الواضح في أصول الفقه

فصل
في الوجوب (1)
وأصلُه في اللًّغةِ: السقوطُ، يُقالُ: وَجَبَ الحائِطُ، إذا سَقَطَ (2).
وهو معنى قوله سبحانه: {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، وقولِهم: وَجَبَت الشمسُ.
وهو في الشرع: عبارة عن الإِلْزام واللًّزُومِ، فالإِلزامُ: إيجابٌ، واللًّزوم: وجوبٌ، واللَّازِم (3): واجبٌ، وقَيل: ما في تَرْكِه عِقاث، وهذا رَسْمٌ، وهو على معناه في اللًّغة، لأنه إذا لزمه، فقد سَقَطَ عليه سقوطاً لا يُمْكِنُه الخروجُ عنه ولا الانْفِكاكُ مِنه (4)، وقيل: ما وجَبَ اللوْمُ والذَّمُّ على تركه من حيثُ هو تَرْكٌ له، وهذا حَدُّ القاضي أبي بكر (5)
__________
(1) انظر ما تقدم من تعريف المؤلف للواجب في الصفحة: (29).
(2) في الأصل: "مكان" بدل: "إذا سقط"، وهو خطأ.
(3) في الأصل:"والكلام".
(4) في الأصل:"فيه".
(5) نسبه إليه الرازي في "المحصول" 1/ 1/117.
والقاضي أبو بكر: هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر ابن الباقلاني -نسبه إلى بيع الباقلاء- الأصولي المتكلم صاحب التصانيف، توفي سنة 403 هـ. "سير أعلام النبلاء" 17/ 190.

(1/124)


فصل
والفَرْضُ: غيرُ الواجبِ، وهو أمرٌ زائدٌ على الواجبِ على مذهبِ أصحابِنا، وكثيرٍ من أهل العراق.
وقال قومٌ: هو الواجبُ، وإنما هما اسمان لمعنىً واحدٍ، مثلُ قولِنا: نَدْبٌ ومُسْتَحَبٌّ، ولازم، وفرض.
وهو عند من أثْبَتَهُ غَيْراً للواجب ثابتٌ بأعلى دليلٍ، وله أعلى منازلِ الوجوب، وهو ماثَبَتَ بنصِّ قُرآنٍ، أو خَبَرِ تَواتُرٍ، أو إجماعٍ.

وإذا تأملَ المجتهدُ آيَ الكتاب، وَجَدَ أن الفرضَ بمعنى الواجب، قال سبحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]، {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، يعني: أوْجَبْتم، {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38]، أي: أوجبَ، وفَرَضَ الحاكمُ، أي: أوجبَ (1). وسنذكر ذلك في مسائل الخلاف (2) -إن شاء الله-.
فصل
والفَرْضُ: مأخوذٌ من التَأثِيرِ، ومنه سُمَيَتْ فُرْضَةُ النَهر، وحَزَةُ الوَتَر من القَوْسِ، فله مَزِيةُ اسمٍ على الواجب؛ لأنه مزيدٌ بالأثَرِ على السُّقوطِ.
__________
(1) ذكر القاضي أبو يعلى مسالة الفرق بين الفرض والواجب بإسهاب في "العدة" 2/ 376، 384.
(2) انظر 3/ 163.

(1/125)


وعن أحمدَ روايتان: هل هو اسمٌ للواجب في الجُمْلَةِ، أم لواجبٍ ثَبَتَ بدليلٍ قَطْعِي (1)؟ على روايتين، وسنذكَرُ ذلك في الخلافِ من الكتاب (2) -إن شاء الله-.

فصل
والنَّدْبُ: حَث بترغيبٍ لا بترهيبٍ.
وقيل: اقتضاءٌ من الأعلى للأدنى بالفعل على وجهٍ يُقابَلُ فاعلُه بالثواب على فعلِه، ولا يُقابَلُ بالعقاب على تركهِ، وهذا وأمثاله رُسُومٌ وتعريفاَتٌ لا أنَه تحديد بشروطِ الحَدَ.
وقيل: استدعاءُ الأعلى للفعلِ ممن هو دونَهُ على وَجْهِ التَخييرِ بين الفعلَ والتركِ.

وقيل: المندوبُ: ما في فعلِه ثوابٌ، وليس في تركهِ عِقابٌ. وهذهِ التعاريفُ كُلُّها لو عُدِمَتْ، لَمَا زالَ معنى النَدْب، فهي دلائلُ، وهو في نفسِهِ على مقتضى اللغة: الدُعاءُ؛ ولذلك قالَ شاعرهم:
لايَسْألونَ أخاهُم حين يَنْدُبُهُم ... للنَائِباتِ على ما قَالَ بُرْهَانا (3)
ويقولُ القائلُ منهم: نَدبتُ فُلاناً لكذا؛ إذا دعاهُ له.
وصار في الشَرْع اسماً لدعاءٍ إلى عَمَلٍ مخصوصٍ، وهو الطَاعةُ
__________
(1) ذكر المؤلف أنه عبارة عما ثبت (يجابه بنص أو دليل قطع. انظر الصفحة (30).
(2) في الجزء الأخير من الكتاب.
(3) تقدم في الصفحة (30).

(1/126)


للهِ، وما تُعُبِّدَ بهِ المُكَلَّفُ.
والندْبَةُ: دُعاء المَيتِ بتَفَجعٍ، ولذلك جُعِلَ في آخرِه الهاءُ لِإخراجِ كآبَةِ الحُزْنِ من قَعْرِ الصَدْرِ، والهاءُ من حروفِ الصدرِ، فالأصلُ في الندب: الدعاءُ (1).
وقال بعضهم: المندوب: كلّ فعلٍ وقعَ عَقِيبَ استدعائِهِ بالقولِ بأدنى مراتِبِ الاستدعاءِ من الأعلى للأدنى.

فصل
في الحقيقة
الحقيقةُ: القولُ الدالُّ بصيغةِ اللَّفظِ، وقيل: هو القولُ الذي يدلُّ بأصلِ الوَضْع، ومثال ذلك: الحمارُ، قولٌ يدلُّ على النَّهَّاقِ، والفَرس؛ قولٌ يدلُّ على الصَّهَّالِ، والإِنسان، يُذكَر على النَّاطِقِ بأصلِ الوضعِ وصيغةِ اللفظ، فإن قيل للبَلِيدِ من الناس: حمار، لَمْ يدلَّ بصيغةِ اللفظِ، ولا بأصلِ الوضعِ، لكن بالاستعارةِ لدَلالةِ حالٍ، فشارك الأصلَ بنوْعِ شركةٍ، وهي البَلادةُ.

فصل
والمجازُ: القولُ الذي يدل بتقدير الأصلِ دونَ تحقيقهِ، ومثال ذلك: سل القريةَ، هذا مجازٌ؛ لأنه يدلّ بتقديرِ الأصلِ، وهو قولك: سلْ أهلَ القريةِ.
__________
(1) تقدم تعريف المؤلف للندب في الصفحة (30).

(1/127)


فصل
ولكلِّ مجازٍ حقيقةٌ، فذكرُ الأصل في هذا القولِ هو الحقيقةُ، والمجاز كلُه يُعَبرُ عن أصلِه، وأصلُه هو حقيقتُه، ومن الكلام المعبرِ عن أصلِه ما لا يَحْسُنُ أن يُقالَ: إنه مجاز؛ لأنه كَثُرَ فظهًر معناه، كظهورِهِ بالأصلِ، وذلك مثلُ قولِنا في اللهِ سبحانه: إنه العَدْلُ، لا يقالُ: إنه ليس عدلاً في الحقيقةِ؛ إذ قد صارَ يدل بصيغةِ اللَّفظِ، وإن كان ذلك على جهةِ الفَرْعِ، وإنما الأصلُ أنَّ اللهَ تعالى العادلُ، والعَدْلُ مَصدَرٌ وليس بوصفٍ.

فصل

في الفصلِ بين الحقيقةِ والمَجازِ
اعلم أنَ المجازَ إنما يظهرُ معناهُ برَدِّهِ إلى أصلِه، والحقيقةُ ليست كذلك، بل معناها ظاهر في لفظِها من غيرِ رَدِّها إلى غَيْرهِا (1).

فصل
ولا يخلو استعمالُ المجازِ من أن يكونَ للبلاغةِ، أو للتَّوَسُعِ في العبارةِ، أو لتقريب الدَلالةِ، فلذلك عُدِلَ عن التحقيقِ إلى المجازِ، وإنما قيل للقولَ: حقيقة؛ لأنه دُلَّ به على المعنى على التحقيقِ بجَعْلِ كلَ حقيقةٍ في موضعِهاوعلى حَقَها (2).
__________
(1) توسع الشيرازي في ذكر العلامات التي تعرف بها الحقيقة من المجاز. انظر "شرح اللمع" 1/ 122 - 124.
(2) المصدر نفسه 1/ 116 - 117.

(1/128)


فصل
في الصِّدْقِ الذي هو أحدُ مُحْتَمَلَي الخبرِ.
هو الخبرُ عن الشيءِ على ما هو به، وهو نَقِيضُ الكَذِبِ.
والكَذِبُ: هو الخبرُ عن الشيءِ على خِلافِ ما هو به.
وأصلُ الصِّدق: القُوًّةُ والصَّلابةُ، وقيل: هو في أصلِ اللغةِ: ثَباتُ الشيءِ، ومنه قولُهم: صادقُ الحَمْلَةِ، إذا حَمَلَ في الحَرْب، ولم يَرْجِعْ، ومنه قولهم: رُمْح صَدْق، إذا كان صُلْباً.
وصَداقُ المرأةِ: ما ثبتَ عليه العَقْدُ، وإنما خص به عِوَض النكاحِ دونَ البَيْعِ وغيرِهِ لقُوّةِ عِوَضِ النكاحِ وثبوتِه: إما تَسْمِيَةً، وإما حُكْماً مع السكوتِ عنه، وعندَ قومٍ مع الرضَى بإسقاطِه.
والصَديق: هو الثابتُ المَوَدَّةِ.
والصَدْق: الِإخبار عما ثبتَ مُخبَره.
والصَدَقَةُ: تُثَبتُ المالَ وتحفظُه، كما أن الزَكاة تنَفَيهِ وتُرَيعُه.

