين المرأة والحجر.
والثالث:
أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح
فيه، وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدي طريق المخرج؛ فكان
قاصدا لضد ما طلب، من حيث صد عن سبيله، ولا يتأتى من قبل
ضد المقصود إلا ضد المقصود؛ فهو إذًا طالب لعدم المخرج،
وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الاستهزاء
والمكر والخداع؛ كقوله:
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمه طيفور بن عيسى، شيخ الصوفية، له نبأ عجيب وحال
غريب، وهو من كبار مشايخ "الرسالة"، وما أحلى قوله: "لو
نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا
تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنهي، وحفظ حدود
الشريعة".
وقد نقلوا عن أبي يزيد أشياء الشأن في صحتها عنه؛ منها:
"سبحاني"، "وما في الجبة إلا الله"، "أما النار لأستندن
إليها غدا، وأقول: اجعلني لأهلها فداء، أو لأبلغنها"، "ما
الجنة إلا لعبة صبيان"، ومن الناس من يصحح هذا عنه، ويقول:
قاله في حال سكره، ونتبرأ إلى الله من كل من تعمد مخالفة
الكتاب والسنة، ومات أبو يزيد سنة إحدى وستين ومائتين،
قاله الذهبي في "الميزان" "2/ 346-347".
وانظر لزاما: "البدر الطالع" للشوكاني "2/ 37 وما بعدها".
2 كذلك يلزم الصوفي أن يزن خواطره وأعماله بميزان الشريعة؛
كما قال أبو سليمان الداراني: "تعرض علي النكتة من نكت
القوم؛ فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل: الكتاب والسنة"، وقال
الإمام الجنيد: "مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ
القرآن ويكتب الحديث؛ لا يقتدى به في طريقنا هذا"؛ فإلى أي
كتاب أم آية سنة يستند بعض الخارجين في مظاهر الصوفية حيث
يوالون من حاد الله ورسوله، ويحثون أتباعهم الذين انخدعوا
لهم بالله أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الباطل بعد
أن اشتراها الله لتبذل في سبيل طاعته ورضوانه؟! "خ".
ج / 1 ص -537-
وقوله:
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].
وقوله:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ1
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].
ومنه قوله تعالى:
{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهِ} [الطلاق: 1].
وقوله:
{فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى
بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ2 أَجْرًا
عَظِيمًا} [الفتح: 10].
{مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].
إلى سوى ذلك مما في هذا المعنى، وجميعه محقق، كما تقدم من
أن المتعدي على طريق المصلحة المشروع ساع في ضد تلك
المصلحة، وهو المطلوب.
والرابع: أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها
حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من
بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له؛
فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو
يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا
كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة؛
فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمرا لا يتم له على
كماله أصلا، ولا يجني منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين
العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان
كذلك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف والياء
مضمومة، وقرأها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء
بغير ألف. انظر: "السبعة" "141"، و"التذكرة" "2/ 248".
2 قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: "فسنؤتيه" بالنون وروى
أبان عن عاصم بالنون، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي
{فَسَيُؤْتِيهِ}
بالياء، وروى عبيد عن هارون عن أبي عمرو: بالنون، وعن عبيد
أيضا بالياء، قاله ابن مجاهد في "السبعة" "603". وانظر:
"التذكرة في القراءات الثمان" "2/ 560"، و"إتحاف فضلاء
البشر بالقراءات الأربعة عشر" "2/ 482".
ج / 1 ص -538-
فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول
المصلحة والتخفيف على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه،
وهذه المسألة بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو
مخالفته، ولكن سيق لتعلقه بالموضع في طلب الترخص من وجه لم
يؤذن فيه، أو طلبه في غير موضعه؛ فإن من الأحكام الثابتة
عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص، وقد تقدم منه في أثناء
الكتاب في هذا النوع مسائل كثيرة، ومنها ما فيه ترخيص، وكل
موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى.
وأيضا؛ فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ولا يكون
في الشرع كذلك؛ فربما ترخص بغير سبب شرعي، ولهذا الأصل
فوائد كثير في الفقهيات؛ كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود،
وغيرها من مسائل الحيل، وما كان نحوها.
