الواضح في أصول الفقه

فصل
في معنى وَصفِ الخِطابِ بأنه مُحْكَم ومُتَشابِة
اعلم أن المُحْكَمَ يرجعُ إلى معنَييْنِ: أحدهما: أنه مُفَسر لمعناهُ، وكاشف له كَشْفاً يُزيلُ الإِشْكالَ، ويرفعُ وجوهَ الاحتمالِ، وهذا المعنى موجود في كلام الله عزَ وجل، وكثيرٍ من كلام خلقِه، فيجبُ وصفُ جميعِه بأنه محَكم على هذا التَأْوِيلَ.

فصل
والوجهُ الآخرُ: أن يكونَ معنى وصفِ الخِطابِ بأنه محكم، بمعنى: أنه محكمُ النَظْمِ والتَرتيب، على وجهٍ يُفيدُ من غيرِ تناقضٍ واختلافٍ يَدْخُلُ عليه، فكلُّ كلامٍ هذا سبيلُه، فهو محكم (1)، وإنِ احتملَ وجوهاً، والتبسَ معناهُ، فإنه يَخْرُجُ عن كونِه محكماً.
وما فَسَدَ نَظْمُه، واختل عن وجهِه وسَنَنِه، وُصِفَ بالفسادِ لا بالتَشَابُهِ.
وقد غَلَبَ على قولِ الفقهاءِ: أن المحكمَ ما كان حكمُه ثابتاً.

فصل
فأما المُتَشابهُ، فمعنى وصفِ الخطاب بأنه متشابة، فهو: أنه محتمِلٌ لمعانٍ مختَلِفةٍ يقعُ على جميعِها، ويتناَولُها على وَجهِ الحقيقةِ،
__________
(1) أورد ابن النجار الفتوحي معظم تعريفات المحكم في "شرح الكوكب المنير" 2/ 140 - 143.

(1/166)


أو يتناولُ بعضَها حقيقةً وبعضَها مجازاً، ولا يُنْبِىءُ ظاهِرُه عما قُصِدَ به.
وإنما اخِذَ له هذا الاسمُ من اشتباهِ معناهُ على السامعِ، وفَقْدِ عِلْمِه بالمرادِ به، ومنه قولُه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، يحتمِلُ زَمَنَ الحَيْضِ، وزمنَ الطهْرِ، وقولُه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]،، يحتمِلُ الزَّوْجَ، ويحتمِلُ الوَلِيَّ احتمالًا واحداً، وقولُه عزَّ وجل: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]،، يحتملُ اللَّمْسَ باليَدِ، ويحتملُ الكنايةَ عن الوَطءِ باطِّرادِ العُرْفِ وبإضافتِه إلى النساءِ، وإلى أمثالِ ذلك مِمَّا يسوغُ التَّنازعُ فيه، والاجتهادُ لطلبِ معناه، وكذلك كلُّ الأسماءِ المشْتَرَكَةِ.

فصل
فأما المتشابهُ المتعقَقُ بأصولِ الدِّين، فكثيرٌ؛ مثلُ قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] , {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118]، {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121]، {حم}، {الر}، {المر} {حم عسق}، {كهيعص}، {المص}، {ص}، {ق}، هذه الحروفُ في أوائلِ السوَرِ.
فوَجْهُ التَّشابُهِ فيه: تردُّدُه بينَ حقائقَ مختلفةٍ، أو حقيقة ومَجازٍ،

(1/167)


وفي الحروفِ إعْجامٌ يزيدُ على التَشابُهِ؛ لأنه لم يُوضَعْ لشيءِ مُعَيَّنِ، فضلاَ عن شيئيْنِ، فإذا لم يُوضَعْ لشيءٍ واحدٍ، فكيف يَتَرَددُ بين الشيئَيْنِ؟.
فأما التَرددُ في الوَجْهِ: فقد يُعَبَّرُ به عن الأولِ، كقوله: {وَجْهَ النَّهَارِ} [آل عمران: 72]،وبانَ انه أرادَ به الأولَ من قولِه: {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72]، وقد يُعبَّرُ به عن خِيارِ الشيءِ وأَجْوَدِهِ، كوجهِ الثوْبِ، ووجهِ الحائطِ، وهو الذي يُحَسنُ بالَاجُر المَحْكُوكِ، والغَزْلِ المُحَسَّنِ، والعملِ المُجَودِ، وبين هذا العُضْوِ المخطَطِ الجامعِ للمحاسِنِ وَالحَواس.
واليدِ: بينَ الجارحةِ، والقُدرَةِ، والنَعْمَةِ.
والرَّحْمَةِ: بينَ الرقَةِ، والفعلِ الدال على إرادةِ الخَيرِ، أو إرادة الخيرِ ودفعِ الضيْر.
والغَضبِ: بين غَليانِ دم القلبِ طَلَباً للانتقامِ، وبينَ التَعذيبِ والانتقامِ الذي يدل على غَضَب من يَصدرُ عنه من الخَلْقِ.
وعلى هذا الاشتباهِ جميعُ ما يَجيءُ من الأوصافِ، فقامت دَلاَلةُ العَقْلِ والنصَ على نَفْي مالا يليقُ به مما هو وصفُ الأجسامِ المُحْدَثَةِ، وهو الأوَّلِيَّةُ والتَّخْطِيطُ والجارحةُ، ولم يَبْقَ إلا أَحَدُ مَذهبَيْنِ: وهو نَفْسُ الذَاتِ، فيكونُ معناهُ: ويَبْقَى رَبُّكَ، وكذلك قولُه: {وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] والمرادُ به: إلأَ هُو (1).
أو قول أصحابنا بالوقوفِ عن التفسير والتأويل (2).
__________
(1) هذا من تأويلات المعطلة، والصواب إثبات الوجه الله عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
(2) جمهور الحنابلة وغيرهم من أئمة السلف يثبتون الصفات ويعتقدون معانيها،=

(1/168)


والنصُ الذي مَنَعَ من حَمْلِه على الجارحةِ، وعلى الأولِ، وحملِ الغَضَبِ على الاشْتِياطِ أو غَليانِ دمِ القلبِ قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ودليلُ العقلِ الذي دَل على أَنه سبحانَه ليس بِجِسْمٍ، ولا مُشْبِه للأجسامِ (1).

فصل
في الحروف المُعْجَمَةِ في أوائِل السوَرِ
وهي من جملةِ المتشابِه، فقالَ قومٌ: أسماءٌ لله.
وقال قومٌ: حروفٌ من أسماءٍ، مثلُ: كاف: من "كافي"، وها: من "هادي"، وصاد: من "صادق"، أو من "صَمَد".
وقال قومٌ منهم: {الر}، {حم}، {ن}: الرحْمان، اسمٌ مُقَطَعُ الحروفِ.
وقال قومٌ: لا يعلَمُ معناها إلا الله (2)
__________
= ويفوضون أو يتوقفون في كيفية هذه الصفات، لا عن تفسيرها كما ذكر المصنف.
(1) ذِكرُ المصنفِ -رحمه الله- لآيات الصفات ضمن المتشابه مخالف لمنهج أئمة السلف، القائلين بأنها ليست من المتشابه، وأن الله يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز في ذلك القرآن والحديث، وينظر بسط المسألة في رسالة "الإكليل في المتشابه والتأويل" لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 13/ 294 - 305.
(2) خالف المصنف هنا أئمة السلف، فالمعتمد أن الحروف المقطعة في أوائل السور ليست من المتشابه، كما يدعيه بعض الأشاعرة، فقد تكلم السلف في معانيها وكلامهم مشهور، وقد ساقه ابن تيمية في معرض الرد على هذه الدعوى في كتابه "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" -مخطوط- 2/ الورقة 248 - 249 والله سبحانه أعلم بمراده من هذه الحروف، وفيها إشارة إلى إعجاز القرآن، فقد وقع به تحدي المشركين، فعجزوا عن معارضته، وهو مركب من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب، فدل عجزهم عن الإتيان بمثله على أنه من عند الله.

