الواضح في أصول الفقه فصل
في الِإشارة إلى الدَّلالةِ بحَسَب الكتابِ، ولولا أنه ليس
بموضِعِه لأطَلْتُ، لكنْ نذكرُ ما يليقُ بهذا اَلكتابِ، فنقول-
وبالله التوفيقُ-:
إنه لا يخلو أنَّ دعواكم حُسْنَ الحَسَنِ وقُبْحَ القبيحِ
بالعقلِ معنىً علمتموه ضرورة من جهة العقلِ، أو بالاستدلال.
فلا تجوز دعوى الضَّرورةِ، لأننا وكثيراً (1) من العقلاءِ
مخالفون في ذلك، وقائلون بأنَّا لا نعلمُ شيئاً من ذلك إلا
بالسَّمْعِ، ولو جازَ أن يختلفَ العقلاءُ فيما هو معلومٌ
ضرورةً، لاختلفوا في حُسْنِ العَدْلِ، وشُكْرِ المُنْعِمِ،
فقال بعضُهم: إنه قبيحٌ، وحَسَّنَه بعضُهم، فلمَّا لم يختلفوا
في حُسْنِ العدلِ وقبحِ الظُلمِ، ولم يَجْرِ وقوعُ الخلافِ في
ذلك، ووقعَ الخلافُ في طريقِ التَحسينِ، فقال قومٌ: هو السمعُ،
وقال قومٌ: هو العقلُ، بطَلَ دعوى العلمِ بذلك من جهةِ
الضَّرورةِ.
فإن قيل: الخلافُ قد يقعُ عناداً كما عانَدَتِ السوفسطَائيةُ
(2) في جَحْدِ الحقائقِ، ودَرْكِ الحواسِّ.
قيل: فهذا أمرٌ لا يَخْتَصُّنا، ولَئِنْ جازَ مثلُ ذلك في
حقِّنا وانَّا نعاندُ
__________
(1) في الأصل: "وكثير".
(2) السفْسَطَةُ: قياس مركَبٌ من الوَهْميات، والغرض منه تغليط
الخصم وإسكاته، كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجودٍ في
الذهن قائمٍ بالذهن عَرَضٌ، لينتج أن الجوهرَ عرضٌ.
"التعريفات" للجرجاني ص 118 - 119، وانظر تفصيل الكلام على
السفسطائية في "الفصل" لابن حزم 1/ 8، و"مجموع الفتاوي" لابن
تيمية 19/ 135.
(1/202)
ما نجدُه من تحسينِ العقلِ، جازَ ذلك في
حقِّكم من معاندةِ ما اعتقدناه من أن التحسينَ ليس إلَا من
جهةِ السمعِ.
ولا يجوزُ أن يكونَ من جهةِ الاستدلالِ بأدلةِ العقلِ، لأننا
وإياكم في النَظَرِ والاستدلالِ سواءٌ، فلو جازَ دعوى التقصيرِ
منَا في أدلَةِ العقلِ إلى أن يُفْضِيَ بنا ذلك إلى جَحْدِ
القبيحِ والحَسَنِ المؤدي إليها والعلم بها دليلُ العقلِ،
لجازَ أن يذهبَ بعضُ النَاظرينَ المستدلِّينَ إلى قُبْحِ
العدلِ وحُسْنِ كُفْرِ المُنْعم (1)؛ لقصورِه في النَظرِ.
وعلى انَا على ما كُنَّا نجدُه في نفوسِنا من إيلامِ الحيوانِ،
وقتل الآباءِ والأولادِ، وقطعِ الأرحام؛ لأجلِ الكُفْرِ،
ونكابدُ نفوسَنا في إيقاع ذلك مكابدةً نجدُها في نفوسِنَا
نجدُها اليومَ بعدَ استقرارِ الشَرعٍ، ولاَ عِبْرَةَ بها؛ لأجل
أن الشَرعَ حَسنَها، كذلك قبلَ الشرع، ومن هان عليه ذلك هانَ
باستمرارِ العادةِ لا بتحسينِ العقولِ، كالقَصًابينَ
والمُحارِبينَ الذين صارَ ذَبْحُ الحيوانِ عندَهم كتجارةٍ، أو
تفصيلِ ثوبٍ، والمحاربة كَتَشْنيخ (2) شجرةٍ، أو رميٍ إلى
هَدَفٍ، ومع ذلك فلا عِبْرةَ بما نجدُه من ذلكَ معِ تحسينِ
الشرع له، والأمرِ ببعضِه، وجعلِه في الهدايا والجهادِ قُرْبةَ
وطاعةً، ومعلومٌ أَن هذا من أبعدِ المنافاةِ ما بين كونِه في
فِطْرَةِ العقلِ قبيحاً إلى كونِه في الشَرعِ حَسَناً وطاعةً
وقُرْبةً.
وأما الِإشارُة إلى النَهيِ عن التأفيفِ، فلِعِلْمِنا بأن
النهيَ لأجلِ نفيِ المَضَرةِ، ولسنا نقولُ: إنَّا لا نعلمُ
بالعقلِ مراتبَ الإِساءةِ، فلما
__________
(1) في الأصل: "النعم"، والأنسب ما أثبتناه.
(2) المُشنَخُ من النخل: ما نُقَح عنه سُلًاوه -أي: شوكه-.
"اللسان": (شنخ).
(1/203)
نَهَى عن ادناها -ونحنُ نعلمُ بالعقلِ
أعلاها-، عَلِمْنا قبحَ الأدنى والأعلى بنهيهِ لا بعقولِنا،
وعلمنا مقاديرَ المضارِّ بعقولِنا، وتفاوت ما بينَ الإِضْرارِ
بالتضَجرِ والتَبَرّمِ، والإِضرارِ بالشَتْمِ والضربِ.
(1/204)
فصل
في الرأيِ
وهو مما عليه المدار في القِياسِ.
اعلم أن الرايَ: هو استخراج حالِ العاقبةِ.
وقيل: استخراج صوابِ العاقبةِ (1).
وقيل: هو نهاية الفِكْرِ (2)، وهو لإِدراكِ العواقبِ، كالرويةِ
لدَرْكِ الشاهد الحاضر، والارتياء: تَجاذب الرأْيَيْنِ.
فصل
في الحَقِّ
وهو (3): اسمٌ مشترَكٌ بين الموجودِ الثَّابتِ، وبين الواجب
اللَّازمِ، وبين نقيضِ الباطلِ، وهو الصوابُ في القَوْلِ
والاعتقادِ.
فأما الموجود: فهو من تسميةِ الباري بأنَّه حَقٌّ، من قولِه:
{أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، ومنه
قولُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) هو تعريف القاضي أبي يعلى في "العدة" 1/ 184.
(2) في الأصل: (الذكر)، هو الذي يناسب الموضوع. وانظر
"التمهيد" لأبي الخطاب 1/ 64.
(3) تحرفت في الأصل الى: "وهم".
(1/205)
"أشهدُ أنك حقٌ، وأن الساعةَ حقٌ، وأن
الجَنَةَ حق، والنارَ حقٌّ، والعَرْضَ حقُ، والسِّحْرَ حقٌّ"
(1)، والمرادُ بذلك: ثابت وكائنٌ؛ ولذلك خَلَطَ به السحرَ، وإن
كان باطلاً لا حَقّاً، لا بمعنى أنه صوابٌ، لكن [بمعنى] (2)
أنه كائن وموجودٌ، وليس بمنفيٍّ على ما قاله نُفاةُ السحر.
