الواضح في أصول الفقه فصول
في بيانِ ما يصحُ ثبوتُ حكمِه بالتًعبدِ، ويصحُّ زوالُه
بالنسخ.
قد أكثرَ أهل العلمِ من الفقهاءِ والمتكلمين استعمالَ القولِ:
بأن النسخَ يتناولُ الأزمانَ فقَطْ دون الأعيانِ، وأن
التَخصيصَ يتناولُ الأعيانَ والأزمانَ والأحوالَ، وهذا إنما
يستعملُه المحصَلون لعلم هذا البابِ على سبيل التجَوُّزِ
والاتَساعِ؛ لأن الأعيانَ والأزمانَ باتَفاقٍ ليست من أفعال
العبادِ ومقدوراتِهم، ولا ممَّا يدخلُ تحت تكاليفِهم، وإذا كان
كذلك؛ وجَبَ أن يتناولَ النسخُ على الحقيقة رفعَ فِعْل في بعض
الأزمانِ دونَ رَفْعَ الزمانِ.
وكذلك فإنما يدخلُ التخصيصُ في إسقاط فعل في بعض
__________
= وغيرهم. انظر "نصب الراية" 4/ 403 - 405.
(1) انظر ما يأتي في الصفحة (250).
(2) القائلون بمنع نسخ الحكم إلى غير بدل هم جماهير المعتزلة
كما حكاه عنهم الجويني في (البرهان) 2/ 1313.
(1/232)
الأعيانِ، وذلك نحْوُ أن يقولَ: صَلِّ
أبداً دائماً. ثم يقولُ له: لا تُصَلِّ.
فيكونُ النسخُ داخلًا على الفعلِ دونَ زَمَنِه. وكذلك إذا قال:
اقتلوا المشركين إلا زيداً. فزيدٌ على الحقيقة ليس بمخصوص،
لكنَّ المخصوصَ منعُ إيقاعِ الفعلِ فيه؛ لأن اللَفظَ يقتضي
إيقاعَ الفعلِ في جميع الأزمانِ وجميعِ الأعيان، فإذا مُنعَ من
إيقاعه في بعضها كان ذلك تخصيصاً للأفعال، وكذلك إذا قال:
اقْتُلِ المشركَ إلا أن يكونَ معاهَداً، فكأنَّه قال: اقْتُلْه
في حالِ لا عَهْدَ له، ولا تَقْتُلْه في حال العهدِ، فذلك
يرجعُ إلى التخصيص لِإيقاع الفعلِ في حالٍ دونَ حال، وكونُ
المشركِ حَرْبياً أو معاهَداً لا يدخلُ تحت تكليفِ المسلم،
لأنهما صفتان للمشرك وفِعْلان من أفعالِه، والعبدُ لا
يُكَلَّفُ فعلَ غيرِه، فيجبُ تنزيلُ هذه الإِطلاقات وحَمْلُها
على ما قلناه.
فصل
في القول في جواز سقوطِ جميع العباداتِ عن المكلفين بالنَّسخِ
(1)، واستحالةِ سقوطِ جميعها [لا] (2) بالنسخِ.
اعلم أنَا قد قَدمْنا في أوَّلِ الكتاب (3): أنه لا حَظ
لضَرُوراتِ العقولِ وأدلَّتِها في القضاء على تحسين فَعل أو
تقبيحِه، أو إيجابه، أو حَظْرِه، أو إباحتِه، وأنه لا شيءَ من
الأفعال له صِفة، ووجْة لكَونه في ذاته عليه، يقتضي العَقْل
الحكمَ فيه ببعض هذه الأحكامِ، وإنما
__________
(1) وقع في الأصل: "لا بالنسخ"، والصواب حذف (لا).
(2) زيادة على الأصل يستقيم بها مراد المصنف.
(3) انظر الصفحة (26).
(1/233)
تثبتُ للأفعال هذه الأحكامُ بالسمع فَقَطْ،
وأنه لا يجبُ فَرْضٌ على أحد من جهة العقلِ، من معرفة اللهِ
سبحانه إلى ما دونَ ذلك، فالتَكليفُ إذاً -لأجل ما قد بينَاه-
لا يكونُ إلا سَمْعاً.
وثَبَتَ من أصلنا أيضاً أنه لا يجب على الله تكليفُ خلقِه،
وبَعْثُه الرُّسُلَ إليهم، سواءٌ عَلِمَ أن لهم في ذلك
المصلحةَ لجميعهم، أو لبعضهم دونَ بعضٍ، أو لا مصلحةَ لأحد
منهم فيه.
فإذا ثَبَتَتْ هذه الجملة التي يُفارَقُ فيها القدريةُ
ويخالفون؛ لم يَصْلُحْ للفقيه المعتقدِ في الأصل ضلالَتهم أن
يَبْنِيَ الأمرَ في التَّكليف على ما قالوه من وجوب الاستصلاحَ
للخَلْقِ أو لبعضهم على الله سبحانه، وجازَ لأجل هذا سقوطُ
جميعِ العباداتِ عن جميع الخَلْق، وأن لا يبعثَ الله تعالى إلى
أحد رسولاً، فيَسْقُطُ حينئذٍ عنهم فرض معرفتِه، وكلُّ ما
عداها، ولا يُصِيبُ أحدٌ منهم إذ ذاك قبيحاً، ولا محرماً، ولا
محظوراً، وكذلك فقد يجوزُ في حكمتِهِ سبحانه أن ينسخَ عنهم
بالسمع الواردِ من جهته جميعَ ما تَعَبدهم به، وُيزيلَ
فَرْضَه، وُيسقط عنهم تحريمَ كل ما حَرمَ عليهم فعلَه، وأن
يجعلَ الواجبَ عليهم من ذلك محظوراً، والمحظورَ واجباً، غيرَ
معرفتِه تعالى، وإيجابِ العِلْم بأنه على خِلافِ ما هو عليه من
صفاته، وكذلك فلا يجوزُ تَعَبُّدُهم بَأن يعلموا أن بعضَ
الأمورِ بخلاف حقيقتِه، وعلى ضِدَ صفتِه.
وإنما امتنعَ نهيُه عن معرفته؛ لأنه داخل في باب تكليفِ
المحالِ؛ لأنه إذا قال: اعْلَمْ أنَني قد نهيتُك عن معرفتي،
وحَظَرْت عليك فِعْلَها،
(1/234)
أو ابَحْتُك فِعْلَهَا وتركَها إن شئت.
وجبَ أن يكونَ في ضِمْنِ هذا الخطاب: أنِ اعْرِفْ هذا الخطابَ
لي، وأنني أنا المسقِطُ لفرضِ معرفتي عَنك. وهذا نفسُه امرٌ
بمعرفته؛ لأنه إذا وجبَ أن يعلمَ أن هذا الأمرَ والنَسخَ واردٌ
من قِبَلِ الله، فقد وجبَ عليه أن يَعرفَه، فيصيرُ ذلك في
تقدير قولِه: كُنْ عارفاً بي وغير عارف، وهذا ممتنعٌ في
التكليف.
وكذلك إذا قال له: اعلم أَنَّني على خلاف ما أنا عليه، أو أن
بعضَ الحوادثِ على خلاف ما هو في ذاته عليه، كان تكليفاً لمَا
لا يَصِحُّ فعلُه ولا تركهُ، وكذلك سبيلُ العلمِ بكلِّ
مُسْتدَلٍّ عليه، معِ عَدمِ الدَّليلِ عليه على ما قد
بَيَّنَّاه بن قبلُ، فأمَّا ما عدا ذلك، فإنه يجوز نَسخُ
جميعِه، وتبديلُ حكمِه.
وزعمتِ المعتزلةُ: أن افعال المكلَّفِ على ضربَيْنِ:
أحدهما: لا يجوزُ دخولُ النَّسخِ عليه، ولا بُدَّ من ابتداء
الأمرِ من الله به، أو ابتداءِ النَّهي عنه، وتبقيتِها ما دام
المكلَّفُ حياً سليماً، وهو كلُّ فعلٍ له صفةٌ في العقل تقتضي
كونه حَسَناً واجباً، وقبيحاً محرَّماً، لا يجوز تغييرُها،
وخروجُه عنها، فالحَسَنُ الواجبُ من ذلك، نحوُ: معرفةِ الله
عزَّ وجلَّ، ونحوُ: العدل والِإنصافِ، وشُكْرِ المنعِمِ،
وأمثالِ ذلك. والقبيحُ، نحوُ: الجهل بالله، والظُّلمِ،
وكُفرانِ النِّعْمَةِ، والكَذِبِ، وما يَجري مَجرى ذلك. قالوا:
فهذا مما لا يجوزُ نسخُ حكمِه وتغييرُه؛ لأنه لا يتغيَّرعن
صفته التي اقتضت حُسْنَه ووجوبَه، أو قبحَه وتحريمَه.
وزعمت المعتزلةُ أيضاً: أن معرفة الله عزَّ وجلَّ وإن كانت
حسنةً،
(1/235)
فليس جهةُ وجوبِها كونَها حَسَنةً؛ لأن
المباحَ والنًدْبَ حَسَنان، وإن لم يكونا واجبَيْنِ، وإنما
جهةُ وجوبِها عندهم كونُها لُطْفاً في فعل الواجباتِ العقليًةِ
إذا كانت من فعلنا، وغيرَ لُطْفٍ لو اضْطررْنا إليها.
وفي الجملة فإنه ليس جهةُ وجوبِ الشيءِ كونَه حَسَناً فقَطْ،
دونَ حصولِ وجهٍ زائدٍ على حُسْنِه يقتضي وجوبَه، وإن كان كونُ
الفعلِ قبيحاً جهةً لوجوب تركِهِ على العالِمِ بقبحه، ووجوبِ
تحريمِه على الله العالِمِ بذلك، ومن هو في حُكْمِ العالِمِ
به.
قالوا: فأمًا ما لا صفةَ له في العقل تقتضي كونَه حسَناً
واجباً أو قبيحاً من سائر الشَرْعِياتِ، فإنه يجوزُ نسخُه،
وتبديلُ حكمِه، بحَسَبِ ما يعلمُ الله سبحانه من صلاح
المكلفينَ على إيجابه تارةً، وتحريمِه أخرى، أو إباحتِه، أو
الندبِ إليه، وقد دعاهم هذا القولُ إلى أنَ القديمَ سبحانه
محكوم عليه في تكليفه لخَلْقِه، محجورٌ عليه وحاشاه من ذلك في
تصاريفِه.
وبيانُ ذلك من مقالتهم: أنهم قالوا: يجب عليه إذا عَلِمَ
المصلحةَ في رفع التَكليفِ أن يرفعَ التكليفَ عنهم، وإن لم
يقَعْ فعله بحسَب ذلك، كان خارجاً عن نَمَطِ الحِكْمةِ وسبيلِ
العدلِ إلى الجَوْر والسفَهَ -تعالى عن ذلك- وأنَه لا يجوز أن
يَنهى عن شيءٍ مما أمَرَ به، إذا كانت مصلحة المكلفين متعلقةً
به، ولا يأمرَ بشيءٍ يكون تركة مصلحةً لهم، فصارت أفعاله
وشرائعة تحت حَجْرِ مصالحِ خَلْقِه، وهذا مستوفىً في أصول
الدَينِ، وليس الإِشباع فيه لَيقاً بهذا الكتاب، وإنما نذكر
شَذَراتٍ ئبْنَى عليها حكم أصولِ الفقه ليَتَحذًرَ الناظرَ في
كُتبِهم من الوقوع في معتقداتهم، فأكثر الفقهاءِ لا خِبْرَةَ
لهم بمثل هذا.
(1/236)
فصل
في الفَرْق بين النسخِ والبَداءِ
قد بَينَا فيما تقدمَ (1): أن النَسخَ: هو رفعُ ما ثبتَ حكمُه
بعد استقرارِه، دونَ رَفْعِ مثلِ ما ثبتَ، ودونَ بيانِ مدَّةِ
انقطاعِ العبادة، بما يُغْنِي عن الإِعادة، وذلك جائز على الله
سبحانه، وصواب في حِكْمَتِه.
فهذا بيانُ النَسخِ تمهيداً للفرقِ بينه وبين البَداءِ.
فصل
فأما البداءُ فمعناه وحقيقتُه: أنه استدراكُ علمِ ما كان
خافياً مستوراً عمن بدا له العلمُ به بعدَ خَفَاء، ولذلك يقال:
بدا الفَجْرُ: إذا ظَهَر، وبدا الرَّكْبُ: إذا طلعَ أوائلُه،
وبَدا لي من فلانٍ ما كان مستوراً، ومنه قوله تعالى: {بَلْ
بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:
28]، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا
يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا} [الزمر: 48]، وقولُه: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154]، وإذا كان كذلك،
وكانت دلائلُ العقول والسمعِ قد قامت ودلت على أن الله سبحانه
عالم بما كان، وما يكونُ، وما لا يكونُ أنْ لوْ كان كيفَ كان
يكونُ، وبعواقب الأمورِ، ومن كان كذا، ثبتَ أن البَداءَ الذى
شرحناه غيرُ جائزٍ عليه سبحَانه (2).
__________
(1) انظر الصفحة (212) وما بعدها.
(2) "شرح اللمع" 2/ 191، و "التمهيد" 2/ 338 - 340، و "شرح
الكوكب المنير" 3/ 536 - 537.
(1/237)
فصل
ولا يَقْتَضِي النَسخُ دلالَة على استدراكِه عِلْمَ ما لم يكنْ
عالماً به سبحانه، ولا دَلالَةً على البَداء في إرادته؛ لأن
الدَّلالةَ التي دلت على كونه عالماً بكلِّ معلومٍ في كل حالٍ
مَنَعتْ أن يكونَ نسخُه للحكم بعد ثبوتِه دلالَةً على استدراك
علمِ ما لم يكن به عالِماً، وبُدُوِّ ما لم يَكُ له بادياً،
وما ذلك إلا بمثَابةِ ما صدَرَ عنه من الأفعال لُطْفاً
وعَسْفاً، فلا لُطْفُ فعلِه دَل على رِقَةٍ وانفعالٍ، ولا
عَسْفُه وعَذابُه دلً على اشْتِطاطٍ، بل فعلٌ يتغيرُ عن ذات لا
تتغيَّرُ ولا تنفعلُ، والله أعلم.
فتغييرُ الحالِ يليقُ بالمكلفين وبزمانِهم، ولا يليقُ بالله
سبحانه، فعادَ النًسخُ إلى تَغَيرِ حالِ الشًخص وتغيُّرِ
زمانِه ومصالحِه.
وإن أتُوا من قِبَلِ تَوَهُّمِهم: أنَ (1) الأمرَ يقتضي
الِإرادةَ، والنَهْيَ يقتضي الكراهةَ، وإذا كرهَه بعد أن
أرادَه، فقد بدا له. فليس ذلك أصلاً صحيحاً عندنا، بل لا يقتضي
الأمرُ الِإرادةَ، ولا النهيُ الكراهةَ؛ لِمَا نُبيِّنُه في
باب الأوامرِ ومسائلِ خلافِها (2).
فصل
في بيان الفَرْقِ بين النسخِ والتًخصيصِ فيما يفترقان فيه،
والجَمعِ بينهما فيما يستويان فيه
قد سَبَقَ في التحديداتِ ذِكْرُ العمومِ والخصوصِ، وذكرُ
النَّسخِ
__________
(1) في الأصل: "وأن"، والسياق يقتضي حذف الواو منها.
(2) في الجزء الثاني من الكتاب، الصفحة 450.
(1/238)
وتحديدهُ، والنَّاسخِ والمنسوخِ، بما أغنى
عن الِإعادةِ (1).
فالتَخصيصُ على قول من أثْبَتَ العمومَ صيغةً موضوعةً لاستغراق
الأعيانِ والأزمانِ بالحكم، لا يَحْصُلُ إلا باستثناء مُقارنٍ
متَّصلٍ، أو بدليل منفصلٍ من عقل أوسمعٍ أوقياسٍ شرعيٍّ، وكل
شيءٍ دَلَّ على أن المرادَ بتلك الصِّيغةِ الموضوعةِ لإِفادة
العمومِ بعض ما وُضِعَتْ له، فهو التَّخصيصُ عندهم.
