الواضح في أصول الفقه

فصول
صناعةِ الجَدَلِ
وحَقيقتِهِ، وشُروطِه، وآدابه، وعُقودِه، وأدواتِه، والغرضِ به على طريقة الأصوليين -وسنعقبهُ إنَ شاءَ الله بمُفْرَدٍ (1) على طريقة الفقهاءِ-، وبيانِ المُضِيِّ في سننِه والخروجِ عنه، وكيفيَّةِ السؤالِ والجواب، وبيانِ الحُجةِ والبرهانِ، والحَجْرِ فيه والتفويضِ، والانتقالِ والَانقطاع والتخليطِ، وإلى كم ينتهي جوازُ السؤالِ بـ "لِمَ" ويحسنُ، ومتى ينقطعُ وَيقْبُحُ، ومراتب الحُجَّةِ، والفَرْقِ بينها وبين الشُبهةِ، والفرقِ بين الحُجةِ والذَلالةِ، والَإِلزام والانفصالِ، وبيانِ أنواعِ الحجةِ وتنوُّعِها بتنوُع المذهب، ومصادرةِ اَلحجةِ بالصناعةِ، والفرقِ بين طريقةِ الحجَّةِ في جَدَلنا، وبَين الحجَّةِ في المنطقِ، وبيانِ الإلزام بوسائطَ وسِياقةٍ (2)، وبيانِ قسمةِ الالزام، والفرقِ بين البرهانِ والإِلزَام، وبيانِ الأصلِ والفرع، وبيانِ قِفةِ الأَصولِ وكثرةِ الفروعِ، والعِلَّةِ واَلمعلولِ، والفرقِ بين الدَلالةِ والعلَّةِ، وإيجابِ الحكمِ بالعلَّةِ، والعلَّةِ المسماةِ بالمتولّدةِ،
__________
(1) أي في كتاب مفرد، وقد أنجزه المصنف، وسماه: "الجدل على طريقة الفقهاء"، نشره المعهد الفرنسي بدمشق سنة (1967) م بتحقيق جورج مقدسي.
(2) أي تتابع.

(1/296)


وإجراءِ العلَّةِ في المعلول، نقلِ العلَّةِ إلى الكُلِّيةِ، وتحديدِ العلَّةِ، والعلَّةِ العقليَّةِ والسمعيَّةِ، والمعارضةِ وأنواعِها وأقسامِها، والقياسِ وأقسامِه، والوجوه التي منها يكونُ القياسُ، والقسمةِ وأنواعِها، والانقطاع وأنواعهِ بالشُّبهةِ والمكابرةِ والشَّغَبِ والمناقضةِ، والانتقالِ هل هو انقطاع في الجُملة أو بعضُه ليس بانقطاع؟ ووصايا علماءِ الجدلِ.

فصل

في حَدِّ الجدلِ المتحقِّقِ
وحده: نقْلُ الخَصْمِ من مذهبٍ إلى مذهبٍ، وقيل: من مذهبٍ إلى غيرهِ بطريقِ الحجَّةِ (1).

فصل
قال بعضُ أهل العلمِ: والغَرَضُ به إصابةُ الحق بطريقه.
فاعترضَه حنبليٌّ فقال: ذاك هو النَظرُ (2)؛ لأن غَرَضَ النَّاظرِ إصابةُ الحقِّ بطريقهِ، لكنَّ الغرضَ بالجدل من المُنْصِفِ: نقلُ المخالفِ عن الباطل إلى الحقِّ، وعن الخطإ إلى الإِصابةِ، وما سوى هذا فليس بغرض صحيحٍ، مثلُ بيانِ غلبةِ الخصمِ وصناعةِ المجادِلِ.
__________
(1) هذا التعريف ذكره الطوفي في "علم الجذل في علم الجدل" ص 4، وهناك تعريفات أخرى للجدل، انظرها في "العدة"1/ 184، و"التمهيد" 1/ 58، و"الجدل على طريقة الفقهاء" ص1.
(2) انظر كلام المصنف فيه في الصفحة (46).

(1/297)


فصل

في بيانِ الجَدَلِ
وهو سؤالُ السائلِ.
وحَدُّ السؤالِ هو: الطَّلبُ للإِخبارِ بأداتِه في الإِفهامِ.

فصل
والسؤالُ والاستعلامُ والاستخبارُ والاستفهامُ نظائرُ، إلا أن الاستخبارَ: هو الطلبُ للخبر، والاستعلامَ: الطلبُ للعلم، والاستفهامَ: الطلبُ للفَهْمِ.

فصل

وأدواتُ السُّؤال عشرةٌ (1): هل، والألِفُ، وأم، وما، ومن، وأيّ، وكيف، وكم، وأين، ومتى.
وقد يُستفهمُ بأنَّي، وهي ترجعُ إلى معنى كيفَ، قال سُبحانه: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]، أوقال،: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]، والمعنى في الأول: مِن أينَ لكِ؟ وفي الثاني: كيفَ يُحيي؟
وأما "لم" فمُركَبةٌ، أصلُها "ما" دخلتْ عليها اللَّامُ، وكذلك {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، أصلُها "ما" دخلتْ عليها "عن" وأُدغِمَتْ.
__________
(1) انظر "علم الجذل في علم الجدل" ص 27 - 29.

(1/298)


فصل
وجميعُ الأدواتِ التي ذكرناها مختلِفٌ معناها، فيأتي الجوابُ فيها بحَسَبِ ما توجبُه صورتُها، فإذا قال السائلُ: هل أتاكَ زيدٌ؟ فجوابُه: نعم أو لا، فإن قال: أتاكَ زيد أم لا؟ لم يكنْ جوابُه كالأولِ، لكنْ جوابُه أن يقولَ: أتاني زيدٌ، أو يقولَ: لا. وكذلك إن قالَ: أزيدٌ أتاكَ أم عمرو أم (1) بكرٌ؟ فجوابُه أن يقولَ: أتاني، ثم يذكرُ مَنْ أتاه مِن الثلاثةِ لا غيرَ ذلك.
فإن قال السَّائلُ: ما أتاك؟ فجوابُه اى شيءٍ كان مما لا يَعْقِل، كقولهِ: فرسٌ، أو طائرٌ.
فإن قال السائلُ: من أتاك؟ فجوابُه مَنْ يعقل، مثلُ قولِه: أتاني زيدٌ، أو عمرٌو.
فإن قال السَّائلُ: كيف: أتاك؟ فجوابُه: راكباً أو ماشياً أو ما أشبهَ ذلك من الأحْوالِ.
فإن قال السائلُ: كم أتاك من القوم؟ فجوابُه عددٌ عشرةٌ، أو عشرون، وما أشبهَ ذلك من الأعداد.
فإن قال السائلُ: أين أتاكَ؟ فجوابه: في منزلي، أو حانوتي، أو المسجدِ، وما شاكلَه من الأماكنِ.
فإن قال السائلُ متى أتاك زيدٌ؟ فجوابه: يومَ كذا، أو سنة كذا، أو ما أشبهَ ذلك من الأوقات، فعلى هذا.
__________
(1) في الأصل: "وأم"، وهو خطأ، صوابه حذف الواو.

(1/299)


وإن قال السَّائلُ: لِمَ أتاكَ؟ فجوابُه بحاجة (1) كانت له، أو ما أشبهَ ذلك من الأغراضِ الباعثةِ على الأفعالِ.

فصل

في السُّؤالِ المختصِّ بالجدل، وخروجِ الجوابِ بحَسَبِه
فإذا قال السائلُ للمسؤول: ما مذهبك في حَدَثِ العَالَم؟ أو ما مذهبُك في شُرْبِ النبيذِ؟ فهذا سؤالى من جهة الصيغةِ والمعنَى.
فإن قال: أخبرني عن مذهبك في حَدَثِ العالم، أو في شُرب النَبيذِ، فهذا وإن كان معناه معنى السؤالِ من حيث كان استخباراً، لكنَ لفظَه لفظ الاستدعاءِ والأمرِ.

فصل
في الجواب
وكل جوابِ خبر، وليس كل خبرٍ جواباً (2)، لأنه قد يَخرج الخبرُ مخرجَ الابتداءِ، لا على وجه الجوابِ.
وأصلُ الجواب في اللُّغةِ: القَطْعُ (3)، من قولهم: هو يجوبُ
البلادَ. أي: يَقْطَعُهَا، وقولُه سبحانه {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9] أي: قطعُوه.
وإنَّما سُمِّيَ به ما قابلَ السؤالَ؛ لأنَّه يؤدي إلى القطعِ؛ لأن
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) انظر"الكافية في الجدل" ص 70.
(3) انظر "لسان العرب": (جوب).

(1/300)


المجيبَ يقطعُ بمعنى الخبرِ على طريقة الإِثباتِ والنَّفيِ، فإذا قال السائل: هل أتاك زيدٌ؟ فقد علَّقَ سؤالَه بأحدِ أمرين: إمَّا نَعَمْ، وإمًا لا، فنعمْ للإثبات، ولا للنفي، فالقاطعُ المجيبُ إمَّا بنعمْ؛ فيقطعُ بأنه قد أتاه، أو لا؛ فيقطع على أنه لم يأتِه.

فصل
وينبغي للسائلِ أن ينظرَ الى المعنى المطلوب في السؤالِ، فإن عَدَلَ المجيب لم يَرْضَ منه إلا بالرجوع إلى جوابَ ما سألَه عنه، فإنَّ كثيراً ممنْ لا يضبط الجدلَ، ولا يَدَ لهَ فيه يُسأل عن شيءٍ، فيجيبُ عن غيرِه، وهو يظنُّ أنه قد أجابَ، ويقْنَعُ منه السائل؛ إذ كان السائل أقصرَ منه علماً بتحديد الجواب.
مثالُ ذلك: أن يقولَ السائلُ: هل يحرمُ النبيذ؟ فيقولُ المجيبُ: قد حَرَّمَه قومٌ من العلماء. هذا عند أهلِ الجَدل ليس بجوابٍ عمَّا سألَ عنه وللسائل أن يُضايقَه في ذلك بأن يقولَ: لم اسالْكَ عن هذا، ولا بأنَ من سُؤالي إيَّاك جهلي بأن قوماً حرَّموه، ولا سألتُك عن مذهب الناس فيه، بل سألتُك أحرامٌ هو؟ فجوابي أن تقولَ: حرامٌ، أو ليسَ بحرامٍ، أو لا أعلم. فإذا ضايقه ألجأه إلى الجواب، أو بانَ جهلُه بتحقيق الجواب، وليس له أن يُجيبَ بالتعريض لمن سألَه بالِإفصاح، فإذا سألَ السائل بالإِفصاح لم يقنعْ بالجواب إلا بإفصاحٍ.

فصل
في اعتبارِ مطابقةِ الجوابِ للسُّؤالِ
اعلمْ أن مطابقةَ الجوابِ للسؤال هو كونه على ما اقتضاه من غير

(1/301)


تغييبرفي لفظِه ولا في معناه.
مثالُ ذلك: أن يقولَ السائلُ: أيحرمُ المطبوخُ؟ فيقول: نعم، أو لا، أو يقول: يحرمُ، أو لا يحرمُ.
فأمَّا إن قالَ جوابَ قولِ السائلِ: أيحرمُ المطبوخُ؟: أنا احرِّمُ كل مُسكرٍ. فلم يأتِ بجواب مطابقٍ؛ لأنه زائد في اللفظ والمعنى.
فإنْ قال السائلُ: أيحرمُ المطبوخُ؟ فقال المجيبُ: أحرمُ مطبوخَ التَّمرِ، فلم يأتِ بجواب مطابقٍ؛ لأنه ناقصٌ عن السؤال.
فإن قال السائلُ: أيحرمُ المطبوخُ؟ فقال المجيبُ في جواز الاجتهادِ: فيه نظر، فلم يأتِ بجواب مطابقٍ؛ لأنه معدولٌ عن المطلوب في السؤال.
وإنَّما ضرَبْنا لك الأمثلةَ؛ لأن قوماً يجيبون مثلها، ويَعْتَدُونَها أجوبةً (1).

فصل
في تحديدِ السؤالِ والجوابِ ووصفِهما
اعلم أن السؤالَ أربعةُ أضربٍ (2)، ويجمعُ الكل: ما هو الحدُّ؟ وهو أنه استخبارٌ، وكل سؤال استخَبارٌ، وكل سائلٍ مُستخبِرٌ.
والجواب أربعةُ أضربٍ، ويجمعُها كلَها: أنها إجابةُ إخبارٍ، وكلُّ مجيبٍ مُخبِرٌ، وقد يدخلُ فيَ الإِخبارِ ما ليس بجواب، وهو ما يُبتدأُ به
__________
(1) "المسودة": ص 551، و"الإيضاح لقوانين الاصطلاح" ص 44 - 45.
(2) سيأتي للمصنف بعد قليل في الصفحة 306 أنه خمسة أضرب.

(1/302)


من الخبر من غير مسألةٍ، وليس يدخلُ في الاستخبارِ ما ليس بسؤال.
فأولُ ضروبِ السؤالِ الأربعةِ: المسألةُ عن ماهيَّةِ المذهبِ.
والثاني: المسألةُ عن ماهيةِ برهانِه أو دليلِه؛ لأنك تقولُ أولًا: ما تقولُ في كذا وكذا؟ أو ما مذهبك في كذا وكذا؟ فإذا ذكرَ لك حكماً بعينِه أو شيئاً بعينه، قلتَ له: ما بُرهانُك عليه؟ أو ما دليلُك عليه؟ وهذان الضربانِ استفهامانِ مجرَّدانِ (1) لا يشوبُهما طعنٌ في مذهبِ المجيبِ، ولا يتبيَّنُ عند ذكرِهما فسادُ عقدٍ، ولكن عند ذكرِ الضَّربين الآخرَين؛ لأن الإِفسادَ والمطاعن فيهما تقعُ، وعند ذكرهما تُشرعُ وتُذكرُ.
والأولُ منهما- وهو ثالثُ الضروبِ من الأسئلة الأربعةِ-: المطالبةُ بوجه دَلالةِ البرهانِ على المذهب.
والثاني: أَخْذُ المجيبِ بإجراءِ العِلَّة في معلولها (2).
وسنصوِّرُ كل ذلك صورةً تُنبئُ عن حقيقته إن شاءَ الله (3).

فصل
في إقامة الدَّلالةِ على صحَّة هذا الترتيبِ
إنك لا تسألُ عن برهان شيىءٍ مذهباً كان أو غيرَ مذهبٍ حتى تسألَ
__________
(1) في الأصل:"مجوزان".
(2) "علم الجذل في علم الجدل" ص 31 - 32، و"العدة" 5/ 1466، و"المسودة" ص 551.
(3) سيورد المصنف ذلك في الصفحة (306) وما بعدها.

(1/303)


عن أصل ذلك الشيءِ، ولا تطالبُ بوجه دَلالتهِ إلا بعد معرفةِ ماهيَّتِه والمسألةِ عنها.
فأمَّا أخذُ المجيب بطَرْدِ علَّتِه في معلولاتها، فالدليلُ على أنه بعد المطالبةِ بوجه دَلالةِ الَبرهان: أنك (1) لا تصلُ إليه إلا بعد تسليمِ ما ادَّعاه المجيبُ من دلالة البرهانِ على قوله؛ لأنه تفريعٌ للمذهب والعلة، والتفريعُ لا يقعُ إلا بعد تسليم المفرَّع عليه؛ وذلك أنك لا تأخُذ خصمَك بتفريعِ قولٍ، ولا بتفريعٍ عليه إلَا بعد تسليمِ المفرِّعِ لهما، ولو لم تَسَلَمْهُما، لمنَعْتَه ما ادَّعاه من دلالتهما عليه فيهما، وسألتَه البينةَ على صحةِ ما ادَّعاه من دَلالتهما، وهذا يدلُك على أنك إذا أخذتَ خصماً بإجراءِ عِلَلِه في معلولاتها قبل مطالبتِه بوجه دلالتِها على صحَّةِ مذهبهِ، فقد سلمت له ما ادَّعاه من دلالتها عليه، وأخذتَه بإلحاق نظيرهِ المشارِكِ له فيها به، والتسليمُ إذا لم يَقَعْ بحُجَّةٍ فإنما يقِعُ بترك مسألةٍ لازمةٍ يجاوزُ بها إلى ما بعدها: إمَّا لمساهلةٍ في النَظرِ (2)، وإما بضَرْبٍ من التَّدبيرِ على الخصم، وإما للعجز والجهلِ.
ويدلُ على ذلك أيضاً: أنه يطالبُ بتفريع علًةِ المذهب من يعتقدهُ، إذا كان قد خُولِفَ في نظيره.
ويدلُّ عليه أيضاً: أنك تقولُ للمجيب: قد سَلَّمْتُ لك أن علَّتَك توجبُ صحةَ هذا المذهبِ، ولكنها أيضاً توجبُ صحةَ ما آخذُكَ بإلحاقه
__________
(1) في الأصل: "لأنك"، والجادة ما أثبتناه.
(2) في الأصل: "من الفطن"، والمثبت من "المسودة" ص 552، وهو الذي يتفق ومضمون البحث.

(1/304)


به من حيث أُوجبُ صِحَّتَه؛ فاجمَعْهما في التَّصحيحِ أو في الإِفساد، وإلا فَافْرُقْ بينَهما، مثلَ قولِك في المعلوفةِ: إن لها مؤنةً لا تحتملُ معها المساواةَ (1)، فيقالُ لك: فاطردِ العلَّةَ في كلِّ مال تحتاجُ تنميته إلى مُؤنةٍ، كمال التجارةِ والزَرعِ المسْقى بالكُلَفِ.
فإن قال قائل: كيف لم تُلحِقِ الضَرْبَ الثالثَ بالضَّربين الأولَين وتجعلْه استفهاماً مجرَّداً؛ إذ كان المطالبُ بالدَليل على المذهب كالمطالب بوجه دَلالتِه عليه؟
قلنا له: لِمَا وصفنا قبلُ، وهو أن أبوابَ الإِفسادِ، ووجوهَ الكسرِ لا تنفتحُ، ولا يرومُها السائلُ إلا بالضَرب الثالث وما بعده، وإنما قَدَّمَ الضَّربين الأَوَلَيْنِ لحاجتِه إلى معرفة ما يريد كسرَه قبل رَوْمِ كسرِه والقصدِ إليه.
ووجهٌ آخر: وهو أنك لا تقولُ: هلَّا قلت: كذا وكذا، أو لِمَ لم تَقُلْ: كذا وكذا؟ إلا وأنت في الضَرْب الثالثِ، وفي الضَّربِ الرابعِ، وبهذا الجنس من السؤال يَقصِدُ السَائلُ إلى كسر المذهب، فأمَّا الأوَّلان فهما المَسالةُ عن الماهية، لتعرفَ الماهيةَ، ثم تقصدُ إلىَ الطعن فيها، وهما كقولك: ما في يديك؟ ومن رأيتَ من القوم؟ وما قال لك فلان؟ وهذا كلّه استفهام مُجرَّدٌ، فإذا تحقَقَ السؤال عن الماهيَّة، انْبَنى عليه الاستفهامُ عن الحجَّةِ، فإذا شرَعَ المسؤولُ في بيان الحجةِ جاءَ سؤال الكسرِ عليها، لأنك لا تقولُ: لِمَ لم تعتقدْ كذا وكذا؟ ولِمَ لم تستدلَّ بكذا؟ وأنت متعرِّفٌ لماهيَّة المذهبِ والبرهانِ.
__________
(1) كتت في الأصل: "المواساة"، ويغلب على ظننا أنها كما أثبتنا.

(1/305)


ووجهٌ آخرُ: وهو أن السائلَ إنما يبتدىءُ في الكسرِ بعد ابتداءِ المجيبِ في بناء مذهبهِ، وابتداءِ المجيب لذلك الِإخبارِ عن دليله، والذي يقعُ بعد خبره عن ذلك من سؤالَ السائلِ الضربُ الثالثُ.

فصل آخر
في تحديد سؤالِ الجدلِ، وأقسامِه
وإنما اعتبرنا لسؤال الجدلِ ما اعتبرناه، لأن سؤالَ الاستفادةِ والاسترشادِ لا يعتبرُ له شرط من الشروط المذكورة لسؤال الجدلِ.
اعلم أن سؤالَ الجدلِ: هو الذي يُقصدُ به نقلُ الخصم عن مذهبه بطريق المُحاجَّةِ، وبيانِ أن الجوابَ فيه تابعٌ للسؤال إلا أن على المجيب إذا كان السؤالُ مضطرباً أن يعملَ في تقويمه حياطةً لجوابِهِ؛ إذ كان السؤالُ المضطربُ لا يمكن أن يطابقَه جوابٌ مستقيمٌ.

فصل
وسؤالُ الجدلِ على خمسة أقسامٍ (1): سؤالٌ عن المذهب، وسؤالٌ عن الدليل، وسؤالٌ عن وجه الدليلِ، وسؤالٌ عن تصحيح الدَّعوى في الدليل، وسؤال عن الِإلزام.
مثالُه: أن يقولَ السائلُ: ما مذهبُك في التجسيم؟ فهو سؤال عن ماهيَّة المذهب في التجسيم، وكذلك أن يقولَ: هل لك مذهبٌ في التجسيم؟ -والآنِيَّةُ (2) قبل الماهيةِ؛ لأن الآنِيةَ المذهبُ- فيقول
__________
(1) وقد تقدم ذكر المصنف لها على أنها أربعة في الصفحة (302).
(2) قال الجرجاني في "التعريفات" ص 38: الآنية تحقق الوجود العيني من =

(1/306)


السائلُ: هل لك مذهب في التجسيم؟ فإذا قال: نَعَمْ، قال: ما هو؟ فجاء السؤالُ عن ماهيَّة المذهب بعد السؤال عن آنِيَّة المذهب، وكان ذلك في المرتبة الأولى من سؤَالات الجدلِ.
فإذا قال المسؤول: مذهبي أن الصانعَ جسمٌ، فقال السائلُ: ما الدليلُ على أن القديمَ جسمق؟ فقال المجيبُ: فعلُه. فهذا جوابٌ مُحدَّدٌ، وإن كان باطلاً، فإن قال السائلُ: ما وجهُ دلالةِ فعلِه على أنه جسم؟ فقال المجيبُ: إنه لا يُعْقَل في الشاهدِ فاعلٌ إلا جسم، فجوابُه محدَّدٌ، لكنَّه لا يدل على ما قال.
وإنما يحتاجُ السائل إلى المطالبة بوجهِ الدَّلالةِ إذا كان المجيبُ قد ذكرَ دليلَه من وجهٍ لا يقتضي الحكمَ، إذ كان الشيءُ الواحدُ قد يُشارُ إليه من جهتين: إحداهما (1) تقتضي الحكمَ، والأخرى لا تقتضيه، كقولك: العالَمُ دليل على الباري. فليس في هذا بيان من أيِّ وجهٍ دَلَّ، فإذا كان من جهة أنه فعلَ، أو من جهة أنه حكمَ، أبانَ الوجهَ الذي منه دَلَّ.
فإن قال السائلُ: وما برهانُك على أنه لا يُعقلُ في الشاهد فاعلٌ إلا جسماً؟ ساغَ له ذلك؛ لأنه على دعوى لا يقتضيها العقلُ، فإن قال المجيبُ: إن كلَّ فاعلٍ في الشاهد جسمٌ، فقد أتى بجوابٍ صادقٍ في
__________
= حيث مرتبته الذاتية. والمقصود بها هنا -كما هو واضح-: وجود مذهب للمخاطب في المسألة، فالسؤال عنه يكون بالضرورة سابقاً على سؤاله عن كنه هذا المذهب وحقيقته.
(1) في الأصل: "أحديهما"، وهو خطأ.

(1/307)


نفسِه، لكنه كاذب في شهادته، لأن كلَّ فاعلٍ في الشاهد جسمٌ، إلا أنه لا يشهدُ بأن الباريَ جسمٌ.
فإن قال السائلُ: إذا كان الباري جسماً؛ لأن كل فاعل في الشاهد جسمٌ، فما الانفصالُ من أن الباريَ مؤلًفٌ؛ لأن كلَّ فاعلٍ في الشاهد مؤلَّفٌ؟ كان هذا من السائل إلزاماً صحيحاً على دلالةٍ تقتضي نظيرَ الحكمِ الذي قال به الخصمُ بمثل ما تقتضي الحكمَ الذي ذهبَ إليه سواءً.
فإن قال السائلُ: إذا كان الجسمُ في الشاهد مُحْدَثاً؛ لأن فيه سِمَةَ الحَدَث، فما الانفصالُ من أن كلَّ جسمٍ مُحْدَث؛ لأن فيه سِمَةَ الحَدَثِ؟ فهذا إلزامٌ صحيحٌ للموحِّد أن يبتدىءَ به المجسِّمَ، فيُلْزِمَه على قوله بالتًجسيم، وهو إلزام بدَلالةٍ تقتضي مثلَ الحكمِ الذي قال به الخصمُ، وربما قيل في مثل هذا: إنه إلزامٌ بعلَّةٍ يرادُ به إلزامٌ بدلالةٍ؛ لأن الدلالةَ تسمىَّ عِلَّةً.
فإن قال السائلُ: إذا كان الجسمُ فى الشاهد مُحْدَثاً؛ لأنه جسمٌ، فما الانفصالُ من أن كلَّ جسمٍ محدَث؟ كان هذا إلزاماً بعلَّةٍ على الصًحة، لأن الحكمَ والجالبَ للحكم في كلا الشِّقَّين واحدٌ، وإنما أخذَ المجيبُ بإجراء العلَّةِ حين نُقِلَتْ إلى الكليَّةِ، وإجراءُ العلَّة لازمٌ لكل معتلٍّ، وإلا كان مناقضاً.
فإن قال السائلُ: إذا زعمتَ أن بعض الأجسام قديمٌ، فما الانفصالُ من أن جميعَ الاجسامِ قديمة؟ كان هذا إلزاماً بالمعارضة (1)
__________
(1) ستأتي فصول المعارضة في الصفحة (387).

(1/308)


وكذلك إن قال: إذا كانت الأعراضُ تدل على حَدَثِ بعضِ الأجسامِ، فما الانفصال من أنها تدل على حَدَثِ جميعها؟ وكذلك إن قال: إذا كانت الدَلالةُ تختصُّ بعضَ الأجسامِ، فما الانفصالُ من أنها تختصُّ الجمادَ دون الحيوان؟
فإن قال السائلُ: إذا كان الباري واحداً، ولم يصح أن يكونَ الجسمُ واحداً، فما الانفصالُ من أن الباري لا يصحُ أن يكون جسماً، كما لم يصح أن يكون أكثرَ من واحدٍ؟ كان هذا إلزاماً بإعطاء المعنى في الجملة؛ لأن الخصمَ يُعطي أنه واحدٌ على الحقيقة.
فإن قال السائلَ: إذا كان الجسمُ لابد له من مجسِّم كما أن الحادثَ لا بدَّ له من مُحْدِثٍ، فما الانفصالُ مِن أن مَن لا يصحُّ أن يكونَ له مُجسِّمٌ، فليس بجسم؟ كان هذا الإِلزامُ يَقْضِيه العقلُ في الجسم بمجسِّم كما يقضي فرب الحادثِ المُحْدِث.

فصل
وكل سؤالِ جَدَلٍ فإنه على خلافٍ في المذهب؛ لأنه لا يصحُّ جَدَلٌ مع الموافقةِ في المذهب،، إلا أن يتكلم الخصمان على طريق المباحثةِ، فيُقَدرا الخلافَ لتصِخَ المطالبةُ، وُيتمكنَ من الزيادة.
وليس على المسؤولِ أن يُجيبَ السائلَ عن كل ما يسألُه عنه، وإنما عليه أن يُجيبَه فيما بينه وبينه فيه خِلاف، لتظهرَ حُجتُه فيه، وسلامتُه من المطاعن عليه، وإلا خَرَجَ عن حدِّ السؤالِ الجَدَليِّ.
وسَبيلُ الجَدَلِ في الفقه والنَحو وغيرِهما من الصنائع كسبيل الجَدَلِ في صنعة الكلامِ في أنه لا يكونُ إلا بعد ظهورِ الخلافِ،

(1/309)


إلا أن كل صناعةٍ تُرَدُّ إلى مُصادَرَةٍ -أعني بالمصادرةِ: التبليغَ بها إلى صَدْرِ المعنى بنوع ظَن أو غَلَبَةِ ظَنٍّ-، وصنعةُ الكلامِ تُرَدُ إلى ضرورةٍ، أو ما يَجْرِي مَجْرى الضرورةِ في أنه يُعلمُ بأدْنى فِكْرةٍ.

فصل

وسؤالُ الجدَلِ على ضربين: محدَّدٌ، ومعبرٌ عن التحديدِ، والتَحديدُ يكونُ في اللَّفظِ والمعنى، وكذلك التًعبيرُ.
فإن قال السائلُ: هل الجزءُ يتجَزَّأُ إلى ما لا نهايةَ له، أم الحدوثُ يَدُل على نهايتِه؟ كان السؤالُ غيرَ محددٍ؛ لأنه خرجَ مَخْرَجَ الخَلْطِ بين سؤالين: فأحدهما: هل الجزءُ يتجزا إلى ما لا نهايةَ له؟ وهذا سؤالٌ قائمٌ بنفسه، وهل الحدوثُ يدل على نهايته؟ سؤال آخرُ قائمٌ بنفسه، وقد جعلَهما على صيغة سؤالٍ واحدٍ، فهو كمن قال في مسائل الفقهِ: هل الخَلُّ يُزيلُ النًجاسةَ؟ أم كونُه لا يَقْوى على رفع الحَدَثِ مانعاً من إزالته لحكم النًجَسِ؟ فهذان سؤالان.
فإن قال السائلُ: ما مذهبكُ في الجزءِ؛ فقال المجيبُ: إنه لا يتجزاُ؛ بدلالةِ أن ما فيه من الاجتماعِ يَصِح أن يَنْتَفِيَ. كان هذا الجوابُ غيرَ محدَّدٍ؛ لأنه سؤالٌ عن فُتْيا المذهب، والجوابُ عنه وعن دَلالةِ المذهب جوابٌ (1) على صيغةٍ واحدة؛ إذ كاَن على قَضِيةٍ واحدة، وإنما تحديدُهَ أن يقولَ في الجواب عنه: إنه لا يتجَزأُ. أو يقولَ: إنه يتجزَأُ. فأمَّا أن يُدْخِلَ في الِإخبارِ عن الفُتْيا الِإخبارَ عن الاستدلال، فليس بجواب مُحَقَّقٍ، كما لا يَخْلِطُ السؤالَ عن المذهب بالسؤال عن
__________
(1) في الأصل: "جواباً"، والجادة ما أثبتناه.

(1/310)


دليلِ المذهبِ.
فإن قال المجيبُ: إنه لا يتجزَّأُ، والدليلُ على ذلك: أنه يصحُ أن ينتفيَ ما فيه من التَأليفِ والاجتماعِ، كان قد أتى بجواب محدَّدٍ، إلا أنه أتْبَعَه بإخبارٍ عما لم يُسأل عنه، لا أنه خلَطَه به، والإِتباعُ بجوابِ ما لم يُسألْ عنه كالخلط بما لم يُسألْ عنه، ثم إنه أتى بما ليس فيه شُبْهةٌ، ولو قال: الدليلُ على ذلك: أنه لا يَصِح أن ينتفيَ كلُّ ما فيه من الاجتماع، لكان قد أتى بشبهةٍ، ولكنْ جاءَ بما لم يُسْأَلْ عنه.
فإن قال السائلُ: ما مذهبُك في الجزء؟ فقال المجيبُ: الجزءُ لا يتجزَّأُ، فلم يأتِ بجوابٍ محدَّدٍ مِن قِبَلِ أنه لم يأتِ بما يَصلح أن يكونَ محمولًا على المَذهب بحملٍ ما؛ إذ كان لا يصحّ: مذهبي الجزءُ لا يتجزأُ، ويصح: مذهبى أنَ الجزءَ لا يَتجزَأُ.
فإن قال السائلُ: ما مذهبك في الجزء؛ فقال المجيبُ: قد ثبتَ أن الجزءَ لا يتجزَّأُ. فلم يأتِ لي بجواب محدَّدٍ؛ لأن جوابَ ما، إنما هو بالجِنْسِ وما جَرَى مَجْرى الجنسِ من الصِّفات، فلو قال بدلَ قد ثبتَ: ثابتٌ. لكان محدَّداً؛ لان ثابتاً من الصفات التي تقومُ مَقَامَ الجنسَ.
فإن قال السائلُ: ما الدليل على أن الجسمَ ينتهي إلى جزءٍ لا يتجزَّأُ؟ فقال المجيبُ: التألف الذي فيه. فجوابُه محدَّدٌ؛ لأن في التأليفِ اقتضاءً بصحَةِ الحكمِ، ولو كان قال: عَرَضٌ فيه، لم يكن جوابُه محدَّداً؛ لأنه ليس في حلولِ عَرَضٍ فيه ما يقتضي تناهيه، وأنه لا يتجزَّأُ أبداً.

(1/311)


فإن قال السائلُ: ما الدليلُ على أن الجزء [لا] (1) يتجزَّأُ أبداً، فقال المجيبُ: إن الدوائرَ المعقولةَ لا تَصِحُ على القول بالجزء. لكان جوابُه محدَّداً؛ لأنه على شبهةٍ، وكلُّ جواب محدَّدٍ في: ما الدليلُ على كذا؟ فإنه لا يخلو من أن يكونَ على حجَّةٍ أو شبهةٍ؛ لأن السائلَ إنما يطلبُ الأمرينِ ليقعَ الكلامُ عليه، ولو قال: بعضُ الأشكال لا تصحُّ على القول بالجزءِ. لم يكنْ محدداً؛ لأنه لا حُجَّةَ فيه ولا شبهةَ.
فإن قال السائلُ: ما الدليلُ على أن الجسمَ ينتهي إلى جزءٍ لا يتجزَّأُ؟ فقال المجيبُ: إن التَّأليفَ الذي فيه يصحُ أن ينتفيَ بضِدِّه من الافتراق، ولأن القادرَ على إيجاده قادرٌ على نفيه؛ إذ هو مُحدَثٌ، وكل محدَثٍ، فلا بُدَّ له من محدِثٍ. كان جوابُه غيرَ محدَّدٍ من قِبَلِ أنَه قد لَف عِدَةَ مراتبَ في مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، ولو قال: إن التأليفَ الذي فيه يصحُّ أن ينتفيَ بضِدِّه من الافتراقِ. لكانَ جوابُه محدَّداً؛ لأنه إذا ثبتَ هذا المعنى ثبتَ الحكمُ، ولو نَقَصْتَ منه لأخْلَلْتَ به.

فصل آخَرُ
في تحقيقِ الجوابِ وتحديدهِ يَقْوى به العملُ والعلمُ
فأوَّلُ ضروبِ الجوابِ: الإِخبارُ عن ماهية المذهب، ثم الإِخبارُ عن ماهيَّةِ بُرْهانِه، ثم وجهُ دَلالةِ البرهانِ عليه، ثم إجَراءُ العِلةِ في المعلول، وحياطتُه من الزِّيادةِ فيه والنقصانِ منه، لئلَّا يُلحقَ به ما ليس منه، وُيخرجَ عنه ما هو منه.
__________
(1) سقطت من الأصل، وضرورة صحة العبارة تقتضي زيادتها.

(1/312)


والحجةُ في ترتيب الجواب، كالحجة في ترتيب السؤالِ (1)؛ لأن كُل ضَرْبٍ من ضروبِه مقابل لضربٍ من ضروب السؤالِ (2).

فصل
واعلمْ أنه إذا اجتمعَ اثنان قد عَرَفَ كل واحدٍ منهما مذهبَ صاحبهِ وهما على خلافٍ في المذهب، أغناهما علمُهما عن ضَرْبٍ من ضروب السؤالِ، وهو السؤالُ عن ماهِيةِ المذهبِ (3).
قلت: وقد يجري في حكم الاجتهادِ أن لا يَسْقُطَ السؤالُ لجواز تَغَيُرٍ يَطْرأُ على المذهب إلذي عُرِفَ به، فيزولُ ما عَرَفَه، وذلك يُعدم الثقةَ بالبقاء على المذهب، فلا غَناءَ إذاً عن السؤال.
فإن عَمِلْنا على قول من أَسقطَ السؤالَ عن ماهية المذهب لسابقِ معرفتِه، بَقِيَ السؤال عن ماهية دليلِه، فإذا قال السائلُ للَمعروف بالتَجسيم: ما ماهيَّةُ برهانِك، على إثبات القديمِ جسماً؟ فقال المجسمُ: الدليلُ على ذلك: أنا أجمَعْنا على أنًا لا نعقلُ في الشاهد فاعلًا إلا جسماً، وقد اتَفَقنا على أن اللهَ فاعلٌ، فوجبَ أن يكونَ جسماً. وجبَ على السائل أن يقولَ له: ومن أيَ وجهٍ وجبَ أن يكونَ جسماً، إذا كنا لم نعقلْ في الشاهد فاعلًا إلا جسماً؟ وما في قولك: لم نعقلْ فاعلًا إلا جسماً، مما يوجبُ أن يكونَ القديمُ جسماً إذا كان فاعلًا.
__________
(1) تقدم كلام المصنف عليه فى الصفحة (303).
(2) انظر "العدة" 5/ 1465 - 1466.
(3) انظر "الكافية" ص 79.