ويحتملُ أن يكونَ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "وأن
السَّاعةَ حق، والنارَ حقٌّ، والجَنَّةَ حقٌّ"، المرادُ به:
ضِد الباطلِ، لا نفسُ الوجودِ؛ لأنها من المخبَراتِ والوَعْدِ،
فإذا قال: هي حقٌّ، كأنه قال: إخبارُ الله بها حقٌّ، ووعدُ
الله ووعيدُه حق، وقال سبحانه: {لِيَعْلَمُوا (3) أَنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف: 21]، يقال: حَقَقْت الشيءَ (4)
وأحْقَقْتُه، فهو حَق: إذا كنتَ منه على يقينٍ.
__________
(1) أخرجه ضمن دعاء في صلاة الليل مالك 1/ 215 - 216، وأحمد 1/
298 و308 و358 و366، والدارمي 1/ 348 - 349، والبخاري في
"صحيحه" (1120) و (6317) و (7385) و (7442) و (7499) وفي
"الأدب المفرد" (697) وفي "خلق أفعال العباد" (628)، ومسلم
(769) (199)، وأبو داود (771) و 772)، وابن ماجه (1355)،
والترمذي (3418)، والنسائي في "المجتبى" 3/ 209 - 210 وفي
"الكبرى" (1319) و (7703) و (7704) و (7705) وفي "عمل اليوم
والليلة" (868)، وابن خزيمة (1151) و (1152)، وابن حبان (2597)
من حديث ابن عباس. ولم يرد قوله: "العرض حق، والسحر حق" عندهم
جميعاً، وورد عند الدارمي قوله: "والبعث حق" بدل: "والعرض حق".
(2) زيادة يتم بها المعنى.
(3) في الأصل: "واعلموا".
(4) في الأصل: "بالشيء"، وقارن بـ "اللسان": (حقق).
(1/206)
وأما الحقُّ الواجبُ، وحَقَّ بمعنى:
وَجَبَ، من قولِه سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، {أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي
النَّارِ} [الزمر: 19]، وجَبَ ووَجَبَتْ، ونقول: حُقَّ لك أن
تفعلَ، وحَقِيقٌ بك أن تفعلَ، وعليك؛ يعني: واجبٌ لك، وواجبٌ
عليك.
والحقُّ مصدرٌ أُقيمَ مَقامَ الصِّفَةِ، ومعناه: ذو الحقِّ،
والعربُ تُسَمَّي الفاعلَ والمفعولَ بالمصدرِ تكثيراً، يقالُ:
رجلٌ عَدْل ورضاً، بمعنى: عادِلٌ ومَرْضِيٌّ، كما أنشدونا:
ترْعَى إذا غَفَلَت حتَى إذا ادَّكَرَتْ ..... فإنَّما هيَ
إقْبالٌ وإدْبارُ (1)
يعنون: فإنما هي مقبلةٌ مدبره (2)، قال سبحانه: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}
[البقرة: 177]، والمرادُ به: البارُّ، أو: البِرُ بِرُّ مَنْ
امنَ بالله (3).
__________
(1) هذا البيت من قصيدة للخنساء -واسمها: تُماضِر بنت عمرو بن
الشًريد، من بني سُلَيم- ترثي بها أخاها صخراً، وهو في وصف
ناقة ثكلت ولدها، وروايته في "البيان والتبيين" 3/ 201،
و"الحيوان" 6/ 507، و"اللسان": (قبل): "ترتع ما غفلت .. "، وفي
"ديوانها" ص 248، و"خزانة الأدب" 1/ 431 و 2/ 34: "ترتع
مارتعت".
(2) هذا أحد توجيهات ثلاث لصحة وقوع اسم المعنى خبراً عن اسم
العين، والتوجيه الثاني: أن يقال: إنه مجاز عقلي بحمله على
الظاهر، وهو جعلُ المعنى نفسَ العين مبالغةً، والثالث: أنه على
تقدير مضاف محذوف، أي ذات إقبال. انظر "خزانة الأدب" 1/ 431.
(3) "التفسير الكبير" للرازي 5/ 38.
(1/207)
فصل
والحَق: أعَم من الملكِ؛ لأنه يَعُمُّ الديونَ والأملاكَ،
والملكُ يَخُصُ الأعيانَ.
وَيعُم الحق الأموالَ وغيرَها؛ فإنه يدخلُ فيه الدَماءً،
والفُرُوجُ، ومنافعً الأحرارِ، والعقوباتً، والعباداتً، فكل
ذلك لله سبحانه وللآدَمِيِّينَ.
والملكً يختصُ الأعيانَ والأموالَ خاصَةً
فصل
في الكُلِّ
وهي كلمةٌ من بعضِ ألفاظِ العمومِ، فلا بًدَ للأصولى (1) من
معرفتِها، وهي: الجملةُ التامةُ.
وكلٌّ: أعم العموم (2)، فلا يدخلً إلا على الأَعم، ولا يدخلً
على أخَص الخصوصِ، ولكَنَها في العمومِ على طبقاتِه، مثلً
قولِك: كلُّ الناسِ، ثم تقول: كلُّ بني هاشمٍ.
ونظيرُ كلٍّ: الجميعُ.
فأمَّا العمومُ والاشتمالً والاستغراقُ والِإحاطةً فإنها لا
تًستَعْمَلُ استعمالَ كل، وإنْ كانَ فيها معناهُ.
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "للأصول".
(2) في الأصل: "للعموم".
(1/208)
فصل
والفَرْقُ بينَ إضافةِ كُلٍّ إلى الجِنْسِ، وبينَ إضافتِه إلى
الواحدِ من الجنسِ؛ أنَ معنى الجزءِ في الجنسِ يجبُ للجميعِ،
وفي واحدٍ يجبُ لكلِّ واحدٍ من الجميعِ؛ مثالُ ذلك قولُك: [كل]
(1) القُيام في الدَّارِ لهم درهمٌ، فالدرهم الواحدُ مشترَكٌ
بين القُيَّام كلِّهم، وإذا قلَتَ: كل قائمٍ في الدارِ فله
درهمٌ. فالدراهم بعِدةِ القيامِ في الدارِ.
فصل
في البَعْضِ
والبعضُ: هو النَاقصُ من الجملة، وهو نقيضُ الكُل، ويقال: هو
الناقصُ عن الجملة التَامةِ.
والجزءُ، والشَطْرُ، والثُّلْثُ، والربْعُ، وكُلُّ جزءٍ ينسبُ
إلى الجملة، فهو بعضُه في الحقيقة.
فصل
في الذَّنْبِ
وهو التَأخرُ عن الواجب، قال الزَّجاجُ (2): أصلُه من اشتقاق
آخرِ الشيءِ.
والجُرْمُ، والمعصيةُ، والخطيئةُ نظائرُ الذَنبِ.
__________
(1) زيادة يتم بها المعنى.
(2) هو إبراهيم بن محمد بن السري، أبو إسحاق الزجاج، من أئمة
النحو في زمانه، صنف كتاب: "العروض"، و"الاشتقاق"، و"معاني
القرآن"، توفي سنة (311) هـ. "سير أعلام النبلاء" 14/ 360.
(1/209)
فصل
في حَدَ النًسْخِ وحقيقتِه (1)
وهو في أصل اللُّغةِ: الرفْعُ والإِزالةُ، قالوا: نسخت الشَمسُ
الظلَّ، ونسخت الريحُ الآثارَ، بمعنى: رَفَعَتْها.
وهوعلى المعنى في الشَرع، لكنَه رفعٌ مخصوصٌ، فيقعُ بمعنى:
رفعِ الحُكْم رأساً، ويقعُ على وجه التَبديلِ للحكم، قال
سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل:
101]،، وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننْسأها (2)
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]،، وهذا
صريحُ التَبديلِ ومعناه.