والمحقِّقون منهم يقولون: هذه القرائنُ دلالةٌ على ما به يصيرُ
الخطابُ مخصوصاً، وهي إرادة النَّاطقِ بالصِّيغة كونَها
خاصَّةً، هذا هو المحقَّقُ على قول من قال: إن للعموم صيغةً.
ولا يَحْسُنُ ممَّن (2) منعَ تأخيرَ البيانِ عن وقت الخطاب أن
يجعلَ النَّسخَ بياناً لوقت الحُكْمِ؛ لأن النَّاسخ لا يكون
إلا متأخَرَاً عن وقت المنسوخِ عنه، ولا يجوزُ النسخُ إلا كذا،
فلو كان بياناً، لَمَا اجتَمَعَ طرفا مذهبهِ، بل تناقضَ غايةَ
التَّناقضِ؛ لأن النًسخَ مِن شَرْطه أن يقعَ متراخياً عن
المنسوخ، والبيان من شرْطه أن لا يتأخَرَ عن الخطاب المبيِّن،
بل يكونُ به مقترِناً، فقد بأنَ أن النسخَ رَفعُ ما قُصِدَ
واريدَ إثبات حكمِه بالخطاب الأولِ، والتخصيص بيانُ ما أُريدَ
بالخطاب مما لم يُقْصَدْ به.
فصل
وأما ما اتَفَقَ فيه النَسخُ والتًخصيصُ، فيجبُ أن نقولَ:
إنهما
__________
(1) انظر الصفحة (35) و (210) وما بعدهما.
(2) غير واضحة في الأصل.
(1/239)
تخصيصان، غيرَ أن النَسخَ تخصيصٌ يوجبُ
رفعَ ما ثَبَتَ حكمُه، والتَّخصيصَ الذي ليس بنسخٍ بيانُ ما
أُريدَ باللفظِ مما لم يُعَينْ به.
فصل
في بيان ما ينفصلُ به النسخُ من التَخصيص الذي ليس بنسخ.
وذلك من وجوه (1):
أحدها: أن التخصيصَ لا يَدْخُلُ في الأمر بمأمور واحدٍ،
والنًسخ يكونُ نسخاً بحكم الأمرِ بمأمور واحد (2)؛ فالفعلُ (3)
الواحدُ يُنْسَخُ بعد فَرْضِه، ولا يصحُ دخولُ التخصيصِ فيه.
ومما يَنْفَصِلُ به أحدُهما عن الاَخر أيضاً: أن التًخصيصَ
يخْرِجُ من الخطاب ما لم يُرَدْ به، والنًسخُ يرفعُ ما أُريدَ
به إثباتُ حكمِه.
ومما ينفصلُ به أيضاً: أن من سَبيل النَسخِ كونَه أبداً
متراخياً متاخَراً عن المنسوخ؛ لِمَا بَيناه من قَبْلُ،
والتَخصيصُ، قد يَصحُّ اتصالُه
__________
(1) انظر هذه الوجوه مستوفاة في "العدة" 3/ 779 - 785، و"شرح
مختصر "الروضة" 3/ 587 - 588، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة
الخاطر" ص 197 - 198.
(2) أي يجوز ورود النسخ على الأمر بفعل واحد، كما نسخ التوجه
إلى بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام، والأمر بالفعل
الواحد لا يدخله التخصيص؛ لأن التخصيص لا يكون إلا من متعدد.
"نزهة الخاطر" ص 197.
(3) في الأصل: "بالفعل".
(1/240)
بالمخصوص، ويصح تأخرُه عنه، وانفصالُه منه.
ومما ينفصلُ به أيضاً: أن النسخَ لا يكونُ أبداً إلا قَوْلًا
وخطاباً، والتخصيصُ يكونُ بالخطاب وسائر أدلَّةِ العَقْلِ
والسمْعِ، ولا يُنْسخُ حكم بدليل عَقْلٍ.
وممَّا ينفصلُ به: أن التَّخصيصَ لا يْنفي دَلالَةَ اللَّفظِ
المخصوصِ على ما بَقِيَ تحته، إن كان حيقيقةً أو مجازاً، على
اختلاف القائلين بالعموم في ذلك، والنسخ يُبْطِلُ دَلالةَ
المنسوخِ، حتى لا يُمْكِنُ مع ورودِ النَاسخِ أن يكونَ دليلًا
على ما كان يدُل عليه؛ من ثبوت الحكمِ في تلك الأزمانِ
المستقبَلةِ، وهذا الفرقُ يوجبُ أن يكون الناسخ رافعاً لما
ثبَتَ من حكم اللَّفظِ المتقدِّمِ لا مَحالةَ، والتخصيصُ
مبِّينٌ عن أن الحكمَ ما ثبتَ في المخصوص.
ومما ينفصلُ به أيضاً: أن تخصيصَ العامَ يكونُ بخبر الواحدِ،
والقياسِ، والاستدلالِ غيرِ القياسِ، وطرقِ الاجتهادِ، وإن كان
تخصيصاً لأصل يوجبُ العِلْمَ ويقطعُ العذْرَ، والنسخُ لأصل ما
هذه سبيله لا يكونُ بقياس ولا بخبر واحدٍ، لا يجوز ولا يصح إلا
بنصٍّ قاطعٍ، وإنْ نُسِخَ خبرُ الواحدِ بمثلِه من الأخبارِ.
(1/241)
فصل
فيما (1) يَفْصِلُ به بينهما المخالفون، مما لا يتأتَّى على
أصلنا؛ ليعرفَه الموافقُ، فيجتنبَه، وتتأكَدَ بمعرفتِه معرفةُ
أصولِنا.
فمن ذلك: أنَّهم قالوا: وينفصلُ التَّخصيصُ عن النَّسخ؛ فإن من
سبيل التَّخصيصِ أن يكون وارداً قبلَ ورودِ المخصوصِ أو معه أو
عَقِيبَه بلا فصلٍ، لمنْعِ تأخّرِ البيانِ عنده عن وقت (2)
الخطاب، والنَسخُ لا يكون إلا متأخراً عن المنسوخ، لا قبلَه
ولا مَعَه ولا عَقِيبَه، وهذا أصل نُخالفُه فيه، قد سَبَقَ
بيانُنا له (3).
ويكفي في الفصل بينهما عندنا أن يقالَ: النَسخُ لا بُد من كونه
متأخَراً متراخياً عن المنسوخ، والبيانُ ليس كذلك، لأنه قد لا
يكونُ متراخياً، بل يكون قبلَه أو مَعَه أو عقِيبَه، وقد
استوفينا ذلك فيما قَبْل.
ومما فَصَلُوا به أن قالوا: من بيان النَسخِ أن يتناولَ
الأزمانَ فقَطْ، ومن حقِّ التَّخصيصِ أن يتناولَ الأوقاتَ
والأعيانَ وأحوالَ الأعيانِ وصفاتِها وأفعالَها، وهذا ليس
بصحيح؛ لما أوْضَحْناه من قَبْلُ أن النسخَ لا يتناولُ ذواتَ
الأزمان، ولا ذواتَ الأعيانِ وأحوالِها وصفاتها وأفعالها،
وإنما يتناولُ الأفعالَ الواقعةَ في (4) الأوقاتِ والأعيانِ،
دونَ ذواتِ الأحوالِ والصِّفاتِ، وقد سَبقَ في بيان هذا ما
أغنى عن إعادته (5).
__________
(1) في الأصل: "مما".
(2) في الأصل: "قرب"، وهو تحريف.
(3) انظر الصفحة (223).
(4) في الأصل: "من" والأنسب ما أثبتناه.
(5) انظر الصفحة (232).
(1/242)
فصول
في بيان وجوهِ النَّسخِ
اعلم أنه يجوزُ أن يَقَعَ النسخُ لُطْفاً وتخفيفاً بعدَ تشديدٍ
وتغليظٍ بشهادة الكتاب العزيزِ، وهو قوله: {الآن خَفَّفَ الله
عنكم وعَلِم أنَّ فيكم ضَعْفاً فإنْ يَكُنْ منكم مئةٌ صابرةٌ
يغلبوا مئتَيْنِ وإنْ يَكُنْ منكم ألفٌ يغلبوا ألفَيْن بإذن
الله} [الأنفا: 66]، بعد قولِه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، فَنَسَخَ
لقاءَ الواحدِ من المسلمين للعَشَرةِ من المشركين إلى لقاء
الواحِد للاثنين.
وقولُه: {فالآن باشِرُوهُنَّ وابتغُوا ما كَتَبَ الله لكم
وكُلُوا واشْرَبُوا حتى يتبيَّن لكم الخَيْطُ الأبيضُ من
الخيْط الأسودِ من الفَجْر} [البقرة: 187]، بعد تحريمِه الأكل
والجماع على من نامَ.
وقولُه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، ثم نسخَه بقوله:
{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المجادلة: 13].
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}، وقولُه:
{وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}، ثمَّ قال: {وَاللَّهُ
يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ
(1/243)
أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يعنى تطيقوه {فَتَابَ
عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20]
فصل
ويجوزُ أن يقعَ النسخُ عقوبةً ومجازاةً على جرائمَ من
المكلفين، يشهدُ لذلك الكتابُ العزيزُ، وهو قولُه: {فَبِظُلْمٍ
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161].
والظاهرُ من هذا اللَّفظِ الذي أخْرجَه بيانَ المقابلةِ
لجرائمَ عَدَّدَها أنه حرَّمَ عليهم الطَّيِّباتِ عقوبةً على
هذه المخازي المذكورةِ عنهم، المضافةِ إليهم.
فصل
ويَقَعُ كرامةً وطلباً لرضا المكلَّفِ وماتَطِيبُ به نفسُه،
مثلُ قوله سبحانه لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: {قد نَرَى
تَقَلُّبَ وجهِك في السَّماء فلنُوَلِّيَنَّك قِبْلةً ترضاها
فوَلِّ وجهَك شَطْرَ المسجدِ الحرام} [البقرة: 144]، وكان
يكرهُ استقبالَ قبلةِ اليهودِ، وُيحِحث استقبالَ قبلةِ
إبراهيمَ، فنسخَ اللهُ سبحانه ما كرهَه بما رضيَه من
القبلتَيْن كرامةً له - صلى الله عليه وسلم -
فصل
وقد يكونُ ذلك لمصلحة مبنيَّةٍ على ما قَدَّمْنا من سهولةٍ بعد
صعوبةٍ، وتخفيفِ التكليفِ؛ لكونه أقربَ إلى الاستجابة
استصلاحاً للمكلَّفينَ، وقد يكونُ ابتلاءً من الله، ولا يبينُ
وجهُ الأصلحِ فيه؛ إذْ له فعلُ ما شاءَ، يشهدُ لذلك قولُه:
[سبحانه وتعالى]: {سيقولُ
(1/244)
السُّفهاءُ من الناس ما وَلَّاهم عن
قبلتِهم التي كانوا عليها}، فأجابَهم بقوله: {قل لله المشْرقُ
والمغْربُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم} [البقرة: 142]،
وهذا تعليلٌ بمُجَرَّدِ المَلَكةِ، وأبانَ عن الابتلاء بقوله:
{وما جَعَلْنا القِبلَةَ التي كنتَ، عليها إلا لنعلمَ من
يَتَّبعُ الرَّسولَ ممَّن ينقلبُ على عَقِبَيْهِ وإن كانت
لكبيرةً إلا على الدين هَدَى اللهُ} [البقرة: 143]، فامتحانُ
العقولِ وابتلاؤها بعضُ وجوهِ النسخِ على ما قَررْنا في هذا
الفصلِ.
فصل
ولا يختص بالأصلح؛ لأنا قد بَينَا أنه نسخَ بتحريمٍ وتضييقٍ في
مقابلة أجرامٍ عَددَها، والأصلح لُطْفٌ، وليس اللطف مما يصلحُ
أن يكونَ مقابَلًا بظلم، فلما قالَ سبحانه: {فبظلمٍ من الذين
هادُوا} [النساء: 160]، عُلِمَ أنه لايُقابلُ المفسِدَ
بالأصلح، وسنُشبعُ الكلامَ في نفي وجوبِه على الله سبحانه في
مسائل الخلاف (1)، إن شاءَ الله.
فصل
والنسخُ على ثلاثة أَضْرُب: نسخُ الحكْمِ دونَ الرسمِ، ونسخُ
الرَّسمِ دونَ الحكمِ، ونسخُ الرَّسم والحكمِ معاً.
فالاولُ: الوصيةُ للوالدَيْن والأقربين (2)، والاعتدادُ
والتَربصُ بعد وفاةِ
__________
(1) انظر 4/ 211.
(2) في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك
خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين}
[البقرة: 180].
(1/245)
الزَّوج حَوْلاً (1)، وهما جميعاً يُتلَيان
في كتاب الله تعالى، فنُسِخَتِ الوصيَةُ بآية المواريثِ (2)،
ونُسِخَ الحولُ بالأربعة أشهر وعشراً (3).
والثَّاني: آيةُ الرَّجمِ، منسوخةُ الرَّسمِ من كتاب اللهِ،
وهَمً عمرُ بكَتْبها في حاشية المصحفِ، وخافَ النَّاسَ أن
ينسُبُوا إليه الزَيادةَ في المصحف، وهي: {لا تَرْغَبُوا عن
آبائكم فإن ذلك كُفْرٌ بكم، الشَيخُ والشَّيخةُ إذا زَنيا
فارْجُمُوهما البتَّةَ نكالاً من الله واللهُ عزير حكيم} (4)،
__________
(1) في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية
لأزواجهم متاعاً إلى الحول} [البقرة: 240].
(2) في الآيتين (11 و12) من سورة النساء.
(3) في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234].
(4) أخرج هذه القصة مالك 2/ 823، وأحمد 1/ 23 و29 و36 و. 4 و43
و47 و 50 و 55 - 56، والدارمي 2/ 179، والبخاري (6829) و
(6830)، ومسلم (1691)، وأبو داود (4418)، وابن ماجه (2553)،
والترمذي (1431) و (1432)، والنسائي في "الكبرى" (7151) و
(7154) و (7157) و (7158) و (7159) و (7160) عن ابن عباس، عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
دون ذكر نص الأية التي أوردها المصنف.
وأما قوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فإن ذلك كفر بكم" فلاعلاقة له
بآية الرجم، وقوله: (الشيخ والشيخة. .....) لم يرد إلا عند
النسائي في "الكبرى" (7156) من طريق سفيان، عن الزهري، عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن
الخطاب، فذكره. وقال النسائي عقيبه: لا أعلم أن أحداً ذكر في
هذا الحديث: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" غير
سفيان، وينبغي أنه وهم، والله أعلم.
(1/246)
وهي ثابتة الحكمِ، وهذا تعليقٌ للحكم على
الغالب، وأن الشَيخيْنِ يكونان محصَنَيْن، وليس بتعليق على
حقيقة السنِّ؛ لأنَ الشَيخَ والعجوزَ إذا لم يكونا تَواطَآ في
نكاح صحيحٍ جُلِدا، لكن هذا ممَّا ذُكِرَ فيه السنُّ إحالةً
على غالِبِ الحالِ معها.
وكذلك ذِكْرُ التَتابعِ في كفَّارةِ اليمين في قراءة ابن
مسعود: "ثلاثةِ أيامٍ متَتابِعاتٍ" (1)، نُسِخَ الرسم،
والحكمُ- وهو التَتابع- باقٍ عندنا (2).
والثالثُ: مثل ما روي عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: كان
فيما أنْزَلَ الله: عَشْر رَضَعاتٍ معلوماتٍ، فَنُسِخنَ
بخَمْسٍ معدوداتٍ، فتُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو مما يُقْرَا في القرآن (3)، فكانت العَشْرُ منسوخةَ
__________
(1) في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:
89]، و"متتابعات" قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود. "تفسير
الطبري" 7/ 30، و"زاد المسير" 2/ 415.