(1/169)


فصل
في بيان مُناقَضَةِ من قالَ من أصحابِ الحديثِ: إن هذِه الآياتِ آياتُ صفاتٍ، وإنها تُمَرُ على ظاهرِها.
ووجهُ المناقضةِ منهم: أَنّهم قالوا: لا نعلمُ مامعنى "يَدٍ"، حتى قُلْنا لهم: أَجَارِحةٌ هي؟ فقالوا: لا، قلنا: فَقُدرةٌ هي؟ قالوا: لا، قلنا: فَنِعمَةٌ؟ قالوا: لا، وهذهِ الأقسامُ التي تتردَّدُ في إطلاق قولِنا: "يَدٌ"، فإذا قالوا: ليس واحداً منها، لم يَبْقَ إلا القول بأنَّا لا نعلمُ ما معناها.
وسَمِعْنا هؤلاءِ القائلينَ بأعْيانِهم يقولُون بألفاظِهم، وقَرَأْنا من كُتُبِهم القول: بأنه يَجبُ القول: بأنه يجبُ حَمْلُ الكلامِ على ظاهِرهِ، أو إمرارُه على ظاهرهِ، ولس يجوزُ أن يَجْمَعَ القائل بين قولِه: لا يعلمُ تأويلَه إلا اللهُ، وبينَ قولِه: أَحْمِلُهُ على ظاهرِه، أو: حَمْلُهُ على الظاهرِ يُسقِطُ حكمَ التأويلِ؛ لأن التأويلَ صَرْفٌ له عن ظاهرِه.
ثم إن الآية عندهم أنَّ الوقفَ منها على قولِه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (1) [آل عمران: 7]، وهذا يُعْطِي أن لظاهِرها تأويلاً غامضاً لا يعلمُه إلا اللهُ، فكيفَ يقال بعدَ ذلك: يجبُ حملُها على ظاهرِها؟ وأيُ ظاهرٍ يَتَحَقَقُ مع عدمِ العِلْمِ؟ وما لا يُعلم خَفِيّ، فإنْ قالوا: لها ظاهرٌ. فهم مطالَبُونَ بما ظهرَ من معنى الصَفَةِ، وإنْ قالوا: لا نعلمُ.
__________
(1) ولها وجه آخر في الوقف على: (والراسخون في العلم). انظر تفصيل المسألة في "تفسير القرطبي" 4/ 16 - 19.

(1/170)


بَطَلَ تَعَلقهم بظاهر، ودعواهم أنَ لها ظاهراً (1).

فصل
وما يوهِم أنه مختلفٌ، أو متناقِضٌ مثل قولِه {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، فإنه يُحْمَلُ على مَقام، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، يُحْمَلُ على مَقامِ آخَرَ (2)، وضمانُ اللهِ سبحانَه لآدمَ ان لا يَعْرَى (3) مشروطٌ بأن لا يَأكل من الشجرة (4).

فصل
والاشتباهُ بين الطهْرِ والحَيْضِ (5)، والعَفْو في الِإسْقاطِ والِإعْطاءِ، ومن أن يكونَ الذي بِيَدِهِ عُقْدَة النكاحِ هو الزَّوج أو الوَلِيُّ (6) يزولُ بالدليل الدالِّ على أنه في أحدِهما أوْلى، وبأحدهِما أشْبَة.
__________
(1) لا تعارض هنا كما ذكر المصنف رحمه الله، فمعنى قولهم: تحمل على ظاهرها؛ أنه الظاهر المفهوم لغة. بما يليق بجلالِ الله سبحانه وتعالى. انظر مجموم فتاوى ابن تيمية 3/ 43 وما بعدها.
(2) ذكر الفخر الرازي عدة وجوه للجمع بين الآيتين. انظر "التفسير الكبير" 19/ 213 - 214، و"تفسير القرطبي" 10/ 59 - 61.
(3) في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [الآية: 118] من سورة طه.
(4) في قوله تعالى: {تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} سورة البقرة [الآية: 35]، والأعراف [الآية: 19].
(5) كما تقدم فى معنى "القرء" في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" سورة البقرة، [الآية: 228].
(6) كما تقدم أيضاً في قوله تعالى:" إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح" سورة البقرة، [الآية: 237].

(1/171)


فصل
وليس ببدْع أن يكونَ الله سبحانَه في كتابه ما يَتَضحُ وينكشفُ معناهُ، ليُعمَلَ به اعتقاداً أو طاعةً، وفيه ما يَتشابَهُ لنُؤمِنَ بمتشابِهِه، ونقفَ عندَه، فيكونَ التكليفُ فيه هو الإِيمانَ به جملةً، وتركَ البحثِ عن تفصيلِه، كما كتَمَ الروحَ، والسًاعةَ، والآجالَ، وغيرَ ذلك من الغُيوبِ، وكَلَّفنَا التصديقَ به دونَ أن يُطْلِعنا على علمِه.

فصل
وغيرُ ممتنع أن يكونَ من الغامض الذي لا يعلمهُ إلا خواصُّ العلماءِ المجتهدينَ، والأظهرُ في الآيةِ أنَ المتشابِهَ الذي قال سبحانَه فيه: {وَمَا (1) يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، أن له تأويلاً عندَه، وأن الراسخينَ في العلم لَمَّا لم يعلمُوا له تأويلًا، قالوا: {آمَنَّا بِهِ}، وتَسَلوْا بقولِهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}،: ليزولَ الرَّيْبُ عنهم، لِما ثَبتَ من حِكْمةِ اللهِ عندَهم، والله أعلم.

فصل
في الجِنْسِ
ولا بُدَّ للفقيهِ من معرفتِهِ لتَكَررِ الجنسيةِ في أبواب من الفقهِ، كالزكاةِ والرَبا. واعلم أن الجِنْسَ، هو جملةٌ متفقةٌ متماثلةٌ، والجنسُ الواحدُ: ما
__________
(1) في الأصل: "لا"، وهو خطأ.

(1/172)


سدَّ بعضُه مَسَّ بعضٍ، وقامَ مَقامَه، وذلك بالمشاهدة (1)، أو بأن لا يجوزَ على أحدِهما شئٌ إلا جازَ على الآخَرِ مِثْلُه ونَظِيرُهُ، ولذلك لم يَجُزْ أن يكونَ الله سبحانَه مِثْلاً لشيءٍ، ولا شيءٌ مِثْلًا له، إذ لو شابَه المُحْدَثَ من وجهٍ، لجازَ عليه من ذلك الوجهِ ما يجوزُ على المُحْدَثِ من ذلك الوجه.
فمثالُه عند الأصولِيينَ: الجَوْهَرُ جنس واحد من حيثُ هو جوهر على الحقيقةِ، فما جوهرٌ إلَّا سَاد مسَدَّ جوهرٍ في خصائصِه من شُغْلِ الحَيز، وحَمْلِ العَرَضِ كاللوْنِ والحركةِ والسُّكونِ (2).

فصل
في النَّوْعِ
وهو تحتَ الجنسِ بنوع فَضْلٍ وخاصةٍ، وإن قلتَ: هو ما انفصلَ عن الجنسِ بمعنى، كان أخصَرَ، والاختصارُ للحدِّ واجب في طريقةِ المحقَقينَ. وما لم ينفصلْ من الجنسِ بمعنىً، فهو جزءٌ فيه وليس بنوعٍ.
مثالُ الأولِ- وهو ما انفصلَ عن الجنْس (3) بمعنى-: الجِسْمُ والخَط والسَّطْحُ، كُلُّ واحدٍ من هذه الثلَاثةِ نوع للجَوْهَر؛ لأنه قد انفصلَ بمعنىً هو التأليفُ والسَّطْحيَّةُ -وهي: طول وعرض لا عمقَ له-، وبالخَطيَّةِ -وهي: طولى لا عَرْضَ له ولا عُمْقَ-، والانقسامِ
__________
(1) في الأصل: "كالمشاهدة".
(2) 1 نظر "التعريفات" ص 69 - 71.
(3) في الأصل: "الجوهر".

(1/173)


أيضاً، والجوهرُ لا يَنْقَسِمُ.
ومثالُ الثاني -وهو الذي لا ينفصلُ عنه بمعنىً-: كالجزءِ الذي لا يتجزَأ، وكذلك الجزءُ من السوادِ والحُمُوضَةِ وما جرى مَجْرَى ذلك (1).

فصل
وقد جنَسَ الناسُ الأجسامَ أجناساً، فقالوا: جنسُ الحيوانِ، وجنسُ النَباتِ، وجنسُ الجَمادِ.
والمحقًقونَ من أهلِ الأصولِ جَعَلُوا الكل جنساً، وقالوا: إن الجنسَ الواحدَ قد يَعْرِضُ فيه ما لا يَسُد بعضُه مَسَد بعض، كالحيوان والجمادِ؛ فإنهما وإن كانا من جنسٍ واحدٍ، فإنه لا يَسُد أحًدُهما مَسَد الاَخَرِ، أو يَرْتَفِعَ ذلك العارضُ -يعنون عارضَ الحيوانيةِ وعارضَ النباتيةِ- فإنها أعراض خَصَّصَتِ الجسم بخَصِيصَةٍ أوجبَتْ عند الفقهاءِ وبعضِ الأصوليينَ تَجنساً، حتى إن بعضَ الفقهاءِ جعلَ صناعاتِ الآدميين وآثارَهم في الأجسام مُجَنسةً، كتلفيقِ الغَزْلِ ثوباً، وتفريقِ الحِنْطةِ دقيقاً، وجَعْلِ أجزاءِ اَلأرضِ فَخاراً.