المسألة التاسعة:
سباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ولا مقصودة
الرفع1 لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم
التحريمية أو الوجوبية؛ فهي إما موانع للتحريم أو
التأثيم2، وإما أسباب3 لرفع الجناح أو إباحة4 ما ليس
بمباح؛ فعلى كل تقدير إنما هي موانع5 لترتب أحكام العزائم
مطلقا، وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا
الزوال للشارع، وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم
أو الموجب؛ ففعله غير صحيح، ويجري فيه التفصيل المذكور في
الشروط6 فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص، من غير فرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الزوال. "ماء".
2 في "ط": "فهي موانع إما للتحريم، وإما موانع للتأثيم".
3 تنويع في العبارة، لا أن هذين قسمان يقابلان سابقهما.
"د".
4 أشمل مما قبله؛ إذ يدخل فيه الترخص في المندوبات. "د".
5 في الأصل: "موانع إما".
6في المسألة الثامنة منها. "د".
ج / 1 ص -539-
المسألة العاشرة:
إذا فرعنا1 على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين
العزيمة؛ صارت العزيمة معها من الواجب المخير؛ إذ صار هذا
المترخص يقال له: إن شئت فافعل العزيمة، وإن شئت فاعمل
بمقتضى الرخصة، وما عمل منهما؛ فهو الذي واقع واجبا في
حقه، على وزان خصال الكفارة؛ فتخرج العزيمة في حقه عن أن
تكون عزيمة.
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج؛
فليست الرخصة معها من ذلك الباب؛ لأن رفع الحرج لا يستلزم
التخيير؛ ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب، وإذا كان
كذلك؛ تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين
المقصود للشارع، فإذا فعل العزيمة؛ لم يكن بينه وبين من لا
عذر له فرق, لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار
لنفسه الانتقال إلى الرخصة، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان
قاصدا لوقوع الرخصة؛ فذلك بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد
الأول هو وقوع العزيمة.
والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ
الحكم بينتان، إحداهما في نفس الأمر عادلة2، والأخرى غير
عادلة2، فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل
العدالة في قوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
[الطلاق: 2].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو بسط ما أجمله في آخر المسألة الرابعة ووعد به
هناك. "د".
2 في "ط ": "عدلة".
ج / 1 ص -540-
وقال:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فإن حكم بأهل العدالة؛ أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين، وإن
حكم بالأخرى؛ فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس
الأمر، وله أجر في اجتهاده، وينفذ ذلك الحكم على
المتحاكمين، كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين1، فكما
لا يقال في الحاكم: إنه مخير بين الحكم بالعدل والحكم بمن
ليس بعدل؛ كذلك لا يقال هنا: إنه مخير مطلقا بين العزيمة
والرخصة.
فإن قيل: كيف يقال: إن شرع الرخص بالقصد الثاني؟ وقد ثبتت
قاعدة رفع الحرج مطلقا2 بالقصد الأول؛ كقوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وجاء بعد تقرير الرخصة:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
قيل: كما يقال: إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد
الأول، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني، مع
قوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}
[الروم: 21].
وقوله:
{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}
[الأعراف: 189].
وأيضا3؛ فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير
عليه، مع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "المترخص".
2 أي: بقطع النظر عن خصوص محل الرخصة، ومعنى الجواب أنه لا
يلزم من ورود الآية دالة على الحكم استقلالا أن يكون
مقصودا بالقصد الأول؛ فقد جاءت الآية بفائدة النكاح
استقلالا وهو السكن، ومع ذلك؛ فالقصد الأول النسل، فكذا
هنا. "د".
3 عود إلى السؤال وترقّ عليه؛ أي: إنه لا يلزم من وجود رفع
الحرج في الرخصة أن تكون مقصودة للشارع بالقصد الثاني لا
بالأول، بدليل أنه ثبت رفع الحرج أيضا في بعض المسائل التي
=
ج / 1 ص -541-
كون
الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة؛ فهو تيسير أيضا ورفع
حرج.
وأيضا؛ فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات؛ فلا تجد
كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة، وهو
مقتضى قوله:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة، ولم يشرع
فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى
الكليات؛ فكذلك نقول في محال الرخص: إنها ليست بكليات،
وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ
بالعزيمة أو الرخصة.
فإذًا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد
الأول، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية، إن قصده
الشارع بالرخصة؛ فمن جهة القصد الثاني، والله أعلم.
المسألة الحادية عشرة:
إذا اعتبرنا العزائم من الرخص؛ وجدنا العزائم مطردة مع
العادات الجارية، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد.