فصل
والكَذِبُ مُختَلَفٌ في قُبْحِه، هل هو لِنفسِه أم بِحَسَبِ المكان (1)؟
فقال الأكثرونَ: قَبِيح بحَسَب مراسِمِ الشَرْع، ولهذا حَسُنَ عند العلماءِ حيثُ أجازَه الشرعُ لإِصَلاح ذاتِ البَيْنَ (2)، وللزوجةِ في
__________
(1) انظر في ذلك "المسودة": 233.
(2) وذلك فيما روي عن أم كلثوم بنت عقبة -رضي اللُه عنها- أنها قالت: =

(1/129)


مكانٍ (1)، وحَسنَهُ بل أوجبَه إذا سئلَ عن أبيه أو نَبيهِ لَيًقْتَلَ، فكذَبَ دفعاً عن أبيهِ ونَبيِّهِ القتلَ بالكذبِ، فإنه يُثابُ وَيحْسُنُ- كذبه، فبَطَلَ أن يكونَ لنفسِه.

فصل
ومهما أمْكَنَ بسَعَةِ العلمِ التَعريضُ، ففي المعَاريضِ مَنْدوحَةٌ عن الكذِبِ (2)، فلا يَحل الكذب مهما اتسعَ عِلْمُه لمعاريضِ الكَلِمِ.
__________
= سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً"، رواه البخاري (2692) في الصلح، ومسلم (2605) في البر والصلة، وأبو داود (4921) في الأدب، والترمذي (1939) في البر والصلة.
(1) فيما رواه الترمذي (1940) في البر والصلة من حديث أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها-، فيه: "الكذب كله على ابن آدم إلا في ثلاث خصال: رجل كذب امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما"، وهو عند أحمد في "المسند" 6/ 454
(2) روى البخاري في "الأدب المفرد": 305 من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة، فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعراً، وقال: إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب.
وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب عند الطبري في "تهذيب الآثار" 1/ 121، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 199، وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" 10/ 594، ونسبه للطبراني في "الكبير" وقال: رجاله ثقات.
والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء، قال ابن حجر: الأولى أن يقال: كلام له وجهان، يطلق أحدهما والمراد لازمه. انظر ما تقدم في الصفحة (82).

(1/130)


وقد تَعاطَى قومٌ وقالُوا: هو قَبيحٌ وإن دفعَ به قتلَ أبيهِ ونَبيِّه، وإن اصلَحَ (1) به، لكنَه دفعَ به ما هو اقَبحُ منه، وهذا بعيدٌ، لأنه تَعَطَى أن يُقالَ: أكلُ الميتة حالَ الضًرورَةِ حَرامٌ، لكن يُدْفَعُ بها ما هو أشد حَظْراً منها، وهو قتلُ النَّفْسِ بتركِ الأكلِ.

فصل

والمُحالُ أبعدُ من الكذب، فإن الكذبَ: الخَبَرُ عن الشيءِ على [خلافِ] (2) ما هو به مَعَ جوَازِ أن يكونَ على ما هو به، مثل قولِ القائلِ: زيدٌ في الدارِ وليس فيها، والمُحالُ قولُه: زيدٌ في الدَّارِ وفي السوقِ الآنَ، فهذا محال لأنه خبرٌ بما يخالِفُ خَبَرُهُ مخْبَرَهُ، وبما لا يُمْكِنُ أن يكونَ على ما أخْبَرَ به.
فصل

في الِإباحَةِ
والِإباحَةُ (3): مُجَرَّدُ الِإذْنِ، ولذلك سُمَّيَ الآذِنُ في أكل طعامهِ: مبيحاً.
وقيل: إطلاقٌ في الفِعْلِ.
وقيل: ما لا عقابَ على تاركِه، ولا ثوابَ لفاعِلِه، وقيل: ما لا لائمةَ على فاعِله.
__________
(1) في الأصل "صلح"، وما أثبتناه هو المناسب.
(2) ليست في الأصل، ولا بد من زيادتها ليستقيم المعنى.
(3) انظر ما تقدم في الصفحة (28).

(1/131)


ورُتْبَةُ المبيحِ تخصّصُه، فيقالُ: اذِنَ المتخصصُ بالشيءِ لغيرِ المتخصِّصَ به.

فصل

والحَظْر (1) في الأصل: المَنْعُ، مأخوذٌ من الحَظِيرَةِ، والمُحْتَظِر: الجاعلُ العَوْسَجَ حول إبلِه أو رَحْلِه، وما حظره الشرعُ: هو ما منعَهُ، وحَظْرُ الشرعِ: مَنْعُه، وكل محظورٍ ممنوع، وهو نَقيضُ الإِباحةِ؛ لأنها إطلاقٌ وإذنٌ، وهذا منع وكفٌّ.
فصل

والطَّاعةُ: الموافقة للأمرِ على مذهب أهل السنَّةِ، والموافقةُ للِإرادَةِ على مذهبِ المُعْتَزِلَةِ (2).
وهي على ضَربَيْنِ: فريضةٌ، ونافلة: فالفريضةُ: ما استُحِقَّ على تَرْكِها الوَعِيدُ والذمُّ ما لم تُتَلافَى بالتوبةِ والقضاءِ والعَزْم على الأداءِ عندَ العَجْزِ، وأخْصَرُ من هذا أن نقول: ما لم يَحْصُلِ اَلتلافِي.

فصل
فأما النافلةُ فأصلُها في اللغه: الزيادةُ، ومنه سُمِّيَ النَفَل: ما زيدَ على سَهْمِ الفارس والرَّاجِلِ (3). وقوله: ({نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]: زيادةً في عملِك.
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة (28).
(2) كما صرح به القاضي في "العدة" 1/ 163.
(3) "اللسان": (نفل).

(1/132)


وهي في الشرعِ: ما في فعلِه ثوابٌ، ولا يلامُ تارِكُه، وقيل: ما رُغبَ فيه مما لا يَقْبحُ تركُه.

فصل
والطاعةُ والانقيادُ والاتَباعُ نظائرُ، فإنها: الاستجابةُ بسهولةٍ، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]،، انفعلنا بسهولةٍ غيرَ مُعْتاصِين (1) ولا بمعالجةٍ، نظيرَ قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، فمِن ها هنا جاءَتْ استعارةُ قولِه: (طَائِعِينَ) هو، وإن كَانتا مفعولَيْنِ غيرَ مكَلَّفَتَيْنِ، لكنْ كان تَأتَيهما وتكوُنُهما في السرعةِ والتَأتَي كفعلِ الطائع من المكلفين المنقادِ لأمرِ الله سبحانه.
والطاعة بالأمرِ أَخَص، تقول: أمرَه فأطاعَه، وسألَه فاستجابَ له، ولا يقالُ: أطاعَه في حق الأعلى للأدنى.

فصل

والمعصيةُ: نقيضُ الطاعةِ، وهي الاباءُ عن فعلِ المأمورِ به. وقيل: مخالفةُ الأمرِ على مذهب أهل السُّنَةِ، وعلى مذهب المعتزِلةِ: مخالفة الإِرادةِ (2).
وتَصريفُ ذلك: الطاعة، والمطاوعةُ، والانْطِياعُ، والطَوْعُ، والطَواعِيَةُ، ومنه الاستطاعة؛ وهي ما تنطاعُ به الأفعال، ومنه التَطوُع؛
__________
(1) في الأصل:"معتاص" وما أثبتناه هو المناسب للسياق، والمعتاص: كل متشدد عليك فيما تريده منه."اللسان": (عوص).
(2) "العدة" 1/ 163.

(1/133)


وهو ما يفعلُه الإنسانُ من غيرِ حَمْلٍ عليهِ ولا إلْزامٍ.

فصل
وهل يُسمَى النَظَرُ والتأمُلُ في دَلائِلِ العِبَرِ طاعةً؟
قال قومٌ: يَصِحُّ أن يقالَ: طاعةٌ.
وهذا لا يَصِحُّ؛ لأن الطاعةَ إنما هي موافقةُ الأمرِ، وما دام في طُرُقِ النَظَرِ، وطالباً مُعْتَرِفاً (1)، فليس بعارِفٍ، فلا يصحُ منه الطاعةُ، ولا التقربُ إلى من لا يَعْرِفُ، وهو في حالِ النظرِ لم يعرفْ بَعْدُ من يُطِيعُه، ولا من يأمرُه قَبْلَ الطاعةِ، وهذا عندي فيه تفصيل: فالنظرُ الأوَلُ على هذا، فأما النظرُ الثاني والثالث فيما بَعْدَ العِرْفانِ، فيَصِحُ الأمرُ به حيث ثَبَتَ الأَمْرُ.

فصل
في الِإذن
والِإذنُ: هو الِإطلاقُ في الفعلَ.

قال العلماءُ: وأصلُه في الاشتقاقِ من الأذُنِ، كأنه التوسعةُ في الفِعْلِ بالقولِ الذي يُسمَعُ بالأذُنِ، ومنه الأذانُ: إنما هو الدعاءُ إلى الصلاةِ الذي يُسمَعُ بالأذُن.
والعربُ تقول: آذَنَني، بمعنى: أعْلَمَني، كأنه يقول: أسمَعَنِي
__________
(1) أي: سائلَاَ، يقال: اعترف القومَ: سألهم، وقيل: سألهم عن خبر ليعرفه.
"اللسان": (عرف).