فتحقيقُ حده على مذهب أصحابنا وأهلِ السنه: أنه المبدلُ لحكمٍ
ثبتَ، ولولا ورودُه لكان ثابتاً.
وقد اختلف الناسُ في تحديده، وخَلطَ قومٌ من الفقهاء كلامَهم
بكلام القَدَرِيةِ، وأنا أذكرُ في هذا الكتابِ حدودَ أهلِ
الكلام مِمَّن
__________
(1) سيورد المؤلف بحثاً مستفيضاً في النسخ في 4/ 174.
(2) هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير، والمعنى: ما ننسخ من آية
الآن، أو نؤخر نسخها، مأخوذ من النَّسَأ، وهو التأخير، وقرأ
الباقون: {نُنْسِها}، والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخه من
آية، أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها، مأخوذ من النسيان. "النشر
في القراءات العشر" 2/ 219 - 220.
(1/210)
خالفَ السُّنَةَ لتُجتنبَ، وليمتازَ الحقُّ
عندنا من باطلهم، ولِئَلَا يغتر المبتدىءُ بما يجدُه في كتبهم،
فإنه قد يُفضي إلى فسادٍ في الأصل لايعلمُه:
فقالت القَدرِيةُ، ومَنْ تابعَهم إما قَصْداً، وإمَّا جهلًا
بمذهبهم: إن حَدَّه ومعناه: أنه النص الدالُّ على أن مِثْلَ
الحكمِ الثابتِ بالنص المتقدمِ زائلٌ على وجهٍ لولاه لكان
ثابتاً (1).
وقال بعضُهم أيضاً: إنه الدالُّ على أن مثل الحكمٍ الثابتِ
بالمنسوخِ غيرُ ثابتٍ في المستقبل، على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً
بالنصِّ الأولَ (2).
وزادَ فيه آخرون: بأنه ما دَلَّ على سقوطِ مثلِ الحكمِ الثابتِ
بالنَّصِّ الأولَ، مع تراخيه عنه (3).
وقال بعضُ الفقهاءِ: حَدُّه: أنه بيانُ مُدَّةِ انقطاعِ
العبادةِ.
وكلُّ هذه الحدودِ باطلةٌ ومجانِبةٌ لمعنى النَسْخِ بما
نُبَيِّنُ إن شاءَ الله.
فصل
وإنما عَدَلت القدريَّةُ إلى تحديد النَّسخِ بهذه العباراتِ؛
__________
(1) ذكر الطوفي هذا الحد، ونسبه للمعتزلة، ثم ذكر ما يرد عليه
من اعتراضات.
"شرح مختصر الروضة" 2/ 254 وما بعدها.
(2) "شرخ اللمع" 2/ 187.
(3) ذكر الفتوحي قريباً منه في "شرح الكوكب المنير" 3/ 526.
(1/211)
لاعتقادهم أنَ الله لا يَصِح أن يَنْهى عن
شيءٍ أمرَ به بعدَ أمرِه به؛ لأن ذلك- على ما زعموا هم
واليهودُ (1) - عينُ البَداءِ أو يوجبُ البَداءَ (2)، أو أن
يكون الحَسَنُ قبيحاً، والطَاعةُ عصياناً، والمرادُ مكروهاً،
وأنَّ ذلك لا يقعُ إلا عن سفيهٍ، لا عن حكيمٍ، وطَوَّلوا
القولَ في ذلك بناءً على ذلك الأصلِ، وأنه لا يجوزُ أن يَنْهى
عما أمرَ به، ولا يُريدُ كونَ مانهى عنه.
فمن اتَّبَعَهم في الحدِّ انساقَ به تحديدهُ إلى هذا الأصلِ،
وإنما سلكَه من الفقهاء مَنْ نقلَ من صحيفةٍ، أو أعجبه
بالبادرة صورةُ اللَّفظِ واختصارُه، من غير رَوَيةٍ ولا معرفةٍ
بما يُفضي إليه (3).
فصل
في تصحيح حدِّنا، وبيانِ سلامتِه
والذي نختارُه في حدِّ النَسخِ ومعناه: أنه الخطابُ الدالُّ
على ارتفاعِ الحكمِ الثابتِ بالخطاب المتقدِّمِ، على وجهٍ
لولاه لكان ثابتاً
__________
(1) قال العطار في "حاشيته على جمع الجوامع" 2/ 121: نبه
الإمام أبو حفص البلقيني على أن حكاية خلاف اليهود في كتب أصول
الفقه مما لا يليق؛ لأن الكلام في أصول الفقه فيما هو مقرر في
الِإسلام، وفي اختلاف الفرق الِإسلامية، أما حكاية اختلاف
الكفار، فالمناسب لذكرها أصول الدين.
(2) فسره الطوفي بقوله: وهو أن الشارع بدا له ما كان خفي عنه،
حتى نهى عما أمر به، أو أمر بما نهى عنه. "شرح مختصر الروضة"
2/ 262. وسيورد المؤلف فصلاً في الفرق بين النسخ والبداء فى ص
237.
(3) في الأصل: "يقضي الله"، وهو تحريف بيِّن.
(1/212)
به، مع تراخيه عنه (1).
والدَلالةُ على ذلك: أنه لو لم يكنْ رفعاً للخطاب المتقدمِ، لم
يكن نسخاً ولا إزالةً، لكنه كان ما دل عليه حكماً مبتدأً غيرَ
مزيلٍ لحكمٍ ثبتَ.
فصل
في (2) بيان كل وصفٍ من الحدّ الذي اخترناه، وتأثيرهِ في
الخصيصة.
إنما قلنا: الخطابُ المزيلُ لحكم خطابٍ تقدَّمَ، ولم نقلْ:
النصُّ المزيلُ لحكم نص تقدمَ؛ لأن الخطابَ يثبتُ به الحكمُ
ويزولُ، وإن لم يكنْ نصاً، مثل أن يكون لَحْناً، وفحوىً،
ومفهوماً، ودليلَ خطابٍ، فإذا قلنا: الخطابُ، دخلَ النصُّ،
وإذا قلنا: النصُّ، خرجَ جميع ما ذكرنا من المفهومِ والفحوى
والدليلِ واللحنِ.
وأيضاً فإن السَّمعَ الواردَ بوجوب العباداتِ التي الذِّمَمُ
منها بريئةٌ في العقلِ مزيل لحكم العقلِ، وليسَ بنسخ له؛ لأنه
مزيل لما ليس هو من حكمِ الخطابِ، فثبتَ صحَةُ قولِنا.
وإنما قلنا: ما دلَّ على زوال الحكمِ وارتفاعِ الحكمِ الثابتِ،
__________
(1) ذكر هذا التعريف أبو إسحاق الشيرازي في "شرح اللمع" 2/
186، والرازي في "المحصول" 3/ 282، والآمدي في "الِإحكام " 3/
151، وعزوه إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وارتضاه الغزالي في
"المستصفى" 1/ 107.
(2) وردت في الأصل: "فأما"، وصححناها كما هو مثبت، لتتناسق
العبارة وتتضح.
(1/213)
بدلًا من قولنا: ما دلَّ على ارتفاع الأمرِ
بالشيءِ بعدَ استقرارِه، وزوالِ النَّهي عنه بعد ثبوتِه، أو
الإِباحةِ، أو الحَظْرِ؛ لأن قولنا: زوالُ الحكم، أو ارتفاع
الحكمِ، يدخلُ فيه المأمور به، والمنهى عنه، والمندوب إليه،
وذِكْر الأمرِ ذكرٌ للأخصِّ، فيَسْقطُ ما ليس بأمرٍ ممَّا هو
فرضٌ وندبٌ وإباحةٌ وحظرٌ، فاللَّفظُ الذي لا يَسْقُط معه ولا
يَخرُجُ بعض الأحكام أحسن من اللَّفظِ الذي يَخًص، فيسقِطُ
ويخرِجُ ما لا بد من دخولِه، فبان أن قولَنا: الرافعُ للحكم،
أوْلى من قولهم: الرافع لمأمورٍ به.