ولم يرد فيما نقل إلينا من الروايات عن ابن مسعود أو غيره
رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل: هذا مما لا
مجال فيه للاجتهاد بالرأي، فله حكم المرفوع، قلنا: نعم، يصح
الاعتراض بهذا، إن كان ابن مسعود يرى أنها قرآن عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وليس الأمر كذلك، بل يحتمل أن تكون مذهباً له
أو تفسيراً.
وبناء عليه لا يصح التمثيل بها على ما ذكره المصنف من نسخ
الرسم مع بقاء الحكم، فليس هي قراءة مرفوعة، فضلاً عن أن تكون
قرآناً، ثم الخلاف واقع بين الصحابة ومن بعدهم في اشتراط
التتابع، والله أعلم.
(2) انظر "المغني" 13/ 528 - 529.
(3) أخرجه مالك 2/ 608، والدارمي 2/ 157، ومسلم (1452)، وأبو
داود (2062)، وابن ماجه (1942)، والترمذي إثر الحديث (1150)،
والنسائي =
(1/247)
الرسم إذلم نَقِفْ لها على رسم، ومنسوخةَ
الحكمِ إذلم يَبْقَ بالعَشْرِ (1) عِبْرةٌ، ولا تَعَلَّقَ
التحريم عليها.
فصل
وقد روِيَ أن سورةً كانت كسورة الأحزاب رفِعَتْ، وذكرَ فيها:
"لو أن لابن آدمَ واديَيْنِ من ذهب لابتغى إليهما ثَالثاً، ولا
يملأَ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلا الترابُ، ويتوب الله على مَنْ
تابَ" (2)، ورويَ أن الدَّاجِنَ
__________
= 6/ 100، وابن حبان (4221) و (4222)، والبيهقي 7/ 454 عن
عائشة رضي الله عنها.
(1) في الأصل: "بالعشرة"، والصواب ما أثبتناه.
(2) أخرج مسلم (1050)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 418
- 419 و419، والبيهقي في "دلائل النبوة" 7/ 156، عن أبي موسى
الأشعري قال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة
ببراءة، فانسيتها، غير أنى قد حفظت منها: لو كان لابن آدم
واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا
التراب.
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 256 - 257، وزاد نسبته
إلى: ابن مردويه، وأبي نعيم في "الحلية".
وأخرج نحوه البخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 325، والبزار (3634
- كشف الأستار، والطحاوي فىِ "شرح مشكل الآثار" 2/ 419 - 420
عن بريدة بن الحصيب الأسلمي.
وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 257 - 258، وزاد نسبته
إلى ابن الضريس. وانظر ما تقدم في الصفحة (221) الحاشية رقم
(5).
وأخرج نحوه أيضاً البخاري تعليقاً في "صحيحه" (6440)، والترمذي
(3793)، والطبري في "تفسيره" 30/ 2840، والطحاوي في "شرح مشكل
=
(1/248)
أكلت شيئاً كان فيه قرآن ولم يذْكَرْ (1).
وأنكرَ هذا قوم من الأصوليين، ولا وَجْهَ للِإنكار إذا صحَّت
الرواية بذلك؛ لأنه إن كان القول بالأصلح، فقد يكون الأصلح
رفعها، كما كان في الوقت الذي تُلِيَتْ ونزَلَتْ الأصلح نزوئها
وتلاوتها، وإن كان القول بمطلق المشيئةِ، فيرفع الله ما يشاء
كما ينَزِّل، وقد أعْلَمَ نَبينا ليلةَ القَدْرِ، ثم أنْساهُ
ورَفَعهَا (2)، يعني رفعَ علمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
بها؛ بدليَل أنه قال: "فاطلبوها"، ولو كان الرفع لعَيْنها،
لَمَا أمرَ بطلبها، كذلك رفعَ عِلْمنا بالسُّورة والآية، لا
أنه أعْدَمها وأزالَ ذاتَها، وما خلا إنزالُها من
__________
= الآثار" 2/ 420 عن أبي بن كعب.
(1) أخرج أحمد 6/ 269، وابن ماجه (1944) عن عائشة قالت: لقد
نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت
سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشاغلنا
بموته، دخل داجن فأكلها.
ولقد كذَّب ابن حزم هذه الرواية في "الإِحكام في أصول الأحكام"
4/ 77 - 78، فانظر تمام كلامه فيه.
(2) أخرج أحمد 2/ 291، والدارمي 2/ 28، ومسلم (1166)، وابن
خزيمة (2197)، وابن حبان (3678) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني أهلي،
فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر".
وأخرج أحمد 5/ 313 و319، والدارمي 2/ 27 - 28، والبخاري (49) و
(2023)، و (6049)، وابن حبان (3679) عن أنس بن مالك، عن عبادة
ابن الصامت أنه قال: خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا
بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: "خرجت لأخبركم
بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً
لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".
(1/249)
فائدة، وهي الِإيمانُ بها حيثُ كانت
مَتْلُوَّةً، والتَسليمُ لحكم اللهِ حيث رُفِعَتْ، وفي رفعها
بعد الإِنزالِ نوع بَلْوىً، قال الله سبحانه: {وَإِذَا
بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101]، فيكون رفعُ ما أنزلَه ونسخ ما
أحكمَه زيادةً في إيمان المؤمنِ بتسليمه الله، وفتنةً للَّذين
في قلوبهم مَرَضٌ.
فصل
وليس من شَرْط النسخِ للحكمِ أن يكون إلى بَدَل، بل قد ينسَخُ
إلى بدَل وإلى غير بدلٍ، فيكونُ النسِخ إسقاطاً ورفعاً للحكم
من أصله، وذلك كنسخ تَرَبُّصِ زوجةِ المتوفَى ما زاد على
الأربعة أشهرٍ وعَشْراً من الحَوْل إلى غير بدلٍ، والاقتصارِ
على خَمْس رضَعاتٍ بعد عَشْرٍ، فسقوط الخمْسِ إلى غير بدلٍ.
وليس لقائل أن يقولَ: أبْدَلَ الحَوْلَ ببعضه، وأبدلَ العَشْر
بنصفها؛ لأن ما بَقِيَ بقيَ على ما كان، والسَّاقطُ منه خَرَجَ
عمَّا كان، فلا وجهَ لتسمية ما بقيَ بدلَاً، مع كونِه على حكم
أصلِه، والبدل ما قامَ مَقامَ الشَّيءِ، وسَدَّ مَسَده في
الحكم الذي علِّقَ عليه، ولو جاز أن يُسَمَّى بعضُ الحولِ
بدلًا؛ لَسُمَيَ ما بقيَ من الصَلاةِ المقصورةِ في السَّفَر
بدلًا عن التَّامَّةِ في الأصل.
فصل
وما نُسِخَ إلى بدَل على خمسةِ أضْربِ: نسخُ واجبٍ إلى واجب،
ونسخ واجبِ إلى مباحٍ، ونسخُ واجبِ إلىَ نَدْب، ونسخُ محظورٍ
إلى مباح، ونسخُ إباحةٍ إلى حَظْر، وهي مَما قد يكونُ عقويةً.
(1/250)
فصل
فأما نسخُ الواجبِ إلى الواجب، فعلى ضَرْبَيْن (1):
نسخ واجبِ معينٍ إلى مثله في الإِيجاب والتَعيين، كنسخ
الاتِّجاهِ إلى بيت المقدسِ إلى الاتَجاهِ نحْوَ الكعبةِ.
ونسخ واجب موسَّعٍ بالتَّخيير إلى واجب مضيقٍ بالتَعْيينِ،
كالصِّيام، كان المُطِيقُ القادرُ عليه في صَدْر الإِسلامِ
مخيراً بين الصِّيام والفِدْيَةِ طعام مسكينٍ مع الإِفطارِ،
فقالَ سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]،، ثم نُسِخَ إلى الصَّوم
حَتْماً وتعييناً من غير تخييرٍ، مع الإِقامةِ والصِّحَّةِ
بقوله تعالى: {فمن شَهِدَ منكم الشَهْرَ فَلْيَصُمْه}،
وتقديرُه: شَهدَ منكم الشَّهْرَ صحيحاً مقيماً {فَلْيَصُمْه}،
بدليل قولِه: {ومن كان (2) مريضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَةٌ من
أيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، والمرضُ والسَّفرُ لا
يُعْدِمانِ شهادةَ الشَهْرِ، لكنْ يُعْدِمانِ صفتَيْنِ في
الشَّخص: الإِقامةَ والصِّحَّةَ، فثبتَ التَّقييدُ في
الإِبدالِ، وهو (3) نوعُ توسعةٍ مع العُذْرِ، بعدَ أن كان
التًخييرُ مع الصِّحةِ والإِقامةِ توسعةً مع عَدَمِ العُذْرِ.
فصل
وأما نسخُ الواجب إلى المُباحِ: كالصَّدقةِ عند مناجاةِ الرسول
- صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وإذا ناجَيْتُمَ الرًسولَ
فقَدً موا بينَ يَدَيْ نجواكم صدقةً}
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 783 - 784.
(2) في الأصل زيادة: "منكم" بعد "كان".
(3) في الأصل: "وهي".
(1/251)
[المجادلة: 12]، فنُسِخَ ذلك الوجوبُ إلى
جواز فعلِها وجواز تركِها بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) [المجادلة: 13].
فصل
وأما نسِخُ الواجب إلى النَّدْب: كالمصابرةِ، كان في صَدْر
الإِسلام واجباَ على الِإنسَان المجاهدِ أن يُصابِرَ عَشَرَةً
من المشركين، فنُسخَ إلىَ اثنين وجوباً، ونُدبَ إلى مصابرة ما
زاد على الاثنين (2)، وقد تَلَونا الآيَ في ذلك في فصل نسخِ
الأشدَ إلى الأخفِّ (3).
فصل
وأما نسخُ الحَظْرِ إلى الِإباحة (4): فقولُه تعالى: {عَلمَ
اللهُ أنكم كنتم تَخْتانُون أنفسَكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم
فالآن باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كتبَ اللهُ لكم وكُلُوا
واشْرَبُوا حتى يَتَبينَ لكم الخَيْطُ الأبيضُ من الخيط
الأسودِ من الفجْر} [البقرة: 187]، فكان الأكلُ والمباشرةُ
محظورةً إذا نامَ ثم استيقظَ، ثم نُسخَ بالاَية المَتْلُوةِ
أول هذا الفصلِ.
ومن السنَة قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ (5)
نَهَيْتُكم عن زيارة القُبورِ، ألا
__________
(1) المصدر السابق 3/ 784.
(2) المصدر السابق 3/ 784 - 785.
(3) انظر ما تقدم في الصفحة (243).
(4) في الأمحل: "والِإباحة"، والصواب بدون الواو كما أثبتنا.
(5) في الأصل: "كنتم".
(1/252)
فزُوزوها، و (1) كنتُ نهيتكم عن ادِّخار
لحومِ الأضاحي، ألا فادَخِروها" (2).
فصل
وأما نسخ الِإباحةِ إلى الحظر: فهو كنسخ إباحةِ الشُّحُوم على
اليهود لأجل ظلمِهم، بالحظْر لها عقوبةً، وكنسخ الخمرِ على
أَمَته بعد إباحتِها مصلحةً، أو إرادةً مطلقةً.
فصل
قال بعضُ أهلِ العلمِ: وفي تقديم الأشَقَ على الأسهَلِ
الأخَفِّ حِكْمَةٌ لها تأثيرٌ في التَكليف، وذلك أن النفوسَ
إذا استشعرت لزومَ الأصعب، وتوَطنَتْ على التزامه، ثم جاءَ ما
هو أسهلُ منه، سَهُلَ زيادةَ سهولةٍ، وهذا نجده من عاداتنا؛
فإن الظُلْمَ من السلاطينِ، والمُسْتامِينَ من الباعةِ، إذا
ساموا الكثيرَ من المال والوافرَ من الأثمان، ثم جاءت المساهلة
بإسقاط البعضِ، سَهُلَ الباقي، وإن كان الثمنُ الذي صارَ إليه،
هو القدْرَ من الثَمن الذي هو ثمنُ المثْل، والقَدْرُ الذي
صارَتِ
__________
(1) في الأصل: "كنت " بدون الواو.
(2) أخرجه أحمد 5/ 350 و355 و 356 و 356 - 357 و 359 و361،
ومسلم (977) و (1977) و (37) و 3/ 1563 - 1564، وأبو داود
(3235) والترمذي (1554) و (1515)، والنسائي 4/ 89 و 8/ 310 و
311 - 311 و311، وابن حبان (3168) و (5390) و (5391) و (5400)
من حديث بريدة بن الحصيب.
(1/253)
المصادرة [إليه] (1)، هو الذي اطْمَأنَّتِ
النُفوس إليه بالعادة، لكنْ لو ابْتدِىءَ بالآخِرِ فكان
اوَّلاً، لم يَسْهُلْ.
فهذا نوعُ حِكْمَةٍ يُسَهِّل على نفوس المكلَّفين ما كان لولاه
صعباً.
فصل
وقد جَمَعَ اللهُ سبحانه منثورَ ما ذَكَرْنا في قوله سبحانه:
{ما نَنْسَخْ من آية أو ننْسِهَا نَأتِ بخير منها} [البقرة:
106]، يعني: خيراً لكم، وإلّاَ فالقرآن في نفسه لا يتفاضل؛
لكونه كلاماً لله سبحانه، وصفةً من صفاته التي لا تحتمِل
التَّفاضلَ والتَخايرَ.
وماهو خيرٌ لنايحصلُ من وجوه:
أحدها: في السهولة المخفِّفَةِ عنَّا ثقَلَ التكليفِ، وذلك
خيرٌ من وجهين: أحدهما: انتفاء المَشَقَةِ على النَفس،
والثاني: حصول الاستجابةِ والمسارعةِ؛ فإن النفوسَ إلى الأسهل
أسرعُ، وإذا أسْرَعَت الاستجابةُ، تَحَقَقَ إسقاطُ الفَرْضِ،
وحصول الأجرِ.
والثاني من وجوه الخيرِ: كثرةُ المشقَةِ التي يتوفَّرُ بها
الثواث، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ: "ثوابك
على قَدْرِ نَصَبِك" (2).
__________
(1) زيادة على الأصل يتضح بها المعنى.
(2) أخرجه أحمد 6/ 43، والبخاري (1787)، ومسلم (1211) و (126)
و (127)، وابن خزيمة (3027)، والدارقطني 2/ 286، والحاكم 1/
471 عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يا رسول الله،
يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؛ قال: "انتظري، فإذا طهرت،
فاخرجي إلى التنعيم، فأهلَّي منه، ثم القينا عند كذا وكذا،
ولكنها على قدر نصبك، أو نفقتك".
(1/254)
وقد يكون الخيرُ الأصلحَ الذي لا نعلمُ
وجهَه.
وقوله: {أو مِثْلِها}: في السُّهولة أو الصُعوبةِ أو
المَثُوبَةِ.
فإن قيل: فما أفادَ التبديلُ بالمِثْل شيئاً، إذا كان المثلُ
ما سَدَّ مَسَدَّ مثله.
قيل: بل قد يفيدُ، إما زوالَ المَلَلِ؛ فإن النفوسَ قد
تَمَلُّ، فإذا انتقلت إلى غَيْرٍ، سَهُلَ عليها التكليفُ، فإن
المغايرةَ تُخَفًفُ الأفعال.
وقد تكونُ مِثْلًا لها في السُهولة والأجرِ، لكنْ يحصلُ
بتغيُرِها وتبديلِها بغيرها زيادةُ تعبُّدٍ، وهو التًسليمُ
والتًحكُمُ لأمر اللهِ في تغيير أحكامِه، ونقل عبادة من عبادة
إلى عبادة من غير تَلوُّمٍ ولا اعتراضٍ، بخلاف ما نَطَقَتْ به
الآياتُ عن أهل الشًرْكِ والنًفاقِ؛ من قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ
عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]،
وقولِهم: {أيُّكم زَادَتْه هذه إيماناً} [التوبة: 124]،
وقولِه: {{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}
[النحل: 101]، فإذا حَصَلَ من المؤمنين المسارعةُ إلى طاعة
اللهِ، والرًضا بتبديل الأحكام، وتغايُرِ التَكليفِ، كان لهم
المضاعفةُ في الثواب، واللهُ أعلمُ.