فصل
وسلَكَ من جَنس بالصنْعَةِ والخصائصِ الواقعةِ في الجسمِ مَسلكَ من جَعل الجوهرَ جنساً، فَخَصوا بهذا المتساويَ من الحيوانِ، فقالوا في الغَنَمِ: جِنْس، وفي البَقَرِ: جنس، وقالوا في الذَهب: جنس،
__________
(1) انظر الفرق بين الجنس والنوع في (الفروق اللغوية) ص 134.

(1/174)


والفِضًةِ: جنسٌ، وقد سَمَّاه الشرعُ بذلك، فجعل الفضةَ جنساً، والذهبَ جنساً، وهذا صحيحٌ، لأن آحادَ الجنس يَسُد بعضُها مَسَد بعضٍ من الحيوانِ والنباتِ، وما لم يَسُد بعضُه مَسَد بعضٍ-وإن كان جوهراً- ليس بجنسٍ؛ لاختلافِهما في الفَصْل والخَصيصَةِ، وهذه الطريقةُ ألْيَقُ بالفقهِ، والأولَى أقْرَبُ إلى مذهبِ الأوائلِ.

فصل
والوسَطُ من هاتينِ الطريقتينِ أن لا نقولَ: إن التَجنسَ يقِفُ على الجَوهَريةِ فقطْ، ولا جنسَ إلا الجوهرُ، ولا نقولَ ما ذهبَ إليه أبو حنيفةَ من أنَ الصنعةَ ما تجنَسُ، كتلْفِيقِ الغَزْلِ ثوباً، وتَفريقِ الحَب دقيقاً، لكن نقولُ: إن العارضَ على الجوهر والدَخِيلَ عليه، إن كانَ لازماً كالذهبيَّةِ في الجوهرِ والفضيةِ؛ صارَ به كأنَهُ جنسٌ آخَرُ، وإن كان الدَخيلُ غيرَ لازمٍ مثلَ الحركةِ والسكونِ، والحُمُوضةِ والحَلاوةِ؛ لم يَصِرْ به كالجنسِ الآخَرِ، وهذا أشبهُ بمذهب الفقهاءِ، والشرعُ يُصَدقُه [حيثُ جعلَ] (1) الذهبَ جنساً والفضةَ جنساً، ولم يجعلِ الصناعةَ في الذهب جنساً غيرَ جنسِ سَبائِكِه، ولا جعلَ حُموضَةَ اللَّبَنِ جنسَهُ، ولا حلاوتَةَ.

فصل
وأهل اللغة يقولونَ: جنسُ الرُّومِ، وجنس التُّرْكِ، وجنسُ السندِ، وجنس الزَنْجِ، وما شاكلَ ذلك، ويذهبون إلى اتَفاقِ تلك الجملة الممَيَّزَةِ من غيرِها.
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة يتم بها المعنى.

(1/175)


فصل
في معنى قولِهم: الطبْع
وقد نطقَ بذلك أهلُ الطبْعِ (1)، ثم دارَ بين أهل الكلامِ، وقد تَعَدَّى إلى أهل الفقهِ، فنطقَ به الخُراسانِيُّونَ من أصحاب أبي حنيفةَ، فقالوا في مسألةِ طهارةِ الحَدَثِ: لا تَفْتَقِرُ إلى النيةِ؛ لأَن طَبْعَ الماءِ إزالةُ الحَدَثِ والنَّجَسِ، فلا يَفْتَقِرُ في كونِه رافعاً إلى النيَّةِ (2). وما ذلك إلا خَطَأ كبير لمَنْ كَشَفْنا له عن حقيقةِ القولِ بالطبْعِ.

فصل
فالطَّبْعُ عندَ القائلينَ بإثباتِه: هو الخاصةُ التى يكونُ الفعلُ بها من غيرِ جهةِ القدرةِ، وليس عندَ أهلِ الإِسلام حادث يَحدُثُ من غيرِ جهةِ القدرةِ؛ لأن الحوادثَ خلقُ الله سُبحانَه، فلم يَبْقَ لغيرِه حادث يصدرُ عنه.
والخاضَةُ عندَهم على ضربَيْنِ:
طبع معروث عندهم، كالحرارةِ في النارِ، والبُرُودَةِ الدائرةِ بين النَّارِ والهواءِ، والرُّطُوبةِ في الماءِ، واليُبُوسَةِ في الترابِ والحَجَرِ.
وطبعٌ مُبْهَمٌ، كجَذْبِ المِغْناطِيسِ للحديدِ، وعملِ السَّقَمُونيا (3) في
__________
(1) تقدم التعريف بهم في الصفحة (21) الحاشية رقم (2).
(2) انظر "المغني" 1/ 156 - 157.
(3) نبات يسبتخرج من تجاويفه رطوبة دبقة، وتجفف وتدعى باسم نباتها أيضاً، مضادتها للمعدة والأحشاء أكثر من جميع المسهلات، تسهل المرة الصفراء =

(1/176)


إخراجِ الصَّفْراءِ، وإنما قلنا: من غير جِهَةِ القدرةِ؛ لأنَ ما يكونُ بالقدرةِ يقعُ بالتمييزِ؛ لأن القدرةَ لا تقومُ إلا بمَحَلٍّ فيه اختيارٌ، أو تكونُ صفةً لمختارٍ، وقد أكْذَبَ الله سبحانَه، أهلَ الطبعِ بقولِه: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} الى قوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]، ولو كانَ الماءُ يُعْطِي النباتَ الرطوباتِ بالطبعِ الذي أثْبَتُوه لأعطاها رطوبةً خاصَّة ذات طَعْمٍ خاصٍّ؛ لاستواءِ أجزاء الماءِ في نَفْسِه، فلمَّا اختلفتِ الطعوم مع اتّحادِ الماءِ والتُّرْبَةِ، علِمَ أنه لم تَأتِ النباتَ من جهةِ الطبعِ، لكنْ من جهةِ اختيارِ الصَانعِ الطَّابعِ (1)، ولأن الطبائع تَتَباينُ لتضَادِّها، وقد اجتمعت في الحيوانِ، ولا يَجْمَعُ المُتَنافِرَ إلا قاسِرٌ قاهِرٌ، وليس إلَّا المختارَ القادرَ سبحانَه.

فصل
إذا ثَبَتَ أنْ لا طَبْعَ، فلا بُدَّ أن نكشِفَ عن وجوهِ الإِضافاتِ، ونعْطِيَ كل شَيءٍ حَظهُ، حتى لايُعْطَى ما ليسَ بفاعل منزلةَ الفاعلِ، ولا تُعْطَى الآلاتُ حقَّ الأسباب، ولا يُبْخَسَ الفاعل حقَة من الفعلِ، فهذه مَهاوِي هَامِ الكَفَرةِ إلىَ هوَّةِ الإِلْحادِ، ومَزَلةُ أقدام المهْمِلينَ لأصلِ الاعتقادِ، وما يجوز لعاقلٍ أن يجَودَ الكلامَ في مسَالةِ الفَرْع لإِسقاطِ نِيًةٍ في طهارةٍ، فَيشْرِك أو يُلْحِدَ.
فاعلم أن إضافةَ الفعلِ إلى الشيءِ تكون من وجوهٍ كثيرةٍ:
__________
= واللزوجات الردية من أقاسي البدن. "القاموس المحيط": (سقم).
(1) "تفسير القرطبي" 9/ 281.