وأما قولُنا: على وجهٍ لولاه لكان حكمُ الخطاب الأولِ ثابتاً؛
لأنه لو لم يكنِ الحكم ثابتاً بالخطاب الأولِ لولا ورودُ
الثَاني، لكان ما ثبتَ بالثاني حكماً مبتدأً، ولم يكنْ رافعاً
لحكم الخطابِ الأولِ.
ويدلُّ على هذا أنه لو كان الخطاب المتضمِّنُ للحكم مفيداً
لوقتٍ محدودٍ، وقد وقِّتَتِ العبادة به، ثم وردَ بعد تَقَضَي
وقتهِ خطاب آخرُ مُسقِطٌ لمثل حكمِه، لم يكنْ عند أحد نسخاً
لحكم الخطاب الأولِ، وذلك نحو قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وهذا يفيد الصيامَ
إلى حين دُخولِ الليلِ، ولا يفيدُ وجوبَه في الليلِ، فلو قال:
إذا دخلَ الليل فلا تصُمْ في الليل، لم يكن نسخاً؛ لأنه لم
يزِلْ حكماً لولا ورودُه لكان ثابتاً بحقِّ الخطابِ المتقدم،
فوجبَ لذلك اشتراط ذلك في الحَدَ.
وإنما قلنا: مع تراخيه عن الخطاب المتقدِّيمِ؛ لأنه لو وَرَدَ
معه ومقترناً به، لم يكنْ مزيلاً لشيءٍ ثَبَتَ بالأمرِ
باتفاقٍ، ولا مُنبئاً عن انقطاع عبادةٍ ثبتت به، ذلك نحو أن
يقول: صُمْ إلى الليل، فإذا دخلَ
(1/214)
الليلُ فَلا تَصُمْ ولا صيامَ عليك، ليس
بمزيلٍ لحكم ثبتَ بقوله: صُمْ إلى الليل، فلو أطلقَ الأمرَ
بالصيام، أو دل دليل على أن المرادَ بفرض الصيام زَمَنُ الليلِ
والنهارِ جميعاً، ووردَ ذلك واستقرَّ، ثم قال له: لا تصمْ فَي
الليل، فقد أسْقَطْتُ ذلك عنك، كان نسخاً؛ لأنه قد أزالَ حكماً
ثبتَ بالخطاب المتقدمِ مع تراخيه عنه وبَعْدَ ورودِه
واستقرارِه.
فهذا هو الحدُّ الذي اخترناه.
وسائرُ المعتزلةِ تأبى هذا الحدً لمخالفتِه أصولَهم،
فالدَلالةُ على فساد حدودِهم التي قَدمْنا ذكرَها: أننا إذا
كنا قد بَينَا أن النسخَ هو الإِزالةُ؛ وجبَ أن لا يصحَّ
تحديدُه إلا بما ذكرناه دونَ جميعِ ما قالوه؛ لأنه يصيرُ
تحديدهُ بذلك أجنبياً من معنى النسخ، لأنه إذا قيل: حَدُه
الخطابُ الدَالُ على ارتفاعِ حكمِ الخطاب الأوَّلِ، أو الدالُ
على انقطاعِ مدةِ العبادةِ (1)، أو الدالُ على سقوط مثلِ ما
تضمَنَه الخطابُ الأولُ في المستقبلِ، وأمثالُ ذلك مما هو [في]
(2) معناه، وجبَ أن لا يكون الناسخُ رافعاً ولا مزيلاً لشيءٍ
مما ثبتَ بالخطاب الأولِ؛ لأن مثلَ ما ثبتَ به غَيْرُه، ولم
يثبتْ قَطُّ بخطابِ أولَ، فيزولَ بالثاني، وليسَ ما أزالَ
مِثْل الشيءِ ورَفَعَه مزيلًا لنفسَ الشيءِ، ولو كان مثلُ هذا
نسخاً، لكان كلُّ خطابٍ ابْتُدِىءَ به إثبات عبارةٍ نسخاً لحكم
خطابٍ آخرَ، وإن لم يكنْ بينهما تنافٍ في الحكم، ولم يكن
أحدُهما رافعاً لشيءٍ ثبتَ بالاَخَرِ، وإذا بطَل؛ بطلَ ما
قالوه.
__________
(1) في الأصل "العادة".
(2) زدناها على الأصل؛ لاقتضاء السياق لها.
(1/215)
وأيضاً ممَّا يدلُّ على فساد قولِهم؛ أنهم
قد قالوا: إنه ما دلَّ على زوال مثلِ حكمِ الخطاب الأوَّلِ على
وجهٍ لولا ورودُه لكان ثابتاً بالخطاب الأوَّلِ، وهذا تَصريحٌ
منهم بأن الناسخَ يُزيلُ ما ثبتَ بالخطاب الأولِ، ولولا ورودُ
الثاني لكان ما أزالَه ثابتاً بالخطاب الأولِ، وهم كلُّهم
يقولون: ما أزالَه الناسخُ ما ثبتَ قَطُّ -على قولهم- بالخطاب
الأول، ولا دخلَ تحتَهُ، ولو تَضَمَّنه ودخلَ تحتَه لم يَجُزْ
رفعُه وإزالتُه؛ لأنه يُوجِبُ بزعمهم جميعَ ما ادَّعَوْه من
الِإحالةِ في صفةِ الله عزَّ وجلَّ، وهذه مناقضةٌ ظاهرةٌ، فإذا
كان لا بدَّ من الثبوت على مُوجَبِ قولِهم: لولا ورودُ الناسخِ
لكان الحكم ثابتاً بالخطاب المتقدِّمِ، وجبَ لا مَحالَةَ دخولُ
ما رفعَه الناسخُ تحت الخطابِ المتقدِّم، ورفعُه بعد ذلك بما
أزالَه ونسخَه، وهذا ما لا حيلةَ لهم في دفعه، ولا شُبْهَةَ في
تناقض كلامِهم فيه.
فصل
فأما قولُ مَنْ قال: حدُّه: أنه الدالُّ أو المبينُ عن مُدَّةِ
العبادة، أو عن زمن انقطاع العبادةِ، فإنه قولٌ ظاهرُ السقوطِ؛
لأنه يوجبُ أن يكونَ قولُه: صُمْ إلىَ الليل، فإذا دخلَ الليلُ
فلا تَصُمْ، نسخاً لقوله: صمِ اللَّيلَ؛ لأنه بيانٌ عن مدَّةِ
زمنِ العبادةِ وعن انقطاعِها، بل كان يجبُ أن يكونَ قولُه: صم
إلى الليل، نسخاً لقوله: صم؛ لأنه قولٌ فيه إثبات العبادةِ،
وبيان مدَّتِها وزمنِ انقطاعِها، وذلك باطلٌ باتِّفاقٍ، فسقطَ
ما قالوه.
وإن ضَمُّوا إلى ذلك أن يقولوا: الدال على مدةِ انقطاع
العبادة، أو سقوطِ مثلِها، مع تَراخيه عن الحطاب المتقدِّمِ،
دخل عَليهم ما
(1/216)
أَفْسَدْنا به قولَ مَنْ قَبْلَهم بعينهِ؛
لأنّ [زمنَ] (1) العبادةِ التي دل على انقطاعها الخطابُ
المُتراخي، لم يدخلْ قطُّ في الخطاب (2) الأولِ، ولا
تَضَمَّنَه، فكيف يكونُ الثاني رافعاً له؟ فبطَلَ ما قالوه.
