الواضح في أصول الفقه فصول
في القياسِ وتحقيقهِ وضروبِه وشروطِه
فصل
القياسُ: هو الجمعُ بين مشتبِهَيْنِ لاستخراجِ الحكمِ الذي
يَشهدُ به كلُّ واحدٍ منهما، ولا يخلو كلُّ واحدٍ منهما من أن
يشهدَ بمثلِ ما شَهِدَ به الآخرُ أو نظيره.
مثالُ ذلك: قولُنا: إذا كان ظلمُ المُحسِنِ لا يجوزُ من حكيمٍ،
فعقوبةُ المحسِنِ لا تجوزُ من حكيم.
وكذلك قولُنا: إن كانت عقوبةُ المحسِنِ تجوزُ من الحكيم، فظلمُ
المحسنِ يجوزُ من الحكيمِ، فهذا مثالٌ لأهلِ التَّحسيَنِ
والتَّقبيحِ.
ومثالٌ عليهم: إذا لم يَقبُحْ من الحكيمِ تمكينُ من عَلِمَ أنه
بتمكينِه يَفسُدُ وُيفسِدُ، وتكليفُ مَنِ المعلومُ أنه لا
يُؤمِنُ بل يكفرُ، فيستحِقُّ العقابَ الدائمَ، لم يَقبُحْ
منعُه من اللُّطفِ الذي لو مُنِحَه لاتَبعَ الهُدى.
وإذا كان حدوثُ البناءِ لا بُدَّ له من محدِثٍ، فحدوثُ الجوهرِ
لا بُدَّ له من محدِثٍ.
(1/433)
وإن كان تَصوُّرُ القِدَم ممكناً (1)،
فتصورُ الحَدَثِ ممكنٌ، وإن كان تصورُ الحَدَثِ ليس بممكَنٍ،
فتصورُ القِدمِ ليس بممكنٍ.
وإذا كان كونُ الحركةِ في مَحَل فيه السكونُ صحيحاً، كان كونُ
الجوهرِ في مكانٍ فيه جوهر آخرُ صحيحاً.
وإذا كان كونُ الجوهرِ في مكانٍ فيه جوهر آخرُ لا يَصِح، فكونُ
(2) الحركةِ في مَحَل فيه سكون لايَصِحُّ.
وإذا كان إفناءُ النَهارِ يجوزُ من الحكيم، فإفناءُ العالَم
كلِّه يجوزُ من الحكيمِ.
وإذا كان إفناءُ العالَمِ لا يجوزُ من الحكيم، كان إفناءُ
النهارِ لا يجوزُ من الحكيمِ.
وإذا كان استصلاح الحكيمِ منَّا بالرُسلِ جائزاً، كان استصلاحُ
العالم (3) بالرسلِ جائزاَ أيضاً، وإذا كان استصلاحُ القديمِ
بالرُّسلِ لا يجوزُ، فاستصلاحُ الواحدِ من حكمائنا بالرسلِ لا
يجوزُ.
وإذا كانت دلالةُ العقلِ يجبُ العملُ عليها، فدلالةُ السمعِ
يجبُ العملُ عليها، كدلالةِ السمع في سلامةِ الطرُقِ أو
فسادِها، وغلاء الأسعارِ أو رُخْصِها، وخِصْبِ البلادِ أو
جَدْبِها.
ومن هذا البابِ والقَبيلِ أيضاً: إذا كان التغيُّرُ صحيحاً،
فالحدوثُ
__________
(1) في الأصل: "مركباً".
(2) في الأصل: "فكمون".
(3) في الأصل: "للعالم".
(1/434)
صحيح، وإذا كان الحدوثُ لا يصحُّ، فالتغيرُ
لا يصحُّ؛ لأن التغيُّرَ حدوث في الحقيقة.
وإذا كان السَّببُ طاعةً، فالمسبَّبُ طاعةٌ، وإذا لم يكن
المسببُ طاعةً، لم يكن السببُ طاعةً.
وكذلك إذا جاز عذابُ من لم يُكلَّفْ فعلًا ولا تركاً، جاز
عذابُ من كُلِّفَ على غيرِ فعلٍ ولاتركٍ.
وكذلك من هذا الباب: إن صحَ من الطبيعةِ إنشاءُ إنسانٍ، صحَّ
منها إنشاءُ دُولابٍ أو بابٍ أو كتابِ، وكذلك: إن صحَ منها ما
فعلَ الإِنسانُ مِثْلَه، صحَ منها مَثلُ ما فعله الإِنسان، كما
أنه إن صحَ فِعلُها لمثلِ زيد، صح فعلُها لمثلِ عمرٍو.
وكذلك: إن صحَ واجبٌ لا يَقبُحُ تركُه، صحَ واجبٌ لا يَحسُنُ
فعلُه، وإن لم يصحَّ واجب لا يَحسُنُ فعلُه، لم يصح واجبٌ لا
يَقبُحُ تركهُ.
وإذا استحالتِ القُدرةُ على الإِفناءِ، استحالَتْ على
الإِنشاءِ، وإذا لم تَستَحِلْ على الإنشاءِ، لم تَستَحِلْ على
الِإفناءِ.
ومن هذا الباب: القُدرُة لا تصحُ أن تكونَ قُدرةً على إيجادِ
الموجودِ، كما أنها لا تصحُّ أن تكونَ قدرةً على إعدامِ
المعدومِ، وهذا يُوجبُ أنها لا تكونُ قدرةً إلا على إيجاد
المعدومِ.
ومنه أيضاً: الحياةُ الموجودةُ لا بُدَّ من حَى بها، كما أن
القُدرةَ الموجودةَ لا بُدَّ من قادرٍ بها، كما أن محَل
الحركةِ إن كان متحرِّكاً بها،
(1/435)
فمَحَل السوادِ أسودُ به.
وهذه مقابلاتٌ في القياسِ واضحةٌ، وأمثلةٌ بَيِّنةٌ يُحتَذى
عليها فيما يُحتاجُ فيه إلى المقايسةِ.
ومن هذا الباب: إن لم تَصِحَّ التوبةُ من ذَنْب مع الإِقامةِ
على غيرهِ، لم تصحَّ التوَبةُ من اليهوديَّةِ مع الإصرارِ علىً
خِيانةِ حَبةٍ.
وكل قياسٍ فلا بُدَّ فيه من اشتباهٍ، إلا أنه قد يكونُ
الاشتباهُ من جهةِ العلَّةِ التي لكلِّ واحدٍ من الحُكْمَيْنِ،
وقد يكونُ من جهةٍ لتسويةِ العقلِ بين الحكْمَيْنِ، فعلى (1)
هذين الشيئين الاعتمادُ في كلُّ قياس.
فعلى قولِ من يقولُ بتحسينِ العقلِ وتقبيحِه: مثالٌ في تسويةِ
العقلِ بين الحكمين: إذا (2) لم يَجُزْ في قضيَّةِ العقلِ
الأمرُ بالظلمِ لكونِه قبيحاً أو لكونِه ظلماً، لم يَجُزْ فعلُ
الظُّلم لكونِه قبيحاً أو لكونِه ظلماً.
وعلى طريقةِ الكُلِّ: إذا قضى العقلُ أو الشرعُ بأن لا يجوزَ
عقابُ من لم يُسىءْ، فلا يجوزُ عقابُ من لم يُكلَّفْ؛ لأنه لم
يسىءْ.
وهذا وأشباهُه مما يُدرَكُ بأدنى تأمُّل، إلا أن تَعرِضَ شبهةٌ
تَصُدُّ عنه.
__________
(1) في الأصل: "فعل".
(2) كتبت في الأصل: "فإذا"، والأوجه ما أثبتناه.
(1/436)
فصل
في الفرقِ بين المُعارَضةِ والقياسِ
اعلم أن المعارضةَ قياسٌ يُعتمدُ فيه على المناقضةِ، وهي نوع
من القياس، ألا ترى أن عِمادَها التسويةُ بين ما عُورِضَ به
وبين ما عُورِضَ، فكلُّ (1) معارضةٍ قياس، وليس كلُّ قياس
معارضةً، ألا ترى أن النَحْوَ تقاسُ فيه الفروعُ على الأصولِ،
فالاعتمادُ فيه على القياسِ، وليس الاعتمادُ فيه على
المعارضةِ، وكذلك الفقهُ تقاسُ فيه الفروعُ على الأصولِ ولا
تُعارَض.
ومعارضةُ كلُّ مبطِلٍ إنما تكونُ بما يَكشِفُ عن بُطلانِ
مذهبهِ، مثلُ من يَكشِفُ (2) بمذهب أن اللهَ سبحانه لا يجوزُ
أن يُعذَبَ من لم تَبلُغْه الدعوةُ؛ لأن اللهَ قال: {وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]،
أو لأن من لم تَبلُغْه الدعوة ليس عنده سوى العقلِ، والعقلُ لا
يُوجِبُ ولا يَحظُرُ، وينكشفُ من مذهبُه تجويزُ عذاب الأطفالِ
مع كونِهم لا رِسالَةَ وصَلَتْهم، ولا خطابَ انصرفَ إليهمَ،
ولا عقول تُرشِدُهم، فهذه مناقضةٌ لإِبطالِ مذهبِ المبطِلِ.
وكمعارضةِ من يَكشفُ بأنه لا يجوزُتكليفُ ما لا يطاقُ؛ بقولِه:
يجوزُ تكليفُ ما يحالُ بينَ المكلَفِ وبين فعلِه.
وكمعارضةِ من قال: لا يَحسُنُ اللُّطفُ بمن يُعلَمُ أنه لا
يَنتفعُ به، بقولِه: يجوزُ تكليفُ مَنِ المعلومُ أنه لا ينتفعُ
بتكليفِه.
__________
(1) رسمت في الأصل: "مكل".
(2) في الأصل: "ينكشف".
(1/437)
فصل
في القياسِ الصَحيحِ والقياسِ الفاسدِ
اعلم أن القياسَ الصحيحَ: هو الجمع بين الشيئينِ اللَّذينِ
يَشهدُ كلُّ واحدٍ منهما بالحكمِ على الحقيقةِ.
والقياس الفاسدُ: هو الجمع بين الشيئين اللَّذينِ يشهد كلُّ
واحدٍ منهما بالحكمِ على التَّخيُلِ دون الحقيقةِ.
ولا يعتَبر بصحةِ الشاهدِ في نفسهِ في هذا الباب، وإنما
المعتَبَرُ بأنه يشهد على الحقيقةِ كما يشهد قرينه، إمَّا
بمثلِ الحَكمِ أو بنظيرِه.
فقياسُ اللطفِ على التكليفِ في أنه إذا لم يَجبِ اللطف لمن
المعلوم أنه لا ينتفعُ به، لم يجبْ تكليف مَنِ المعلومُ أنه لا
ينتفعُ به، وإذا لم يكنِ التمكينُ من فعلِ الظلم قبيحاً من جهة
الصانعِ جلَّت عظمته، لم يكن القضاء بالظلمِ قبيحَاً منه
سبحانه، فهذا مثالٌ على مذهبِ أهل السُّنَّةِ، وهذا قياسٌ
صحيحٌ عندنا.
والمثال على مذهبِ غيرِنا: إذا جازتِ الإِرادة للظلمِ، جاز
الأمر بالظلمِ من الحكيمِ مع ما فيها من الاستدعاءِ للظلمِ،
فهذا قياسٌ صحيح، وإن كان الأصلُ الذي قِيسَ عليه فاسداً.
فأمَّا قياس التَّمكين على التَّوفيقِ فخطأ؛ وذلك أنه إذا قال
القائل للجمع بينهما: إذا جازً أن لا يُعطى الكافر التوفيقَ
للإِيمان، جاز أن لا يعطى التَمكينَ من الِإيمانِ؛ من قِبَل
أنه إذا كان معلوماً فيه أنه لا ئؤمِن عند شيء ولا يوفَّقُ له،
فيعطاة أوَ يحرَمه، وليس كذلك التمكينُ من الِإيمانِ؛ لأنه لم
يَكنْ ممكَناً من الإيمانِ، من أجلِ أن الِإيمانَ يَقع
(1/438)
به، وإنما كان ممكَّناً من الِإيمانِ، من
أجلِ أنه يَصِحُّ أن يقعَ وَيصِح أن لا يقعَ به.
فصل
في القياسِ العقليِّ والسمعيِّ
اعلم أن القياسَ العقليَّ: هو الذي يجبُ بشهادةِ
المُشتبِهَيْنِ فيه بالحكمِ من جهة العقلِ.
والقياسُ السمعى: هو الذي يجبُ بشهادةِ المُشتبِهينِ فيه
بالحكمِ من جهَةِ السَّمْعِ.
وذلك أن قياسَ التَّناقضِ على التَّضادِّ؛ من جهةِ أن التضادَّ
إذا كان يشهدُ بأن لا يكونَ في المَحَل الواحدِ حياةٌ وموتٌ،
فالتناقض يشهدُ بأنه لا يكونُ الشيءُ عالِماً مَيْتاً في حالٍ،
كما لا يكوَن موجوداً معدوماً في حالٍ، وهذا يُفسِد قولَ
الصالحيِّ (1): إنه يجوز وجود العلمِ والموتِ في مَحَل واحدٍ
في حالٍ، ولا يجوز وجود الحياةِ والموتِ في المَحَل في حالٍ.