(1/255)
فصل
في المُطْلَق
وهو في عبارات الفقهاءِ: ما عُلِّق الحكمُ عليه باسمه
الأعَمِّ، كقوله: لا تذبحوا الحيوانَ لغير مَأْكلَةٍ، أو
عُلَقَ عليه الحكمُ باسم خاصٍّ بالِإضافة إلى ما فوقه من
الجِنْس، عامٍّ لما تحته من الأشخاص، كقوله: في الغنم صدقةٌ،
{فتحريرُ رقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فهو مطلق عن صِفَة أو نَعْتٍ
موسومٍ باسم مطلقٍ، وقوله تعالى: {واستَشْهِدُوا شهيدَيْن من
رجالكم} [البقرة: 282].
فصل
وهو في أصل اللغة: التَخْلِيَةُ والِإرسالُ، تقول: أطلقتُ
العبدَ والطًائرَ والدَّابَّةَ من القيدِ والقفصِ والشِّكالِ
(1)، واطْلَقْتُ القولَ اطْلِقُه: إذا خَلَّيْتَه وأرسلتَه من
تعليق على نعت أو صفةٍ؛ فإطلاقُ القولِ من معنىً يعيقُه،
كإطلاقِ العبدِ والطًائر من معنىً يعيقُه.
فصل
في المُقَيَّد
والمقيَّد: ما غلِّقَ على اسم بنعت أو صفةٍ أو غيرِ ذلك مما
يخصُه
__________
(1) هو العقال أو الحبل تشد به قوائم الدابة. "اللسان": (شكل).
(1/256)
على بعض الجملةِ المرسلَةِ، وهو شبيةٌ
بالتّخصيصِ، وهو من نظرائه، والمطلقُ شبية بالعموم، ونظيرٌ له.
ومثالُ المقيَّدِ: {وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل منكم} [الطلاق:
2]،. فكان عمل التَّقييدِ بالعدالة عَمَل التَخصيصِ المخرجِ من
الجملة بعضَها، فصارتِ العدالةُ مخصَّصَةً بعضَ الرِّجالِ
بالشَّهادة.
وكذلك قولُه: "في سائمةِ إلغنم (1) " صار مقيَّداً بالسَّوْم
بعد أن كان مُطلقاً (2) على الغنم.
وقوله تعالى {فتحريرُ رَقَبةٍ مؤمنةٍ} [النساء:92] بعد قوله:
{فتحريرُ رَقبةٍ} تقييد بالايمتن، وهو تخصيص فى الحقيقه،
فالإِطلاق مكثِّرٌ أبداً؛ لأنه أَعمُّ، والتَقييدُ مقلِّلٌ
أبداً؛ لأنه أخَصُّ.
فصل
وأصلُ الفَحْوى في الكلام في اللُّغة: من الكشف والإِظهارِ،
قالوا في أبزار (3) القِدْرِ: فَحَا (4)، وقالوا: فَحِّ
قِدْرَك، أي: أَلقِ فيها الأبزارَ لتفوحَ رِيحُها، فكما أن
الأبزارَ تُظهِرُ ريحَ القِدْرِ، كذلك الفحوى تظهرُ
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (37) الحاشية رقم (3).
(2) في الأصل: "معلقاً"، وصوابها ما أثبتناه.
(3) الأبْزار: جمع بَزْر- بالكسر والفتح، والكسر أفصح-، وهو
التابَلُ، وبَزَرَ القِدْرَ: رمى فيها البزر.
(4) في الأصل: "فح"، والفَحَا- بفتح الفاء وكسرها، والفتح
أكثر-: تَوابِلُ القُدور، كالفُلْفُل والكمُّون ونحوهما.
(1/257)
معنى الكلام (1).
فصل
في لَحْنِ القول
وأما لحنُ القول: هو ما فهِمَ منه بمعنىً من لفظه، قال سبحانه:
{ولتَعْرِفَنَهم في لَحْن القولِ} [محمد: 30]، وقال الشَّاعرُ:
مَنْطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أحيا ....... ناً وخيرُ الحديثِ
ماكان لَحْنا (2)
وقيل: لحنُ القولِ: ما دلَّ عليه وحُذِفَ واستغْنيَ عنه بدليل
الكلام عليه، نحو قولِه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ}
-فانْبَجَسَتْ (3) - {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}
[البقرة: 60]، فدلَّ الكلام على أنه ضربَ الحجرَ فانفجرَتْ،
ومثلُ قولِه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}،
{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 17، 20]، ففحواه:
فذهبَ، فقالَ، وأراه الآيةَ الكبرى (4).
__________
(1) في الأصل: "للكلام"، والأنسب ما كتبناه.
(2) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري في جارية له،
وقبله:
أَمُغَطَىً منِّي على بَصَري للـ .... حبِّ أم أنتِ أكمل
الناسِ حُسْنا
وحديث ألَذُه هو مما ... يَنْعَت النَاعتون يُوزَن وزنا
وهو في "البيان والتبيين" 1/ 147 و228، و"الأغاني" 17/ 236،
و"الأمالي" 1/ 5، و"الشعر والشعراء" 2/ 782، و"اللسان":
(الحن)، وورد في بعضها: "وأحلى " بدل "وخير".
(3) إشارة إلى الآية (160) من سورة الأعراف، ففيها: "فانبجست".
(4) "العدة" 1/ 154.
(1/258)
ويحتملُ أن يكونَ لحنُ القولِ ما أَفْصَحَ
(1) بالمعنى وكَشَفَه، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنكم
لتَخْتَصِمُون إليَّ، ولعلَّ أحدَكم ألحنُ بحُجتِه من صاحبه"
(2).
فصل
واعلم أنه لا يجبُ نُصْرَةُ أصولِ الفقهِ على مذهب فقيهٍ، بل
الواجبُ النَظَرُ في الأدلَّةِ؛ فما أدّاه الدَّليلُ إليه، كان
مذهبُه بحَسَبه، وبنى على ذلك الأصلِ، ونعوذُ بالله من اعتقاد
مذهبٍ، ثم طلب تصحيحِ أصلِه، أو طلب دليلِه، وما ذلك إلا
بمثابة من مضى في طريق مظلمٍ بغير ضياءٍ ثم طلبَ لذلك
الطَّريقِ ضياءً يَنظرُ [إن] (3) كان فيه بئرٌ أو سَبُعٌ أو ما
شاكلَ ذلك، أو كان سليماً، والذي يجب أن يكونَ الدَّليلُ هو
المرشِد إلى المذهب.
__________
(1) في "الأصل ": "يصح "، والجادة ما أثبتنا.
(2) أخرجه مالك 2/ 719، وأحمد 6/ 302 و 290 و307 و308، و 320،
والبخاري (2458) و (2680) و (6967) و (7169) و (7181) و
(7185)، ومسلم (1713)، وأبو داود (3583) و (3584) و (3585)،
وابن ماجه (2317)، والنسائي 8/ 223 و247 من حديث أم سلمة.
وأخرجه أحمد 2/ 332، وابن ماجه (2318) من حديث أبي هريرة.
(3) زيادة على الأصل يستقيم بها الكلام.
(1/259)
فصل
في فَرْض أصولِ الفقهِ
اعلم أن علمَ ذلك فَرْضٌ على الكفاية دونَ الأعيانِ (1)،
والدَليلُ على ذلك: أن معرفةَ أحكام أفعالِ المكلفين المتوصَلِ
إلى علمها بأصول الفقهِ وأدلَّةِ أحكام الفَقهِ، إنما هو على
الكفاية دونَ الأعيانِ، وإنما على العاميِّ التَقليد في ذلك،
والرجوعُ إلى قول العلماءِ، ولا يُعتبرُ بخلاف من يُخالِفُ في
ذلك ممن زَعم أنه فرضٌ على الأعيان، وسنذكرُ ذلك في مسائل
الخلافِ -إن شاء الله-، في باب التقليد ومسائلِه (2).
__________
(1) وهو المذهب والصحيح الذي عليه أكثر أصحاب الإمام أحمد كما
قرره صاحب "آداب المفتي" و "شرح التحرير" فيما نقله عنهما ابن
النجار الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" 1/ 47.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "المسودة" ص 571: وقيل: هو فرض
عين على من أراد الاجتهاد والحكم والفتوى. ونقل مثله أيضاً
الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" 47/ 1 عن ابن مفلح.
(2) في الجزء الأخير من الكتاب الصفحة 224.
(1/260)
فصل
في تراتيب أصولِ الفقهِ
اعلم أن أصولَ الفقهِ مرتَّبةٌ:
فأوَّلُها: الخطابُ الواردُ في كتاب اللهِ وسُنًةِ رسولِه على
مراتبَ نذكرُها فيما بعد، إن شاء الله.
وثانيها: الكلامُ في حُكْم أفعالِ الرَّسولِ عليه الصلاة
والسلامُ، الواقعةِ موقعَ البيانِ لمجملٍ في كتاب أو سُنَّةٍ،
أو ابتداءِ إثباتِ حكمٍ بها؛ لأنها إذا وَقَعَتْ موقعَ
البيانِ، صارَتْ بمنزلة الخطاب، وربما كان البيانُ بها لمنْ
عَلِمَها وشاهَدَها أبلغَ منه بالقول، علىَ ما نذكرة من بعدُ،
إن شاءَ الله.
وثالثها: القول في الأخْبارِ، وطُرُقِها، وأقسامِها.
ورابعُها: القولُ في بيان الأخبارِ المرويَّةِ عن الرَّسول
عليه الصلاة والسَّلام، الآحادِ منها الواردةِ بشرُوطِ
قَبُولِها في الأحكام، وأحكامِ المتلقَّى بالقبولِ منها،
والمختلَفِ فيه.
وخامسُها: الإِجماع، وكيفيَّتُه، وحكمُه.
وسادسُها: القياسُ، ومعناه: المعاني المودَعةُ في كلام
الرَّسولِ
(1/261)
- صلى الله عليه وسلم - التي إذا ثبتَ
تَعَلُّقُ الحكمِ بها، وجبَ القياسُ على الأصولِ المودَعةِ
فيها.
وسابعُها: صفةُ المُفتِي والمُستفتِي، والقولُ في التًقليد.
وثامنُها: القولُ في الحَظْر والإِباحةِ، وهذا يختصُّ أصلَنا؛
لأن طريقَهما السمعُ، وأما مَنْ يجعلُ طريقَهما العقلَ، لا
يجعلُ الحظرَ والِإباحةَ من أحكام أصولِ الفقهِ، بل يجعلُهما
من أحكام أصولِ الدِّينِ.
فصل
وقد دخلَ في الخطاب: الأمرُ، والنهيُ، والخصوصُ، والعمومُ،
والنَاسخُ، والمنسوخُ، والمجمَلُ، والمفسَّرُ، والمطلَقُ،
والمقيدُ، ولَحْنُ الخطابِ، ودليله، وفَحواه، ومراتبُ البيانِ،
وسيجىءُ كلُ شيءٍ من ذلك في بابه، إن شاءَ الله.
فصل
والواجبُ عندنا تقديمُ الخطاب بحكم التَرتيب الواجب في أصول
الفقهِ، والواجبُ تقديمُ خطاب الكتَابِ منه على خَطاب
الَسُّنًةِ، وذلك أن كلَّ مَرْتَبَةٍ دونَ الخطابِ، إنما هي
مودَعةٌ في الخطاب.
إنما وجبَ تقديم الكتاب؛ لكونه كلامَ اللهِ تعالى، وهو
المرسِلُ لصاحب السُّنَّةِ، ولأن القرآنَ دَلالةُ صِدْقِه،
وآيةُ نُبُوَّتِه، ولِمَا اختص به في نفسه من الجزالة
والفصاحةِ والبلاغةِ، الخارقُ للعادات، ولكونه المضمَّنَ للأمر
بطاعةِ الرسولِ فيه، عَلِمْنا اتباعَ السُنَّةِ.
(1/262)
فصل
وقد سَوَّى قومٌ بين مقطوعِ السنَةِ -وهو المتواتِرُ منها-
وبين الكتابِ، وهم القائلون بجواز نسخِ الكتاب بالسنَةِ
المتواتِرةِ، وعندنا أن للكتاب رتْبَةً على السُّنَةِ -وإن
كانت متواتِرَةً- بما ذكرناه من المزايا.
فصل
ويلي الخطابَ في الرُّتْبَةِ: أفعال الرسولِ - صلى الله عليه
وسلم - الواقعةُ موقعَ البيانِ؛ لكونها بمثابة قولِه الواردِ
لبيان الأحكامِ.
وخبرُ الواحدِ نظنُ به أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال
ما تضمَّنَه من الحكم، وخبرُ التَواترِ نَقطعُ بما تضمَنَه،
ونُثبتُ بخبر التواترِ الأصولَ، ولا نُثْبت بخبر الواحدِ إلا
الأحكامَ (1).
__________
(1) قال الِإمام الحافظ الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم
الرواية" ص 432: خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين
المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها، والعلة في ذلك:
أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، كان أبعد من العلم بمضمونه. فأما ما عدا ذلك من الأحكام
التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قررها، وأخبر عن الله عز وجل بها، فإن خبر الواحد فيها مقبول،
والعمل به واجب، ويكون ما ورد فيه شرعاً، لسائر المكلفين أن
يعمل به، وذلك نحو: ما ورد في الحدود، والكفارات، وهلال رمضان
وشوال، وأحكام الطلاق، والعتاق، والحج، والزكاة، والمواريث،
والبياعات، والطهارة، والصلاة، وتحريم المحظورات.
ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت
المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل
مقطوع =
(1/263)
وقد قال بعضُ أصحابِنا: إذا تَلَقَتْه
الأُمَةُ بالقَبول، صارَ كالمتواتِر في إثبات الصِّفاتِ، وليس
بصحيح (1)؛ لأن التَّلَقِّيَ بالقَبول قد يقعُ لحُسْن الظن في
الرَاوي، أو لعدم العلمِ بما يوجبُ رَدَه، أو لأنه غيرُ مقطوعٍ
بكذبه، ولا هو مما ينافي ما يجبُ للقديم؛ لكونه محتمِلاً
للتأويل وصَرْفه عن ظاهره بدليل العقلِ النَّافي لِمَا لا
يليقُ بالقديم، وبالنصوص النَّافيةِ للتَشبيه، فلا يقعُ من
المتلقَّى بالقَبول (2) ما يتحصَلُ من تواتر الروايةِ؛ فلذلك
ثبتَ بالتواتر القراَنُ بإجماع الصَحابةِ، وردّوا بإجماعهم ما
انفردَ به ابنُ مسعودٍ، فصفاتُ اللهِ لا تَدْنُوا عن رُتْبَة
القرآنِ؛ لأنه صفة لله سبحانه، فصارَ ردُّهم لخبر الواحدِ فيما
طريقُه الكلامُ بإجماعِهم دَلاَلَةً على أنه لا يجوز قَبولُ
خبر الواحدِ إلا في الإضافة إلى الله، فأمَّا على أن المذكورَ
صفة لله فلا (3)، وليس كلُّ مضافٍ إلى الله صفة لله (4)؛ بدليل
الرُّوح المضافةِ إليه في حَق آدمَ
__________
= به، وإنما يقبل به فيما لا يقطع به؛ مما يجوز التعبد به
كالأحكام التي تقدم ذكرنا لها، وما أشبهها مما لم نذكره.
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان جمهورأهل العلم من
جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول
تصديقاً له أو عملاً به، أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره
المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من
أهل الكلام أنكروا ذلك ... كالباقلاني والجويني وابن عقيل وابن
الجوزي والآمدي". انظر "مقدمة في أصول التفسير": 67 - 68.