(1/177)


أحدها: إضافةُ الفعْلِ إلى وَقْتِهِ، وهو ظَرْفُ زمانِه، كقولك: نَبتَ المَرْعى في الرَّبيعِ، وأَطْلعَتِ النَّخيلُ في الفَصْلِ، وصَلَحتِ الثمرُ في الصَيفِ أو الخَرِيفِ.
وإضافتُهُ إلى المكانِ، كقولك: طريق تؤدِّي بنا إلى البَحْرِ، أو إلى المَعْدنِ (1)، وأرض زَكِيةٌ مُنْبِتَةٌ، وأرض رُخْوةٌ أو صُلْبةٌ. فهذه (2) أظْرُفُ مكانٍ.
وإضافتهُ إلى الآلةِ، كقولِك: آلَمَهُ السَّوطُ، وَوَحَتْهُ السكَينُ (3) أو السيفُ، ونَحَتَ الخَشَبةَ القَدُومُ، فهذا المفعولُ به؛ فالمحل مقطوعٌ، ومضروبٌ، ومَنْحُوتٌ.
والمحلُّ المفعولُ فيه شَرْطٌ أيضاً لإِيقاعِ النَحْتِ والقَطْعِ فيه، وهو الرَابِعُ.
والخامس: السبَبُ، وفيه وقعَ الخلافُ، فلا فاعِلَ للريَ ولا للشِّبَعِ، ولا إخراجِ الصفْراءِ، ولا تبريدٍ وتسخينٍ، وإحداثِ طَعْمٍ، وإنشاءِ لَوْنٍ، وايجادِ خاصةٍ، إلا الله سبحانَه.
وعندَ أهلِ الطَّبْع ومن وافقَهم من المتكلمينَ من المعتزلةِ، أن السَبَ: هو الذي سموْهُ طبعاً ومُوَلِّداً، فها هنا مَزَلةُ الأقدامِ، فمن قال: إن الماءَ يُطَهرُ بطبْعٍ، وُيزيلُ بوضْعِهِ، فهو كالقائلِ بأنه يُنْبِتُ (4)
__________
(1) هو المكان يثبت فيه الناس؛ لأن أهله يقيمون فيه ولا يتحولون عنه شتاء ولا صيفاً. "اللسان": (عدن).
(2) في الأصل: "فهذا".
(3) أي قطعته بسرعة.
(4) في الأص: "يثبت".

(1/178)


بطبعِه، ويروي بطبعهِ، وذلك فاسدٌ بما فَسَدَ به مذهبُ أهلِ الطبعِ، فلم يَبْقَ إلا أن يقالَ: الطهارةُ تقعُ عندَ إجرائِه بنية المُكَلَّفِ تَعَبداً، وقد بينَ الله سبحانَه ذلك في كثيرٍ من آيِ كتابهِ، مثلُ قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64]

فصل
في اختلافِهم في الطَّبائعِ على أربعةِ مذاهبَ:
فمنهم من جعلَها موجِبة للفعلِ، كالاعتمادِ الذي في الحَجَرِ يُوجِبُ ذهابَه إلى جهةٍ، والفاعلُ غيرُها في الحقيقةِ.
ومنهم من جعلَها فاعلةً في الحقيقةِ، وهم أهلُ الطبْعِ.
ومنهم من جعَلَها مفعولًا بها، مثل: ما يفعلُ القَطْعُ بالسكِّينِ.
ومنهم من جعلَها مفعولًا عندَها، وهو مذهبُ أهلِ السُّنةِ، وهو مذهبُنا (1).
__________
(1) القول بأن الله -سبحانه وتعالى- يفعل عند الطبائع والأسباب والقوى لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه، وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلاً عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالًا سقناه لبلد ميت فانزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات}، وقال تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة} وقال تعالى: =

(1/179)


فصل
وقد أشارَ اللهُ سبحانَه إلى المذهب الأخيرِ-وهو مذهبُنا- في كثيرٍ من الأفعالِ، واكتفى بذلك بياناً للعاقلِ، وتنبيهاً له على باقِيها، فقالَ في حق عيسى: ({وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا (1) بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ (2) الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وإذا أخرجَ عيسى أن يكونَ فاعلاً، وجعلَ له الفعلَ سبحانه، فلا موجودَ إلا عن فعلِه وخَلْقِه؛ لأنه لو اختُصَّ شئ من خلقِه بفعلٍ يكونُ منه وعنه، لكانَ الأخص بذلك الأنبياءَ عليهم السلام الذين أيدَهُم بما خَصهم به من خَرْقِ العاداتِ شهادةً لهم بالصدقِ، وقال
__________
= {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}، وقال: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}، ومثل هذا في القرآن كثير، وكذلك في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: "لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني به حتى أصلي عليه، فإن الله جاعل بصلّاتي عليه بركة ورحمة"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً".
فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً، حصل بدون سبب، وإلا لم يحصل. جوابه أنه مقدور بالسبب، وليس مقدورأ بدون السبب. انظرا مجموع الفتاوى" 8/ 136 - 139 و 3/ 112 - 113.
(1) هذه قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، وقرأ الباقون: {طيراً}. "الغاية في القراءات العشر" ص 125، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 240 و256.
(2) في الأصل: "وإذ تبرىء"، وهو غلط من الناسخ.

(1/180)


سبحانه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] فلم يبقَ شيءٌ من جسمٍ ولا عَرَض يضافُ خَلْقُه إلى أحدٍ سواه، ولأنه أضافَ إلى الأشياءِ إضافاتٍ، وأضافَ إلى نفسِه مثلَها، فقال في العَسلِ: {فيه شفاءٌ للنَّاسِ} النحل: 69،، وقال: {وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، فالأحق أن يكونَ الشفاءُ حقيقةً مضافاً إلى الخالقِ سبحانه، والعسلُ يكون عنده الشِّفاءُ، والماءُ يوجَدُ عند نزولِه الإِنباتُ، والمنبتُ حقيقةً، هو الله سبحانه، فإنه سبحانه يقولُ: {فأَحيَيْنا به} [فاطرَ: 9]، {يُنْبتُ لكم به الزَّرْعَ والزَّيْتونَ} [النحل: 11]، وقال: {فأَنبتنا به} (1) [النمل: 60، وق: 9] يعني: انبَتْنا لكم عندَه، وقد أضافَ الله سبحانه الِإضلالَ إلى الأصنامِ (2) والسَّامِريِّ (3)، والضَّلالُ فيهم لابهم.
ومن دلائلِ العقولِ، أنَّ الطبائعَ عندَهم هي الفاعلُ الأولُ، وليس فوقَه عندهم من هو أعلى، وقد وَجَدْنا هذه الطبائعَ مقهورةً مقسورةً، حيث جُمعَ المتنافرُ منها والمتضادُّ في الحيوانِ والنباتِ، وكما أن أهلَ الطبعِ أثبتوا له الفعلَ، فقد أثبتوا له المضادَّةَ والمنافاةَ، فإذا اجْتَمعَ مع أضدادهِ في هياكلِ الحيوانِ والنباتِ، عُلِمَ أن المضادةَ فيه لا من طريقِ
__________
(1) وقع في الأصل زيادة: "لكم" قبل: "به"، وهو غلط من الناسخ أيضاً.
(2) في قوله تعالى في سورة إبراهيم، [الآية: 35 - 36]: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس}.
(3) في قوله تعالى في سورة طه، [الأية: 85]: {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}.

(1/181)


الطبعِ، وإنما هو بوضعِ واضعٍ، تارةً يُفَرقُ بينها بالانحلالِ، وتارة يَجْمَعُ بينها إذا أرادَ الاجتماعَ، فهذا حسب ما يليق بهذا الكتاب، والله أعلم.

(1/182)


فصل
في البيانِ
وهو إخراجُ المعنى، أو نقول: إظهارُ المعنى بلفظٍ غيرِ ملتبِسٍ ولا مشتبهٍ، أو نقول: منفصلًا عما يَلْتَبِسُ به ويَشْتَبِهُ (1).
وهو في اللغة من القَطْعِ والفَصْلِ، يقال: بأنَ منه: إذا انقطعَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما ابِينَ من حَى، فهو مَيْت" (2)، وقال الشاعر:
بأنَ الخَلِيطُ ولو طُووِعْتُ (3) ما بانا (4)
__________
(1) "العدة" 1/ 100.
(2) أخرجه أحمد 5/ 218، والدارمي 2/ 93، وأبو داود (2858)، والترمذي (1480)، والحاكم 4/ 123 - 124، والبيهقي 9/ 245 من حديث أبي واقد الليثي. ولفظه: كان الناس في الجاهلية قبل الِإسلام يجبون أسنمة الِإبل، ويقطعون أليات الغنم، فيأكلونها، ويحملون منها الودك، فلما قدم - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك، فقال: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميت". ورواية أبي داود مختصرة بلفظ: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهوميت".
وأخرجه ابن ماجه (3216)، والحاكم 4/ 124 من حديث ابن عمر. ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميت".
(3) في الأصل: "طوعت" وهو خطأ، وما أثبته هو الرواية، وهو من الفعل "طاوع".
(4) صدر بيت لجرير، عجزه: =

(1/183)


وبانتِ المرأةُ من زَوْجِها: إذا فارقَها، وانقطعَ بالبيانِ عن كل ما يحْصُلُ به التباسٌ أو اشتباهٌ.