والذي يدل على سقوطِ هذا الحد وإبطالِه على أصولنا: أننا
نُجَوزُ نسخَ العبادةِ الواحدةِ والفعلِ الواحدِ قبل دخولِ
وقتِهِ، وإن لم تكنْ إزالةُ حكمِه بياناً لسقوطِ أمثالِه، ولا
بياناً لانقطاع مدةِ التَعَبُدِ به، أو التَّعبُدِ بسقوط
أمثالِه، فبطلَ ما قالوه في حدِّ النسخ من كلِّ وجهٍ، وثبتَ
بذلك: أن كل نسخٍ لحكمٍ في الشَّرعِ، إن كان نسخاً لفعل واحدٍ،
أو بعضِ جملةٍ دخلَت تحتَ خطابٍ متقدِّمٍ، أو دليلٍ على
تَكْرارِ العبادةِ، فإنه رفع لما ثبتَ بالخطابَ المتقدم قبلَ
دخولِ وقتِه، وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيه.
وسنبينُ جوازَ نسخِ الشيءِ قبلَ وقتِه في مسائل الخلافِ من
الكتاب (3)، إن شاءَ الله.
فصل
في بيان قولِنا: نَسَخَ، على وزن: فَعَلَ (4).
أعلم أن هذا القولَ يقعُ على ناصب الدً ليلِ على رَفْعِ الحكمِ
الثابتِ بالخطاب، ويقعُ أيضاً على الدليلِ الرافعِ لحكم
الخطابِ
__________
(1) لم ترد في الأصل، والسياق يقتضيها.
(2) في الأصل: "كالخطاب " والجادة ما كتبناه.
(3) انظر 4/ 271.
(4) في "المعتمد" 1/ 366، و"التمهيد" 2/ 336: "ناسخ على وزن
فاعل".
(1/217)
الأولِ، ويجري أيضاً على مُعْتَقِدِ جوازِ
نسخِ الشَيء بغيرِه، وقد يقعُ ويجري أيضاً على حكم الخطاب
الثاني الرافعِ لحكم الخطابِ الأولِ، فهذا جملةُ ما تستعملُ
هذهَ اللفظةُ فيه.
والدَّلالةُ على استعمالهم لها في ذلك اجْمَعَ: إجماعُ
العلماءِ أن الله سبحانه نسخَ حكمَ آية االسيف (1)، ونسخ كذا،
ونسخ كذا، بمعنى: أنه نصبَ الدليلَ على رفع الحكمِ الثابت
بالخطاب المتقدمِ.
ويقولون أيضاً: نسختِ الآيةُ إلسنَةَ، ونسختِ السّنَةُ الآيةَ،
يريدون؛ أنها دالةٌ على زوال الحكمِ الأول.
وُيقال: نُسِخَ صومُ عاشوراءَ بصوم رمضانَ، ونُسِخَتِ الوَصيةُ
للوالدَيْن (2) بالميراث (3)، ويريدون بذلك: أنه رفعَ حكماً
ثابتاً قبلَ
__________
(1) وهي قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].
وليس ثمة إجماع على نسخها كما قال المصنف، بل هي محكمة عند
أكثر العلماء، وناسخة لجميع ما أمِرَ به المؤمنون من الصَفح
والعفو والغفران للمشركين.
وذهب الحسن والضحَّاك والسدي وعطاء إلى أنها منسوخة بقوله
تعالى: {فإما مَنَّا بعدُ وإما فداءً} [محمد: 4]. انظر "الناسخ
والمنسوخ في القرآن" لأبي جعفر النحاس ص 197 - 198، و"الإيضاح
لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب ص 308 - 309، و"نواسخ
القرآن" لابن الجوزي ص 309.
(2) يعني قوله تعالى: {كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن
ترك خيراً الوصيةُ
للوالدين والأقربين} [البقرة: 1180].
(3) يعني آيتي المواريث، وهما [الآيتان: 11 و12] من سورة
النساء.
(1/218)
ورودِه
ويقال: فلانٌ ينسخُ القرآنَ بالسنَةِ، وفُلانٌ (1) لا ينسخُ
القرآنَ بالسنَّةِ.
وهذا الاستعمالُ متفَقٌ على إطلاقه، وهو مجازٌ عندنا في جميع
ذلك، إلا في ناصب الدَّلالةِ على رفع حكمِ الخطاب، لأنه تعالى
هو الرافعُ للحكم في الحقيقة بقوله الذي نسخَ، والنَسخُ قولُه
الذي به يكون ناسخاً.
ومعتقِدُ نسخِ القرآنِ بالسنَةِ ليس برافعٍ لحكم القرآنِ،
لكنَه مخبِرٌ عن رفع الله له بقوله على لسان رسوله عليه الصلاة
والسلام.
وكذلك الدليلُ الدال على رفع الحكمِ ليس برافع له على الحقيقة،
وإنما يدل على رفع اللهِ له به.
وكذلك الحكمُ الثاني ليس برافع للأول، وإنما الرافعُ له مَنْ
رفعَ الأولَ وأبدلَه بالثاني، فدل بهذا النفيِ على أنه مجازٌ
في جميع ذلك، إلا ما تحقَقَ في حقِّ اللهِ جل ثناؤه، إذ كان هو
الرافعَ بإضافة النَسخ إليه، وهو مَنْ (2) يرفعُ وُيثْبِتُ
حقيقةً.
والمعتقدُ للنَسخ يعلمُ برفعه وُيخْبِرُ، والرفعُ لم يحصلْ
باعتقاده ولا بخَبَرهِ، يوضِّحُ ذلك: أنه لو لم يعتقدْ ولم
يُفْتِ بالنسخ، لما عادَ الحكمُ ثابتاً، ولو لم ينْزِلِ الله
وحياً يأمرُ بالرفع والإِزالةِ، لكان الحكمُ ثابتاً، فبانَ
بذلك أنه هو الرَّافعُ (3) للحكم حقيقةً.
__________
(1) في الأصل: "العراقي".
(2) وردت في الأصل: "ممن"، وهو غلط.
(3) كتب في الأصل: "الرفع"، وصوابها ما أثبتناه.
(1/219)
فصل
في قولنا: منسوخٌ
وحقيقةُ قولِنا: منسوخٌ، إنما هو الحكمُ المرفوعُ، لأن الآيةَ
وإن سُمِّيَتْ منسوخةً، فإنها غيرُ مرفوعةٍ ولا مزالةٍ، وإنما
المرفوعُ حكمُها، وهي باقيةٌ من جهة كونِها كلاماً لله سبحانه،
وكذلك السّنَةُ ثابتةٌ، وإنما المنسوخُ حكمُها.
فإن قيل: أليسَ قد قالوا: من جملةِ المنسوخِ ما نُسِخَ
رَسْمُه؟ وهذا قولُكم يعطي أنْ لا منسوخَ إلا الحكمُ دون
الرسْم.
قيل: إذا تامَّلَ المحقِّقُ ذلك، وجَدَ أن المنسوخَ من الرسمِ
إنما نُهِيَ عن كَتْبه في المصحف، وتلاوتِه في القراءَة، وهذا
حكمٌ أيضاً؛ لأن النهيَ حكمُ الله على المكلَّفين، وأما عيْنُ
الآيةِ فلا تُرْفَعُ، والله أعلم.