أما الأول:
فظاهر، فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في
أوقاتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فيها الرخصة والسهولة -في نفس أصل عزيمتها؛ كصيام أيام
معدودات، ولم تكن شهورا مثلا- ففي أصل العزيمة هنا أيضا
تيسير ورفع حرج، وهي مقصودة بالقصد الأول؛ فلا يلزم من
حصول رفع الحرج في الرخصة أن تكون بالقصد الثاني، ثم ترقى
عليه ثانيا قال: "وأيضا... إلخ"؛ أي: إن رفع الحرج موجود
في سائر الكليات التي هي عزائم، ومحل الجواب عن الجميع
قوله: "فإذا العزيمة... إلخ"؛ فهو يحسم الاعتراض الأول
أيضا، وقوله: "ونحن نجد في بعض... إلخ" تمهيد للجواب, ولا
يخفى أن كلا من هذين الترقيين تفصيل لما دخل تحت الإطلاق
في أصل الإشكال؛ فالترقي من جهة تعيين مكان الاعتراض بعد
إجماله. "د".
ج / 1 ص -542-
وبالصيام في وقته المحدود له أولا، وبالطهارة المائية، على
[حسب] ما جرت به العادة1: من الصحة، ووجود العقل2،
والإقامة في الحضر، ووجود الماء، وما أشبه ذلك، وكذلك سائر
العادات والعبادات؛ كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة،
والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها، إنما أمر
بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر
واجتناب النهي، ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو
الأكثر، ولا إشكال فيه.
وأما الثاني:
فمعلوم أيضا من حيث علم الأول؛ فالمرض، والسفر، وعدم الماء
أو الثوب أو المأكول، مرخص لترك ما أمر بفعله، أو فعل ما
أمر بتركه، وقد مر تفصيل ذلك فيما مر3 من المسائل، ولمعناه
تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب "المقاصد" بحمد الله.
إلا أن انخراق العوائد على ضربين: عام، وخاص، فالعام ما
تقدم، والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا
بمقتضاها؛ فذلك إنما يكون في الأكثر على حكم الرخصة؛
كانقلاب الماء لبنا، والرمل سَويقا، والحجر ذهبا، وإنزال
الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض4؛ فيتناول المفعول له
ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "العادات".
2 غير ظاهر هنا لأن الكلام في أمور إذا وجدت كانت العزيمة،
وإذا فقدت كانت الرخصة، وليس منها العقل؛ لأنه شرط مطلق
التكليف، ولذلك لم يذكر مقابلة فيما بعد مع أنه ذكر مقابل
غيره. "د".
3 في "ط": "فيما تقدم".
4 أراد الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أن يضع بين الكرامة
والمعجزة فاصلا، فقال: إن مبلغ الكرامة إجابة دعوة أو
موافاة ماء من غير توقع المياه ونحو ذلك، وجرى على أثره
الإمام القشيري؛ فقال: "لا تنتهي الكرامة إلى خلق ولد بغير
والد أو قلب جماد حيوانا"، وارتضاه تاج الدين ابن السبكي،
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: إنه أعدل المذاهب،
يعني: إنه ما بين مذهب المعتزلة المنكرين لها جملة ومذهب
جمهور أهل السنة المجوزين لها بإطلاق؛ إلا ما دل النص على
اختصاصه بالرسول لمعجزة القرآن. "خ".
ج / 1 ص -543-
ويستعمله، فإن استعماله له رخصة لا عزيمة، والرخصة كما
تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب
فيها لينال تخفيفها؛ كان الأمر فيها كذلك؛ إذ كان مخالفة
هذا الشرط مخالفة لقصد الشارع، إذ ليس من شأنه1 أن يترخص
ابتداء، وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه
الإذن في مسببه كما مر؛ فههنا أولى؛ لأن خوارق العادات لم
توضع لرفع أحكام العبودية، وإنما وضعت لأمر آخر؛ فكان
القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها، وهذا
مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى.
وأيضا؛ فقد ذكر في كتاب "المقاصد" أن أحكام الشريعة عامة
لا خاصة، بمعنى أنها عامة في كل مكلف، لا خاصة ببعض
المكلفين دون بعض، والحمد لله.
ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي -صلى الله عليه وسلم-
لإظهار الخارق كرامة ومعجزة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام-
إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس، وكذلك
نقول: إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي
لا لحظ نفسه، ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بل2
يكون بحسب القصد، وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء
الراقين عن الأحوال، حسبما دل عليه الاستقراء، فأما إذا لم
يكن هذا؛ فالشرط معتبر بلا إشكال، وليس بمختص بالعموم، بل
هو في الخصوص أولى.