وأما القياس السمعى: فهو كالجمعِ بين الفِضَّةِ والرَّصاصِ،
وليس واحدٌ منهما يوجِبُ تحريمَ التًفاضلِ في العقلِ، فإذا
جاءَ النص بتحريمِ التفاضلِ في الفضَّةِ، ثم جاءَ بأن يُلحَق
به في الحكمِ أشبَهُ الأشياءِ به، وكان الرَّصاصُ أشبهَ
الأشياءِ به؛ إذ كان أقربَ إليه من الصفْرِ والنُّحاسِ ونحو
ذلك، صار كأنه يشهد بتحريمِ التفاضل، كما
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة (417) التعليق رقم (1).
(1/439)
تشهدُ الفضةُ بذلك، وكُلُّه من طريقِ
السمعِ؛ إذ حكمُ الأصلِ وجبَ بالسمعِ، وكذلك إلحاقُ الأشبهِ
به.
وقد يعتمدُ في هذا الباب على العِلَّةِ، كالاعتمادِ في تحريم
النبيذِ على الشدَّةِ؛ إذ كانت فيه وفيَ الأصلِ المَقيسِ عليه
-وهو الخمرُ-، كما يعتمدُ في القياسِ العقليِّ على الجمعِ
بعلةٍ تكونُ موجِبة للحكمِ في أحدِ الشِّقَّينِ، فيلزمُ في
وجودِها في الشَق الآخرِ وجوبُ الحكمِ أيضاً.
فإذا قيل لي: أَلْحِقْهُ بالأشبهِ به، ثم علمْتُ الأشبهَ به،
لم احتجْ إلى أكثرَ من ذلك، وإذا قيل: ألحِقْهُ بالأشبهِ به،
ثم لم يظهرْ لي الأشبهُ به، احتجْتُ إلى استخراجِ عِلَةٍ
تُوضحُ الأشبهَ به.
فإذا كانتِ العِلةُ منصوصةً أو مفهومةً، فقد كُفِيتُ مُؤنَةَ
الاستخراجِ، ووجبَ القياسُ عليها والملازمة لها.
فصل
في القياسِ على أصلِ الفَرْعِ
اعلم أن القياسَ على أصل يجبُ التسليمُ له في كلُّ صناعةٍ إذا
صَحَتِ الشهادةُ، وكذلك في المُناظَرَةِ إذا اتَفقَ الخصمانِ
عليه، ووقعَ تسليمُ الجَدَلِ فيه، وإنما تكونُ المنازعةُ فيه:
أيشهدُ بالحكمِ، أم لا؟ فمن هذا الوجه تَنزِعُ وتَتحقُّقُ
المنازعةُ.
وأما القياسُ على فرعٍ -وهو ما لم يُسَلَمْ له أهلُ الصَناعةِ،
ولا الخصمانِ في المناظرةِ- فلا يجبُ التَسليمُ له، بل تقعُ
المنازعةُ فيه كما تقعُ في شهادتِه حتى يُرَد إلى الأصولِ التي
يجبُ التَسليمُ لها.
(1/440)
فصل
في القياسِ على عِلةٍ
اعلم أن القياسَ على علَّةُ يحتاجُ إلى ثلاثةِ أشياءَ:
أنها موجودة في أحدِ الشقَينِ، وأنها تُوجِبُ الحكمَ له، ولها
شهادة بوجودِه في الآخرِ.
فيَنتُجُ (1) من ذلك: أن الحكمَ بوجودِها في الشق الآخر.
مثالُ ذلك: الجمعُ بين النورِ والظلمةِ فى القياسِ على العِلةِ
إذا قال الخصمُ: النورُ خير؛ لأن من جهتِه منفعة، ثم إن ذلك
يُوجِبُ أنه خيرٌ، ثم إن في الظلمةِ منفعة، فيَنتُجُ من ذلك
أنها خير، ويكشفُ الخيرَ المدعى في النورِ الهدايةُ إلى
المطلوب والإِيقافُ على الأغراضِ والطُّرقِ. ويكشفُ الخيرَ (2)
المدعى في الظلمَةِ سَتْرُها لِمَا يُؤثِرُ الإِنسان سَتْرَه
وتغطيتَه؛ كالتَخفِّي من المُؤذِي (3)، فيجتمعانِ في
العِلَّةِ.
وكذلك يُحتاجُ إلى تصحيحِ أن في الخمرِ شِدَّة، ثم إنها
تُوجِبُ التَحريمَ، ثم إنها في النَّبيذِ، فيُنتجُ ذلك أن
النَبيذَ محرم.
__________
(1) في الأصل: "فتنتج".
(2) في الأصل: "الخبر".
(3) رسمت في الأصل "المودى".
(1/441)
فصل
في الوجوهِ التي منها يكونُ القياسُ
اعلم أن الوجوهَ التي منها يكونُ القياسُ: الاشْتِباهُ، إلا أن
الاشتباهَ لا يكونُ قياساً حتى يجبَ به حكم، والاشتباهُ الذي
يجبُ به حكم لا يخلو من أن يكونَ من جهةِ الشَاهدَيْنِ، أو
الشهادتَيْنِ، أو الجميعِ، والاشتباهُ الذي يجبُ به حكم لا
يخلو من أن يَرجعَ إلى النَفس أو إلى العِلَّةِ.
فالاشتباهُ في الشَّاهدين دونَ الشَّهادتَينِ: كالفعلِ يَشهدُ
بأن له فاعلًا، كما يشهدُ الفعلُ بأنه لا يكونُ إلا من قادرٍ.
وأما الاشتباهُ في الشهادتين دونَ الشاهدين: فكالأمرِ بالظلمِ
يشهدُ بأنه لا يكونُ من حكيم، كما تشهدُ إرادةُ الظُّلمِ بانها
لا تكونُ من حكيمٍ، هذا شاهدٌ للمتكلِّمين من المعتزلةِ
ومثالِهم.
ومثالُ ذلك من مذهبنا: فكالأمرِ المحكَمِ لا يصدرُ إلا من
عالِمٍ، كما أن الفعلَ المتقَنَ لاَ يصدرُ إلا من عالِمٍ.
وأما الاشتباهُ في الجميعِ: فكتدبيرِ العالَمِ يشهدُ بأنه لا
بُدَّ من
مُدبِّرٍ، كما يشهدُ تدبيرُ المَنْزِلِ والحانوتِ بأنه لا
بُدَّ من مُدبرٍ.
وكلُّ اشتباهٍ ذكَرْناه فإنما هو في المعاني دونَ العِلَّةِ
(1)، وأما الاشتباهُ بالعلَّةِ: كالصفيحةِ العليا متحركة؛ لأن
فيها حركةً، فكذلك الصَفيحةُ السُّفلى متحرِّكةٌ؛ لأن فيها
حركةً، وكذلك موسى عليه السلامُ نبىٌ؛ لأنه
__________
(1) في الأصل: "المعنى".
(1/442)
أتى بمُعجزةٍ، فكذلك محمد صلى الله عليه
وسلم نبيٌّ؛ لأنه أتى بمُعجِزةٍ.
فصل
في صورةِ القياسِ
اعلم أن صورةَ القياسِ دائرة في جميعِ القياسِ إلا أن يَلحَقَ
تغيير عن صورةِ الأصلِ، وهي: كذا يشهدُ بكذا، كما أن كذا يشهدُ
بكذا لكذا، فعلى هاتين الصُورتين الاعتمادُ في كلُّ القياسِ،
ولا مُعتَبَر فى هذا باللَّفظ، وإنما الاعتبارُ بالمعنى، فكل
لفظ أدَّى إِليك هذا المعنى، فقد أَدَى صورةَ القياسِ على
الحقيقةِ، وذلك كقولك: كذا يُوجبُ كذا، كما أن كذا يوجِب كذا.
وكذلك إن قلتَ: كذا يَدُل على كذا، كما أن كذا يدُل على كذا.
فإن كانتِ الصُّورُة مشروطةً قلتَ: إن كان كذا شَهِدَ بكذا،
فكذا يَشهدُ بكذا، وإذا كان كذا يوجِبُ كذا، فكذا يوجِبُ كذا.
فلا بدَّ لكل قياس من معنى هذه الصورةِ التي ذكرتُ لك وإن
تصرفْتَ في العبارةِ كيف شِئْتَ بعدَ أن تُؤدِّيَ المعنى.
فصل
في التَصرُّفِ بالقياسِ
اعلم أن التَّصرفَ في القياسِ تَتغيَّر (1) الدَلالاتُ عليه
والمعنى واحد، فتقولُ مرَّةً: كذا، كما أن كذا يوجبُ كذا،
وتقولُ مرَّةً أخرى: إذا كان كذا يَدُلُّ على كذا، دلَّ على
كذا، ومرةً تقولُ: سبيلُ كذا
__________
(1) في الأصل: "تعتبر".
(1/443)
سبيل واحدة في أن كلُّ واحدٍ منهما، يلزمُ
له كذا، وتقولُ: قد سَوى العقلُ بين كذا وكذا في كذا وكذا،
وتقولُ: لا فصْلَ بينَ كذا وكذا من جهةِ كذا وكذا، وتقولُ: إن
كان كذا دَلالةٌ على كذا، ففي كذا دَلالة على كذا.
وسبيلُ دَلالةِ العبارةِ والإشارةِ والحالِ وغيرِها (1) مما
يتقَرَّرُ به المعنى في النَّفسِ سبيل واحدةَ، إلا أن من ذلك
ما هو على التَحديدِ، ومنه ما هو على التًغييرِ، وكلُّه يَصِح
إذا أدَّى المعنى إلى النفسِ؛ إذ قد بلغَ به الغَرضَ المطلوبَ.
فصل
في القياسِ المَنْطِقيِّ
اعلم أن القياسَ المنطقيَّ: هو الجمعُ بين قرينةٍ لها نتيجة
وبين النَّتيجةِ (2)، وإنما كان هذا قياساً؛ لأن القرينةَ
تشهدُ بصحًةِ النتيجةِ، كما أن النتيجةَ تشهدُ بانها إن
بَطَلَتْ بَطَلَتِ القرينةُ، فكل واحدٍ منهما شهادتُه بشهادةِ
الآخرِ من الوجوبِ واللًّزومِ.
والقياسُ المنطقي على ثلالةِ أقسامٍ: كُلِّيَّةٍ،
وقِسْمِيَّةٍ، وشَرْطِيَّةٍ: مثالُ الكُليةِ -وتُسمى:
المُطلَقةَ-: كلًّ إنسانٍ حيوانٌ، وكلًّ حيوانٍ جسمٌ، فنتيجته:
كلُّ إنسانٍ جسمٌ.
__________
(1) في الأصل: "وغيرهما".
(2) انظر "التعريفات" ص 181، و"المبين عن معاني ألفاظ الحكماء
والمتكلمين" ص 33.
(1/444)
فإذا صحَتِ القرينةُ فلا بُد من أن تصحَّ
النتيجةُ، فإذا لم تصحَّ النتيجةُ فلا بُدَّ من أن لا تصحَّ
القرينةُ.
وكذلك لو قلتَ: كلُّ إنسانٍ حيوان، وليس واحد من الحيوانِ
حَجَراً (1)، لأنْتَجَ: وليس واحد من النَاسِ حَجَراً.
وكذلك لو قلتَ: بعضُ النَّاسِ كاتب، وكلُّ كاتبٍ قارىء،
للَزِمَ منه: بعضُ النَاسِ قارىء.
وكذلك لو قلتَ: بعضُ النَاسِ كاتب، وليس واحد من الكُتابِ
أعمى، للَزِمَ منه: [ليس] (2) بعضُ النَاسِ باعمى.
وأما مثالُ القِسْميةِ (3): لا تخلو الشمسُ من أن تكونَ أكبرَ
من الأرضِ أو أصغرَ أو مساويةً، فهذه مقدَمةٌ، والأخرى: أنها
ليست بأصغَرَ ولا مساويةً، يلزمُ من ذلك: أنها أكبرُ، وإن لم
تَكُنْ أكبرَ، فهيٍ إذن مساويةٌ أو أصغرَ، وإن كانت أكبرَ،
لَزِمَ منه: أنها ليست مساوبةً ولا أصغرَ.
فأمَّا (4) مثالُ الشرْطِيةِ: إن كانتِ الشمسُ فوقَ الأرضِ،
فالنهار موجودٌ، فهذه مقدَمة، والأخرى: والشمسُ فوقَ الأرض،
فيَلزمُ منه: أنَّ النهارَ موجود، وإن لم يَكُنِ النهارُ
موجوداً، لَزِمَ منه. أن الشمسَ ليست فوقَ الأرضِ.
__________
(1) في الأصل: "حجر".
(2) ليست في الأصل.
(3) في الأصل:"القسمة".
(4) في الأصل: "مقاماً".
(1/445)
فإن قلتَ: والنهارُ موجود، لم يَلزَمْ منه:
أنَّ الشمسَ فوقَ الأرضَ.
وكذلك إن قلتَ: وليس الشمسُ فوقَ الأرضِ، لم يَلزمْ منه: أن
النهارَ ليس بموجود.