(1/134)


بأَذُني، أو سَمِعْتُه بأُذُني، ولا سَمْعَ إلا بالأذنِ.
ومنه قولهم: المأذون، وله أحكامٌ في، الفقه.
ونظيرُ إلِإذنِ: الِإباحةُ.

فصل

في الحفظ
والحِفْظُ: هو العَقْلُ (1) الذي يُمْكِنُ معه التَأْدِيَةُ.
وهو في الحقيقةِ: الذِّكر الذي يُمْكِنُ معه الحِكايَةُ (2).

فصل

في الفَهْمِ
والفَهْمُ (3): العلمُ بمعنى القولِ عند سماعِه، ولذلك لا يُوصَفُ به الله تعالى، لأنه لم يَزَلْ عالماً به، وقد يُفْهَمُ الخطأً كما يفهمُ الصوابُ، ويفهمُ الكَذِبُ كما يُفهمُ الصدْقُ، ألا ترى أنه يُفهمُ قولُ الدَهْرِيِّ (4): الأجسامُ قديمةٌ، كما يُفهمُ قولُ الموَحِّدِ: إن الأجسامَ مُحدَثَةٌ، وكذلك يفهمُ كُلُّ باطلٍ، ولولا فهمه، لما عُلِمَ أنه باطلٌ.
__________
(1) كتبت في الأصل: "العقد"، والصحيح ما: أثبتناه.
(2) في "التعريفات ": 79: "ضبط الصور المدركة".
(3) انظر ما تقدم من تعريف المؤلف للفقه في الصفحة (7 - 8).
(4) نسبة إلى الدهرية، وهم القائلون ببقاء الدهر وقدمه، وتناسخ الأرواح، وإنكار الثواب والعقاب. "الملل والنحل " 3/ 2.

(1/135)


فصل
في العَقْدِ
هو في أصلِ اللغة عبارةٌ عن: ارتباطِ طرفينِ أحدهما بالآخرِ، ومنه: عَقْدُ ما بين طَرَفَي الحَبْلِ، أو عَقْدُ ما بين حَبْلَيْنِ (1).
وهو في الفقهِ: عبارةٌ عن ارتباطِ عَهْدَيْنِ وعِدَتَيْنِ فيما وقعَ العهد به بين متعاهدَيْنِ أو متعاقدَيْنِ-وهما المتلافظانِ- بما قَصداه من صِلَهٍ ما بين شخصينِ بنكاحٍ، أو بَيْعٍ، أو شَركَةٍ، أو إجارةٍ.
فالإِيجاب: قولُ الباذلِ، والقَبول: قول القابل (2)، والقَبُولُ (3) عِنوانُ الرضى، واللزومُ حكمُ ما تأكَدَ منها، والجوازُ حَكم ما تُرِكَ (4) منها.

فصل
واللزومُ: وصفٌ للعقد، وهو عِبارة عن وقوعِه على وجه لا يُمكن لواحدٍ (5) منهما الخروجُ عنه، ولا فَسْخُه، وذلك كعقدِ النَكاحِ، والبيعِ المُطْلَقِ بعد التَفَرقِ، والإِجارةِ، والخُلْعِ.
__________
(1) "اللسان": (عقد).
(2) في الأصل: "القائل".
(3) في الأصل: "القول"، ولعل ما أثبتناه هو المناسب.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "رك".
(5) في الأصل: "واحد".

(1/136)


فصل
والجوازُ: وَصفٌ في العَقْدِ، وهو ان، يقعَ على وجهٍ لكل واحد منهما الخروجُ عن حكمِه؛ كالشَرِكةِ والمضَارَبةِ، والوَكالَةِ في أصل الوَضْعِ، والبيعِ مع خيارِ الشَّرْطِ، والكِتابةِ في جانب العَبْدِ. والوصفانِ لُطْفانِ من اللهِ سبحانه للتخليصِ من الإِضْرارِ والضرَرِ.

فصل
وقد يقعُ العَقْدُ بوصفِ اللُّزُوم، فيَعْتَرِضُ سببُ الجوازِ للتخلُّصِ؛ كالعثورِ على عَيْبِ (1) في المبِيع والَمَنْكُوحَةِ (2)، فيملِكُ المستضِرُّ بالعيب فسخَ العقدِ.
وقد يَعْتَرِضُ اللزومُ بَعدَ الجوازِ (3) بانقضاء مُدةِ الاستدراكِ في خِيارِ الثلاثِ (4)، والتفرُّقِ عن المَجْلِسِ، أو بحصولِ الرضى بإسقاطِ حَقِّ الاستدراكِ، وهو التصريحُ بالإِلزامِ.

فصل
ويدخلُ في ذلك عقدُ الذَمَّةِ والهُدْنَةَ بين أُمةٍ وأُمةٍ أو نائِبيهما، وهو على ما ذكرنا من الحدً والشروطِ.
__________
(1) في الأصل: "نعت".
(2) تحرفت في الأصل إلى: "المنكوكة".
(3) في الأصل: "الجواب".
(4) وذلك في البيع مع خيار الشرط.

(1/137)


فصل
ومن جُمْلَةِ ذلك عَقْدٌ بينَ العبدِ وبين اللهِ سبحانه، وهو النَّذْرُ، فالوفاءُ به لازمٌ، إما بوجودِ الشرطِ، إن كان مشروطاً بأمرٍ قد يحصلُ، أو كان مُطْلَقاً، فيلْزَمُ بإطلاقِ العقدِ.

فصل
ومن جملةِ ذلك عقدُ الِإحرام، والصلاةِ، والصِّيامِ، وذلك يَلْزَمُ الوفاءُ به بالشروعِ فيه (1)، وهو كالَنَّذْرِ عند قومٍ، وهو جائزٌ كالعقودِ الجائزةِ عند قومٍ.

فصل
ولنا من جملةِ هذا عقدٌ يُعرفُ بعقدِ الباب، وعقدِ المذْهَبِ، وحَدُّه: أنه الأصلُ الذي يَنْبَني عليه الخبرُ، وهو عَلى ثلاثةِ أضْرُبٍ: كُلِّي، وشَرْطي، وما كان عليه عِلَّةٌ، ولكل واحدٍ مثالٌ من أصولِ الذَين والفِقْهِ.
فأما من أصولِ الدين، فمثلُ قولِك: كلُّ مُتَغَيِّرٍ أو مُنْفَعِلٍ فَمُحدَثٌ، وكقولك: كلُّ كبيرةٍ موجبةٌ لفِسْقِ فاعِلها، وكقولِك: كلُّ صغيرةٍ مفعولةٍ مع عَدَم اجتناب الكبيرة فغيرُ مُكَفَّرَةٍ، وكلُّ فعلٍ حَسَنٍ لا يَتقدَّمُه أو يصاحِبُه إَيمانٌ فَمُحْبَطٌ، فهذا مثالُ الضَّرْبِ الأوَّلِ من
__________
(1) الكلام هنا في النفل من الصلاة والصيام، وليس في الفرض، بخلاف الحج والعمرة. وانظر تفصيل المسالة في "المسودة": 60، و "شرح مختصر الروضة" 1/ 354، وشرح الكوكب المتير 1/ 407 - 411.

(1/138)


أصولَ الدِّين.
ومثالُه من الفقهِ أن نقولَ: عقد الباب، من مذهبنا أنَ كل مُسْكرٍ حرام، وكل مُسَوغٍ الاجتهادُ فيهِ لا يفسق معتَقِدُه، وَلا فاعِله المعتقِدُ إباحتَه، أو المستفتي في فعلِه مَنْ يعتقِدُ إباحتَه.
ومثال الثاني: وهو الشَرطِيُّ من العقودِ من جهةِ الأصول: إذا كان الله سبحانَه شَرَطَ أن لا يعذَبَ حتى يبعثَ، الرسلَ لنفي الحُجةِ حينَ قالَ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، كان مِنْ مقتضى شرطِه سبحانَه أن لا يعَذَبَ الأطفالَ والمجانينَ، إذ لا رِسالَة إليهم، ولا خِطابَ لهم، وقد صَرحَ به في آيةٍ أخرى: {أن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173] فما شرَطَهُ الباري لئلاَّ يقالَ: لايفعله، ولا يجوزُ أن يفعلَه، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] يَقطع حجةَ المتعلقينَ في التكاليفِ بالَأقدارِ؛ لأنَ اللهَ سبحانَه إذا تَرَكَ عن نفسِه حجَّةً بعد الرسلِ لايَبْقَى ما يكون حجَّةً عليه، ولاحجةَ لمكلفٍ بعد الرسلِ، كذلك لا تَبِعَةَ على صَبِيٍّ ومجنونٍ مع عَدَمِ الرسالةِ إليه.
ومثاله من عقودِ الباب في المذاهب، الفقهيةِ: إذا كان التحريم للجَمْعِ بينَ الأختَيْنِ في عقَدِ النَكاح هوا ممَّا يَتجدد من قَطِيعَةِ الرَّحمِ بالتغايرِ على الفِراشِ، وجبَ أن يَحرُم الجمع بين الأختينِ في الوطِء بملْكِ اليمين، لِما يورِث من قطيعةِ الرحمِ، وإذا كان تحريمُ الخمرِ، لِمَا يَعْقب من العداوةِ والبغضاءِ والصَّدَ عن ذكرِ الله، وعن الصلاةِ،

(1/139)


وكان ذلك موجوداً في السكْرِ من النَبِيذِ، وجبَ تحريمُ النَبيذِ.
ومثال الثالث من الأصول (1)، وهو التَعْلِيليُّ، كقولِك: إنما لم يُعاقِب اللهُ من لم تَبْلُغْه الدعوةُ؛ لأنه لم يَتَجِهْ نحوه خِطاب على أصل أهل اَلسنة، مع كونِهم ذَوِي عقولٍ تنهاهُم عن عبادةِ الصُوَرِ والحجارةِ المُشكَلَةِ، لعلةٍ هي عدمُ البلاغ بدليلِ قوله: {مَ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، أوجبَ هذا التعليلُ من طريق الأوْلى أن لا يُعاقَبَ أطفالُ المشركينَ لما ثَبَتَ من أنهم غيرُ سامِعِينَ للخِطابِ، ولا تَوَجهَ نحوَهم، ولا معهم عقولى تمنعُهم.
ومثال الثالثِ من أصولِ الفقهِ: إنما حُرِمَ القاتلُ الِإرثَ عقوبةً له حيثُ اتُهِم في تَعجلِ حَقَه، فيجبُ على من عللَ بذلك أن لايَحْرِمَ الطفلَ، والمعروفَ بالجنونِ بقتلِهما نَسِيبَهما وموروثَهما؛ لأنه لا قَصْدَ له، فيَسْتَحِق العقوبةَ بفعلِه.