فإن قيل: الولي إذا انخرقت له العادة؛ فلا فرق بينه وبين
صاحب العادة على الجملة، فإن الذي هيئ له الطعام أو الشراب
أو غيره من غير سبب عادي مساوٍ لمن حصل له ذلك بالتكسب
العادي، فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي: إنه في
التناول مترخص، كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ط": "قصده".
2 كذا في "ط"، وفي غيره: "بأن".
ج / 1 ص -544-
إذ لا
فرق بينهما، وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط.
فالجواب من وجهين:
أحدهما:
أن الأدلة المنقولة دلت على ترك أمثال هذه الأشياء لا
إيجابا، ولكن على غير ذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-
خير بين الملك والعبودية؛ فاختار العبودية1، وخير في أن
تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة؛ فلم يختر ذلك2، وكان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرج هناد في "الزهد" "رقم 796" ثنا أبو الأحوص عن عطاء
بن السائب عن الشعبي؛ قال: قال رسول الله, صلى الله عليه
وسلم: "خيرني ربي -عز وجل- أن أكون نبيا ملكا، أو نبيا
عبدا، فلم أدر ما أقول، وكان صفيي من الملائكة جبريل،
فنظرت إليه؛ فقال بيده: أن تواضع؛ قال: فقلت: نبيا عبدا".
وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل؛ إلا أن أحمد أخرجه في "مسنده"
"2/ 231"، وأبو يعلى في "مسنده" 10/ 491/ رقم 6105"، وابن
حبان في "صحيحه" "14/ 280/ رقم 6365- الإحسان"، والبزار في
"مسنده" "رقم 2462- زوائده" من طريق محمد بن فضيل عن عمارة
بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة به نحوه.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين, وصححه الهيثمي في "مجمع
الزوائد" "9/ 18"، وله شواهد من حديث عائشة وابن عباس ومن
مرسل الحسن والزهري وغيرهما.
انظر: "السلسلة الصحيحة" "رقم 1002"، و"فتح الباري" "9/
541"، و"الإصابة" "4/ 516".
2 أخرج الترمذي في "الجامع" "أبواب الزهد، باب ما جاء في
الكفاف والصبر عليه/ رقم 2348"، ونعيم بن حماد في "زياداته
على الزهد" "رقم 196"، وأحمد في "المسند" "5/ 254", وابن
سعد في "الطبقات الكبرى" "1/ 381", وأبو نعيم في "الحلية"
"8/ 133"، والبغوي في "الأنوار في شمائل النبي المختار"
"1/ 324/ رقم 427" من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن
يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة رفعه:
"عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا؛ فقلت: لا, ولكن
أشبع يوما وأجوع يوما "أو قال ثلاثا: ونحو هذا"، فإذا جعت؛
تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت؛ حمدتك وشكرتك".
وإسناده ضعيف جدا، ابن زحر وعلي بن يزيد -وهو الألهاني-
كلاهما ضعيف، قال ابن حبان في "المجروحين" في ترجمة الأول:
"منكر الحديث جدا، يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن
علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد
الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون
متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم؛ فلا يحل الاحتجاج بهذه
الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على جميع
الأحوال أولى".
ج / 1 ص -545-
عليه
الصلاة والسلام مجاب الدعوة، فلو شاء [له]1 لدعا بما يحب
فيكون، فلم يفعل، بل اختار الحمل على مجاري العادات: يجوع
يوما فيتضرع إلى ربه، ويشبع يوما فيحمده ويثني عليه؛ حتى
يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر، وكثيرا
ما كان عليه الصلاة والسلام يرى أصحابه من ذلك في مواطن ما
فيه شفاء في تقوية اليقين، وكفاية من أزمات الأوقات2، وكان
عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه3، ومع ذلك
لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله، فإذا كانت الخوارق في
حقه متأتية، والطلبات محضرة له؛ حتى قالت عائشة, رضي الله
عنها: "ما أرى الله إلا يسارع في هواك"4، وكان -لما أعطاه
الله من شرف المنزلة- متمكنا منها؛ فلم يعول إلا على مجاري
العادات في الخلق، كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات
عظيما في أن لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق، ولكن لما لم
يكن ذلك حتما على الأنبياء؛ لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين سقط من "م" و"خ" و"ط".