(1/313)


والدليلُ على أنَ له أنْ يسألَ عن هذا: أنه قد يَعْرِفُ اللهَ تعالى فاعلًا وأنه لا فاعلَ في الشاهد إلا جسمٌ مَنْ لا يعلمُ أن اللهَ جسمٌ، فلو كانت هذه المعرفةُ مُغنيةً في العِلْم بأنه جسمٌ، لم تقَعْ إلا معه، وإذا لم تَقَعْ معه، فلا بُد من أن يَعرفَ كيفيةَ إيجابها له، ومتى ارتفعتْ المعرفةُ، ساغَتِ المسألةُ.
وجوابُ هذا على أصل الجِسميِّ واضحُ الترتيب، وإن لم يكنْ صحيحاً، وترتيبُه أن يقولَ السائلُ: لمَّا كان اللهُ تعالى مُثْبَتاً بالعقل دونَ غيرِه، وكان الواجبُ فيما بيننا ألا نُثْبِتَ بالعقل إلا معقولًا، كما لا نثبتُ بالسَّمْعِ إلا مسموعاً، وكما لا نثبتُ بالبَصَرِ إلا مُبْصَراً، وكان وجودُ الفعلِ مما ليس بجسم في الشاهد غيرَ معقولٍ، وجبَ أن يكونَ جسماً لدخوله في قسم المعقولاتِ، وإلا فقد بَطَلَ أن يكونَ معقولًا، وكان تثبيتُه غيرَ معقولٍ، وهذا ما يدعيه الملحدون. وإنما صار هذا جواب تلك المسالةِ؛ لأنه خبرٌ عن كيفيةِ ما اعتلَّ به الجسْميُّ، فظنَ أنه برهانُ ذلك، وعلى السائل إذا ورَدَ عليه هذا الجوابُ أن يَطْعنَ فيه بغير تسليمٍ، فهو أَولى كما وصفنا، فإن أرادَ أخْذَ المجيب بطَرْدِ علَّتِه، قَدَّمَ على ذلك مقدمةً تُحررُ السؤالَ، فقال للمجيب (1): ألَيس إذا كان مثبَتاً بالعقول لم يَجُزْ أن يُعتقدَ فيه ما ليس بمعقولٍ؟ فإن قال المجيبُ: لا. نقَضَ علتَه، وكان للسائل أن يقولَ له: فلِمَ زعمتَ أنه جسمٌ لموضع المعقولِ، وأنت توجبُ إخراجَه من المعقول؟ أرأيتَ إن كان تثبيتُ المعقولِ واجباً لأنه معقولٌ، أليس يجبُ أن يكونَ كل معقولٍ واجبَ التثبيتَ إذ هو معقولٌ؟ فإن قال: بلى. قال له: فهلَّا قلتَ: هو
__________
(1) في الأصل: "المجيب"، وصوبناه بما يقتضيه السياق.

(1/314)


مؤلَّفٌ؛ لأنك لم تَعْقِلْ جسماً ولا فاعلًا إلا مؤلفاً.

فصل
واعلم أن المطالبةَ بطَرْدِ (1) العلَّةِ لا تكونُ طعناً في الجواب عن كيفيةِ البرهانِ إلا أن تكونَ مُضْطَرَّةً للمجيب عند مرورِه مع علَّتِه إلى نقضِه، وليس تكونُ مضطرةً إلى، ذلك إلا إذا ألزمته قولًا لا ملاءمة بينه وبين جوابِه في المَبْدأ، فيرجعُ عن جوابه خوفاً من ذلك القولِ وضَنّاً بمذهبه في تركه، وإنما تكون، كذلك إذا ألزمته نقضَ الحِسِّ الذي ينتقضُ بانتقاضِه كل جوابِ وكلُّ حقيقةٍ، أو إلجاؤه إلى نقضه قبل أن يبلغَ إلى علوم الحِسِّ، فلمَ يجد بُدَّاً من تَرْكِ كلِّ ما يعتقدُه، والإِقدام على كلِّ ما يكرهُه من النَّقْضِ.
مثالُ تمسُّكِه بمذهبه المفضي به إلى الخروج عن مذهبه: أن يُقالَ له: إذا كان الغائب جسماً وهو قديمٌ، فما تُنكرُ أن يكونَ مؤلَّفاً وهو قديمٌ؟ فيستمرُّ على الِإصرارِ على المذهب ضِنَّةً به، فيقول: لا أنكرُ ذلك، فيقالُ: فقد نَفَيْتَ الحَدثَ عن الأجسام، وقلتَ بقول أهلِ الدَّهْرِ، فأوجبَ ذلك عليك غَناءَ الأجسامِ عن صانعٍ؛ لأن القديمَ لا يحتاجُ إلى صانعٍ.
واعلم أنك إذا سلكْتَ هذا، وعلمْتَ أن السؤالَ والجوابَ لا يخرجان عن هذه الأقسامِ، ولا يَتوجَّهان إلا على هذه الوجوهِ، فلا تلتمسْها من غيرها، واصرفْ فكرَك في طلبها، فإنك إذا عرفت المَطْلَبَ
__________
(1) في الأصل:"بقود"، والذي يترجح لنا أنها محرفة عن "بطرد"، وهو ما أثبتناه.

(1/315)


اجتمعَ لك ذهنُك، وقَل تعبُك، وظَفِرْتَ ببُغْيَتِك، وسهُلَتْ عليك المسالكُ والجواباتُ، وانثالَت عليك انثيالًا من هذه الجهةِ، فأغنَتْك عن التَحفّظ لكلام غيرِك، ووقع لك باستخراجك ما سبقَك إليه غيرُك؛ لأن القرائحَ واحدةٌ، والمعْدنَ واحدٌ، وإنما يُضَلِّلُ أكثرَ الرجالِ التركُ والِإهمالُ، وقلَّ أن يَضِل متأمِّلٌ متدبِّرٌ (1) ناظرٌ متفكِّرٌ.

فصل
في بيان الانتقالِ عن السؤال
اعلم أن الانتقالَ عن السؤال هو: الخروجُ عما يُوجبُه أَوَّلُه من ملازمةِ السَّنَنِ فيه، وكذلك الانتقالُ عن الجواب.
مثال ذلك: قولُ السائلِ: ما الدليلُ على حَدَثِ الأجسام؟ فقالَ المجيبُ: الأعراضُ. فقالَ السائلُ: وما حَد الأعراضِ؟ فهذاَ انتقالٌ عن السؤال الأولِ -وهو السؤالُ عن حَدَث الأجسامِ- إلى سؤالٍ ثانٍ -وهو السؤالُ عن حَدَ الأعراضِ-، كانتقاله بقوله: وهل تبقى الأعراضُ؟ إذ كان هذا خروجاً عن سنَنِ السؤالِ الأولِ، وسؤالًا عن مذهبٍ آخرَ لا يُخِلُّ الخلافُ فيه بوجهِ الاستدلالِ على الحَدَثِ.
فإن أجابَ المسؤولُ عن هذا السؤالِ، كان خارجاً أيضاً مع السائلِ، ومثالُه من الفقه: أن يقولَ السائلُ للمسؤول: ما مذهبُكَ في الخمر، هل هو مالٌ لأهل الذِّمَّةِ؟ فيقولُ المجيب: هو مالٌ لهم. فيقول السائلُ: وما حَدُّ المالِ؟ فهذا انتقالى، فإن حد المالِ سؤالٌ مُستأنَفٌ، فإن شَرَعَ المجيبُ في جواب بيانِ المالِ فقد خرجَ مع السائلِ أيضاً.
__________
(1) في الأصل: "مدبر"، والجادة ما أثبتناه.

(1/316)


وهذا كثيرٌ مما يَتِمُّ بين المخِلِّين بآداب الجدلِ؛ لحرصهم على بيان معرفتِهم بما سُئِلُوا عنه، وما يَنبغي بيانُ المعرفةِ بجواب المسألةِ الثانيةِ بترك قانونِ الجدلِ في المسألة الأولى الذي هما فيه.
وذلك إذا خرجِ المسؤولُ من دليلٍ إلى دليلٍ آخَرَ قبل التَّمام للأول، كان انتقالَا منه، وإن- خرجَ بعد التَّمامِ، فليس بانتقالٍ في حكم الجدلِ.
واعلم أنه إذا دخلَ السائلُ دخولَ ملزِم بعد تَحقُقِ الخلافِ بينه وبين المسؤولِ فلا يجوزُ له أن يَخْرُجَ عن سنَنِ الإِلزام إلى أن ينتهيَ إلى تحقيق أنه لازمٌ، فكلما حاول، الخصمُ أن يهربَ منه، ردَّه إليه.

فصل
في تقاسيم الانتقالِ
والانتقالُ على أربعة أقسام:
انتقالٌ من مذهب إلى مذهبٍ، وانتقالٌ من عِلةٍ إلى عِلَّةٍ، وانتقالٌ من إلزامٍ إلى إلزامٍ، وانتقالٌ كل من تسليمٍ إلى ممانَعةٍ ومنازَعةٍ.
والأصولُ التي يَبْني عليها المجيبُ لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن يكونَ أصلَاً مشهوراً؛ فإق المجيبَ لا يتكلمُ في فرعه إلا بعد التسليمِ له، أو لا يكون كذلك، فإن كان كذلك، فنازعَ السائلَ فيه كانت منازعتُه انتقالًا؛ لأنه نازعَ فيما يجبُ تسليمُه، فكأنه قد سلَّمه، ثم نازعَ فيه، وإن لم يكن الأصلُ كذلك كان للسائل أن ينازعَ فيه.
فإن قال السائلُ: ما الدليلُ على صِحةِ الاجتهادِ؟ فقال المجيبُ:

(1/317)


إجماعُ الصحابةِ على الرضا بالاختلاف في الفُتْيا. فإن قال السائلُ: وما الدليلُ على أن إجماعَهم حقٌّ؟ فقال المجيب: شهادةُ القرآنِ لهم بالتعديلِ، فقال السائلُ: وما الدليلُ على أن القرآنَ صحيحٌ؟ فقد انتقلَ أسوأَ انتقال؛ لأنه معلومٌ أنه لا يُتَكَلمُ في الاجتهاد إلا بعد التسليم بصحَّة القرآن. فهذا انتقالٌ من مذهب مشهورٍ إلى مذهب.
والانتقالُ من علَّةٍ إلى علَّةٍ: مثلُ أن يَستدِلَّ بعلةٍ، فلا يُمْكِنُه إجراؤها، فينتقلُ إلى غيرها.
والانتقالُ من إلزامٍ إلى إلزامٍ: مثل أن يُلْزِمَ مسألةً على مذهبه تَدُلُّ على فساد دليلِه أو مذهبه، فلاَ يُسَلمُها، فينتقلُ إلى إلزام غير تلك المسألةِ.
والانتقالُ من تسليم إلى ممانعة: مثلُ أن يُسلم له حكماً، فإذا ضاقَ عليه التسليمُ، عادَ يَمنعُ ما سَلمَه، فهذا كُلُّه انتقالٌ يصيرُ به منقطعاً بحكم الجدلِ.

فصل
في إسقاط السؤالِ
اعلمْ أن الرفعَ للسؤال إنما يقعُ بالبيان أنه يتساوى فيه الخصمان، وإذا تساوى فيه الخصمان، لم يكنْ على أحدهما دون الآخَرِ، ولا أحدُهما بالجواب عنه أَحق من الآخر.
ويحصلُ إسقاطُ السؤالِ بالتسوية بين الحكمين في أنه إن صَحَّ أحدُهما صَحَ الآخرُ، وإن فسدَ أحدُهما فسدَ الآخرُ، من غير بيانٍ لصحته، أو إفسادِه، وكذلك يسقطُ بالتسوية بين العِلتين.

(1/318)


بيانُ ذلك: سؤالُ السائلِ الرافضيِّ بأن يقولَ: إذا كان قوله لأبي بكرٍ: {لا تَحْزَن} [التوبة: 4] لا يخلو من أن يكونَ طاعةً أو معصيةً، ولم يَجُزْ للرسول أن ينهاه عن طاعةٍ، لم يَبْقَ إلا أن حُزْنَه كان معصيةً لا مَحالَةَ، فقال له السُنِّيُّ: إذا كان قوله لموسى: {لا تَخَفْ} [هـ: 68، والنمل: 10]، لا يخلو من أن يكونَ طاعةً أو معصيةً، ولم يَجزْ أن ينهاه الله عن طاعةٍ، فخَوْفه معصيةٌ لا مَحالةَ، فقد سَوَّى بين الأمرين، ولم يجبْ عنه هل هو معصيةٌ أم لا؟ وإنما تَضَمَّنَ التسويةَ التي تُسقِط المسَألةَ عنه؛ إذ كانت على خصمه مثلَها عليه.
فاعرفْ هذه الطريقةَ في الجدلِ، فإنها طريقةٌ حسنةٌ تُلجِىءُ المبْطِلَ إلى مثل جواب المحِقِّ، وإذا خِفْتَ أن يلتبسَ الأمر على بعض من حضَرَ، فلا بأسَ أَن تجيبَ بعد البيانِ لإِسقاطِ السؤالِ.

فصل
في المطالبة بـ "لِمَ"
وهو من فصول السؤالِ، وبيانِ ما يَحْسن أن يطالَبَ فيه بـ"لِمَ"، وإلى ماذا ينتهي، و [ما] (1) لا يَحْسُن بعده "لِمَ".
اعلم -وفَّقَك الله أنه يحسن إلى أن يبلغَ إلى حدٍّ يقتضي فيه المقدِّمة للحكم، وأن يقتضيَها العقل، وسواءٌ كان ذلك على حُجَّةٍ، أو على شبْهَةٍ في أنه تَسقطُ المطالبة بـ "لِمَ"، وتصير المطالبة بالانفصال من الإِلزام.
__________
(1) زيادة لا بد منها لاستقامة المعنى.

(1/319)


فإذا قال السائلُ: لِمَ كان الذمُّ لا يُستحق إلا على فعل أوكسب؟ فقال المجيبُ: لأن الذمَّ لا يستحقُّه إلا مسيءٌ. لم يَحْسُنْ بالسائل أن يقولَ: ولِمَ كان الذمُّ لا يَستحقُه إلا مسىءٌ؟ لأن هذا مما لا يُخالَفُ فيه في قضايا الشرائعِ والعقولِ، ولكنْ له أن يقولَ: ولِمَ إذا كان الذمُّ لا يقتضيه إلا مسيء، لا يُستحق إلا على كسب أو فعل؟ فإن قال المجيبُ: لأنه لو لم يَستحقه المسيءُ على فعلٍ، لم يَصِرْ (1) مستحِقاً له بعد أن لم يكنْ مستحِقاً، بل كان يجبُ أن يبقى على ماكان من حكم الأصلِ، وهو نَفْيُ استحقاقِ الذَّمِّ.
فليس للسائل أن يقولَ: ولِمَ إذا لم يَتغيرْ أمر، وجبَ أن يكونَ على ما كان؟ لأن الذي يقتضيه العقلُ في الأصل البراءةَ من كلِّ عقوبةٍ، والذمُّ نوعُ عقوبةٍ يقابَلُ بها المسيءُ.
ومثالُه من مسائل الفقهِ: أن يقولَ السائلُ الحنفي للمسؤول الشافعى أو الحنبليِّ- في إحدى الروايتين-: لِمَ وجبتِ المماثلةُ في القِصاص (2)؛ فيقولُ: لأنه مقابلةٌ ومكافأةٌ ومجازاةٌ، فيقولُ الحنفى: ولِمَ
__________
(1) في الأصل: "يصير".
(2) لا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف عند الحنفية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: يقتص من القاتل على الصفة التي قَتَلَ بها، فمن قتل بمثَقَّلٍ كحجروغيره، قُتِلَ به، ومن قَتلَ تجويعاً أو تغريقاً أو نحوه، قتِلَ كذلك.
وهذا في الجملة، وإلا فإنهم قد استثنوا بعض الحالات التي لا تجوز فيها المماثلة؛ لأنها محرمة في ذاتها، فيتحين فيها السيف، ما إذا أوْجَر =

(1/320)


إذا كانت مقابلةٌ، وجبَ أن تكونَ على وجه المماثلةِ؟ فيقولُ الشافعيُّ: لأن الله تعالى قال: {فعَاقِبُوا بمثْلِ ما عُوقِبْتُم به} [لنحل: 12] و {جَزاءُ سَيئةٍ سيئةٌ مِثْلُها} [لشورى: 4]، فلا يَحْسُنُ بالحنفيِّ أن يقولَ: ولِمَ إذا قال الله سبحانه ذلك، وجَبَ اعتبارُه؟ بل يكونُ عدولُه عن قوله: ولِمَ؟ إلى قوله: إن المماثلةَ ها هنا هي أخذُ النَّفْسِ بالنَّفْسِ والطَّرَفِ بالطَّرَفِ دون كيفيةِ الجِراحِ، ونَصْرِفه عن ظاهرِه بدَلالةٍ نذكرُها.

فصل
وفي الجملة: إن الذي تنتهي إليه "لِمَ": هو أن يبلغَ المسؤولُ بالجواب عن المطالبة إلى غاية الثِّقةِ بالمعلومات القَطْعيَّاتِ في أصول الدِّينِ، وإلى شهادة الكتابِ أو السُّنَةِ، أو شهادةِ الأصول في مسائل الفقهِ المظنوناتِ.
وتنقطعُ المطالبةُ بـ "لِمَ"، إذا انتهى المسؤولُ إلى قَضيَّةِ العقلِ أو الشرعِ المؤثوق بها التي يصيرُ قولُ السائلِ بعدها: "لِمَ" كالعَنَتِ والإِعناتِ (1) للمسؤول، أو إلى إجماعٍ منهما على كون ما عُلَقَ الحكمُ
__________
= المجنيَّ عليه خمراً حتى مات، أو قتله بالسِّحْر، وما أشبه ذلك، على خلاف بينهم في بعضها. انظر "الاختيار لتعليل المختار" لعبد الله الموصلي 5/ 28، و"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد 2/ 404، و"مغني المحتاج" للشربيني 4/ 44 - 45، و"المقنع" لعبد الله بن قدامة المقدسي مع "حاشيته" لسليمان بن عبد الله 3/ 358 - 359.
(1) العَنَتُ: دخول المشَقَّةِ على الإنسان، ولقاءُ الشدَّةِ، يقال: أعْنَتَ فلان فلاناً إعناتاً، إذا أدْخَلَ عليه عَنَتاً، أي: مَشَقةً. "اللسان" (عنت).

(1/321)


عليه سبباً.

فصل
وليس عليه أن يَضْطَر الخصمَ إلى العلم، وإنما الواجبُ عليه أن يُورِدَ عليه ما يقتضي عقلُه صِحَّتَه، فإذا تأَمَّله، علم إن كان حُجَّةً، ولم يَعْلَمْ إن كان شبهةً، وعلامةُ ذلك: الثِّقةُ التي يجدُها العاقلُ عند الفكرةِ، والشبهةُ لا توجدُ بها الثقةُ.
وأكثرُ المطالبةِ بـ "لِمَ" ليُفتحَ وجهُ المطالبةِ بالإِلزام، وأخذِ المجيبِ بإجراءِ الاعتلالِ، وقد يَتِمُّ الغرضُ فيها بالتَّعجيزِ عن إقامة البرهانِ، وهو إذا وقَعَتِ المطالبةُ بـ "لِمَ" إلى أن تنتهي إلى دعوى عَرِيَّةٍ عن الشُّبهةِ.
وعجزُ السائلِ: أن لا يَنْزِعَ (1) عن "لِمَ" مع تبليغ المسؤولِ به إلى الثِّقةِ.
__________
(1) أي لا ينتهى، قال في "القاموس" (نزع): نَزَعَ عن الأمور. نُزُوعاً: انْتَهى عنها.

(1/322)


فصل

في بيان الاحتجاجِ في المختلَفِ فيه، وسلوكِ المراتب الواجب سلوكُها.
اعلمْ -وفَقَك اللهُ- أن للعلوم مراتبَ وقعتْ مواقعَها لأعيانها، فلا يَسُوغُ لك (1) تغييرُها.
فمنها: ما هو أصلٌ وليس بفَرْعٍ، نحوُ علمِ الحِسِّ الذي إليه الانتهاءُ، وهو الغايةُ في إسناد المقدِّماتِ إليه للبناءِ عليه، والاستخراجِ منه، فإن العلمَ الاستدلا إنما يُسْنَدُ إلى الضروريِّ، والضروريُّ موضعُ الاتفاقِ، وما يزالُ المختلَفُ فيه مردوداً (2) إلى المتَفَقِ عليه، فعلم الحِسِّ أصلٌ لا يكونُ فَرْعاً لغيره؛ لأنه لم يُبْنَ على غيره وليس قبلَه شيءٌ.
ومنها: ما هو أصلٌ وفَرْعٌ، نحو العلمِ بالمحدَثِ، وكل شيءٍ يَثبتُ عليه غيرُه فهوأصل لمايَثبتُ عليه، وكل شيءٍ بُني على غيره فهوفَرْعٌ له، وليس يمكن أن يقعَ الفرعُ موقعَ أصلِه، ولا يجوز أن ينتقلَ الأصلُ إلى موضعِ فرعِه حتى يكونَ العلمُ بأنَ الشيءَ محدَث قبل العلمِ بأنه
__________
(1) رسمت في الأصل: "ذلك"، ولعل صوابها ما أثبتناه.
(2) في الأصل: "مردود".

(1/323)


حادثٌ، وأصلًا له؛ حيث كان حدوثُ الشيءِ محسوساً لوجداننا له بعد أن لم يَكنْ، ويحتاج في العلم بأن له محدِثاً إلى نوعِ تَأَملٍ ينتهي به إلى العلمِ بمحدِثه، فنعلمه محدَثاً بعد ما علمناه حادِثاً، فهذا ترتيبٌ لايمكن وقوع العلمِ إلاعليه.
ولا يمكن أيضاً أن يكونَ العلمُ بأنه حادثٌ قبل العلمِ بأنه موجودٌ، ولو جازَ هذا، لجاز أن يكونَ علمُ الاستدلالِ قبل علومِ الحِسَ، وأصلًا لها.
وكذلك في الظُّنون في مسائل الفروعِ؛ فإنه لا يجوزُ أن يسبقَ إلى ظَنِّنا تحريمُ التفاضلِ في الأَرُزِّ، ولا تحريم النَّبيذِ قبل أن نعلمَ تحريمَ الخمرِ، وقبل أن يَغلِبَ على ظنِّنا تحريم التفاضلِ في البُرِّ والشَّعيرِ، إذ كان تحريم النَّبيذِ مبنياً على تحريم الخمرِ، وتحريمُ التفاضلِ في الأرُزَ مبنياً على تحريم التفاضلِ في البُرِّ.

فصل
وإذا كان أصلُك في استدلالِك هو فرعاً (1) من علوم الاستدلالِ فلا تبعِدْ سؤالَ سائلك أن يكونَ إنكاراً؛ لأن المختلَفَ فيه لا يَبعد إنكارُه، كما لم يَبعُدْ ذلك في الفرع لكونه مختلَفاً فيه، فأبداً لا تَسْتَبْعِد (2) السؤالَ عن الأصل إذا كان فرعاً من علوم الاستدلالِ، بخلاف ما أصله الضروريّاتُ؛ فإنه لا يَسوغ السؤالُ لموضع الاتفاقِ على الضَّروريّاتِ، وبخلاف ما إذا كان الأصلُ في الاستدلال في المسائل الفقهيَّةِ مجمَعاً
__________
(1) في الأصل: "فرع".
(2) في"الأصل": "لا تستبدع"، والأولى ما أثبتناه.

(1/324)


عليه، أو منصوصاً عليه، فإنه يصيرُ في قُبْحِ السؤال عنه بمنزلة قُبْح السؤالِ عن الضَّروريات في مسائل الأصولِ.
ولا يجوزُ لك أن تدلَّ على المختلَف فيه بالمختلَف فيه؛ لأن الذي أحوجَ أحدَهما إلى الدليل -أعني مسألةَ الفرع- هو الاختلافُ، وإلا فقد كان الاتفاق مغنياً عن الدَّلالةِ، وهذا بعينه قائمٌ في الآخَرِ المستدَلِّ به، فكيف يُستدَلُّ به؟ ولو استغنى بعضُ المختلَفِ فيه عن الدَّلالةِ لاستعنى جميعُه عن الدَّلالةِ، كما أنه لو احتاجَ بعض المتَّفَقِ عليه إلى دَلَالةٍ لاحتاجَ جميعُه إلى دَلالَةٍ.

فصل
ومن المختلَف فيه ما يكونُ حقَاً، ولا يخرجُه الخلافُ فيه عن جواز البناءِ عليه، والِإسنادِ إليه، ولا يمنعُه كونُه لم يقعْ بحِسٍّ أن يُبْنى عليه، وذلك أن خروجَه عن الحِسَ لم يُبطِلْه، وإذا لم يُبطلْه، كان صحيحاً مع وجودِ الخلافِ فيه، فكم من صحيحٍ اختُلِفَ فيه، لاختلاف الناسِ في إدراكِ الصِّحَّةِ والفسادِ، وإذا كان صحيحاً، فالصَّحيحُ لا يُؤدِّي إلا إلى، الصِّحَّةِ ولا يثمرُ إلا الصَّحيحَ.
فإذا كان له وجهُ دلالَةٍ كانت صحيحةً، وذلك مثلُ رجوعِنا في الأصول إلى المحسوساتِ، وإن خالفَ فيها السُّوفسطائيَّة (1)، ولم يمنعْنا خلافُهم إيّانا من تعلقِنا بها، وبنائِنا عليها، وإسنادِنا إليها، ومثلُ خلافِ من خالفنا فرب امَّهاتِ الأولادِ في نفي جوازِ بَيْعِهنَّ (2)، لا يمنعُنا ذلك
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة (202).
(2) أم الولد: هي التي ولدت من سَيِّدها في ملكه ما فيه صورة. =

(1/325)


أن نقيسَ على أُمِّ الولدِ غيرَها، ولا يمنعُنا الخلافُ في المُتْعةِ أن نقيسَ عليه نكاحَ المُحَللِ (1).

فصل
ومن علوم الحسِّ ما بعضُها أقوى من بعضٍ، كالمشاهدةِ آكَدُ من اللَّمْسِ، والاستماعُ للفهم آكدُ من الإِشارة، وليس يجبُ لذلك أن
__________
= وعدم جواز بيع أمهات الأولاد، أو التصرف فيهن بما ينقل الملكية كالهبة والوقف والوصية وغير ذلك، هو قول عمر وعثمان وعائشة، ومذهب أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار كالشعبي والنخعي وعطاء وربيعة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم الظاهري.
وأجاز بيعهن أبو بكر الصديق وعلي وابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري، وهو مذهب داود وأبي بكر انظر "اللباب في شرح الكتاب" لعبد الغني الغنيمي 3/ 122، و"مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" لأبي عبد الله الحطاب 6/ 355، و"بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد 2/ 392 - 393.
و"كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار" لأبي بكر الحصني ص 510 - 511، و"المغني" لابن قدامة 14/ 580 و 584 - 585، و"كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي 4/ 569، و"المحلى" لابن حزم 6/ 217 - 219.
(1) المحلِّل: هو الذي يتزوج المرأة المطلقة ثلاثاً ليُحِلها لزوجها الأول.
والتحليل حرام لا يجوز في قول عامة أهل العلم، ولكن اختلفوا في صحة العقد الذي فيه اشتراط التحليل، وفي إباحة المبتوتة للزوج الأول به: فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه باطل لا تحل به للزوج الأول، وذهب أبو حنيفة إلى أنه صحيح تحل به لزوجها الأول. انظر تفصيل المسألة في "البناية في شرح الهداية" 4/ 624 - 627، و"بداية المجتهد" 2/ 58 - 59، و"تكملة المجموع" 16/ 255 - 256، و"المغني" 10/ 49 - 50، و"المبدع في شرح المقنع" 7/ 85 - 86.

(1/326)


يكونَ البناءُ على القويِّ دون غيرِه، ولكنَ الوجهَ أن يكونَ البناءُ على متَفَقٍ عليه، ولا يُطلَبُ بعد الاتفاقِ غايةٌ.

فصل
ومن مانعَ أصلاً وناكرَه، فشرعَ في الدَّلالة عليه بطريق الاستدلالِ الذي يُسْلَكُ مثلُه في الفرع، فأبى ذلك طلباً للإِسناد إلى أصلٍ لا يَحتاجُ إلى دَلالةٍ، فقد ظلم وخرجَ عن قانون الجدلِ إلى الإِعناتِ، وكان في هذا بمثابة من قال: أوْصِلُوني إلى آخِرِ المسافةِ من غير أن تَسْلُكُوا بي في وَسطِها أو تَمُرُّوا بي على أَوَّلِها.
فيقال لمن سلكَ هذا: يا هذا، إنَّا لا نَدَعي أنَا وصلنا إلى معرفة ما سألتَ عنه، ولا إلى معرفةِ الأصلِ الذي أسنَدْنا إليه وناكَرْتنا فيه إلا بهذا الطريقِ، فإن أردتَ معرفتَه من الوجه الذي منه عرفناه، عَرَّفْناكَه وعَلِمْتَه، وإن أبَيْتَ ذلك، فلسنا نَقْدِرُ على غيرِه.
وكان أيضاً بمثابة من قال: لو كان اللَّوْنُ حقاً لوصلتُم إلى معرفته من غير طريق البصرِ، وهذا واضحُ الفسادِ، ولا بُدَّ من إحكام هذه الأمورِ، وإلا وقعَ في التَّخليطِ.

(1/327)


فصول
الحُجةِ والشُّبْهَةِ
فصل
في جوامع العلمِ بالحُجةِ
اعلم أن الحجَّةَ: مقدَمةٌ صادقةٌ، لها شهادةٌ على الحقيقة (1).
وإنما قلنا: لها شهادةٌ على الحقيقة؛ لأن من المقدِّماتِ ما له شهادة على التَخَيُّل دون الحقيقةِ، وهي الشُّبهةُ (2).
ومعنى قولنا: مقدِّمةٌ: كلُّ ما إذا قُدَمَ فكان أوَّلاً ظهر منه ثان، كائناً ما كان، وهي التي يسمِّيها الفقهاءُ وصفاً، فكما يكونُ القياسُ ذا وصفٍ ووصفين وثلاثةِ أوصافٍ، تكونُ الحجةُ ذاتَ مقدمةٍ ومقدمتين وثلاثِ
__________
(1) قال الجرجاني في "التعريفات" ص 82: الحجة: ما دل به على صحة الدعوى، وقيل: الحجة والدليل واحد.
(2) قال الآمدي في "المبين من معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 47: وأما المشبهات فما أوجب التصديق بها تخيل كونه من قبيل ما سبق من الأقسام يعني بالأوليات والمتواترات والمشهورات والمظنونات، كاعتقادنا أن نصرة الأخ عند كونة ظالماً مشهور، أخذاً من قول الجمهور: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وعند التحقيق تبين أنه ليس بمشهور، وأن المراد به إنما هو دفعه عن الظلم، وكفه عنه.

(1/328)


مقدِّمات، إلى أن تنتهيَ إلى نتيجةٍ صادقةٍ، والحكمُ في قياس الفقهاءِ، هي النتيجةُ في الأصول بلغةِ الأصوليِّين.
ولا تخلو شهادةُ الحجةِ من أن تُعلمَ بأول وَهْلةٍ أو بأدنى فِكْرَةٍ، ولا تخلو الحجَّةُ من أن تظهرَ شهادتُها عند الإِشارةِ إليها، أو لا تظهرَ، فإن لم تظهرْ عند الِإشارةِ إليها، فإنَّما ذلك لأنه أُشيرَ إليها من وجهٍ لا يتعلَقُ بالحكم، مثال ذلك: قول القائل: كلُّ جسمٍ فهو جوهرٌ، فالجسمُ لا يشهد من وجهِ أنه جوهرٌ على أَن له صانعاً، ويشهدُ من وجهِ أنه كان بعد أن لم يكنْ على أن له صانعاً، فقد بأن أنه يُذكرُ من وجهٍ ولا تكونُ له شهادةٌ، وُيذكرُ من وجهٍ آخر فتظهرُ له شهادة.
بيانُ صحةِ ذلك: أنك إذا قلتَ: إذا كان الجسم بعد أن لم يكنْ، فلا بُدَّ له من مكوِّنٍ. فهذا شهادةٌ، ولو قلت: إذا كان الجسمُ جوهراً، فلا بُدَّ له من مكوِّن. لم يكن هذا شهادةً، ولا له صحةُ الشهادةِ.
وكذلك تقولُ: إذا كان محكَماً متقَناً، فلا بدَّ له من عالمٍ أحكمَه وأتقنَه. ولا يصحُّ أن تقولَ: إذا كان معدوماً بعد أن لم يكنْ معدوماً، فلا بُدَّ له من عالمٍ أعدمَه. ولكن الذي يصحُّ أن تقولَ: إذا كان معدوماً بعد أن لم يكن معدوماً، فلا بُد من معدِمٍ أعدَمه وجعلَه معدوماً. ويَحسُنُ أن تقولَ: الجسم دالٌّ على الصانعَ المدبِّر. نعني من الوجوهِ التي بَيَّنَّا.
والمثالُ من مسائل الفروعِ: إذا قلتَ: النَبيذُ محرَّمٌ من حيث إنَّه مائعٌ أو مشروبٌ، فهذا لا يصحُ؛ لأن كونَه مائعاً ومشروباً لا يشهدُ بالتحريم، فإذا قلتَ: النَّبيذُ أو الخمر يشهدُ بالتحريم من حيث كونه

(1/329)


مشتدَّاً أو مسكراً. كان قولاً صحيحاً وشهادةً صحيحةً.
وهذا بعينه الذي يُسَمِّيهِ الفقهاءُ: التأثيرَ وعدَمَ التأثيرِ، فالذي له شهادةٌ بلغة الأصوليين هو الذي له تأثيرٌ بلغة الفقهاءِ، والذي لا شهادةَ له هو الذي يقول الفقهاءُ: لا تأثيرَ له، ويقولُ الخراسانِيُّونَ: لا إخالةَ (1) له.

فصل
وكل حُجَّةٍ فهي بمنزلة الناطقةِ بأن الحكمَ حقٌّ أو باطلٌ من حيثُ يجد العاقل معنى النُّطقِ في نفسِه عند خُطورِ المعنى على قلبه، والاعتمادُ على معنى النُطقِ لا على النُّطقِ، وإنما يجد العاقل كأَنَّ مخاطِباً يخاطبُه بأن المذهبَ صحيحٌ أو فاسدٌ؛ للاعتماد على ما يجدُه من معنى الخِطابِ، لا على نفْسِ الخِطابِ.
والحجَّةُ والدَّلالةُ والآيةُ والعلامةُ نظائرُ، وكذلك الدَّليل والبرهانُ، ينوبُ بعضُها مَنابَ بعضٍ في أكثر المواضعِ.
والأصلُ في الدَّالُ إنما هو المظهِرُ للدَّلالةِ، وكذلك الدَّليلُ على مذهب المتكلِّمين، وهو عندنا: المرشِدُ إلى المطلوب -وهو المدلولُ-.
وإنما سُمِّيَتِ الدَّلالةُ دليلاً من حيث إنَّها كالناطقة في الحكم بالصِّحَّةِ أو بالفسادِ.
__________
(1) الِإخالة: هي المناسبة، وسميت إخالة؛ لأن الناظر إليها يخال -أي: يظن- أنها علة. انظر "إرشاد الفحول": 214، ومختصر ابن الحاجب 2/ 239.

(1/330)


وكلُ حُجَّةٍ فهي بيانٌ يشهدُ بمعنى حكمٍ من الأحكامِ.