فصل
فيما حَدِّ به الشافعي -رضي الله عنه- البيانَ، واعْتُرِضَ عليه فيه.
فقال: البيانُ: اسمٌ جامع لمعان مجتمِعةِ الأصولِ، متشعِّبةِ الفروع، فأقلُّ ما في تلك المعاني المتشعبةِ أن يكونَ بياناً لمن خُوطب [بها]، (1) ممَّن نزلَ القرآن بلسانِه، وإن كانَ بعضُها أشدَّ تأكيداً في البيانِ من بعض (2)، ثم جعلَه على خمسةِ أوجهٍ (3).
ولم يفهمْ كلامَه من اعترضَه مِن المُحْدَثِينَ الذين لم يبلغوا شَاوَ أصحابِه في العِلْمِ، فقال أبو بكر بن داود (4): البيانُ أبْيَنُ من هذا الذي ذكرَه وفَسرَه به الشافعي.
ثم قال بعدَ اعتراضِه عليه: ولم يصفِ البيانَ، لأنه ذكرَ جملة
__________
=وقطعوا من حبال الوصل أقرانا.
والخليط: الجار. انظر "اللسان": (خلط)، و "ديوان جرير" 1/ 160، و "الخصائص" لابن جني 1/ 95.
(1) ليست في الأصل.
(2) انظر "الرسالة" للإِمام الشافعي ص 21.
(3) المصدر نفسه ص 26 - 39.
(4) هو محمد بن داود بن علي، أبو بكر الظاهري، الأديب صاحب كتاب "الزهرة" و "الوصول إلى معرفة الأصول"، توفي ببغداد سنة (297) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 109.

(1/184)


مجهولةً، فكان بمنزلةِ من قال: البيانُ: اسمٌ يشتملُ على أشياءَ، ثم لايُبَيَنُ عن، تلك الأشياءِ ما هي (1).

فصل
في نصرةِ كلامهِ والرُّدِّ على من اعترضَه
وذلك أن الشافعي أبو هذا العلمِ وأمه، وهو أولُ من هَذَبَ أصولَ الفقهِ، ومن غزارةِ علمِه، وكثرةِ فضلهِ عَلِمَ أن البَيانَ مما لا يضبِطُه حدٌّ، حيث، كان مشتملًا على أنواع؛ فمنها: النص، والظاهرُ، والعمومُ، وتفسيرُ المجمَلِ، وتخصيصُ العموم، ودليلُ الخِطاب، وفَحْوى الخطاب، فذكرَ ذلك باسم جامع، فقال جَملة، وجميعُ ذلكَ بيانٌ وإنِ أختَلَفًت مراتبُه، وقوله: "مجتمِعة الأصولِ"، يعني: في الاسمِ الشامل، وهو البَيانُ، وقوله: "متشغبة الفروع"، يعني: بينَ نصٍّ، وظاهرٍ، وعمومٍ، وتخصيصٍ، وفحوىً، ودليلٍ، وإلى أمثالِ ذلك، فهذه شُعَبُ الاسَمِ الذي سماه جملة، هو: البيانُ.
ثم قال "وإن كان بعضُها آكدَ بياناً من بعض"، وصدقَ؛ حيثُ كان البيانُ مراتبَ، وقد أشارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك حيث قال: "إنَ من البَيانِ لَسِحراً" (2)، ولم يقلْ: إن البيانَ سِحْرٌ، وإنما جعلَ بعضَه سحراً،
__________
(1) ذكر القاضي أبو يعلى هذا الاعتراض في "العدة" 1/ 103، ونسبه لغير أبي بكر بن داود.
(2) أخربر" مالك 2/ 986، وأحمد 2/ 16 و59 و62 و 94، والبخاري في "صحيحه" (5146) و (5767) وفي "الأدب المفرد" (875)، وأبو داود (5007)، والترمذي (2028)، وابن حبان (5718) و (5795)، والبغوي =

(1/185)


ولأن النصَّ أجلاها، والعمومَ والظاهرَ دونه، ودليلَ الخطاب دونَ فحْواهُ، فهذا كلامُ من أحاطَ بالبيانِ خُبْراً، وقتلَه عِلْماً.

فصل
وقال أبو بكر الصيْرَفِيُّ (1) -وهو من بعضِ أصحاب الشافعي-: البيانُ: إخراجُ الشيءِ من حَيزِ الاحتمالِ إلى حيًزِ التًّجَلَي (2)، وهو اختيارُ أبي بكرٍ عبد العزيزِ (3) من أصحابِنا.
__________
= (3393) عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قدم رجلان من المشرق، فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحراً، أو إن بعض البيان سحر".
وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد 1/ 269، و303 و309 و327، وأبي داود (5011)، وأبي يعلى (2332) و (2581)، وابن حبان (5780).
وعن عمار بن ياسر عند أحمد 4/ 263، والدارمي 1/ 365، ومسلم (869).
وعن ابن مسعود عند أحمد 1/ 397.
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي عند أبي داود (5012).
(1) هو محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي الشافعي، أصولي، أحد أصحاب الوجوه في المذهب، من تصانيفه: "شرح الرسالة"، وكتاب في الإجماع، وكتاب في الشروط، توفي سنة (330) هـ. "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 186 - 187، وانظر مصادر ترجمته هناك.
(2) أورد تعريف الصيرفي هذا أبو الحسين البصري في "المعتمد" 1/ 294، والقاضي أبو يعلى في "العدة" 1/ 105، والغزالي في "المنخول" ص 63، وفي عبارتهم جميعاً: من حيز الِإشكال إلى حيز التجلي.
(3) هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد، أبو بكر البغدادي الحنبلي، المعروف بغلام الخلال، من بحور العلم، له الباع الأطول في الفقه، من =

(1/186)


وفي هذه العبارةِ خَلَلْ اعترضَه الأصوليون، قالوا: وذلك أن هذا أحدُ أقسام البيانِ، وهو ما كان تفسيراً لمجمَلٍ، أو تخصيصَ عموم، ويخرجُ منهَ البيانُ المبتدَأ.
ومعلومٌ أن من جملةِ أنواعِ البيانِ ما كان نصاً مبتدَأً، وما كان للخطاب للمبتدإِ إشكالٌ، فيخرج منه إلى حميِ التجلي؛ فالمبتدأ من قولِ اللهَ، وقولِ رسولِه بيانٌ صحيح، وإن لم يَتَعلقْ عليه هذا الحدُ الذي ذكرَهُ الصيْرَفى. على أن قولَه: من حيزِ الاحتمالِ إلى التجلي، ليس بمقابلةٍ صحيحةٍ، بل كان يجبُ أن يقولَ: من حيز الخفاء أو الغموض إلى حيز التجلي، أو من حيز الاحتمال إلى حيز الاتحادِ بمعنىً واحدٍ، والأصح أن لا يقالَ: إخراجٌ، لأن هذا هو فعل البيانِ، وهو التَبْيِين، لكن نقولُ: خروجٌ، لا إخراجٌ.

فصل
وقال قومٌ من المتكلِّمين: البيانُ: هو الدَلالةُ على الشيءِ أو الحكمِ، لأن البيانَ إنما يقعُ بها، وقد ذهبَ إليه أبو الحسنِ التَمِيمِي (1).
قال بعضُ النَاس (2): هذا فيه خَلَلٌ أيضاً، لأن من الدلائلِ ما لا يقعُ به البيانُ كالمجمَلِ ونحوِه.
__________
= تصانيفه: "المقنع"، و"الشافي "، و"الخلاف مع الشافعي"، توفي سنة (363) هـ. "سير أعلام النبلاء" 16/ 143 - 145.
(1) هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي الحنبلي، صنف في الأصول والفروع، توفي سنة (371) هـ. "طبقات الحنابلة" 2/ 139.
(2) هو القاضي أبو يعلى الفراء. انظر "العدة" 1/ 106.

(1/187)


فصل
وقال قومٌ: البيانُ هو العلمُ الذي يُبَيَّنُ به المَعْلُومُ، وإليه ذهبَ أبو بكرٍ الدقاقُ (1)، وهو من المُعْتَرَضاتِ أيضاً؛ لأنه صَرفَ منه "يُبَيَّنُ به" وبعدُ ما عَرَفْناهُ، وقد تقدم اعتراضُنا على من قال في حدِّ العِلْم: معرفةُ المعلومِ (2).