فتحتاجُ إلى تحصيلِ أشياءَ: اثنان يُنتِجانِ واثنان لا
يُنتِجانِ، إيجابُ الأولِ يُنتجُ، وكذلك سَلْبُ الثاني، فأمَّا
سلبُ الأولِ وإيجابُ الثاني فلا يصح.
وليس يَحتمِلُ إيجازُ الكتابِ أكثرَ من ذلك، فالقليلُ منه
يدُلُّ على الكثيرِ إن شاءَ الله.
(1/446)
فصول الاستدلالِ
اعلم أن الاستدلالَ: الطلَبُ للدلالةِ على المعنى.
ولا يخلو الاستدلالُ من أن يُستخرَجَ به المعنى، أو يُعلمَ به
الحق في المعنى.
فالاستدلالُ الذي يُستخرَجُ به المعنى: هو الطلَبُ للمعنى بما
يَحضُرُ بحضورهِ.
والاستدلالُ الذي يُعلَمُ به الحق في المعنى: هو الجمعُ بين
شيئينِ يشهدُ أحدُهما بالآخَرِ.
والاستدلالُ الذي يُستخرجُ به المعنى لا يخلو من أن يكونَ من
جهةِ علامةٍ وضْعِيةٍ -وقد كان يُمكِنُ أن يقومَ غيرُها
مقامَها-، أو لا يكونَ كذلك:
فالأولى: إنما كانت دَلالةً على المعنى بجعلِ جاعلٍ لها علامةً
على المعنى.
والثَّانيةُ: كانت دَلالةً على المعنى لا بجعلِ جاعلٍ لها
علامةً على المعنى.
والاستدلالُ الذي يُستخرَجُ به المعنى لا يخلو أن يكونَ من
جهةِ البيانِ الذي منه يَشهَدُ بالمعنى أو يَقتضِيهِ، أو لا
يكونَ كذلك، بل يكونُ شأنُه أن يحضُرَ بحضورِه فَقطْ، والفِكرُ
والقولُ يحضُرُ بحضورِهما المعنى، إلا أن المعنى الذي يحضُرُ
بحضورِهما؛ منه ما يكون شاهداً
(1/447)
بمعنىً آخرَ، ومنه ما لا يكونُ كذلك،
والفعلُ والقولُ يحضرُ بحضورِهما من جهةِ شهادتِهما به
واقتضائِهما له، ولم يَكُنْ يجوزُ مع سلامةِ العقلِ ألا يَشهدَ
الفعلُ بالفاعلِ إذا لم تعترِضْ شبهةٌ، ويشهدَ بأن الفعلَ إذا
كان فلا بُد من فاعلٍ عَلِمَه عالِمٌ أو لم يَعلَمْه عالِمٌ،
وكذلك اللونُ، فلا بُدَّ من مُلون، واذا كانت الحركةُ، فلا
بُدَّ من محرِّك، وإذا كان العلمُ، فلا بُد من عالم به، وإذا
كانت القدرةُ، فلا بد من قادر، وإذا كانت الِإرادةُ، فلا بُد
من مريد، فهذا الطريقُ من الاستدلالِ لا [بد أن] (1) يجتمعَ
فيه أمران: أحدهما استخراجُ المعنى، والآخر: شهادتُه بصِحتِه.
وأما دَلالةُ الكلامِ على المعنى فليست مما إذا كان، كان
المعنى لا محالةَ، ألا ترى أنه قد يَسمعُ العَجمى كلامَ العربي
فلا يحضرُه معناه، فهو من باب العلاماتِ التي جُعِلَت دلالةً
على الشيءِ وقد كان يُمكنُ أن تُجعل على خلافِ ذلك، وليس
كدلالةِ الفعلِ على الفاعلِ؛ إذ لا يُمكنُ أن تُجعلَ على خلافِ
ذلك، فيكونُ العاقلُ يَستدِل بالفعلِ على أنه ليس له فاعل، كما
كان يُمكِنُ أن يَستدِل بقيامِ زيدٍ على أنه ما قامَ، ويستدل
بما قامَ زيدٌ على أنه قد قامَ، ألا ترى أنه لو تواضعَ اثنان
بينهما على ذلك؛ لتفاهما من ذلك ما تواضَعَا عليه، واختصا
بفهمِ ذلك حَسَبَ تواضعِهما.
وأما الاستدلالُ بالفكرِ فهو على ضَرْبَينِ: أحدهما: إطلاقُ
الفكرِ، والآخر: تقييدُه، كالفكرِ في كذا.
__________
(1) ليست في الأصل.
(1/448)
فالأولُ: كالطَّلَب على الطمعِ أن يُوجَدَ
ما يَحتاجُ إليه من غيرِ أن يَدرِيَ الطالبُ ما يَطلَبُ، وهل
هناك مطلوب في الحقيقة، أم لا؛ لأنه لا يدري هل هناك ما
يَحتاجُ إليه، أم لا؛ فهو يطلبُ لَعلهُ أن يَجِدَ ما يحتاجُ
إليه، فكذلك المُفكَريطلبُ بفكرِه على طمعٍ لعلهُ أن يجدَ ما
يحتاجُ إليه من المعنى، فهذا وجهٌ من وجوهِ الاستدلالِ
بالفِكرِ (1).
فهذا القِسْمُ صاحبُه كناصبِ شبكةٍ يطمعُ وقوعَ الصيدِ.
والوجهُ الثاني: هو تعليقُ الفِكرِ بمعنىً بعينِه، فهو كالطالب
لشيءٍ بعينِه، كعبدٍ أبَقَ، أو جَمَلٍ شَرَدَ، وهذا القسمُ
يَحتاجُ فيه إلى أنَ يعرفَ مَظانَ المطلوبِ وُيقربَ ذلك أشد
التقريبِ، ليسهُلَ الوِجْدانُ.
وقد يُفكَرُ المستدِل في المعنى على الجُملةِ، وقد يُفكَرُ في
المعنى على التَفصيلِ، فإذا فكَرَ المستدلى في: ما الدليلُ؟
فهو فِكر في المعنى على الجملةِ، وإذا فكَرَ في: ما الدليلُ
على حدوثِ الجسم؟
فهو في المعنى على التَفصيلِ، وتقديمُ الفكرِ في المعنى على
الجملَةِ توطئة للفكرِ فيه على التفصيلِ، فينبغي أن لا يُغفِلَ
المستدِل ذلك.
فأمَّا طلبُ المُستدِل المعنى في مَظانَه بالفكرِ: فهو وضعُه
في نفسِه المعانيَ التي ينبغي أن يطلبَه فيها دونَ المعاني
التي لا ينبغي أن يطلبَه فيها، بخلافِ ما تقولُ العامةُ: لو
ضاعَ مني جَمَل طلبتُه في الكَوةِ (2)، وهذا غايةُ التضييعِ
للوقتِ والتَضليلِ للفكرِ، وهو دأبُ المُتحيرينَ،
__________
(1) في الأصل: (الفكرة)، والأوجه ما كتبناه.
(2) الكَوة -بفتح الكاف، وضمها لغة-: الخرق في الحائط، والثقب
في البيت ونحوه "اللسان" (كوي).
(1/449)
ومن صدقَ نفسَه الطلبَ، هجمَ به على
المَطْلَب، فما مثلُه في ذلك إلا كالطالب للهلالِ في مَطالِعِه
وجهاتِ مَطْلَعِهِ، فَهو اخلَقُ لوِجدانِه من الطَّالب لهَ
مُتحيراً في جميعِ الآفاقِ، فيعودُ البصرُ كليلاً، والوقت
المُغتنَم للنَظرِ متمحِّقاً (1)، وتَهجُمُ ظلْمةُ الليلِ،
وينحدرُ الهلالُ عن أفْقِه فيتوارى، كذلك ها هنا تَكِلُ أداةُ
الفكرِ، وَيسأمُ النَاظِرُ بتَمْحِيقِ قُوتِهِ ووقتِه في
الطَّلب في غير مَظانِّ المَطْلوب، وكم يُدْهَى (2) النَّاسُ
من هذا الفَنِّ لقلَّة معَاناتِهم لهذه الصِّناعةِ التيَ هي
أصلُ الغنيمةِ.
ومثالُ ذلك مما نحن فيهِ: الطَّالبُ بفكرهِ للدليلِ على حَدَثِ
الجِسمِ، فينبغي أن يَضَع في نفسِه ما لَة شهادةَ بغيرِه دون
ما لا شهادةَ له.
وكذلك كلُّ برهان احتِيجَ إلى استخراجِه، فإنَما يُستخرجُ من
حَيزِ ما له شهادة دون ما لا شهادةَ له، وليس إذا وَجَدَ ما له
شهادة كفاهُ في ذلك دون أن يكونَ له شهادة لا بالمعنى الذي
يطلبُه، فيكون حقَّاً في نفسِه.
وذلك أن المعانيَ على ضَرْبَينِ: معنىً يشهدُ بغيرِه، ومعنىً
لا يشهدُ بغيرِه، والذي يشهدُ بغيرِه على ضَرْبَيني: برهانٍ
وغيرِ برهانٍ، وليس يشهدُ بالمعنى ما لاتَعلُقَ له به، وكلُ
تعلقٍ بين شيئين فلايخلو من أن يكون من أجل النَّفس، أو من
أجلِ علَّةٍ، أو لا من أجل النَّفسِ ولا من أجلِ عَلةٍ، وكيف
تَصرَّفتِ الحالُ بالتَعلُقِ فلا بُدَّ أن يَرجِعَ إلى أنه إذا
صحَ الأوَّلُ صحَ الثاني، وإذا لم يصحَّ الثاني لم
__________
(1) أي ذاهباً ومبطلاً. "اللسان" (محق).
(2) أي يصابون بالدواهي، جمع داهية، والداهية: الأمر المنكر
العظيم، ودواهي الدهر: ما يصيب الناس من عظيم نوَبِه.
(1/450)
يصح الأولُ؛ وذلك أنه إذا صحَّ الفعلُ، فلا
بُدَّ من فاعلٍ، وكذلك لا بُد من حَيٍّ قادرٍ، وإذا صحَّ
الفعلُ متقَناً محكَماً، فلا بُدَّ من عالِمٍ، وإذا صحَّ
عالِم، فلا بُد من معلومٍ، ولا بُد من علمٍ على مذهبِنا شاهداً
وغائباً، وعند المعتزلةِ: لا بُد من علم شاهدٍ دون الغائبِ،
لدعواهم أن الواجب لا يُعللُ، وكذلك إذا صحَ قادرٌ، فلا بُد من
مقدورٍ، ولا بُد من قُدرةٍ على قولِنا شاهداً وغائباً؛ لأنها
عِلَّةُ كونِ القادرِ قادراً، كما أن العلمَ عِلَّةُ كونِ
العالِمِ عالِماً، وكذلك سبيل الرائي لا بُدَّ له من مَرئِيٍّ،
والسامعُ لا بد له من مسموع وسمع، وإذا لم يصح مسموعٌ، لم
يصحَّ سامعٌ.
فصل
وكل استدلالٍ: فهو طَلَبُ الدَّلالةِ، كما أن الاستعلامَ: طلبُ
العلمِ، وكما أن الاستخبارَ: طلبُ الخَبَرِ، والاستفهامَ: طلبُ
الفهمِ، والاستنطاقَ: طلبُ النُّطقِ، والاستشهادَ: طلبُ
الشَّهادةِ، والاستخراجَ: طلبُ الخروجِ، والاستحضارَ: طلب
الحضورِ، والاستنصارَ: طلبُ النصْرةِ، فالاستدلالُ: طلبُ
الدَّليلِ، واللهُ أعلمُ.
فصل
وكل مُستدِل فهو بمنزلةِ المُستنطِقِ لشيءٍ من الأشياءِ، إمَّا
على الاستشهادِ، وإما على جهةِ الاستذكارِ، وطريقةُ الاستذكارِ
والاستحضارِ والاستخراجِ واحدةٌ، إلا أن الاستذكارَ لِمَا قد
كان خطَر على البالِ، ولِمَا لم يكن خطرَ بالبالِ، كانك تطلبُ
منه معنىً غريباً لم يكُنْ خطرَ على البالِ قَبْلُ.
(1/451)
وكل ما تستنطقُه مستذكِراً أو مستشهِداً
فهو بمنزلةِ إنسان تطلبُ منه ذاك، إلا أن الفرقَ بين شهادةِ
الإنسانِ وشهادةِ البُرْهانِ: أن شهادةَ البرهانِ لا تكونُ إلا
حقَاً في نفسِه، والحق لا يشهدُ بباطل، وأما شهادةُ الِإنسانِ
فلا يجبُ القطعُ بها؛ لأن الإِنسانَ قد يشهدُ بالباطلِ، ولكنْ
لو شَهِدَ إنسان هو نبي لكانت شهادتُه كشهادةِ البرهانِ؛ لأن
كلُّ واحدٍ منهما لا يشهدُ إلا بحقٍّ.
فأمَّا الاستذكارُ فلست تحتاجُ فيه إلى ثِقةِ المُذكَر؛ لأنك
لا تعملُ على شهادتِه، وإنما تُمَكنُ بادِّكارِه مما تَحتاجُ
إلى النًظَرِ فيه.