فصل
ولا يخلو البيانُ الذي هو حجَّةٌ من خمسةِ أقسامٍ: لفظٍ، وحَظ، وعَقْدٍ، وإشارةٍ، وحالةٍ.
وكلُّ ذلك إنما يكون حجَّةً إذا كان حقاً في نفسه وشهادتِه، وإذا كان في أحدهِما دون الآخرِ فهو شبهةٌ.
ودلالة اللَّفظ والحظ التي تكون حجَّةً: إنما هو في القضايا التي تشهد بمعنى قَضِيَّةٍ أخرى، وذلك مثل قولِك: زيد مسيءٌ، وكل مسيءٍ فهو مستحِقٌّ للذَّمِّ، فزيدٌ مستحِق للذَّمِّ، وكذلك لو قلتَ: زيدٌ ظالمٌ أو جَائِرٌ، وكذلك لو قلتَ: الأجسام لم تَسبِقِ الأعراضَ، وكلُ ما لم يَسبِقِ الأعراضَ حادثٌ، فالأجسامُ حادثةٌ. فهذا بيانٌ من جهة اللَّفظِ والحظ.
فأمَّا البيان [من جهة العقد] (1): فلو اعتقدتَ معنى المقدِّمةِ التي ذكرت لك، لظهرَ منها معنى الحكمِ، وإن لم يكن هناك قولٌ.
وأما البيانُ من جهة الإِشارةِ: فهو كالإِشارةِ إلى ما فيه الدَّلالة إذا كنتَ طالباً لها، فأشيرَ لك إليها، وهذا غايةٌ في المثال.
وأما الحالُ: فدَلالتها تظهر بأن يكونَ عليها الشيئُ ثم يزولَ، أو لا يكونَ عليها ثم يصيرَ، كخروج الجسمِ من حال إلى حال تنقلبُ الأعراضُ عليه في علم الأصولِ، وكخروج العينِ من حكمٍ إلى حكمٍ
__________
(1) ما بين حاصرتين ليس في الأصل، ولا بد منه لتمام المعنى.

(1/331)


في الفروع، مثالُه: خروجُ الطِّفْلَةِ بالبلوغ إلى حَيزِ التَكليفِ والرشْدِ، فيستدلُّ بتلكَ الحال على تغير حالِ الوَليِّ من رُتْبَةِ الإِجبارِ إلى رتبةِ الاستئذانِ لها في نكاحها، وخروجُ العبدِ بالتَكاتب من حال تملُّكِ سيِّدهِ لأُرُوشِ (1) جناياته وأكسابه إلى حالٍ صار هو المالكَ لها، أو [خروج الخمر بالتخلُّلِ من عدم اَلماليةِ إلى المالية] (2)، فمنعَ ذلك من خروجِ العصيرِ عن الماليةِ بحدوث الشَدةِ، وخروجِ العبد عن الماليَّة بالحُريةِ.
وكلُّ حجة تجبُ من جهة الحِسِّ فهي من باب الحالِ، لأن كلَّ حِسٍّ حالٌ.

فصل
وكلُّ حُجةٍ فلها تحديدٌ، ولها تعبير عن التَّحديدِ، ولايُخرجُها عن معنى الحجَّةِ كونُها ليست محدَّدةً؛ لأنها إذا ظهرَ صدقُها في نفسها، وأنها شاهدةٌ على الحقيقة لحكمها، فلم يُخِل بها أن تُذكرَ مع غيرِها، ولا أن يُحذفَ من لفظها، أو تُغيرَ عن ترتيبها بعد أن تؤديَ ما ذكرنا فيها.
وإن كنا نعلمُ أن تحديدَها إلى أن تَخْلُصَ على حقيقتها أبينُ لها
__________
(1) جمع أرْشٍ، وهو دِيَة الجِراحة، ثم استعمل في نقصان الأعيان؛ لأنه فساد فيها" المصباح المنير" (أرش).
(2) ما بين حاصرتين ليس في الأصل.

(1/332)


وأحسنُ لصورتها، لكنا لا نَبْخَسُ حفظَ المعنى حقَه من إيجاب حكمِها به.

فصل
وكل حُجةٍ فهي أصلٌ تشهدُ بالحكم، فإذا ظهرَ الحكمُ ولم يظهرِ الأصلُ، طُلِبَ ليُبْنى عليه ويُرَدَّ إليه، وإذا ظهرَ الأصل من الوجه الذي يَتعلَّقُ بالحكم، ظهرَ الحكمُ.

فصل
وكل حجه فإنه يَصحُّ أن يُدل عليها بالقضية، وكلُّ قضيةٍ فإنها لا تخلو من أن يكونَ لها شهادةٌ، أو لا يكونَ لها شهادةٌ، فإن كان لها شهادةٌ، فهي لا تخلو من أن تكونَ حجةً أو شبهة، وإن لم يكنْ لها شهادةٌ خرجتْ منهما جميعاً، ولم يُتكلَّمْ عليها إلا على طريق الشَّغْبِ (1) في المناظرة؛ لأن ما خلا منهما، فإنما هو محضُ الشَّغْبُ؛ إذ ليس يدنو عن الشبهة إلا الشَّغْبُ، كما لا يعلو عليه إلا الحجةُ، ولا معنى للاشتغال به في الجدْل.
فإن الكلامَ في هذا الشأنِ إنما يُعول فيه على الحجة لتظهرَ، والشبهةِ لتَبْطلَ، وما عدا هذا فهَذَرٌ يقطعُ الوقتَ، ويوجبُ السَّخائمَ، وهو الذي، رفِعَتْ بشؤمِه ليلةُ القَدْرِ (2)، وإليه انصرفَ نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) الشغب في اللغة: هو تهييج الشر والفتنة والخصام. "اللسان" (شغب).
(2) تقدم نص الحديث وتخريجه في الصفحة (249).

(1/333)


عن قيل وقال (1)، وقوله: "مِراءٌ في القرآن كفْر" (2)، والشَّغْب لا يَتَموه به مذهبٌ.

فصل
وأصلُ الحجَّةِ في اللُّغة: القصد، من قولهم: حَجَّ يحُجُّ؛ إذا قصدَ، ومنه: حَجَّ البيتَ؛ إذا قصدَه، فكأن الحجَّةَ أُخذت من المَحَجَّةِ، وهي الاستقامةُ في الطريق المؤدي إلى البغية.
وقد يقال للشُّبهة: حجةٌ داحِضَةٌ، ولا يجوز أن تطلقَ حتى يتبينَ أن المعنى فيه الاستعارةُ، مثلُ استعارتِهم البشارَةَ في الِإخبار عن السوء استعارةً، وإن كان الأصلُ الِإخبارَ بالخَير الذي يَسُرُّ، قال الله سبحانه: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]، وقال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، والتوبه: 34].

فصل
وكل ما تَطَرَّقَ عليه الاختلافُ مما ليس بأَولٍ (3) في العقل، فليس
__________
(1) أخرج أحمد 4/ 246 و249 و 250 و 255، والبخاري (1477) و (2408) و (5975)، ومسلم 1/ 1343 (593) عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
(2) أخرجه أحمد 2/ 258 و286 و300 و424 وه 47 و478 و494 و 503 و528، وأبو داود (4603) من حديث أبي هريرة.
(3) الأول في العقل: هو الذي بعد توجه العقل إليه لم يفتقر إلى شيء أصلا من حدس أو تجربة أو نحو ذلك، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، والكل =

(1/334)


لنا سبيل إلى، علمه إلا بحُجَّةٍ؛ من قِبَلِ أن المدعيَ له والمنكرَفيه سواءٌ إلا أن يكونَ مع أحدِهما حُجَّةٌ، فيَثْبُتَ مذهبَه دون الآخَرِ، وليس يجوزُ أن يَثْبُتا جميعاً؛ لأن أحدَهما يقول: هو حق. والآخَرُ يقول: هو باطلٌ.
لا اجتماعَ لهما في حكم واحدٍ، ولا حقيقةٍ واحدةٍ، وكذلك إذا قال أحدُهما: هو صدقٌ. وقال الآخرُ: هو كذبٌ. إذ لا اجتماعَ لهما في خبر واحدٍ، وسواءٌ كان ذلك في علم الدِّين، أو غيرِه من العلوم.

فصل
ولا يخلو الحكمُ الذي يظهرُ من الأصل على طريقة الحُجَّةِ من أن يكونَ فى معنى قضيةٍ واحدةٍ أو أكثرَ، فالحكمُ الذي يظهرُ من معنى القضيةِ الواحدةِ، كقولك: كلُّ مؤمنِ موحِّدٌ، أو ليس بمجسم. فالحكِمُ الذي يظهرُ من معنى هذه القضيةِ: أن بعضَ الموحِّدين مؤمن، وبعض من ليس بمجسِّمٍ مؤمنٌ، وكذلك قولك: كل إنسان جَوْهَر. فالذي يظهرُ من هذه القضيَّةِ: أن بعضَ الجواهرِ إنسانٌ.
وأما الحكمُ الذي لا يظهرُ إلا من أكثرَ من قضيةٍ، فكقولك (1: كلُّ شهيدٍ مؤمن، وكلُّ مؤمنٍ موحِّد 1). فيظهرُ من هاتين القضيتين: كلُّ
__________
= أعظم من جزئه؛ فإن هذين الحكمين لا يتوقفان إلا على تصور الطرفين، وهو أخص من الضروري مطلقاً. "التعريفات" ص 39.
وقال الآمدي في "المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 43 - 44: وأما القضايا الأولية: فما يصدق العقل بها من غير توقف على أمر خارج، عن تعقل) مفرداته، كالعلم بأن الواحد أقل من الاثنين، ونحوه.
(1 - 1) مكرر في الأصل.

(1/335)


شهيدٍ فهو موحِّدٌ.

فصل
وإذا أوردَ الخصمُ ما يقتضي صِحَةَ الحكمِ، وكان على طريقة الحُجَّةِ، لم يكن لخصمه أن يطالبَه بما الدَّليل على صِحَّتِه؟ ولكن له أن يطالبَه بما الدليلُ؟ من جهاتٍ ثلاثٍ:
إحداها (1): بما الدَّليلُ على صحَّة المقدِّمَةِ؟ بلغة الأصوليِّين، وهي عبارة عن الوصفِ في لغة الفقهاءِ، حتى يَردَّه إلى بديهةٍ، أو لعلمٍ بأدنى فكرةٍ، أو لاقتضاءِ (2) ضرورةٍ، أو إلى موافقةٍ، وتسليمِ جدلٍ يقوم مقامَ الموافقةِ في البناء عليه والرَّدِّ إليه في الأصول، أو إلى ظاهرٍ من جهة الكتاب، أو السُنَّةِ، أو إجماع الكافَّةِ، أو شهادةِ الأصولِ، أو اتفاقٍ بين المَتجادلَيْنِ في مسائل الفرَوعِ.
والثانية (3): أن يطالبَه بما الدَّليلُ على صحَّةِ الدَّعوى من المقدِّمة؟ -وهو المُسمَّى عند الفقهاءِ: تأثيرَ الوصفِ-، إذ كانت مقدِّمةً قد تَضَمنَت دعوىً أو دعاويَ، وله أن يطالبَه بأيِّها شاءَ قبل صاحبِه بلا ترتيب يَتعينُ عليه، وليس له أن يطالبَه بالدًعوَييْنِ في حالةٍ واحدةٍ؛ من قِبَل أنه إذا كان مطالِباً عن مسألتين في حالةٍ واحدةٍ، لم يكن ذلك إلا على انتقالً.
__________
(1) في الأصل: "أحدها"، والجادة ما كتبناه.
(2) "أو لاقتضاء": كتبها الناسخ: "والاقتضاء"، وهو تحريف.
(3) في الأصل: "الثاني"، وما أثبتناه هو الجادة.

(1/336)


الثالثة (1): أن يطالبَه بما الدَّليلُ على صحَّةِ شهادةِ المقدمةِ، إذا كان الخصمُ قد أوردَها من وجهٍ لا تظهرُ منه الشهادةُ.
وله أن يَعْدِلَ عن المطالبة بماهيَّةِ (2) الدَّلالةِ، ويأخذَه بالتَّفريع على الأصل الذي ذَكَرَه في مذهبهِ أو حجَّتِه، فيَلْزَمُه على ذلك الأصَلِ ما لا بُدَّ منْ أن يتفرع عنه ليَتبَّينَ فسادُ الأصلِ من جهة الفرع، فإن الصحيحَ لا يتفرعُ عنه الفاسدُ، كما أن الفاسدَ لا يُنْتجُ الصحَيحَ.
ولا يخلو ما يُورِدُه الخصمُ من أن يكونَ يقتضي صحَّةَ ما يدَّعيه، أو لا يقتضي، فإن كان لا يقتضيه، كان لك أن تطالبَه بوجه دلالتِه عليه، حتى يأتيَ بالوجه الذي منه تُتخيلُ الشهادةُ بالحكم، وإن كان ما أوردَه يقتضي صحَّةَ ما يدَّعي، لم يكن لك أن تسألَه عن وجه الدَلالةِ؛ لأنه قد ظهرَ، وإنما لك أن تسألَه من وجهٍ آخرَ على الرسْمِ الذي بَيَّنَا.

فصل
وكل برهانٍ أصل، فرعُه نتيجتُه، وهي المقالةُ والمذهبُ الذي يصحُّ به، ويظهرُ منه، فكل مقالةٍ ومذهبٍ فرع بالإِضافة إلى البرهان الذي هو الأصلُ.

فصل
وكلُّ حجةٍ فالطَّريقُ إلى استخراجِها: تحصيلُ القضايا التي لها
__________
(1) رسمت في الأصل: "الثالث".
(2) في الأصل: "بمايية"، وصححناه كما هو مثبت.

(1/337)


شهادةٌ -وقولُ الأصوليين: شهادةٌ، هو معنى قولِ الفقهاءِ: لها تأثيرٌ- ثم تمييزُ (1) ما توجدُ معه الثِّقةُ والسلامةُ من المناقضة مما ليس كذلك، فكلُّ قضيَّةٍ من استخراجِ الحجةِ، وكل حجه، فإن معناها قد يمكنُ أن تَختلِفَ الصُورةُ الدالةُ عليه: فمرَّةً تكونُ في صورةِ الخبرِ-وهو الذي عليه المعتمَدُ-، ومرَّةً تكونُ في صورةِ الاستخبارِ، ومرَّةً تكونُ في صورةِ الأمرِ، ومرَّةً تكونً في صورةِ النهي، وكل ذلك يحْصُلُ به في النَّفسِ معنىً يشهدً بمعنىً آخَرَ، ولذلك سُمِّيَت شهادةُ القضيَّةِ شهادةً، لِما يَحصُلُ في النَّفسِ من المعنى الشاهدِ بمعنىً آخرَ.
ولربما كانت الشهادةُ بالإِفصاحِ، وربما كانت بالتَّعريضِ في الكلام، أو في الحال، وكل معنىً كان في حصولِ العلمِ بمعلومٍ آخَر، فَهو دالٌّ عليه، إلا أن ذلك على ضربين: أحدهما: ما يستحيلُ حصولُ العلمِ بالأوَّلِ فيه دون الثاني، والآخرُ: لا يستحيلُ.
فالذي يستحيلُ إلا بحصول الثاني هو أوضحُ وأجْلَى، والذي لا يستحيلُ أغمضُ وأخفى؛ وذلك لأنه قد تعترضُ فيه شبهةٌ، فيُعلمُ الأولُ، ولا يُعلمُ الثاني دون حلِّ تلك الشُّبهةِ.
ويقال: إذا كان لا يصحُ حصولُ العلمِ بأحد المعنيين دون الآخرِ، فكيف صارَ الأولُ هو الدَّالَّ على الثاني دون أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما دالّاً على الآخر؟
فالجوابُ عن ذلك: لأن الأولَ هو الذي يَشهدُ بالثاني، وهو الذي يَشهدُ العقلُ بأنه لا يجوزُ أن يَصحَّ إلا ولا بُدَّ من أن يَصحَ الثاني،
__________
(1) في الأصل: "تميز".

(1/338)


وليس كذلك سبيلُ الثاني؛ لأن العقلَ لا يَشهدُ له بأنه إذا صَحَّ صَحَّ الأولُ، كما شَهِدَ الأولُ بأنه إذا صَحَّ صَحَّ الثاني، فمن هناك كان المعنى الأولُ هو الدالَّ على الثاني، ولم يَجبْ أن يكونَ الثاني دَالاً على الأولِ، ولكن الثاني يَلْزَمُ من الأولِ من حيثُ كان دَالاً عليه.
مثالُ ذلك: إذا صَحَّ أن زيداً قد كفَر، صَحَّ أنه مستحِقٌ للعقوبةِ، أو نقولُ: الذَّمِّ، وليس إذا صَحَّ أنه يستحقٌّ الذَّمَّ، صَحَّ أنه قد كفرَ؛ لأنه قد يستحقُّ الذَّمَّ بالفِسْقِ الذي لا يَكفرُ به.

فصل

في الفرق بين الحجةِ والشُبْهةِ
اعلم أن الفرقَ بينهما: أن مع الحجةِ الثقةَ بالمقدَمةِ في نفسِها وشهادتِها، وليس كذلك الشُبهةُ؛ إذ (1) كانت الثِّقةُ إنما هي بإحداهما دون الأخرى، أو تخيُّل الثقة فيهما من غير حقيقة، ولو لم يكن هناك ثقةٌ أصلاً ولا تخيلُ ثقةٍ، لم يكن حجةٌ ولا شبهةٌ.
وكلُّ ما يُتكلم عليه في الجدلِ، فلا يخلو من حجةٍ أو شبهةٍ أو شَغْبٍ، ومن أحبَّ سلوكَ طريقةِ أهلِ العلم، فإنما يتكلمُ على حجةٍ أو شبهةٍ، فأمَّا الشَغْبُ فإنما هو تخليط أهلِ الجدلِ، وهو ما أوْهَمَ الكلامَ على حجة أو شبهة، ولم يكُ في نفسه حجةً ولا شبهةً.
والشبهة: ما تُخُيِّلَ به المذهبُ في صورةِ الحقيقةِ، وليس كذلك؛ لأن المقدَّمةَ إن كانت صادقة، فشهادتُها بالمذهب على الحقيقةِ، وكلُّ
__________
(1) في الأصل: "إذا".

(1/339)


مقدمةٍ تقتضي المذهبَ فإنها لا تخلو من أن تكونً حجةً أو شبهةً، وكلُّ اقتضاءٍ يسلمُ من المناقضةِ فهوعلى حجةٍ؛ من قِبَلِ أنه لو سَلِمَ من المناقضةِ وهو شبهةٌ، لم يكن سبيلٌ إلى حلِّ تلك الشبهةِ، وليس الأمر كذلك؛ إذ كل شبهةٍ فلأهلِ الاستدلالِ سبيلٌ إلى حَلِّها؛ إذ لو لمِ يكن لهم سبيلٌ إلى حلِّها؛ لكان المبطِلُ والمحق يقفان فيها مَوْقِفاً واحداً، ولأن الذي يدلُّ على نقيضِ ما يدعو إليه من المذهب يَقدحُ فيها، وُيؤثِّرُ في حَلِّها؛ من حيثُ لا بُد من أن يكونَ إذا صحَّ الَمذهبُ فسدَ نقيضُه، وإذا فسَدَ صَحَّ نقيضه، وهذا مطَرِدٌ في كلِّ مذهبٍ.
والشُبهةُ: مقدِّمةٌ لها شهادةٌ بالتخيلِ لها في نفسها أو شهادتِها دون الحقيقةِ (1)، وهي في المثال شخصٌ يُشبهُ زيداً، أو صورةٌ تُشبهُ صورةً، أو صورةٌ تُنكَّرُ بغيرِها، مثلُ ما شُبهَ علىَ اليهود عيسى، فقالَ سبحانه: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، وقال: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41]، حتى قالت بعد التَنْكيرِ: {كَأنَّه هُوَ} [النمل: 42]، وذلك أنها إن كانت كاذبةً في نفسها، فإنما تُتَخيَّلُ صحتُها بما يوجدُ من الاقتضاءِ فيها الذي لا توجدُ معه الثقةُ، لا قبلَ التَّأملِ ولا بعدَه، وإن كانت صادقةً في نفسها، فالتخيُّلُ إنما هو في شهادتها، مثلُ (2) ما شُبِّهَ على موسى أن عِصيَّ السَّحَرَةِ تسعى.

فصل
وكلُّ حجةٍ فلا تخلو إذا وَردَت على النَفس من أن تظهرَ أنها
__________
(1) انظر الصفحة (328).
(2) في الأصل: "ومثل".

(1/340)


حجةٌ، أو لا تظهرَ، فإن كان لا تظهرُ، لم تَخْلُ الآفةُ في ذلك من ثلاثة أوجهٍ:
إمَّا لأنها مغيرةٌ عن الحَدِّ الذي ينبغي أن تكونَ عليه.
وإما لاعتراضِ شبهةٍ عليها تدعو إلى فسادِها.
وإما لأنها لم تُتَأَمَلْ حقيقةَ التأملِ كما يجبُ فيها.
فعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ مدارُ الآمةِ في الحجةِ التي تُوهِمُ أنها شبهةٌ.

فصل

في الفَرْقِ بين الحُجَّةِ والدَلالةِ
الفرقُ بيهما: أن الحجةَ لا بُد من أن تشهدَ بمعنى حكمِ غيرِها، وليس كذلك الدَلالةُ؛ لأنها قد يَحضرُ معناها للنَفسِ من غيرِ شهادةٍ بمعنى حكمِ غيرِها، مثالُ ذلك: قولُك: الجسمُ محدَثٌ، يشهدُ بأن له محدِثاً، فإن قلت: الجسمُ موجودٌ، لم يَشهدْ كشهادةِ الأولِ، فالذي يشهدُ بمعنى حكمٍ آخرَ حجةٌ، والذي لا يشهدُ بمعنى حكمٍ آخَرَ كالذي بَينَا من قولنا: الجسمُ موجودٌ، دَلالةٌ ليست حجةً.
وكلُّ حجةٍ فإن تأثيرَها هو تَمكُنُ المعنى في النفسِ بالشهادةِ له أنه حقٌّ، فأمَّا الدَلالةُ فليست كذلك، وإنما تأثيرُها إحضارُ المعنى للنَّفسِ، إلا أن العبارةَ بالدَلالةِ قد كَثُرَتْ حتى صارت تُوقَعُ مَوْقعَ الحجةِ، يقول القائلُ: ما الدَّلالةُ على كذا؟ ويريدُ: ما الحجةُ على كذا؟

(1/341)


وقد بَينْتُ لك الفرقَ بين معنيين تحتاجُ الى تمييزِهما، وعلم الفرقِ بينهما، وهو معنىً يُحضِرُ معنى آخَر، ولا يشهدُ أنه حق أوَ باطلٌ، فاعرف ما بَينْتُ لكَ مما تحتاجُ إلى علمِه وصحةِ تمييزِه في المعاني، ثم أَجْرِ (1) العبارةَ على العادةِ فيها، ولا تتعدَّ بها مواضعَها بما لايحسُنُ منها.
ومما يُوضَحُ لك الفرقَ في الاستعمالِ: أن إشارة الهادي إلى الطريقِ دلالةٌ عليه، وليس بحجةٍ، وكذلك النَّجمُ والرِّيحُ دلالةٌ على القبلة، وتغيُّرُ (2) الماءِ، أو تحرُكُه، أو آثارُ الماشي النَجِسِ الشَارب منه إليه، دَلالة على نجاستِه عند اشتباهِ الأواني، وليس بحجةٍ، والَاسمُ دلالةٌ على المسَمَّى وعَلَمٌ عليه، وليس بحجةٍ، والصِّفةُ مثلُ الشِّدَّةِ دلالةٌ على الموصوفِ، وليس بحجةٍ.
والفرقُ بين الحجةِ والدَّلالةِ؛ كالفرق بين دَلالةِ البرهانِ وبين دَلالةِ الكلامِ، وكلُّ حجةٍ فإنها لا بُدَّ من أن تُحضِرَ معنىً، إلا أن إحضارَها إنما هو للشهادةِ بالنتيجةِ عنها، فهي تُشارِكُ الدلالةَ من جهة الإِحضارِ للمعنى، وتنفردُ بالشهادةِ لغير المعنى الذي هي دالَّةٌ عليه بمنزلة العبارةِ عنه.
فكلُّ حجةٍ دَلالةٌ من حيث تُحضِرُ معنى الشهادةِ، ومن حيث هي بمنزلةِ النَّاطقةِ في النتيجةِ أنها صادقةٌ، وليس كل دَلالةٍ حجةً؛ لأنها قد تخلو من الشهادةِ بمعنىً سوى المعنى الذي تحتها بمنزلةِ العبارةِ.
__________
(1) كتبها الناسخ: "إجراء"، والصحيح ما كتبناه.
(2) في الأصل: "تغيير"، وما أثبتناه هو الأولى.

(1/342)


فصل
في مراتبِ الحُجَّةِ

اعلم أن مراتبَ الحجةِ مواضعُ المقدِّماتِ بلغة الأُصوليين، وهي أوصافُ العلَّةِ بلغة الفقهاءِ، على السياقَةِ من الأول إلى الثاني، ومن الثانى إلى الثالثِ، ومن الثالثِ إلى الرابعِ، ثم على ذلك إلى آخر مقدَمةٍ.
ولك أن تسوقَ المقدِّماتِ على طريقتين: من أولِها إلى آخرِها، ومن آخرِها إلى أولها، وسأضربُ لك مثلًا تتصوَّرُ به هذا المعنى إن شاء الله.
مثالُ السِّياقةِ من الآخِرِ إلى الأول: أن تقولَ: الاجتهادُ مبنيٌّ على الِإجماعِ، والِإجماعُ مبني على القرآن، والقرآنُ مبنيٌّ على الرِّسالةِ، والرِّسالةُ مبنيَّةٌ على المعجزةِ، والمعجزةُ مبنيةٌ على إثبات صانعٍ لا يجوزُ عليه تأييد كاذبٍ عليه بالمعجزةِ.
مثالُ السياقة من الأولِ إلى الآخِرِ: الرِّسالةُ مردودةٌ إلى المعجزةِ، والقرآنُ مردودٌ إلى الرسالةِ، والإِجماعُ مردودٌ إلى القرآنِ، والاجتهادُ مردودٌ إلى الإِجماعَ.
مثالُ السِّياقةِ في المقدِّماتِ التي هي قضايا: إذا صَحَّ الإِجماعُ صَحَّ الاجتهادُ، وإذا صحَ القرآنُ صحَ الإِجماعُ، وإذا صَحَتِ الرِّسالةُ صَحَّ القرآنُ، وإذا صَحَّتِ المعجزةُ صَحَّتِ الرِّسالةُ، وقد صَحَّتِ المعجزةُ، فيَلزمُ من ذلك بالسِّياقةِ أنه قد. صحَّ الاجتهادُ، وهذا من باب ما يَلزمُ بالوسائطِ.

(1/343)


مثالٌ في مسائل الفروع: إذا صحَ أن التَوبةَ ماحيةٌ للذَّنب، مُعيدةٌ للتَّائب إلى حكمِ الأصلِ، صحَ أن التائبَ من القَذْفِ عَدْلٌ عَائدٌ إلى حكمَ الأصلِ، وإذا صحَ أنه عدلٌ عائدٌ إلى ما كان عليه من الأصل، صحَّ أنه مقبول الشهادةِ، وزالَ حكمُ الرد، وقطِعَ التَّأبيدُ المذكورُ في الآيةِ (1) عن عمومِه وإرسالِه بهذا الدليلِ الموجب لتغليب ظن المجتهدِ عَوْدَ القاذفِ بالتوبةِ إلى ما كان عليه من الأصَلِ.

فصل

في الحُجةِ من جهة الضَّرورةِ والاكتسابِ
اعلم أن الحجةَ من جهةِ الضرورةِ لا تخلو من أن تكونَ في المقدمة، أو في الشَهادةِ، أو فيهما.
فالضرورةُ في المقدمةِ: كعلمِكَ بأن الجسمَ متحركٌ بعد أن لم يكن متحركاً، فلهذه المقدمةِ شهادةٌ إلا أنها ليست ضرورةً، ولكنَها تجبُ بأدنى فكرةٍ ما لم تعترض شبهة، وهي إذا كان الجسمُ متحركاً بعد أن لم يكن متحركاً، فلا بُد من حادثٍ لأجله كان متحركاً بعد أن [لم] (2) يكنْ متحركاً، فهذه الشَهادةُ تُعلمُ باكتسابٍ، والمقدَمةُ تُعلمُ باضطرارٍ.
__________
(1) يعني قوله تعالى في [الآية: 4 - 5] من سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
(2) سقطت من الأصل.

(1/344)


وأما الضَّرورةُ في الشَّهادةِ دون المقدمةِ: كعلمِكَ بأن الجسمَ لم يَسبِقِ الحادثَ، فهذه المقدمة تُعلمُ باكتسابٍ، وتعلمُ شهادتُها باضطرارٍ، وهي إذا كان لم يَخْلُ من الحادثِ، فهو حادث باضطرارٍ، وعلى هذين القسمين مدارُ علمِ الاكتسابِ.
وأما إذا كانت المقدَمةُ والشَهادةُ جميعاً ضرورةً، وقَعَتِ النَتيجةُ ضرورةً، وذلك في الأعدادِ والمقاديرِ، مثالُ ذلك: هذان عددان متساويان، أو خَطَّان متساويان، زِدْتَ عليهما متساوياً، وكلُّ عددين متساويين أو خَطَّينِ متساويين زِدْتَ عليهما متساوياً، فهما بعد الزِّيادة متساويان، فهذان العددان المشارُ إليهما بعد الزِّيادةِ عليهما متساويان.

فصل

في الحُجةِ من جهةِ المتَفَقِ عليه والمختلَفِ فيه
اعلم أنا الحجةَ من جهة المختلَفِ فيه لا تخلو من أن تكونَ في الأصل، أو في الفرع، أو فيهما، وكلُّ ذلك يجوزُ الاحتجاجُ به إذا كان فيه تقريبٌ من المتَّفَقِ عليه، أو ما يجبُ الاتفاقُ عليه مما هو أَوَّلٌ في العقل؛ لأنه لو وقِف على المتفقِ عليه؛ لعُطِّلت أدلَّةُ الشَّرعِ والعقلِ لأجل المعاندة في الخلافِ.

فصل
في تعليقِ الحُجَّةِ بالمذهبِ

اعلم أن تعليقَ الحجةِ بالمذهب هو شهادتُها له بالنَّفس أو بوسيطةٍ، ولا يخلو التعلقُ من أن يكَونَ على الإِيجاب أو عَلى الاقتضاءِ، والاقتضاءُ يرجعُ إلى الإِيجابِ بعد التأملِ للمقدِّمةِ والسَّلامةِ

(1/345)


من الشبهةِ.
وتعلقُ الحجةِ بالمذهب كتعلقِ الأصلِ بالفرع؛ من جهة أنه يَنشأُ عنها كما ينشأ الفرعُ عن الَأصلِ، إلا أن تعلقَ الَأصلِ بالفرع أعمُّ من تعلقِ الحجةِ بالمذهبِ، وهما في تَنَشُؤ الثاني عن الأولِ سواءٌ.
فشهادةُ المعجزةِ للنُبوةِ بالنفس، وشهادتُها للاجتهادِ بوسائطَ قد قدمنا ذِكْرَها (1) في الشواهد، وذلك لَأن بصحةِ المعجزةِ تَصِحُ النبوَّةُ، وبصحة النبوَّةِ يصحُ الكتابُ، وبصحةِ الكتاب يصحُ الإِجماعُ، وبصحةِ الِإجماعِ يصحُ الاجتهادُ.
والمعجزُة أيضاً مردودةٌ إلى مقدِّمةٍ قبلها، وهي وجوبُ كونِ الباري على صفةٍ لا يُؤيِّدُ معها كذّاباً بالمعجِزِ، ثم لا تزالُ المقدَماتُ تَتَرقّى مرتبةً بعد مرتبةٍ إلى الأوائلِ في العقل، وإذا عُلِّقَتِ (2) المرتبةً الأولى من الحجةِ بالمرتبةِ الأخيرةِ التي هي المذهبُ من غير بيانٍ عن الوسائطِ، قَبُحَ ذلك، وأنْكَره علمُ الاستدلالِ، فلا يجوزُ أن يقالَ بوجوبِ صحةِ الاجتهادِ دون أن يتبيَّنَ ذلك من جهةِ الوسائطِ التي بينه وبينه.

فصل

في أنواعَ الحُجةِ
اعلم أن الحجةَ قد تتنوعُ بتنوع المذهب، وليس كلما تنوَّعتِ
__________
(1) انظر ما سلف في الصفحة (343).
(2) في الأصل: "علت"، والأنسب ما أثبتناه.

(1/346)


الحجةُ فإنما هو لتنوُّع المذهب، لأَنه قد تكَونُ حجةٌ واحدةٌ على مذهبين مختلفين غيرِ متناقَضين، وقَد تكونُ حُجَّتان على مذهبِ واحدٍ.
مثالُ ذلك: كالحجةِ على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادقٌ في كلًّ ما أتَى به، هو الححةُ على أنه وَليُّ اللهِ؛ لأن المعجزةَ دَلتْ على ذلك؛ من حيثُ دلت على تعظيمِه، وتفخيمِ شأنِه، وإبانةِ الله عز وجل له بذلك عن غيره.
وقد تقوم الحجةُ وتُبينُ على نفي التشبيهِ من طريق العقلِ، وقد يَبِينُ ذلك من طريق السَمعِ.
فأمَّا الحجةُ على التَوحيدِ، فهي غيرُ الحجةِ على نفي الجَبْرِ (1) والتَشْبيهِ (2)؛ لأنه قد يصلُ الِإنسان إلى علمِ التَّوحيدِ بالحجةِ المُنْبئَةِ عن ذلك والبَيِّنةِ عليه وهو لا يعلم نفيَ الجَبْرِ والتَشبيهِ، بل يعتقدُ أنه واحدٌ
__________
(1) الجبر: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد، وإضافته إلى الله تعالى؛ فلا فعل ولا عمل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، والعبد مجبر ومضطر الى الأعمال.
وأصحاب هذا المذهب يسمون جَبْرِية، وهم صنفان:
جبرية خالصة: وهي التي لا تثبت للعبد فعلًا، ولا قدرة على الفعل أصلًا.
وجبرية متوسطة: وهي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلًا. انظر "مقالات الإِسلاميين" ص 279 - 287، و"الفرق بين الفرق" ص 211 - 215، و"الملل والنحل" 2/ 85 - 91.
(2) التشبيه: هو تشبيه ذات الباري سبحانه بذات كيره، أو صفاته بصفات غيره.
ويسمى القائلون به: مشبِّهةً أو مجسمةً، وهم أصناف شتى. انظر في ذلك "مقالات الإسلاميين" ص 207 - 218، و"الفرق بين الفرق" ص 225 - 230، و"الملل والنحل" 1/ 103 - 108.

(1/347)


يشبه أو واحدٌ يُجبرُ، فيعلمُ أحدَ الشَّيئين، ويَجهلُ الأخرَ.
وكلُّ نوعٍ من أنواعِ الحجةِ يخالِفُ الآخرَ، فإنه لا يجوزُ أن يُناقِضَه وإن خالَفه، كما أن العلومَ تختلفُ ولا تتناقضُ، وكذلك الحججُ تختلفُ ولا تتناقضُ، وكذلك أنواعُ المذاهب التي تظهرُ عن الحجةِ.
وفي الجملةِ: إن الحجةَ تَنَوَّعُ بتعليقِها بالمذهبِ؛ لأنه إذا قيل: ما الحجةُ على صحةِ الاجتهادِ؛ اقتضى غيرَ ما يقتضي: ما الحجةُ على صحةِ الإِجماعِ؟ وإذا قيل في النبيِّ: ما الحجةُ على النبوَّةِ؟ اقتضى ما يقتضي: ما الحجةُ على أنه وليُّ اللهِ؟ وهو ما يُرَدُّ إليه من شبهادةِ المعجزةِ التي جعلَها اللهُ تعالى عَلَماً ودَلالةً.

فصل
في مُصادَرَةِ الحُجَّةِ في الصِّناعةِ
اعلم أن مُصادرَةَ الحجَّةِ في الصناعة هي المقدِّماتُ التي تُوجدُ مسلَّمةً من الخصم ليُبنى عليها ما بعدها، وكلُّ صناعةٍ فإنها لا تخلو من ذلك إلا صناعةَ الكلام، فإن مصادراتِها تُسلِّمُ الأوائلَ في العقل ليُبنى عليه ما بعده، وهذا يدُلُّ على ثبوتِ صناعةِ الكلام على كلِّ صناعةٍ، فللهندسةِ مصادرةٌ تُؤخذُ من صناعةٍ من فوقِها، وكذلك لعلم الفقهِ مصادرةٌ تُؤخذُ من صنعةٍ فوقَها، وكذلك علمُ النَحْوِ وغيرُه من سائرِ العلومِ على ما بَيَّنَّا، فالمصادرةُ إذاً تُسلمُ ما يُبنى عليه ما بعده.