(2) في الأصل: "القول".
(3) هذا على قاعدة من يرد خبر الواحد في باب الأسماء والصفات؛
لأنه لا يفيد العلم. والصواب: أن خبر الواحد إذا صَحَّ فإنه
يفيد العلم، وخاصة إذا احتفَّ بالقرائن، ويصح الاستدلال به على
ثبوت الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى.
(4) الأصل أن ما أضيف إلى الله صفة له، إلا إذا علم أنه عين
قائمة بنفسها أو متعلق بها.
(1/264)
وعيسى (1)، وكشفت أدلةُ القرآنِ وأدلةُ
العقولِ على أنها مجردُ تشريفٍ بإضافة، لا أن لله صفةً يقالُ
لها: الرُّوحُ ولَجَتْ آدمَ ولا عيسى، وإنَّما ذلك قولُ
الحُلولِية (2).
فصل
ويلي ذلك: الكلامُ في الِإجماع، لأن حجَّته تثبتُ بعدَ
الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، وبعد استقرارِ أحكامِ الكتابِ
والسُّنَّةِ، ولأن ثبوتَ الحُجةِ فيه؛ بنَوْعِ دَلاَلَةٍ
منهما، ومردود به إليهما.
فإن قيل: كيف أَخَّرْتُمُ الِإجماعَ عن الكتاب والسُنَّةِ
بالِإجماع، ولا تتركونَ الِإجماعَ بهما؟
قيل: نحن لا نتركُ قولَ اللهِ وقولَ رسولِه لقول علماءِ
الأُمَّةِ، لكنْ نتركُهما لِمثْلهما، فنتبين بإجماع الأُمةِ أن
ذلك منسوخ، أو معدولٌ عن ظاهره؛ إذْ كان الِإجماعُ ليس بدليل
في نفسه، لكنْ يصدرُ عن دليل، خلافَ من قال إنه ينعقدُ عن
تَخْمِينِ الأُمَّةِ ومجرَّدِ حكمِهم، كما قالوا في تجويزِ
قولِ الله سبحانه لنبيه: احْكُمْ بما تريدُ، فمهما حَكَمْتَ
به، فهو حكمُنا، ولعِلْمِنا بأن الأُمَةَ لا ترفعُ حكماً
باجتهادها، ولا بقياس منها.
فصل
ويلي ذلك: القياسُ، وإعمالُه في مواضعه، وذِكْرُ ما (3) هو
فَرْضُه،
__________
(1) وذلك في الاية (29) من سورة الحجر، والآية: (171) من سورة
النساء.
(2) نسبة إلى الحلول، وسموا بذلك لأنهم يقولون بحلول روح الإله
في بعض الأشخاص."الفَرْق بين الفِرَق" ص 254.
(3) في الأصل: "من"، والمناسب ما أثبتناه.
(1/265)
وما يَتَّصِلُ من الفصول ببابه، وإنما وجبَ
تأخيرُه عمَّا قَدَمْناه من الأدلةِ؛ لأجل أنه إنما ثَبَتَ
كونُه أصلَاَ ودليلاً بالكتاب والسُّنَّةِ والإِجماعِ، على ما
نبيِّنُه فيما بعدُ (1)، إن شاءَ الله، ولأن استعمالَه في
مخالفة ما قدَّمْناهُ من الأدلةِ التي هي أصلُه محظورٌ، وإنما
يصحُّ استعمالُه، إذا لم يَنْفِ ما ثبتَ به حُكْمُه.
فصل
ويلي ذلك: صفةُ المفتي، وإنما وجبَ تقديمُ القياسِ على هذا
الأصلِ؛ لأجل أن المفتيَ إنما يصيرُ مفتياً يجوزُ الأخذُ
بقوله، إذا عَرَفَ أدلَّةَ الأحكام، ومن جملتها القياسُ، فلما
وجبَ أن يكونَ من جملة ما يصيرُ به مفَتياً القياسُ، وجبَ
تقديمُ القياسِ؛ ليكونَ (2) العلمُ له بالقياس حاصلاً، وبمواضع
القياسِ أيضاً عالماً.
فصل
وإنما جَعَلْنا القوْلَ في صفة
المفتي والمستفتي من أصول الفقهِ؛ لأجل أن فتواه
للعاميِّ دليلٌ له على وجوب الأخذِ به في حال وجوازِه في حال،
فصارَتْ فتوى المجتهدِ للعاميَ كالأدلَّة التي هي النُصوصُ
والظَّواهرُ والإِجماعُ والقياسُ للعالِمِ، ولما وجبَ أن تكونَ
تلك من أصول الفقهِ؛ لكونها أدلَّةَ الأحكام للعلماء، كذلك
فتوى (3) المفتين وجبَ أن تكونَ من أصولِ الفقه؛ لكونها
أَدلَّةَ الأحكام للعوامِّ.
__________
(1) سيأتي في الجزء الأخير من الكتاب في الصفحة: 269.
(2) في الأصل: "ليكن"، والصواب ما كتبناه.
(3) في الأصل: "قوى".
(1/266)
وإنما ذَكَرْنا صفةَ المستفتي، وخَلَطْناه
بأصول الفقهِ -وإن كان عامَياً مقلَداً ليس من الأدلةِ بشيء-؛
لأجل أن المفتيَ إنما يفتي عامِّياً له صفةٌ يسوغُ له
التَّقليدُ للعالم إذا كان عليها، ولو لم يكُ كذلك، لَمَا
جَازَ له الأخْذُ بقول غيرِه؛ فوجبَ ذِكْرُ صفتِهما وحالِهما.
وإذ (1) ذكرنا صفةَ المفتي والمستفتي، فقد ذكرنا أيضاً صفةَ
الحاكمِ والمحكومِ عليه، وإن كان لا يصيرُ حاكماً بكونه عالماً
بالأحكام، وممَّن يجوزُ تقليدُه، وإنما يصيرُ كذلك بأن يكونَ
إماماً قد عَقَدَ له أهلُ الحَلِّ والعَقْدِ، أو متقلِّداً
للحكم من قِبَلِ إمام أو مَنِ استخلفَه الِإمامُ.
فأما المحكومُ عليه فقد يكونُ عامِّياً، وقد يكونُ عالماً،
والمستفتي لا يجوزُ أن يكونَ إلا عامَياً.
فإن قيل: قد بَيَّنْتُمُ الوجهَ الذي لأجله جَعَلْتُم المفتي
والمستفتي من أصول الفقهِ، فما وجة جعلِكم الحظرَ والِإباحةَ
من أصول الفقهِ؟
قيل: لى لان العالمَ إذا فقدَ الأدلَةَ في الحادثة، وجبَ أن
يقِرَّ الأمرَ فيها على حكم العقلِ، إن كان ممَّن يُثْبِتُ به
حظراً وإباحةً، فإن لم يكنْ ممَّن (2) يقولُ بذلك، وكانت
الحادثةُ تتردَّدُ بين شَغْلِ ذِمَّةٍ وبين فَراغِها؛ بنى
الأمرَ على فراغ الذِّمَّةِ، وإن لم يكنْ ممَّن يقولُ بإباحة
ولا حظرٍ بمقتضى العقلِ، بَنَى على ما دَلَّ عليه أصلُ
السَّمعِ من الحظر
__________
(1) في الأصل: "وإذا"، والجادة ما أثبتنا.
(2) في الأصل: "من".
(1/267)
أو الإِباحةِ، فلذلك جعلنا (1) الحظرَ
والإِباحةَ من جملة أصولِ الفقهِ.
فصل
في صفةِ العالمِ الذي يسوغُ له الفتوى في الأحكام (2).
هو أن يكونَ على صفات عامَةٍ وخاصَةٍ:
فالعامةُ: التي لا تَخْتَص، من ذلك: العقلُ، والبلوغُ،
والإِسلامُ، والعَدالةُ.
والصفاتُ التي تختصُّ: أن يكونَ عارفاً بالأدلَةِ ومناصبِها،
وما يكونُ منها دليلًا بقضيةِ العقلِ وطريقِ الإِيجاب، وما هو
متعلق بمدلوله تعلقاً لازماً، وما يدل منها بطريق المواضعَةِ
من إهل اللغة، نحو تواضعِهم على دَلالاتِ الألفاظِ، وما
جَعَلَه الشَرعُ دليلًا على الأحكام، ولولا ورودُه بذلك لم
يكنْ دليلًا؛ لأنه بمعرفة ذلك يتمكَنُ من الوصول إلى العِلْم
بأحكام الشَرعِ، وأنها مشروعةٌ من قِبَل الله عزَّ وجل الذي
تعَبَّدَ خَلْقَه بماشاءَأن يَتعبدهم به.
وأن يكونَ بحيثُ يصحُ له ويتأتَى منه أن يحكمَ بحكم الله في
القضية، إذا كان حاكماً.
فصل
ولا يصلُ إلى علم ذلك إلَّا بعدَ معرفتِه بحَدَث العالَمِ،
وإثباتِ
__________
(1) في الأصل: "جعلت"، والمثبت أنسب للسياق.
(2) انظر "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي": ص 13 - 54، و"العدة"
5/ 1594 - 1600، و "التمهيد" 4/ 390 - 392، و"المسودة" 514 -
517، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 459 - 467.
(1/268)
الصَّانعِ تعالى، وأنه على ما يجبُ كونُه
عليه من صفاته الواجبةِ له، وأنه يتعبَّدُ بالشَّرائع على
ألْسِنَةِ رسلِه عليهم السَّلام، وأن يعرفَ كونَ الرسولِ
رسولًا له تعالى بما دَلَّ على صدقه من معجزاته، ولا يصحُ له
ذلك إلا بعد النَظَرِ في معجزاته، وأن يعرفَ وجهَ كونِها
دلالةً على صدقه، ولا يصحُّ منه العلمُ بذلك أجمعَ حتى يكونَ
عارفاً بالأدلَّةِ ونَصْبِها، ووجوبِ بناءِ النَّظرِ فيها
بعضِه على بعض، وبناءِ العلوم الحاصلةِ عندَه، ومتى لم
يَكْمُلْ بذلك ويتقدَّمْ علمُه، لم يصلْ إلى العلم بالله وبصدق
رسلِه، وأنه تعالى متعبِّدٌ بهذه الأحكام؛ إذ كان تعبده بهذه
الأحكام فرعاً على ما ذكرناه من الأصول وأدلتِهَا، ولهذه
الأصولِ شروحٌ لا يصَلُ إلى معرفتها إلَّا من اطلَعَ في أصول
الدِّياناتِ.
فصل
ثم يجبُ بعدَ ذلك أن يكونَ عارفاً باحكام الخطابِ، ومواقع
الكلامِ ومواردِه، ومصادرِه، ومحتمِلِه وغيرِ محتمِلِه، ووجوهِ
احتمالاتِه، وخاصَهِ وعامَّه، ومجمَله ومفسرهِ، ومحكمِه
ومتشابِهِهِ، وحقيقتِه ومجازِه، ومطلَقِه ومقيده، ومَكْنِيِّه
وصريحِه، وفَحْواهُ ولَحْنِه، ودليلِه، والفرقِ بين ذلك وغيرِ
ذلك مما قد بَينَاه وشَرَحْناه في فصول البيانِ وأحكام الخطاب
من هذا الكتاب، وإنَّما اعْتَبَرْنا ذلك في حقَه؛ لأنه بمعرفةَ
ذلك يتمَكَنُ من معرفة المَرادِ بالخطابِ في الكتاب والسنَّةِ،
ومَنْ قَصرَ عن ذلك، لم يَصِلْ إلى معرفته.
واعلم أنه لن ينالَ عِلْمَ ذلك حتى يحفظَ من اللُّغة والنَحْو
والِإعرابِ، ما يتعلقُ بمعاني الآي، والسُّننِ المتضمِّنةِ
للأحكام.
(1/269)
فأمَّا إخلالُه بما زادَ على ذلك فغيرُ
مُضِرٍّ به في معرفة بتَضَمُنِ الكلام، ولو أنا لم نُسَوَغْ له
الفُتْيا حتى يصيرَ في علم اللغة والإِعرابِ مثلَ الخليلِ (1)
والمُبَرَّدِ (2) ومن جَرَى مَجْراهما في العلمَيْنِ، لضاقَ
عليه، وشَغَلَه التَّناهي فيهما عن علم طرقِ الأحكامِ ووجوهِ
الاجتهادِ.
قال المحقِّقونَ من العلماء كالقاضي الإِمامِ أبي بكرٍ (3)
ومَنْ قاربَه أو شاكلَه: ولا وجهَ لقول من قال: إنه يلزمُه
معرفةُ الأسماءِ الشًرعيةِ، والفرقِ بينها وبين اللُّغَوَّيةِ؛
لأنه ليس في الشَّرع اسم يخالفُ اللغوية على ما بيَّنَّاهُ من
قبلُ (4)، ونبيِّنُه إن شاء اللهُ في مسائل الخلافِ (5).
فصل
ويجبُ أيضاً عند كثيرٍ من أهل العلمِ أن يكونَ حافظاً لكتاب
الله جميعِه، ومحيطاً بالسننِ المتضمِّنةِ للأحْكام.
وذهب المحقِّقونَ إلى أنه يَلْزَمُه أن يحفظَ من الآي ما
يتعلَّقُ به
__________
(1) هو الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي، أبو
عبد الرحمن البصري، إمام العربية، ومنشىء علم العروض، صنف كتاب
"العين" في اللغة، و"العروض"، و"النقط والشكل" وغيرها، توفي
سنة (170) هـ، وقيل: (175) هـ. "سير أعلام النبلاء" 7/ 429،
و"إنباه الرواة" 1/ 376.
(2) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي، أبو العباس البصري،
إمام النحو، له تصانيف كثيرة، منها: كتاب "الكامل"، توفي سنة
(286) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 576.
(3) يعني الباقلاني.
(4) انظر الصفحة (35) و (100).
(5) سيأتي في 2/ 410.
(1/270)
أحكامُ الفقهِ، وما هو ناسخٌ ومنسوخٌ،
وتاريخَ ذلك، وفي ذلك كفايةٌ له عن القَصَص والمواعظِ
والأمثالِ والزَّواجرِ، إذ لا يتعلَقُ بذلك حكمٌ شرعيٌّ، فإن
كان في القَصص ما يتعلَّقُ به (1) حكمٌ شرعيٌّ هو شرعٌ لمن
قَبْلَنا، فذلك كآي الأحكامِ النازلةِ في شريعتنا، على أصلنا:
أنَ (2) شَرْعَ من قَبْلَنا شرعٌ لنا.
فصل
ويجبُ أيضاً أن يكونَ عارفاً بأحكام أفعالِ النبيِّ عليه
الصلاة والسلام، وما قدَّمنا ذكرَه من مراتبها (3)، وما يجبُ
اتَباعُه عليه منها، وما لا يجبُ ذلك فيه، وكيف يكونُ الفعلُ
منها بياناً لحُكْم قولٍ لَزِمَ الأمَةَ أمثالُه، وما ليس منها
كذلك.
فصل
ويجبُ كونُه عالماً بناسخ الخطاب ومنسوخِه اللذَين تتعلَّقُ
بهما الأحكامُ، دونَ ما لا يتضمَّنُ من ذلكَ حكماً، ومعنى
النَسخِ وطريقِ الحكمِ به، ويعرف أحكام المتعارضِ من النُصوصِ
الذي لا يمكنُ بناءُ بعضِه على بعض، وما يمكنُ ذلك فيه، وهل
يكونُ أخْذُ ما يمكنُ بناؤه دليلاً على الحكم، أم يجبُ إيقافُه
وتعارضُه، والرجوعُ إلى غير ذلك؟
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) في الأصل: "وأن".
(3) انظر ما تقدم في الصفحة (40).
(1/271)
فصل
وأن يعرفَ طُرُقَ البياناتِ، وما يجوزُ تأخيرُه منها، وما لا
يجوزُ ذلك فيه.