2 فالجاري على عادته حمل نفسه على مجاري العادات مع تيسر
الخوارق له، كثيرا ما كانت تنخرق له العادات وتوافيه
الكرامات، لكن ذلك في مواطن لمقصد مبرأ من حظ النفس، وهو
تقوية اليقين عند أصحابه، وكفايتهم ضرر الأزمات الشديدة
التي تحل بهم، كنبع الماء مثلا لما اشتد بهم الحال في
الحديبية حتى لا يجمع عليهم الشدائد في هذه الأوقات
المضنية. "د".
3 ورد ذلك في حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الصوم،
باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"، وغيره وسيأتي لفظه وتخريجه
عند المصنف "2/ 239".
4 أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب التفسير، باب "تُرْجِي
مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ"، 8/ 524-525/ رقم 4788"، ومسلم في
"صحيحه" "كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، 2/
1085/ رقم 1464".
ج / 1 ص -546-
حتما
على الأولياء لأنهم الورثة في هذا النوع.
والثاني:
[إن]1 فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين، ويصحبها الابتلاء
الذي هو لازم التكاليف2 كلها، وللمكلفين أجمعين في مراتب
التعبد؛ فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه لأنها آيات من
آيات الله تعالى برزت على عموم العادات، حتى يكون لها خصوص
في الطمأنينة؛ كما قال إبراهيم, عليه السلام:
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [البقرة: 260]، وكما قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-
عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر:
"يرحم الله أخي موسى، وددنا لو صبر حتى يقص علينا من
أخبارهما"3، فإذا كانت هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.
2 في "د": "لازم التكليف"، وفي "م"، و"ط": "لازم
التكاليف"، وفي الأصل: "لازم البلاء والتكاليف"، وما
أثبتناه من "خ".
3 قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب
العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم/ رقم
122، وكتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده/ رقم 3278،
وكتاب أحاديث الأنبياء/ رقم 3401، وكتاب التفسير، باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}/ رقم 4725، وباب
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}/ رقم 4727، وكتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان،
6672"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل/ رقم 2380"، وأبو
داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/ رقم 4707"،
والترمذي في "الجامع" "أبواب التفسير، باب ومن سورة الكهف/
رقم 3249"، وأحمد في "المسند" "5/ 117"، والحميدي في
"المسند" "رقم 371"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "4/ 199"،
وابن حبان في "الصحيح" "6187"، من طريق سفيان بن عيينة عن
عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وأخرجه أحمد "5/ 119"، والبخاري في "صحيحه" "كتاب الإجارة،
باب إذا استأجر أجيرا على أن يقيم حائطا يريد أن ينقض/ رقم
2267، وكتاب الشروط، باب الشروط مع الناس في القول/ رقم
2728، وكتاب التفسير، باب
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا
فَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ
=
ج / 1 ص -547-
فائدتها؛ كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس
كالصدقة الواردة على المحتاج؛ فهو في التناول والاستعمال
بحكم الخيرة، فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد؛ صار
كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة، وإن
قبل الصدقة؛ فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها.
وأيضا؛ فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات،
وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء، وإدخالا للمكلف تحت
قهر الحاجة إليها، كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء
أيضا، فإذا جاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها؛ كان في
ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب، وتخفيف عنه؛ فصار قبوله
لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف
[بالكسب وتخفيفا عنه]1 فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن
حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شيء آخر، وهو أن تناول مقتضاها
ميل ما إلى جهتها، ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب
أنفسهم عن غير الله، كما كانت النعم العادية الاكتسابية
ابتلاء أيضا، وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما
أخذوها مآخذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=فِي الْبَحْرِ
سَرَبًا}/ رقم 4726" من طريق ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وأخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب في القدر/
رقم 4705، 4706"، وابن حبان في "الصحيح" "8/ 38، 6188"،
والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" "2/ 828"، والطحاوي في
"مشكل الآثار" "4/ 198 و199" من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس به مختصرا.
وأخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب العلم، باب ما ذكر في
ذهاب موسى -عليه السلام- في البحر إلى الخضر/ رقم 74،
وقوله تعالى:
{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى, عليهما السلام/
رقم 3400" من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب به.
1 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".