(1/348)


فصل
في الفرقِ بين طريقةِ الحُجةِ في الجَدَلِ والمنْطِقِ
اعلم أن الفرقَ بينهما: أن طريقةَ المنطق في الحجةِ على تحديد المعنى واللفظِ، وليس كذلك طريقةُ الجدلِ؛ لأنه قد يُستعملُ في العبارةِ عن الحجةِ المجازُ، وُيجرى على عادةِ أهلها في الاتَساعِ والِإيجازِ.
والطَّريقتان وإن اختلفتا في ذلك فإنهما تؤدِّيان إلى غَرَض واحدٍ، إلَّا أن إحداهما (1) على تحديد الطَّريقةِ، وأخرى على تغييرِها، وكلاهما موصِلٌ إلى البُغيةِ، ومظهرٌ للنَّتيجةِ، وإنما الاعتمادُ على تحقيقِ المعنى في النَّفسِ، وإن اختلفَ ما يُتوصَّلُ به من الطرقِ.
وطريقةُ الجدَلِ قد يجري فيها التَّحديدُ، ويجري فيها التَّغيير، فهي أوسعُ من طريقةِ المنطقِ من هذا الوجهِ، وطريقةُ المنطقِ أضيقُ؛ إذ كان لا يُسلَكُ إليها إلا من وجهٍ واحدٍ، والمثل في ذلك كمن قصدَ بلداً، فوجدَ طرقاً متشعِّبةً مشتبِهةً تُوصِلُ إليه أيضاً، فالذي على سَنَنٍ واحدٍ أوضحُ لمن لم يَرْتَضْ بالطًّرقِ المؤدِّيةِ، فأمَّا المُرْتاضُ فيتقاربُ ذلك عنده فى الإِيضاحِ.
وقد يستعملُ العالمُ ذلك لِإفهام العامِّيِّ؛ إذ كانت العامَّةُ لم تَألَفْ طريقَ التحديدِ، فهو وإن كان علىَ السَّنَنِ، فإنه صعبُ المَسْلَكِ عند من لم يَألَفْ تلك الطَّريقةَ، ولا جَرَتْ بها عادتُه.
__________
(1) في الأصل: "أحدهما".

(1/349)


فصول
الكلامِ في بيانِ العِلَّة- والمعلولِ- العقليةِ والشَّرعيةِ
فصل
في جوامعِ العلمِ بالعِلَّةِ
فحدُّ العِلَّةِ: أنها الموجبةُ لحكمِها، أو للحكمِ، أو للمعلولِ.
وزادتِ المعتزلة فقالت: الموجبة بوجودِها لصحةِ معنى الحكمِ بعد أن كان لا يصحُّ؛ بناءً على أصلهم، وأن الواجباتِ غير معلولةٍ، بل يُستغنى بوجوبِها عن عِلَةٍ.
بيانُ ذلك بالمثال: أن الحركةَ أوجَبَت بوجودِها صحَّة معنى الحكم بأن الجوهرَ متحرِّكٌ بعد أن كان لا يصحُّ، ولَمَا كان الِإيجابُ قد يكونُ بوجودِ الموجبِ نفسِه، وقد يكون بوجودِ شيءٍ سواه، كالفاعلِ على الموجب بفعلِه لأمر، قلنا: إنها الموجِبةُ بوجودِها؛ لنَفْرُقَ بين المعْنَيْينِ.
فأمَّا المعلولُ: فهو موجَب العلَةِ.
وقالت المعتزلةُ: هو المتغيرُ بالعلَّةِ عما كان عليه؛ من جهةِ حدوثِه، أو تقديرِ حدوثِه، أو حدوثِ معنىً فيه أو في بعضهِ، ومن هناك سمِّيَ المرض: عِلَّةً، ومَن حَل به المرضُ فغيرة عن الصَحةِ والاعتدالِ: معلولاً، وذلك أن الحكمَ يكونُ معلولَاً بالعلَّةِ، من جهةِ

(1/350)


أنه يصحُّ أن يوجدَ حقَّاً بعد أن كان لا يصحُّ، وكذلك الحمدُ والذمُّ والثوابُ والعقابُ، يصحُّ أن يوجدَ كلُّ واحدٍ منهما مستحقاً -عند من قال باستحقاقِه-؛ من أجلِ علَّةٍ كان صارَ بها على ذلك.
وأما المتحرِّكُ فمعلول بالحركةِ من أجل حدوثِها فيه، والعالِمُ معلولٌ كونَه عالمِاً بالعلمِ واجباً كان أو جائزاً.
والمعتزلةُ تقولُ: إن كونَ العالِمِ في الشَاهدِ معلولٌ بالعلم؛ لكونِه عَلِمَ مع جوازِ أن لا يعلمَ، فاحتاجَ إلى معنىً يكونُ به عالماً، وفي الغائب علِمَ مع وجوب أن يَعلمَ، فلم يفتقرْ إلى معنىً يكونُ به عالماً، كماَ أنه لَمَّا وُجِدَ الَحادثُ مع جوازِ أن لا يَحدثَ، افتقرَ إلى محدِثٍ يُحدِثُه، والقديمُ سبحانه لما وُجِدَ مع وجوبِ أن يُوجدَ، لم يَحْتَجْ إلى معنىً يُخصِّصُه بالوجودِ.
وأهلُ السُّنةِ يُعلِّلون الواجباتِ بعللٍ واجبةٍ، ويقولون: إن الموجِبَ لكونِ العالم عالماً هو العلمُ، فلو كانت الذاتُ موجبةً كونَها عالمةً، لكانت علماً؛ لأن الموجِبَ لكونِ العالِم عالماً إنما هو العلمُ، ولو جازَ أن يكونَ في الغائب ذاتٌ توجبُ كونَ العالمِ عالماً وليست عِلماً، لكان في الغائب مَا يوجبُ كونَ المتحرِّكِ متحرِّكاً وليس بحركةٍ، والكلامُ في ذلكَ على الاستقصاءِ لا يليقُ بهذا الكتابِ.
وأما العالِمُ الذي صارَ عالماً بعد أن لم يكنْ عالماً، وجدَ نفسَه على خلافِ ما كان عليه، فمعلولٌ بالعلمِ الذي وُجِدَ له بإجماعَ أهلِ السنةِ وأهلِ الاعتزالِ، إلا أنه معلول بما وُجِدَ في بعضه؛ لأن العلمَ في مَحَلٍّ منه.

(1/351)


وكذلك الرائي بعد أن لم يكنْ رائياً في أنه معلولٌ بوجودِ الرؤيةِ له في بعضِه، ومحل الرؤيةِ معلولٌ بما حَلَّ فيه.
فأمَّا القادرُ الذي صار قادراً بعد أن لم يكنْ قادراً، فمعلولٌ بوجود القُدْرَةِ بإجماعِ الأصوليين، وعند أهلِ السنةِ لا يُقيدون ذلك بالذي قَدَر بعد أن لم يكنْ، بل كلُّ قادرٍ فكونُه قادراً معلولٌ (1) بالقُدرةِ، على ما بَيَّنَا في العلمِ.
وأهل السنةِ لا يَخُصُّون العلةَ بتغيرِ المعلول عما كان عليه، بل المحدثُ عندهم بهذه الصِّفةِ، والقديمُ سبحانه يُعَلِّلون كوَنه قادراً بقدرة قديمةٍ، وإن كان معلولُ العلةِ ليس بكائنٍ بعد أن لم يكنْ.
وكلُّ علةٍ حادثة فهي تُغَيِّرُ المعلولَ عما كان عليه، ولذلك قيل للدَّلالةِ التي في الفقه: علة؛ لأنها تُغيِّرُ معنى الحكمِ عما كان عليه، لأنها اظهرَتْهُ بعد أن لم يكنْ ظاهراً؛ ولذلك لم يَجُزْ أن يكونَ المعدومُ الذي لم يُوجَدْ علَّةً، لأنه لم يكُ شيئاً قبل وجودِه فيُطلَقَ عليه التغييرُ بوجودِه، بل وجودُه هو هو على مذهبِ أهلِ السنةِ، إذ ليس الوجودُ صفةً، ولا يَسبقُ له شبيهٌ (2) قبل وجودِه.
والعلةُ والمعلولُ من باب المتضايفات (3)، فلا يثبتُ للمعنى حقيقةُ
__________
(1) في الأصل: "معلولًا"، وهو غلط.
(2) في الأصل:"سببه".
(3) المتضايفات: عبارة عن ماهيتين تَعقُّلُ كلُّ واحدة منهما لا يتم إلا مع تَعَقل الأخرى، كالأبوة والبنوة، ونحو ذلك. "المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 68.

(1/352)


علَّةٍ إلا بالمعلولِ، فكما أن المعلولَ لا بُد له من علَّةٍ، فلا بُدَّ للعلَّةِ من معلولٍ وفى استحقاقِ اسمِ العلَّةِ.
وقولُ الفقهاءِ: إن علَّةَ الحكمِ مجعولةٌ، والعلَّةَ العقليَّةَ موجِبةٌ بنفسها لا بِجعْلِ جاعلٍ، كلامٌ فيه نوعٌ من السهوِ، فإن العلَّتين مجعولةٌ مفعولةٌ، وذلك أن الذي أوجدَ الحركةَ في المحلِّ هو الذي جعلَه متحركاً بها، والذي أوجدَ الحياةَ في المحل هو الذي جعلَه حياً بها، كما أن الذي وضعَ الشَدَّةَ، وجعلَها في المحلِّ، هو الذي جعلَه محرماً، وموجباً للحد بشُرْبِه بها ولأجلِها.
فالعللُ كلُها مجعولةٌ، ومعلولاتُها مفعولةٌ في الحقيقة ومجعولةٌ، ولا شيءَ أوجدَ شيئاً، ولا جدَّدَه سوى اللهِ سبحانه.
وبهذا (1) يتحقَّقُ التوحيدُ في الفعل والِإيجادِ، وإنما نضيفُ المعلولَ إلى العلَّةِ حكماً وذاتاً إضافةَ ما يكونُ عند الشيءِ لا عنه، خِلافاً لأهل الطَّبعِ والتَّوليد، القائلين بإضافةِ الخَلْقِ إلى الفاعلين.
فأمَّا القدرةُ فليست بعلةٍ للفعل؛ لأنها مُصَحِّحَةٌ، فكانت إلى الشرطِ أقربَ منها إلى العلَّةِ الموجبة، والقدرُة لا توجبُ المقدورَ، بخلاف العلَّةِ التي توجبُ المعلولَ.
فإن قيل: ليس يَتحقَقُ عندكم الفرقُ بين العلَّةِ والشرطِ والقدرةِ؛ إذ كان اللهُ سبحانه هو الموجِدَ للمقدورِ والمعلولِ والعلَّةِ والقدرةِ، وأصلكم على، هذا في الري والشِّبَعِ، وأنهما يوجَدان عَقيبَ الأكلِ والشربِ بفعل الله، لا عن الماءِ والطعامِ، ولا متولدين عنهما، وكذلك
__________
(1) في الأصل: "ولهذه".

(1/353)


العلمُ يحصلُ عَقيبَ النَظَرِ والاستدلالِ، فبِمَ تَفْصِلون بين العلَّةِ (1) والقدرة والشرطِ؟ وكلُّ حادثٍ إنما يحدثُ عن اللهِ سبحانه فِعْلاً وخَلْقاً عند هذه الأشياءِ، لا عنها ولا بها ولا عن تأثيرِها، وإنما يتحقَقُ الفرقُ على مذهب مَن جعلَ العلَّةَ موجبةً ومولِّدةً ومثمِرةً، وجعلَ الشَرطَ مهيئاً ومصحِّحاً، كالسكين صالحةٌ للقَطع متهيِّئةٌ له، لا موجبةٌ لحصولِه، فيقعُ حينئذٍ الفرقُ، فمن يجعلُها قدرةٌ يُخرجُها عن كونِها عِلَّةً (2)؛ لكونها مصحِّحةً لا موجبةً، ومن جعلَها علَّةً أخرجَها عن كونها قدرةً لكون العلَّةِ موجبةً.
قيل: نَفْصِلُ بما أجراه اللهُ سبحانه من العادةِ، وأن المعلولَ يكونُ عَقيبَ العلَّةِ لا محالةَ، كتحرك الجسمِ عند وجودِ الحركةِ.
والمشروطُ قد يوجدُ بوجودِ الشَرطِ وقد لا يوجدُ، والمقدورُ قد يوجدُ عند وجودِ القدرةِ المحدثةِ مصاحباً لها لا محالةَ -على قولِ من يَجعل الاستطاعةَ مع الفعلِ-، ويتأخر عنها لا محالةَ لا بزمانٍ ولا بما يتقدَّرُ بقَدْرِ الزمانِ، وهو مقدورٌ قَدَّرَه القديمُ جَلَّتْ عظمتُه.
ونفصلُ الشرطَ عن العلَّةِ بأن الشرطَ في مطَرِدِ العادةِ مصحِّحٌ كحدِّ السكين للقطعِ، واعتمادُها عند هبوطِها على المَحَل بثِقَلِها هو العلَّةُ الموجِبة القطعَ.
وفي عللِ الشرعِ: الزِّنا علة العقوبةِ، والإِحصانُ شرطُها، واللهُ
__________
(1) تكررت في الأصل.
(2) في الأصل: "فمن يجعلها علة يخرجها عن كونها قدرة".

(1/354)


سبحانه الواضعُ حكمَ العلَّةِ والشَرطِ، ولم يمنعْ كوُنه هو القاضيَ بهما والحاكمَ باعتبارهما الفصلَ بينهما بما يصلحُ للفصلِ.
وأصلُ العلَّةِ في اللغةِ مأخوذٌ من علَّةُ المريض، وهو تغبرُه عما كان عليه حيث كان صحيحاً، فالتغيُّرُ عن حال الصحةِ هو الأصلُ في اللغة، ونُقِلَ إلى التغيُّرِ الذي يوجبُ صحةَ معنى الحكم كائناً ما كان الحكمُ، إذا كان ما لو لم تُوجَدِ العلَّةُ لم يصحَّ، وكلُّ ما صحَّ أن يُوصَفَ بعد أن كان لا يصحُّ أن يوصفَ بها، فإنَّ ذلك لعلةٍ أوجبت ذلك له بعد أن لم يكنْ له.

فصل
والمدلولُ عليه على ضربين: معلولٍ، ومدلولٍ عليه غيرِ معلولٍ.
بيانُ ذلك: أن الحركةَ إذا كانت فلا بُد لها من فاعلٍ، فهي دَلالةٌ عليه وهو مدلوُلها، والفاعلُ لها ليس بمعلولٍ لها من حيثُ فعلُها، بل مدلولٌ بها عليه، وهي دالَّةٌ إذا كانت على الأمرين جميعاً وإن كان أحدهما معلولًا والآخرُ ليس بمعلولٍ، وهي علَّةُ كونِ المتحرِّكِ متحرِّكاً، وكونُه متحرِّكاً معلولُها.

فصل

في إيجابِ الحكمِ بالعلَّةِ، وصحَّةِ معناه بها بعد أن كان لا يصحُّ
وذلك أنه إذا وُجِدَتِ الحركةُ في المحل، صَحَّ معنى الحكم بأنه متحرِّكٌ بعد أن كان لا يصحُّ، إذ قبل أن توجدَ الحركةُ في المحل لا يصحُّ معنى الحكمِ بذلك، وليس بداخلٍ تحت التمكُنِ إن صحَّ

(1/355)


الحكمُ بأن المحل متحركٌ ولَمَا تُوجدِ الحركةُ، بل ذلك ممتنعٌ لاستحالتِه وتناقضِ القولِ فيه.
وكلُّ علةٍ محدَثةٍ فالحكمُ بها معلول على الوجهِ الذي ذكرنا؛ لأنه لا علةَ محدَثةٌ إلا ويصح بها حكمٌ بعد أن كان لا يصحُّ، وليس كلُّ حكم فإنه لا يَصِحُّ إلا بعلَّةٍ؛ لأن الحكمَ بأن القديمَ لم يزلْ ليس بمحدَثٍ كائنٍ بعد أن لم يكنْ لم يصحَّ بعلةٍ؛ لأنه ليس مما يصحُّ بعد أن لم يكنْ يصحُّ.
فأما الحكمُ بأن الجواهرَ مقدورةٌ فإنه مما يصحُّ بعلةٍ؛ لأنه لم يكنْ ظاهراً للنَفسِ صحتُه، فصارَ ظاهراً بعد أن لم يكنْ ظاهراً.
والعلةُ في مثل هذا إنما هي دَلالةٌ بها يظهرُ صحَةُ معنى الحكمِ، فكلُّ ماظهرَ للنفسِ صحتُه بعدأن كان لا يظهرُ للنفسِ صحتُه، فلا بُدَّ له من علَّةٍ إذا كان مما يخطُرُ على البال، ويحضُر النفسَ فلا تَتبينُ صحتَه دون شيءٍ آخر.

فصل
في إجراءِ العلَّةِ في المعلولِ

اعلم أن إجراءَ العلَّةِ في المعلول: هو الإيجابُ لكل معلولٍ بها، مثلُ ما وجبَ للواحدِ من المعلولِ بها، وعَبَّرَ عن ذلك آخرون بأن قالوا: يجبُ إذا حُكِمَ لشيءٍ أوعلى شيءٍ بحكمٍ من أجلِ علةٍ فيه أن يُحْكَمَ لكل ما فيه تلك العلَّةُ بمثل ذلك الحكمِ، وإن اختلفَتْ أحكامُهما وعللهُما من وجوهٍ أخَرَ؛ لأن اختلافَهما من حيثُ اختلفا لا يمنعُهما من الاتفاقِ في العلَّةِ التي لها ومن أجلها حُكِمَ لأحدِهما بذلك

(1/356)


الحكمِ، وذلك كرجلٍ نفى بقاءَ الحركةِ، فقيل له: لِمَ نَفَيْتَه عنها؟ فقال: لوجودِها، فهذا يلزمُه نفيُ البقاءِ عن الجسم؛ لأنه أيضاً موجود.
فلو قال: الجسمُ يتحركُ، ويسكنُ وُيحِسُّ، والحركةُ لا يجوزُ شيءٌ من هذا عليها.
قيل له: جميعُ ما ذكرتَ ووصفتَ به الجسمَ لا يمنعُ الوجودَ الذي عَللْتَ به في نفي البقاءِ، وإذا لم تَنْفِ الوجودَ -وهو علَّةُ عدم البقاءِ على ما ذكرتَ-، وجبَ أن لا ينتفيَ المعلولُ مع وجودِ علتِه لِماَ ذكرتَه من الأوصافِ التي اختصَّ بها الجسمُ.
ويقال له: ولِمَ جعلتَ الأوصافَ التي ذكرتَها للجسم وفي الجسمِ مانعةً من المعلولِ؟ وهي مما لم تُزِلِ العلَّةَ ولم تُعِدمْها، وهي الوجودُ.
ومثالٌ آخرُ لإِجراءِ العلَّةِ في المعلولِ: وهو أنَا متى علَّلنا كونَ القَارِ (1) أسودَ لقيام السوادِ به، وجبَ أن يكونَ ذلك جارياً في كلُّ محلٍّ فيه سوادٌ من سَبَج (2) وثوبٍ وحيوانٍ؛ إذ كانت العلةُ لا تخِلٌّ بمعلولها، كما أن المعلولَ لا يكونُ دون علتِه.
وقد قيل: إن إجراءَ العلَّةِ في المعلول: الإِلحاقُ بالمذهب كلُّ ما يلزم عليه، وهذا لا يصحُّ؛ لأن هذا يُفضي إلى أن يَطَرِدَ المذهبُ لتصحَ العلةُ، وإنما تُؤخذُ المذاهبُ من العلل، فأمَّا أن تؤخَذ صحةُ العللِ من المذاهب فلا.
__________
(1) القار، أو القير، بالكسر: شيء أسود يطلى به السُّفُن والإبل، أو هما: الزفْت.
"القاموس المحيط" (قير).
(2) السَّبَج: الخَرَز الأسود. "اللسان" (سبج).

(1/357)


مثالُ ذلك من الفروع: أن يقولَ: النَبيذُ حرامٌ لأنه مسكرٌ، وكلُّ ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ كالخمر، فيقال له: فالبَنْجُ (1) والأفْيُونُ (2) وهذه المُخدراتُ كثيرُها يُزيلُ العقلَ، وُيذهلُ إذهالَ السُّكرِ، فيقول: فأنا أطردُ المذهبَ فيها، فيصيرُ تقديرُ كلامِه: فأنا لا أنقضُ عِلَّتي، ولا أمنعُ إجراءَها في معلولاتها، ولذلك أصيرُ إلى القول بتحريمِ قليلِ البَنْجِ والأفْيونِ، فاطردُ المذهبَ لتَنْحرِسَ العلَّةُ، فهذا مما يقبحُ في علم الجدلِ حيث كان تصحيحاً للدَّليلِ بالمذهب، والمذاهبُ تؤخذُ من الأدلةِ، فأمَّا أن تؤخذَ الأدلةُ أو تُصحَّح من المذاهب فكلاَّ.
وهذا يكثرُ من الفقهاء، اللهم إلا أن يكونَ المذهبُ علةً، مثلُ أن يكونَ المذهبُ: كلُ مسكرٍ حرامٌ، أو يكونَ صاحبُ المذهب وضعَ أن كلُّ ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ، فلَعَمْري إنه إذا ما الزِمَ عليه المسكراتُ من الأدويةِ يقول: لا يلزمني، فإن المذهبَ خارجٌ مخْرَجَ التعليلِ، وموضوعٌ وضَعْ التعليلِ.
فإن قال: أما الجسمُ فإنه باقٍ من طريق الضَرورةِ؛ فلذلك لم أقلْ بعدمِه، والأفْيُون وهذه الأدويةُ مباح استعمالُها بالإِجماع (3)، فكيف يمكنني أن أقولَ بتحريمها؟ فهذا عُذْرِي في نفي إجراءِ علتيَ في هذه؛
__________
(1) البَنْج -من الهندية-: جنس نباتات طبية مخدرة من الفصيلة الباذنجانية، تستخدم المادة المستخرجة منه في التخدير والتنويم."المعجم الوسيط" (بنج).
(2) الأفيُون: عصارة الخَشْخاش، تستعمل للتنويم والتخدير. "المعجم الوسيط" (أفيون).
(3) على أنها أدوية تستخدم للتداوي فقط.

(1/358)


إذ ليس لي جَحْد الضرورةِ والإِجماعِ، لِما في ذلك من الفسادِ.
قيل: لسنا نحن الآمرين لك بارتكاب الفسادِ، ولا ابتدأناك بذلك، وإنما أخبرناك بأن علَّتَك التي علَّلْتَ بهاَ في عدم بقاءِ الحركةِ وإنهاءِ الوجودِ كأنها آمرةٌ لك من طريق النطقِ بأن كلَّ موجودٍ لا يبقى، ولو تَصَوَّرْتَها ناطقةً لخاطَبَتْكَ به دوننا، فكأننا مع ثبوتِ هذه القاعدةِ نقول لك: إن علتك توجبُ عليك كذا وتأمرُك بكذا، فيجبُ أن تتمسَّك بطاعتِها حيثُ تمسكْتَ بها، أو اخترْ معصيَتها بتركِ التمسّكِ بها حيثُ بانَ لك فساد ما أدَّتْ بك إليه، ولولا أن الذي الزَمتك العلةُ التي تمسَّكتَ بها فاسدٌ، لَمَا كسرْتَ مذهبَك، ولو كان الباطلُ لا يلْزِمُ صاحبَه إلا صحيحاً، لم يكنْ بين الحقِّ والباطلِ فرقٌ.
جوابٌ آخرُ: وهو أنه قد وجبَ عليكَ الحكمُ بفسادِها حيث أدتْ بك إلى جَحْدِ الضَّروراتِ وأوجبَتْ عليك ذلك، إذ لو كانت صحيحةً، لَمَا أوجبَتْ جحدَ الصحيحِ.
ولو أن قائلًا قال: زيدٌ شجاعٌ لأنه أسود، وعمرٌو الأسود جبانٌ، بَطَلَ تعليله بالسوادِ وبانَ غَلطُه؛ حيث وُجِدَتْ علتة- وهي السَّواد- في محلٍّ لم توجِبْ له حكمَها، فإن أخذ يقول: وإنما لم يكن عمرٌو شجاعاً مع كونه أسودَ، لأنه ليس من قريشٍ.
قيل: فقد بأنَ بهذا القولِ منك أنك أغفلتَ وصفاً في العلة لم تذكرْه، ولو أنك ذكرتَه أولًا، فقلتَ: زيدٌ شجاعٌ لكونه أسودَ من قريشٍ. لكان صحيحاً في صورةِ التَّعليلِ، وإن لم يكن السَّوادُ مؤثِّراً في الحقيقةِ، وإبداءُ كلِّ عُذرٍ نصبَه المعتلّ لتخصيص العلَّةِ كان هو

(1/359)


الموجِب عليه أن يجعلَه وصفاً لها، وبانَ تقصيرُه في التَعليلِ.
مثال ذلك من الفقهيًاتِ: أن يقولَ في بَيْع ما لم يَرَه: مبيع مجهول الصفةِ عند العاقدِ حالَ العقدِ، فلم يصح بيعُه كما لو قال: بعتُك عبداً.
فيقال له: علَّتك هذه موجودة في لُب الجَوْزِ واللَّوْزِ، وأساساتِ الحِيطانِ، وبواطنِ الصُبَرِ (1)، ولا توجبُ المعلولَ -وهو بُطلانُ البيعَ-، ولا تجري فيه.
فيقول: ذلك يَشُق عِلمُه، ويفضي إلى إتلافِ الماليًةِ، فهذا وصف اعتذر به، وهو الذي أخلَّ به، ولو ذكرَه لجرَتِ العلةُ في معلولها، فقد بانَ إخلالُه وتقصيرُه، فقد وجبَ عليك إدخالُ هذا الوصفِ في تعليلك.

فصل

ومما يُفسدُ التعليلَ ضمُّ وصفٍ إلى العلَّةِ ليس من العلَّة في شيء وذلك مثل قولِ القائلِ: إنما كان الجسمُ متحرِّكاً من أجل أنه مُؤلَّف ومن أجل أن فيه حركةً، فهذا الاعتلالُ فاسد، والذي يدل على فسادِه: أنا نجدُ مؤلفاً ليس بمتحرِّكٍ، ولا نجدُ ما فيه الحركةُ إلا متحرِّكاً، وهذا يوجبُ أن كونَ الجسمِ مؤلفاً لم يوجبْ له التحرُّكَ، وإنما أوجبَ له التحركَ كونُ الحركةِ فيه لا غيرُ.
__________
(1) جمع صُبْرَة: وهي ما جُمع من الطعام بلا كَيْل ولا وَزْن بعضه فوق بعض، ويقال: اشتريت الشيء صُبْرَةً: أي بلا وزن ولا كيل. "اللسان" (صبر).

(1/360)


ومما يدلُّ على فساده أيضاً: أنَا نجدُ الجسمَ موصوفاً بجميع صفاتِه وأفعالِه إلا الحركةَ، فلا شيءَ من أوصافِه أوجبَ له التحركَ إذاً، ولا نجدُ الحركةَ فيه إلا وهو متحركٌ.
ومما يوضحُه أيضاً: أنًا نجدُ ضدً الحركةِ -وهو السكونُ- مع التأليفِ، ولا نجدُ السكونَ مع قيامِ الحركةِ به.
ولو كان كوُنه متحركاً إنما كان معلولًا بأمرين: قيام الحركةِ والتَّأليفِ، لوجبَ أن لا يزولَ المعلولُ إلا بزوالِ الأمرين؛ لأنَ الحكمَ إذا لم يَقَعْ إلا بأمرين، لم يرتفعْ إلا بارتفاعِهما، فلما وجَدْنا أن تحركَه يزولُ بزوالِ الحركةِ فقط، علمنا أنه إنما وُجِدَ بوجودها فقط.
ثم يقال لمن اعتل بمثل هذا الاعتلالِ: لِمَ اقتصرتَ على هاتين العلًتين دون أن تُضيفَ إليهما ثالثةً؛ فتاقولَ: إنما تحركَ الجسمُ لوجودِه، وتاليفهِ، وقيام الحركةِ به؟
فلا جوابَ له إلا وهَو المفسدُ لتعليله بالتأليفِ؛ لأن غايةَ ما يقولُ: إنما لم اعتَل بالوجودِ لأنه لا أثرَ للوجودِ في إثباتِ التحركِ، فكم موجودٍ لا يتحركُ، ولا شيءَ تقومُ به الحركةُ إلا وهو متحرَّكٌ.
فيقال له: فكذلك التأليفُ قد ثبتَ لجسمٍ لا يتحركُ، ولا جسمَ يتحركُ إلا وفيه حركة، فصار ذكرُ التأليفِ خِلْواً من تأثيرِ المعلولِ كالوجود سواءً، هذا الذي يُسميه الفقهاءُ: عَدَم التأثيرِ والحَشْوَ.
فإن قال قائل: أليس (1) إذا لم يوجدِ التحركُ عند التأليفِ، ووُجِدَ
__________
(1) في الأصل: "ليس".

(1/361)


عند قيامِ الحركةِ في الجسم، مما يدلُ على أن التأليفَ ليس بعلَّةٍ؟ وإلا فخَبِّرونا عن قولِكم في سفينةٍ وضعنا فيها كُرَّاً (1) فلم تَغرقْ، فوُضِعَ فيها قَفِيزٌ (2) فغَرِقَتْ، أليس إنما غَرَّقَها الجميعُ وقد كان بعضُه فيها قبل الغرقِ؟ وهذا يدلُّ على أن الشيءَ يَحدثُ لعلَّتين، فإذا وُجِدَتْ إحداهما لم يَحدثْ.
قيل: الجوابُ عن هذا من وجهين:
ومتى رفعْناه وفرَّفنا بينه وبين جملتِه، جازَ لنا أن نقولَ: هو هذا، وكذا إذا قلت: الدَّراهمُ تزيدُ درهماً على عشرين، لم يكن ذلك الدِّرهمُ معلوماً بعينه إلا أن نُقَدِّرَه زائداً، فإن عدَدْتَها واستوفَيْتَ عددَها الأوَّلَ، فكان الذي يبقى هو الزائدَ، ولو كان غيرُه هو الباقيَ كان أيضاً هو الزائدَ، ولا يجوزُ من أجلِ هذا أن نقولَ: الدَّراهمُ يزيدُ عددَها درهمٌ، ولو ساغَ هذا لكانت كلُّها زائدةً على عددِها نفسِه؛ لأن كلَّ واحدٍ منها يجوزُ أن يَحُلَّ هذا المَحَلَّ، فكذا لا يقالُ في الأرطال (3): رطلان مغرِقان (4)، لأن التغريقَ قد يقعُ على رِطْلين واحدٍ بعد واحدٍ؛ لأن التقديرَ الأوَّلَ إذا نَقَصَ كانت الشريطةُ في نَقْصِه أن لا يُتكلَّمَ على أنه كان وقَع؛ لأن نقصَه إبطالُه الْبَتَةَ، وأنت تُقَدِّرُ الرَّطلَ الأخيرَ إذا جعلتَه
__________
(1) الكُرُّ -بالضم والتشديد: مكيال لأهل العر اق، وهو ستون قفيز "اللسان" (كرز).
(2) هو أيضاً مكيال معروف، يساوي ثمانية مكاكيك عند أهل العراق، والمكوك صاع ونصف، وجمعه: أقْفِزَة وقُفْزان. "اللسان": (قفز) و (كرر).
(3) الرَّطْل -بفتح الراء وكسرها-: معيار يوزن به، وهو ثنتا عشرة أُوقِية، والأوقية أربعَون درهماً، فذلك أربع مئة ؤثمانون درهماً. "اللسان" (رطل).
(4) في الأصل: "معروفان".

(1/362)


زائداً مبتدأً لم يَسبقِ التقديرُ إلى غيره، وإلا فلا نقصَ، وإنما الْتَفَتَ إلى الأول تقديراً آخرَ.
فإن قال: أفيَخرج تقدير إيَّاه من علمي، وإن قَدرت الآخرَ هذا التقدير؟
قلنا: لا، ولكن في علمك أنك قد نقصْتَ تقديرَه، وقد كان فيه أولًا أنه هو المعروف عندك ما كنتَ مقدِّراً له زائداً. فإذا أزلتَ هذا التقديرَ لم يكَنْ كذلك، وذلك أنك لم تعلمْ علمَ حقيقةٍ أنه المغرِق دون غيرِه، وإنما علمتَ أن الزائدَ على ما تحتمله هو المغرِق لها، ولم تعلمْه عِياناً، فجعلتَ الزائدَ المعلومَ لا عِياناً معلوماً عَيْناً بالتقديرِ دون الحقيقة، وإنما كان هذا لأن فيها واحداً زائداً، وإن لم يكنْ معروفاً بعَيْنِه، وحقيقة هذا عند الله أيضاً هكذا؛ لأنه ليس في الأرطال (1) واحدٌ هو أوْلى بهذا النَّعتِ من غيره إلا بالتَّقديرِ، وما كان مثلَ هذا على هذا المنهاجِ يجر ي الكلامُ فيه، فافْصِلْ بينه وبين غيرِه مما لا يَصلُحُ فيه التقدير بأن فيه واحداً معلوماً أنه زائدٌ لا عِيانا، فإنه مستوي الأحوالِ، فليس بمبيَّن منه شيءٌ من شيءٍ، وفحالٌ أن يكونَ كله زائداً، وكلُّه لا زائداً؛ لأن في هذا إبطالَ الحسِّ.
والرِّيُّ والشَبَع، والتُخَمَة، والسَّير بالدَّابَّةِ الفراسخ الكثيرةَ، والسكر بالقَدَحِ والأقداحِ، يجاب في جميعِه بهذين الجوابين، والجوابُ الأولُ أقلُّ مؤنَةً من الثاني.
__________
(1) كتبت في الأصل:"الأبطال إلا".

(1/363)


فإن قال قائلٌ: فهذا الِإمامُ يستحِقُّ الِإمامةَ والكمالَ، ومتى زال عن الكمال جزءٌ (1) يختلفُ فيه سائره، لم يكن مستحِقاً للاسم.
قلنا له: الإِمامةُ: اجتماعُ السياسة، واسمُها واقعٌ عليه، والقولُ فيه كالقولِ في العشرةِ، واسمُها واحدٌ إلا أنَ لأبعاض العشرةِ أسماءً تخصها، وليس لعبارة الإِمامةِ بعض تقعُ عليه التسميةُ، فيقال: كما لم يَجُزْ تفصيلُ كثيرٍ مما تكلموا عليه مجمَلًا، فمتى فاتَتْه خلَّةٌ من الكمال، خرجَ بفَوْتِ تلك الخَلةِ من استحقاق ما توجبه دون غيرها، فإن كانت تلك الخَلَةُ (2) العلمَ بتدبير الحروبِ، خرجَ من استحقاق ولايةِ الحَرْب، وكان مستحِقاً للقضاءِ لمعرفته به، وعلى هذا كلَّما انحطَتْ رُتْبَةٌ (3) بقيَ على ما دونَها، مثلُ أن يكونَ مقصِّراً في العلم والاجتهادِ وبقيَ على العَدالَة، بقيَتْ عليه رتبةُ الشَهادةِ، وعلى هذا المثالِ في سائر الخِلالِ.
فإن قال: أليس لا يُوَلى القضاءَ إِلا العالمُ الوَرِعُ؟
قلنا: بلى.
فإن قال: أفليس قد يكون في الناس وَرِعٌ ليس بعالمٍ، وعالمٌ ليس بورعٍ؟
قلنا: بلى.
__________
(1) أشير في هامش الأصل إلى أن في نسخة أخرى: "حيز".
(2) تحرفت في الأصل إلى: "الجملة".
(3) في الأصل: "رتبته".

(1/364)


قال: فهذا ما أنكَرْتُم بعينه من ارتفاع المستحَقِّ بالشيئين بارتفاع أحدِهما.
قلنا: ليس يستحِق أحد على الِإمام أن يُوليَه القضاءَ، وإنما يجبُ عليه أن يُوليَ من يجمعُ العلمَ والورعَ إذا احتاج إليه وعَرفَ مقدارَه وموضعَه، وليس هذا من جنس العللِ الموجباتِ في شيءٍ؛ لأنه قد يكونُ لنا عالمٌ وَرِعٌ ولا يجبُ على الإِمام أن يُولِّيَه إذا سد مسده غيرُه.
فإن قال: فالحاجةُ إليه إحدى العللِ.
قلنا له: فقد يُمكِنُ في القدرة أن تكونَ الحاجةُ إليه قائمةً والإيجاب مرتفعاً، ولو كان هذا من باب الِإيجاب الذي نحن فيه للَزِمَ، وليس هذا من بابنا.
يُوضَحُ الفرقَ بينهما: أنه لا يجتمعُ عند صاحب العلَّتين التأليفِ والحركةِ في جسمٍ إلا كان متحرِّكاً، وقد يجتمعُ العلمُ والورعُ والحاجةُ لِإيجاب التَوليةِ غيرُ واقعة (1)، وإنما نحن في بابِ ما لكونه يكونُ الشيءُ لا مَحالةَ، ويستحيلُ مفارقتُه له، ولسنا في بابِ ما عند كونه يختارُ المختار والفعلَ لصوابِه في التَأَنِّي والعلمِ إن شاء، وإن شاء أبى أن يختارَ، وإنما قال للناس: فلانٌ مستحِق للقضاء، على معنى أن فيه ما يَحتاج إليه القاضي، وإنما يكونُ في حدِّ من يصلحُ له بالعلم دون غيره، فاذا كان الورعُ مفرَداً من العلم، فليس صاحبُه المتكلَّمَ عليه.
فإن سألَ عن الشاهديْنِ، فأمرُ الشاهدَيْنِ تعبد، ولو خَليْنا والعقلَ
__________
(1) في الأصل: "واقع".