فصل
وأن يكونَ عارفاً بالِإجماع وحجتِه، والخلافِ الذي يُعتد به
والذي لا يُعتدُ به منه، وأين يسوغُ الاحتجاجُ بالإجماع؟ وأين
لا يسوغُ التعلُّقُ
فصل
ويعلمَ أيضاً ما جُعِلَ في الشَّرع طريقاً إلى إثبات الحكمِ،
إمَّا بجهة النَّصِّ، أو بغالب الظَّنَ بعد الاجتهادِ.
فصل
ويجبُ أن يكونَ عالماً عارفاً بالأخبار، ومراتبِها، وترجيحِها.
فصل
ويجبُ أن يكونَ عارفاً بالعِلَل، ووجهِ القياسِ، وأحكام
العِلَلِ، وأين يجبُ أن تعملَ؟ وكيف يَستدِلُّ على ثبوتِ
العلَّةِ المقيسِ عليها، أو على فسادها؟
فصل
ويجبُ في الجملة أن يكونَ عالماً بجميع أصولِ الفقه وأدلَّةِ
الأحْكامِ، وما هو أوْلى بالتَّقدُّم منها، على ما تَقَدَّمَ
من ترتيبنا.
(1/272)
فصل
ويجبُ مع ذلك كلِّه ان يتَقِيَ اللهَ تعالى، ويَستعمِلَ
التَحرزَ فيما يُفتِي به ويحكُم -إن كان حاكماً-، وأن يعلمَ
أنه مؤاخذٌ بالتَّقصير والتَساهلِ في ذلك.
ومتى لم يكنْ كذلك، لم يَجُزْ للعاميِّ أن يستفتيَه ويرجعَ إلى
قوله.
(1/273)
فصل
فيما يجبُ أن يحفظَ من الأحاديث
ظاهر كلام أحمدَ أنه يعتبرُ في صحَّة الفُتْيا حِفْظُ جملةٍ من
الأحاديث، قال في رواية صالحٍ (1) في الرَّجل إذا حَمَلَ نفسَه
على الفتيا: ينبغي أن يكونَ عالماً بوجوه القرآنِ، عالماً
بالأسانيد الصَّحيحةِ، عالماً بالسُّنن (2).
ونقلَ عنه أبو الحارث: لا يجوزُ الاختيارُ إلا لرجل عالمٍ
بالكتاب والسنة (3).
__________
(1) هو صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل، أبو الفضل الشيباني
البغدادي، قاضي أصبهان، وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، سمع من
أبيه مسائل كثيرة، توفي سنة (266) هـ."سير أعلام النبلاء" 12/
529، و"طبقات الحنابلة" 1/ 173.
(2) كتبت في الأصل: "السير"، والمثبت من "العدة" 5/ 1595، و
"المسودة" ص 515، و "إعلام الموقعين" 1/ 44 و 4/ 205.
(3) ذكر هذه الرواية بنصها القاضي أبو يعلى في"العدة" 5/ 1595،
وذكرها أيضاً ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 45 و 4/ 205،
ووقع عنده في الموضعين: "الإفتاء" بدل " الاختيار"، وهي
بحروفها في "المسودة" ص 515، إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية
جعلها من رواية يوسف بن موسى، وعقب عليها بقوله: =
(1/274)
وقال في رواية حَنْبَلٍ (1): ينبغي لمن
افْتى أن يكونَ عالماً بقول من تقدَّمَ، وإلا فلا يًفْتي (2).
وقال في رواية يوسفَ بن موسى: أحب إليً أن يتعلَّمَ كل ما تكلم
النًاسُ فيه (3).
وسألَ رجلٌ أحمدَ بن حَنْبَلٍ: إذا حفظَ الرَّجلُ مئةَ ألفِ
حديثٍ يكونُ فقيهاً؟ قال: لا، قال: فمِئَتَىْ الْف حديثٍ؟ قال:
لا، قلت: فثلاثَ مِئَةِ ألفِ حديثٍ؟ قال: لا، قلت: فأرْبَعَ
مئةِ ألفٍ؟ قال بيده هكذا، وحَرَّكَ يدَه (4).
وقال الثِّقاتُ من أصحاب الحديثِ: إن يحيى بن مَعِين (5) كان
يحفظُ مِئَتَيْ ألفٍ، وكان عليُّ ابن المدينى (6) يحفظً أربعَ
مئةِ ألفِ
__________
= قلت: الاختيار غير الإفتاء؛ لأن الاختيار ترجيح قول على قول،
وقد يفتى بالتقليد المحض.
(1) هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم
الإمام أحمد وتلميذه، له مسائل كثيرة عنه، صنف "الفتن" و
"المحنة"، وله "تاريخ" مفيد، توفي سنة (273) هـ. "سير أعلام
النبلاء" 13/ 51.
(2) وردت هذه الرواية في "العدة" 5/ 1595، و"المسودة" ص515،
و"إعلام الموقعين" 1/ 45 و 4/ 205.
(3) ذكر هذه الرواية أبو يعلى في " العدة" 5/ 1595، وابن القيم
في"إعلام الموقعين" 4/ 205.
(4) هذه الرواية في "العدة" 5/ 1597، و"إعلام الموقعين" 1/ 45
و 4/ 205.
(5) هو يحى بن معين بن عون بن زياد، أبو زكريا الغطفاني ثم
المُرِّي، شيخ المحدثين، توفي سنة (233) هـ. "سير أعلام
النبلاء" 11/ 71.
(6) هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح، أبو الحسن السعدي
البصري، أمير =
(1/275)
حديثٍ، وعثمانُ أخوه (1) مئةَ ألفٍ.
وقال المخبِرونَ (2) لأحمدَ: أجابَ عن سِتِّ مئةِ ألف.
فظاهرُ كلام أحمدَ اعتبارُ هذا المِقْدارِ -أعني خَمْسَ مئةِ
ألْفٍ، أو سِتَّ مئةِ ألفٍ-، حيثُ حَركَ يدَه تحريكاً يُعْطِي
التردُّدَ في فتيا من يحفظُ أربعَ مئةِ ألفٍ.
قال شيخُنا الِإمامُ أبو يَعْلى ابنُ الفرَاءِ (3) -كرمَ اللهُ
وجهَه-: وهذا محمولٌ على الاحتياط والتَغليظِ في الفتيا (4).
__________
= المؤمنين في الحديث، توفي سنة (234) هـ. "سير أعلام النبلاء"
11/ 41.
(1) كذا الأصل، ولم نتبين وجهه، وعثمان هذا لا ندري من هو، فلا
يعرف لعلي بن المديني أو يحيى بن معين أخ بهذا الاسم، فضلاً عن
أن يكون حافظاً، إلا أن يكون في الكلام سقط، تقديره: وأبو بكر
بن أبي شيبة يحفظ (كذا)، وأخوه عثمان ... ؛ فإن عثمان بن أبي
شيبة معدود في الحفاظ.
(2) كذا كانت في الأصل، ثم عدلت بقلم مغاير إلى "المختبرون "،
وتوجيه الأول: أنهم الرواة المختصون بالرواية والإخبار عن
الِإمام أحمد، ويؤيد ذلك أن هذه الرواية ذكرها أبو يعلى في
"العدة" 5/ 1597، وابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 45، وليس
فيها ذكر لاختبار أو امتحان، بل هي مجرد رواية وإخبار عن مقدار
حفظ الإمام أحمد.
(3) هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، أبو
يعلي البغدادي، شيخ الحنابلة في زمانه، ولي القضاء بدار
الخلافة والحريم، مع قضاء حرَّان وحُلوان، صنف "العدة" و"أحكام
القرآن" و"المعتمد"، وغيرها، توفي سنة (458) هـ. "سير أعلام
النبلاء" 18/ 89.
(4) انظر "العدة" 5/ 1597، وتتمة كلامه فيه: ويحتمل أن يكون
أراد بذلك =
(1/276)
وهذا من كلام شيخنا حَسَنٌ، لا يليقُ
الكلامُ إلَّا به، وذلك أنَّا لو اعتبَرْنا حفظَ هذه الجملةِ،
لما جازَتِ الفتيا لأحد؛ لأن هذا القَدْرَ لا يجتمعُ حفظهُ
وحفظُ ما يَفْتقِر إليه الاجتهادُ من بقيَّة العلوم، وقد
قدَمْنا أنه لا يفتقرُ إلى أقصى علوم اللُّغةِ والعربيَّةِ، بل
ما لا بدًّ منه بمعرفة الآي والأخبار المضفَنةِ للأحكام، حتى
قلنا: لا يحتاجُ أن يكونَ كالخليل والمُبَرًّد، كذلك لا
يُشترطُ هنا أن يكونَ كابن المَدِينى وأحمدَ؛ لأن من بلغَ هذا
الحَدَّ من الحفظ لابدَّ أن يفوتَه ما لا يسْتَغْنى عنه من
الفقه، فهذا تحقيقُ كلامِ شيخِنا رضي الله عنه.
وَيعْضُدُ تأويلَ شيخِنا من كلام أحمدَ ما رواه أبو موسى
الوَرَّاق (1): سمعتُ أحمد بن حنبلٍ وذاكرَه دحَيْم (2)
بالأصول التي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال أحمد: إن
الأصولَ التي يدورُ عليها العلمُ عن النبيِّ صلى الله عليه
وسلم ينبغي أن تكونَ ألفاً أو ألفاً ومئتين (3).
__________
= وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لا بد منه فالذي وصفنا. يعني قوله
المتقدم في صفة المفتي: أنه يحتاج أن يعرف من السنة جملها التي
تشتمل الأحكام عليها.
(1) هو عيسى بن جعفر، أبو موسى الوراق الصفدي البغدادي، روى عن
الِإمام أحمد أشياء، توفي سنة (272) هـ. "سير أعلام النبلاء"
13/ 144، و"طبقات الحنابلة" 1/ 247.
(2) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو بن ميمون, أبو سعيد
الدمشقي، قاضي مدينة طبرية، كان محدث الشام في وقته، توفي سنة
(245) هـ. "سير أعلام النبلاء" 11/ 515.
(3) انظر "العدة" 5/ 1600، و"المسودة" ص 516، و"شرح الكوكب
المنير" 4/ 561
(1/277)
فهذا هو الذي تتضمَّنُه تعاليقُ الفقهاءِ
في غالب الأحوالِ، وبانَ بهذه الرِّوايةِ أنه ذكرَ تلك الجملةَ
احتياطاً ومبالغةً، واللهُ أعلمُ.
فصل
ولا يَحِلُّ لأحد أن يُفتيَ مع عَدَمِ ما ذكَرْنا أو اختلالِه،
والدَّلالةُ على ذلك: قولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقولُه {فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، وقوله:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فاعتبرَ التَّفقُّهَ في
الدين في الإِنذار، وقولُه سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وأيضاً فإن القاصرَ عن صفات الفُتْيا لا يُومَنُ أن يجيبَ
بجهلٍ فيُضِلَّ، وقد ورَدَتِ السنَةُ بمثل ذلك، فقال صلى الله
عليه وسلم: ((إن اللهَ لا يرفعُ العلمَ انتزاعاً يَنْتَزعُه من
صدور الرِّجالِ، لكنْ يرفعهُ بموت العلماءِ، فإذا لم يَبْقَ
عالمٌ اتَّخَذَ النَاسُ رؤوساً جُهَّالًا، فسُئِلُوا،
فأَفتَوْا بغير علمٍ، فضَلُّوا وأَضَلُّوا" (1).
وأيضاً ما رُوِيَ أن أميرَ المؤمنين علىَّ بن أبي طالبٍ، سمعَ
أن رجلاً تكلَّمَ في الحلال والحرامِ وليس بفقيهٍ، فخرجَ،
فخطبَ،
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 162 و.19 و203، والدارمي 1/ 77، والبخاري في
"صحيحه" (100) و (7307) وفي " خلق أفعال العباد" (369)، ومسلم
(2673)، وابن ماجه (52)، والترمذي (2652)، والنسائي في
"الكبرى" (5907) و (5908) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(1/278)
فقال: ذِمَّتي بما أقولُ رَهينَةٌ، وأنا به
زَعيمٌ: إنَ امْرَأً صرَّحَتْ له العواقبُ عمَّا بين يَدَيْهِ
من المَثُلاتِ، حَجَزَه التَّقوى عن تَقَحُّم الشُبُهاتِ، وإن
شَرَّ النَّاسِ رجل قَمَشَ علماً في أوْباشٍ من النَّاسِ، فهو
في قِطَع من الشُّبُهات كمِثْلِ نَسْجِ العنكبوتِ، خَباطُ
عَشَواتٍ، رَكَابُ جهالاتٍ، لم يَعَضَّ على العلم بضِرْسٍ
قاطعٍ فيَغْنَمَ، ولا سَكَت عمَّا لم يعلَمْ فيَسْلَمَ، فويلٌ
للدِّماء والفُروجِ منه (1).
ولأن الرُّجوعَ في قِيَم المتلَفاتِ وأُرُوشِ الجِناياتِ لا
يجوزُ، إلاَّ أن يكونَ المرجوعُ إليه من أهل الخِبْرةِ بأسعار
الأسواقِ، فأوْلى في باب أحكامِ الشَّرعِ ألَّا يرجعَ إلى مَنْ
لا خبرةَ له بها، أوكان مقصِّراً فيها.
فصل
وظاهرُ كلام أحمدَ جوازُ إرشادِ العاميِّ إلى مجتهدٍ يستفتيه،
وإن كان المدلولُ عليَه والمرشَدُ إليه يخالفُ مذهبَ الدالِّ؛
فإنه سُئِلَ عن مسألة، فقال: عليك بالمدنيِّين (2). يعني:
مذهبَ مالكٍ، وقال أيضاً لبعض أصحابه: لا تَحْمِل النَّاس على
مذهبك. يعني: دَعْهم يَتَرَخَّصون بمذاهَب النَّاسِ.
وهذا يعطي أن مذهبَه: أن كلَّ مجتهدٍ مصيب، لأنه لو كان عنده
على خطأ، لَمَا جازَ له دَلالَةُ الطالب للحقِّ على مَنْ
يعتقدُ أنه على
__________
(1) انظر الخطبة بطولها في "الفائق" للزمخشري 2/ 15 - 16،
و"نهج البلاغة" 1/ 105 - 108.
(2) انظر هذه الرواية بتمامها في "العدة" 4/ 1226، و"المسودة"
ص 463، و"طبقات الحنابلة" 1/ 142.
(1/279)
غير حقٍّ، ووجهُ ذلك: أن النبيَّ صلى الله
عليه وسلم قال: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين
من بَعْدِي" (1)، مع علمه بأنهم سيختلفون، وقولُه: "وأصحابي
كالنُجوم، بأيِّهم اقتديتم اهتدَيْتم" (2).
ولأن الِإجماعَ انعقدَ على جواز تَوْلِيَةِ بعضِ الفقهاءِ
بعضاً ولايةَ
__________
(1) جزء من حديث العرباض بن سارية الصحيح الذي أخرجه أحمد 4/
126 و 126 - 127 و 127، والدارمي 1/ 44 - 45، وأبو داود
(4607)، وابن ماجه (42) و (43) و (44)، والترمذي (2676). وقال
الترمذي: حسن صحيح.
(2) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 2/ 91، وابن حزم
في "الِإحكام" 6/ 82 من حديث جابربن عبد الله. وفي سنده سلام
بن سلم أو سُليم أو سليمان الطويل، قال البخاري: يتكلمون فيه
تركوه، وقال ابن معين: ضعيف لا يكتب حديثه، وقال أحمد: روى
أحاديث منكرة، وقال النسائي: متروك، وفيه الحارث بين غصين وهو
مجهول.
وأخرجه الخطيب البغدادي في "الكفاية" ص 48، وابن بطة في
"الِإبانة" (702)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 632 من حديث
ابن عباس. وفي سنده سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف الحديث،
وجويبر بن سعيد الأزدي، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي
والدارقطني وغيرهما: متروك، والضحاك -وهو ابن مزاحم الهلالي
راويه عن ابن عباس- لم يلقه.