فصل
يحصرُ ذلك ويجمعُ منثورَه
اعلم أنه لا بُدَّ في هذا البابِ من إثبات ناسخٍ، ونسخٍ،
ومنسوخٍ، ومنسوخٍ عنه:
فالناسخُ: الرافعُ للحكم، وهو الله سبحانه على ما قَدَّمْنا
وحَقَّقْنا.
والنسخ: قولُه سبحانه الدالُّ على رفع الحكمِ، ووَحْيُه إلى
نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -
والمنسموخُ: هو الحكمُ المرفوعُ.
(1/220)
والمنسوخُ عنه:- هو المكلف المتعبدُ
بالفعل، الذي تُزالُ العبادةُ عنه بعد ثبوتِها، والحكم في
الجملة من إباحةٍ وحظرٍ وإيجابٍ ونَدْبٍ، فتجبُ معرفةُ ذلك
وتحصيلُه على كل فقيهٍ.
وأما الرافعُ، فقد يكونُ، وقد لا يكونُ، فليس هو ممَا لابد
منه، وهو الحكمُ المنسوخُ به؛ لأنه ليس من ضرورة المنسوخِ أن
يُنْسَخَ إلى شيء يَخْلُفُه، ويكونُ بدلًا عنه، بل قد ثبتَ
ذلك، مثلُ: نسخِ الحَبْسِ في البيوتِ (1) بالجَلْد والتَغريب
أو الرجم (2)، وإبدالٍ التَّوَجُّهِ إلى بيت المقدسِ
بالتَوَجُّه إلى البيت اَلعتيقِ (3)، وَما رُفعَ ونُسِخَ لا
إلى بدلٍ، مثلُ: رفعهِ صدقةَ النَّجْوى (4) لا إلى صدقةٍ،
وبدلٍ، بل قنوعٍ بما شرعَ من الصلاة والزكاة، ومثلُ نسخِه
لسورة كانت مثلَ الأحزابِ لا نعلمُ لها بدلًا (5).
__________
(1) الوارد في قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى
يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً} [النساء: 15].
(2) بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد
مئة، والرجم"، وقد تقدم تخريجه في الصفحة (193).
(3) في قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة:
144].
(4) أي: تقديم صدقة بين يدي نجوى النبي صلى الله عليه وسلم
التي كانت واجبة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم
الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12].
(5) أخرج الطيالسي (540)، وعبد الرزاق (13363)، وعبد الله بن
أحمد في زياداته على "المسند" 5/ 132، والنسائي في "الكبرى"
(7150)، وابن حبان =
(1/221)
فإن قيل: القرآنُ يدفعُ هذا بقوله: {ما
نَنْسَخْ من آيةٍ أو نُنْسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلِها}
[البقرة: 106]، وما استشهدتم [به] ما خلا من بدل؛ لأنه قال:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المجادلة: 13]، وقال في قيام الليلِ:
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا}
[المزمل: 20]، فما ذكرَ نسخاً إلا وعَقَّبه منسوخاً به من
تعبد: إما أضعفَ، أو أسهلَ، وأخْبَرَ بذلك.
قيل: الإِسقاطُ رأساً خيرٌ كما أَخبَرَ، ولم يقل: نأتِ بحكم هو
خيرٌ، بل الِإسقاطُ خيرٌ، والصلاةُ والزكاة ليست بدلًا عن
صدقةِ النَجْوى بإجماعنا (1).
فصول
في شروط الناسخِ والمنسوخِ، وما ألْحِقَ به وليس منه.
فأحدُ شرائطهما (2): أن يكونا حُكمين شرعيَّين، فأما النَّاقلُ
عن حكم العَقْلِ، الساقطُ بعد ثبوتِه، فلا يوصفُ بأنه ناسخ،
ولذلك لم توصفِ العباداتُ الشرعيةُ من الصلوات وغيرها،
والخطابُ المحرمُ (3)
__________
= (4428) و (4429) عن زِرَّ بن حُبَيْش قال: قال أُبَي بن كعب:
كم تَعُدُّون سورة الأحْزاب من آية؟ قلت: ثلاثاً وسبعيق، قال
أبى: والذي يُحْلَفُ به إن كانت لتعدل سورة البقرة، ولقد قرأنا
فيها آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من الله
والله عزيز حكيم.
(1) "العدة " 3/ 783 - 785، و"المسودة": 198.
(2) في الأصل:"شرائطها".
(3) في الأصل: "المحترم".
(1/222)
لمَّا لم يكنْ في العقلِ حراماً، بأنهما
ناسخان لحكم العقلِ، وكذلك لا يوصفُ الموتُ المزيلُ لفَرْضِ
العبادة، وكل ماجرى مَجْراه (1)، بأنه ناسخٌ لها، لمَا لم يكن
المزيلُ خطاباً مزيلًا لحكم خطابِ أوَّلَ، ولأنه قد قيل
للمكلَّفِ في أَصل التَعَبدِ: العبادةُ لازمةٌ لك إلىَ أن
تموتَ، فصارَ لاقتران البيانِ به غيرَ ناسخٍ، وإنما نمنعُ
وصفَهما بأنه ناسخٌ ومنسوخٌ، وإنْ كان بمعنى ما يوصفُ بذلك من
الخطاب، لأنه ليس بخطاب أزالَ حُكْمَ خطابٍ ثابتٍ.
ومن شرطهما: أن يكونَ الخطابُ النَاسخُ منفصلَاَ عن المنسوخ،
ومتأخَراً عنه، لأنه إذا كان متًصِلًا به، لم يكنْ ناسخاً (2)،
ولا ما يزولُ حكمُه به منسوخاً؛ ولهذا لم يكنْ قولُه: {حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]، نسخاً لحَظْرِ
الوَطْءِ، وقولُه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:
29]، نسخاً لفَرْضِ القتالِ، وإلى أمثالِ ذلك.
فصل
ومن شرائطهما (3) أيضاً: أن لا يكونَ الخطابُ المرفوعُ حكمُه
مقيَّداً بوقت يقتضي زوالَ الحكمِ عند دخولِه، ولذلك لم يكنْ
قولُه: {أُ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
[البقرة: 187]، ناسخاً لصيام النَّهار، ولا كانت إباحةُ
الإِفطارِ يومَ الفِطْرِ وما بعده نسخاً لصيام رمضانَ، وإلى
أمثالِ ذلك مما وردَ التَعَبُّدُ به مؤقَتاً بوقتٍ محدودٍ.
__________
(1) أي: كزوال العقل بالجنون.
(2) إنما يكون استثناءً وتخصيصاً.
(3) في الأصل: "شرائطها"، وما أثبتناه هو الجادة.
(1/223)
فصل
ومن حَقِّهِما (1) في حكم الدِّين: أن يكونا خطابين واردين
مِمَن (2) تجبُ طاعتهُ وتلزمُ عبادتُه، وتثبتُ الأحكامُ بما
يَشْرَعُه، وهو الله سبحانه.
فإن قيل: فما تقولون في قول الرسولِ لأُمَّتهِ: قد أُزيلَ (3)
عنكم الحكمُ، بعد استقرارِه، هل هو نسخٌ، أم لا؟
قيل: هو نسخٌ، لكن ليس بنسخٍ من جهته، وإنما هو عبارةٌ عن رفعِ
الله عزَّ وجل له، لأنه لا يُزيلُ ولا يُبَدِّلُ من تلقاءِ
نفسهِ، فهو عن الله يقول، فصار قولُه لنا كقول جبريلَ له عن
الله من (4) الأحكام، وإزالةِ الأحكام، وكقول المُفْتِي مِنَا
للمستفتي: قد سقطَ عنك ما كنتُ أفتيتُك به، فاعَمل بغيره، ليس
بنسخ منه، وإنما هو خَبَرٌ عن حكم الله عزَّ وجل عليه بذلك عند
تَغَيرِ اجتهادِ المفتي.