فصل

في وُجُوهِ البَيانِ
فمنها: الأحكامُ المبتدأة.
ومنها: تخصيصُ العموم الذي يُمْكِنُ استعمالُه على ظاهرِ ما ينتظمُه (3) الاسمُ، فيُبَينُ أن المَرادَ به بعضُ تلك الجملةِ.
ومنها: صَرْفُ الكلامِ عن الحقيقةِ إلى المجازِ، وصرفُ الأمْرِ عن الوجوبِ بظاهرِه إلى النَدْبِ أو الِإباحةِ، وصرفُ الخَبَرِ إلى الأمْرِ.
ومنها: بيانُ الجملةِ التي لا تَسْتَغْنِي عن البيانِ في إفادةِ الحكْمِ، وهذا هو التفسيرُ المرادُ بالجملةِ، كقولِه تعالى: {وآتُوا حَقَه يومَ
__________
(1) هو محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر الدقاق، فقيه أصولي، صنف كتاباً في أصول الفقه على مذهب الشافعي، وولي القضاء بكرخ بغداد، توفي سنة (392) هـ. "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 155 - 156، و"تاريخ بغداد" 3/ 229 - 230.
(2) انظر الصفحة (10).
(3) وقع في الأصل: "ظاهره ما ينتظم" والسياق يقتضي ما كتبناه، وهو كذلك في "العدة" 1/ 107.

(1/188)


حَصادِهِ} (الأنعام: 141) بينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن المرادَ به العُشْرُ من السيح (1)، أو نِصْفُ العُشْرِ من سَقْيِ الكُلَفِ (2)، أو رُبْعُ العُشْرِ من الأثمانِ (3).
ومنها: النَسْخُ؛ وهو رفعُ الحكمِ في الاستقبالِ بعدَ أن كان ظَننا فيه الدوامَ.

فصل
فأما ما يحتافي إلى البيانِ، فكل لفظٍ لا يمكنُ استعمالُ حُكْمِه من لفظِه.
وسمعتُ مَنْ عُوِّلَ على قولِه (4) [يقول]: ما لم يمكن استعمالُ
__________
(1) أي الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وفي حديث الزكاة: "ما سقي بالسيح ففيه العشر". "اللسان": (سيح).
(2) أخرجه البخاري (1483)، وأبو داود (1596)، وابن ماجه (1817)، والترمذي (640)، والنسائي 5/ 41، وابن خزيمة (2307) و (2308) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، ما سُقِيَ بالنَضْح نِصف العشر".
وأخرجه أحمد 3/ 341 و 353، ومسلم (981)، وأبو داود (1597)، والنسائي 5/ 41 - 42، وابن خزيمة (2309) من حديث جابربن عبد الله الأنصاري.
والكُلَف: جمع كُلْفَةٍ، وهى ما تُكَلفُه على مشقَّة، مثل غُرْفَةٍ وغُرَف.
(3) وذلك في حديث أنس بن مالك في الصدقات، وفيه: "وفي الرقَهِ ربع العشر" وقد تقدم تخريجه في الصفحة (37) تعليق (3).
(4) يعني القاضي أبا يعلى. انظ هـ "العدة" 1/ 108.

(1/189)


حكمِه، ولم يَقُلْ: من لفظه.
فنقضَ عليه بعضُ الأصوليينَ بقولِ القائلِ لغيرِه: اصعَدْ إلى السماءِ، أو: صَلِّ اليومَ مِئَة ألفِ رَكْعَةٍ؛ فإنه لا يمكنُ استعمالُ حكمِه، وليس يَحْتاجُ إلى بيانٍ؛ لأنه لم يَنْعَدِم (1) الإِمكانُ من طريقِ اللَّفظِ، لكِنْ من جهةِ عدم القدرةِ على الفعلِ، مثلَ قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فنحن وإنْ عَلِمْنا معنى الحق إلا أنًا لا نعلمُ قَدْرَ الحق ولا نوعَه، فإنه يجوزُ أن يكونَ حق المالِ شُكْراً بالأبدانِ، ويجوزُ أن يكونَ مِقْداراً دونَ مِقْدارٍ، وقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن اقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها، عَصَمُوا مِنِّي دماءَهم وأموالَهم إلا بحقَها" (2)، وهذا مجملٌ لا يُعْلَمُ منه ما حقُها،
__________
(1) في الأصل: "يتقدم" والجادة ما أثبتناه.
(2) أخرجه أحمد 2/ 314 و377 و 423 و438 - 439 وه 47 و 482 و 502 و 528 - 529، وأخرجه مسلم (21)، وأبو داود (2640)، وابن ماجه (3927)، والترمذي (2606)، والنسائي 7/ 6 و77/ 7 و77 - 78 و78 و79 من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (1399) و (6924) و (7284) د 7285)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، والنسائي 5/ 14 - 15 و5/ 6 و5 - 6 و 7/ 77 و78 و78 - 79 من حديث عمر بن الخطاب.
وأخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد 3/ 199 و224 - 225، والبخاري (392)، وأبو داود (2641) و (2642)، والترمذي (2608)، والنسائي 7/ 75 - 76 و76 و 8/ 109 من حديث أنس بن مالك.
وهو مروي أيضاً من حديث غيرهم من الصحابة.

(1/190)


وقولِه أتعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، لا ندري كمِ المال؟ وما المال الذي يبتغى به؟.

فصل
في حقيقةِ الذفَةِ التي تَحفَظُ الأموالَ والحقوقَ.
وهي العَهْذ والأمانُ ومنه سُمي أهل الذَمَّةِ، وهم المعاهَدون، وهم في ذِمةِ الله، أي: في عهدهِ، وذِمَة فلانٍ: عهدُه.

فصل

في بيانِ المالِ
حيث عرضَ ذكرُه ها هنا، وهو: ما يتناقله الناسُ في العادةِ بالعقودِ الشرعيَّةِ -لطلبِ الأرْباحِ والأكساب التي تلزم بها الأموال والحقوق والذَمَةُ- لرغباتِهم فيه، وانتفاعِهم به، مأخوذٌ من المَيلِ من يَدٍ إلى يَدٍ، وجانب إلى جانبِ، فإنك إن اقتصرتَ على قولِك: "المرغوب والمنتفَع به"، فإن الخمورً مرغوبٌ فيها، ومنتفَعٌ بها، وليست مالَاً.
فإن قيل: المال ما يقَومُ بالإتلافِ، أو: قوبِلَ بالأعْواض، بطَلَ بدم الأحرارِ ومنافعِهم، وبالأبْضاع، فلا بد من ذكرِ المناقلةِ بالمعًاوَضاتِ التي يقْصَدُ بها الأرباح، ولاَ الرغْبَةُ تكفي وصفاً له، ولا المعاوَضةُ، حتى يَنضمَّ إلى ذلك ما ذَكَرْنا من المناقَلةِ لرغبةِ الأرباحِ، واللهُ أعلمُ.

(1/191)


فصل

في حقيقةِ البُضْعِ
ولما جَرى ذكرُ الأبْضاعِ، وبالفقيهِ حاجة إلى معرفةِ حقيقتِها، اقتضتِ الحالُ ذكرَ حَدها وحقيقتِها، وهي: المنافعُ المستباحةُ بعَقْدِ النِّكاح دونَ عُضْوٍ مخصوص من فَرْجٍ أو غيرِه، على ما تَعْتَقِدُه المُتَفَقَهَةُ.
والمُباضَعَةُ: مفاعلة من المُتْعَةِ به، والمتفقَهةُ تقولُ: منافعُ البُضْعَ.

فصل

فيما يقعُ به البيانُ
وهو خمسةُ أشياءَ: القولُ، والكتابُ، والإِشارةُ، والفعلُ، والإقرارُ.
فالقولُ: الكتابُ والسّنَةُ، ويترتَبُ عليه الإِجماعُ، والقياسُ (1).
فالبيانُ من اللهِ تعالى يقعُ بالقولِ من جهةِ الكتاب بالآي التي عُرِفَتْ معانيها من ظاهرِها، مثل قولِه تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ثم بينَ المحرَّماتِ، وقال: {لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ثم خَصَّ من المباحاتِ بعموم هذه الآيةِ باستثناء السُّنَةِ تحريمَ الأْختِ والعَمّةِ والخالةِ، على الَأختِ وبنتِ الاختِ وبنت الأخِ.
ومثل قولِه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ
__________
(1) "العدة" 1/ 110 وما بعدها.