(1/365)


كان الواحدُ والاثنانِ سواءً في أنهما غيرُ موجِبيَنِ للعلم، فكانت الطُّمأنينةُ تقعُ مع قولِ (1) الواحدِ كما تقعُ مع قولِ الاثنينِ، وقَدَّرَ اللهُ شهادةَ الاثنين في بعضِ المواضعِ، وهذا يدلّ على أن أمرهما تعبدٌ.
ومما يَدُل على أن ما يجبُ للعلتين لا يرتفعُ إلا بارتفاعِهما: أنه إذا ارتفِعَ فإنما يرتفعُ إلى ضده من وجودٍ أو عدم أو هيئةٍ، ومتى كان محتاجاً إلى علتين، كان ضده أيضاً محتاجاً إلى علَّتين، ومتى كانت المضادَّةُ واقعةً بينهما، كانت أيضاً واقعةً بين عللهِما؛ لأن العللَ لو اجتمعَتْ لوقعتِ المعلولاتُ، وإذا كان هذا هكذا؛ لم يَجُزْ وقوعُ ضدِّه وإحدى علتَيْهِ موجودةٌ، ولو جازَ ارتفاعُه بارتفاعِ إحدى علَّتيه، جاز وجودُه بوجودِهما، ولو جازَ هذا لم يَكُنْ بين ما يقعُ لعلتيْنِ وبين ما يقعُ لعلةٍ واحدة فصلٌ.
فإن سأل سائلٌ في هذا الباب عن ساجَةٍ (2) لا ترتفعُ عن الأرض إلا برَجُليْنِ، فقال: حدثْنا إذا رامَ أحدُهما رفعَها فلم تَرتَفعْ، ثم جاءَ الثاني فارتفعت، أليس الرفعُ حينئذٍ للثاني وحدَه، كما أن التفريقَ للقَفيزِ الزائدِ وحدَه؟ وقَرَّرُوا الإِلزامَ بأن الرفعَ اعتمادٌ كما أن العومَ في الماء اعتمادٌ، وليس بينهما فرْق قادحٌ إلا أن أحدَهما إلى فوقَ والآخرَ إلى أسفلَ.
يقالُ له: الفرقُ بينه وبين أثرِه في السَّفينةِ: أن الكُرَّ كان في السفينةِ وهي سليمةٌ سالمةٌ من الغرقِ، فلما جاءَ القَفيز غَرِقَتْ، فعُلِمَ
__________
(1) في الأصل:"القول".
(2) هي الواحدة من السَّاج، وهو خشب يجلب من الهند. "اللسان" (سوج).

(1/366)


بهذا أن الكُرَّ فيها ليس بعلَّةٍ لغرقِها، وأن كونَ القَفيزِ فيها وهي حاملةٌ للكُرِّ هو المغرِقُ لها، كما أن الضَربةَ الخفيفةَ هي علةُ الألم إذا كان البَدَنُ عليلاً أو بدَنَ طفلٍ في المهْد، ولو كان صحيحاً كبيراً لَم تُؤلِمْه ولا مثلُها، وإحدُ الحَمْلَيْن لم يكنْ موجوداً قَط في حال عدم ارتفاع السَّاجَةِ، فيكونُ الحَمْلُ الثاني هو الذي به ارتفَعَتْ، وليسَ يوجدُ أحدُهما إن كان علَّةً له دونَ الآخَرِ، فمتى وُجِدا وُجِدَ، وإن عُدِما عُدِمَ، وليس يوجدُ (1) مع وجودِ أحدِهما، ولكنْ بوجودِهما، وبمثلِ هذا يُفْرَقُ بينه وبين (2) الرِّيِّ والشِّبَعِ والتُخَمَةِ والسُّكرِ.
فإن سألت المعتزلة عن الإِيمان فقالت: هو يَثبتُ بأشياءَ يزولُ بزوالِ بعضِها. فليس هذا هو عندنا نحن هكذا، نحن نقول: إنه لا يزولُ الِإيمان بمخالفةِ شيءٍ من الأوامرِ ولا بارتكاب مَنْهِيٍّ من المناهي على الصحيح عندي من المذاهب، بل يكونُ مؤمناً بإيمانه، وهو المعنى الذي أَشَرْتُ إليه وهو التَصديقُ ناقصٌ الشُّعَبَ بما ارتكبَ من منهيٍّ أو خالفَ من أمرٍ، ولا يُوجَدُ إلا بوجوده، وكذلك البِرُّ والتَقْوى، فأما العدالةُ فإنها خارجةٌ لكونها تسميةً لمجموعٍ، فهي كاسم العَشَرَةِ وكلِّ جملةٍ من جمل الأعدادِ، فلا عدالَة مع وجود كبيرةٍ، وإن كثُرَتِ الطاعاتُ وحصلَ اجتنابُ المنهياتِ سوى تلك الكبيرةِ، والله أعلمُ.

فصل

في مسائلَ تشتبهُ في هذا الباب، ويَكثرُ التخليطُ فيها بين الفقهاءِ
__________
(1) في الأصل: "يعدم".
(2) في الأصل: "بين".

(1/367)


وهو ما يُبنى بعضُه على بعض من الأفعال، وما لا يُبنى عليه، بل يُلغى وُيجعلُ الحكمُ لغيره، وذلك يُشكِلُ بما ذكرناه من إشكال ما هو العِلَّةُ مما ليس هو العِلَّةَ، مثل ضعفِ كِبَبر أو مرض أو طفولةٍ، توجدُ معه جِراحة أو ضرب من جهة آدمي، وجراحبه يتعقّبُها سِرايةٌ بمرض لا يُزايلُه منذ الجراحةِ حتى يموتَ، فلا يُعلَّقُ على فعلِ اللهِ سبحانه الموجودِ قبل الجراحةِ من ضعف الطفولةِ والكِبَرِ والمرضِ، وفعلِه الموجودِ بعد الجراحة، سيَّما على قول أهل السنةِ وأنه ليس بمتولّدٍ عن الجراحةِ، فلا يُجعلُ لفعل الله سبحانه حظ من إسقاطٍ عن الجاني كما لو كان شريكُه آدمياً، بل يجعلُ كأنه انفردَ بالقتل، وتُغلَّظُ جنايتُه في المَحَلِّ الضعيف بالصِّغَرِ والكبَرِ والمرضِ، حتى إن الضربةَ التي لا يتعلَّقُ بها القَوَدُ على الضارب للكبير المشتَدِّ والصحيح (1) يتعلقُ بها القَوَدُ على الضارب للطفلِ الصغير والشيخِ الكبيرِ والمريض المدنَفِ (2)؛ إذ كانت قتلاً لمثله في مطردِ العُرْفِ، ولم يقل: إن فعلَ الله أعانَ على قتلِه، فيصيرُ شبهة في القتل؛ إذ تَرَددَ زهوقُ النفسِ بين ما يُوجبُ بانفراده -وهو فعلُ الاَدميِّ -وبين ما لا يُوجِبُ- وهو فعلُ الله سبحانه-، ونقطعُ على أن فعلَ الآدميِّ لم يَتحققْ مزهِقاً، بل الضعفُ المستولي على النفسِ بالمرضِ والكِبَر والطُّفولةِ كان مساعداً أكبرَ مساعدةٍ.
وذهب قوم إلى أن الضربَ بالعصا وإن كَثرَ عددُه لا يوجب القَوَدَ، وهذا نحوُ ما نحن فيه؛ لأنهم اعتَلوا بأن الضربةَ التي مات عَقِيبَها هي
__________
(1) في الأصل: "ولا".
(2) رجل مدنف: براه المرض حتى أَشْفى على الموت. "اللسان" (دنف).

(1/368)


التي أزهقَتْ، فإن النفس استقلَّتْ بالبقاءِ مع ما سبقَ من الجَلَداتِ والضرَباتِ السابقةِ وإن كَثُرَتْ، وما وجدناها زَهَقَتْ إلا عَقِيبَ الجَلْدةِ الأخيرةِ وهي مما لا يوجبُ القَوَدَ، وصار ما سبقَ -وإن أعقبَ ألماً وايجاعاً- بمثابة المرضِ والكِبَرِ عندهم؛ فإنه لا يوجبُ القَوَدَ أيضاً، وذاك بمثابته، وطردوا البابَ في كلُّ شيءٍ يقتلُ بثِقَلِه.
وزعموا أن القياسَ في اشتراكِ الجماعةِ في إزهاق النفسِ بالجراحِ كذلك، وأنه لا يُبنى ولا يجبُ القوَدُ، وإنما صاروا فيه إلى قضيَّةِ عمرَ، وقولِه: لو تمالأَ عليه أهلُ صنعاءَ لأقَدْتُهم به (1).
وقالوا أيضاً في السكْرِ الحاصلِ عقيبَ القَدَحِ العاشر: إنه هو المسكِرُ.
واتفقوا على أن الجارحَ جراحةً لا تبقى النفسُ بعدها في مطَّردِ العادةِ يفرَد بإيجاب القَوَدِ وإن شاركَه غيرُه بجراحةٍ قد يعيش معها في مطَّردِ العادةِ.
والمحقِّقون ممن خالفَ أهلَ الرًاي في مسألة الأقداحِ يقولون: إن السكرَ الحادثَ عند القَدَحِ العاشر ليس به ولا لأجلِه خاصَّةً، بل تكاملَ السكرُ بالعاشر، وتَناشَأ بقَدَحٍ بعد قَدَحٍ، كما يتناشأُ الشِّبَعُ بلُقمةٍ بعد لُقمةٍ، ويتناشأُ الرِّيُّ بجرعةٍ بعد جُرعةٍ، ويتناشأُ الجَبْر في
__________
(1) رواه مالك 2/ 871، والشافعي 2/ 100 - 101، وعبد الرازق (18073) و (18074) و (18075) و (18076) و (18077) و (18079)، وابن أبي شيبة 9/ 347 و 347 - 348، والبخاري (6896)، والدارقطني 3/ 202، والبيهقي 8/ 40 - 41.

(1/369)


العُضْوِ المكسورِ أو المُوتَهنِ (1) بشدةٍ بعد شدَةٍ، ويتناشأ الغَضَبُ بكَلِمةٍ بعد كَلمةٍ، ويمتلىء الإِناءُ بَقطرةٍ بعد قطرةٍ، ويذوبُ الجسمانِ باحتكاكٍ بعد احتكاكٍ، ويحصلُ اليقينُ بتناصر دليلٍ بعد دليلٍ، ويحصلُ العلم القَطْعيُّ الضروريُّ بإخبارِ واحدٍ بعد واحد إلى حين تكاملَ العددِ.
وُيبيِّنُ ذلك: أنه لا يَحسُنُ لمن شرب جَرَّةَ ماءٍ على ظَمَأٍ جُرعةً فجُرعةً أن يقولَ: أَرْوَتْني الجُرعةُ. وإن حصل الري عندها -أَعني الأخيرةَ- وَيحْسُنُ أن يقولَ: أرْوَتْني الجرَّةُ. ولا يَحسُنُ أيضاً أن يقولَ: أذابت سيفي هذه الضَّربةُ، ولا ملأت سقائي هذه المَذْقةُ (2). وَيحسُنُ أن يقال: غَرَّقَ السفينةَ هذا القفيزُ أو هذا السَّنْدانُ (3).
__________
(1) أي المصاب بَوهْن، وهو الضعف في العظم.
وقوله: "الموتهن" جاء به على سنن بعض أهل الحجاز؛ فإنهم لا يبدلون فاء الافتعال إن كانت واواً أو ياء أصلية تاء ويدغمونها في تاء الافتعال، ولا يلتفتون أيضاً إلى تخالف أبنية الفعل ياء وواواً، فيقولون في نحو: وعدو يسر: ايتَعَدَ وايتَسَرَ، وفي المضارع: يا تَعِد وياتَسِرُ -ولا يقولون: يَوْتَعِدُ ويَيْتَسِرُ؛ استثقالاً للواو والياء بين الياء المفتوحة والفتحة-، وفى اسم الفاعل: موتَعِدٌ ومُوتَسِرٌ، وفي الأمر ايتَعِدْ وايتَسِر.
والجادة في هذا ونظائره إبدال فاء الافتعال إن كانت واواً أو ياء أصلية تاء مدغمة فى تاء الافتعال، فيقال في نحو وهن ووعد ويسر: اتهَنَ واتَعَدَ واتَسَرَ، وفي المضارع: يَتَّهِنِ ويَتَعِدُ ويَتَّسِرُ، وفي اسم الفاعل: مُتَهِن ومتَعِدٌ ومتَسِرٌ، وفي الأمر اتَهِن واتَعِد واتَّسِر انظر "شرح الشافية" 3/ 80 - 83.
(2) المَذِيقُ: اللبن الممزوج بالماء، والمَذْقَة: الطائفة منه. "اللسان" (مذق).
(3) السَّنْدان: هو ما يَطُرقُ الحدَّاد عليه الحديد. "المعجم الوسيط" (سند).

(1/370)


وقد سمعْتُ في إشكالِ السفينةِ سؤالًا من محقِّقٍ، فقال: إن الغرقَ يتناشأُ كهذه الأشياءِ، إلا أن الشِّبَعَ والرِّيَّ والسكرَ نوعُ امتلاءٍ تَتحددُ عنده هذه الخصيصةُ، والامتلاءُ لا يتحصَّلُ إلا باجزاء الجسمِ المالىءِ للوعاءِ، كما أن الغَرقَ حقيقتُه عومُ السفينةِ في الماء إلى الحَدِّ الذي يغمُرُها، ولا يَغمرُ سائرَها إلا بعد أن يستوليَ على شيءٍ فشيءٍ من ذاتها إلى أن يَستُرَها وَيغمُرَها، ولا تزالُ عند طَرْحِ قفيزٍ قفيزٍ تعوم، فيسترُ الماءُ جزءاً منها إلى أن يبقى يسيرٌ من ذاتِها مكشوفاً، فإذا طُرِحَ القفيزُ غَمَرَها الماء لعومِ ما بَقِيَ من أجزائها في ذلك الماءِ.
فقال له محقِّقٌ: إن عومَ أجزائها مع تمكُنِها من السَّيرِ بما فيها لا يُسمَّى غرقاً، ولا يُسمَّى بعضَ الغرقِ، وُيسمى المنتشِي بالخمر والساكن النَفْس بالتَمَراتِ واللقَمِ شبعاناً بعضَ الشَبَعِ وسكراناً بعضَ السكر؛ ولهذا فسَّروا قولَه [تعالى]: {لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وانْتُم سُكارَى حَتَى تَعْلَموا ما تَقُولُون} [النساء: 43] بالمخلِّطِ في كلامه بمبادِىء سُكرِه؛ لأن الخِطابَ لمن تحقَّقَ زوالُ عقلِه لا يَتحقَّقُ، فلم يَبْقَ إلا سكراناً بقيَ عليه مسْكَةٌ من عقلِه يبقى معها التكليف والخطابُ (1).
ولو كان العومُ مع السَّيرِ وحصولِ الغرضِ باستقلال السفينةِ غرقاً أو بعضَ غرق، لسُمِّيَ السابحُ: غَرِقاً؛ لانستار بعضِ جسدهِ بالماء، وهذا لا يجوزُ في كلِّ اسم وقَعَ على جُمْلةٍ وُضِعَ لها، إذا كانت الجملة لا تتبعَّضُ، بخلاف الجُمَلِ من الأعداد كعشَرَةٍ ومِئَةٍ، يقال في الخمسة: نصفها، وفي الثلاثة: بعضُها، ولا يقالُ في السفينة العائم
__________
(1) انظر ما سبق للمصنف إيراده في مسألة تكليف السكران في الصفحة (51).

(1/371)


بعضُها في الماء الثقيلةِ بوِقْرِها: غريقةً بعضَ الغرقِ، بل لا يقعُ اسمُ الغرقِ إلا على غَمْرِ الماء وعبورِه عليها.
فهذه جملة تكشفُ لك عن دقائقِ أغراضِ العلماءِ، ويَمنعُ فهمُك لها من أن يخدَعك خادعٌ في هذا النوعِ بزَخْرفةِ كلامٍ فارغٍ، فيَخلِطَ عليك الشيءَ بما ليس فيه، مثل أن يُوهِمَك ماليس بعلةٍ علَّةً، أو ينفيَ التَعليلَ في موضعِه، أو يجعلَ وصْفاً لعلًةٍ علَّةً، أو شَرْطاً لعلةٍ علَّةً، أو يُعلِّلَ بأوصافٍ ويَخلِطَها بحشوٍ.

فصل
فيما يُمكنُ نقلُه من العللِ إلى الكُلً ويلزمُ، وما يمكنُ نقلُه إلى كُلٍّ على صفةٍ دون الكلِّ على الإِطلاقِ
فنقلُ العلَّةِ إلى الكليَّةِ: هوجعلُ العلَّةِ عامةً بكلَ، ثم بناءُ ما وجبَ بهاعليها.
مثالُ ذلك قولُك: إنما وجبَ متحرِّكٌ لحركةٍ موجودةٍ، فكل حركةٍ موجودةٍ فواجب بها متحرِّكٌ. ولو قال: إنما وجبَ متحركٌ لأجلِ الحركةِ، للَزِمَ منه: وكل حركةٍ واجب بها متحرِّكٌ.
فإن قال: هذا المحَلُّ متحرَك؛ لأن فيه حركةً. لَزِمَ منه إذا نُقِلَتْ إلى الكليَّةِ: فكلُّ ما فيه حركةٌ فهو متحرِّكٌ.
ومن الفقهيَّاتِ: محرَّمٌ لأن فيه شِدَّةً مطرِبةً، فكل ما فيه شِدَةٌ مطربةٌ فهو محرَّمٌ.
مثالٌ آخرُ: فإن قال: البناءُ لا بُدَّ له من صانعٍ؛ لأنه مصنوعٌ، لَزِمَ

(1/372)


منه: كلُّ مصمنوعٍ لابُدَّ له من صانعٍ.
فإن قال: هذه الكتابة لا تكون إلا من عالمٍ بها؛ لأنها محكمَةٌ متقَنةٌ، لزمَ منه: فكل محكمٍ متقَنٍ لا يكونُ إلا من عالمٍ.
فأمَّا المنقولة إلى كلُّ مخصوصٍ لكونها خاصَّةً: قول القائل: هذا الحمار فارِةٌ (1)؛ لأنه جرى عَشَرَةَ فراسخَ، لَزِمَ منه: أن كلُّ حمارٍ جرى عشرَة فراسخَ فهو فارهٌ، ولا يلزمُ منه أن البعيرَ إذا جرى عشرةَ فراسخَ، أو الفرسَ إذا جرى عشرةَ فراسخَ فهو فارِهٌ.
بل لو قال: بَهيمَةٌ جرى، أو هذا البهيمةُ جرى عشرةَ فراسخَ فهو فارِه. لزمَ أن كلَّ فرسٍ وبعيرٍ جرى عشرةَ فراسخَ فهو فارِةٌ.
وفي الفروعيَّاتِ: لو قال: هذا الماء متغيِّرٌ فلا يجوزُ الوضؤُ به، لزمَ منه: أنه لا يجوز الوضؤ بالمتغيِّرِ بالطحْلُب (2) والتراب. ولو قال: هذا الماءُ متغيِّرٌ بالخَلِّ فليس بطَهورٍ. لزمَ منهَ أن يكونَ كلُّ ما تغيَّرَ بالخَلِّ فليسر، بطَهورٍ، ولا يلزم منه (3): الماءُ المتغيِّرُ بالتراب ليس بطهورٍ.
وعلى ذلك أبداً لوجوبِ إجراء العِلَّةِ في معلولِها، والله أعلم.
__________
(1) الفاره: هو النشيط الحاد القوي. "اللسان" (فره).
(2) الطحلب: شيء لزج أخضريخلق في الماء ويعلوه."المصباخ المنير" (طحلب).
(3) في الأصل: "فيه"، والأنسب ما كتبناه.

(1/373)


فصل
في تحقيقِ تحديدِ العللِ، وبيانِ الغَلَطِ فيه، والخروجِ عنه إلى التَّغييرِ لها
ذكرته ليُجتنبَ، كما ذكرتُ التحديدَ الصحيحَ ليُتَّبَع.
فنبدأَ بالصحيحِ: فمن ذلك: أن نقولَ: الِإنسانُ حَيٌّ لأجلِ الحياةِ الموجودةِ له. فهذا تحديدٌ صحيحٌ؛ لأن كلَّ حياةٍ موجودةٍ لشيءٍ فهو حيٌّ بها، وهي سليمةٌ من التَّغييرِ لها والتَغييرِ عنها.
فأمَّا المنكسرةُ (1) من العللِ: فهو أن نقولَ: الإِنسانُ حيٌّ لأجلِ الحياةِ الموجودةِ، فليس هذه محدِّدةٌ، بل منكسرةٌ، لأنه يلزمُ من هذا: كلُّ حياةٍ موجودةٍ فهو حي بها. وليس هذا صحيحاً؛ إذ حياةُ الحمارِ والفرسِ موجودةٌ، وليس الإِنسانُ حياً بها.
ومن العللِ غيرِ المحدِّدةِ أن نقول: هذا الإِنسانُ حَيٌّ لقيام الدَّلالةِ أن فيه حياةً. فهذا أيضاً غيرُ محددٍ؛ لأجل أنه لو لم تَقُم الدَّلالةُ، لم يُخرِجْه ذلك من أن يكون حياً.
فإن قال: إنه حيٌّ لأجل أنه علِمَ أن له حياةً موجودةً. كانت غيرَ محدِّدةٍ؛ لأنه لو لم يُعلَمْ ذلك، لم يُخرِجْه عما هو به من كونِه حياً، فذِكرُ العلمِ زيادةٌ لو أُسقِطَت لصحَّت.
فإن قال: هو حيٌّ لوجودِ عَرَضٍ يُضادُّ الموتَ. لم تكن محدِّدةً،
__________
(1) الكسر: نقض على المعنى دون اللفظ، ويرجع إمَّا إلى منع صحة العلة، أو إلى معارضتها بما يفسدها. "علم الجذل في علم الجدل" ص 66 - 67.

(1/374)


لأنه لم يُصرِّح بذكرِ الحياةِ، ولا ذكرها له، فلم يأتِ بها على الوجهِ الذي يقتضي الحكمَ بأنه حيٌ وهو الحياةُ.
وقد يَضعفُ نَظَر الخصمِ فيُدخِلُ في العلَّةِ شيئاً كثيراً ليس منها، فَتَفَقَّدْ ذلك وتأمله جيداً؛ لتُحَقِّقَها إن أردْتَ الإِلزامَ عليها على النحو الذي ذكرت لك.
ومثالُه من الفقهيات: الخمرُ حرامٌ لأجلِ الشِّدَّةِ الموجودةِ. ليس بتحديدٍ؛ لِمَا بَينَا في مثال الحياةِ.
فإذا قال: هذا العصير حرامٌ لأجل الشِّدَّةِ الموجودةِ له. فقد حَدَّدَ، وعلى ما قدمْنا فأقمِ الشَدَّة مَقامَ الحياةِ.

فصل

في الفرقِ بين الدَلالةِ والعِلةِ
اعلم أنه ليس كلُّ دَلالةٍ على شيءٍ فهي علَّةُ له، ألا ترى ان تدبيرَ العالَمِ دلالةٌ على القديمِ؛ إذ لا بد له من صانعٍ غيرِ مصنوعٍ، وليس بعلةٍ له، وكذلك الخبرُ الصادقُ دلالةٌ على كون المخبَر على ما هو به، وليس بعلةٍ لكونِ المخبرِ على ما هو به؛ إذ لو لم يوجَدِ الخبرُ، لم يَبطُلْ أن يكونَ المخبَرُ على ما هو به.
وقد يجتمعُ الشيءُ أن يكونَ علَّةً (1) لشيءٍ ودَلالةً عليه (1)، وذلك كالكفر؛ فإنه علَّةُ لاستحقاقِ الذَّمِّ، ودلالةٌ على استحقاقِه.
وكذلك عدمُ الواجبِ في الوقتِ الذي قد وجبَ فعله من غير غذْرٍ
__________
(1) هذه الكلمات مكررة في الأصل.

(1/375)


ولا تكفير، دَلالة على استحقاقِ الذَّمِّ، وليس بعلَّةٍ.

فصل
في العلَلِ العقليَّةِ والسمعيَّةِ
فالعقليَّةُ -وهي علَّةُ الحكمِ العقليِّ- موجبة للحكم لنفِسها وجنسِها، فمُحالٌ ثبوتُها أبداً مع انتفاءِ الحكمِ قبل الشَّرع، ومعِ ورودِه، وفي زمنِ نسخِه؛ لأن في تجويزِ ثبوتِها مع انتفاءِ الحكمَ نقْضاً لها، وكذلك في ثبوت حكمِها في موضعٍ ما مع انتفائِها نقضٌ لهَا على ما بَيَّنَّاه من قبلُ، وهذه كالحركةِ إذا كانت في مَحَلٍّ أوجبَتْ له التحرُّكَ لا مَحَالةَ.
وأما عللُ الأحكام: فعلاماتٌ وسِماتٌ تكونُ علامة بوضعٍ واختيارٍ، فلا يَمتنعُ أن تكوَنَ تارةً مجعولةً أَمارَةً، وتارةً لا تكونُ كذلك، وهذه كالشِّدَّةِ المُطربةِ إذا كانت في شرابٍ فهو محرم لا مَحالَةَ، إلَّا أنَّا عَلِمْنا ذلك من جَهةِ السَّمعِ؛ ألا ترى أن الشرابَ قبل أن يقعَ فيه خمرٌ أو تخمرٌ كان محلَّلاً، فلما وقعَ فيه خمرٌ أو حصلَ فيه تخميرٌ، صارَ محرَّماً بعد أن لم يكن محرَّماً، كما أن المحلَّ قبل أن تُوجَدَ فيه حركةٌ كان ساكناً، فلمَّا وُجدَتْ فيه الحركةُ، صار متحرِّكاً بعد أن لم يَكُنْ.
فكلٌّ ما إذا كان الأوَّلُ كان الثاني من أجل كونِ الأوَّلِ، فالأوَّلُ عِلَّةٌ، عقلياً كان أو سمعياً، ومثلُ هذه العلَّةِ السمعيَّةِ لا خلافَ في معنى القياسِ بها.
فإن قال قائلٌ: أفليس قد كانت الخمرُ تقعُ في الشراب والشَدةُ

(1/376)


تجصلُ في العصيرِ، فلا يكونُ حراماً قبل السمعِ؟ فما العلَّةُ التي لأجلِها كان حراماً بعد أن لم يَكُنْ حراماً؟
قيل له: قيامُ الحُجَّةِ بأن في شُرْبه المَفسدةَ المعلومةَ في هذا الزمانِ، دون ما سبقَه من الزمان الذي كَانت فيه مُباحَةً.
فإن قيل: فالمَفسدةُ التي صَرح بها القرآنُ -وهي إيقاعُ العداوةِ والبَغضاءِ بما يحصلُ من العَرْبَدةِ والمخاصمةِ، والصَدُّ عن ذكرِ اللهِ وعن الصَلاةِ (1) - لم تَزَلْ حاصلةً بالسُّكر المغطَي للعقل الذي به يحصلُ التمييزُ بين الأمورِ، وهذا أمرٌ ما تَجَددَ، فكيف تَصِحُّ لكم دعوى تَجَدُدِ المَفسدةِ والحالُ هذه؟
قيل: العلَّةُ في كونِه حراماً في هذه الحالِ وكونِه قبيحاً هو قيامُ الحجَّةِ بكونه مَفسدةً، والمَفسدةُ التي ذكروها- وهي التي نطقَ بها الكتابُ الكريمُ -مَفسدة لكن ليس بكلٍّ، بل من بعضِ المَفسدةِ ذاك، ويجوزُ أن يكونَ ما ذكرَه مما يحصلُ في هذه الامةِ وهذا الزمانِ حكمُه يَزيدُ عند اللهِ على كلِّ مَفسدةٍ، ويجوزُ أن تختلِفَ المفاسدُ باختلاف الأزمانِ والأشخاصِ، كما أن الكلامَ في الصلاةِ مفسدةٌ وفي الحجِّ ليس بمَفسدةٍ، والطيبُ في الحجِّ مفسدةٌ وفي الصلاةِ ليس بمفسدةٍ، وأكْلُ الزَّكاةِ مع كونِها أوساخ الناسِ مفسدةٌ في حقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأهلِ بيتِه وليست بمَفسدةٍ في حقَ غيرِهم، والجَمْعُ بين الأختَيْن يَقطَعُ (2) والجمعُ
__________
(1) وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة الآية (91): {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}.
(2) أي يقطع الرحم بينهما.

(1/377)


بين الصَّديقتَيْن يَقطَعُ، وكان الحكمُ للتَحريمِ لقطيعةِ الرَّحمِ لا الصَّداقةِ، كذلك جازَ أن تُخَصَ هذه الأُمَّةُ (1) بتحريمِ ما يقطعُ بينهم ويَصُدُهمِ عن ذكر الله وعن صلاتهم لحرمةٍ تَخُصُّهم، فتكونُ منزلةً لهم وخصيصةً خُصُوا بها يكونُ في مخالفِتها من المفسدةِ ما لم يَكُنْ في حقِّ مَنْ سلفَ وما سلفَ مِنْ حالِهم، والله أعلم.
وقد قال بعضُ أهلِ العلمِ الأئمة: فإن قالُوا لنا: فما العلَّةُ التي كان بها قبيحاً في هذه الحالِ، وقد كان يجوزُ أن يقعَ في الحالِ الأُولى غيرَقبيحٍ؟
قيِل لهم: العلَّةُ في ذلك هو القَصْدُ إليه مع قيامِ الحجَّةِ بأن فيه مفسدةً.
فإن قيل: فما العلَّةُ التي لأجلها قَبُحَ القصدُ، وقد كان يجوزُ أن يقعَ في الحالِ الأولى؟ فنحن نسألُكم عن تَجَدُدِ قُبْحِ القصدِ، كما سألناكم عن الموجِبِ لتجدُّدِ القبحِ ما هو؟
قيل له: لم يكن يصحُّ أن يقعَ القصدُ الذي مع قيام الحجةِ الآن قبل قيام الحجَّةِ؛ إذ ليس القصدُ الذي قبل قيام الحجةِ كَالقصدِ الذي بعد قيامَ الحجةِ، كما لا يَصح أن يقعَ العلمُ بالَحركةِ -الذي هو عِلمٌ بأن المحَلَّ يتحركُ -قبل أن يُعلمَ المحل، فهذا العلمُ بخلاف العلمِ بالحركةِ من جهةِ أنها حركةٌ، فكذلك هذا القصدُ الذى مع قيامِ الحجَّةِ
يخالِفُ القصدَ الذي ليس مع قيام الحجَّةِ، وهو عندي أحسنُ من الأوَّلِ؛ لما فيه من رَدِّ القبحِ إلى اَلقصدِ مع قيامِ الحجةِ.
__________
(1) في الأصل: "الآية".

(1/378)


فصول
في الفروقِ بين العلَّةِ العقليَّةِ والشَرعيَّةِ
فمن الفروقِ: أن العلَّةَ العقليًةَ لا يجوزُ ولا يَصِح تخصيصُها بعَيْنٍ دون عَيْنٍ.
والعلَّةُ الشرعيَّةُ اختلفَ الناسُ فيها: فجوَّزَ تخصيصَها قومٌ بدَلالةٍ، ومنع آخرون من تخصيصِها؛ لأن الشرعيَّةَ أَمارةٌ وعلامةٌ ودَلالةٌ، وقد تَدُلّ على شيءٍ في وقتٍ، ولا تَدلُّ عليه في غيرِه، قالوا: فكذلك تدلُّ على الحكم في مَحَلٍّ، ولا تَدلُّ عليه في غيرِه، فقد استجازَ القائلون بتخصيصِ العلَّةِ (1) ذلك.
ولايجوز عند أحدٍ تخصيصُ علَّةِ العقلِ في عَيْنٍ دون عَيْنٍ، ولا في زمانٍ دون زمانٍ.

فصل
ومن الفروقِ بينهما أيضاً: أن الشرعية ربما احتاجت إلى شَرْطٍ في كونها علَّةً للحكم، نحو: الزَنا الموجِبِ للرًجمِ بشرطِ الإِحصانِ، ووجوبِ الزَّكاةِ في النًصابِ بعلَّةِ الغَناءِ به بشرطِ حُؤولِ الحَوْلِ على النًصابِ، وغيرِ ذلك.
__________
(1) في الأصل: "العلم".

(1/379)


والعقليَّةُ لا تحتاجُ في إيجابِها للحكمِ إلى شرطٍ؛ لكونها (1) موجبةً غيرَ علامةٍ للحكمِ، ولا أمارةٍ عليه (2)، ولا دَلالةٍ.

فصل
ومن الفروقِ أيضاً بينهما: أن العِلَّةَ العقليَّةَ لا بُدَّ أن تكونَ منعكِسةً، فالحركةُ عِلَّةُ كونِ المحلِّ الذي قامت به متحرِّكاً، فيجبُ من ذلك: أن كلَّ مَحَلٍّ لم تَقُمْ به الحركةُ، فلا يكونُ متحرِّكاً بحالٍ.
فأمَّا الشرعيَّةُ: فلا يُشترطُ لها العكسُ؛ فإنَّا إذا قلنا: كلُ شراب قامت به الشِّدَّةُ حرامٌ، لا يَلزمُ منه: أن كلَّ شرابٍ لم تَقُمْ به الشِّدَّةُ حلالٌ، وكان المعنى فيه: أن العقليَّةَ موجِبةٌ والشرَعيَّةَ أمارةٌ.
والأماراتُ والدَّلائلُ قد تَدلُ على الشيءِ فيُعلمُ، وليس إذا لم تَدُلَّ يُعدَمُ، وأما العقليَّةُ فموجِبةٌ، والموجبُ إذا وُجدَ أوجبَ موجَبَه لا مَحالةَ، فإذا لم يُوجَدْ لم يُوجَدْ موجَبُه لا مَحالَةَ.
ولأن العلَّةَ الشرعيَّةَ كما تَدُلُ على الحكمِ يَدُلُ غيرُها عليه، فإن الحكمَ الواحدَ من أحكام الشَّرعِ يَثبُتُ بعلَّتَيْنِ، فإذا زالَتْ إحداهما بقيتِ الأخرى، فلذلك لم يَكُنْ من ضرورةِ انعدامِها انعدامُ الحكمِ.
بيانُ ذلك: أن التَّنجُّسَ حكمٌ يَتعلَّقُ بالمحلِّ، تُوجِبُه علًتان: الاستحالةُ، وملاقاةُ نجاسةٍ، فإذا زالتِ الملاقاةُ، بقيتِ الاستحالةُ مستقلاً بها الحكمُ، وإن زالتِ الاستحالةُ، بقيتِ الملاقاةُ، فلم يَنْتَفِ
__________
(1) في الأصل: "بكونها".
(2) في الأصل: "علة".

(1/380)


الحكمُ بزوالِها وانتفائِها؛ فلذلك لم يُشرَطِ العكسُ فيها، بخلاف العقليَّةِ (1) فإن التحرُّكَ الذي هو حكمُ الحركةِ ومعلولُها لا يثبت بالحركةِ وبمعنىً آخرَ قَطُّ، فالحركةُ لا يُشارِكها في إيحاب التحركِ شيء من الأعراضِ، فلا جَرَمَ إذا انتفَتْ عن المحل، انْتَفى حكمُها -وهو تحرك المحل- لا مَحالَةَ.

فصل
ومن الفروق بينهما: أن عِلةَ الحكمِ العقليِّ يجبُ أن تكون أبداً مقارِنةً له غير متقدمَةٍ عليه ولا متأخِّرةٍ عنه، وليس كذلك سبيلُ العلة الشرعيَّةِ؛ لأنها قد تُوجَدُ قبل حصولِ الحكمِ كشِدةِ الخمر، وتَأتَي الطُّعْمِ وتَهَيُّؤِ الكَيْلِ والاقْتِياتِ في البُرِّ قبل ثبوتِ الحكمِ، وهو تحريمُ التَّفاضلِ، فلا يَجبُ أن تَجْريا في هذا البابِ مَجْرىً واحداً.