وكل استدلال فهو إثارة للمعنى، إلا أن منه ما يُثيرُه ببيانٍ
يُوجِبُ بياناً، ومنه ما يُثير بما ليس ببيان إلا أنه يُوجِبُ
بياناً، فالأولُ: كالبرهان، والثاني: كالإِنسانِ، وإيجابُ
الأوَّلِ للثاني لا يخلو أن يكونَ من جهةِ أنه يفعلُه، أو
يَحضُرُ بحضورِه إمَّا شاهداً به أو غيرَ شاهدٍ.
وكلُّ استدلال فإنه لا يخلو أن يكونَ بإيرادِ سؤال يقتضي
جواباً، أو بإظهارِ أول يقتضي ثانياً أو يُوجِبُه؛ وذلك أن
كلُّ استدلال فهو استخراجٌ لمعنى قد يَستخرجُه بالسؤالِ عنه،
وقد يَستخرجُه بإظهارِ ما يَقتضِيه وُيوجِبُه.
فصل
وكل بابِ من أبواب الاستدلالِ فإنه لا بُد فيه من خمسةِ
أشياءَ: مستدِلٍّ، واسَتدلالٍ، وَمستدَلٍّ به، ومستدَلٍّ من
جهتِه (1)، ومستدَلٍّ
__________
(1) لم يعرفه المصنف ضمن الحدود التي عرفها هنا، ولكن سيأتي
بيان المراد به في الفصل التالي.
(1/452)
عليه.
فالمستدِل: هو النَاصبُ (1) للدَلالةِ.
والاستدلالُ: هو طلبُ الغَرَضِ بالدلالةِ.
والمستدَل به: هو المطلوبُ به الدلالةُ على المعنى، وهو
بمنزلةِ الدَّلالةِ التي تُستخرجُ بها الدلالةُ على المعنى.
والمستدَل عليه: هو المطلوبُ ليظهرَ بالدلالةِ عليه، وهو
الغرضُ الذي من أجلِه يُكَلفُ الطلبَ.
فصل
وكلُّ استدلال فإنه لا يخلو أن يكونَ طلباً بالسؤالِ، أو
بالاستشهادِ في الجواب، أو لا يكونَ كذلك، فقد يكونُ السائلُ
مستدِلّاً؛ لأنه يَستخرجُ بسؤَالِه الدلالةَ على المعنى، وقد
يكونُ المجيبُ مستدِلّاً؛ لأنه يستخرجُ بجوابِه شهادةَ
الدَلالةِ على المعنى، وذلك أنه قد تظهرُ الشهادةُ فيستخرجُ من
جهةِ الشهادةِ [الدلالةَ] (2)، على المعنى، فهو طالبٌ من جهتِه
الدلالةَ على المعنى، كما أن السائلَ طالبٌ من جهةِ المجيبِ
الدَّلالةَ على المعنى.
والمستدَل به قد يكونُ السؤالَ، وقد يكونُ الإِظهارَ للشَاهدِ
في الجوابِ.
__________
(1) في الأصل: "الباحث"، والمثبت من (الكافية) ص 46 - 47.
(2) زيادة على الأصل يستقيم بها المعنى.
(1/453)
وكل مُستدَلٍّ من جهتِه، فهو مسؤول أو
بمنزلةِ مسؤول، فالمسؤولُ كالعالِمِ، والذي بمنزلةِ المسؤولِ
كالكتابِ الذي يُوضَعُ على حِكْمةٍ، أو الفكرِ الذي يُقدمُ
(1)، لصاحبه ما يَقْوى به على استخراجِ العلوم القياسيةِ،
ومَرْتَبةُ المستدَلِّ من جَهتِه أدت يكونَ مجيباً أو بمنزلةِ
المجيبِ.
وكلُّ مستدَل عليه، فهو الغَرَض المطلوبُ، وهو المسؤول عنه،
والمعتَمَدُ في الجواب عليه؛ لأن حق الجواب أن يكونَ عما وقعَ
عنه السؤالُ، فالمطلوبُ فَي السؤالِ هو المطلوب البيانُ عنه في
الجواب؛ لأن الذي يَسألُ عنه السائلُ هو الذي يجيبُ عنه
المجيبُ.
وكلُّ استدلال فهو استخراجُ المعنى من جهةِ شيء من الأشياءِ:
إمَّا بالسؤالِ، وإمَّا بما كان بمنزلةِ السؤالِ من
الاستشهادِ؛ لأن المجيبَ إذا كان مُستشهِداً للدَليلِ فكأنه
مُسْتَخبِرٌ له مُستخرج ما عنده، فتحصيلُ الشواهدِ من أكبرِ
آلاتِ العِلم.
مثالُ ذلك: الفعلُ يشهدُ بأنه لا بُد له من فاعلٍ، وأنه لا
بُدَّ أن يكونَ فاعلُه قادراً عليه، والحكمةُ تشهدُ بأنها لا
تكون إلا من عالِمٍ، والتَدبيرُ يشهدُ بأنه لا يكونُ إلا من
قاصدٍ، والصُّنع يشهدُ بأن صانعَه إن كان غيرَ مصنوع فهو
قديمٌ، ويشهدُ بأنه إن كان لا صانعَ إلا مصنوعٌ، تسلسلَ إلى"ما
لا نِهايةَ له، والتغيرُ يشهدُ بالحدوثِ، وأنه لا بدَّ من أن
يكونَ نفسُ المتغيرِ قد حَدَثَتْ له (2) عِلة كان بها متغيراً،
وإلا وجبَ أن يكونَ على ما كانَ لم يَتغيرْ، والعلمُ يشهد بأنه
لا يكون إلا
__________
(1) في الأصل: (يتقدم).
(2) في الأصل: (أو)، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(1/454)
من عالمٍ به قبلَ كوبه أو مدلولٍ عليه، فإن
ذلك لا بُد من أن ينتهيَ إلى عالِمٍ، وإلا تَسَلْسَلَ إلى ما
لا نهايةَ له، وأن العالِمَ لا يخفى عليه شيءٌ من وجهٍ من
الوجوه؛ لأنه [لا] شيءَ إلا ويَصِحُّ أن يَعلَمَ غيرُه إيَّاه:
إمَّا بالضرورةِ، وإما بالدَّلالةِ.
والعلمُ يشهدُ بأن العارفَ بالشيءِ على ما هو به لا يخفى عليه
من وجهٍ من الوجوهِ لا بُدَّ أن يكونَ حَيًّاً؛ لأن معنى حي:
يصح أن يُدْرِكَ.
ويشهدُ بأن الشيءَ الذي لا يجوزُ عليه الانقسامُ واحدٌ في
الحقيقةِ، وأن الواحدَ على الحقيقةِ لا يكونُ جسماً؛ لأن
الجسمَ مؤلَف من أجزاءٍ وجواهرَ هي أعداد.
ويشهدُ بأن القادرَ الذي لا يُعجزُه شيء لا يجوزُ أن يُساويَه
شيءٌ في مقدورِه؛ لأنه يَلزَمُ أن يكونَ وجودُ كلُّ واحدٍ
منهما مَنْعاً للآخَرِ من أن يفعلَ؛ لاستحالةِ مُمانَعَتِه له
بفعلِه؛ إذ ليس وجودُ الفعلِ الذي يقعُ من أحدِهما بأولى من
الآخرَ، فلا يوجدُ واحد منهما.
ويشهدُ بأن القديمَ لا يصحُّ أن يصيرَ غيرَ قديمٍ؛ لأنه ليس
بداخل تحت المقدورِ؛ إذ لو كان داخلًا تحت المقدورِ، لم يصح أن
يُوجَدَ إلا بإيجادِ موجودٍ.
والتَغيرُ يشهدُ بأن الجسمَ إذا لم يَخْلُ منه فهو محدَث؛ لأن
المغيرَ له لا بُدَّ من أي يكونَ قبلَه ليفعَلَ فيه التَغييرَ.
وتَثَبُّطُ الفعلِ يشهدُ بنفي الحكمةِ واختلالِ الرَّأيِ.
(1/455)
والظُّلمُ يشهدُ بالحاجةِ والجهلِ بقُبحِ
القبيحِ.
والقدرةُ تشهدُ بصحةِ الفعلِ، وأن القادرَ. بها يصحُّ أن يفعلَ
ويصح أن لا يفعلَ، ومتى لم يَكُنْ كذلك، لم تَكُنْ قدرةٌ،
وخرَجَتْ عن معنى القدرةِ.
والعقابُ يشهدُ بإساءةِ المعاقَبِ.
فصل
في الاستدلالِ الذي يُستخرجُ بالمعنى
اعلم أن الاستدلالَ الذي يُستخرجُ بالمعنى: هو الاستدلالُ الذي
يُستحضَرُ به المعنى، فإذا حضرَ المعنى وأرَدْتَ أن تعلمَ أحق
هو أم باطل؟ فلا بُدَ لك أن تستحضرَما يشهدُ بهِ وَينْتُجُ
عنه؛ لأنك من جهةِ غيرِه تعلمُ أصحيحٌ هو أم فاسدٌ؟
فترتيبُ الاستخراجِ الذي هو الاستحضارُ الذي تحتاجُ إليه في
الجسمِ: أن تبدأَ فتستخرجَ: هل للجسمِ حقيقةٌ؟ ثم تستخرجَ: ما
حقيقتُه؟ فإذا حضرَ الجوابُ، فإنه: جَوْهَرٌ عَريضٌ عمِيقُ، ثم
احتجْتَ أن تعلمَ أحق هو الجوابُ أم باطلٌ؟ فلا بد أن تستخرجَ:
ما الدَّليلُ على صحَتِه؟ فإذا حضرَك الجوابُ: إذا كان هذا
أجسَمُ من هذا، معناه أكثرُ أخْذاً في الجِهاتِ الستَ، فهذا
جسمٌ، آخِذٌ (1) في الجهاتِ، وإذا كان الجسمُ آخذاً في
الجهاتِ، فلا بُدَّ من أن يكونَ جوهراً طويلًا عريضاً عميقاً.
__________
(1) في الأصل: "أخذاً".
(1/456)
فصل
في الاستدلالِ الذي يُحَقَقُ به المعنى
اعلم أن الاستدلالَ الذي يُحَقَقُ به المعنى (1): هو
الاستدلالُ الذي يُستشهد فيه على المعنى بالأصلِ على الفرع
ليُعلمَ أحق هو أم باطل؟ فإذا شَهِدَ الأصلُ بفرع وكان (2)
الأصلُ حقا وَأنه يشهدُ بحق، أنتجَ عن ذلك أن شهادتَه حق، وإذا
كان الأصلُ باطلًا وأنه يشهدُ بحق، أنتجَ عن ذلك أن شهادتَه
تلزمُ منه أنه يجبُ على القائلِ به أن لا يُفرقَ بين الأصلِ
والفرعِ، فيقولَ بأحدِهما ولا يقولَ بالأخرِ؛ لأن الأصلَ إذا
كان عنده حقًا، وكان الحق لا يشهدُ إلا بحق، لم يَجُزْ لهُ
إنكارُ شهادتِه مع الِإقرارِ بعدالتِه، وذلك أنه لو أعطى
الخصمَ: أن كلُّ فاعلٍ جسم، وكل جسمٍ مؤلَف، ثم منعَ من فرعِ
هذا الأصلِ، فقال: وليس كلُّ فاعل مؤلَّفاً، كان مناقضاً ولم
يصح له اعتلال في التَفرقَةِ بين الأمرين أصلًا.
فصل
في الاستدلالِ بالمثالِ الذي يُرد إليه المعنى
اعلم أن الاستدلالَ بالمثالِ الذي يُرد إليه المعنى على
ضَرْبَينِ:
أحدهما: صورةٌ دائرةٌ في جميعِ التصاريفِ يُستَدَل بها على
بَحْثِ ما فيها مما كان خارجاً عنها، وهي التي تَضبِطُ البابَ
حتى لا يدخلَ فيه ماليسَ منه، ولايخرجَ عنه ما هو منه.
__________
(1) غير واضحة في الأصل.
(2) في الأصل:"وكل".
(1/457)
والضربُ الآخر: صورة (1) يُستشهد بها
وُينتَجُ عنها في سائرِ أنواعِ القياسِ:
فالاوَّلُ: كالجوهرِ يُبحَثُ عنه من وجوهٍ كثيرةٍ كلُّها
معقودة به، فمن ذلك: جنس واحد هو الجوهرُ، أم أجناس مختلِفة؛
وهل يَحتمِلُ جزء من الجوهر ما يَحتمِلُه الآخرُ من الأعراضِ؟
وهل لا شيءَ من الجواهر إلا ويجوزُ عليه ما جازَ على الآخر؟
وهل يُرَى الجوهرُ وُيلمَسُ؟ وهل يبقى الجوهر ببَقاءٍ, وهل
يتداخلُ الجوهرُ؟ وهل يَصح خُلُو الجوهر من العَرَضِ في
الوجودِ؟ وهل الجوهرُ غيرُ العرضِ؟ وهل ينتهي الجوهرُ إلى جزءٍ
لا يَتجزَّا؟ وكم يلقى الجزءُ من الجواهرِ؟ وهل يَفْنى
الجوهرُ؟ وهل يفنى بفَناءٍ؟ وهل تجوزُ الِإعادةُ على الجوهرِ؟
وهل يجوزُ أن يَفْنى جوهر دونَ جوهرٍ؟ وهل يجوزُ أن ينقلبَ
الجوهرُ عرضاً؟ هذا كله بَحْث في الجوهر.