ج / 1 ص -548-
الرخص،
كما تبين1 وجهه، فهذا من ذلك القبيل؛ فتأمل كيف صار قبول
مقتضى الخوارق رخصة من وجهين! فلأجل هذا لم يستندوا إليها،
ولم يعولوا عليها من هذه الجهة، بل قبلوها2 واقتبسوا منها
ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله، وتركوا
منها ما سوى ذلك؛ إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة؛ تضمنت
تكليفا3 وابتلاء.
وقد حكى القشيري من هذا المعنى:
فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بعبادان4 رجل أسود فقير
يأوي إلى الخرابات5؛ قال: فحملت معي شيئا وطلبته، فلما
وقعت عينه علي تبسم وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت الأرض
كلها ذهبا تلمع. ثم قال: هات ما معك. فناولته وهالني أمره
وهربت6.
وحكى عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة؛ فوجدها وقد
التزق الشطان، فانصرف وقال: وعزتك لا أجوزها إلا في زورق7.
وعن سعيد بن يحيى البصري؛ قال: أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو
جالس في ظل، فقلت له: لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق
لرجوت أن يفعل. فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثم أخذ حصى
من الأرض، ثم قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت، فإذا
هي والله في يده ذهب، فألقاها إلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في المسألة الأولى. "د".
2 في "ط" زيادة "علما".
3 كما يؤخذ من كلام عبد الرحمن بن زيد الآتي: "لا خير في
الدنيا إلا للآخرة..." فما حصل من التحفة يتضمن تكليفا
جديدا في التصرف فيه واستعماله. "د".
4 في النسخ المطبوعة: "بفناء داره"، والتصويب من الأصل
و"الرسالة القشيرية".
5 في "م" و"ط": "الخَرِبات"، وهو الجمع الصحيح لغة، وفي
غيرهما: "الخرابات"، وكذا عند القشيري.
6 "الرسالة القشيرية" "ص163".
7 "الرسالة القشيرية" "ص164".
ج / 1 ص -549-
وقال:
أنفقها أنت؛ فلا خير في الدنيا إلا للآخرة1.
بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها، والتشوف إليها، كما
يحكى2 عن أبي يزيد البسطامي، ومنهم من استوت عنده مع غيرها
من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة,
وواردة من جهة مجرد الإنعام؛ فالعادة في نظر هؤلاء خوارق
للعادات؛ فكيف يتشوف إلى خارقة، ومن3 بين يديه ومن خلفه،
ومن فوقه ومن تحته مثلها، مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق
العبودية كما مر في الشواهد، وعدوا من ركن إليها مستدرجا،
من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة.
حكى القشيري4 عن أبي العباس الشرفي؛ قال: "كنا مع أبي تراب
النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية؛ فقال له
بعض أصحابنا5: أنا عطشان. فضرب برجله الأرض، فإذا عين ماء
زلال؛ فقال الفتى: أحب أن أشربه بقدح6. فضرب بيده إلى
الأرض؛ فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب
وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكة؛ فقال لي أبو تراب
يوما: ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها
عباده؟ فقلت: ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها. فقال: من لا
يؤمن بها فقد كفر7، إنما سألتك من طريق الأحوال. فقلت: ما
أعرف لهم قولا فيه. فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "الرسالة القشيرية" "ص170".
2 "الرسالة القشيرية" "ص164".
3 في "ط": "وما".
4 في "الرسالة" "ص169".
5 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "أصحابه".
6 كذا في الأصل والنسخ الثلاث، وعند القشيري: "في قدح".
7 لا يصح حمل الكفر على حقيقته؛ لأن المنكرين لخرق العادة
على وجه الكرامة؛ كالمعتزلة، والإمام أبي إسحاق، والقشيري،
والحليمي؛ هم من فرق الإسلام بإجماع. "خ".
ج / 1 ص -550-
بل قد
زعم أصحابك أنها خدع من الحق، وليس الأمر كذلك، إنما الخدع
في حال السكون إليها، فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها؛
فتلك مرتبة الربانيين".
وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة، لا في
حكم العزيمة؛ فليتفطن لهذا المعنى فيها؛ فإنه أصل ينبني
عليه فيها مسائل: منها أنها من جملة الأحوال العارضة
للقوم، والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد، ولا تعد
من المقامات، ولا هي معدودة في النهايات، ولا هي دليل على
أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية، والانتصاب للإفادة،
كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية،
ولا هي دليل على بلوغ النهاية، والله أعلم.
تم الجزء الأول |