فصل
وقد يقعُ النسخُ في أوامرِ مَنْ لا تلزمُ طاعتهُ ونواهيه، إذا
رَفَعَ بعضَ ذلك ببعضٍ، غيرَ أنه ليس مما يثبتُ به، ولا يزولُ
حكمٌ من جهة الدَينِ.
__________
(1) في الأصل: "حقها".
(2) في الأصل: "فيمن"، وهو تحريف واضح.
(3) في الأصل: "أزال"، وما أثبتناه هو المناسب لما ذكره المصنف
من إشكال.
(4) وردت في الأصل كلمة "له" قبل "من"، وهي مقحمة لا معنى لها.
(1/224)
فصول
في بيانِ ما ليس من الشُّروط وقد تشتبهُ، فأزَلْنا الاشتباهَ
بذكرِها.
فمن ذلك: أنه ليس من شَرْطِ النَّاسخِ أنْ يكونَ رافعاً لمثل
حكمِ المنسوخِ في المستقبل، دونَ نفسِ حكمِه الثابتِ به، لأننا
قد بَينَا أن مثلَ حكمِه غيرُحكمِه، ومارفعَ غيرَ (1) حكمِ
الشيءِ الثابتِ به، فليس بناسخً له.
وسنذكرُ إبطالَ ما يظنُه المخالفون من المُعْتَزِلَة، وأنه لو
أُزيلَ نفس الحكمِ المنسوخِ، لكان بداءً وإحالةً، بما يُوَضَحُ
الحق، إن شاءَ الله (2).
فصل
وليس من شرطهما أن يكونَ الناسخُ وارداً بعد تَقَضِّي وقتِ
المنسوخ؛ لتَوَهُّمِ المشترط لذلك إحالةَ نسخ الشيءِ قبلَ
وقتِه؛ لأن ذلك صحيحٌ جائز على ما نُبَينُه من بعد، إن شاءَ
الله (3).
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (212).
(3) انظر الجزء الرابع، ورقة 2631، من الأصل.
(1/225)
فصل
ولا يُتصورُ النسخُ على التَّحقيقِ إلا بأن يكونَ نسخاً قبل
تَقَضَي وقتِه، إن كان المنسوخُ المتعبَّدُ به واحداً، أو
بعضاً لجملة، على ما بَينَاه من قبلُ (1).
فصل
وليس من شرط المنسوخِ أن يكونَ ممَّا يصحُ أن يدخلَه
الاستثناءُ والتَخصيصُ، وأن لا يكونَ فعلاً واحداً، لأنهم
يبنون ذلك على إحالة نسخِ الشيء قبلَ وقتِه، وهم في ذلك
مخطئون؛ لِمَا نُبَيِّنُه من الدلائل في مسائل الخلافِ، إن شاء
الله (2).
فصل
وليس من الشرط أن يكونَ نسخُ الشيءِ بمثلِه، مثل: سُنَّةٍ
بسُنَةٍ، بل يجوزُ نسخُ المقطوع به بغير المقطوعِ به من
السنَّة على ظاهر كلام أحمدَ، وأَخَذَهُ بعض أصحابنا -رضي الله
عنهم- ممَّا قال أحمدُ -رضيَ الله عنه- في رواية الفضل بن زياد
(3) وأبي الحارث (4) في خَبَر
__________
(1) في الصفحة (217).
(2) في الجزء الرابع من الكتاب.
(3) هو أبو العباس الفضل بن زياد القطان البغدادي، كان من
المتقدمين عند الإمام أحمد، وقع له عنه مسائل كثيرة جياد.
"طبقات الحنابلة" 1/ 251 - 253.
(4) هو أحمد بن محمد، أبو الحارث الصائغ، من أصحاب الِإمام
أحمد المقدمين، روى عنه مسائل كثيرة. "طبقات الحنابلة" 1/ 74 -
75.
(1/226)
الواحدِ: إذا كان إسنادُه صحيصاً وجبَ
العملُ به، ثم قال: أليس قِصَةُ القِبْلَةِ حين حوَلَت، أتاهم
الخبرُ وهم في الصلاة، فتَحَوَلوا نحو الكعبةِ (1)؛ وخبر
الخمرِ أهراقوها، ولم ينتظروا غيرَه (2)؛. قال: فثبتَ أنه
__________
(1) أخرج أحمد 4/ 283 و288 - 289 و 304، والبخاري (40) و (399)
و (4486) و (4492) و (7252)، ومسلم (525)، وابن ماجه (1010)،
والترمذي (340) و (2962)، والنسائي 1/ 242 - 243 و243 و2/ 60 -
61 عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر
شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى
الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء
فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهلث، شطر المسجد الحرام} فوجه نحو
الكعبة، وكان يحب ذلك، فصلى رجل معه العصر، ثم مر على قوم من
الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد
أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -، وأنه قد وجه إلى
الكعبة، قال: فانحرفوا وهم ركرع.
وأخرجه مالك 1/ 195، وأحمد 15/ 2 - 16 و26 و105 و 113،
والدارمي 1/ 281، والبخاري (403) و (4488) و (4490) و (4491) و
(4493) و (7251)، ومسلم (526)، والترمذي (341) و (2963)،
والنسائي 1/ 244 - 245 و 2/ 61 عبد الله بن عمر.
(2) أخرجه مالك 2/ 846 - 847، وأحمد في "المسند" 3/ 183 و189 -
190 وفي "الأشربة" (17) و (18) و (136)، والبخاري (2464) و
(4617) و (4620) و (5582) و (5583) و (5600) و (5622) و
(7253)، ومسلم (1980)، وأبو داود (3673)، النسائي 8/ 287 و287
- 288، وابن حبان (5352) و (5361) و (5362) (4945) عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي
تسمونه الفضيخ، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ.
جاء رجل، فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت
الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس. قال: فما=
(1/227)
قد أُخِذَ بالسَنَّةِ في نسخ الكتابِ، وإن
كانت آحاداً.
وهذا عندي لاتثبت منه رواية تُعْطِي نسخَ القرآن بالسَنَّة حتى
يتقرَّرَ شروطُ النسخِ فيه، وليس مَعَنا أن القومَ كانوا
استقبلوا بيتَ المقدسِ بقرآنٍ؛ لأنه ليس معنا قرآن نتلوه في
ذلك، وإنما غايةُ ما فيه أنها كانت قبلةً بدليل قطْعٍ، وهو
أمرُ الرَّسولِ لهم بذلك، واستقبالُه لها على الدَّوام، وما
نعرفُ أحداً قال بأن القرآنَ يُنسَخُ حكمُه بخبر واحدٍ (1)،
ولا خبَرَ التواترِ القَطْعِيَّ بخبر الواحدِ، فيصيرُ خبرُ
أهلِ قُباء يحتاجُ إلى أويل يُخْرِجُه عن ظاهره، ولا في إباحة
الخمرِ تلاوة.
فصل
والمنصوصُ عن صاحبنا أحمد -رضي الله عنه- أن من شَرْطِ نسخِ
القرآنِ أن يكونَ بقرآن، ولا يجوزُ بالسَنَّةِ، قال وقد
سُئِلَ: هل تَنسخُ السّنَّةُ القرآنَ؟ قال: لا، لا يَنسخُ
القرآنَ إلا قرآن يَجيءُ بعدَه، والسنَّة تُفَسِّرُ القرآنَ
(2).
__________
سالوا عنها، ولا راجعوها بعد الخبر.