فصل
ويجبُ على من عَقَدَ عقداً أن لا يُناقِضَ فيه، ويحرُسَ ذلك الأصلَ من المناقضةِ كما يحرُسُ العِلَلَ، ومتى انخَرمَ خرجَ أن يكونَ عقداً.
__________
(1) يعني: من أصول الدين.

(1/140)


فصل
في النَّفْيِ
والنفيُ: هو الخبرُ الذي يدل على أنَّ المُخْبَرَ به ليس بشيءٍ، أو ليس بموجودٍ، وكلُّ خبرٍ فلا يخلو أن يكون نَفْياً، أو إثْباتاً، أو إبْهاماً، فالنفي ما قَدَّمْنا، والإِثباتُ نقيضُه، وهو الخبرُ الذي يدل على أن المخبرَ به موجود، أو أن المخبرَ به شيءٌ، وأما الإِبهامُ: فهو الخبرُ الذي لا يدلُّ على وجودِ المخبرِ به ولاعدمِه.
والمثْبَتُ: هو المخبر بوجودِه، أو بكونِه شيئاً. والمَنْفى: هو المخبر بِعَدَمِه، أو بكونِه ليس بشيءٍ.
فعلى هذا: من أثْبَتَ الحَرَكَةَ [فقد أخبر بوجودِه]، (1)، ومن نفاها، قد أخبرَ بعدمِها (2)، ومن أخبرَ بتحريمِ النَبيذِ، أو إيجاب الشُّفْعَةِ بالجوارِ، فقد أخبر بوجودِ الحُكْمَيْنِ؛ أعني: تحريمَ النبيذ، ووجودَ إيجابِ انتزاعِ العَقَارِ بالجِوارِ.
والدَّلالةُ على أن النفيَ يتعفَق بالعدَم قولهم: الضِّدانِ يتنافيانِ، والإِثباتُ نَقيضُ النفي، كما أن الوجودَ نقيض العَدَمِ.
والدلالة على أن الإِثباتَ في الصَفةِ متعلق بالمصدرِ قولُهم: ذَمَمْتُه لأنه ظالمٌ، ومدحتُه لأنه مُومِنٌ أو مُحْسِن، والتعلقُ في ذلك كُله في الذَمَ بالظُلْمِ، وفي المَدْحِ بالإِيمانِ والإِحسانِ، وفي العِقابِ بالكُفْرِ،
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة يستقيم بها المعنى.
(2) في الأصل: "بنفيها".

(1/141)


وفي الثَواب بالإِيمانِ، فاعتُبرَ ابداً الشيءُ الذي لَهُ ومن أجلِه كان المخبرُ عنهَ على الصَفةِ، فإن كانَ معنىً غيرُ المخبَرِ عنهُ، فالذمُ متعلقٌ به، وكذلك الحمدُ، وعليه قِياسُ الإِثباتِ والنَفيِ، وإن كان ليس بمعنىً غيرِ المخبَرِ عنه في الحقيقةِ، كقولك: لأنه موجودٌ، ولأنه باقٍ، إذ ليس يفيدُ تقديرَ معانٍ، فكل ذلك متعلق بالمخبَرِ عنه.

فصل
وقد يُثْبَتُ الشيءُ من وجهٍ، وُينْفَى من وجهٍ آخَرَ، كمايُعلمُ من وَجهٍ، ويجهلُ من وجهٍ آخَرَ، ذلك كقولِك: السعَفَة مُتَحركةٌ. فهذا إثبات للحركةِ، ثمِ تقولُ: ولم يحرِّكْها مُحرك. فهذا نفى للحركةِ، لأنه لو لم يحركْها مُحرَكٌ كانت حركَتُها معدومةً لا مَحالةَ، فقد دل على أن المخبَرَ به في القولِ الأول موجود، ودل في الثاني على أن المخبرَ به معدوم، وهذانِ الخبرانِ متناقضانِ، إلا أن تناقضَهما لمَا كان لا يُعرفُ إلا من طريقِ الاستدلالِ، جازَ أن يجمَعَ بينهما مَنْ لم يستدل فيعلمَ أنهما يتناقضانِ.

فصل
ولنا سَلْبٌ، وبينَهُ وبينَ النَفْيِ فَرْق: وهو أن النفيَ دَلالة على عَدَم المخبرِ به، والسلْب دلالةٌ على أن المخبَرَ به على نَقيضِ الصَفَةِ بالإِنكارِ، موجوداً كان المخبَرُ به أو معدوماً.
مثالُ ذلك من الأصولِ، قولُك: ليسَ جوْهَرُ الجمادِ مثلَ جَوْهَرِ الحيوانِ، فهذا هو السلْبُ، وليس بالنَفيِ؛ لأنه لم يدل على عدمٍ، وإنما دل على أن المُخبَرَ به على نقيضِ الصَفةِ، فقلتَ: ليس مثلَه،

(1/142)


وهذه صفةٌ لا تَختص بالوجودِ دونَ العدم، ولا بالعدم دون الوجودِ، وإنما تدلُّ على النقيضِ في القولِ والفعَلِ (1) بطريق الإِنكارِ.
والفرقُ بين الإِيجاب والِإثباتِ: أن الإِثباتَ دَلالةٌ على أن المخبَرَ به موجودٌ، والإِيجاب دً لالةٌ على أن المخبَرَ به على صفةٍ بطريقِ الِإقرارِ (2)، وليس يدلُّ على وجودِ المخبرِ به ولا عَدمِه لا مَحالَةَ؛ لأنه قد يكونُ إيهاماً وغيرَ إيهامٍ.

فصل

في الصَّوابِ
وهو العدولُ إلى الحقِّ، ويكونُ في القولِ والفعلِ، كما أن الحُسْنَ يكونُ في القولِ والفعلِ، وكذلك الحق في القولِ والفعلِ، والصوابُ لا يكونُ إلا حَسناً.
فأمَّا الإِصابةُ، فقد تكونُ حَسَنةً، وتكونُ قبيحةً على ما قَررْنا (3) في رَمْيِ الكافرِ المسلمَ، ورمي المسلمِ الكافرَ، أو رميِ الابنِ أباه، إصابتُه له قبيحةٌ، وإصابةُ المسَلمِ للكافرِ حَسَنَةٌ، وجميعاً إصابةٌ، فهذا في الفعل.
فأما في الاجتهادِ والبحْثِ، فلو بَحَثَ إنسانٌ عن شيِءٍ فوجدَه وكان ذلك الشيءُ بدْعَةً وضَرَراً لغيرِه، كان عِصْياناً، ولم يَمْنعْ عصيانُه أن يكونَ وجودُه لَذلك إصابةً.
__________
(1) في الأصل: "العقل".
(2) في الأصل: "الإفراد".
(3) انظر الصفحة (105).

(1/143)


قال بعض الأصوليِّين: وقد يكونُ صوابٌ أصوبَ من صوابِ، كما يكونُ صلاح أصلحَ من صلاحٍ، وطاعةٌ أفضلَ من طاعةٍ، قال عَلي بن عيسى في كتابِه: وهذا يجوزُ على طريقِ المبالغةِ، كما يقالُ: فلانٌ أصدقُ من فلانٍ، أو أصدق العالمينَ.

فصل

في الخطأ
والخطأ: نقيض الصواب؛ وهو الدَّفعُ عن الحقِّ، وهو الذهابُ عن الحقِّ، وهو الضلالُ عن الحَقِّ.

فصل
في الضَّرُورَةِ
والضرُورَةُ: هي الفعل الذي لا يُمْكِنُ التخلصُ منه.
والمُضْطرُّ: هو المفعولُ به ما لا يمكنه التخلصُ منه.
والضَرُورَةُ والاضْطِرارُ واحدٌ، وهما غيرُ الِإلْجاءِ وخلافُه؛ وذلك أن الإِلجاءَ: أن يُحمَلَ على أن يَفعَلَ، والضَّرورَة: أن يُفْعَل فيه شيءٌ لا يمكنه الانصراف عنه.