فصل
ومن الفروقِ بينهما: أن العلَّةَ الشرعيَّةَ يجوزُ أن تُوجِبَ حُكمَيْن مختلِفَيْنِ، مثلُ إيجاب شِدَّةِ العصيرِ تحريمَ شُرْبِه، وإباحةَ ضرب شاربه، وحرمةُ الرَّضاع وَالقرابةِ يُوجِبان تحريمَ النِّكاحِ، وإباحةَ الخَلْوَةَ والمُسَافَرَةِ، والحَيْض علَّةُ لتحريمِ وَطْءِ الزَوجِ في الفَرْجِ، وإباحةِ الأكلِ في نهارِ رمضانَ، والموجِبُ للغُسْلِ، وإسقاطِ إيجابِ الصلاةِ رأساً.
فأمَّا العلَّةُ العقلئةُ: فإن الحركةَ لا توجبُ تحرُّكَ الجسمِ وتَلَوُّنَه
__________
(1) في الأصل: "الشرعية".

(1/381)


المختلِفَيْنِ غيرَ المتضاديْنِ، ولا تحركَه وسكونَه الموجَبَيْنِ المتضادَّيْنِ، ولا تُوجِبُ أيضاً حكمَيْنِ مِثْلَيْنِ، كما لم تُوجِبْ حكمينِ مختلِفَيْنِ ولا متضادَيْنِ.
وإنما كان ذلك لمعنىً، وهي أنها (1) تُوجبُ الحكمَ والمعلولَ لجنسِها ونَفْسِها، ونفسُها وجِنْسُها غيرُ مختلِفٍ، والعللُ الشرعيَّةُ تُوجِبُ لوضعِ الواضعِ لها، واختيارِه لحكمَيْنِ مختلِفَيْن معلَّقَيْن عليها مع اتحادِها.

فصل
والعلَّتانِ الشَّرعيَّتانِ المختلِفتانِ قد تُوجِبانِ حكمَيْنِ متساوَييْنِ، كالشرب والقَذْفِ يُوجِبان حَدَ الشرب والقذفِ، فمن شربَ جُرْعَةَ خمرٍ وقَذَفَ مَحصَناً أو محصَنةً، حد الحَدَيْنِ معاً.

فصل
ولا يجوزُ أن يَنصِبَ اللهُ سبحانه علَّةً وعلامةً على إيجاب حُكميْنِ ضِدَيْنِ نقيضَيْنِ لا يصحُّ من المكلَفِ الواحدِ الجمعُ بينهما، بل يجوزُ أن ينصِبَ علَّةً لثبوت أحكامٍ مختلفةٍ أو تُرُوكٍ، أو أفعالٍ وتُروكٍ يصحُّ من المكلَّفِ الجمعُ يينها (2)، أو أن تكونَ علَّة لثبوتِ حكمٍ في وقتٍ وسقوطِه (3) في غيرِه، أو علَّةً لوجوب حكمٍ على عَيْنٍ وسقوطِه عن أخرى، فأمَّا أن يجعلَ للمكلَّفِ عَلامةً على ثبوتِ الحكمِ عليه
__________
(1) في الأصل: "إنما"، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) في الأصل: "بينهما".
(3) في الأصل: "سقوط"، والأنسب ما أثبتناه.

(1/382)


وسقوطِه عنه في وقتِ وجوبِه، وعلى تحليلِه عليه وعلى تحريمِه، فذلك مُحالٌ.
وقد يضعُ الله سبحانه علامَتَيْن لحكمَيْن نقيضَيْن في حَقِّ مجتهدَيْنِ، وُيخيَّرُ المستفتي في الأخذِ بأيِّهما شاءَ، على ما تقدَّمَ في بيانِ الاجتهادِ وفصولِه.

فصل
ولا يجوزُ أيضاً أن تكونَ العلَّةُ الشرعيَّةُ علَّةً لحكمَيْنِ متساوَييْنِ على مكلَّفٍ واحدٍ، لأن حكمَ الله سبحانه فيما أحلَّه أو حَرَّمه لا يتزايدُ، وإن كان الوعيدُ على بعضِ الذُنوب أكثرَ من بعضٍ، والثَّوابُ على بعضِ الطَاعاتِ أكثرَ من بعضٍ، إلا أن كلُّ ذلك يجبُ من جهةٍ واحدةٍ، ولا يجوزُ إذا كان لتحريمِ شيءٍ أو تحليلِه للمكلَفِ علَّتان مختلِفتانِ وأكثرُ، أن يتزايدَ الحكمُ بتزايدِ عِلَلِه؛ لأجل أن علَلَه أدلَّةَ عليه، والحكمُ لا يتزايدُ بتزايدِ الأَدلَّةِ، وإنما يَقْوَى ثبوتُه في النًفْسِ بتزايدِ الأدلَّةِ، فقطْ.
وإنما اخْتَلَف المتكلَمون في العلل الموجبةِ إذا كَثُرَتْ، هل تتزايدُ أحكامُها والأحوالُ الموجَبةُ عنها أم لا؟ فأمَّا الَدَّلائلُ على الحكم شرعيَّةً كانت أو عقليَّةً -فلا تُوجِبُ تزايدَ حالِ المدلولِ عليه؛ إذ ليست الأدلَّةُ موجِبةً، لكنها كاشفةً وموضحةً.

فصل
في العلَّةِ التي نتيجتُها ظَنٌّ
وهي التي ترجعُ في كونِها توجِبُ إلى ظَنٍّ، وذلك يقعُ في العلل

(1/383)


العقليَّةِ والسمعيَّةِ، مثالُ ذلك: أن خَبَرَ الثَّقةِ عند المجتهدِ: أن هذا الطعامَ مسمومٌ، صَحَّحَ الحكمَ عنده بأنه مسمومٌ، وإذا صحَّ الحكمُ عنده بأنه مسمومٌ، وجبَ عليه تجنُّبه، وكذلك إذا أخبرَه الثِّقةُ بسببٍ يُوجِبُ مثله تنجيسَ الماءِ، وجبَ عليه تجنُّبُه.

فصل
فيما سمّاهُ قومٌ من المتكلِّمين: العِلَّةَ المولَّدةَ؛ تغريباً للعبارةِ فيه والمتولدُ لا أصلَ له عندنا، وإنما هو مذهبُ أهل الطبْعِ والاعتزالِ، ذكرتُه حتى لا تفوتَ معرفةُ ما تحتَه بتغريبِ تسميتِه.
والعلَّةُ المولَّدةُ عندهم: هي التي يُوجِب وجودُها غيرَها، ولا يخلو أن يُوجَدَ عَقِيبَها بلا فَصْلٍ، أو يوجَدَ معها، وذلك كالاعتمادِ الذي توجَدُ عنه الحركةُ، فقالوا: إن الحركةَ تولَدتْ عن الاعتمادِ، فسَمَّوْها: مولَّدةً، وعندنا وجِدَتْ عقِيبَ الاعتمادِ؛ فلا تكونُ عندنا مولَّدةً بناءً على أصلِنا في إبطالَ التوُّلدِ.
فأمَّا التي تكونُ لسببٍ والسببُ في حالِ تحركِه: كالخاتِمِ في اليَدِ، تقعُ حركةُ الخاتَمِ وحركةُ اليدِ معاً في حالةٍ واحدةٍ.
والعلَّةُ عندهم على ضَرْبَيْنِ: مولِّدةٍ، وموجبةٍ غيرِ مولِّدةٍ، فالعلَّةُ التي يجعلونها مولِّدةً: هي التي قدَّمنا ذكرَها، وَأما العلَّةُ الموجبةُ من غيرِ توليدٍ: فكالحركةِ إذا وُجِدَتْ أوجبَتْ متحركّاً بلا مَحَالَةَ.
وكلُّ علَّةٍ فلا بُدَّ أن توجِبَ متغيِّراً بها عمّا كان عليه على قولِ

(1/384)


هؤلاءِ -وهم أهلُ التولُّدِ-، وعندنا لا بُدَّ أن تُوجِبَ معلولًا في الجملةِ، فقد يكون تغيُّراً، وقد يكونُ غيرَه؛ لأن العلمَ علَّةُ كونِ العالِمِ عالماً شاهداً وغائباً، فاحْذَرْ مقالةَ هؤلاءِ وقولَهم: المعلولُ لا يكونُ عن العلَّةِ إلا حادثاً بعد أن لم يَكُنْ، وتغيراً عن حالٍ كان عليها إلى حال لم يكنْ.

فصل
في شَرْطِ العلَّةِ
اعلم أن شرطَ العلَّة: هو تعليقُها بما إذا وَقَعَتْ عليه أوجَبَتْ معنى الحكمِ، وإذا لم تَقَعْ عليه لم تُوجِبْ معنى الحكمِ.
والفرقُ بينها وبينَ الجُزْءِ من العلَّةِ: أن الاقتضاءَ لها إذا كانت على تلك الصفةِ، وليس كذلك الجزءُ من العلَّةِ، بل الاقتضاءُ للجملةِ بأجزائها.
مثالُ الأولِ: إذا كان القبيحُ من مَحْجُوجٍ فيه، استَحَقَّ الذمَّ لأجل القبيحِ الواقعِ على هذه الصفةِ، وليس يَستحِقُه لأجل القبيحِ وأنه محجوجٌ فيه، وكذلك يصحُّ الفعلُ بالقدرةِ إذا لم يَكُنْ مَنْعٌ، وليس يقعُ الفعلُ لأجل القدرةِ وعَدَمِ المنعِ، فهذا مثالُ الشرطِ، والمنعُ: مثلُ قَيْدٍ ورِباطٍ.
مثالُ الثاني -وهو الجزءُ-: علَّةُ الجسمِ الطُولُ والعَرْضُ والعُمْقُ، ولا يجوزُ أن تكونَ العلَّةُ الطولَ إذاكان عرْضٌ وعمقٌ، لأن الاقتضاءَ لاجتماع هذه الثلاثةِ على الحدِّ الذي وَصَفْنا.

(1/385)


ولو قال قائل في صفيحةٍ لها طولٌ وعَرْض من غيرِ عمقٍ، ثم حدثَ فيها عمقٌ، فصارت جسماً: العلَّة التي لأجلها صارت جسماً بعد أن لم تَكُنْ جسماً حدوثُ العمقِ لِمَا له طولٌ وعرضٌ. لحَسُنَ هذا القولُ منه؛ لأن الحادثَ الآن هو العمقُ، فالاقتضاءُ له.
فإن قال في سفينةٍ كان فيها كُرٌّ ولم تَغرَقْ، فزِيدَ عليها قَفِزٌ، فغَرِقَتْ: ما العلَّةُ في ذلك؟
قيل: العلَّةُ في ذلك طَرْحُ القفيزِ الزَائدِ فيها؛ لأنه الحادثُ الذي غَرِقَتْ به.
فإن قال: فلو طُرِحَ الجميعُ في حالٍ فَغَرِقَتْ، ما كان العلَّةُ في ذلك؟
قيل له: العلَّةُ في ذلك طرحُ الجميعِ؛ لأنه ليس بعضُ ذلك الحادثِ أوْلى من بعضٍ.

(1/386)


فصول
في المعارضةِ
اختَلَفَ الناسُ في المعارضِة، فأَثْبَتها قوم، ونفاها آخرون، واعتَلَّ نفاتُها بأنها ليست مسألةً ولا جواباً، فصارت كلاماً لا عُلْقَةَ له بكلام المستدلِّ.
واعتل من اثْبَتها -وهو عندي المذهبُ الصحيحُ، وأنها داخلة في أقسام السؤالِ والجواب- بأن قال: أنتم تعلمون أن المقِر لموسى [عليه اَلسلام] لإِطباقِ اَليهودِ على الإِقرارِ به، يَلزَمُه الإِقرارُ لهارونَ لإِطباقِهم أيضاً على الإِقرارِ به، فلو أن إنساناً أقر بموسى لهذه العلَّةِ وأنكرَ هارونَ، لكان مفرقاً بينهما بالإِقرارِ والإِنكارِ مع استواءِ الإِقرارِ لهما والعلةِ، وتفرقتُه بينهما مذهب تفردَ به؛ لأنه متى فعلَ ذلك فقد خُولِفَ فيها، وهي كبعض المذاهب التي يأتي بها؛ لأنه سواءٌ قولُه: ليس موسى كهارون، وليس الإِقرارُ لهَما مستوياً في الوجوبِ والعلَّةِ.
ولا شَك أنه قد تحقَقَ من قوله: إن المقِرَّ بموسى مصيب لعِلَّتي، وهي إطباقُ اليهودِ عليه، وأنه نبيٌّ، فإذا قال في هارونَ خلافَ ذلك، كان الملزِمُ له القولَ لمثلِ ذلك في موسى إلزاماً بالمعارضةِ الصحيحةِ؛ لأن العلَّةَ التي تعلقَ بها في موسى ينطبقُ عليها ايجابُ القولِ في هارون، كالقولِ في موسى، والفَرْقُ مذهبٌ، يَحسُنُ أن يقال: ما دليلُك

(1/387)


عليه؟ لأنه تَرْكٌ لمذهبٍ أوجبَتْه علتة الموجِبةُ للجمع بين موسى وهارون. ويقالُ أيضاً: إذا اقررْتَ بموسى لِإطباقٍ عليه؛ فهلَّا طردتَ علتَك واجريْتَها، وألزَمْتَ نفسَك من الإقرارِ بهارونَ مثلَ ما ألزمْتَها من الإِقرارِ بموسى؛ إذ كانت اليهودُ مطبِقَة عليه كإطباقِها على موسى؟ ويقالُ لمن أنكرَ المعارضةَ أيضاً: هل الحقُّ وأهلُه مفارقان للباطلِ وأهلِه في أنفسِهم بحُجَّتِهم؟ فإن قال: لا، فهذا مما لا يقولُه أحد، وإن قالَ: نعم، قيل له أيضاً: فيجوزُ لمن شكَّ في افتراقِهم أن يَسألَ عنه، وعمّا أوجَبَه.
ويقالُ لهم: إذا أمكنَ أن يكونَ في الناسِ من يقولُ بعلَّتِكَ، ويوافقُك فيها، ثم لايُوافِقُ في مقتضى العلَّةِ وموجَبِها، بل يُخالِفُك في المذهب، فلا بُد من مطالبتِه ببرهانِ مخالفتِه في المذهب مع موافقتِه في علَّتِهَ، كذلك هاهنا.
وفي الجُمْلَةِ والتفصيلِ: كلُّ من تركَ قولاً فلا بُدَّ له في اختيارِه تركَه إياه من علَّه وحًجةٍ، كما أن كلَّ من اختارَ قولًا فلا بُد له في اختيارِه إياه من علَّةٍ وحجةٍ، فإذا رأيْتَ تاركاً قد تركَ شيئاً واجْتَبَى واختارَ مثلَه، فلا بُد من مطالبتِه بحجَّةٍ في اختيارهِ تَرْكَ ما تركَ واختيارِ ما اختارَ، إذا ادَّعى أنه تركَ بحجَّةٍ واختارَ بحجَّةٍ.

فصلٌ آخرُ
في المعارضةِ
اعلم أنك إذا سُئِلْتَ عن الفَرْقِ بين شيئين قد فَرَقْتَ بينهما بالإِثباتِ والإِبطالاِ، لا بُدَّ لجوابِك الذي فيه تفريقُك أن يكونَ مبطِلًا

(1/388)


لما أَبطلْتَ محقِّقاً لما حقَّقْتَ، وليس يجوزُ أن يكونَ فيه الإِبطالُ دون التحقيقِ، ولا التحقيقُ دون الإِبطالِ؛ لأنك لا تُسأَلُ عن إبطالٍ مفرَدٍ ولا عن تحقيقٍ مفرَدٍ، وإنما سُئِلْتَ عن الأمرين جميعاً بسؤالٍ عنهما.
ويُوضحُ الدليلَ على ذلك: أن التَفرقةَ لهما وقَعَتْ، فإذا كان هذا هكذا، فالسؤالُ عنهما. مما يُؤيَّدُ هذا: أن الدليلَ على صحةِ أحدِهما لا يُوجبُ التفرقةَ بينهما، وكذا تصحيحُه؛ لأنهما قد يجتمعان في التصحَيحِ وفي دَلالةِ الدليلِ على صحَّتهما، فلو كان أحدُ القولين مفارقاً صاحبَه في الصحَّةِ بصحِته، لم يَجُزْ أن يجتمعَ القولان في الصحةِ؛ لأن صحةَ أحدِهما تفرُقُ بينه وبين الآخرِ في الصحةِ، كما أنك حين فَرَقْتَ بينهما ابطَلْتَ أحدَهما وصَحَّحْت الآخر، وكذلك التفرقُة بينهما في تصحيحِ أحدِهما وإبطالِ الآخرِ، كما أنها تصحيحُ أحدِهما وإبطالُ الآخرِ (1).
ولو كان من أجابَ عن أحدِهما دون الآخرِ مفرقاً بين القولين، لكان الذي يُقِر بنُبوَّةَ موسى وُينكرُ نُبوَّةَ هارونَ إذا سُئِلَ عما فَرَقَ بينهما، فأجابَ بما يُثْبتُ نُبوَّةَ موسى فَقَطْ، ولم يذكُرْ (2) ما أفسدَ عنده نُبوَّةَ هارونَ، قد أدَّى مَا أوجبَه عليه السؤالُ، وفرقَ بينهما تفرقةً أبطلَتْ نُبوَّةَ هارونَ وصَححَتْ نُبوَّة موسى، فكما أوجبَ أنه قد يُحقَقُ نُبوَّةَ موسى من لا يَقدِرُ على إبطالِ نبوةِ هارونَ مع تحقيقِه لنبوةِ موسى؛ إذ كان كُلما أثبتَ أحدَهما ثبتَ الآخرُ، عُلِمَ أن التفرقةَ بين الأمريْنِ
__________
(1) "كما أنها تصحيح أحدهما وإبطال الآخر"، كذا هي في الأصل، ولعلها مقحمة؛ إذ لم يتبين لنا منها معنى ذو فائدة هنا.
(2) في الأصل: "ينكر".

(1/389)


اللَّذَيْنِ افترقا بصحةِ أحدِهما وفسادِ الأخرِ ليست دَلالةً على صحةِ الصحيحِ منهما دون فسادِ الفاسدِ، ولا على فسادِ الفاسدِ دون صحةِ الصحيحِ.
ومما يؤكِّدُ هذا أنه قد دَل على صِحَّةِ أحدِ الأمرَيْنِ من لا يعلمُ سامعو دَلالتِه عليهما أنه مفرِّقٌ بينه وبين غيرِه حتى يسمعوا منه الإِقرارَ بأحدِهما أنه مفرِّقٌ بينه وبين غيره بإبطالِه (1) كما لا يعلمُ إذا سَمعَ منه الإِقرارَ بأحدِهما أنه يُفرِّقُ بينه وبين الآخرِ دون أن يُنكرَه، فلو كانت الدَّلالةُ على أحدِهما هي التفرقةَ بينه وبين الآخرِ في الصحةِ والفسادِ؛ لكان السامعون لها عارفين بمعرفةِ صاحبِها بينه وبين صاحبه، ولكان المعتقدُ لصحة أحدِهما قد فَرَّقَ أيضاً بينهما في عَقدهِ بالتصحيحِ والإِبطالِ والنَّفي والِإثباتِ، فلما كان المعتقِدُ لصحةِ أحدِهما لم يُفرِّقْ بينهما في عَقْدِه باعتقادِه صحةَ أحدِهما؛ لأنه قد يجوزُ لك التفرقةُ بين الشيئينِ بما يمكنُ خصمَك أن يجعلَه مستوياً بينهما، وإن تعاطى ذلك ووقَف (2) في الدعوى موقفَك، استويا ولم يَبِن منه شيء يجعلُك أوْلى بنُصرتِه منه بنُصرةِ مذهبِه.
ونظيرُ هذا: أن الشِّيعيَّ إذا قال للعُثْمانِيِّ: دليلي على أن عليَّاً أفضلُ من عثمانَ: كونُ السماءِ فوقي والأرضِ تحتي. جازَ للعثمانيِّ أن يقولَ: فهذابعينه هو دليلي على أن عثمانَ أفضلُ من عليٍّ، وما الذي جعلَك بأوْلى أن تَستدِلَّ على فضلِ عليَ على عثمانَ مني بالاستدلالِ به على فضلِ عثمانَ على عليٍّ؟ والسلام.
__________
(1) في الأصل: "إبطاله".
(2) في الأصل: "وقف".

(1/390)


فصل
اعلم أن للخصمِ أن يُعارِضَ خصمَه بما لا يقول به في بعض المواضعِ، وليس ذلك له في كلِّها، ولا بد من حدٍّ يَفصِل بين الموضعين، وسنقولُ فيه قولاً شافياً إن شاءَ الله.
إذا قابلَتِ المعارضةُ بما لا يقولُ به المتنازعان سَقَطَتْ؛ لأن صاحبَها معارِضٌ لنفسِه قاصدٌ بها إلى فسادِ مذهبه، وما كان هكذا فليس له أنه يعارضَ به، ولكن لغيرِهما أن يُعارِضَهَما به؛ إذ كان غيرُ تصحيحِ تلك المعارضةِ مذهبَه؛ لأنه إنما يكون لِذي المذهبِ من السؤالِ ما صَحَّحَ مذهبَه وأبطلَ مذهبَ خصمِه، وأما ما يبطل به مذهبه فلا، ولكنَه عليه، وذلك أن تأويلَ هذه المسألةِ الفُلانيةِ أن الفُلانيَّةَ تصحيح مذهبهما (1) به، وإن كانت مصححةً على الحقيقةِ فهي لهم على الحقيقةِ، وإضافتها إليهم على معنى أنهم سَبَقوا إليها، وأنهم يحاولون بها التصحيحَ لمذهبهم، وإن كان ذلك لا يَتِمُّ لهم.
وغَرَضُ السؤالِ تصحيح المذهب وإبطالُ ضِدَهِ، فإذا كان بخلافِ هذه الصِّفةِ فهو ساقطٌ، فإذا قابلَتَ قولًا لا يقول به المعارِض فهي صحيحةٌ؛ لأن صاحبَها أفسدَ باطلًا عنده بإظهارِ مساواتِه لباطلٍ آخرَ هو أيضاً باطلٌ عنده، فهذا على ضَرْبَيْنِ:
مثال الأولِ: قول السُّنَيِّ للمعتزِليَ: إذا زَعَمْتَ أن تكليفِ ما لا يطاقُ فاسدٌ لِمَا صَحَّ من عدلِ الله ورحمتِه، فهلاَّ زَعَمْتَ أن تعريضَ اللهِ سبحانه لمن المعلوم عندَه أنه يَعطَب بالتكليفِ للتكليفِ، وتعريضَ
__________
(1) في الأصل: "مذهبها".

(1/391)


من يَهلِكُ بالمحنةِ للمحنةِ، والتماسَ ما علمَ أنه لا يكونُ ممَنْ علمَ منه أنه لا يستجيبُ للتكليفِ فاسدٌ أيضاً للعلَّةِ التي ذكرتَها، وهو ما صح من حكمةِ الله عزَّ وجل ورحمتِه وعدْلِه وحُسْنِ نَظَرِه لخلْقِه؛ لأنهما قد استويا واتفقا على الأصلِ الذي قابلَتْه المعارضةُ، فإن كانت لازمةً للقائلِ به، فإن قولَ السائلِ فيه كقول المجيب.
ومما يَدلُّ على هذا: أن ملحداً لو سأل عن هذه المسألةِ، وهو من لا يقولُ بواحدٍ من المذهبَيْنِ -لا بمذهب العَدليِّ ولا الجَبْريَ-، لم يكنْ أحدُهما أوْلى بالجواب عنها من الآخرِ.
ومثالُ الثاني: بمنزلةِ معتزلي قال لمُجْبِرٍ: إذا زعَمْتَ أن الله يخلُقُ الفعلَ وُيعذِّبُ عليه، فلِمَ لم تَقُلْ: إنه يَضْطَر إلى الفعلِ وُيعذِّبُ عليه؟ لأنه لا يقولُ بالشيءِ الذي جعلَه ملزماً للمعارضةِ، فهما متَّفِقان على نفيِ العقاب على ما حصلَ بالاضطرارِ، كما حصلَ الاتفاقُ في المثال الأولِ عَلى جوازِ التكليفِ ممن في المعلوم أنه يَعطَبُ بالتكليفِ وعَقِيبَ التكليفِ، ومتى بنى المجيبُ جوابَه عَلى أمرٍ يوافقُه عليه السائلُ، لم يَكُنْ للسائلِ الطعنُ فيه إلا بما بَيَّنَ به مفارقتَه؛ لأنه إن سلَّم مشاكلتَه إئاه ثم طعنَ فيه، كان طاعناً في قولِه بطَعْنِه فيما هو عنده نظيرُه.
ومتى ما جعلْنا له من الطعْنِ بما يأتي في صورةِ الأولى، فمعناه (1) خلافُ معناه، وذلك كقولِ المُجبِر للمعتزلي: هلّاَ قلتَ: إن الله يُكلِّفُ العبدَ ما لم يُقدِرْه عليه، كما قلنا جميعاً: إنه يُكلِّفُ العبدَ ما
__________
(1) في الأصل: "ومعناه"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(1/392)


لم يُوفَقْه لفعلِه ولا عَصَمَه من تركِه. فإن اعترفَ المعتزليُّ بهذا التشبيه، ثم طعنَ في الجوابِ، فقد طعنَ في الأصلِ الذي تفرع منه، وإذا طعنَ في الأصلِ، فقد طعنَ فيما يقولُ به.
فإن قال له المعتزليُ: فكذلك فقل: إنه يُكلفُ ما يُعجَزُ عنه، قياساً على هذا الأصل.
فيقولُ: التوفيقُ ثوابٌ، ولا بأسَ بتركِ ثوابِ من لم يعلمْ، فأمَّا تكليفُ العاجزِ فإنه سَفَهٌ.
فيقول له: فاجعل هذا أيضاً فرقاً بين [سلبِ] (1) التوفيقِ وسلب القُدْرةِ، وسلبُ واحدٍ له تكليفٌ من سلب التوفيقِ دونَ سلبِ القُدْرةِ.
وليس هذا جوابَ المُجبِرِ، ولكنه مثالٌ يُتكلمُ عليه، فهذا جائزٌ له، لأنه سلَّمَ التشبيهَ غيرَ معترفٍ بما بعده بعد التسليمِ.
وللمعتزليِّ أيضاً أن يسألَ عن الدليلِ على أن تكليفَ من ليس بموفَقٍ ولا معصوم كتكليفِ من ليس بقادرولا ممكَنٍ؛ لأنه يضعُ السؤالَ في موضع خلافٍ، ألا ترى أنه ليس كلُّ من يعلَمُ أن الله يُكلفُ مع عدم العصمةِ والتوفيقِ، يعلمُ ويعتقدُ أنه يُكلفُ مع عدمِ القُدْرةِ والطَاقة؛ بل يعلمُ خلافَ ذلك، ويَدرِي أن التوفيقَ تسهيلٌ، والعصمةَ من أكبرِ الألطافِ، وأنها يجوزُ أن يَخُص بها المجتهدين في طاعتِه وخَواص خَلْقِه؛ لكونِها من زوائدِ إزاحةِ العللِ، فأمَّا أصلُ القُدَرِ والاستطاعاتِ والطاقات، فإنها المصحِّحةُ للنُهوضِ بحقائقِ التكليفِ فأين إزاحةُ العللِ بالرواتب اللابُدَيةِ من الزوائدِ اللطفية؟ وما منزلةُ ذلك
__________
(1) ليست في الأصل.

(1/393)


من الفقهِ إلا بمثابةِ من قال: لَمَّا لم يَجِبْ للزوجةِ الطِّيبُ وأُجْرَةُ الطبيبِ، لا يجبُ لها الخبزُ والإِدامُ وما هو القِوامُ (1)، ولَمَّا لم يُفسَخ النكاحُ بزوائدِ المُؤنِ -وهي الطيبُ والحَلْواءُ والإِدامُ-، لا يُفسَخُ بالِإعسارِ بالقوتِ الذي هو القِوام.

فصل آخر
من المعارضة
فمن ذلك قولُ المجيب (2): لو جازَ كذا لجازَ كذا، فإنه بمنزلةِ قولِ السائلِ: إذا كان كذا، فلِمَ لا يجوزُ كذا؟ لأنهما جميعاً قد عَلقا صحةَ أحدِ الأمرين وفسادَه بصحةِ الآخرِ وفسادِه، إلا أن السائلَ لا يجبُ عليه أن يأتيَ بالعلَّةِ الموافقةِ بينهما؛ لأن هذا من فَرْض المجيبِ، فلو لَزِمَه لكان مجيباً.
ووجهٌ آخرُ: وهو أنه نقيضٌ وليس بمقتضٍ، وإذا لم يكن مقتضياً، لم يكن عليه إقامةُ الحجَّةِ لأحدٍ، وإنما هو إنسانٌ وقعَ في نفسِه، فامتحنَه بالمسألةِ عنه، أو ظَنَّ ظَنا وقعَ عليه، فلَزِمَ المجيبَ أن يُبَينَ له، ولو كان للمجيب أن يقولَ له: ومن أين اشْتَبَها؟ لكان له أن يصيرَ سائلاً وهو مسؤولٌ، وكان على السائلِ أن يصيرَ مجيباً وهو سائلٌ، وكان له أيضاً أن يقولَ: ولِمَ تُنكِرُ أنت اشتباهَهما؟ فهذا هو التَّمانُعُ (3)،
__________
(1) القوام من العيش: ما يقيمك، وقوام العيش: عماده الذي يقوم به. "اللسان" (قوم).
(2) رسمت في الأصل: "المحب"، وهو تحريف.
(3) التمانع أو الممانعة: امتناع السائل عن قبول ما أوجبه المعلل من غير دليل.
انظر "التعريفات" ص 231.

(1/394)


وفيه فسادُ السؤالِ والجوابِ، والمجيب مُدَّعٍ لاشتباهِهما، وموقعُه موقعُ المطالَبِ.
وللسائلِ أن يقولَ له: ولِمَ زَعَمْتَ أن في جوازِ كذا جوازَ كذا، وأنا مخالفٌ لك في ذلك؛ وهل هذا إلا تَحكُمٌ منك عَلَيَّ مجردٌ من البرهانِ؟
فإن قال المجيبُ: لأنه لا فرقَ بينهما. كان للسائلِ أن يقولَ: دعواك لعدمِ الفرق كدعواك للجمعِ، وخلافي لك في هذه الدعوى الثانيةِ كخلافي لك في الدعوى الاولى؛ لأنها نفى لفرق هو عندي ثابتٌ، وسواءٌ على نفيتَ ما اخالفُك في نفيه، أو أثبَتَ ما أُخالفُك في إثباتِه، والأمرُ واحدٌ، ولي في ذلك مطالبتُكَ بالبَينَةِ على ما تَدَعِيه منه، فما الدليلُ على صحةِ نفيِك لهذا القولِ إن كنت مخالفاً لك فيها؟
فإن قال: لست أَجدُ بينهما فصلًا.
فللسائلِ أن يقولَ له: ليس كلُّ ما لم تَجِدْه يكونُ باطلًا، ولو كان هذا هكذا كانت علامةً لصحةِ وجودِك إيَّاها، فكانت على حقيقةٍ داخلةٍ في علَّتِك، فما يُدرِيك لعل غيرَك قد وجَدَه، ولعله صحيحٌ وإن لم تَجِدْه، وبعد: فهل تَدَّعي فسادَه مع قولِك: إني لم أجِدْه؟ فإن قلت: نعم، فما دليلُك على صحةِ ادَعائِك لذلك؟
فإن قال: لو جازَ أن يكونَ بينهما فصلٌ قد غاب عني، جاز أن يكونَ بين الحركةِ والسكونِ فصلٌ في أنهما عَرَضان إلا أنهما قد غابا عني، فقد جَوَّزَ مثلَ تلك الدعوى بعينِها.

(1/395)


وللسائلِ أن يقولَ: وما الدليلُ على أنه إذا جازَ أحدُ هذين جازَ الاَخرُ؟ فله أن يقولَ له: يجوزُ أن يكونَ في الدنيا حقيقةٌ لم تَعْلَمْها؟ فإن قال: نعم، قال له: فهل تدري، لعلَّ تلك الحقيقةَ فصلٌ بين الحركةِ والسُّكونِ في أنهما عَرَضان، أو فصلٌ بين الاوَّلين.
وقد يُجترأ في هذا الباب بمسألةٍ واحدةٍ، وهي: أن يقالَ للمجيب إذا قال: لو جاز كذا، فلِمَ لا يجوزُ كذا للأمر الثاني؟ فإذا قال، لكيْتَ، وكَيْتَ، قيل له: فأرِنا (1) هذا بعينِه في الاوَّلِ حتى نعلمَ أن تمثيلَك واقعٌ وإِلا فقد وَضَحَ أنك مثبتٌ بين شيئين متفرِّقَيْن في العلَّةِ، فأفسدت أحدَهما، أو صححْتَه بعلةٍ لغيرِه دونَه.
وكلُّ من رجعَ في استدلالِه إلى أنه لا يَجِدُ فصلاً، ولا يَجِدُ دليلاً، فالكلامُ الماضي داخلٌ عليه، وكلُّ من حكمَ في مواضعَ بالجمعِ وبالتفرقةِ، فالمطالبةُ بالبرهانِ واجبةٌ عليه، فاعرف هذا الموضعَ لكل ما وصَفْتُ لك في كلُّ بابٍ من نظائرِها.

فصل آخرُ
من المعارضةِ
اعلم أن المعارضةَ على ضربين: معارضةِ الدعوى بالدعوى.
والآخرِ: معارضةِ العلَّةِ بالعلَّةِ.
مثالُ الأولِ: قولُ الواحدِ من أصحابِنا المثبتِينَ لخلق اللهِ أفعالَ
__________
(1) في الآصل: "فارني".

(1/396)


الخلقِ للواحدِ من المعتزلةِ النَافينَ لخلقِ الفعلِ: إذا زعَمْتَ أن فعلَ الخلقِ غيرُ مخلوقٍ، فما الفرقُ بينك وبين من زعمَ أنه مخلوقٌ؟ فهذه المعارضةُ مقابلةُ دعوىً بدعوىً، وليس مقابلةَ علَّةٍ بعلةٍ، وَيحسنُ أن يكونَ جوابُه هذا القولَ، وهو: إنها مقابلةُ دعوىً بدعوىً، والدعْوَيانِ نفرُقُ بينهما بما دَل على صحَّةِ إحداهما (1) وفسادِ الأخرى، وكذلك الفرق بين المدَعِيَيْنِ؛ لأنه إنما فرَقَ بينهما بما فَرَقَ بين دعواهما، فَمُطالبتُكَ بما الفرقُ بيننا وبينك من هذا الوجه، مطالبةٌ بدليلِ دعوانا الذي صححَها وأبطل دعواك، فكان تقدير كلامِك: دُلني على أن عملَ الخلقِ غيرُ مخلوقٍ، والدليل على ذلك كَيْتَ وكَيْتَ.
وأما معارضةُ العلَّةِ بالعلَّةِ: فكقولِ أهلِ التوحيدِ للجسمى: إذا زعَمْتَ أن اللهَ جسمٌ؛ لأنك لم تَعقِلْ فاعلًا إلا جسماً، فهلَّا زعمتَ أنه مؤلَف؛ لأنك لم تعقِلْ فاعلًا ولا جسماً إلا مؤلفاً؛ لأنهم وضعوا علَتَه الأولى فيما عارضوه به، وهي المعقولُ، وهذا أصحُ ما يكونُ من المعارضةِ.
ومن الأول (2): قولُ السائلِ للمجيب: لِمَ لم تَقُلْ كذا، كما قلتَ كذا؛ وربما قال عاطفاً على شيءٍ دخل في دَرْجِ كلامِه: وكذا أيضاً فقل كذا، وهذا لا يكون إلا من جاهلٍ بالمعارضةِ، أو من منقطِعِ يَتعلَّلُ؛ لأن الكافَ في كما وكذا كافُ تمثيل، فأمَّا معنى قوله: مَثلَ كذا بكذا، فالتمثيلُ إنما يقعُ في النَّفسِ والصورةِ أو في العلَّةِ.
__________
(1) في الأصل: "أحدهما".
(2) أي من معارضة الدعوى بالدعوى.