(1) بل نقل المصنف الخلاف فيه عن أهل الظاهر فيما سيأتي له في
مباحث النسخ، وهو مقرر في "الِإحكام" لابن حزم 4/ 107.
وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية مذهباً لابن عقيل نفسه، حيث قال
في "المسودة" ص 203: وحكى ابن عقيل في "الفنون" عمن قال: "إن
خبر الواحد والقياس يجوز أن ينسخ حكم القرآن": وقرر حنبلي ذلك.
أظنه نفسه.
(2) ذكر هذه الرواية أبو يعلى في "العدة" 3/ 788 - 789، واختار
أبو الخطاب في "التمهيد" 2/ 369 جواز نسخ القرآن بالسنة
المتواترة، وحكاه رواية عن أحمد.
(1/228)
وسنذكرُ ذلك مستوفىً في مسائل الخلاف (1).
فصل
وليس من شرطهما أن يكونا نَصَّيْنِ مقطوعاً على ثبوتهما،
وموجِبَيْنِ للعِلْمِ؛ لأننا سنقيمُ الدَّليلَ على صحةِ نسخِ
التَواتر بمثلِه، ونسخِ خَبَرِ الواحدِ بالمتواتر، وإن
مَنَعْنا من نسخ المتواتِر بخبرِ الواحدِ.
فصل
وكذلك ليس من شرطهما أن يكونَ المنسوخُ حكماً قد نُقِلَ لفظُه
إلينا، بل يجوزُ أن يَرِدَ النسخُ لحكم، ولا يكونُ ذلك الحكم
ثبتَ بلفظ منقول إلينا، بدليل أن نسخَ القِبْلَةِ وردَ واتَفقَ
الناس على أن استقبالَ بيتِ المقدس منسوخٌ بفَرْض التوجه إلى
الكعبة، وقد اتَفَقَ الكُلُّ على أنه لا نص في الكتاب أوَ
السنَةِ منقولٌ إلينا بلفظ وتفصيلٍ يُوجبُ التوجهَ إلى بيت
المقدسِ رفعَ حكمه بقول: {فوَل وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ}
[البقرة: 144]، ولو تَتَبًعْنا كثيراً من المنسوخ لوجدنا أمثال
ذلك، وإن كان حكمُه مرفوعاً.
فصل
ولا يمتنعُ أيضاً نسخُ الحكمِ الثابتِ باجتهاد النبى صلى الله
عليه وسلم وقياسِه -إذا قلنا: يجوز أن يَحْكُمَ باجتهاد-، وإن
لم يكنْ ثابتاً بلفظ ذي صيغةٍ وصورةٍ يَجِبُ نقلُها.
__________
(1) في الجزء الرابع من الكتاب في الصفحة 231.
(1/229)
فصل
وكذلك ليس من شرطهما أن يكونا أمراً نُسِخَ بنهي، أو نهياً
منسوخاً بأمر، أو حَظْراً منسوخاً بإباحة، لِمَا بَيَّنَّاهُ
من قبلُ (1)؛ لأنه قد يُنْسَخُ الإِيجاب والحظرُ بالإِباحة،
وينسخُ الفرضُ المُضَيًقُ من أصله، وقد يُتركُ وُيرفعُ تضييقُه
بتوسعة وقتِه، أو بتوسعة التًخييرِ بينه وبين غيرِه، بحَسَبِ
المشيئةِ المطلقةِ، والإِرادةِ النافذةِ، أو المصلحةِ
الحكْمِيَّةِ.
فصل
وكذلك لا يُعتبرُ بقول من قال: يجبُ أن لا يُنسَخَ الواجبُ إلا
بواجب مثلِه، بل قد يُنسخُ بواجبٍ مثلِه، وُينسخُ بالحظر،
وُينسخُ بالنَّدب، وُينسخُ بالإِباحة (2)، فيجبُ أن لا يعتبرَ
في ذلك أكثرُ من أن يكونَ أحدُهما رافعاً لحكم الآخَرِ، أيً
حكمَيْنِ كانا.
فصل
في الدَّلالةِ على ذلك
وهو أنه لا يخلو: إما أن يكونَ النسخُ لمصلحةٍ، أو لمجرَّدِ
مشيئةٍ مطلقةٍ من جهة مَنْ له التًصَرفُ في ملك الأعْيانِ،
وكلاهما لا يَمنعُ من ذلك، ولذلك صَحَّ أن يرتفعَ الحظر إلى
إيجاب وإباحةٍ ونَدْبٍ، وترتفع الإِباحةُ إلى إيجاب ونَدْبٍ،
وإلى تحريم وحظرٍ، ويرتفعَ الندبُ إلى إيجاب وإلى إباحة وحظرٍ،
فوجبَ أن يكونَ الاعتبارُ في ذلك بما قُلْناه فقَطْ.
__________
(1) انظرما سبق في الصفحة (221 - 222).
(2) "العدة" 3/ 783 - 785.
(1/230)
فصل
وكذلك فلا اعتبارَ بقول من قال: من شرطهما أن تكونَ أحكامُهما
ثابتةً بنصِّ الخطابين وظاهرِهما دون لَحْنِهما وفحواهما، أو
دليلٍ دالٍّ على تَكْرارِ العبادةِ المنسوخةِ ودوامِها، وقد
يكونان (1) كذلك، ويكونان بخلاف هذه الصِّفةِ، إذا عُلِمَ ثبوت
حكمِ المنسوخِ من الخطاب بأيِّ وجهٍ كان، من ظاهرٍ ونصٍّ
وفحْوىً ودليلِ تكرارٍ، وأكثرُ العباداتِ المنسوخةِ لم يثبتْ
دوامُ حكمِها بنصٍّ، بل بدلائلَ تدلُّ على التَّكرار.
فصل
وكذلك إذا ثبتَ حكمُ الناسخِ، وكان منافياً لحكم المنسوخِ،
وجبَ كوُنه ناسخاً له، وإن لم يَثْبُتْ ذلك بلفظه؛ ولهذا قال
الناسُ: إن آياتِ المواريثِ (2) نَسَخَتْ آيةَ الوصيةِ
للوالدَيْنِ والأقربين (3)، وإن لم يتنافَ حكماهما من جهة
اللفظ؛ لأنه كان يَصِح أن يأخذَ الوالدان بالوصيةِ والميراث
جميعاً؛ ولذلك بَيَّنَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم: أن آيةَ
المواريثِ قد نَسخَت ما قبلها بقوله صلى الله عليه وسلم "ان
اللهَ قد أعطى كُل ذي حَقٍّ حَقَه، فلا وصيةَ لوارث" (4)،
وأمثالُ هذا كثير.
__________
(1) في الأصل: "يكونا" والجادة ما أثبتناه.
(2) الآيتان (11 و12) من سورة النساء.
(3) الأية (180) من سورة البقرة.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 491، وأحمد 5/ 267، وأبو داود
(2870) و (3565)، وابن ماجه (2713)، والترمذي (2120)، والبيهقي
6/ 264 من حديث أبي أمامة الباهلي. وقال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
وفي الباب عن عمرو بن خارجة؛ وأنس بن مالك، وابن عباس، =
(1/231)
فصل
وكذلك فليس من شرطهما كونُ الناسخِ أخف من المنسوخ؛ لأنه قد
يُنسخُ الشَيءُ بمثله، وبما هو أثقلُ منه، وبما هو أخف، وقد
يُنسخُ إلى غير بَدَل أصلاً، على ما نَدُل عليه من بعدُ (1)،
إن شاء الله؛ فلا وجهَ لقول مَنْ قال: لا يُنسخُ إلا ببدلٍ
(2).
فهذه جملة كافية في الشُروط المُعْتَبَرةِ وغيرِ المعتبَرةِ. |