(1/192)


أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، ثم بين السبيل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قد جعلَ الله لهن سبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ، وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيِّبِ جلدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ " (1).
ومثل قولِه: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، بيَّنَ ذلك في كتابهِ الذي كتَبه لعمروبن حَزْمٍ (2) في الزكَواتِ والدِّياتِ (3)، وكتابهِ الذي لأبي بكرٍ في
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 81، وأحمد 313/ 5 و317 و318 و320 و320 - 321، والدارمي 2/ 810، وملسم (1690) (12) و (13) و (14)، وأبو داود (4415) و (4416)، وابن ماجه (2550)، والترمذي (1434)، والنسائي في "الكبرى" (7142) و (7143) و (7144) و (7980) و (11093)، وابن الجارود (810)، والطحاوي في "شرح معاني الأئار"3/ 134، والبيهقي 8/ 210 وا 22 - 222 من حديث عبادة بن الصامت.
(2) هو عمرو بن حزم بن زيد بن لَوذان، الأنصاري، يكنى أبا الضحاك، صحابي مشهور، شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نَجْران، روى عنه كتاباً كتبه له فيه الفرائض وإلزكاة والديات، كانت وفاته بعد الخمسين.
"الإصابة"4/ 621.
(3) حديث عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائضُ والسنَنُ والدياتَ، وبعث به معه، فقرىء على أهل اليمن: أخرجه بطوله: ابن حبان (6559)، والحاكم 1/ 395 - 397، والبيهقي 4/ 89 - 90.
وأخرجه مختصراً: الدارمي 2/ 188 و 189 - 190، والنسائي 8/ 57 - 58 و58 - 59، وابن خزيمة (2269)، والدارقطني 1/ 122 و 2/ 285 و 3/ 210، والبيهقي 1/ 87 - 88 و 8/ 25 و28 و73 و79 و88 و88 - 89 و 95 و97.

(1/193)


الصَّدقاتِ (1)، وكتابهِ الذي كتبَه إلى مَشْيَخَةِ جُهَيْنَةَ في جُلُودِ المَيْتَةِ قبلَ
موتِه يُحرِّمُ فيه استعمالَها، وينهاهم عنها (2).
فبانَ بهذا أن كتابَه - صلى الله عليه وسلم - يجري في البيانِ مَجْرى قولِه.
وقد بَينَ الصلاةَ والحَج بفعلهِ، فقالَ للذي سألَه (3): "صَلِّ مَعَنا" (4)، وقال في الحَجِّ: "خُذُوا عَنَي" (5)، فصارَ قَولُه وفعلُه وكتابُه بياناً.
وأما الإِشارَةُ؛ فقولُه: "الشَّهْرُ هكذا وهكذا" (6) وأشارَ بأصابِعهِ، وقد
__________
(1) تقدم تخريجه في صفحة (37) تعليق (3).
(2) أخرجه أحمد 4/ 310 - 311، وأبو داود (4127) و (4128)، وابن ماجه (3613)، والترمذي (1729)، والنسائي 7/ 175 عن عبد الله بن عكيم الجهني قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهَيْنَةَ- قال: وأنا غلام شاب، قبل وفاته بشهر أو شهرين-: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَبٍ".
(3) أي سأله عن أوقات الصلوات، كما في الحديث.
(4) أخرجه أحمد 5/ 349، ومسلم (613)، وابن ماجه (667)، والترمذي (152)، والنسائي 1/ 258 - 259، وابن خزيمة (323) و (324) من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي.
(5) أخرجه أحمد 3/ 301 و 318 و332 و337 و367 و378، ومسلم (1297)، وأبو داود (1970)، والنسائي 5/ 270، وابن خزيمة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحْرِ، ويقول: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حَجتي هذه".
(6) أخرجه أحمد 2/ 28 و43 و 44 و52 و 81 و 122 و 125 و 129، والبخاري 1908) (1913) و (5302)، ومسلم (1080) (4) و (5) و (10) و (12) =

(1/194)


أمرَ الله زكريًا بقوله: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ (1) فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 10 - 11].
وقد بين أيضاً بالإِقرار؛ فإنه لمًا أقر على قول سَمِعَهُ، فلم يُنْكِر، وفعلٍ رآه، فَلم يُنكرْه، فقد بينَ جوازَ ذلك؛ لأنه لا يُقِر على باطلٍ (2).
وقد بيَّنَ بالنًسخِ مُدةَ الحُكْمِ إلى حينِ نسخِه (3).
__________
= و (13) و (15) و (16)، وأبو داود (2319)، والنسائي 4/ 139 - 140 و 140، وابن خزيمة (1909) من حديث عبد الله بن عمر.
(1) قوله تعالى: {من المحراب} سقط من الأصل.
(2) انظر في الإقرار ما تقدم في صفحة (41).
(3) انظر هذا المبحث -أعني: فيما يقع به البيان- بأوسع مما هنا في "العدة" 1/ 110 - 130.

(1/195)


فصل
في التَرْتيبِ
وُيحتاجُ إليه في أفعالِ العباداتِ المرتَبةِ، وفي تراتيب الأدلةِ حالَ الاجتهادِ، كترتيبِ السنه على القياسِ، والكتابِ على الَسَنةِ.

وبيانُ معناه وحدُّه
اعلم أن الترتيبَ: هو وضعُ الشيءِ في حقَه.
وقيل: الترتيبُ: جعلُ الشيءِ في المكانِ الذي هو أوْلى به.
وقيل: الترتيبُ: تَصْييرُ الشيءِ في المرْتَبَةِ التي هيَ له.

فصل
وإخراجُ الشيءِ عن مَرْتَبتِه بأحدِ ستَّة أقسام: التَّقديمِ، أو التأخيرِ، أو الرَّفعِ، أو الحَطِّ، أو الأخذِ يمينَاً أو شمالاً.
وتغييرُ الكلام ستَةُ أقسام: زيادة، ونقصان، وقَلْب، وإبدال، وتقديم، وتأخير، فكَلُّ واحدٍ من هذه يُزيلُ الكلامَ عن ترتيبِه، ومرتبتِه فى الأصل.
والقلبُ في الأصل: جعلُ الأعلى أسْفَلَ، والأسفلِ أعلى، ثم كَثُرَ حتى استُعْمِلَ على تغييرِ الصُورةِ إلى الصورةِ.

(1/196)


فصل

والبَدَل، والِإبدال: رفع أحدِ الشيئين، ووضعُ الأخرِ مكانه قال سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]،، وقيل: التكفير بالشيءِ عن الشيءِ بَدَلٌ، وسميَ التيمم بدلاً عن الوضوء.
ونظير التَرتيبِ: التَمييز، والتَصفيف (1)، والتأليف.
ونقيضُ التَرتيبِ: التخليط، كما أن نقيضَ التَحصيلِ: التَحريف.

فصل
والإِلْزامُ: هو التَعليقُ على الخَصْم ما لا يقولُ به بدَلالَةِ ما يقول به.
والإِلزامُ: هو الجمعُ بينَ مذهبينِ من جهةِ أن أحدَهما يشهَدُ بِشَبهٍ بالأخَر؛ لِيُسَويَ بينهما المسؤولُ.

وقيل: الإِلزامُ: هو المطالبةُ للخَصْمِ بما لا يقولُ به على مذهبٍ يقولُ به، وذلك في الأصولِ مثلُ قولِ المسلمِ لليهودي: إنما لَزم القولُ بصِدْقِ موسى؛ لقيام المُعْجِزِ على يدهِ شاهداً له، وهو خَرْق العادةِ، وقد انخرقت العادة على يدَيْ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فلَزِمَ تصديقه فيما جاءَ به من نسخِ السبْتِ.
ومن الفقهِ: قد ثبتَ وجوبُ النَيةِ للتيَمم لتحقيقِ التَعبدِ، وهذا موجودٌ في الماء، فيَلْزَمُ له النيةُ، وَيجيءُ استيفاءُ ذلك في الجَدَل (2) إن شاءَ الله.
__________
(1) في الأصل: "التضعيف".
(2) في الجزء الأخير.