واشتقاقُ الضرورةِ من الضُرِّ، والضرُّ: ما فيه ألمٌ، وقد يُقال: اضْطَرة إلى أن يفعلَ، كما يقال: ألْجَاهُ إلى أن يَفعلَ، غيرَ أن الأظهرَ في الاضْطِرارِ أنه خِلافُ الاكتساب، ألا ترى أنه يقالُ: أباضْطِرارٍ عرفتَ هذا، أم باكتسابٍ؟ ولا يَقع الَإِلجاءُ هذا الموقعَ، وإذا تقاربتِ

(1/144)


المعاني تداخلت الألفاظُ، فوقعَ بعضُها مَوقعَ بعضٍ، ونابَ بعضُها عن بعضٍ.
وأكثرُ ما تستعملُ الضرورةُ في العلمِ، وهي في الفعل كلِّه تَصِح، فكَوْنُ الإِنسانِ ضرورة، وشَهْوتُه ضرورةٌ، وخَواطِرُه ضرورةٌ وأكثرُ أحوالِه ضرورةٌ؛ لأن أكثرَ أحوالِه ما يُفعل فيه، وأقلُّها ما يَفْعَلُ ويَكْتَسِبُ كحركتِه، وسكونِه، وجمعِهِ، وتفريقِه، وإرادتِه، وكراهتِه، واعتقادِه، وندمِه، وإصْرارِه، وما يَجْرِي هذا المَجْرَى، فاكتسابٌ كلُه.
وكأنَ الأصلَ في الضرورةِ أن يُفعلَ في الشيءِ ما يَضُرة، ولا يَتهَيأ
له الانصرافُ عنه، ثم كَثُرَ حتى صارَ في كلِّ ما يُفعلُ فيه مما لا يَتهيأ
له الانصرافُ عنه، ضَرَّهُ أو نَفَعَهُ، وقد يضْطَرُّ الِإنسانُ نَفسَهُ إلى أمرٍ، كالذي يُلقي نفسَه من سطحٍ، فيَضْطَر نفسَهُ إلى الهُبوطِ.

فصل
في الضِّدَّ
وهو: المنافي للنَّقيض مع المنافاةِ لِمَا نافاهُ، وشرح ذلك: أنَّ المنافاةَ قد تكونُ بين الشيئَيْنِ، ولا مُضادَّةَ بينهما، كالإِرادةِ تنافي الموتَ، ولا تُنافِي ما نافَى الموتَ من الحياةِ والمعرفةِ وغيرِ ذلك، وإنما قيلَ: مُنافاة، ولم يُقَلْ: مُضادَّة؛ لأن المضادَّةَ نهايةُ المُبايَنَةِ، والمنافاةُ إنما يُرادُ بها الدَّلالةُ على أنه لا يَصِحُّ وجودُهما معاً.
وأما النقيضُ فهو أعمُّ من الضد، فكلُّ ضدَّ نَقيضٌ وليسَ كُلُّ نقيضٍ ضداً، إذِ الصِّدقُ نقيضُ الكذبِ، وليس بضدٍّ، وكذلك المتحركُ نقيضُ الساكنِ، وليس بضا، وكذلك المنافاةُ أعمُّ من

(1/145)


المضادَّةِ، والنَقيضانِ قد يجتمعانِ في الوجودِ (1)، ولا يَصِح أن يجتمِعَ الضدانِ في الوجود، وذلك كقولك: زَيدٌ متحرِّكٌ، ليس زيدٌ متحرِّكاَ، فهذان القولانِ نقيضانِ، وقد اجتمعا في الوجودِ، والضدان يتعاقبانِ في الوجودِ.
وعندي أن ذلك لأنَّ الضدَّيْنِ لا يقومُ كل واحدٍ منهما إلا بمَحَل، ولا يتبيينُ التضاد إلا بالمَحَل الواحدِ، ولا اجتماعَ للحَرَكةِ والسَكونِ، ولا للبياضِ والسَّوادِ في محلٍّ واحدٍ، والنَقيضُ (2) في اللفظ الواحد لا يَجتمع مع النقيض، وإنما قولُ القائلِ: زيدٌ متحركٌ [ليس]، (3) متحركاً، نقيضانِ، لكنْ في زمانَيْنِ، والنطقُ لم يَجْمَعْهما (4)، وإنما يَعْقُبُ أحدُهما الاَخَرَ، وإنما الذي بَقِي من المُفارَقَةِ أن القولَيْنِ نقيضانِ، وجُمِعَا لزيدٍ جَمْعاً لا يُجْمَعُ مثلُه في الضِّدَّيْنِ، فقيلَ: زيدٌ متحركٌ، ليس زيدٌ متحرِّكاً، والضدانِ لا يجتمعانِ وجوداً في المحلِّ.
__________
(1) كلام المؤلف هنا ليس على إطلاقه، وهو خلاف المعروف من أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وربما يتضح بقوله بعد قليل: "وإنما قول القائل: زيد متحرك، ليس متحركاً، نقيضان، لكن في زمانين، والنطق لم يجمعهما، وإنما يعقب أحدهما الآخر .. ".
(2) كتبت في الأصل: "والنقيضان" ولعل ما كتبناه هو المتناسب مع السياق.
(3) زيادة على الأصل يقتضيها النص.
(4) في الأصل:" يجمعها"، وما قدرناه أنسب.

(1/146)


فصل
واعلم أن لنا ما يُضادُ شَرْطَ الشيءِ وليس بمضادٍّ له، كالِإرادةِ تُضاد الكراهةَ من حيثُ إنها لا تجتمعُ معها في المحَلِّ، والكراهةُ لا تجتمعُ مع المَوْتِ، ولا الِإرادةُ تجتمعُ مع اْلموتِ، ولا يقالُ: إن الِإرادةَ ضدُ الموتِ، ولا الكراهة ضدُ الموت، لكنَ الموتَ يُضادُ ما لا يصحُ وجودُ الإِرادة والكراهةِ إلا مَعَهُ، وهو الحياةُ.
وكذلك العِلْمُ لا يجتمعُ مع الموتِ، لا لكونِ الموتِ ضداً له، لكنْ لكونِه ضد الشَرْطِ وهي الحياةُ، فافْهَمْ ذلك.

فصل
في مثالِ ذلك من الفِقْهِ
إن الحَظْرَ في باب الاستمتاعِ يُضادُ الإِباحةَ لا الملكَ، والإِباحةُ لا تجتمعُ مع عِتْقٍ ولا طلاقٍ لا من حيثُ مضادَّتُهما لها، لكنْ لِمضادةِ الشرطِ لها، وهو الملكُ.

فصل
وقال بعضُ أهلِ العلم بالأصولِ: وما ادفَعُ قولَ القائلِ: إنَ الموتَ يُضادُّ الإِرادةَ.
والذي نختارُه هو الأولُ؛ لأنه ينبغي أن يكونَ المضادُ للشيء مضادَّاً لِمَا ضادَّهُ، كالسوادِ لمَا ضادَّ البياضَ، ضادَ جميِعَ ما يُضادُّ البياضَ من سائرِ الألوانِ، وقد علمنا أن الكراهةَ تضادُّ الموت، والموتُ يضادُّ الحياةَ، فينبغي أن تكونَ الكراهةُ تضادُّ الحياةَ، كما نقولُ في

(1/147)


حركةٍ يَمْنَةً، وحركةٍ يَسْرَةً، والسكونِ، فإن كان هذا لا يجبُ في بعضِ الأضْدادِ، لم يَجِبْ أيضاً في كلِّ الأضدادِ المُساوَقَةُ.
ومما يَدُلُّ على ذلك أن الأضدادَ إنما تتضادُ على المحل الواحدِ إذا كان من شأنِها أن تَحِلَّ في مَحَلٍّ، يدل على ذلك أن بياضَ زيدٍ لا يُضادُ سوادَ عمرو، وُيضادُه ما كان من جِنْسِ ذلك البياضِ يَحُلُ في زيدٍ، وإذا ثبتَ هذا قلنا: إن المضادَّةَ بينَ الإِرادةِ والكراهةِ حاصلةٌ من حيثُ تعاقَبَتْ على المَحَلِّ، ومتى وُجدَ أحدهُما في المَحَلِّ-وهو الحَي-، انتفى الآخَرُ عن ذلك المَحَلِّ، فأما إذا وُجدَ الموتُ انتفتِ الحياةُ، وهي ضِدُّه، وكان امتناعُ حلولِ الإِرادةِ لاَ لحلولِ ضدِّها - وهي الكراهةُ-، لكنْ لعدم شَرطِها، وهي الحياةُ، فخرجَ المحل عن كونِه قابلاً لكراهةٍ وإرادةٍ، فصَارَ كعَدَم المحلِّ رأساً، لا يقالُ: إنه ضد لأعْراضِ الجسمِ.

فصل
في الفِسْقِ

الفِسْقُ: هوالخروجُ، يقال: فَسَقَتِ الحيَّةُ: إذا خَرَجَتْ. وسُمِّيَتِ الفَأْرَةُ: الفُويسِقَةَ (1)، وسُمَيَ به العاصي بكبيرةٍ، أو بمداومةٍ [على]، صغيرةٍ، لخروجهِ عن أمرِ الله وشرعِه، قال سبحانه: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، يعني: خرجَ. فهذا حَدُّ الفِسْقِ أصلًا في اللغةِ.
وهو في الفقهِ بحكمِ الرَّسْمِ: عبارةٌ عن فِعْلِ كبيرةٍ، أو مُداوَمةٍ
__________
(1) لخروجها من جحرها على الناس. "اللسان": (فسق).