والصورةُ المُنتِجةُ الدائرةُ في جميعِ القياسِ: كصورةِ: كلُّ
إنسانٍ حيوانٌ، وكل حيوانٍ جسم، يَلزَمُ منه: كلُّ إنسانٍ جسم
(2).
ويوضِّحُ لك فصلَ ما يُنتَجُ بالصورةِ من غيرِه أن تَرُده إلى
حروفِ المعجمِ، فتَجِدَه يُنتجُ (3)، كقولك: كلُّ (أ): (ب)،
وكل (ب): (ج)، فتجدُه يُنتجُ: أن كلُّ (أ): (ج).
فتأَمَّلْ هذا الفصلَ فإن الفائدةَ فيه كبيرةً.
__________
(1) مكررة في الأصل، ووضع على الثانية علامة التصحيح، ولم يظهر
لنا وجه تكريرها.
(2) هذا مثال على الضرب الثاني من الاستدلال بالمثال الذي يرد
إليه المعنى.
(3) في الأصل: "يفتح".
(1/458)
فصل
في الاستدلالِ الذي يُعتمدُ عليه في الطريقة
اعلم أن الاستدلالَ الذي يُعتمدُ في الطريقةِ على ضَربَينِ:
أحدهما: أن يشهدَ الأولُ بالثاني، والثاني بالثالثِ، والثالثُ
بالرابعَ إلى آخر مَرْتَبَةٍ.
والضَرْبُ الآخرُ: أن يُحضِرَ الأولُ الثانيَ، والثاني
الثالثَ، والثالثُ الرابعَ إلى حيث تنتهي مراتبُه، والاعتمادُ
في هذا الاستدلالِ على أن تعملَ في الثاني على نحوِ العملِ في
الأولِ.
مثالُ ذلك: التَغيرُ يشهدُ بحدوثِ الجوهرِ، وحدوثُ الجوهرِ
يشهدُ بأنه لا بُدَّ من صانع غير مصنوعٍ، وأنه لا بُد من صانع
غيرمصنوعٍ يشهدُ بأنه قديم، وأنه قديمٌ يشهدُ بأن الحاجةَ لا
تجوزُ عليه، وأن الحاجةَ لا تجوزُ عليه يشهدُ بأنه لا يجوزُ
عليه الظُّلمُ، وأنه لا يجوزُ أن يُؤيِّدَ كذَاباً بمُعجِزٍ.
ومثالُ الطريقةِ للإِحضار: ما الدليلُ على النُّبُوةِ؟ إذا
حضرَ الجوابُ: بأنه المعجزُ، اقتضى السؤالُ الثاني: وما
الدليلُ على المُعجِزَةِ؟ فإذا حضر الَجواب: بأنه الخروجُ عن
العادةِ، اقتضى السؤال الثالث: ما (1) الدليلُ على الخروجِ عن
(2) العادةِ؟ فإذا حضرَ الجوابُ: بأنه تَرْكُ المُعارَضةِ مع
التَحدي للكافَةِ، كان على السائلِ أن يَتاملَ؛ فإن عَلِمَ فقد
وصلَ إلى الغَرضِ، وإن اعترضَت عليه شُبْهَةٌ، سألَ عنها
__________
(1) في الأصل: "بعد".
(2) في الأصل: "من".
(1/459)
حتى تُكشَفَ له حقيقتُها.
فصل
في الاستدلالِ الذي تقعُ فيه مُنازَعة
اعلم أن الاستدلالَ الذي تقعُ فيه منازعة لا يخلو من أن تكون
(1) في نفْسِ الشاهدِ المُستدَل به، أو في أنه يشهدُ، أو
فيهما.
والمنازعةُ تَطَرَقُ على ذلك متى لم يَكُنْ معلوماً ببَدِيهَةِ
العقلِ.
وإذا وقعَ التسليمُ للشاهدِ أنه حق في نفسِه، فإنه يشهدُ بطلب
المنازعةِ في الاستدلالِ؛ لأنه يَلزَمُ أن الشهادةَ صحيحة لا
مَحالةَ.
فصل
في الاستدلال بالنقيضِ
اعلم أن الاستدلالَ بالنقيضِ يكونُ من جهةِ أنه إذا صحَ أحدُ
النَقيضَينِ، فسدَ الآخرُ لا مَحالةَ.
مثالُ ذلك: إذا صحَ: أن كلُّ جسم مؤلَف، فسدَ أنه ليس كلُّ
جسمٍ بمؤلفٍ، وكذلك سبيلُ الموجِبةِ مع السالبةِ لا تَصْدُقانِ
جميعاً البَتَةَ، فيَفسدُ أيضاً أنه ليس واحدٌ من الأجسام
بمؤلَفٍ، وكذلك إذا صحَ: كلُ جوهرٍ داخل تحت المقدورِ، فسد:
ليس كلُّ جوهرٍ بداخلٍ تحت المقْدُورِ، وكذلك يفسدُ: ليس واحد
من الجواهر داخلًا تحت المقدورِ.
__________
(1) يعني المنازعة.
(1/460)
والنَقيض يَجيءُ على طريقين: إحداهما (1)
طريقة الضِّدِّ، والأخرى طريقةُ السلْبِ:
فطريقة الضِّدِّ: كقولك: إذا صح أنه ساكنٌ، فليس بمتحرِّكٍ،
وإذا صح أنه موجود، فليس بمعدوم، وإذا صحَ أنه محدَث، فليس
بقديمٍ، وإن لم يَكنْ هناك ضِدٌّ في الحقيقةِ.
فأمَّا طريقة السلْبِ فكقولك: إذا صحَ أنه محدَث، لم يصح أنه
ليس بمحدَثٍ.
ويستدل بالنقيضِ على الفَرْقِ؛ وذلك أن كلُّ فرقٍ بين شيئين
فلا بد من أن يكونَ أحدهما على الموجِبةِ -وهي المثبتة-،
والآخر على السَّالبةِ -وهي النافية-، كالفرقِ بين الدَلالةِ
والعِلَّةِ، وذلك أن كلُّ عِلَّةٍ فلو بَطَلَتْ، لبَطَلَ أن
يكونَ ما شَهِدَتْ به على ما هو عليه، [أما الدلالة فلو
بطلَتْ، لم يَبطلْ أن يكونَ ما شهدت به على ما هو عليه] (2)
وذلك أن الفعلَ يشهد بأن فاعلَه قادر، فلو بطلَ فلم يكنْ وجِدَ
أصلاً، لم يَبطلْ أن يكونَ القادر على ما هو عليه قادراً،
وكذلك لو لم توجَدِ الدلالة على القديمِ، لم يَبطلْ أن يكونَ
قديماً. فأمَّا الحركة فلو لم توجَدْ، لم يصح متحرِّك، وكذلك
السواد وسائر العِلَلِ.
فهذا بيان فَرْقِ ما بين بُطلانِ الدَلالةِ والعِلَّةِ، وهو
كاشف عن الفرقِ بينهما في أنفسِهما.
__________
(1) في الأصل: "أحدهما".
(2) زدنا ما بين الحاصرتين على الأصل ليستقيم المعنى ويتضح.
(1/461)
فصل
في الاستدلال بالشَاهد على الغائب
اعلم أن الاستدلادَ بالشاهد على الغائب يَجْري على وجهين:
أحدهما: الاستدلالُ بما تُشاهدُ على ما تَحتاجُ إلى علمه مما
لا تُشاهدُ.
والآخرُ: الاستدلالُ بما له شهادةٌ على ما تَحتاجُ إلى علمه من
جهة الدَّلالةِ.
مثال الأوَّلِ: الاستدلال بالمُشاهَدةِ (1) [على] (2) الفرق
بين المُتحرِّكِ والساكنِ من جهة الرُّويةِ على أن الحركة
تُرى، وكذلك الاستدلالُ بمشاهدة الشَّجرةِ المُورِقةِ بعد أن
كانت يابسةً أن لها صانعاً جعلَها على تلك الصِّفةِ، كما أنك
إذا شاهدْتَ الدَّار مبنيَّةً بعد أن كانت مهدومةً، فلا بدَّ
من بانٍ (3) جعلَها على تلك الصَفةِ.
ومثالُ الثاني: استحقاقُ الذَّمِّ يشهدُ بأنه لا يَستحِقُه إلا
مسيءٌ، وأن المسيءَ صار مسيئاً بعد أن لم يكن مسيئاً يشهدُ
بأنه لا بُدَّ من إساءة لأجلها كان مسيئاً، كما أنه إذا صار
موجوداً بعد أن لم يَكُنْ موجوداً، فلا بُدَّ من مُوجدٍ، وإذا
حَدَثَ، فلا بُدَّ من مُحدِث، وإحكامُ الفعل يشهدُ (4) بأن
فاعَلَه عالِمٌ.
__________
(1) في الأصل: "بالشاهدة".
(2) أضفناها على الأصل لتتضح العبارة.
(3) في الأصل: "باني".
(4) في الأصل: "تشهد".
(1/462)
فصل
في الاستدلالِ بالأصلِ على الفرعِ
اعلم أن الاستدلالَ بالأصل على الفرعِ يكونُ على وجهين:
أحدهما: تصحيحُ الفرعِ بالأصلِ.
والآخرُ: نقضُ [الأصلِ] (1) بما يشهدُ به من الفرعِ الفاسدِ.
وهذا الوجه الثاني إنما يكون في إلزام المُبطِلينَ على أصولهم
بما يَدُلُّ على بطلانها، وسواءٌ كان الأصل أولًاَ أو ثانياً
في أنه إذا شهدَ بمعنىً، فذلك المعنى فرعٌ له.
فالمعجزةُ تشهدُ بالنُّبوَّةِ، إذ كانت تَدُل على الخلافةِ،
والمُعجزةُ أصلٌ يَدُل عَلى أنها حقٌّ في نفسِها، وهو حِكمَةُ
الفاعلِ لها، والدَّال بها هو الله عزَّ وجل، ولو لم يَثبُتْ
أنها حق في نفسِها، لم يُلتفَتْ إلى شهادتِها.
فأمَّا أصلُ نُفاةِ الأعراضِ (2) من أنه لا حركةَ ولا سكونَ
ولا اجتماعَ ولا (3) افتراق على الحقيقةِ، فيشهدُ بأنه لا
يصحُّ أن يتحَركَ شيءٌ بعد أن كان ساكناً، ولا يجتمعَ شيءٌ بعد
أن كان مُفترِقاً، لأنه في كلا (4) الحالين موجودٌ غيرُ حادثٍ،
ولا حَدَثَ شيءٌ لأجله صار على تلك الصِّفةِ بعد أن لم يَكُنْ
عليها، فيجبُ أن يكونَ على ما كان، ففرعُ
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) انظر "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 5/ 66 وما بعدها.
(3) في الأصل: "والا".
(4) في الأصل: "كلى".
(1/463)
ذلك الأصلِ أن لا يصيرَ الجسمُ مُتحركاً
بعد أن كان ساكناً، ولا مُجتمِعاً بعد أن كان مُتفرقاً.
مثال في الفروع على الوجهِ الثاني من الاستدلالِ بالأصلِ على
الفرعِ -وهو نقضُ الَأصلِ بما يشهدُ به الفرعُ- على مَنْ جعلَ
الجدَّ كاحدِ الإخوةِ من حيث إدْلائِه بالأبِ (1) -وهم
أصحابُنا (2) وأصحابُ الشافعىِّ (3) - وفَرعُوا على ذلك أن
حَرَسُوا له تارةً ثُلُثَ المالِ وتارةً السدسَ، وهذا منهم
عنايةً بحراسةِ فَرْضِ الأبوَةِ؛ إذْ ليسَ للأخُوَّةِ ذلكَ،
فظهر بحراسةِ الفَرْضِ أنه ليس كآحادِ الإخْوةِ.
وعلى أصحاب أبي حنيفة حيثُ جعلوه وارثاً بالإدلاءِ (4)
والأبُوَّةِ، ولم يَحُطُوا ميراثَ الَأمَ معه في مسألةِ: زوج
وأم وجَد، وزوجةٍ وأم وجَد من فَرْضِها الذي هو ثُلُثُ الأصلِ
إلى ثُلُثِ الباقي، بخلافِ الأبِ (5).
__________
(1) فالجد أبو الأب، والأخ ابن الأب، فكلاهما يصلان إلى الميت
بالأب، وقرابة البنوة كقرابة الأبوة.
(2) انظر (المبلأع في شرح المقنع) 6/ 119 وما بعدها.
(3) انظر "روضة الطالبين" 6/ 23 وما بعدها.
(4) كتبت في الأصل: "بالإيلاد"، والذي يترجح لنا أن صوابها كما
أثبتنا في المتن، وهو ما يؤيده السياق، والله أعلم.