(1/397)


وتمامُ هذه المعارضة التي (1) قد تجوزُ: أن يقولَ: لأن علَّةَ كذا كَيْتَ وكَيْتَ، وهو بعينِه موجود في الآخرِ، كما قال أهلُ التوحيدِ للجسميةِ: هلاَّ قلتم: إن اللهَ مؤلًف؛ لأنكم لا تعقِلُون جسماً إلا مؤلَّفاً، كما قلتم: إنه جسم؛ لأنكم لم تَعقِلوا فاعلاً إلا (2) جسماً. وهذا مما لا يقعُ بعده فصل، فكلُّ من حاولَ بعده فصلًا ناقَضَ؛ لأنَّا إنما نأتي بقَدْرِ منعِه من الحكمِ بالمعقولِ، وجُوزَ له الخروجُ منه، فإذا جازَ له الخروجُ منه لعلَّةٍ من العللِ، لم يكنِ القطعُ به في هذا الموضعِ واجباً لا مَحالةَ؛ لبطلان ما هو [فيه] (3) وفسادِه في موضعٍ آخرَ، ولا ينبغي إذا كان مما هو فيه أن يَبطُلَ أحياناً، أن يكونَ هذا بموجبٍ لكونِ اللهِ سبحانه جسماً.
وإذا كان هذا صحيحاً، فإنما يجبُ لشيءٍ آخرَ لا يسقطُ أبداً، ويكونُ موجباً به في كلِّ حالٍ، ألا ترى أن من جازَ عليه الكَذِبُ لا يُقطَعُ على شيءٍ يُخبِرُ به؛ لأن خبرَه ليس مما يُصدَّقُ أبداً فيكونَ علَّةً للتصديقِ، فإن صُدِّقَ فإنما يُصدَقُ بدليلٍ على صدقِه في الموضعِ الذي صُدِّقَ فيه، ولا يجوزُ لذلك الدليلِ أن يسقطَ في حالٍ من الحالاتِ؛ لأنه لو سقطَ لاحتاجَ في الموضعِ الذي اقتدى به فيه اقتداءً إلى ما يدل على أن موضعَه ذلك ليس من المواضعِ التي يسقطُ فيها، وإلا فلك أن تقولَ: ليس كلُّ ما كان معه هذا الدليلُ يجبُ له كذا، فما يُدرى لعلَّ صوضعَه هذا من تلك المواضعِ.
__________
(1) في الأصل: "الذي".
(2) في الأصل: "لا".
(3) ليست في الأصل.

(1/398)


ورجعَ الكلامُ إلى الجوابِ عن المعارضات المنثورةِ.
قلنا: فعلى المجيب إذا عُورِضَ بمثلِ ما وصَفْنا أن يقولَ لمعارضِه الذي قال له: لمَ قلت؟: وما أَشرْتَ أو أَمرْتَ بالتمثيلِ بينه وبين ما عارضْتَ به ذَيْتَ وذَيْتَ (1)، والذي عارضْتَ به كان من هذه العلَّةِ، فلو كان القولُ به واجباً لم يكنْ ليجبَ من حيث وجبَ، فإن أنت كشفْتَ التمثيلَ بينه وبينه لنعرفَه من علَتِه، ولأن القولين إنما يتشاكلان في النَّفسِ والصُورةِ والعلَّةِ، وليست (2) صورةُ هذين ولا عللُهما وأنفسُهما متشاكلةً، فهذا هو الذي يمنعني من القولِ به كما قلتَ، فالذي مَثلْتَ بينه وبينه: فإن كنتَ تراه واجباً لمشاكلتِه لشيءٍ مما أجَبْتَناهُ عن هذا، فأرِنا مشاكلتَه إياه حتى نُلحِقَه به، فلسنا نأبى إلحاقَ الشيءِ بمثلِه، وإن كنتَ ترى ترْكَنا له ورَغْبَتَنا عنه باطلًا لقيامِ بعضِ الدَلالةِ على صحَّتِه، ووجوبِ القولِ به، أن تنالَ خلافَ ذلك بإقامةِ الدليلِ على فسادِه وعلى صحةِ رَغْبَتِنا عنه، إلا أن تنشَطَ لتَرْكِ سؤالِك والأخذِ في الجوابِ، فنسألَك عما ادَعَيْتَ له.
واعلم أنه ليس كلُّ حقيقتَيْنِ تتفقان في العلَّةِ، فيجبُ قياسُ إحداهما على الأخرى (3)، فلو قال لك قائلٌ: إذا زعمْتَ أن موسى رسولُ اللهِ، فهلَّا زعمْتَ أن الحركةَ جسم؟ أو: فلِمَ لم تَقُلْ: إن الحركةَ لا تُرى كما قلتَ: إن محمداً رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان واضعاً
__________
(1) يقال: كان من الأمر ذَيْتَ وذَيْتَ، بمعنى: كيْتَ وكَيْتَ. "اللسان" (ذيت).
(2) في الأصل: "ليست".
(3) كانت في الأصل: "احداهما على الآخرة".

(1/399)


للتمثيلِ في غيرِ موضعِه، وساغتِ التفرقةُ بين ما جَمَعَ في العلَّةِ؛ لأن علةَ كونِ موسى رسولَ الله ومحمدٍ رسولَ اللهِ لا تجامعُ علةَ كونِ الحركةِ جسماً أو غيرَ جسمٍ، ترى أو لا تُرى.
ولكن لو قال: الدليل لا يُكذب، والأخبار المُضْطَرة لا تُكذَبُ، فإذا زعمتَ أن موسى رسول الله للخبرِ الذي يُصدَّق ولا يُكذَبُ فهلَّا زعمتَ أن الحركةَ غيرُ الجسمِ للدليلِ الذي يُصدقُ ولا يكذبُ؟ وما الفرقُ في حصولِ الثقةِ بين خبرٍ لا يُكَذبُ ودليل لا يكُذبُ؟ ولِمَ قَبلْتَ من بعضِ من أمنْتَ عليه الكذبَ دون بعض؟ فهذا بعينِه موجود فيَما ردَّدْتَه، فكان هذا سؤالًا صحيحاً وتمثيلاً بين القولين في العلَّةِ القصوى، ولكنِ القصدُ به إلى ما أرادَه السائلُ قصدٌ من موضع بعيدٍ وُجِدَ منه مثل هذا السؤالَ.
فهذه جملة شافية جداً، وليس يَقطع بها إلا حاذق بالمقابلةِ والترتيبِ، وعارف بمواضعِ الاتفاقِ والاختلافِ.

(1/400)


فصولٌ في المعارضةِ
بصياغةٍ (1) أخرى، ولغةٍ كاشفةٍ للمعنى يتأكدُ بها بيانُ الأغراضِ بها
فصل
في جوامعِ العلمِ بالمعارضةِ
اعلم أن المعارضةَ هي: الجمعُ بين الشيئين للتسويةِ بينهما في الحكمَ (2).
مثاله بالأصولِ: جَمْعُ ما بين إرادةِ القبيحِ والأمرِ به على ما يُقرِّره أهلُ الاعتزالِ، وبين إرادةِ أفعالِ الخلقِ والتمكُنِ منها مع العلمِ بوقوعِها عن تمكينِ الممكنِ منها على ما كان من قبيحِها وحَسَنِها، في أنه إن جازَ أحدُهما جازَ الآخرُ؛ إذ قد سَوَّى العَقْلُ بينهما في ذلك، وكل شيئين سَوى العقلُ بينهما في حكمٍ، فهما يستويان فيه، كما أن كلَّ شيئين سَوى الرسولُ عليه السلام بينهما في حكم، فهما مستويان فيه، إلا أن من ذلك ما يَظهَرُ باولِ وهْلَة، ومنه ما يظهرُ بأدنى فكرةٍ، ومنه مايظهرُ بوسيطةٍ، ومنه مالايظهرُحتى تحَلَّ الشُبهة، وهوكيف تَصَرفَتْ به الحالُ في ذلك سَوَّى العقلُ بين الأمرَيْنِ، وإن كانت
__________
(1) رسمت في الأصل: "فصناعة".
(2) ذكر الجويني هذا التعريف مع تعريفات أخرى، انظرها في "الكافية" ص 418.

(1/401)


التسويةُ لا تظهر إلا على الأوصافِ التي ذَكرْنا.

فصل
والمعارضة على ضربَيْنِ: أحدهما: ما كان على التسويةِ العامَّةِ، والآخرِ: ما كان على التسويةِ الخاصَّةِ.
فالتسوية العامَة: على أنه إن صحَ الأوَّلُ صحَّ الثاني، وإن فسدَ الأولُ فسدَ الثاني، وكذلك إن صَحَّ الثاني صَحَّ الأول، وإن فسدَ الثاني فسدَ الأول؛ وذلك أنه إن جازَ للحكيمِ تعذيب الطِّفلِ بغيرِ جرْمٍ منه، جازَ له تعذيبُ البالغِ بغيرِ جرْمٍ، وإن لم يَجزْ منه تعذيبُ الطفلِ بغيرِ جرْمٍ، لم يَجزْ تعذيب البالغِ، وكذلك إن جازَ تعذيبُ البالغِ بغيرِ جرْمٍ، جازَ تعذيبُ الطفلِ بغير جرْمٍ، وإن لم يَجزْ تعذيب البالغِ بغير جرْمٍ، لم يَجزْ تعذيب الطفلِ، فقد سَوَّى العقل بينهما على الوجهَيْن جميعاً.

فصل
وأما التَّسوية الخاصَّةُ (1)، فهي: على أنه إن صحَّ الأولى صحَّ الثاني، وإن فسدَ الثاني فسدَ الأوَّل، ولا يجب إن فسدَ الأولى فسدَ الثاني، ولا إن صحَّ الثاني صحَّ الأولى، وذلك لأنه إن كان العالَمُ قد خلا من الحوادثِ، فهو قديمٌ، وإن لم يَكنْ قد خلا من الحوادثِ، لم يكن قديماً، فهذه المعارضة صحيحةٌ باضطرارٍ، فليس يجبُ بالضَرورةِ أنه إن لم يَكنْ قديماً، لم يكنْ قد خلا من الحوادثِ، ولا
__________
(1) في الأصل: "بالخاصية".

(1/402)


يجبُ من أنه قد خلا من الحوادثِ أنه قديمٌ بالضرورةِ، كما وجبَ في الأولَ.

فصل
وكل معارضةٍ فلا بُدَّ فيها من تسويةٍ، إلا أن التسويةَ قد تَظهرُ باقتضاءِ العقلِ، وذلك مثلُ أن تقولَ: إن جازَ أن يكونَ القارُ أسودَ لا بسوادٍ، جاز أن يكونَ الآبِنُوسُ (1) أو السَّبَجُ (2) أسودَ (3) لا بسواد.
ومثلُ قولِك: إن جازَ في بابٍ أن يكونَ باباً بعد أن لم يكن باباً من غيرِ صانعٍ جعلَه باباً، جازَ في دولابِ أن يكونَ دولاباً من غيرِ صانع، أو باباً آخرَ من غيرِ صانعٍ جعلَه بَاباً.
فأمَّا ما يظهرُ من التسويةِ فيه من طريقِ اقتضاءِ العقلِ لا بضرورةِ العقلِ، لكن يظهرُ باقتضائِه عند الفِكْر، مثلُ أن تقولَ: إن جازَ أن يكونَ تَرْكُ الإِيمانِ ليس بقبيحٍ، جاز أن يكونَ الكفرُ ليس بقبيحٍ، وهذا إذا تُؤمل ظهرَ، وكل ذلك قد سَوَّى العقلُ فيه بين الشيئين من جهةِ أنه إن صحَّ أحدُهما صحَّ الاَخرُ، وإن لم يصح الآخرُ لم يصح الأولُ، فتأمل التسويةَ، وصَحَّحِ المقابلةَ، يظهرْ لك عِلْمُ ما تطلبُ علمَه، وما تحتاجُ إليه من ذلك.
__________
(1) شجر ينبت في الحبشة والهند، خشبه أسود صلب، ويصنع منه بعض الأدوات والأواني والأثاث. "معجم الوسيط " (الآبنوس).
(2) تقدم في الصفحة (357) أنه الخرز الأسود.
(3) كتبها الناسخ: "الأسود".

(1/403)


فصل
والمعارضةُ فلا تخلو أن تكونَ مطلقةً أو مقيَّدةً.
فالمطلقةُ منها: هي التي يُسَوِّي (1) العقلُ فيها بين الشيئين من غيرِ شَرْطٍ يوجبُ استواءَ الحكمِ فيها (2)؛ لأن العقلَ يقتضي استواءَهما وُيويس من فرقٍ [بينهما] (3).
فأمَّا المقيَّدةُ منها: فهي التي يُسوِّي العقلُ فيها بين الشيئينِ إن استوت عِلَلُهما أو دَلائلُهما؛ لأن العقلَ يقتضي استواءَهما وَيطمَعُ في فرقٍ بينهما.
مثالُ الاوَّلِ: بَيْنَ أن الأجسامَ قديمةٌ، وبَيْنَ أنها قد خَلَتْ من الحوإدثِ، وذلك أنها إن كانت قديمةً، فقد خَلَتْ من الحوادثِ لا مَحالةَ، فالعقلُ يَقضي بأنه إن صحَّ الأولُ صحَّ الثاني، وُيجمَعُ بينهما في ذلك ولا يُفرَّقُ، وكذلك إن لم تَكُنْ قد خَلَتْ من الحوادثِ فليست قديمةً، فيُجمَعُ أيضاً بين صحةِ هذين ولا يُفرق، وهو أنه إن صحَّ أنها لم تَخْلُ من الحوادثِ، صحَّ أنها ليست بقديمةٍ، فإذا قامتِ الدَّلالةُ بأنها لم تخلُ من الحوادثِ، صحَّ أنها ليست بقديمةٍ، ثم لا تُبالي وُجِدَت تلك الدلالةُ بعينها في السؤالِ الآخرِ أو لم تُوجَدْ؛ لأن العاقلَ قد قضى قضيَّةً مطلقةً: أنه إن صحَّ أحدُهما صحَّ الآخَرُ.
__________
(1) كتبت في الإصل: "يستوي".
(2) بعدها في الأصل: "إن استوت عللهما أو دلائلهما"، وهذا من شرط المعارضة المقيدة كما سيأتي.
(3) ليست في الأصل.

(1/404)


وكذلك يُسوي العقل بين الصُّوفِ والشَعَرِ؛ أنه إن كان في أحدِهما حياةٌ ففي الآخرِ حياةٌ. فهذا أيضاً جمعٌ قد قضى به العقلُ، ثم يُعتَبَر الشَعَرُ (1) بأنه لو كان فيه حياةٌ لآلَمَ من جهتِه الحيوانَ إذا قُطِعَ، فيظهرُ من عدم الألمِ والحِسِّ في الجملةِ أنه لا حياةَ فيه، وقد كان قضى العقلُ بالَتسويةِ بين الصوفِ وبين الشَّعَرِ، فإذا ظَهَرَ أنه لا حياةَ في الشَّعَرِ، ظهرَ أنه لا حياةَ فيِ الصوفِ، وإن كانت الدَّلالةُ التي في أحدِهما ليست موجودةً في الآخرِ.
فأمَّا التَّسويةُ المقيَّدة: فكما قضى العقلُ إن كان في الغائب عالِمٌ لا يَعلم، ففي الشاهدِ عالِمٌ لا يعلم، فهذا مقيَّدٌ بأنه إن استوت العلل والدلائلُ، فإذا اعتبِرَ فوُجِدَتْ دلائله مختلفةً، فإن الذي أوجبَ للعالِمِ في الشاهدِ عِلْماً كان به عالِماً -عند المعتزلةِ- هو كونه عَلِمَ مع جوازِ أن لا يَعلَمَ، أو يقول: هو تَغيُّره، والعالِم في الغائبِ لا يَتغيَّرُ، بطلت التسويةُ في ذلك، فهذا الاقتضاء عندهم وعلى زعمِهم على شبْهَةِ أن العقلَ قد أخرجَ فرقاً.
وعلى قولِ أهلِ السُّنَةِ: أن العللَ هاهنا متساويةٌ؛ لأن ما كان به العالِم عالِماً إنما هو العِلم وذلك يَعُمُّ الشاهدَ والغائبَ، فإن حصل فَرْقٌ، فإنما هو من حيثُ إن العلَّةَ في الغائب واجبةً، وكون العالِمِ عالِماً واجبٌ، وهذا يشيرُ إلى أصلٍ كبيرٍ، وأن اَلواجبَ ئعلَّل عند أهلِ السُّنَّةِ، وعندهم لا ئعلَّلُ واجبٌ، لاستغنائِه بوجوبِه عن معنىً.
ثم قالوا: عالِمٌ لذاتِه، وليست ذاته عِلماً، فوقعوا فيما هو أكثرُ من
__________
(1) في الأصل: "الشرع".

(1/405)


إثباتِ ذاتِ العلمِ؛ وهو كونُ ذاتٍ ليست علماً تُوجِبُ كونَ العالِم عالماً، وهذا إثباتُ كونِ العالِمِ عالِماً بذاتٍ ليست عِلماً، أو نقولُ: بمعنىً ليس بعلمٍ، وأثبتوا الذاتَ الواحدةَ موجِبةً كونَ العالِم عالِماً، والقادرِ قادراً، والحيِّ حياً.
وأما تسويةُ العقلِ بين وجودِ الحياة والموتِ في الحَجَرِ، وبين وجودِ الجَمادِيَّةِ والعِلم فيه فثابتٌ (1) صحيحٌ على حُجةٍ؛ لأن العقلَ لا يُفرقُ بين ذلك لا في أولِ وَهْلَةٍ ولا بعدَ فِكْرةٍ، ومَنْ زعمَ أن الفرقَ بينهما: أن الحياةَ تُضاد الموتَ، وأن الجماديةَ لا تُضاد العِلمَ، فأجاز أحدَهما ولم يُجزِ الاَخرَ، فقد أخطا خطأً فاحشاً؛ لأنه إذا لم يَجُزْ أحدُهما لتَّضادِّ، لم يَجُزِ الاَخرُ للتناقضِ؛ لأن العقلَ يُسوَّي بين التناقضِ والتَضاد في أنه لا يَصح اجتماعُ الوصفين بهما، كما أن العقلَ يُسوَّي بين تَضاد السوادِ والبياضِ على المَحَل الواحدِ، وبين تَضاد الحياةِ والموتِ على الِإنسانِ الواحد، يُسوَّي بين التناقضِ في الجوهرِ إذا وُصِفَ بأنه موجودٌ معدومٌ، وبين التناقضِ فيه إذا وُصِفَ أنه متحركٌ ساكنٌ، وإن كانت إحدى الصَفتين لعلةٍ غيرِ الذَاتِ، وهي التحركُ والسكونُ، والأخرى ليست كذلك، وهي الوصفُ بأنه معدومٌ، فإنه أمرٌ يعودُ إلى ذاتِه، وموجودٌ أمرٌ يعودُ إلى ذاتِه أيضاً، لا وصفٌ يزيدُ على الذَّاتِ.

فصل
وكل معارضةٍ فلا بُد فيها من تسويةٍ بين شيئَيْنِ: أولٍ وثانٍ؛ لأن
__________
(1) كتبت في الأصل: "ثابت"، والأنسب ما كتبناه.

(1/406)


التسويةَ في ذلك على ضَرْبَيْنِ:
أحدِهما أن تكونَ شهادةُ الأولِ شهادةَ الثاني، وذلك أن استحقاق الذَّمَ يشهدُ بالحاجةِ ممنْ فعلَ واستحَقً الذَّمَّ عليه، كما يشهدُ فعلُ الظلمِ بالحاجةِ، فلا يَظلِمُ إلا محتاجٌ إلى الظلمِ.
فأمَّا الضَّرْبُ الثاني: فهو أن يشهدَ الأولُ بأنه إن صحَّ صحَّ الثاني، وبأنه (1) إن بَطَلَ [لثاني] (2) بطلَ الأولُ، وذلك إن صحَّ أن زيداً كافرٌ، استَحقَّ الذَّمَّ أو فهو مستحِقٌّ للذمِّ، وإن بطَلَ أنه مستحِقٌّ للذَّمِّ، بطَلَ أنه كافرٌ، فشهادةُ الأولِ بصحتِه، وشهادةُ الثاني ببطلانِه، والشهادتان جميعاً صحيحتان، فمن جحدَ إحداهما (3)، لَزِمَه بالمعارضةِ جَحْدُ الأخرى؛ إذ كانت نظيرتَها في اقتضاءِ العقلِ لها.
ومن المثالِ للبابِ الأولِ: أن النًشْأَةَ الأولى إن كانت من فعلِ الطبيعةِ، فهي تشهدُ بأنه يجوزُ أن تكونَ النَّشأَةُ الثانيةُ من فعلِ الطبيعةِ، فهي تشهدُ بأن النَّشأَةَ الأولى يجوزُ أن تكونَ من فعلِ الطبيعةِ، وكذلك النشأةُ الثانيةُ إن كانت من فعلِ الطبيعةِ، وإذا بَطَلَ أن تكونَ النَشأةُ الأولى من فعلِ الطبيعةِ، بل مِنْ فعلِ مختارٍ، بَطَلَ أن تكونَ الثانيةُ من فعلِ الطبيعةِ، بل فعل ذلك المختار.
وهذا من أوضحْ المعارضاتِ؛ إذِ العقلُ سَوَّى بينهما في ذلك، وقضى أنه إن صحَّ أن يكونَ تدبيرُ العالَمِ يرجعُ إلى الطبيعةِ في
__________
(1) كتبت في الأصل: "بأنه" بدون واو.
(2) ليست في الأصل، وزدناها لتوضيح المعنى.
(3) في الأصل: "أحدهما".

(1/407)


الابتداءِ، صحَّ في الانتهاءِ، لا فَرْقَ في ذلك.
ولَمَا شهدَ إتقانُ الأمورِ وإحكامُ الصَّنْعَةِ بحكيمٍ في النَشأةِ الأولى مختارٍ للتًقديمِ والتَّأخيرِ، شهدَ في النَّشأةِ الثانيةِ بذلك.
ومن هذا الباب أيضاً: إن كان نَسْخُ الشريعةِ من حيث كان رَفْعَ ما شُرِعَ في الأوَّلَ وإزالةَ ما وُضِعَ معنى (1) يشهدُ بالبَداءِ، فهو يشهدُ بأن نسخَ النُورِ بالظُّلمةِ بَداءٌ، وإن كان نسخُ النُورِ بالظلمةِ يشهدُ بالبَداءِ، فهو يشهدُ أن نسخَ الشريعةِ بشريعةٍ غيرِها بَداءٌ، فشهادةُ كلُّ واحدٍ منهما في الآخرِ كشهادةِ الآخرِ فيه.
ومن هذا الباب أيضاً: إدامةُ الثَواب إن كان واجباً في الحِكْمةِ، فهو يشهد بأن إداَمةَ العِوَضِ واجبٌ فَي الحكمةِ (2)، وكذلك إدامةُ العِوَضِ إن كان واجباً في الحكمةِ، فهو يشهدُ بأن إدامةَ الثَّواب واجبٌ في الحكمةِ.
ومن هذا البابِ: إن كان العقلُ يشهدُ بوجوب المصالحِ على اللهِ سبحانه في الدنيا من حيثُ كانت نفعاً لا يُستضَرُّ به، والعبدُ محتاجٌ إليه، فواجبٌ عليه العَفْوُ عن العذابِ في الأخرى من حيثُ كان نفعاً لا يُستضر به، وإن كان العقلُ يشهدُ بوجوب العفوِ في الأخرى من حيثُ كان نفعاً لا يُستضرُّ به، فهو يشهدُ بإيجابَ المصالحِ في الدنيا،
__________
(1) كُتبت في الأصل هكذا "ومنن"، ولم نَتبين وجهها، ووضع فوقها ضبة صغيرة، وتعني أنها هكذا هي في الأصل المنسوخ عنه، إلا أنه قد خفي على الناسخ معناها، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) في الأصل: "الحكم".

(1/408)


إذ كانت نفعاً لايستضرُّ به.

فصل في المعارضِة لإسقاطِ السؤالِ

اعلم؛ أن المعارضةَ لإسقاطِ السؤال (1): هىِ الجمعُ بين مطالبةِ السائلِ وبين مذهبٍ له يَلزَمه فيه مثلُ ما طالبَ به، والاعتماد فيه على التَسويةِ، وإنما كانت هذه المعارضة تسقِطُ السؤالَ؛ لأنه بمنزلةِ السائل لنفسِه والناقضِ عليها.
مثالُ ذلك: سؤال بعضِ الإمامِيَّةِ (2) عن قولِه لأبي بكرٍ: {لا تَحزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا} [التوية: 40]، فقال: لا يَخْلو أن يكونَ حُزْن أبي بكرٍ طاعةً أو معصية، ولا يجوز أن يكونَ طاعةً؛ لأن الله سبحانه، ينهى عن طاعتِه، لم يَبْق إلا أنه معصية، فقد عصى أبو بكرٍ بحُزْنِه في المقامِ الذي هو مفاخرِه عندكم يا معاشرَ السُّنَةِ (3).
__________
(1) انظر (الكافية) ص 423.
(2) هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه الصلاة والسلام نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً، من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين، قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإِمام.
ثم إنهم لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد الحسن والحسين وعلي بن الحسين رضي الله عنهم على رأي واحد، بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها. انظر في الِإمامية وفرقها وآرائها: "الملل والنحل" 1/ 162 وما بعدها، و"الفرق بين الفرق " ص 53 وما بعدها.
(3) هذا مطعن من عدة مطاعن تذكرها الإمامية في أبي بكر رضي الله عنه في تفسير هذه الآْية، وقد ذكر الفخر الرازي هذه المطاعن، وفندها كلها. انظر=

(1/409)


فيقولُ له السنَيُّ جواباً عن سؤالِه: أخْبِرْنِي عن قولِ اللهِ سبحانه لموسى: {لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10]، لا يخلو خوفُ موسى من أن يكونَ طاعة، فيكونَ اللهُ قد نهاه عن طاعةٍ، ولا يجوزُ ذلك، [أو] (1) أن يكونَ معصيةً، فقد عصى موسى في أجَل لياليه ومَقاماتِه عند ربِّه، فسقطَتِ المسألةُ بهذا الجواب للتسويةِ بين النهْيَيْنِ، فإنه لا يلزَمُ السُّنَى أن يكونَ أبو بكرٍ قد عصىَ، إلا أن يَلزمَ الِإماميَ أن يكونَ موسى قد عصى.
ومتى طلبَ إقامةَ العذرِ لموسى في خوفِه، وأن الخوفَ غلبَ عليه؛ لأنه من طباع الآدميَ الخوفُ من صُوَرِ الحيواناتِ المؤذيةِ وخرقِ العادةِ، قام العذرُ لأَبي بكرٍ في حصولِ خوفِه على النبى صلى الله عليه وسلم؛ حيث رأى من رسولِ الله الهربَ والتَخفَيَ من مكيدةِ المشركين، والمخافة على النبى طاعةٌ، وليس كلُّ طاعةٍ يكونُ النَهى عنها عصياناً؛ حيث كان النهيُ قد يقعُ إشفاقاً وإسقاطاً للمَشَقَّةِ عن المطيعِ، مثلُ قولِه سبحانه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] و [قولِه] {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وما هذا سبيله لا يكونُ خوفاً يخلعُ الوِلايةَ، ويَحُط من رتبتِه الصالحةِ لأصلِ الِإمامةِ.
ومثالٌ آخرُ: مثل سؤالِ أصحابِ الأحوالِ (2) عن دعائِنا لله بأن
__________
= "التفسير الكبير" 16/ 67 - 69.
(1) ليسص في الأصل، واستدركناها لاقتضاء المعنى لها.
(2) يقصد المؤلف المتصوفة، والحال عندهم كما قال الجرجاني في "التعريفات" ص 81: هو معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة.

(1/410)


يُبْقِيَنا، والبقاء ليس بمعنىً، فقد دَعَوْناه بحال معقولةٍ ليست بمعنىً.
فقالَ المجيبُ: فقد يأمرُنا الله بأن ندومَ على حالِ السكونِ، والدَّوامُ ليس بمعنىً، فقد امِرنا بحال معقوله وليست بمعنىً. وإنما كان هذا إسقاطاً؛ لأن صاحبَ المقالةِ يقولُ: لا بدَّ من أن يتعلَّقَ الأمرُ بغيرِ مأمور به، ويقولُ مع ذلك: أن يكونَ الحيوانُ يَبْقى لابِبَقاءٍ.

فصل
في المعارضِة لإقامةِ الحُجَّةِ

اعلم أن المعارضةَ لإِقامةِ الحُجَّةِ على المَقالةِ لا بُدَّ فيها من تصحيح أحدِ الشَقَّيْنِ أو فسادِه بعد البيانِ للتسويةِ، ليظهرَ من ذلك حالُ الشّقِّ الآخرِ في الصحَّةِ أو الفسادِ، إلا أن يكونَ الخصمُ يوافقُ عليه، فيستغني بموافقتِه عن التعرضِ لتصحيحِه في نفسِه، ويكونُ الكلامُ كلُه إنما هو في التسويةِ بينه وبين الأصلِ الذي قد وافقَ عليه.
مثال ذلك: أن السائلَ إذا قال: ما الدليلُ على أنه لا يكونُ متحركٌ إلا لأجلِ حركةٍ واقعةٍ؟
يقولُ المجيبُ: لأن المسيءَ إنما كان مسيئاً لأجلِ إساءةٍ واقعةٍ؛ إذ المسىءُ إنما يكون مسيئاً [بعد أن كان غيرَ مسيءٍ] (1)، وهو في كلا الحالين موجودٌ عن حادثٍ، فلولا أن هناك حادثاً (2) غيرَه- هو
__________
(1) زيادة على الأصل يستقيم بها المعنى.
(2) وردت في الأصل: "حادث".

(1/411)


إساءتُه-، لوجبَ أن يكونَ على حالِه الأولى التي كان عليها غيرَ مسيءٍ، كما أن المتحركَ إنما يكونً متحركاً بعد أن كان غيرَ متحركٍ، وهو في كلا الحالين موجود عن (1) حادثٍ، فلولا أن هناك حادثاً غيرَه -هو حركتُه-، لوجبَ أن يكونَ على ما كان عليه غيرَ متحرِّكٍ، فهذا لا يُحتاجُ فيه إلى الكلام في أن المتحرِّكَ إنما كان متحركاً بحركةٍ؛ لأن خصمَه يوافقُه عليه، فإنما ينبغي أن يُعتمدَ على التسويةِ.
مثال آخرُ يَقْوَى به فهْمُ ما ذَكَرْنا وإتقانُه: أن يقولَ المعتزليُّ للسّنَيِّ: إذا كان اللهُ سبحانه قد بَرَّأ نفسَه من أن يأخذَ الغَيرَ بذنبِ الغيرِ بقولِه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، لم يَجُزْ أن يقالَ: إنه يأخذُ لا بذنبِ، لقولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، أوقولهَ،: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9]، فتحْصُلُ المعارضةُ بأنه لَمَّا لم يَجُزْ أن يأخذَه بذنب غيرِه، لم يَجُزْ أن يأخذَه لا بذنبِ كان منه؛ إذ هما سواءٌ؛ لأنه ليسَ ذنبُ الغيرِ عن الغيرِ إلا بكونِه ليسَ بذنبِ له، فكذلك ذنب لم يَفْعَلْه ليس بذنبٍ له.
فإن خالفَ السائلُ في الأصلِ الذي بَنى عليه المعارضةَ، فقالَ: يجوزُ عندي أن يأخذَ اللهُ العبدَ بذنب غيرِه وبما شاءَ، فلا بُد من أن يَدُلَّ على أن هذا باطلٌ بعدَ الجمعِ والتَسويةِ.
__________
(1) كتب فوقها في الأصل كلمة: "غير".

(1/412)


فصل
في المعارضةِ المُغَيَّرَةِ

اعلم أن المعارضةَ المغيَّرةَ لا تخلو أن تكونَ غُيرَتْ بنقصانٍ، أو زيادةٍ، أو قَلْبٍ، أو إبدالٍ، أو نقلٍ.
فالنُقصانُ (1): كقول السائلِ: إذا لم يَكُنْ في الشاهدِ عالِمٌ إلا بعِلمٍ، فما تُنْكِرُ أن لا يكونَ في الغائبِ عالِم لا بعلم؟
فيقولُ الجاحدُ للصِّفات: هذه معارضة مبتورةٌ (2)؛ لأن الإِتيانَ بها على التَّمام أن يقالَ: إذا لم يَكُنْ في الشاهدِ عالِمٌ إلا بعلم من حيث يَعلَمُ تارةً ولاَ يَعلَمُ تارةً، فما تُنكِرُ أن لا يكونَ في الغائبِ إلا كذا؟
وهذا بناءً على أصلِ المعتزلةِ، وأن التعليلَ إنما يقعُ في الجائزاتِ، وأن الواجباتِ لا تُعللُ بل يُستغنى بوجوبِها عن عِلَةٍ.
وأهلُ السنَةِ يخالفون في ذلك، ويقولون: إن الواجبَ يُعلَّلُ بعلَّةٍ واجبةٍ، وعلة كونِ العالِمِ عالِماً هو العِلمُ شاهداً وغائباً، وهذا مما لا ينقطعُ فيه الغائبُ عن الشاهدِ، فافْهَمْ ذلك.
والجوابُ عنه: أن تُوضَحَ أن العلَّةَ الموجِبَةَ كونَ العالِمِ عالِماً هي العلمُ لا الذَّاتُ؛ إذ لا ذاتَ تُوجِبُ كونَ العالِم عالِماً إلا العِلمَ، وعندهم (3) أن ذاتَ القديمِ اوجَبَتْ له كوَنه عالِماً وليست عِلماً، وهذا
__________
(1) ذكرها الجويني ومثل لها في "الكافية" ص 424:
(2) في الأصل:"منثورة".
(3) أي عند المعتزلة.

(1/413)


قَلْب لأصلِ العلَّةِ والمعلولِ.
وأما المعارضةُ الزائدةُ (1): فكقولِ السائلِ الجاحدِ للفعلِ: إذا كان الفعل لا يكونُ في الشاهدِ إلا من فاعلٍ متغيِّرٍ به، فما تُنكِر أن لا يكونَ في الغائب إلا من فاعلٍ متغيِّر به؟ فهذه معارضة زائدة؛ لأن الذي يجبُ في الفَعلِ أن لا يكونَ إلا من فاعلٍ، فأمَّا التغيرُ فإنما يجبُ لفاعلٍ حل به الفعلُ، لا من جهةِ صدورِه عنه.

فأمَّا المعارضة المقلوبةُ عن وجهِها: فكقولِ السائلِ: إذا كانت القُدْرَةُ قبلَ الفعلِ، فما تُنكِرُ أن لا يَصِحَ بها الفعل؟ فهذه مقلوبةٌ؛ إذ (2) لو كانت مع الفعلِ، لم يَصِحً أن تكونَ قدرةً على الفعلِ في الحقيقةِ؛ لأنها إنما تكونُ قدرةً على أن نفعلَ وأن لا نفعلَ، وهذا لا يصِحُ لها إلا قبل الفعلِ، وهذا مثالٌ على مذهب المعتزلةِ ومن وافقَهم من الأصوليِّين.
وأما الإِبدالُ (3): فكقولِ السائل السَّالِميِّ (4): إذا كان الحيُّ بنفسِه
__________
(1) انظر "الكافية" ص 424 - 425.
(2) في الأصل: "إن".
(3) انظر "الكافية" ص 425.
(4) نسبة إلى السالمية، وهي جماعة تنتسب الى مذهب أبي عبد الله محمد بن بي الحسن أحمد ابن محمد بن سالم في التصوف، وإلى مذهب أبيه أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم في الأصول، وقد تتلمذ كلاهما على سهل ابن عبد الله التستري وأخذا عنه، وكان لهما في البصرة وسوادها أصحاب وأتباع، منهم فقهاء ومحدثون، أشهرهم أبو طالب المكي صاحب "قوت القلوب". انظر "سير أعلام النبلاء" 16/ 272 - 273، و"طبقات الصوفية" ص 414 - 416، و"الأنساب" 3/ 200، و"حلية الأولياء" 10/ 378 - 379.

(1/414)


أو بصفةٍ هي الحياةُ إنما كان رائياً بعد أن لم يَكُنْ رائياً لحدوثِ المَرْئى، فما تُنكِرُ أن تكونَ علَّةُ كونِه رائياً حدوثَ المَرْئيً؟
فهذا قد أبدلَ شيئاً مكانَ شيءٍ، فيقالُ له: ليس كذا قولُنا، وإنما هو أنه صحَّ الوصفُ للحي بنفسِه بأنه راءٍ أو بصفةٍ هي الحياةُ، فالتَّهيُّو للرؤيةِ وصف وجبَ له ما وجبَ، وهو البصرُ الذي أثْبَتَه لنفسِه، فوجبَ كوُنه بصيراً بصفتِه اللًازمةِ، فلمَّا حدثَتِ المرئياتُ رأى ما أَحدَثَ، فلم يحدُثْ إلا المرئيُّ، ولم يكُ حدوثُه موجِباً ولا مصحِّحاً كونَ الباري سبحانه رائياً، كحدوثِ ما يَحدُثُ تحت السَّقفِ، فيكونُ السقفُ له ظُلَّةً، فلا يَتجددُ للسقفِ وصفٌ بحدوثِ ما حدثَ تحتَه، لكن السقفُ كان متهيئا للإظِلال لما يكونُ تحته أو يَحدُثُ تحته، وللهِ المثلُ الأعلى.
واما النَّقْلُ (1): مثلُ أن يقولَ السائلُ المتجوًزُ في أسماءِ اللهِ بما لم يُسَمِّ به نفسَه: إذا كان القديمُ كبيراً، وإن كان أصلُ الكِبَرِ للجُثَّةِ والجِرْمِ، فما تُنكِرُ أن يكونَ سَخِيَّاً، وإن كان أصلُ السَّخاءِ الرَّخاوَةَ؟
فهذه معارضةٌ منقولةٌ عن موضعِها؛ لأنه قوبِلَ فيها بين معنىً قد نُقِلَ وبين معنىً لم يُنقَلْ، فالكِبَرُ الذي هو كِبَرُ الشَأنِ قد نُقِلَ عن كِبَرِ الجُثةِ، فاستُعملَ في حق القديم (2) سبحانه؛ لأنه يليقُ به كِبَرُ الشأنِ؛ إذ ليس بوصفٍ يُحِيلُ معنى القدمَ، ولا يُحِيلُ وصفاً من أوصافِه الواجبةِ له، والسخاءُ لم يُنقَلْ عن أصلِه منَ اللِّين والرَّخاوةِ، من أرضٍ سخيَّةٍ،
__________
(1) اتظر "الكافية" ص 425.
(2) وإن كان المؤلف رحمه الله ذكر هذا على سبيل الفَرض والتجوّز، إلا أنه لا ينبغي ذكره في حق الله سبحانه وتعالى.