وأخرجه الخطيب في "الكفاية" ص 48، وابن بطة في "الِإبانة"
(700)، وابن عساكر 6/ 604 من حديث عمربن الخطاب، وفي سنده نعيم
بن حماد وهو كثير الخطأ، وعبد الرحيم بن زيد العمي قال
البخاري: تركوه، وقال يحيى: كذاب، وقال أبو حاتم: ترك حديثه،
وضعفه أبو داود وأبو زرعة.
وأخرجه عبد بن حميد (783)، وابن بطة (701) من حديث عبد الله بن
عمر، وفي سنده حمزة بن أبي حمزة الجزري، قال البخاري: منكر
الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة ما يروله
موضوع.
(1/280)
الأحْكام مع العلمِ بأنهم يَقْضُونَ بما
يخالفُ الحقَّ عندهم، ولو كان الإِرشادُ اَليهم غيرَ جائزٍ،
لكان المنْعُ من توليتِهمُ الأحْكامَ أوْلى بالمنع؛ لأن الحكمَ
يؤدِّي إلى إلزام ما ليس بحقٍّ عندَ المُوَلِّي، مثلُ
الشافعىِّ يُوَلِّي الحنفيَّ والحنبليَّ فيَحْكُمان باستقرار
الصَّداقِ وتكميلِه بالخَلْوةِ (1)، والحنبلي يوَلَّي الحنفى
فيحكم بإيجاب الشُّفْعَةِ بالجِوار (2)، وُيوَلِّي الشافعيَّ
فيحكم بإيجاب الشفْعَةِ للذِّمِّيِّ على المسلم (3)، وُيولِّي
الحنفيَّ فيحكمُ بعقود عندَه باطلة، وبقَتْل المسلمِ بالكافر
(4).
فإن قيل: كيف نرشدُه إلى ما نعتقدُه خطأً وقد قال النبيُّ صلى
الله عليه وسلم: "الدينُ النَصيحةُ" (5)؛ وأَيُّ نصيحةٍ في
إرشاد مسترشدٍ إلى مَنْ نُخَطِّئُه
__________
(1) انظر "المغني" 10/ 153 وما بعدها.
(2) انظر "البناية شرح الهداية" 8/ 451 وما بعدها، و "المغني"
7/ 436 وما بعدها.
(3) انظر " تكملة المجموع شرح المهذب" 14/ 314، و "المغني" 7/
524 وما بعدها.
(4) يعني: الذمي، وانظر تفصيل المسألة في "البناية شرح
الهداية" 10/ 23 وما بعدها، و"المغني" 11/ 465 وما بعدها.
(5) أخرجه أحمد 4/ 102 و102 - 103، ومسلم (55)، وأبو داود
(4944)، والنسائي 7/ 156 و156 - 157، وابن حبان (4574) و
(4575) عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "الله، ولكتابه، ولرسوله،
ولأئمة المسلمين، وعامتهم".
وأخرجه أحمد 2/ 297، والترمذى (1926)، والنسائي 7/ 157 عن أبي
هريرة.
وأخرجه أحمد 1/ 351، والبزار (61 - كشف الأستار)، وأبو يعلى
(2372) =
(1/281)
في مذهبه؟
قيل: لسنا على قَطْع من الِإصابة منَّا، ولا الخطإ من مخالفنا،
وخطأُ المجتهدِ خطأٌ لا يُسْتحَقُّ عليه عقابٌ، بل لا يخلو فيه
من أجر الاجتهادِ، فهو كخطإ القِبْلَةِ، وخطإ المتَحَرِّي في
المياه المشتبِهةِ نَجسِها بطاهرها؛ ولهذا المعنى اتَّفقنا على
جواز تقليدِ مخالفينا ولايةَ الأَحكامِ، وتقاضَيْنا إليهم في
الخصومات، وصَلَّيْنا خلفَهم.
ولهم أن يقولوا: فكما لا يجوزُ أن تَدُل على قطع الخطإ، لا
يجوزُ أن تَدُل على ما يغلبُ على الظَّنَ أنه خطأٌ، ألا ترى
أنه كما لا يجوزُ الدَلالَةُ على طريق يُقْطع فيه على الضرر،
لا يجوزُ أن يُدَل المسترشدُ على طريق يغلبُ على ظنَنا أن فيه
سَبُعاً.
فصل
وظاهرُ كلامِ أحمدَ أن صاحبَ الحديثِ أحق بالفُتْيا من صاحب
الرايِ، قال عبد الله (1): سألْتُ أبي عن رجل يريدُ أن يسألَ
عن الشَيءِ من أمر دينهِ فيما يُبْتَلَى به من الأيمانِ في (2)
الطَلاق وغيرِه، وفي مِصْره من أصحاب الرَّأْي، ومن أصحاب
الحديثِ لا يحفظون، ولا يعرفون
__________
= عن ابن عباس.
وأخرجه الدارمي 2/ 311، والبزار (62 - كشف الاستار) عن ابن
عمر.
(1) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبد الرحمن
الشيباني المروزي ثم البغدادي، روى عن أبيه الِإمام أحمد شيئاً
كثيراً، من جملته: "المسند" كله، و"الزهد"، توفي سنة (290) هـ.
"سير أعلام النبلاء" 13/ 516.
(2) في الأصل: "و"، والمثبت من المصادر الآتية قريباً.
(1/282)
الحديثَ الضَّعيفَ، ولا الإِسناد القَويَّ،
فلمن يسألُ: لأصحاب الرَّأيِ، أو لهؤلاء مع ما هم. عليه من
قِلَّة معرفتِهم؟ قال: يسألُ أصحابَ الحديثِ، ولا يسأل أصحابَ
الرأيِ، ضعيفُ الحديثِ خيرٌ من رأي أهلَ الرَّأيِ (1).
وهذا عندي محمولٌ على أحد أمرَيْن؛ ليجتمعَ كلامُه ولا
يتناقضَ: إمَّا على أنه عَلِمَ من أهل الحديثِ الذين ذَكَرَهم
فقهاً؛ إذ لا يجوزُ لمثله (2) أن يجيزَ تقليدَ مَن لا اجتهاد
له ولا فقهَ، سوى حِفْظِ أحاديثَ يَرْويها لا يعلمُ أسانيدَها،
فضلَاً عن فقه ألفاظِها ومعانِيها.
أو يكون السُّؤالُ الذي أجازَه. برجعُ إلى الرِّواية، ويكون
أهلُ الرأي الذين طَعَنَ فيهم أهلَ رأيٍ في رَدِّ الأحاديثِ،
لا الرَّاي في فقه الأحاديثِ، واستنباط المعاني، والعلمِ
بالقياس، وكيف يكونُ ذلك وهو من كبار أهلِ الراي؛ بقوله
بالقياس، وعلمِه بأنه إجماعُ السلَف؟ وإنما الذَّمُ عادَ إلى
ما تَردُ به الأحاديثُ كرأي المبتدِعين، والله أعلمُ.
فصل
ويجب أن ينظرَ المفتي إلى الحكم الذي يُفْتِي العاميَّ به: فإن
كان مما يَسُوغُ خلافُه، أعْلَمَه الحكمَ في مذهبه، واستُحِبَّ
__________
(1) وردت هذه الرواية في "العدة" 5/ 1595 - 1596، و"المسودة" ص
515، و"إعلام الموقعين" 4/ 205، و"مسائل أحمد" لابنه عبد الله:
438.
(2) في الأصل: "بمثله".
(1/283)
له إعلامُه بمذهب غيرهِ، إن كان أهلاً
للتَّوسعَة عليه وأهلاً للرُّخْصة، حتى إنْ ضاقَ عليه مذهبُه،
سألَ غيرَه، فكان عامِلًا بالتقليد؛ لئلَّا يرتكبَ مخالفةَ
مذهب هذا المفتي من غير تقليدٍ لآخرَ مِن أهل الاجتهادِ،
فيكونَ في ذلكَ آثماً؛ فلذلك استَحْبَبْناله أن يجَنِّبَه
التَّعرُّضَ بالِإثم.
وإن كان الحكمُ الذي أفْتى به إجماعاً لا يسوغُ الخلاف فيه،
أَعلَمه ذلك، وكان إعلامُه واجباً وجوبَ فروضِ الكفاياتِ، إن
كان في البلد غيرُه، وإن كان وحيداً لا مُفْتِيَ غيرُه،
تعَيَّنَ عليه إعلامُه، كما تتعيَّنُ سائرُ فروضِ الكفاياتِ في
حَقِّ الواحدِ.
فصل
والذي هو أهلٌ للرخصة: الطالبُ للحق أو بالحق، أو الطالبُ
للتخلُّص مِنَ الربا أو الزَنا، فيدله إلى مذهب مَنْ يرى
التَحَيلَ للخَلاص من الرِّبا، والخُلْعَ لعدم وقوعِ الطَلاقِ،
وماَ شاكلَ ذلك (1).
فصل
وإذا جاءَتْ إلى المجتهدِ مسألةٌ، فعَزَبَ عنه الجوابُ،
واحتاجَ إلى مُهْلَة للنَّظَر، فإن كان معه في المِصْرِ غيرُه،
كان له رَدها، وإن كان قد تعَينَتْ عليه؛ بأن كان وحيداً في
المِصْر، وَجَبَ عليه النَّظَرُ، ولم
__________
(1) شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى استحلال ما حرم الله، يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية: "كل حيلةٍ تضمنت إسقاط حق الله أو الآدمي،
فهي تندرج فيما يستحل به المحارم". مجموع الفتاوى 3/ 191، وقد
ذكرت هذه المسألة وأقوال العلماء فيها في كتابي "أصول مذهب
الإمام أحمد" الصفحة 497 وما بعدها.
(1/284)
يَجُزْ له إهمالُ الجوابِ، كسائر فروضِ
الكفاياتِ (1).
فصل
وإذا تَردَّدَ أمرُ الحادثةِ بينَ أصلَيْنِ، وجبَ عليه
التَّرجيحُ، فإلى أيِّهما مالَتْ بحُكم الشَّبَهِ والأحكامِ،
وجبَ عليه إلحاقُ الحادثَة به، وذلك مثلُ: أن جاءَتْه مسألةٌ
تردَّدُ بيْنَ اليَمينِ بالله والظهارِ، أو تتردَّدُ بين إيجاب
كفَّارةٍ أو نَفْيِ إيجابِها، وكان شَبَهُها بما يوجِبُ
الكفَّارةَ أكثر، أَلْحَقَهَا به، وأوجبَ المنَارةَ.
فصل
وإن كان جوابُها عنده حاضراً؛ بأن حَضَرَه الدَّليلُ وكان
وحيداً، تَعيَّنَ عليه الجوابُ، وإن كان معه غيرُه، جازَ له
الامتناعُ (2)؛ وذاك لأن الصَّحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم-
كانوا يتدافعون الفُتْيا، ولو كان الجوابُ متعيِّناً، لمَا
جازَ لهم ذلك، ألا تَرَى أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم
- لَمَّا كان واحداً فيما كان عليه مِن إيجاب البيانِ عليه
والتَّبليغِ، لم يَجُزْ له تأخير الجوابِ عن السؤال، ولا
البياَنِ عن الحاجة بإجماعٍ، وعن الخطاب عندَ قومٍ.
فصل
فإن كان معه في المِصْر مَن لا يَصْلُح للفتيا، لكنَّه يُفْتِي
ويعْرَفُ بذلك بَيْنَ العوامِّ، لم يَحِلَّ للمجتهد الامتناعُ
مِن الجواب اعتماداً عليه
__________
(1) انظر "المسودة" ص 512، و"أدب المفتي والمستفتي" لأبي عمرو
ابن الصلاح ص 108 - 109.
(2) انظر المصدرين السابقين.
(1/285)
لمعنَيْينِ:
أحدُهما: أنَ وجودَ ذلك كلا وجودٍ، وهو وحيدٌ في المَعْنى، إذ
ذلك ليس مِن أهل الفَرْضِ، فهو كمن تركَ صلاةَ الجِنَازةِ
لامرأةٍ أو ذمِّيٍّ معه في القرية، أو تركَ النَّهْيَ عن
المنكَر، لوجود مجنونٍ أو طفلٍ معه في القرية، فإنه لا يَحِل
له ذلك لمَّا كان على حُكم الوَحْدَةِ، إذ ليس معه مِن أهل
الفَرْضِ والخطابِ أحَدٌ، كذلك ها هنا.
والمعنى الثاني: أنه إذا تَرَكَ الجوابَ إظهاراً للاعتماد على
مَنْ ليس مِن أهل الفُتيا، صارَ كالِإحالةِ بالفُتيا على مَنْ
ليس مِن أهلها، فهو كما لو دَل العامِّىَّ على غير فقيهٍ
مجتهدٍ، فإنه لا يجوزُ له ذلك، كذلك ما يجري مَجْرى الدَّلالةِ
عليه.
(1/286)
فصل
في صِفَة المُسْتفتِي
وهو مَن عُدِمَ في حقِّه ما قدَّمْناه من المعرفة بطرق
الاجتهادِ (1)، أو قَصَرَ عنها تقصيراً يخرجه عن أن يجوزَ ان
يستفتى في حكم الحادثةِ، فذاك العامِّيُّ بعينه، وفرْضه فيما
يبتلى به من النَّوازل الدَينيَّةِ والحوادثِ الحُكْميَّةِ
سؤال المجتهدِ الذي وصَفْناه فيما قَبْل، فهذا هو المستفتِي،
وسؤالُه للمجتهد هو الاستفتاءُ.
ولا عِبْرَة بقول (2) من زَعَم أن على العامِّيِّ العلمَ
بدليلٍ يرشِده إلى حكْم الحادثِة (3)؛ لأن ذلك يقطعه عن
مصالحهِ، ولا يَتأَتى منه ولا له دَرْك البغْيَةِ؛ لكون ذلك
يحتاج إلى تقدُّمِ معرفةِ أصولِ الفقهِ على ما قدَّمْنا،
وأَنَّى ذلك للعامِّيِّ.
فصل
فإن كان عالماً بطرق الاجتهادِ، لكنَّه فاسق، فهل يجوز له أن
__________
(1) انظر "العدة" 5/ 1601، و"المسودة" ص 517، و"شرح الكوكب
المنير" 4/ 539.
(2) مكررة في الأصل.
(3) هم قوم من المعتزلة البغداديين كما حكاه عنهم أبو الحسن
البصري في "المعتمد" 2/ 360.
(1/287)
يأخذَ باجتهاد نفسِه، أم يرجعَ إلى مجتهد
غيرهِ (1)؟
يحتملُ أن لا يُقَلدَ؛ ولهذا قلنا: إن الإِجماعَ ينعقدُ بغيره،
ولا يَنْخَرِمُ بمخالفته، فألزمونا أخْذَه في الأحكام برأي
نفسِه، وأنه لا يجوزُ مخالفةُ رأيه في حقِّ نفسِه برأي
الجماعةِ، فسلَّمْناه، ولهذا نقول في القِبْلة: لاَ يَرْجِعُ
إليه غيرُه، ولا يرجعُ إلى قول غيرهِ، إذا كان فاسقاً.
فصل
وحكمُ العامِّيِّ في جميع الأحْكام الشَّرعيَّةِ حكمُ العالمِ
فيما لا يجدُ عليه دليلاً قطعياً كنصِّ كتابٍ أو سُنَةٍ
متواترةٍ، فإنه يجوزُ له الأخْذُ بخَبَر الواحدِ المظنونِ في
نفسه، المظنونِ به الحكمُ الذي وَرَدَ به، كذلك العاميُ لَمَّا
لم يكنْ له طريقٌ إلى معرفة الحكم، صارَ فَرْضُه الرجوعَ إلى
قول المفتي العالمِ العَدْلِ، الذي يَغْلِبُ على الظَّنِّ
صدقُه، وإصابتُه فيما أَفْتى به.
فإن قيل: العالمُ يرجعُ إلى دليل قطعيٍّ يُوجبُ عنده الأخذَ
بأخبار الآحادِ، والقياسِ، وغير ذلك من الأدلةِ المظنونةِ،
والعامى لا علمَ عندَه قطعي في تقليده للعالم.