(5) ذهب الحنفية، إلى أن الجد بمثابة الأب في أنه يحجب الإخوة
الأشقاء أو لأب من الميراث، إلا ما يذكر عن أبي يوسف ومحمد بن
الحسن في أنه يقاسمهم -وهو أيضاً رأي الأئمة الثلاثة مالك
والشافعي وأحمد-، ولكن الحنفية خالفوا ذلك في فروعهم؛ فلم
ينزلوا الجد منزلة الأب في مسألة: زوج وأم وجد، وزوجة وأم وجد،
فجعلوا للأم ثلث أصل المال، لا ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين
كما في حالة الأب، وهو قول عامة أهل العلم إلا =
(1/464)
وأبداً يقولُ الفقهاءُ: هذا انتقالٌ من
كلام في أصلٍ إِلى الكلامِ في كيفيتِه، وليس هذا انتقالاً،
لكنَّه استدلال صحيح؛ لأنه لو صح الأصلُ، لم يَتكدرْ تفريعُه
على مُؤصِّلِه، فإن الصحيحَ لا يُثمِرُ الفاسدَ، والمُحكَمُ من
الأصولِ لا تنتقضُ (1) فروعُه، ألا ترى أن الله سبحانه استدل
على صِحة كونِ القرآن من عند الله بنفي الاختلافِ فيه، فقال:
{وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82].
فصل
في الاستدلالِ بالقرينةِ على النتيجةِ
اعلم أن الاستدلالَ بالقرينةِ على النَتيجةِ تنقسمُ أبوابُه
على ثلاثةِ أقسامٍ: الكُليةِ، والقِسْمِيةِ، والشَرْطيةِ:
فبابُ الكليةِ على ثلاثةِ أضربٍ:
الضرب الأول: له أربعةُ أنواع، وهي:
الأول، (2): كلُّ إنسانٍ مصنوع، وكل مصنوع مقدور، فكل إنسانٍ
__________
= أبا يوسف؛ فإنه جعل لها ثلث الباقي أيضاً. انظر "حاشية ابن
عابدين" 6/ 770، و"مختصر الطحاوي" ص 143 و 147 - 148،
و"المنتقى شرح الموطأ" 6/ 228 - 229، و "المغني" 9/ 20 - 21،
و"روضة الطالبين" 6/ 12.
(1) رسمت في الأصل هكذا: "سط"، وقد وضع عليها علامة التضبيب
إشارة إلى أن الناسخ استشكلها، والذي يظهر لنا أنها محرفه،
وصوابها ما أثبتناه في المتن.
(2) ليست في الأصل.
(1/465)
مقدور.
الثاني: كلُّ إنسان جسم، وليس شيء من الأجسامِ بمعدومٍ، فليس
شيء من النَاسِ بمعدوم.
الثالث: بعضُ الناسِ مُكلف، وكل مُكلَّفٍ مجازىً، فبعضُ
النَاسِ مجازىً.
الرابع: بعضُ النَاسِ مؤمن، وليس واحد من المؤمنين مُخلَداً في
النارِ، فبعضُ النَاسِ ليس بمُخلَدٍ في النارِ.
الضَرْبُ الثاني (1): [وله أربعة أنواعٍ: الأولُ] (2) كلُّ
جسمٍ مُؤلَّف، وليس قديم بمؤلف، فليس جسم بقديمٍ.
والثاني: ليس واحد من المؤمنين بمخلدٍ في النارِ، وكلُّ كافرٍ
مخلد في النارِ، فليس واحد من المؤمنين بكافرٍ.
الثالث: بعضُ المُوحَدين شهيد، وليس واحد من الضالين شهيداً،
فبعضُ الموحَدين ليس بضالٍّ.
الرابع: ليس كلُّ مكلفٍ بمُهتَدٍ، وكل عالمِ مُهتَدٍ، فليس
كلُّ مكلَّفٍ بعالم.
الضَّرْث الثالث: [وله ستَة أنواعٍ: الأولُ:] (2) كلُّ مؤمنٍ
محمود، وكلُّ مُؤمنٍ مُثاب، فبعضُ
__________
(1) أي الضرب الثاني من باب الكلية.
(2) ما بين حاصرتين زيادة على الأصل للتبيين والِإيضاح.
(1/466)
المحمودين مُثابٌ.
الثاني: كلُّ مؤمنٍ مُحسِنٌ، وليس واحد من المؤمنين بقديم،
فبعضُ المحسنين ليس بقديم.
الثالث: بعضُ المتَقين أمينٌ، وكل مُتَقٍ شهيدٌ، فبعضُ
الأمناءِ شهيدٌ.
الرابع: كلُّ مؤمنٍ مُوحد، وبعضُ المؤمنين إمام، فبعضُ
الموحدينَ إمام.
الخامس: كلُّ مُنعِم مشكور، وليس كلُّ مُنعِمٍ بمُثابٍ، فليس
كلُّ مشكورٍ بمُثابٍ.
السادس: بعضُ الأعراضِ موجود، وليس شيء من الأعراضِ بجوهر،
فبعضُ الموجوداتِ ليس بجوهرٍ.
فصل
كَثُرَ فيه غَلَطُ الأصوليين حتى قال فيه بعضُ المشايخِ
الأصوليين: لا اعرفُ أحداً ممن مضى من المتكلَمين إلا وقد
غَلِطَ فيه لدِقةِ مَسْلَكهِ، وغُموضِ مَأخَذِه، وهو:
الاستدلالُ بفسادِ الشيءِ على صحةِ غيرِه.
وسأوضحُ منه بغايةِ وُسْعي ما أضعُكَ فيه على الواضحةِ بعونِ
اللهِ تعالى ولُطْفِه وحُسْنِ توفيقِه.
وعَقْدُ الباب فيه: أن كلُّ دليل على صحةِ شيء فهو يَدُلُّ على
فسادِ ضده، فكذَا إذا دل على فسادِ شيءٍ دل على صحةِ ضده، وضدُ
(1/467)
المذهبِ الذي عَينَاهُ ها هنا هو اعتقادُ
فسادِه ونفيِهِ وإبطالِه.
وقد قال قوم: ليس هذا هكذا، ولكن في بداهَةِ العقولِ أن كلُّ
ما صححه الدليلُ أبْطَلَ ضِدَّه -أو قالوا: أفسدَ ضده-، وكل ما
أفسدَه صحَحَ ضدَّه.
والتحقيقُ في ذلك: أن الدليلَ إذا أفسدَ شيئاً أو صحَحَه،
رَجَعَ في الأخَرِ -أعني بالاَخَرِ: ضده- إلى العقلِ، فافتى
العقلُ في أسرع من لَمْحِ البصرِ بحقيقةٍ واجبةٍ.
والدليلُ على هذا التحقيق: أنك إذا دللت على صحَّةِ شيءٍ فقيلَ
لكَ: ما الذي يُفسدُ ضدَّه؟ قلتَ: ما في العقلِ من استحالة
اجتماعِ الشيءِ وضِدِّه في الصحةِ.
ولو قلتَ: ما دل على صِحَّتِه هو الذي يدلُّ على فسادِ ضدِّه،
لساغَ لقائلٍ أن يقولَ لك: ومن أيِّ وجهٍ دل على ذلك؛ أرايتَ
إن عارضَك مُعارِض، فقال: بل الدليلُ على صحَّتِه دال على
صحَّةِ ضِدِّه، فماذا يفصلُ بينك وبينه في هذه المعارضةِ؛ فلا
تَجِدُ بُدَّاً عند التحصيلِ من الرجوعِ إلى ما في العقلِ مما
وَصَفْناهُ، وذلك لأن الدَّلالةَ إذا دَلَّتْ على أن زيداً
مُسِيء، لم تَكُنْ بنفسِها دَلالةً على نفيِ الإِحسانِ الذي هو
ضِدًّ الإِساءةِ عنه؛ من حيث إنه قد يُمكن أن يكونَ محسِناً من
وجهٍ وهو بِرُّ أبيه، مسيئاً (1) من وجهٍ وهو عُقوقُ أمِّهِ،
وإنما يَصح ذلك فيما لا يكونُ ثابتاً من وجهٍ ومعه ضِدُّه من
وجهٍ آخرَ؛ كالدَّلالةِ على أن الشيءَ مُحدَث تدلُّ على بطلانِ
قِدَمِه؛ فإنه لا يصحًّ
__________
(1) في الأصل: "مسيء".
(1/468)
أن يكونَ قديماً من وجهٍ.
فانْعَقَد البابُ على أن كلُّ دَلالةٍ (1) دَلَّتْ على صحَّةِ
حكم أو مذهبِ أو حالٍ أو حقيقةٍ لم يُمكِنْ أن يكونَ ضدُها من
وجهٍ من الوجوهِ مُجامِعَاً لها، فإن الدليلَ الدال على
صحَّتِها هو المفسدُ لضدِّها، ومتى كان من قَبيلِ الأولِ لم
يدل إلا على صحةِ ما دلَّ عليه دونَ أن يدلَّ على فسادِ ضدِّه
أو بطلانِ ضده، وكلُّ ذلك يقتضيه العقلُ في ذلك، ونفيُ الضدِّ
لضدِّه، فقد أفتى العقلُ وسبَقَتْ فتواه بذلك.
واعلم أن المُعتقِدَ لشيءٍ ليس له ضد يَفسُدُ أو يَصلُحُ
مُعتقِدٌ، وليس تقفُ صحةُ فعتقَدِ الشيءِ على العلمِ بأن له
ضدَّاً، ولو كان للمعتقدِ ضدٌّ لفسدتِ الحقائقُ.
وهذا موضعٌ لم يتقدمْ تحصيله فلا تَستوحِشْ من وَحدَتِكَ فيه،
ولا تَعتبرْ بكثرةِ ما يورَدُ عليك فيه، فإن لكلِّ شيءٍ أولًا،
ولكلِّ أوَّل وقْفَةٌ من المستوحَشِ منه، فلا يرُعْك ذلك.
واعلم أن الضدَّينِ المذكورين في هذا الباب هما الاعتقادان،
فأمَّا المعتقَدُ الواحدُ (2) لا ضدَّ له فيَفسد أو يَصلُح.
والدَليل على ذلك: أنك لا تَجدُ قديماً هو ضدٌ للمحدَثِ
الصحيحِ، ولا اثنينِ قَدِيمَينِ هما ضدٌّ لَلواحدِ القديمِ،
ولا مُتحرِّكاً إلا بحركةٍ هو ضد للمتحرِّك بحركةٍ.
__________
(1) في الأصل: "ذلك".
(2) كتبت في الأصل: "للواحد".
(1/469)
فإن قلتَ: فما الدليلُ على صحَّةِ الأول
دونَ ما حَكَيْتَه عن هؤلاءِ القومَ؟ فالدليلُ عليه ما ذكرَه
المحقَقونَ من العلماء بهذا الشَّأَنِ، وهو أن الدليلَ لا يخلو
من أن يكونَ هو المُعرِّف، المُبينَ الهاديَ، أو ما يستشهدُ لك
المعرِّفُ (1) عندَ دلالته وُينَبِّهُك على ما فيه، فإن كان هو
المعرِّفُ (1)، فقد اجتمعَ له الأمران؛ لأنه هو الذي عَرَّفَك
صحةَ المذهب، وهو الذي عَرَّفَك ببَدِيهةِ العقلِ فسادَ ضدِّه،
ومخاطبته إياك بالخواطِرَ كمخاطبتِه إياكَ ببديهةِ العقلِ، فإن
كان المذكورُ ما فيه من الآثارِ ونحوها عند الدَّلالةِ
والهدايةِ هو الدَّليلُ، فالصَّنعة إنما دلَّتْ على أن [لها]
(2) صانعاً فقط، والعقلُ هو الذي دلَّ على صحةِ اعتقادِه، من
حيثُ دلَّ على أن كلَّ ما أثبتَه الدليلُ يصحُّ اعتقادُه، وهو
أيضاً إقرارُهم بما دلَّ على فسادِ ضده، فقد اجتمعَ له
الأمرانِ، وشروطُهم التي تقدَّمَتْ تُوجِبُ ما قلنا؛ لأن
قائلًا لو قال: من أين تجبُ صِحَّةُ اعتقادِ الصانعِ إذا
دلَّتْ عليه الدلائل؟ فقلتَ: من حيثُ وجبَ أن صانعاً للمصنوعِ.
فقال لك كذلك: فإنا لا نرى فيها أكثرَ من تثبيتِ صانعٍ فقط. لم
تَجِدْ بُدَّاً من الرُّجوع إلى ما في العقلِ بما وصفنا،
ورجوعُك إلى ما في العقل رجوعُ إلىَ من وضعَه فيه.
فإذا كان للمذهبَين ثالثُ، لم يَكنْ (3) ما يَدخُل في احدهما
من
__________
(1) في الأصل:"المعروف"، ويغلب على ظننا أن الصواب ما أثبتناه.
(2) زدناها على الأصل ليتبين المعنى ويستقيم.
(3) كتبت في الأصل:"يكون" بالإثبات.
(1/470)
الفسادِ دليلًا على صحةِ واحدٍ من الثلاثةِ
بعيْنِه، وإن لم يَكُنْ لهما ثالثٌ، فهذا المذهبُ في
الاستدلالِ فيهما أجودَ.