(1/197)


فصل
في الاتًفاقِ والاختلافِ

اعلم أن الاتًفاقَ والاختلافَ على ضَرْبَيْنِ:
ما يرجعُ إلى الذَواتِ، وما يرجعُ إلى المذاهبِ والآراءِ والاعتقاداتِ.
فالاتِّفاقُ والاختلافُ الراجعُ إلى الذواتِ: الاتَفاقُ والاختلافُ في الأجناسِ، فكلُّ جِنْسٍ، هو مخالفٌ لغيرِه من الأجناسِ، ومتَفِقٌ في نفسِه؛ إذ كان الجنسُ الجملةَ المتَفقةَ الأجزاءِ، والجزءُ من الجنسِ موافقٌ للجزءِ الأخَرِ بنفسِه، ومخالِف لغيرِه من الأجناسِ بنفسِه، والمعتبَرُ في الاتفاقِ أن يَسُد أحدُ الشيئينِ مَسَدَّ الاَخَرِ.
والاتفاقُ الراجعُ إلى الآراءِ والمذاهب والاعتقاداتِ: هو الإِجماعُ على الرَّأيِ، أو المذهبِ، أو الاعتقادِ.
وقيل: ذهابُ كلِّ واحدٍ من المتَفِقِينَ إلى ما ذهبَ إليه الأخَرُ.
وقيل: التَواطؤ على الاعتقادِ أو الاختيارِ، أو المذهبِ.

فصل
والاختلافُ في الذواتِ المعتبرُ فيه: أن لا يَصِحَّ أن يَسُد أحدُهما مَسَد الآخَرِ، وقد تَعْتَرِضُ فصولٌ تُخْرِجُ الجنسَ الواحدَ أن يَسُدً بعضُه مَسَد الاَخَرِ، فالمعتبرُ في ذلك رفعُ تلك الفصولِ عن الأوهام، وهي الأعراضُ العارضةُ، كالصُّورِ، والطُّعومِ، فإذا أزَلْتَها عن الوَهمِ، سَدتْ أجزاءُ الجنسِ بعضُها مَسد بعضٍ.

(1/198)


فصل
فيما يدخلُ عليه لفظُ: "أفْعلُ "، وليس ممَّا يقبلُ التَّزايُدَ في نفسِه.
مِن ذلك قولُهم: زيدٌ أعلمُ من عَمْرٍو. حسن أحْسَنُ من حسينٍ.
وقولُهم: قبيحٌ أقبحُ من قبيحٍ. وإنما نَعْنِي به أن زيداً يعلمُ معلوماتٍ أكثرَ من معلوماتِ عمرٍو؛ إذ لا يجوزُ أن يَرْجِعَ إلى عِلْم زيدٍ بأن خالداً قائمٌ، وعمرٌو أعلم به من ذلك المعلوم، ولا أن عَمْرا يعلمُ أن القَارَ اسود، وزيدٌ أعلمُ بذلك منه، إذ ليسَ في قولِنا: إن العلمَ معرفةُ المعلوم على ما هو به مايَحتمِلُ أن يزيدَ عليه علمٌ آخر، فيكون معرفة الَمعلومِ زيادةً على ما هو به، أو غيرَ ذلك.
وكذلك قولنا: إن هذا الجسْمَ قائمٌ بنفسِه، لا يَحتمِل التزايدَ في أن جسماً آخَرَ اقوَمُ بنفسِه منه، ولَمَّا قالت العربُ: أجسَم، فأدخلَت عليه لَفْظَةَ: "أفعل" على أنها أرادتْ بالجسمِ المُؤلَّفَ، وأدخلتِ التَّزايدَ بلفظةِ: "أفعل" على ما يتزايدُ، وهو كَثْرة التَّأليفِ بكثرةِ الأجزاءِ المؤلَّفةِ.
وقولُنا: حسَنٌ وأحْسَنُ منه، يُرادُ به: أن الأحْسَنَ ما أُمِرنْا به من الثَّناءِ والمَدْحِ لمن فعلَ الحَسَن، أُمِرْنا باوفَرَ منه وأكثرَ لمن فعلَ ما قيلَ: إنه الأحْسَنُ، ومن قيل: إنه فعلَ حَسَناً ما، لا الأحسنَ، هو الذي أنقصُ رتبةً ممَّن فعلَ الأحسنَ، وهو الذي يستحقُّ بوعدِ الله سبحانه من المدحِ والثناءِ والتعظيمِ عليه أقلَّ.

فصل
وأما قولُنا في أحدِ القبيحينِ: إنه أقبحُ، أنَّ ما يُقابَلُ عليه من الذمِّ

(1/199)


والانتقام والامتهانِ أكثرُ وأوفرُ، وهذا يرجعُ إلى أصلٍ، وهو: أن التَقبيحَ إلىَ الشَّرع والتَّحسينَ إليه، فإذا رأيْنا مضاعفةَ الأجرِ، والثناءَ، والوَعْدَ والشهادةَ بالفَضلِ، لمن فعلَ حَسَناً ممًا حَسَّه، ورأيْنا ما هو دونَ ذلك في حَسَنٍ آخَرَ، عَلِمْنا أنه أبلغُ في باب الحُسْنِ، وكذلك الذمُّ.

فصل
في الفَرْقِ بين مذهب أهل السنه -وهم الفقهاءُ وأصحابُ الحديث- وبين مذهب المتكلمَين في كونِ الحسَنِ ما حَسَّنَه الشَرعُ، والقبيحِ ما قَبَّحَه الشَرعُ عند أهلِ السنةِ، وكونِ القبيحِ قبيحاً بمعنى يعودُ إلى النفْسِ، والحَسَنِ [حَسناً] (1) بمعنىً (2) يعودُ إلى النفس:
أن أهلَ السنةِ قالوا: إن الشرعَ إذا أباحَ شيئاً، أو أمرَ به فأوجبَه أو ندبَ إليه، عَلِمنا أنه الحسَنُ، وكذلك إذا مَدَحَ عليه، ووَعَدَ بالنَعيم لفاعِله، كالصَلاة، والصَيامِ، والصَدقةِ، وبِر الوالِدْينِ، وما يُشاكِلُ ذلكَ أيضاً من ذَبْحِ الحيوانِ، وقتلِ الآباءِ في الجهادِ، ولأجْلِ (3) سَبِّ (4) النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وهذه الأمورُ تأباها العقولُ بفِطرَتِها، لكنْ لَمَّا وردَ الشرعُ بتحسينِها، حَكَمْنا بحُسْنِها.
وإذا حَظَرَ شيئاً وحَرَّمَهُ، وزجرَ عنه، وتَوَعدَ (5) عليه بالنَّارِ، فهو
__________
(1) زيادة على الأصل لتتناسق عبارة النص وتتضح.
(2) في الأصل: "معنى".
(3) في الأصل: "لأجل" بدون الواو.
(4) في الأصل: "سبب".
(5) في الأصل: "تواعد"، والجادة ما أثبتناه.

(1/200)


القبيحُ، وإن كان العقلُ لا يَأْباهُ ولا يُقَبحُه، كالفِرارِ من الزَحْفِ لحِفْظِ النفسِ وخَوَرِها، وكذلك بَيْعُ درهمٍ بدرهميْنِ بطِيب قلب ورضا نفسٍ، وكذلك قَبحَ قومُ شعيبِ نَهْيَهُم (1) عن ذلك، فقالواَ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ (2) مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].
وقال المخالفون: إنا نجدُ القَبيحَ من ذاتِ الشيءِ، فإذا كان في نفسِه على صفةٍ يَذُمها العقلُ وُينكِرها؛ فذلك هو القبيح، وذلك كالظلمِ، وعقوقِ الوالدينِ، وكُفْرانِ النَعَمِ، والفسادِ، وما يُودي إلى الفسادِ.
والأحسنُ نجدُه من نفوسِنا، وكذلك الأقبحُ، فنجدُ الإِساءَةَ إلى الجارِ قبيحةً، والتَأفيفَ الدال على الضجَرِ من الوالدينِ قبيحةً، والإِساءةَ إلى الوالدين أقبحَ من الإِساءةِ إلى الجارِ، وضَرْبَ الوالدينِ أقبحَ من التأفيفِ.
قالوا: و [لو] (3) لم يكُ في العقلِ تزايدُ ذلك، لَمَا عَقَلْنا التَنْبيهَ على المنعِ من الضرب بالنَهيِ عن التأفيفِ، فلو لم يكنْ في النفسِ مايَزِن ذلك وُينْزِلُ كل واَحدٍ منهما منزلةً تَخُصهُ لَمَا عَقَلنا بالنَهيِ عن التأفيفِ النهيَ عن الشَتْمَ والضربِ (4).
__________
(1) غير واضحة في الأصل.
(2) وردت في الأصل: "أتنهانا أن نعبد"، وهي جزء من الأية (62) من سورة هود، الواردة في قوم صالح، لا قوم شعيب.
(3) سقطت من الأصل.
(4) انظر ما تقدم في ص 26 - 27.

(1/201)