قيل: لا فَرْقَ بينهما، فإن العاميَ قد ثبتَ عنده من طريق
مقطوعٍ به أنه مأمورٌ بالرجوع فيما يَنُوبُه إلى عالم بالحكم،
والأخذِ بفتواه، وهو إجماعُ الصَّحابةِ على سماع الأسئلةِ من
البادِيَة ومَنْ لا فقهَ له والجواب لهم عمَّا سأَلُوا، ولا
أحدَ منهم امتنعَ من ذلك، وهذا طريقُ علمٍ لا ظَن، إذ لم يكنْ
جميعُ الصحابةِ فقهاءَ.
__________
(1) انظر: "صفة الفتوى" ص 29.
(1/288)
فصل
ولا يَتَعيَّنُ الاستفتاءُ لواحد -وهو ما يذهبُ إليه الرافِضَة
(1) من الإِمام المعصومِ، المودِع للعلوم، المغني عن غيره في
باب الأحكامِ- لوجوه:
أحَدها (2): أنَّا لا نعلمُ إماماً معصوماً، ومَنْ نَحَوْا
إليه بالإِمامةِ والعِصْمَةِ، فقد قَطَعُوا ما بيننا وبينه
بقولهم: إنه كان في ذُلِّ التَّقيَّةِ المانعةِ من كَشْف
الحَقِّ على الحقيقة. وهذا يُفضي إلى أن لا يُعْرَفَ له مذهبٌ،
ولا يُتَعَرَّفَ منه حكمٌ، فالإِحالةُ على ما هذا سبيلُه مَنْع
لنا من الرجوعِ إلى من وجَدْنا من العلماء، وسد لباب علمِ
المعصومِ، فكنا عادِمِينَ لأحكام الشَرعِ؛ إذ كان علماؤنا غيرَ
واقعينَ على الحقِّ، وعلمُ المعصومِ محجوبٌ عنا بالتَّقِيَّة.
وهذا مستوفىً في باب الإِمامةِ في أصول الدَّياناتِ، وليس هذا
مكانَه.
__________
(1) هم صنف من الشيعة، وسموا: رافضة؛ لرفضهم إمامة أبي بكر
وعمر، وهم مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على
استخلاف علي بن أبي طالب باسمه، وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر
الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم، وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف، وأنها وراثة، وأنه
جائز للإمام في حال التَّقِيَّةِ أن يقول: إنه ليس بإمام.
وأبطلوا جميعاً الاجتهاد فى الأحكام، وزعموا أن الإمام لا يكون
إلا أفضل الناس، وهم يدعون الإمامية؛ لقولهم بالنص على إمامة
علي بن أبي طالب. (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري ص
16.
(2) اقتصر المصنف على ذكر هذا الوجه فقط.
(1/289)
فصل
في بيان فسادِ هذه المقالةِ، بحَسَب الكتابِ.
إنه قولٌ يؤدي إلى الطَّعن فيهم وفي جميع الصَّحابةِ، أما
الطَّعنُ فيهم؛ فإنهم لَمَّا أرادوا الإِمامةَ، قد بَرَزُوا في
مقابلة كُل مكافح لهم في معنىً من المعاني، والصَّوْلُ أكبرُ
من القول، ولم يَرْشَحُوا بما ذهبوا إليه إلى من تابعَهم على
قتال من قاتَلَهم، ولا كاتَبُوا بما عَلِمُوه من الأحكام مما
خُولِفُوا فيه مَنْ ناصَبَهم، وهذا بعينه دليلُنا على إعجاز
القرآنِ، والردُ على من زعمَ أن القومَ قَدَرُوا، لكنْ
أهْمَلُوا أمرَ المعارضةِ لقلِّة اكتراثِهم.
فقلنا: مُحالٌ أن نتحدَّاهم بالأسهل عليهم، وهو القولُ الذي
يحصلُ به التَّكذيبُ، فيعدِلُوا إلى الأصعب، وهو الصَوْلُ الذي
ليس فيه ما يَدُلُّ على الكذب، كذلك ها هنا لا يجوزُ أن
يَعْدِلُوا -هؤلاء- عن القول لِمَا عَرَفُوه، والعدولُ عنه إلى
الحِرابِ والقتالِ.
فصل
ويلزمُ العامِّيَّ: أن يعرفَ حالَ المفتي فيما لا غَناءَ عنه،
فإذا سألَ عنه فوجدَه من أهل الفتيا، جازَ أن يستفتيَه (1)،
وقد سبقَتْ صفاتُ العالِمِ المستفتَى، فأغنى عن الِإعادة.
ولا يجوزُ له أن يستفتيَ من شاءَ، هذا مذهبُ أحمدَ رضي الله
عنه، وجمهورالعلماءِ من الفقهاء والأصوليين.
__________
(1) انظر "شرح مختصر الروضة" 3/ 663 وما بعدها.
(1/290)
وحُكِيَ ان قوماً أجازوا أن يستفتيَ غيرَه
من غير تعَرُّفٍ لحاله في العلم والأمانةِ، كما يجوزُ أن يأخذَ
بالقول من غير مسألةٍ عن الدَليل والحجَّةِ فيما أَفتاه به.
وهذا اعتلالٌ باطلٌ؛ لأن إجماعَ الأمَّةِ على خلافه؛ لأنهم
كانوا لا يُجيزون للإِنسان أن يستفتيَ كُلَّ واحدٍ، ومن ليس من
أهل العلم بهذا الشَأنِ، بل كان منهم من كان "يُلْزِمُ
العامِّيَّ الاجتهادَ والمسألةَ في الأعلم منهم والأعدلِ
والأفضلِ، [و] إذا (1) لزمه اجتهاده عند المسالةِ إلى أن منهم
من هو أعلمُ وأورعُ وأفضل، لَزِمَه الأخذ بقوله دون الأخذِ
بقول من قَصَرَ عنه، ومنهم من كان يعلمُ عدالَة الراوي، ثم
يُحَلِّفُه مع عدالتِه، وهو على بن أبي طالب (2) -كرَّمَ اللهُ
وجهه-.
ومعلوم أنَ تقليدَ العالِمِ للراوي كتقليدِ العاميِّ للفقيه في
الاستفتاءِ، وأيضاً فإنَ المستفتَى، إذا لم يتقدمْ البحثُ عن
حاله جازَ أن يكونَ كالمستفتِي في الجَهْل بالحكمِ المسؤولِ
عنه، فلا يفيد سؤالُه فائدةً، لانَّهما سواء، فلا وجهَ لتقديمِ
أحدِهما بأن يكونَ متبوعاً، ومُستفتىً على الآخر، كما لا يلزمُ
استفتاءُ العالِم عالماً لتساويهما،
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) أخرجه أحمد 1/ 2 و9 و10، وأبو داود (1521)، وابن 4، جه
(1395)، والترمذي (406) و (3006)، والنسائي في "عمل اليوم
والليلة" (414) و (415) و (416) و (417) عن أسماء بن الحكم
الفزاري، عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني
عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وأن أبا بكر رضي الله
عنه حدثني -وصدق أبو بكر- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
قال ... ، فذكر حديثاً.
(1/291)
كذلك لا يجوزُ استفتاءُ الجاهلِ جاهلاً
لتساويهما.
فإن قيل: أليس قد اسْقِطَ عن العاميِّ النَظَرُ في أدلة
الأحكامِ؛ كذلك وجبَ أن يُسقَطَ عنه النَظرُ في أعيان
المفتِين، ولا فرقَ بين الدليلِ والمسؤولِ في كون كل واحدٍ
منهما مرشِداً.
قيل: إنَ في تكليف العاميِّ النَظرَ في أدلَةِ الأحْكام
تعطيلاً للمصالح، وتكليفَ ما يَضُرُّ تكليفُه بالعالَم؛ لوقوف
المَعايشِ وَتعطِل الأعمالِ، وقد بَيَّنَا قَدْرَ ما يحتاجُ
إليه المجتهدُ من العلوم، وكفى بذلك شغلَاً عن أن يبقى معه
مُسْكة لتحصيل رزقٍ أو نَفَقَةِ عيال، وليس كذلك البحثُ
والسؤالُ عن حالِ المستفتَى، فإنَه أمرٌ قريبٌ سهل لا يتعذَّرُ
ولا يتطاوَلُ زمانُه.
فلهذه المصلحةِ جعلَ الله تعلمَ العلمِ فريضةَ كفايةٍ، ولم
يجعلْه فريضةَ أعيانٍ.
وأيضاً، فإن كلَّ مَنْ لَزِمَهُ الرجوعُ إلى قول غيرِه، أو
كلَّ من وجبَ عليه الرُّجوعُ إلى قولِ غيرِه، وجَبَ أن يعرفَه؛
بدليل أنَ النَبى - صلى الله عليه وسلم - لمَا وجبَ الرجوعُ
إلى قوله، وجبَ أن نعرفَه، وكذلك الأئمَّةُ والحكامُ لَما وجبَ
الرجوعُ إلى قولهم، وجبَ معرفتُهم، كذلك وجبَ على العاميِّ
معرفةُ المجتهدين وأئمةِ الحَلِّ والعَقْدِ (1).
فإن قيل: أفليس يكفيه أن يُخبِرَه عن العلماء الواحدُ والاثنان
ومَنْ لا يقعُ العلمُ بخبرِهم، ولا يعتبرُ من يقعُ العلمُ
بخبرهِم وهو عددُ
__________
(1) انظر" شرح مختصر الروضة" 3/ 664.
(1/292)
التَّواترِ (1)، كذلك لا يعتبرُ من يُحقَقُ
وُيقْطَعُ بأنه من أهل الاجتهادِ، بل يكفي أنْ يكونَ غيرَ
عالمٍ وغير معلومٍ حالُه.
قيل: الأَوْلى في الخبرِ أن يُعلِمَنا مَنْ له علم بذلك، وهم
علماءُ البلدِ العدولُ، على أنَ اعتبار العدالةِ والعلمِ يجوزُ
أن يُعتبرَ في المستفتَى وإن لم يُعتبرْ في المخبِرِ عن فتواه؛
بدليلِ المُقَوِّمَينِ في المُقَوَّماتِ يُرجَعُ إليهما (2)،
ويجبُ أن يكونا في اعتبار الثقةِ بقولهما عالِمين بالأسعارِ
والأسواقِ، ولا يُعتَبرُ في الخبر عنهما ذلك، كذلك جازَ أن
يكونَ المخبِرُ عن المفتى ليس بعالمٍ، ولكن يُعتبرُ العلمُ في
المستفتَى.
فصل
فإِذا عَرفَ حالَ جماعةٍ في المِصْرِ فوجدَهم علماءَ عدولًا،
فهل يلزمُه الاجتهادُ في الأعلم، أو يكونُ مخيًراً بين
الجماعةِ؟
ذهبَ صاحبنا (3) إلى أنه ينبغي له أن يجتهدَ فيقلِّدَ الأعلمَ
والأورعَ، ووافقَه جماعة، وذهبَ قوم إلىْ تخييرِه، فأيُّهم
شاءَ قَلَّدَه، وأَخَذَ بقولِه.
__________
(1) في الأصل: "المتواتر".
(2) في الأصل: "إليها".
(3) يعني به الإمام أحمد بن حنبل والصحيح أن للإمام أحمد في
هذه المسألة روايتين وبكل واحدة منهما قال جماعة من أصحابه،
انظر في ذلك "التمهيد" 4/ 403 - 405، و "المسودة" ص 462 - 464،
و"شرح مختصر الروضة" 3/ 666 - 667، و"شرح الكوكب المنير"4/ 571
- 573، و"إعلام الموقعين" 4/ 254 - 255.
(1/293)
والدَلالةُ لمن ذهبَ إلى وجوب ذلك: أن
العلماءَ للعامَّةِ في باب الرًّجوعِ إليهم كالأدلَّة
بالِإضافةِ إلىَ العلماء، ثم المجتهد يجبُ عليه أن يُرجِّحَ
الدَلالَةَ، ويذهبَ إلى الحكمِ الذي رجحَتْ دَلالَتُه، كذلك ها
هنا يجبُ على العاميِّ أن يُرَجِّحَ من يرجعُ إلى قولِه، وكذلك
ترجيحُ الخبرِ على الخبر للعمل بالأرجح بوجوه التَراجيح واجبٌ
ليعملَ بأرجحِها.
ووجهُ مَنْ [لا يرى] (1) الوجوبَ: أن الذي يَحْصُلُ به رُكْنُ
الاستفتاءِ، ويتحقَقُ به المقصودُ، إنَما هو الاجتهادُ الكاملُ
وقد وُجدَ، والعدالةُ للثِّقة وقد وُجدَتْ (2) فأمَّا الأفضلُ
والأعلمُ والأورعُ فيُعَطى منزلتَه، وهو الأوْلى والاستحبابُ،
فأمَّا الإِيجابُ فلا، بدليل الشَّهادةِ، فإنَه لا تُقَدمُ
فيها دعوى من شَهِدَتْ له البينةُ الفاصلةُ، بالوَرَع وشدَّةِ
التَّحرِّي.
وبدليل أن السلفَ الصالحَ لم يتركوا المفضولَ، ولا منعوا من
استفتائِه؛ لوجود الأفضلِ، ولأن الفُتْيا والحكمَ مبنية على
السهولةِ؛ ولذلك شهدَ للمخطىءِ بالأجر، وجعلَ للمصيب
أَجْرَيْنِ (3).
__________
(1) زدناها على الأصل لضرورة استقامة المعنى.
(2) في الأصل: "وجد"، والمناسب ما كتبناه.
(3) في الأصل: "أخرى".
وهو يريد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم الحاكم
فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، تم أخطأ، فله
أجر" الذي أخرجه أحمد 4/ 198 و 204 - 205، والبخاري (7352)،
ومسلم (1716)، وأبو د اود (3574)، وابن ماجه (2314)، والنسائي
في "الكبرى" (5918) و (5919)، وابن حبان =
(1/294)
ولأنَّ غايةَ ما في هذا نوعُ احتياطٍ، وليس
كل احتياطٍ واجباً، كما لم يجبْ الأخذ بالأشق، كالأخذِا بتحريم
من افتى بالمَنْع، كذلك لا يلزمُ التَعويلُ على الأعلمِ
والأورع؛ لأنَه الأحوطُ، إنما يُعطَى رتبتَه من الأوْلى
والاستحبابِ.
فصل
واعْلَمْ أنني لَمَّا قَدَّمتُ هذه الجملةَ من العقودِ
والحدودِ وتمهيدِ الأصولِ، ومَيزْتها عن مسائل الخلافِ، رأيت
أن أُشْفِعَها بذكر حدودِ الجَدَلِ، وعقودِه، وشروطِه، وآدابه،
ولوازمِه؛ فإنه من أدواتِ الاجتهادِ، وأُؤخِّرَ مسائلَ الخلاف؛
فيه إَلحاقاً لكلِّ شيءٍ بشكلِه، وضَم كل شيءٍ إلى مثله، فجمعت
بذلك بين قواعدِ هذين العلْمين -أصولِ الفقهِ والجدلِ-
واخَرْتُ مسائلَ الخلافِ فيهما، فإن الأصولَ بالأصول أشْبهُ،
وإليها أقربُ، والخلاف بالخلافِ أشبهُ، والله الموفَقُ لما فيه
سهولةُ الحفظِ للمنتهي، وسرعةُ الفهمِ والتلقُّفِ للمبتدي، وهو
حَسْبي، ونِعْمَ الوكيلُ.
__________
= (5061) من حديث عمروبن العاص.
وأخرجه أحمد 4/ 198 و 204 - 205، والبخاري (7352)، ومسلم
(1716)، وأبو داود (3574)، وابن ماجه (2314)، والترمذي (1326)،
والنسائي في "المجتبى" 8/ 223 - 224 وفي "الكبرى" (5918) و
(5919) و (5920)، وابن حبان (5060) من حديث أبي هريرة.
(1/295)
|