(1/148)


على صغيرةٍ، وقد اختلفَ الناسُ في ذلك، فقال قوم: إن الله سُبحانَه لم يَنصِبْ على الكبيرةِ عَلَماً ولا دَلالةً، لِيَقَعَ الاجتنابُ لكلِّ معصيةٍ.
وقال صاحبنا (1) رحمةُ اللهِ عليهِ: عليها امارَةٌ، فكل معصيةٍ أوجبت حَدَاً في الدنيا، كالزِّنى، والسرقةِ، والشًّرْب، والقَذْفِ، وقَطْعِ الطريقِ، أو وَعيداً في الآخرةِ كالربا، والتَوَلي عن الجَهادِ إذا الْتَقَى الصَّفَّانِ، فهو كبيرة (2). والصغائر: ما عدا ذلك.
وحَصَرَها قومٌ بأربعينَ (3)، وأدخلوا فيها عُقُوقَ الوالدَيْنِ، وشهادةَ الزورِ، والانتسابَ إلى غَيْرِ العَشِيرةِ، واسْتِرْقاقَ الحُرِّ.
وحَصَرَها قومٌ بعَشرَةٍ، فقالوا: الشِّرْكُ، والقَذْفُ في اللِّسانِ، والسَّرقةُ، والقتل في اليَدِ، والشًّربُ، وأكل الرِّبا، وأكل مالِ اليتيم في البَطْنِ، والزِّنى، واللِّواطُ في الفَرْجِ، والفِرارُ من الزَّحْفِ في القَدَمِ.
والدَلالة على معرفتِنا لها: أن الله سبحانَه قد سمَّى كبائرَ، وشرطَ إحْبَاطَ كلِّ سيئَةٍ غَيْرِها باجتنابِها، فدلَّ ذلك على أن لنا غَيْرَها، وشَرَعَ عقوباتٍ، وجاءَ بوعيدٍ على معاصٍ مخصوصةٍ، فالاستدلال بعِظَم العُقوبةِ على عِظَمِ الجريمةِ استدلالٌ صحيحٌ، فنستدلًّ على الأكثرِ
__________
(1) يعني الِإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
(2) قال ابن أبي العِزَ في "شرح العقيدة الطحَاوِيةِ" 2/ 525 بعد أن ذكر عدة أقوال في الكبيرة: "وقيل: إنها ما يترتب عليها حَد، أو توعُد بالنار، أو اللعنةِ، أو الغضب، وهذا أمثلً الأقوال" وذكر أنه قولٌ مأثورٌ عن الإمام أحمد.
(3) وحصرهَا الِإمام الذهبي في كتابه "الكبائر" بسبعين، وعد منها ابن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" سبعاً وستين وأربع مئة كبيرة.

(1/149)


مَاثَماً عندَ اللهِ على الأكثر عُقُوبَةً بوَضْعِ الله، كما نستدلُّ على الفَضْلِ في أعمالِ الطَاعاتِ بما يَرِدُ من مَقَاديرِ المجازاةِ عليها، وشِدةِ الحَثِّ على فِعْلِها، ومَجِيءِ الوَعِيدِ على تركِها.

فصل
والعَدْلُ: هو الاسْتِقامةُ في الفِعْل.
وقيل: هو العُدُولُ إلى الحق.
وقيل: هو الوَضْعُ للشيءِ في حَقِّه.

وقيل: سُميَ العدلُ بهذا؛ لأن العَدْلَ: هو الذي لا يَمِيلُ، وهو مأخوذُ من التَّعديلِ الذي يَنْفِي المَيْلَ.
فصل
والجَوْرُ: هو المَيْلُ عن الحق، ومنه قولُه سُبْحانَه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9]، وتقولُ العَرَبُ: جارَ السهْمُ: إذا مالَ.

ونَقائضُ تلكَ الحدودِ المُقَدمَةِ في العَدْلِ ها هنا أن نَقُولَ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ حقِّهِ، نَقِيض قولك في العدلِ: هو وَضْعُ الشيءِ في حَقَهِ، ومن نقائضِ العدلِ في حدودِ الجَوْرِ أن نقولَ: هو المجازفةُ في الفِعْلِ حتى يَميلَ عن الحق، وهذا الحَدُّ نَقِيضُ قولِك في حد العَدْلِ: هو المُضِى في الفِعْلِ حتى لا يَمِيلَ عنِ الحق.

(1/150)


فصل
في الظُّلْمَ
والظلمُ: هو الانْتِقَاصُ، قالَ سبحانه: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، وتقولُ العربُ: مَن أشْبَهَ أباهُ فما ظَلَمَ، أي: ما انتقصَ من حقِّ الشَبَهِ، ومن قال: إنه وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه (1)، فما خرجَ بهذا عن الانْتِقَاصِ.

وقد غَلَبَ استعمالُ الناسِ الظلمَ في انتقاصِ حقوق الآدمِيِّينَ، وانتقاصِ الحقِّ الذي يجبُ به الذّمُ شَرعاً، ولو كانَ الظُّلْمُ ما كان انتقاصاً من حَقِّ آدميٍّ، لَمَا كانَ الكُفْرُ ظُلْماً، وقد قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، لأنه انتقاصُ أكْبَرِ الحقوقِ، وهو شُكْرُ المُنْعِمِ اَلأولِ، ومِن نِعَمِهِ يكونُ إنعامُ مَنْ بَعْدَهُ في الإِنعام، كحَنينِ الوالدِ، وإكرامِ الصَّديقِ، فإنه المُمِدُّ بتَحْنِينِ القُلوبِ وتَليِينِها.
فصل
واعْلَمْ أنَّ العدلَ والإِنصافَ نَظَائِرُ، والجَوْرَ والظلمَ نظائرُ، ويتميَّزُ أحدُ القَبيلَيْنِ من الاَخرِ عندَنا بالشَّرْع، كما يتميَّزُ السواد من البياض بالبَصَرِ، وعند من أثبتَ العَقْلَ مُحَسِّناً ومُقَبِّحاً (2) يقول: إن المِيزَةَ بينهما بالعَقْلِ، كما أن المِيزَةَ بين البياضِ والسَّوادِ بالبصرِ.
__________
(1) هو قول القاضي أبي يعلى في "العدة" 1/ 169.
(2) يعني المعتزلة كما تقدم.

(1/151)


فصل
في حروف المُباحَثاتِ (1)
وهي تسعةٌ في الأصلِ، ومدارُ البيانِ فيها على "ما هو"- وهو البَحْثُ عن "الماهِيةِ" (2) -، ثم "هَلْ"، و"امْ"، و"ما"، و"مَنْ"، و"أيُّ"، و"أيْنَ"، و"مَتَى"، و"كَيْفَ"، و"كَمْ"، وهي على مَعانٍ مُتَفَرقَةٍ (3).

فصل
في الماهِيةِ (2)
وهو المَعْنى الذي يدل عليه القولُ بِدَلالةِ الإِشَارةِ. وأصلُ الماهيةِ (2): هو المعنى المنسوبُ إلى "ما" التي يُستَخبر بها، فيقال: ما هو؟، و"ما" هي التي سَألَ بها من جَهِلَ اللهَ سبحانَه، وهو فِرْعَوْنُ (4)، وعَدَلَ عنها إلى ما يَلِيقُ بالله من تَعْرِيفِهِ بافعالهِ- إذ لا
__________
(1) وتسمى أيضاً: "أدوات السؤال".
(2) في الأصل: "المايية"، وانظر "التعريفات" ص 171.
(3) جاءت في الأصل: "متفقة"، ونرى أن صوابها: "متفرقة".
(4) يعني قوله تعالى في سورة الشعراء، [آلاَية: 23]: {قال فرعون وما رب العالمين}.

(1/152)


ماهِيَّةَ له- موسى الكَلِيمُ الكريمُ عَليه السلائم (1).
وكل علَم قِياسيٍّ، فَمدارُ البيانِ فيه على "ما هو؟ ".

فصل
في "هَلْ"

وقد تَرِدُ بمعنى الألِفِ (2)، تقول: هل زيدٌ في الدارِ؟ مكانَ قولِك: أزيدٌ في الدارِ؟ وقولُك: هَلْ قامَ زيدٌ؟ بدلًا من قولِك: أقامَ زيدٌ (3)؟.
فصل
في "أمْ"

وأما "أم" فلا يُبْحَث بها ويستخرج إلَّا بعدَ كلامٍ قد تقدمَ، مثل قولِك: زيدٌ قامَ أم عمرٌ و؟ بكرٌ دخلَ أم خالدٌ (4)؟
ولا يُبتداب "أم" بخلافِ "هل" و"الألف"، أعني: ألِفَ الاستفهامَ.

فصل
في الألف
والألف يُستأنَفُ الاستخبارُ بها، فتقول: أزيدٌ قامَ؟ أعمرو في
__________
(1) بقوله: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} سورة الشعراء، [الاَية: 24] وما بعدها.
(2) أي ألف الاستفهام.
(3) "شرح المفصل" 8/ 150 - 155.
(4) المصدر نفسه 8/ 97 - 98.

(1/153)


الدارِ؛ أدَخل الأميرُ دارَه؟ وما شاكلَ ذلك (1).

فصل
في "كَيْفَ"

فأما "كيفَ هو؟ " فيقعُ سؤالًا عن الصُّورةِ والحال (2)، ويجوزُ أن تقولَ بدلاً منه: ما حالُه؟ ما صورتُه؟ فتجتزىء به من القولِ: كيفَ هو؟ وهذا المُوَضِّحُ لكونِ "كيف هو" إنما هو سؤالٌ عن الصورةِ والحالِ، لأنه حَسُنَ مَجِيءُ أحدِهما بدلَاَ من الآخَرِ، وهذا علامةُ صِحةِ الدَّعوى في البَدَلِ، وإذا رأيتَ الإِفصاحَ بالغرامة (3) يَنطبقُ على ما ادُعِيَ أنه بَدلٌ له، أو عِبارةٌ عنه، فاعلم صِحَةَ الدً عوى.
فصل
في "كم"

وهي: حرفٌ للبَحْثِ عن العِدَّةِ (4)، تقول: كم عندَك رجلَاَ (5)؟، وكم في الكِيسِ دِرْهماً (5)؟. ويَشهدُ لذلك أنَّكَ تُقِيمُ مَقامَ هذا قولَك: ما عِدَّةُ مَنْ عندَك مِنَ الرِّجالِ؟ وما عَدَدُ ما في الكيسِ من الدراهمِ؟،
__________
(1) "شرح المفصل" 8/ 150 - 152.
(2) المصدر نفسه 4/ 109 - 110
(3) كذا في الأصل، والغرامة في اللغة: ما يلزم أداؤه.
(4) "شرح المفصل" 4/ 125 - 136.
(5) في الأصل: "رجل" و "درهم".