ونظيرُ هذا: إذا لم يَكُنْ في العالَمِ إلا ثلاثةُ أماكنٍ، لم
تكن غَيْبُوبةُ زيدٍ عن أحدِها (1) دالةً على كونِه في واحدٍ
من الاثنين بعينِه، وإن لم يَكُنْ فيه إلا مكانانِ استدْلَلْتَ
بغَيْبَتِه عن أحدِهما على كونِه في الآخرِ.
وقد يَستخِفُّ المتكلِّمون بالثالثِ كثيراً، وهو ثالثُ النَفي
والإِثباتِ، والثالثُ: إمَّا الوقفُ أو الشك الذي يُثبتُه (2)
بعضُ الناسِ مذهباً (3)، أو يُخرِجُه قومٌ عن كونِه مذهباً،
ويَعتلونَ على ضعفِه عندهم، فيستدلون بفسادِ أحدِ الاثنينِ على
صحةِ الأخرِ، ووجودُ ضد الثالثِ -ضعيفاً كان أو قوَياً- يمنعُ
من هذا.
والدليلُ على ذلك: أن مُحصِّلًا لو اعترضَ عليهم، فقال لهم:
ألستُم تعلمون أن لهذين المذهبين ثالثاً؟ فقالوا له: بلى. فقال
لهم: فكيف صار بفسادِ أحدِ هذينِ الاثنين يوجبُ صحةَ ما
صححتُموه دونَه؟ لم يجدوا بدَّاً من ذكرِ ما أضعفَه عندهم،
وللمُحصلِ أن يقولَ لهم: فإنما كان ينبغي أن تذكُروا فسادَ
المذهبين، ثم تَستدِلُّوا بذلك على صحةِ الثالثِ؛ إذْ لا رابعَ
له بالضرورةِ، فأمَّا الاقتصارُ على إفسادِ واحدٍ
__________
(1) في الأصل: "أحدهما"، والذي يتفق ومعنى السياق ما أثبتناه.
(2) في الأصل:"يبينه".
(3) تقدم كلام المصنف في الصفحة (31): أن الشك ليس بمذهب، وأن
الوقف مذهب.
(1/471)
فلا يَصلُحُ؛ لأن معارِضاً لو عارضَكم
بذكرِ ما يُفسدُ به الذي صحَّحتُم، ثم جعلَ إفسادَه دليلَاَ
على صحةِ الذي أفسدتُموه ما الذي تَنفصِلونَ به عن معارضتِه؟
فلا مَحِيصَ لهم عن ذلك.
فإن قالوا (1): الذي أفسدناه يَدخلُ فيه كذا وكذا فيُفسدُه،
فإذا فسدَ فلا بُد من صحةِ الثاني، فيقالُ لهم (2): والذي
صحَحتُموه يَدخلُ فيه كذا وكذا فيُفسدُه، وإذا فسدَ فلا بُد من
صحَّةِ الأولِ.
وبعدُ: فلِمَ كان الأولُ صحيحاً لَما دخلَ في الثاني دونَ أن
يكونَ الثاني هو الصحيحَ لمَا دخلَ في الأولِ؟ وكيف صارَ ذِكرُ
ما يَدخلُ في الثاني دليلاً على صحةِ الثاني؟
فصل
في القِسْمِيَّةِ (3)
وذلك كقولِك: لا يخلو المعاقَبُ أن يكونَ مُسِيئاً، أو
مُحسِناً، أو لا مُسيئاً ولا مُحسِناً، فإذا بطلَ أن يكونَ لا
مُحسناً ولا مُسيئاً، كما بَطَلَ أن يكونَ مُحسِناً، لم يَبْقَ
إلا أنه مُسيء، وكذلك المستحِقُّ للذمِّ.
وكذلك المستحِقُّ للحمدِ، لا يخلو من أن يكونَ مُحسِناً أو ليس
بمحسنٍ، فإذا بطلَ أن يَستحِق الحمدَ مَنْ ليس بمحسنٍ، وجبَ أن
لا يَستحِقَّه إلا مُحسِنٌ.
__________
(1) في الأصل: "قال".
(2) في الأصل: "له".
(3) في الأصل: "القسمة".
(1/472)
وما استُوفِيَتِ القِسمةُ بأحسنَ من قولِه
سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا
وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 -
50]، فانظرْ كيف أحَّدَ الِإناثَ، وأَحدَ الذكورَ، وجَمعَ،
وحَرمَ، ولا قسم بعد هذه الأربعةِ.
فصل
في الشَّرطِيةِ
وهي إضافةُ الشيءِ إلى غيرِه، أو حملُه على غيرهِ من جهةِ صحةِ
كونِه، لا من جهةِ الوجوبِ، بخلافِ وجودِ المعلولِ عند عِلتِه.
مثالُه: إن وافى زيدٌ بالكفرِ، فهو مُستحِق للتخليدِ في
النَارِ. وإن قلتَ: وليس بمُستحِق للتخليدِ في النَارِ،
لأنتجَ: أنه لم يُواف بالكفرِ.
ومتى أوجبتَ الشَرْطَ (1) وجبَ الجوابُ من حيث اللِّسانُ
واللغةُ، وإن سَلَبْتَ الجواب وجبَ سلبُ الشرطِ.
وُيسمى الشرطُ والجوابُ بلُغةِ أهلِ الجدلِ: المقدَّمَ
والتاليَ.
فصل
من الردِّ الفاسدِ في الجدل: أن يقالَ للِإنسانِ المُتمذهب
بمذهبٍ: دُل على صحةِ مذهبك، فيقول: لا أَدُل، لكن دُلوا أنتم
علىَ فسادِ مذهبِي؛ لأن عَجْزَه عن الدَلالةِ على صحة مذهبِه
يَمنعُه من
__________
(1) في الأصل: (الشروط)، وما أثبتناه أنسب بالمقام.
(1/473)
التمذهب به؛ لأنه يعطي أنه مُقلِّدٌ (1)؛
إذ لو كان مُستدِلًا لدل السائلَ بما استدَلَّ به على المذهب،
وذكرَ الدليلَ الذي لأجلِه تمذهبَ بذلك المذهبِ، ولمَّا عَجزَ
عن الَدَّلالةِ خرجَ عن أهلِ المذاهبِ، وعُلِمَ أنه مُقلِّدٌ
هَويَ شيئاً، فقالَ به. وعجْزُ السائلِ عن إفسادِه لا يُصحَحُ
مذهبَ المسؤولِ، كما أن مُدَّعيَ النبوَّةِ لو طلبَ منه طالبٌ
مُعجزةً دالَّةً على صدقه، فردَّ على الطالب طَلَبَه بأن قال:
فدُلَّ أنت على كذبي، فليس عجزي [عن] إقامةِ الدَّلَالةِ على
صِدْقي بأوفى من عَجْزِك عن إقامة الدليلِ على كذبي، لم يكُ
هكذا القولُ صحيحاً لإِثباتِ دعواه، كذلك ها هنا (2).
فصل
من العِللِ
اعلم أنه إذا قال القائلُ: إنما كان الجسمُ مُتحرِّكاً؛ لأن
فيه حركةً، فقد جعلَ الحركةَ عِلَةٍ لكونِ الشيءِ متحرِّكاً،
وجعلَ عِلَّةَ كونِ الشيءِ متحرِّكاً، وعِلَّةَ استحقاقِه
للوصفِ بالتحرُّكِ: الحركةَ، فلَزِمَه على هذا القياسِ أن
يجعلَ كلَّ (3) حركةٍ وُجِدَتْ في شيءٍ علةً لتحركِه، وكل
مُتحرِّكٍ ذا حركةٍ؛ لأنه قد جعل علةَ كونه مُتحركاً: الحركةَ.
فإن أبى هذا وزعمَ أن الواجبَ أحدُ الأمرَينِ، وهو أن يكونَ
كلُّ
__________
(1) في الأصل: "مقلداً".
(2) انظر "الكافية" ص 386 وما بعدها.
(3) في الأصل: "علَّةُ".
(1/474)
مَنْ فيه الحركةُ مُتحركاً، وجَوَّزَ كونَ
مُتحرَك بلا حركةٍ، فلخَصْمِه أن يَقلبَ عليه القضيةَ، فيجعلَ
الواجبَ ما أسقطَه، والساقطَ ما أوجبَه، فقال: بل المُتحركُ
فيه حركةٌ، ومن فيه الحركةُ ليس بمتحرِّكٍ، فلا يَجِدُ
انفصالًا عن القَلْبِ عليه.
والأصل في هذا: أنَا لَما وجدْنا حركةً واحدةً تحدثُ في الشيءِ
فيكونُ مُتحرَكاً بحدوثِها فيه، وجبَ القضاءُ على كلُّ حركةٍ
بمثلِ ما شوهدَ فيها، وعلى هذا القياسِ: أنَا متى وجدنا شيئاً
واحداً لا يَتحركُ إلا بحدوثِ الحركةِ فيه، وجبَ على كلُّ
متحركٍ غابَ أو حضرَ بمثلِ ما شوهدَ منها، فإن لم يَسْتحِلْ
وجودُ مُتحرَكٍ لا حركةَ فيه، فكان هذا الحكمُ إنما يقعُ على
الجسمِ المُشاهَدِ دون ما لا يَحتمِلُ الحركةَ، ولا بُدَّ من
أن يكونَ مُتحركاً، فقد صارت هذه القضيةُ مانعةً من القضاءِ
على الغائبِ بما أوجبَتْهُ العلةُ في الشاهدِ، ولم تنكرْ أن
يكونَ في قُدرَةِ الله سبحانه حركةٌ يُجريها في شيءٍ لا يجوزُ
عليه التحركُ، فلا يكونُ بحدوثِها فيه متحركاً، وليس حكمُ
الغائبِ من المحدَثاتِ حكمَ الشاهدِ فيما وجَدْنا من عِلَله،
فإن وجدنا دَلالةً تُثبتُ شيئاً لا يجوزُ عليه التحرُّكُ ولا
بُدَّ من حُلولِ الحركةِ فيه متى يكوَنُ هذا، نظراً لقولِهم:
عندنا دلالةٌ تُثبِتُ شيئاً لا بُدَّ من وصفهِ بالتحرُكِ
ونَفْي الحركةِ عنه، وإلا فأصل ما يجبُ تجويزُه إذ ليس يُمكِنُ
القطعُ على كلِّ غائبٍ بحكمِ ما شوهدَ، فيكونُ ذلك مانعاً من
إثباتِه وتجويزِه، والشيءُ إذا لَم يَمنعْ منه مانعٌ، وجبَ
تجويزُه، إلا أن تمنعَه بَديهةُ العقلِ، فيكونُ دفعُها أكبرَ
الموانعِ منها.
(1/475)
ومن (1) أصولِ هذه الأبوابِ العظامِ أنهم
إنما جعلوا الشيءَ مُتحركاً لأن فيه حركةً، فأوجبوا لذلك أن
يكونَ كلًّ ما فيه الحركةُ متحرّكّاً، لأنهم لم يجدوا الحركةَ
فيه قَطًّ إلا وهو متحرِّكٌ، ولم يجدوه مُتحرِّكاً إلا وفيه
الحركةُ، ولأنهم رأوا وصفَ لفظِه في العقلِ على حقيقةٍ
يُستيقَنُ (2) منها، وذاك أن عَقْدَك على أنه مُتحرِّكٌ هو
كقولِك: هو مُتحرِّكٌ، لأنك اعتقَدْتَه من جهتِها كما وصفنا من
جهتِها ولفظِها، وهذا يوجبُ أن يكونَ كلُّ متحرِّكٍ إذاً
لحركةٍ فيه، لأنهم لم يجدوا مُتحرِّكاً قَطًّ إلا بحركةٍ، وقد
وجدوا مُتحرِّكاً بغيرِها أو بنفسِه مُحالَاً، كما وجدوا قيامَ
الحركةِ بنفسِها (3 ووجودَها فيما ليس بمُتحركٍ 3) مُحالًا،
وإلا فلِمَ قَضَوْا بأن من فيه الحركةُ مُتحرِّكٌ، وما أنكروا
من وجودِ حركةٍ تُخالِفُ الحركاتِ في هذا الباب، إذ قد جاز
وجودُ متحرِّكٍ يخالفُ المتحرِّكِينَ، فمهما استشهدوا به فيَ
الحركاتِ (4)، رجعَ عليهم في المتحرِّكينَ.
__________
(1) ورد قبل هذا في الأصل: "واعلم أنه من نفى شيئاً فادعى أنه
نفاه بدليل ظاهر وحجة واضحة يمكن غيره معرفة إنكاره". وهو مقحم
هنا، وسيرد في مكانه الصحيح في ألفصل القادم.
(2) كتبت في الأصل "يستقان".
(3 - 3) هذه العبارة مكررة في الأصل.
(4) في الأصل: "الحركتين"، ولعل الصواب ما أثبتناه في المتن.
(1/476)
فصل
في الكلام على جُهَالِ مُنتَحِلي الجدلِ في قولهم: ليس على
النافي دليلٌ، ولَا على المُنكِرِ حُجةٌ لنفيِه وإنكارِه،
وإنما ذلك على المُثبِتِ خاصَّةً، فهو المُدَعِي.