(1/415)


إذ كأنه قيلَ: طَلْقُ الكَف، ليس يَكُزُّ (1) الكف عن العطاءِ.
على أن أصلَ المطالبةِ باطلةٌ؛ لأن اللهَ سبحانه لا تَثبُتُ أسماوة إلا توقيفاً (2).

فصل

في المعارضِة اللازمةِ بالضَرورةِ (3)
وهي التي شهادةُ الفَرْع فيها بالحُكْم كشهادةِ الأصلِ به؛ من جهةِ إيجاب العقلِ لها بأوَّل وَهْلَةٍ، وذلك لَأن من المعارضةِ ما يحتاج إلى التَأمل والفِكْرَةِ، ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه يعلَمُ بالبديهةِ.
مثالُ ذلك: إذا كان التَّضادُّ يشهدُ بأنه لا يكونُ المَحَلُّ أسودَ أبيضَ في حالٍ، فالتناقضُ (4) يشهدُ بأنه لا يكوق الشيءُ موجوداً معدوماً في حالٍ، فمن حاولَ الفرقَ في ذلك، فهو محاوِلٌ (5) لرفعِ ما يُعلَمُ لزومُه من جهةٍ باضطرارٍ.
__________
(1) أي: لا يشدها ويضيقها بخلًا، ورجل كَز اليدين: أي بخيل. "اللسان" (كزز).
(2) قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" 1/ 162: إن ما يطلق على الله سبحانه وتعالى في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيأ كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. وانظر "فتح الباري" 11/ 223.
(3) انظر "الكافية" ص 426.
(4) في الأصل: "فالبياض".
(5) في الأصل: "محال".

(1/416)


ومن ها هنا كان الصالِحيُّ (1) -المضافُ إلى صالحِ قُبةَ (2) - عندنا مناقِضاً في قولِه: إن التضاد يُوجِبُ أن لا يكونَ الشيءُ حياً مَيْتاً في حال، ثم قال: ويجوزُ أن يكونَ جماداً عالِماً؛ لأن الجَمادِيةَ لا تُضاد العلمَ، فأخطأ في ذلك خطأً فاحشاً؛ لأنه إذا كان التضاد يُوجِبُ أن لا يكونَ الشيءُ حيَّاً مَيْتاً في حالٍ، فالتناقضُ يُوجِبُ أن لا يكونَ الشيءُ جماداً عالِماً في حالٍ، وأجازَ أن يكون ميْتاً قادراً وعالِماً وقاصداً، وكُل متناقِض، ولم يُجِزْ أن يكونَ أسودَ أبيضَ؛ إذ التضاد يشهدُ عنه بأنه لا يجوزُ أن يكونَ أسودَ أبيضَ في حالٍ (3).
__________
(1) لا يخلو أن يكون المصنف أراد مطلق من ينتسب إلى مذهب صالح قبة المذكور بعدُ، أو أراد واحداً بعينه، فإن كان أراد الثاني؛ فالذي عرف بهذه النسبة وشارك صالح قبة في مقالته هو أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، ترجم له الصفدي في "الوافي بالوفيات" 5/ 27 فقال: من أهل البصرة، أحد المتكلمين على مذهب الإرجاء، ورد بغداد حاجاً واجتمع إليه المتكلمون وأخذوا عنه، وله من المصنفات: كتاب "الإدراك الأول"، وكتاب "الإدراك الثاني"، وقال: ذكره ابن النديم قي كتاب "الفهرست". قلنا: ليس هو في المطبوع منه. وللصالحي هذا أيضاً ترجمة في باب ذكر المعتزلة من كتاب "المنية والأمل" ص40. وله أيضاً آراء ومقالات انظرها في "مقالات الإسلاميين" ص 132 - 133 و 158 و 168 وغيرها.
(2) من رؤوس المرجئة القدرية، ترجمه ابن المرتضى في باب ذكر المعتزلة من كتاب: "المنية والأمل" ص 41، فقال: له كتب كثيرة، وخالف الجمهور في أمور منها: كون المتولدات فعل الله ابتداء، وكون الإدراك معنى. وفي سبب تلقيبه بقبة قصة ذكرها أبو الحسن الأشعري في "مقالاته" ص 407، وذكر له أيضاً جملة من الأراء في ص 223 و 317 و383 و 406 - 407 و433.
(3) هذه المقالة ذكرها أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين" ص 309 =

(1/417)


ولا يَفصِلُ عاقلٌ بين ما يشهدُ به التضادُّ وبين ما يشهدُ به التناقضُ في أنه إذا شهدَ التضادُّ بأنه لا يصحُّ، فوجبَ أنه لا يصحُّ، فكذلك التناقضُ إذا شهدَ بأنه لا يصحُّ، فواجبٌ أن لا يصحَّ.
ومن هذا الباب أيضاً: إذا كان حلولُ الحركةِ في الحَجَرِ يشهدُ بأنه متحرك، فحلولُ اَلسوادِ فيه يشهدُ بأنه أسودُ، وكذلك إذا كان وجودُ الحركةِ يُوجِبُ أنه لا بُد من متحركٍ، فوجودُ السوادِ يُوجِبُ أنه لا بُد من أسودَ، وكذلك إذا كان القارُ يُوجبُ أنه لا يكون أسودَ إِلا بسوادٍ، فالغُرابُ يُوجِبُ أنه لا يكونُ أسودَ إلَا بسوادٍ، وكذلك الدَينارُ إذا كان يُوجِبُ أن لا يكونَ مضروباً إلا بطابِعٍ طبعَه، فالخاتِمُ لا يكونُ إلا بصانعٍ، وكلُّ هذا معلومٌ بالعقلِ قبل أن تُدرَى العلَّةُ ما هي، وذلك أنك قد تَدرِي العلَّةَ في المتحرِّكِ من وجهِ أنه متحركٌ؛ إذ كان العلمُ بالشيءِ متحرَكاً علماً بالحركةِ، ولا تَدريها من جهةِ ما هي حتى تَستدل عليها بالعلمِ، فالعلمُ بها من الوجهِ الأولِ ضرورةٌ، والعلمُ بها من الوجهِ الثاني اكتسابٌ.

فصل
في المعارضةِ على شبْهَةٍ أو شَغْب
اعلم أن المعارضةَ على شُبْهَةٍ: هو مقابلةٌ بما الاقتضاءُ فيه على غيرِثقةٍ.
__________
= -311 و 312 و568 - 569 والسمعاني في "الأنساب" 3/ 512، وقال أبو الحسن ص 312: إن صالحاً والصالحي قد انفردا في مقالتهما هذه، وخالفا فيها سائر أهل الكلام.

(1/418)


ومثالُ ذلك: إذا كان المتحرِّكُ بعد أن لم يَكُنْ متحركاً لا يكونُ إلا بحركةٍ، فالباقي بعد أن لم يَكُنْ باقياً لا يكونُ إلا ببقاءٍ، فهذه معارضة على شبهةٍ؛ لأن الأولَ على ثقةٍ، والثاني ليس على ثقةٍ.
وكذلك لو قال: إذا كان الجوْهَرُ لا يَفْنى إلا بفناءٍ، فما تُنكِرُ أن
يكونَ لا يَبْقى إلا ببقاءٍ؛
وكذلك لو قال: إذا كان الجوهرُ لا يَتحركُ الا بحركةٍ، فما تنكرُ أن لا يوجدَ إلا بوجودٍ؛ وكذلك لو قال: فما تُنكِرُ أن لا يَحدُثَ إلا بحدوثٍ.
وأما الشَغْبُ: فهو تقابلُ الألفاظِ من غيرِ معنى يقتضيه العقلُ، وُيعتَبَرُ بمثلِه في اعتقادِ الأمر.
وذلك كقولِ القائلِ: إذا كانت الاستطاعةُ قبل الفعلِ، فما تُنكِرُ أن يكونَ الجوهرُ قبل العَرَضِ؟
وأهلُ التَّحصيلِ لا يتكلَّمونَ إلا على حُجةٍ أو شُبهةٍ، فأمَّا الشَغْبُ فليس في الاشتغالِ به فائدة إلا بمقدارِ ما يُحذَرُ منه، وُيبينُ أنه شَغْب لا يتموَّهُ بمثلِه مذهبٌ (1).

فصل
في المعارضة بالنقيض

اعلم أن المعارضةَ بالنَّقيضِ: هي مقابلة بالدعوى في الإِيجابِ للدَّعوى في السَّلْبِ.
__________
(1) تقدم كلام المصنف على الشبهة والشغب في الصفحة (339).

(1/419)


وذلك كقولِ الدَّهرِيَ: الأجسامُ قديمة؛ لأنه لم يَثبُتْ حَدَثُها بحجةٍ.
فيقالُ له: ما الفصل بينك وبين من قال: الأجسامُ محدَثةٌ؛ لأنه لم يَثبُتْ قِدَمُها بحجَّة؟ وكذلك لو قال: ما الفصلُ بينك وبين من قال: ليست الأجسامُ قديمة؛ لأنه لم يَثبُتْ قِدَمُها بحجةٍ؟ فهذا على السلْبِ في الحقيقةِ، والأولُ على معنى السلْبِ، فكلاهما لازم بالمعارضةِ.
وكذلك لو قال: لا أجَوزُ الاجتهادَ؛ لأني لا أعلمُ صِحتَه.
قيل له: فما الفرقُ بينك وبين من قال: أُجوِّزُ الاجتهادَ؛ لأني أعلمُ صحتَه؟

فصل
في المعارضةِ على الجُزْئي بالكُلَّي

اعلم أن المعارضةَ على الجزئيِّ بالكلي (1): هو مقابلة الحكم الذي يشهد به البعض بالحكم الذي يشهد به الكل (2)، مثالُ ذلك: قولُك: إذا كان بعضُ (3) الأفعالِ يشهدُ بأنه لا بُدَّ له من فاعلٍ، فكلُّ فعلٍ يشهد بأنه لا بُدَّ له من فاعل، وكذلك إذا كان بعضُ المحكَمِ المتقَن يشهدُ بأنه لا يكونُ إلا من عالِيمٍ، فكلُّ محكَمٍ متقَن يَشهدُ بأنه لا يكونُ إلا من عالم.
__________
(1) انظر "الكافية" ص 426 - 427.
(2) كتبت في الأصل: "الكلي".
(3) في الأصل: "تغير".

(1/420)


فصل
فإن قال قائل: إذا كان بعضُ الموجودين لا يكونُ إلا بموجِدٍ، فكلُّ موجودٍ لا يكونُ إلا بموِجدٍ، لم يصحَّ ولم يَلزَمْ ذلك؛ لأن بعضَ الموجودين كان وجودُه مع جوازِ أن لا يُوجَدَ، فاحتاجَ إلى موجِدٍ، فأمَّا ما وُجِدَ، ولم يكُ وجودُه بعد أن لم يَكُنْ، أو وجبَ وجودُه، لم يَحْتَجْ إلى موجِدٍ، بل استغنى بوجوبِ وجودِه عن موجِدٍ.

فصل
في المعارضة بالمثل والنظير
اعلم أن المعارضةَ بالمثلِ والنَّظيرِ: هي مقابلةُ ما يشهدُ به أحدُ المِثْلَيْن بما يشهدُ به الآخرُ، وذلك كالجوهرَيْنِ إذا لم يَصِح أن يكونَ أحدُهما قديماً، لم يَصحَ أن يكونَ الآخرُ قديماً، وذلك كغَرْفَةِ ماءٍ تُقسَمُ بقسمين، أو كثوب يُقطَعُ نصفين، وما أشبهَ ذلك، فهذا لا مُؤنةَ على عاقل ولا كُلْفَةَ فيً أنه إذا كان أحدُهما محدَثاً، فالأخرُ محدَثٌ؛ من حيثُ كانا متماثلين، وكذلك قياسُ السُّكونين المِثْلين في أنه لا يجوزُ أن يكونَ أحدُهما قديماً والأخرُ محدَثاً، كما لم يَجُزْ في الجوهرين، وكذلك التَّدبيران إذا كان أحدُهما لا يكونُ إلا من مُدَبرٍ، وكذلك المحكَمُ من بناءِ الدُورِ إذا لم يَكُنْ إلا ممنْ يُحسِنُه، فالمحكَمُ من بِنْيَةِ الإِنسانِ لا يجوزُ إلا ممن يُحسِنُه، كذلك يقتضي العقل فيه.
فأمَّا المعارضةُ بالنظيرِ: فهي المقابلةُ بين الشيئين اللذين لا يَسُد أحدُهما مَسد الأخرِ في العقلِ، وان (1) كان كلُّ واحدٍ منهما يشهدُ
__________
(1) في الأصل: "واذا"، والأنسب ما أثبتناه.

(1/421)


بمثل ما يشهدُ به الآخرُ.
مَثالُ ذلك: الظُّلمُ والعَبَثُ في أن الظلمَ إذا كانَ يشهدُ بأنه لا يكونُ من حكيمٍ، فالعَبَثُ يشهدُ بأنه لا يكونُ من حكيمٍ، وكذلك كان فعلُ ما لا فائدةَ فيه الْبَتةَ، كفعلِ ما هو مَحْضُ المضَرةِ ممن يدخلُ تحتَ رَسْمٍ خلا الباريَ سبحانه، فإنه لو فعلَ المضَارَ المَحْضَةَ، لم يخلُ فعلُه من حكمةٍ؛ لأنه لا رَسْمَ عليه ولا مُعقِّبَ لأمِرِه.

فصل
في المعارضةِ على أصلٍ أو عِلَّةٍ
اعلم أن المعارضةَ على أصلٍ: هي مقابلةُ ما (1) يشهدُ به الأصلُ بما يشهدُ به الفَرْعْ.
مثالُ ذلك: الكلامُ يشهدُ بأنه لا يكونُ إِلا من متكلمٍ، كما أن المعنى [من] متكلِّمٍ يشهدُ بأنه لا يكونُ إلا بكلامٍ.
وأما المعارضُة على علَّةٍ: فهي مقابلةُ ما يشهدُ به الأصلُ من أجل حقيقةٍ هو عليها بما يشهدُ به الفرعُ من أجلِ حقيقةٍ هو عليها.
مثالُ ذلك: قولُك لليهوديَ: إذا صَحَتْ نُبُوَّةُ موسى لأجلِ المعجزةِ، فما تُنكِرُ أن تصح نُبوَّةَ محمدٍ عليهما السلام لأجلِ المعجزةِ؟ وكذلك قولُك للنصرانى: إذا كان لا بدَّ للقديمِ جل وعزَ من علمٍ؛ لأنه لا عالِمَ إلا وله عِلم، فما تُنكِرُ أن تكونَ له قدرةٌ؛ لأنه ما من قادرٍ إلا وله قدرة؟ فهذه المعارضةُ بنظيرِ العلَّةِ.
__________
(1) في الأصل: "بما".

(1/422)


فصل
في الاحتجاجِ في المختلَفِ فيه
اعلم أن للعلوم مراتبَ وقَعَتْ مواقعَها لأعيانِها، فليس يجوزُ لذلك تغييرُها.
فمنها: أصل ليس بفرعٍ، نحو علمِ الحِسِّ (1).
ومنها: أصلٌ وفرعٌ، نحو العلمِ بالمحدَثِ.
وإنما كان علمُ الحِسِّ أصلًا؛ لأنك تَبْني عليه وتَستخرِجُ به، فيكونُ أصلًا لما أَثبَتَه عليه واستخرجتَه به، فلم يَجُزْ اُن يكونَ فرعاً؛ لأنه لم يُبْنَ على غيرِه، وليس قبلَه شيء استُخرِجَ به.
فأمَّا العلمُ بالمحدَثِ: فكل (2) شيءٍ بَنَيْتَ عليه شيئاً، فهو أصلٌ لما ابتَنَيْتَ عليه، مثلُ إحالتِك وبنائِك على علم الحسِّ، واستخراجِكَ له به، وكلُّ شيءٍ بُنيَ على غيرِه فهوفرعٌ له، وليس يُمْكِنُ أن يقعَ الفرعُ موقعَ أصلِه، ولا يجوزُ أن ينتقلَ الأصلُ إلى موضع فرعِه، حتى يكونَ العلمُ بأن الشيءَ محدَثٌ قبلَ العلمِ بأنه حادثٌ، وأصلًا له، والعلمُ بأنه محدَث قبلَ العلمِ بأن له محدِثاً، ولا يمكنُ أيضاً أن يكونَ العلمُ بأنه حادث والعلمُ بأنه محدَثٌ بعد العلمِ بأن له محدِثاً، ولا يمكُن أيضاً أن يكون العلمُ بأنه حادث قبلَ العلم بأنه موجودٌ، ولو جازَ هذا، لجازَ أن يكونَ علمُ الاستدلالِ قبل علومِ الحِسِّ، وأصلاً لها.
__________
(1) وهو ما يدرك بطريق الحواس، وقد تقدم الكلام عليه في الصفحة (20).
(2) في الأصل: "وكل"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(1/423)


فإذا سُئِلْتَ عن شيءٍ أصلُه فرعٌ من علوم الاستدلالِ، فعلومُ الاستدلالِ يجوزُ فيها الاختلافُ، فليس يَبعدُ أنَ يكونَ سائلُك منكِراً لأصلِه، ولا يجوزُ لك أن تَدُل على المختلَفِ فيه بالمختلَفِ فيه؛ لأن الذي أحوجَ أحدَهما إلى الدَّلالةِ هو الاختلافُ فيه، وهذا بعينِه قائم في الاَخَر، فلو اسْتَغْنى بعضُ ما يُختلَفُ فيه عن الدليلِ؛ لاسْتَغْنى عنه جميعُه، كَما أنه لو احتاجَ بعضُ المتَّفَقِ عليه إلى الدليلِ؛ لاحتاجَ إليه جميعه.
ومن المختلَفِ فيه ما يكونُ حقاً، فيكونُ البناءُ عليه محكَماً؛ لأنه لا يمنعُه من ذلك أنه لم يقَعْ بحِس، وذلك أن خروجَه عن الحِسَ لم يُبطِلْه، والصحيحُ لا يُثمِرُ إلا صحيحاً، فإذا كان له وجهُ دَلالةٍ، كانت صحيحةً.
وإنما بانَتْ علومُ الحسِّ وفَضَلَتْ (1) غيرَها بقوً تِها، وبانها الأولُ الذي يُجعَلُ البناءُ عليه؛ لأنها هي التي يُبنى عليها دون غيرِها، ومن علومِ الحسِّ ما بعضُه أقوى من بعض، وليس يَجِبُ من ذلك أن يكونَ البناءُ على القويِّ دونَ غيرِه، ولكن الوجهُ في جوابِه: أن يقال له: إن (2 للذي سألتَ عنه أصلاً 2) هو قبلَه، وبه استدلَلْتُ عليه
__________
(1) في الأصل:"فعلت".
(2 - 2) في الأصل: (الذي سألت عنه أصل).

(1/424)


وعَرَفْتُه، وذلك الأصلُ مما يُمكِنُ أن يُختَلَفَ فيه؛ لأنه ليس بعلمِ حسٍّ، وهو استدلالٌ، فإن كنتَ معترِفاً به أو مسلماً له على غيرِ اعترافٍ، دَلَلْتُك به بعدَ الاعترافِ والتَسليمِ، وإن كنتَ تُنكرُه وتُخالِفُ فيه، فاصْرِفِ السؤالَ إليه، حتى إذا حَق عندَك، ودخلَ بذلك في باب المجمَعِ عليه، أرَيْناك إيجابَه لصواب ما سألتَ عنه، فإن أبى هذا، فهو بمنزلةِ من قال: وصِّلُوني إلى آخر المسافةِ من غيرِ أن تَسلُكُوا بي في وسَطِها، أو تَمُروا (1) بي على أولِها. فهذا هو العَنَتُ والبَغْيُ والظُّلمُ البَينُ من طالبِه (2).
على أنه يقالُ له عند إثباته: إنَا لا ندَّعي أنَا وصَلْنا إلى معرفةِ ما سألْتَ عنه إلا بالأصل الذي أَوْمَانا إليه، فإن أردْتَ معرفتَه على الوجهِ الذي منه عَرَفْناه، عَرفْناكَهُ كما عَرَفْناه، وعَرفْناك علَّتَه، وإن لم تُرِدْ ذلك، فلسنا نقدرُ على غيرِه.
فإن قال: لو كان اللَّونُ حقَاً، لوَصلْتم إلى معرفتِه من غيرِ البَصَرِ، كان هذا القولُ بَينَ الفسادِ؛ إذ لا مُدرِكَ للونِ سوى المبصِرِ، فهذا بيانُ من طلبَ دَرْكَ الشيءِ من غيرِطريقِه.

فصل
السؤالُ على من أجابَ هذا الجنسَ من الجوابِ
اعلم أنه لا سؤالَ على من أجابَ بمثلِ هذا الجوابِ إلا من ثلاثةِ أوجهٍ، سنذكرُها إن شاءَ الله:
__________
(1) كتبها الناسخ: "مروا".
(2) غير واضحة في الأصل.

(1/425)


فلا يخلو السائلُ أن يكونَ منكِراً للأصلِ الذي استشهدَ به المجيبُ، أو معترِفاً به.
فإن كان منكِراً: فلن يخلوَ أيضاً من أحدِ قولين: إمَّا أن يكونَ عالِماً بأنه لو صحَ لأوجبَ الفرعَ الذي أضافَه إليه المجيبُ، أو عالِماً بأنه لا يُوجبُه صحَ أو بَطَلَ.
وإن كان معترِفاً به: فليس يخلو أيضاً من أن يكونَ عالِماً بأنه يُوجبُ ذلك الفرعَ، أو لا يُوجِبُه.
فإن كان منكِراً له عالِماً بايجابه للفرع لو صحَّ، لم يَكُنْ له أن يسألَ عن تسليمِه؛ لأنه إن سَلمَه، لم يَلْبَثِ المجيبُ أن يَدُل به على صحةِ ما أبطلَه وخالفَ فيه من فرعِه، ولكن يَطعُنُ فيه نفسِه، وُيجاذِبُ المجيبَ فيما ادعى من صوابِه حتى يُبطِلَ بإِبطالِه إياه فرعَه.
وإن كان منكراً عالِماً بأنه غيرُ موجب لذلك الفرع ولو كان صحيحاً، فله أن يسألَ فيه من وجهَيْنِ: أحدِهما: ما ذكرنا، والثاني: على تسليمِه؛ لأنه لا يَلبَثُ أن يَرى المجيبُ بالمساءلةِ مفارقتَه لما شبهَهُ به، وبأنه غيرُ موجِبِ له، فلا يَجِدُ المجيبُ بُداً من إبطالِه والرجوعِ إلى مذهب السائل فيه؛ لأنه قد تقدمَ الإِقرارُ بأنه لا يَثبُتُ لإِثباتِ هذا الأصلِ، وإذا كان هذا والأصلُ غيرُ ثابتٍ فقد بأنَ سقوطُه.
وإن كان معترِفاً به عالِماً بإيجابِه لِمَا أَوجبَه المجيبُ به، فليست له عليه مسألةٌ، وإنما يكونُ له أن يسألَه فيه مع اعترافِه من حيثُ يُوضحُ للمجيبِ مفارقتَه له، وذلك بأن يقولَ للمجيبِ: وما الدليلُ على أن هذا

(1/426)


الأصلَ موجِوب (1) له؟ ومن أَيِّ وجهٍ أوجبَه؟.

فصل
واعلم أن للخَصْمِ إذا خاصَمَك وخالفَك في المُستَنْبَطاتِ كلَها أن يَسلُكَ منها -إذا استشهدَ بها- شيئاً شيئاً حتى يَبلُغَ إلى علوم الحِسِّ وبَدائِهِ العقلِ، فإذا بلغَ إلى ذلك، كان الكلامُ في وجهِ دَلالَتِه على ما يَستدلُّ به عليه، فلا تَستَبطىء قولَه: ولِمَ قلتَ ذا؟ وفي هذا اسألْ، لا تُنكِرَنَهُ إلا أن يضعَ المساءلةَ في موضعٍ قد جامعك عليه، فيكونُ حينئذٍ سائلَاً لنفسِه، ظالماً بإيقافِك المسأله موقفَ من قد بانَ منه في الأمرِ الذي قد ساواه فيه.

فصل
في لزومَ طريق أوَّلَ السُّؤالَ وآخِرِه
اعلم أن كلَّ سؤالٍ ابتدَأْتَه، فاتَّصلَ بما يُبطِلُ عِلَلَ المجيبِ في إفسادِه واحتجاجِه في دَفْعِه إيَّاه عن نفسِه، وبما يُبينُ عن حقيقتِه ووجوبِه، فهو ماضٍ على سَنَنٍ؛ لأن المتَّصِلَ به مسهِّلٌ طريقَه، مقرِّبٌ من نتيجتِه التي فيه.
وكلُّ سؤالٍ ابتدَأتَه، ثم اتْبَعْتَهُ بما يَخرُجُ عمَّا وصَفْنا، فهو منقطعٌ خارج عن سَنَنهِ، وأنت بما وصَلْتَه به كذلك.
فإن قال قائلٌ: كلُّ مسألةٍ في هذا البابِ تُوجبُ ما تُوجبُه أختُها، فينبغي إن كان ما وصفْتَ حقَّاً، أن يكونَ من سأَل عن مسألةٍ فانقطعَ
__________
(1) قبلها في الأصل كلمة:"من"، والأنسب حذفها.

(1/427)


فيها، ثم وصلَها بأخرى من بابِها، غيرَ خارج من كلامِه، إلى أن يأتيَ على جميعَ ما في البابِ.
قلنا له: ليس إلى ما توجِبُ فصْلٌ، وإنما ذهبنا إلى ما اتَّصلَ بالمسألةِ، فأوجبَ لزومَها بعينِها، وسَهلَ طريقَها نفسِها، ومُضيها على حدِّ ما ابتُدِئَتْ عليه، فهو فيها وصاحبُه غيرَ خارجٍ عن سَنَنِها، ولم نُرِدْ أن ما اتَصَلَ بها، فأوجَبَ صحةَ المذهبِ الذي أجرِيَ بها إلى تصحيحِه بنفسِه دونهاكذلك، وهذا ما لا بُدَّ منه، وسنصوِّرُ صورتَه بَيِّنةً إن شاءَ اللهُ.
فنقولُ: لو أن جِسْميًّا سأل موحِّداً، فقال له: إذا زعمتَ أنه شيءٌ لا كالأشياءِ، فهَلا زعمتَ أنه جسم لا كالأجسامِ؟
فقال له الموحِّدُ: لأنه ليس كلُّ ما كان شيئاً يجبُ أن يكونَ جسماً، وذلك لوجودِ أشياءَ ليست أجساماً، وهي أفعالُ الجسمِ.
قال الجسميُّ: وما الدليلُ على وجودِ شيءٍ ليس بجسمٍ؟ لم يَكُنْ بهذا القولِ خارجاً عن مسألتِه؛ لأن الموجودَ على صحَّةِ مذهبه، ودفعُ المسألةِ وإسقاطُها بوجودِ (1) أشياءَ ليست أجساماً، والدَليلُ علىَ ذلك: أنه إذا صحَ هذا، بَطَلَتِ المسألةُ، فوجبَ على الجسمى على أصلِه دفعُه عما حاولَ من إفسادِ مسألتِه وحياطتُها، وليس يقدرُ على ذلك إلا بدفعِ المجيبِ عن جوابه، وليس يتهيَّأ له دفعُهُ وإفسادُ جوابه إلا بإفسادِ علَّتِه التي يُصححُ بها، وإفسادُ عِلَلِه لا يمكنُ إلا بمساَءلتِه فيها.
__________
(1) في الأصل: "موجود"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(1/428)


ومما يَدُل على ذلك: أنه إذا أفسدَ عِلَّةَ (1) ما ادَّعاه، ولم يُفسِدْه، كشفَ عن وجهِ المسألةِ بعينِها، وأوجبَ وقوفَها، وأخرجَ المجيبَ إلى تحديدِ الجوابِ عنها، وجعلَ لنفسِه الرجوعَ إليها، واقتضى جوابَها، فلولا أن ما كان من إفسادِه له منها وفيها، لم يُحقَقْ وجوبَها، وُيوجِبْ وقوفَها، ويزيدُ في قوَّتِها وجَذْبِها، وُيخرِجُ إلى اشْتِيافِ (2) غيرِ ما مضى من الجواب عنها، وليس كلُّ ما هو هكذا خروجاً عن المسألةِ، فما في الدنيا كَلام يمكنُ اتصالُه بابتداءِ السؤالِ، واعْتَبِرْ هذا تجِدْه.
واعلم أن كلَّ ما قَوَّى المسألةَ فهو من بابِها؛ لمعاضدتِه إيَّاها ومعونتِه لها، وليس لأحدٍ منعُ صاحبِها منه، لأنه إنما يجبُ عليه أن يأتيَ بمسألةٍ كاسرةٍ للمذهب، واجبةٍ على المجيبِ، ثم يُقَويَها، وُيحقَقَ وجوبَها كيف ما أمكنَ ذلَك ويسهلُ، وما اقتراحُ من يَقترِحُ عليه تقويةَ المسألةِ من وجهٍ دونَ وجهٍ إلا كاقتراحِه عليه ابتداءَها من وجهٍ دون وجهٍ، فإذا كان الاقتراحُ في الابتداءِ فاسداً، كان في التَّمامِ كذلك.

فصل
واعلم أن كثيراً من الجُهّالِ بحقائقِ النَظَرِ وقوانينِ الجَدَلِ يَتوهمون المسألةَ كلمةً واحدةً مَنْ تجاوزَها فقد جاءَ باخرى من غيرِ جنسِها، وخرجَ عن واجبِها، وفي الحقيقةِ أن كلُّ استخبارٍ تَمَّ وفهِمَ معناه فهو
__________
(1) كتبها الناسخ: "علتها".
(2) اشتاف فلان يشتاف اشتيافاً: إذا تطاول ونظر، وتَشَوفْتُ إلى الشيء: أي تطلعْتُ."اللسان" (شوف).

(1/429)


مسألةٌ تامةٌ، على معنى أنه قد لَحِقَ بالسؤالِ واستحقَّ اسمَه، ولولا ذلك لم يَجِبْ على المسؤولِ أن يُجيبَ عن سؤالٍ قائمٍ مفهومٍ عن شيءٍ، ولا استحَق اسمَ مسألةٍ.
فأمَّا ما ليس بسؤالٍ البَتَةَ، أو ليس بسؤال تامٍّ، فليس يجبُ الجوابُ عنه، لأن ما لم يتحقَقِ الكلامُ سؤالًا فلا يقتضي جواباً، والمسألةُ الناقصةُ لا يُفهَمُ معناها، وإنما يجبُ الجوابُ بعدَ الإِفهام، مع أنه ليس لسائلٍ أن يَسكُتَ ويقتضي الجوابَ إلا بعدَ الإِفهام وتمامَ المسألةِ، فمتى سكتَ عن كلامٍ غيرِ تامٍّ، فما تَحقَقَ له سؤال، ولاَ وجبَ لكلامِه جوابٌ.
وإذا كان هذا هكذا، فأوَّلُ الفصولِ فيه الاستخبارُ، وأوَّلُ جملةٍ تَرِدُ منه ما يقومُ من القولِ سؤالًا تامًّا، والزيادةُ أيضاً كذلك إلا أنها فرعٌ للابتداءِ، تنبني على وجوبِه وتقربُ إليه، وانما جعلَ المتكلِّمون هذا كلَّه مسألةً واحدةً، كما تُجعلُ الحركاتُ الكثيرةُ (1) في المسافةِ الواحدةِ سَيْراً واحداً، وإنما جعلوه سَيْراً واحداً لتأديةِ جميعِه إلى غايةٍ واحدةٍ، وهي التي أجْرى إليها بالابتداءِ وما بعدَه، وذلك أن أوَّلَ السؤالِ وعْدُ نتيجةٍ، فاظهرَها آخِرُه، وقَرَّبَ منها ما بينهما من الكلام، وشَدَّ بعضُ ذلك بعضاً، ولهذا التعاونِ وهذِه المناسبةِ التي بين الجمَيع في إظهارِ النَّتيجةِ والتَّقريب منها، وتأخيرِ النتيجةِ إلى آخرِ الجميعِ، ما جعلَ الكُلَّ سؤالًا واحداً؛ ألا ترى أن الفقهاءَ جعلوا الأكلَ الكثيرَ المتَّصِلَ لتأديتِه إلى غايةٍ هي الشِّبَعُ أكلًا واحداً، حتى إنَّهم قالوا: لو حَلَفَ:
__________
(1) في الأصل: "الكثرة".

(1/430)


لا أكَلْتُ إلا أكلةً واحدةً -عند قومِ-، ولآكُلَنَ أكلةً واحدةً -عند الجميعِ-، فأكل أكلًا طالَ وكَثُرَ لكنَهَ انتهى إلى غايةٍ هي شِبَعُه، لم يُعَدَ إلا أكلةً لِبرِّة وحِنْثِه بحَسَب يمينِه، وإن كان كلّ قطعةٍ من أكلهِ لو افرِدَتْ في حق غيرِه، فانتهتَ إلى غَرَضِه من شِبَعِه كان أكلةً تامَةً؛ لتأديتِها إلى غرضِ ذلك الأكلِ، وكانت هذه أكلةً وإن طالَتْ وكَثُرَتْ؛ لتأديتِها إلى نتيجةٍ، هي الشِّبَعُ للآكلِ.
كذلك صَيرنا ما تعاضَد من السؤالِ وقربَ من النتيجةِ الواحدةِ سؤالاً واحداً، فإذا استُؤنِفَ بعد ظهور الغَرضِ-وهو النتيجةُ- كلامٌ آخرُ، فهو سؤالٌ آخرُ، وحصلَتْ مسألةٌ ثانيةٌ.
وجملةُ هذا: أنك إذا وجدْتَ المسألةَ لوِجدانيَّةِ النتيجةِ كما وجدتَ السببَ لوجدانيَّةِ الغرض، فلا تلتفِتْ إلى قولِ من يقولُ: قد مضى ذاك السؤالُ، وهذا كلامٌ آَخرُ من المتكلِّمِ؛ فإن قصدَهم قطعُ الخصمِ في أوَّل وَهْلَةٍ وكلمةٍ، وهذا من تسويلِ الشياطين وتطميعِهم، وإلا فأين هم والوقوفَ على حقيقةِ الكلامِ فضلًا عن قطعِ الخصمِ؟ وإنما سمعوا قولَ القائل: جُمعَ بين فلاَنٍ وفلانٍ، فما كان إلا كلمتان حتى قَطَعَه، كما يقولون: تقاتَلَ فلانٌ وفلانٌ، فما كان إلا حَلَبُ شاةٍ (1) حتى صَرَعَه، وتجاولَ فلانٌ وفلانٌ، فما كان إلا مقدارُ طَرْفةِ الجفْنِ حتى طَعَنَه.
وهذا فَرَحُ ساعةٍ، وقولُ العَصَبيَّةِ (2) مع عدمِ التحقيقِ، وقَلَّ أن
__________
(1) أي وقت حلب شاة. "اللسان" (حلب).
(2) في الأصل: "العصبة".

(1/431)


يُفلحَ من تركَ التحقيقَ تعويلًا على أمثالِ هذه التزاويق (1) التي لا بقاءَ لها، وقَل أن ينتهيَ من سلكَ ذلك إلى مَقاماتِ الائمةِ، والله يكفي غوائلَ الطِّباع، وشرورَ النفوسِ، وغلباتِ الأهواءِ بمَنِّهِ وكرمِه.
__________
(1) في الأصل: (التزوايق).

(1/432)