(1/154)


فصل
في "مَتَى"

وأما "متى": فهو بَحثٌ عن الزمانِ (1)، تقول: مَتى جاءَ ابُوكَ؟ ومتى عُوفِي أخوكَ؟ ومَتى قَدِمَ الأميرُ؟ فالجواب عنه: اليومَ، أمسِ. فالسؤال عن الزمان يَنُوبُ عنه أن تقولَ: ما زَمانُه؟.
فصل
في "ايْنَ"

فأما "اينَ هو؟ " فهو بحثٌ عنِ المكانِ، تقولُ: أين زيدٌ مِنَ السُّوقِ؟ وأينَ كنْتَ اليومَ؟ ويَحْسُنُ أن يقالَ بدلاً منه: ما مكانُه؟.
فصل
وكان الفرضُ في إبدال كُلِّ حرفٍ بـ "ما" بيانَ فضلِ "ما" وكثرةِ فائدتِها بدخولِها بدلًا من كلًّ حرفٍ: ما عِدتُه؟ بدلًا من: كم هو؟، وما مكانُه؟ بدلاً من: أينَ هو؟، وما زمانُه؟ بدلاً من: متى هو؟، وما عندك؟ بدلاً، مِنْ: مَنْ عندَك (2)؟، وما حالُه؟ بدلًا من: كيف هو؟، فقد بأنَ أنها الاصلُ في حروفِ المباحثاتِ.
__________
(1) ولها وجوه أخرى. انظر"الصاحبي" ص 145، و "شرح المفصل" 4/ 103.
(2) في الأصل: "ممن عندك".

(1/155)


فصل
في التَحْصِيلِ
وهو: حذفُ فُضُولِ الكلام. وقيل: هو الاعتمادُ على المقصودِ دونَ الحَشْوِ والتَطْوِيلِ، ولا سبيلً إلى ذلك مع التكثيرِ إلا بالتماسِ الغَرَض ما هو، ثم التماس ما يُحتاجُ إليه في الغرضِ، فحينئذٍ يقعُ التحصيلُ، ويَصِحُّ التَمييزُ.
والتَحصيلُ والتَهذيبُ والتخليصُ نظائرُ، ويقالُ: هو (1) نَقِي الكلامِ، كثيرُ الصوابِ.

فصل
في الاجْتِهادِ
والاجتهادُ في الأصلِ: كلُ فعلٍ فيه مشَقَةٌ، ثم صارَ عَلَماً على الطلَبِ للحق من الطريقِ المُوديَةِ إليه على احتمالِ المشقَةِ فيه.
ومثال الاجتهادِ في الأحكامِ كعَبْدٍ ضَل عن سيدِهِ، فقامَ أصحابُه بالاجتهادِ في طَلَبهِ، فسلكَ كل منهم طريقاً غيرَ طريقِ الآخَرِ بحَسَبِ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ (2) وجودُه له، ووقوعُه عليه، واسْتَفْرَغَ الَوُسْعَ،
__________
(1) في الأصل: "هي".
(2) في الأصل: طلبه".

(1/156)


واستَنْفَدَ المنوةَ بمقدارِ الطَاقةِ.

فصل
والاجتهادُ على ضَرْبَيْنِ:
اجتها. يؤدي إلى معرفةٍ.
واجتهاد يؤدي إلى غَلَبَةِ ظَنً أنه لا شيءَ أوْلى بالحادثةِ من تلك القضيةِ.

(1/157)


فصل
في تحقيقِ معنى قولِ الفقهاءِ في الفعلِ: إئهُ مكروهٌ وذلك منهم وبينَهم ينصرفُ إلى وجهَيْنِ لا ثالثَ لهما:
أحدهما: أنه المنهى عن فعلِه نهيَ فضْلٍ وتَنْزيهٍ، مثل: سلوكِ ما يحفظُ المروءَةَ تنَزُّهاً عن سلوكِ ما يَقْدَحُ فيها، كالأكلِ على الطريقِ، ومَد الرِّجْلِ بين النَاسِ، وكثرةِ الضحِكِ، واستدامةِ المُزاحِ والهزءِ، وتركِ الوَقَارِ بإهمالِ التَجَملِ، ومأمورٌ على وَجْهِ النَدْب بأن يفعلَ غيرَهُ، والذي هو أوْلى وأفضلُ منه، وذلك نحوُ: كراهيةِ اَلتركِ لصلاةِ الضُحَى، وصلاةِ الليلِ، وهو التهجُّدُ وقيامُ الليلِ الذي يفعلُه العلماءُ والصلحاءُ، والنَوافلِ المأمورِ بفعلِها، فيقالُ للمكلفِ: يُكْرَهُ لك تركُ هذهِ الفضائلِ المؤديةِ بك إلى المنازلِ؛ لأن في تركِها تفويت الرغائبِ من ثوابِ اللهِ تعالى (1).

فصل
والوجهُ الآخَرُ من المَكْرُوهِ: وصفُ المختلَفِ في حكمِه بأنه مكروهٌ، نحو: وصفِنا التَوَضؤ بالماءِ المستعمل بأنه مكروة؛ لموضعِ
__________
(1) اشرح الكوكب المنير 1/ 418 - 419.

(1/158)


الخلافِ في جوازِ التوَضُّؤ به (1)، ونحو: التوَضّؤِ بسُورِ الهِرِّ مع القدرةِ على غير؛ (2)؛ لأنه أفضلُ، وَنَحو أكلِ لحوم السباع (3)، وما يَحرُمُ أكلُه، واتفِقَ على أن العدولَ عنه وأكلَ غيرِه أَوْلى.
وفي الجملةِ، فهو كلُّ ما كان العدولُ إلى غيرِه أحوطَ وأوْلَى وأفضلَ.

فصل
وإنما يجبُ أن يقالَ في أمثالِ هذا: إنه مكروهٌ في حق من رأى أنَ ذلك لا يجوزُ، ولا يقالُ: إنه مكروهٌ على الإِطلاقِ، سِيما على قولِ من يقولُ: إن كُلَّ مجتهدٍ مصيب.

فصل
وليس من عادةِ الفقهاء أن يصفُوا ما أُمِرْنا به مما ليس غيرُه أفضلَ منه، ولا ما قَطَعَ الدليل على تحريمِه، بأنه مكروهٌ؛ فلذلك لا يجوزُ أن يقالَ في تركِ شيءٍ من الفرائض، ولا في المُباحِ المطْلَقِ: إنه مكروهٌ ولا يصفون أكلَ المَيْتَةِ والذمِ والخنْزير وشُرْبَ الخمرِ بأنه مكروهٌ؛ لمَّا كان مقطوعاً بتحريمِه.

فصل
وقد يقالُ في الفعلِ: إنه مكروهٌ، إذا كان مختلَفاً في تحليلِه
__________
(1) "المغنى" 1/ 31 - 33.
(2) "المغنى" 1/ 70 - 72.
(3) "المغني" 13/ 319 - 320.

(1/159)


وتحريمِه اختلافاً حاصلاً مُسَوَّغاً، مع عدم النص القاطعِ على أحدِ الأمرَيْنِ، بل واقعٌ به من جهةِ الاجتهادِ وغَلبةِ الظَنِّ، فيقالُ في مثلِ هذا: إنه مكروهٌ فعلُه عندَ من أدَّاهُ اجتهادُه إلى تحريمِه، فكان القولُ بذلك من فَرْضِهِ وتَجْويزِه لغيرِه القولَ بتحليلِه إذا كان ذلك جهْدَ رأيهِ، فيكونُ ذلك مكروهاً في حقِّ عالمٍ وفَرْضِه، وغيرَ مكروهٍ في حقِّ غيرِه إذا اخْتَلَفَ اجتهادُهما، لا وَجْهَ لقولِهم: إنه مكروة، سوى ما ذَكَرْنا.
وقد أشارَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "الحلالُ (1) بين، والحرامُ (1) بيِّن، وما بين ذلك أمور متشابهات لا يعلمُها إلا قليل" وقال: "لكل مَلِكٍ حِمىً، وحِمى اللهِ محارِمه، ومن حامَ حولَ الحِمَى، يوشِك أن يَقَعَ فيه" (2)، وقال: "دعْ ما يَريبُكَ لِمَا لا يَريبُك" (3) وقال لوابِصَةَ:
__________
(1) في الأصل: "حلال"، "وحرام"، والتصحيح من مصادر التخريج الأتي
(2) نص الحديث عند مسلم في "صحيحه" برقم (1219) من رواية النعمان بن بشير: "الحلال بَين، والحرام بَين، وبينهما أمور مُشْتبِهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحِمى يوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمى، وحمى الله محارِمُه".
وأخرجه أحمد 4/ 267 و269، والدارمي 2/ 161، والبخاري في "صحيحه" 1/ 20 و3/ 69، وأبو داود 2/ 218، والترمذي 5/ 198، والنسائي 7/ 213، وابن ماجه (1318) و (1319).
(3) أخرجه البخاري تعليقاً عن حسان بن أبي سنان في البيوع: باب تفسير المشبَّهات.
وأخرجه من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه أحمد في "المسند" 1/ 200، والدارمي 2/ 161، والترمذي (2637) في صفة القيامة، والنسائي =

(1/160)


"استفتِ نفسَك وإنْ أفتاكَ المُفتُونَ، فالبِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه نفسُك، والإثْمُ ما حاكَ في صَدْرِك" (1).
ولم يُرِدْ - صلى الله عليه وسلم - بالمتشابِهاتِ، ولا ما حاكَ في الصًدْرِ ما لا دَليلَ عليه، لكنَهُ أرادَ ما كانَ في دليلِه غُموض، والدَلالةُ على ذلك قولُه: "لا يعلمها إلًا قليلٌ"، ولو كان ما لا دليلَ عليه، لمَا أضافَهُ إلى القليلِ من العلماء، وهمُ الذينَ زالَ الاشتباهُ عنهم لانكشافِ الأدلًةِ لهم.

فصل
ويكرهُ للِإنسانِ الإِقدامُ على ما حاكَ في صَدْرِه، وخافَ الزلَلَ فيه، وظنً إصابةَ دليلٍ قاطعٍ عليهِ، بل يجب عليه الكَف عن ذلك اجْتِناباً.

فصل
فأما وصفُ الفعلِ الواقعِ بأنه مكروهٌ لله، واكتسابُ العبد له، فذلك باطل؛ لأنه تعالى الخالقُ لجميعِ أفعالِ العبادِ وأكسابِهم، والمريدُ لإِيجادِها، وقد يوصفُ بأنه كارهٌ للقبائحِ منها، على معنى أنه كارهٌ لكونِها دِيناً مَشْرُوعاً، وكارهٌ لوقوعِها مِمنْ نَزَّهَهُ عنها من الأنبياءِ والملائكةِ ومَنْ عَلِمَ أنَّه لا يَقَعُ منه، فأما على غيرِ ذلك فإنه باطلٌ.
__________
= 8/ 329 - 328. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وأخرجه أحمد 3/ 153 من حديث أنس رضي الله عنه.
(1) أخرجه أحمد في "المسند" 4/ 228، والدارمي 2/ 161.

(1/161)


فصل
في معنى قولِ الفقهاءِ والأصوليِّينَ في الفعلِ: بأنه صحيح، وفاسد، ونَحْوُ ذلك.
فالذي يُريدُ به الأصولِيُّونَ من قولِهم: صحيحٌ. أنه فعل واقع على وجهٍ يوافقُ حكمَ الشرعِ، مِن أمرٍ به، أو إطلاقٍ فيه، ولا يَعنُون به: أنَ قضاءَه غيرُ واجبٍ، ولا أنَّ فِعْلَ مثلِه بعدَ فعلِه غيرُ لازمٍ.
وكذلك: إنما يُريدونَ بالفعلِ أنه فاسد وباطل: أنه قبيحٌ، وأنه مفعولٌ على مُخَالفَةِ الشرع، ولا يُريدونَ به ما كانَ قضاؤهُ واجباَ، وفعلُ مثلِه بعدَه لازم.

فصل
وأما معنى القولِ: بأن الفعل باطلٌ وفاسدٌ، مثلَ قولهم: صلاة باطلةٌ وفاسدة: أن فعلَ مثلِها واجبٌ بعدَ فعلِها، وقضاؤها لازمٌ، فبانَ أن الفسادَ والبُطْلانَ عندهم: ما لم يَقَعْ موقعَ الإِجزاءِ وإسقاطِ الواجب عن الذِّمَّةِ، فالعملُ في ذلك كلِّه على قولِه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ علَيْهِ امْرُنا فهو رَد" (1). وردُ العَقْدِ والعبادةِ والشَّهادةِ: أن لا يَعْمَلَ عَمَله.

فصل
ومعنى الصحيحِ عندَ الفقهاءِ-أعني من العباداتِ-: إبْراءُ الذِّمًةِ
__________
(1) رواه البخاري 5/ 221 في الصلح و 4/ 298 في البيوع تعليقاً، ومسلم (718)، وأبو داود 2/ 506، وابن ماجه (14) في المقدمة من حديث عائشة رضي الله عنها.

(1/162)


بفعلِها، وسقوطُ القضاءِ، ووقوعُها مَوْقع الإِجْزَاءِ؛ ولذلك قالَ كثير منهمِ: إن الصلاةَ في الدارِ المغصُوبَةِ صحيحةٌ ماضيةٌ، وإن كانت واقعةَ على غيرِحكمِ الشَرْعِ ولا أمرِه، بل معصيةٌ.
وسموا الصلاةَ التي قطعَها بإطفاءِ الحريقِ، وتَنْجِيَةِ الغريقِ، وإبعادِ الضَرير عن السقوطِ في البئرِ غيرَ صحيحةٍ، بل قالوا: باطلة، وإنْ كانت طاعةً الله بنفسِها، وبالفعلِ الذي قطَعها به، لكنْ أرادوا بقولِهم: باطلة، وجوبَ قضائِها، وعدمَ الاعتدادِ [بها] (1)، ونَفْيَ سقوطِ ما في الذِّمَّةِ بفعلها، ويجيءُ من هذا دليل على إحدى الرِّوايتينِ لنا، وأن الفعلَ الذي هو طاعةٌ أبطلَها لمَا لم يَكُ من الطاعاتِ المشروع مثلُه فيها؛ ألا ترى أنه لو أطالَ القراءَةَ والرُّكوعَ، وكرر تسبيحاتِ الرَكوع والسجود؛، صارَ من جملةِ أفعالِها غيرَ مُبْطَلٍ بها (2) بالإِجماع، ثم إنًّ الفقهاءَ اختلفوا: هل يصيرُ التطويلُ واجباً، أم لا؟.
فكذلك كان يجبُ أن يكونَ الغَصبُ للدارِ لمَّا كان من المَناهي التي لا تَخْتَص الصلاةَ، أن يكونَ معصيةً غيرَ قادحةٍ، وسَنَسْتقْصِي القولَ في ذلك فيما بعْدُ، إن شاءَ الله.

فصل
فكذلك، قولُهم: عَقْد باطل، وشهادة باطلةٌ، وحكم باطل، وقولُهم: عقد صحيحٌ، وشهادة صحيحةٌ، وحكم صحيح، فإنَّما يَعْنُونَ بصحَّتِه: نفوذَه ووقوعَ التَّمْلِيكِ به.
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) أي الإِطالة والتكرار.

(1/163)


ويريدونَ ببطلانِه وقولِهم: عقدٌ باطلٌ وفاسدٌ: غيرَ نافذٍ، ولا يَحْصُلُ به التمليكُ.
وشهادةٌ باطلةٌ: لا يجوزُ أو لا يجبُ العملُ بها، ولا يَثْبُتُ بها الحق.
وإقرار باطل، وإنكارٌ باطل في أمثالِ ذلك مِما لعلنا أن نَشْرَحَهُ من بَعْدُ.
فهذه جُمَلُ المُقَدَماتِ التي لا تَتِم معرفةُ أصولِ الفِقْهِ، وأحكامُ أفعالِ المكلفينَ إلا بها، كافية إن شاءَ اللهُ.

فصل
في المُلْكِ
الملكُ عندَ قومٍ من الأصولِيِّينَ: هو القُدْرةُ على ما للقادرِ أن يتصرَّفَ فيه، والمالِكُ: هو القادرُ على مَالِه أو تَصَرفِه.
وقيل: هو القُوةُ، وهو قريب من الأولِ، ومنه قولُهم: عَجِين مملوك: إذا كان معجوناً عَجْناً قَوَاهً.
وقيل: هو التسلطُ بحق، وهذا أشْبَهُ بالفِقْهِ.
وقيل: هو الاختصاصُ بالتَصَرفِ، فكلُّ مختصٍّ بالتصرفِ في منافعَ أو أعْيانٍ، فهو مالكُها (1).
__________
(1) "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري ص 150.

(1/164)


فصل
و"لملكُ قد يجبُ بتمليكِ مُمَلِّك، وملكٌ يجبُ لابتمليكِ مُمَلكٍ، فالأولُ كملكِ العَبْدِ، والثاني كملكِ الرَّب جَل وعَزً.
والعبدُ يملِكُ بحكمِ اللهِ عز وجل، واللهُ سبحانَه مالكٌ للأعيانِ تمَلكَ خَلْقٍ وإيجادٍ؛ لأنه المخرجُ لها من العَدمِ، والعبدُ مأذونٌ له في التصرف، محظورٌ عليه بعضُ التَصرفاتِ.

فصل
وقال ثَعْلَبٌ (1): "مَالِك" أمْدَحُ من "مَلِك"؛ لأنه يدل على الاسمِ والصَفةِ (2). ولا يجوزُ أن يملكَ أحدُنا بالعَقْلِ، وإنما يجوز بحجةِ السمعِ، كما لا يجوزُ أن يَذْبَحَ شيئاً من البهائم بحجةِ العقل، وإنما يجوزُ بحجة السمعِ.
والأصل في ذلك أنً الإِنسانَ غيرُ مالك للتصرفِ بنفسِه، بل فوقَ العقلِ آمِرٌ وناهٍ، وليس فوقَ قدرةِ الله متحجرٌ.
والمعتزلة تقولُ: الأصل في ذلك: أنً الواحدَ منا لا يملك العِوَضَ على إزهاق نَفْسٍ، ولا إراقةِ دَمِ، والله يملك التَعويضَ، وهو النَعيمُ المؤبدُ، والبَقاء السًرْمَد، فيُوفِىَ التعويضَ على الإِيلامِ.
__________
(1) هو. أحمد بن يحى بن زيد بن سيار، أبو العباس الشيباني، المعروف بثعلب، من أئمة النحو واللغة، كان راوية للشعر والحديث، توفي سنة (2191) هـ "سير أعلام النبلاء" 5/ 14 - 7.
(2) "تفسير القرطبي" 1/ 140.،

(1/165)