اعلم أن من نَفَى شيئاً وأنكرَه، وادَعى أنه نفاه بدليلٍ ظاهرٍ
وحجةٍ واضحةٍ يُمكِنُ غيرُه موافقتَه له في ذلك النفي
والإِنكارِ ومعرفتَه، وأنه لم يَنْفِه بالحَدْسِ والتخمينِ ولا
بحِسٍّ تفردَ به عن ذوي الإِحساس (1)، كان عليه إقامةُ الدليلِ
على صِحةِ نفيهِ، والبَينَةِ على إنكارِه، ولَيس بين إثباتِه
ونفيه فرق الْبَتَةَ بحُجتِه التي ادعى وجودَها وظهورَها، كما
أن من أثبتَ شيئَاً بحجةٍ ظاهرةٍ، كان عليه إثباتُه بحجتِه
التي ادَّعاها، ولَزِمَه من الدَّلالةِ على صحةِ إنكارهِ ما
عليه من الدَّلالةِ بصحةِ إثباتِه، وليس بين الإِثباتِ والنفي
فرق الْبَتَةَ في كونِهما مذهباً واعتقاداً يَصدُرانِ عن
دَلالةٍ أوجبَتْهما، وحجةٍ ساقَتْ إليهما.
فأمَّا تعلُّقُهم وتمثيلُهم ما نحن فيه من نفيِ الحقائِق ذواتِ
الدَّلائل الظاهرةِ بحكمِ اللهِ سبحانه في باب الشرع، فإنه
فاسدٌ؛ وذلك أن من ادُّعِيَ عليه مالٌ فأنكرَه، لا يَزعُمُ أنَ
العقول والدلائلَ الظاهرةَ تدُلُّ على فسادِ ادِّعائِه عليه،
وإنما غايةُ ما يَدعي أنه عرَفَه بمعرفةٍ تخصُّه؛ إذ لم يَجِدْ
نفسَه آخذةً لذلك المالِ المُدعى عليه، وذلك أمرٌ لا يَظهرُ
لغيرِه في حالِ إنكارهِ، والمنكِرُ للحقائقِ القائمةِ دلائلُها
الظاهرةِ حُجَجُها يزعمُ أن له دليلَاً على إنكارِه، وحجةً على
تخطئة خصْمهِ إيَّاه فيما
__________
(1) رسمت في الأصل: "الاحاس".
(1/477)
نفاهُ، وأنه لو استدلَّ خصمُه لأدركَ مثلَ
الذي أدركه من النفيِ لِمَا نفاه، ولعرَفَ من صحةِ إنكارهِ ما
عَرَفه هو، فهو في هذا القولِ مُثبتٌ لدليلِ إنكارهِ، وخصمُه
مُخالِفٌ له فيه، وعلى مَنْ أثبتَ شيئاً يُخالَفُ فيه أن
يَأْتِيَ بدليله إذا ادَّعى ظهورَه، فأمَّا مُدَّعِي المالِ
فإنه يَدَّعِي أن له بَيِّنةً على صحة ادعائِه إيَّاه، فلذلك
طُولبَ بإحضارها، ولولا أن العقولَ لا تُبطِلُ دعواه، لفَرَّقَ
الناسُ بينهما، ولكن لَمًا كان ادِّعاءُ أحدِهما وإنكارُ
الآخَرِ يستحيلان في العقول على كلُّ واحدٍ وصاحبِه، وإن كان
مُنكِراً لمذهب يزعمُ أنه منكر المالَ، فقد ينبغي أن يزعُمَ أن
الذي أسقطَه عندَ إقامةِ البرهانِ على إنكاره: أنه لا سَبيلَ
إلى إقامتِه من العقل والحِسِّ إلا بأَخْذِ مَنْ لا سبيلَ له
إلى معرفته من خصومه بتصحيحه له؛ إذ ليس لهم عليه دليلٌ ظاهرٌ،
ولا يدعوهم إلى مثل ما هو عليه منه، وهذا ما لا يقولُ [به]
المُتعلقونَ بهذا الجهلِ.
على أن المُنكِرَ للمال ما خُلِّيَ ومُجرً دَ إنكارِه، إذ لو
كان مُخَلَّى (1) وإنكارَه، لكان مجرَّدُ قولِه في جواب
المُدَّعي: أستَحِقُّ عليه مئةَ دِرهَمٍ: لا يَستحِق عليً
شيئاً ممَّا ادَّعى، كافياً في الردِّ للدَّعوى استناداً (2)
إلى براءَةِ الذِّمَّةِ في الأصل عقلًا وشرعاً، لكنْ لمًا
أوجبَتِ الشريعةُ اليمينَ بالله سبحانه -وهي نوعُ حُجَّةٍ في
الشرع على مذهب العارفين بالسنَنِ، كهي مع الشاهدِ،
ومُعدَّدَةٌ في أَيْمانِ القَسامَةِ (3) - عُلِمَ
__________
(1) في الأصل: "محلا".
(2) في الأصل: "إسناداً".
(3) القَسامة- بالفتح-: اليمين، كالقَسَم، وتقدم بيانها في
الصفحة (106).
(1/478)
أنه لم يَعْرَ المُنكِرُ من دَلالةٍ، وإنما
كانت دَلالتُه دلالةً مخصوصةً، وليس الكلامُ في كيفيَّة
الدَّلالةِ، لكنْ كلامُنا (1) في أصل الدَلالةِ، وما قُنعَ من
المُنكِرِ إلا بدَلالةٍ وحجةٍ على صحة إنكارِه.
ويقالُ لصاحب هذه المقالةِ: إنك مُقابَلٌ فيما تعلَّقْتَ به من
الإِنكار للمال بما أجْمَعَ عليه العلماءُ من وجوب الدليلِ على
مُدَّعي التوحيدِ ومثبتِه، وليس حقيقةُ التوحيدِ إلا نفيَ
التَّثْنِيَةِ والتَّثْليثِ، فإن إثباتَ الصانع أصل، والتوحيدُ
مبنى عليه، فلا فَرْقَ بين قولِ القائلِ: دُلَّ على إثبات
الواحدِ، وبين قولِه: دُل على نفي ما زادَ عليه، ومن أرادَ
أصلَ الإِثباتِ قال: دُلَّ على الصانعِ، وليس إثباتُ الصانعِ
من التوحيدِ في شيءٍ؛ لأنه ليس من ضرورة الصنعةِ أن تَصدُرَ عن
واحد، لكن وجبَتِ الوَحْدَةُ للقديم سبحانه حيثُ كان
التَمانُعُ دالّاً على وَحْدَتِه من حيث كونُه قديماً كاملَ
الذَاتِ والصَفاتِ، واستحالَ الكمالُ بلزوم العَجْزِ. عند
إثباتِ الثاني، فوجبَ كوُنه واحداً، فبانَ بهذه الجملةِ: أن
التوحيدَ نفيٌ في الحقيقة لِما زادَ على الواحد، وقد وجبَتِ
الدَلالةُ عليه.
ويقالُ له أيضاً: هل بين إنكارِك لما أنكرْتَه، وبين إقرارِ
خصمِك به فرقٌ ظاهر للحِس أو للعقل؛ فإن قال: لا، فقد صارَ إلى
أنه لا فَرْقَ بين الحقِّ والباطلِ، وإن قال: نعم، قيل له: فهل
يَلزَمُ دليلُ الفرقِ
__________
(1) في الأصل: "كلاماً".
(1/479)
بينهما؟ فإن قال: لا، فقد صار قائلًا
بالفرقِ بين مَذهبينِ لا لِمُفرق (1)، وذلك باطل أيضاً، وإن
قال: بلى يَلزَمُني دليلُ الفرقِ. فقد أَقَر بأنه يَلزَمُه
إقامةُ الدَّلالةِ عليه، وفي هذا يطلانُ حيلتِه.
ويَدخُلُ على أصحاب هذه المقالةِ أن يُسقِطُوا إقامةَ
الحُجَّةِ عن نافي (2) الرَّبِّ، والرُّسلِ، والكتب،
والشرائعِ؛ لأنهم مُنكِرون، والمُنكِرُ لا بَيِّنةَ عليه في أن
نفيَه اوْلى بَالحق من إثبات خصمِه، وإنما يجبُ هذا على
المُقِرِّ، ومن صار إلى هذا أبطلَ مسائلَ المُوحَدينَ على
المُلحِدينَ.
فإن كان المُتعلق بهذا مُلحِداً، بَطَلتْ مسائلُه على أصحاب
الحدوثِ؛ لأنهم منكرون القِدَمَ وهو يُقِرُّ به، والمُنكِرُ لا
بَيِّنةَ عليه، إنما البيِّنةُ على من اقر به، فإن قال: إذا
ادعيت [القِدمَ] (3)، فلَعمْرِي إن على إقامةَ البَينةِ عليه،
فأمَّا إنكاري للحَدَثِ فليس عليَّ فيه بَينةٌ. قلنا له:
حدِّثنا، هل بين الحَدَثِ والقِدَم منزلةٌ؟ فإذا قال: لا، قلنا
له: فهل يجوزُ أن يجتمعا؟ -وإنما نسأل عَن الاجتماعِ الذي
ينكِرُه-، فإذا قال: لا، قلنا له: فإذا لم يَكنْ بينهما منزلةٌ
واستحالَ اجتماعهما، أفليس قد يجبُ أن يكونَ دليلُ صِحةِ
أحدِهما دليلاً على فسادِ الاَخَرِ؟ وإلا فكيف تَعلَمُ فسادَ
الثاني إذا عَلِمْتَ صحةَ اْلأولِ؟ وإذا كان هذا كذا، فقد وجبَ
أن دليلَ الِإنكارِ، فإنما تجبُ الإِشارة إليه والدَلالةُ به؛
لأنه هو دليل الِإقرارِ بعَيْنِه.
__________
(1) غير واضحة في الأصل.
(2) في الأصل: "عنا في".
(3) ليست في الأصل.
(1/480)
ويقالُ أيضاً لصاحب هذا الاعتلالِ: هل على
فسادِ إنكارِ مذاهبهِم دليلٌ ظاهرٌ؟ وهل لمن أنكرَها سبيلٌ إلى
معرفةِ خَطَئِه في إنكارِها؟ فإن قال: نعم، قلنا لهم: فكيف لا
يَجبُ عليهم الإِشارةُ إليه والدَّلالةُ به؟ ثم نقولُ لهم: فهل
على فساد إنكَارِ المالِ والدَّيْنِ دليلٌ ظاهرٌ؟ فإن قالوا:
لا، قلنا لهم: فقد فَرَقْتُم بين الإِنكارِ، ويَلزمُكم أن
تُوجبوا على صاحب أحدِهما الدَّلالةَ بدليلِه الظاهرِ، وأن
تُسقِطوا (1) ذلك عن الَآخَرِ بغَيْبَةِ (2) دليلِه، وإلا فما
الفرقُ بين حضورِ الدليلِ وغَيْبَتِه؟ وما وجهُ المنفعةِ في
حضورهِ ووجهُ الضرَرِ فىِ غَيْبَتِه.
واعلم أن المُدَّعىِ إذا لم يكنْ على صحةِ ادعائِه دليل ظاهرٌ،
لم تَلزَمْه إقامةُ الدليلِ عليهما، وهذا يدُلُّ على أنه ليس
من أجلِ الإِنكارِ والإِقرارِ ما وقعَ الاختلافُ في هذا الباب،
ولكِنْ من أجلِ حضورِ الدليل وغَيْبَتِه؛ ألا ترى أن ما
تُمكِنُ الإِحَاطةُ به من النفي، ويَحضُرُ دليلُه، تُسمَعُ
البَيِّنةُ عليه، مثل قولِ المُدَّعىِ: إن هذا قتَلَ أبانا
أمسِ في عَرْصَهَ الكَرْخ (3). فيَنْفي (4) المُدَّعى عليه
القتلَ ببَيِّنةٍ تشهدُ بأنه أمسِ جميعَه كان فىِ حَبْسِ
الحاكمِ، فإن قالوا: ولِمَ حَكَمَ اللهُ بإقامة الدليلِ على
مَنْ يدَّعي المالَ دون من يُنكِرُه؛ قلنا لهم: هو أعلمُ به
__________
(1) في الأصل: "اسقطوا".
(2) في الأصل: "بعينه".
(3) العَرْصَة: هي كلُّ موضع واسع لا بناء فيه. "اللسان"
(عرص).
والكَرْخُ -بالفتح، ثم السكون، وخاء معجمة-: علم لعدة مواضع
كلها في العراق، وأشهرها: كرخ بغداد. انظر "معجم البلدان" 4/
447.
(4) في الأصل: "فيفهم".
(1/481)
مِنَا، وليس جهلُنا لعِلةِ هذا التعبدِ
مانعاً لنا من إفساد هذا الاعتلالِ؛ إذ كان الدليلُ على فسادِه
ظاهراً، وقد يُمكِنُ -من غير قَطْعٍ بذلك- أن يكونَ سبحانه
لَمَّا علمَ أن زوالَ المالِ عن الإِنسان دائمٌ في كلِّ حالٍ،
وأنه لا سبيلَ له إلى مُلازَمةِ البيِّنةِ في جميعِ أوقاتِه
ليَعرِفُوا ذلك، وأنه (1) لم يُشهِدْ في شيءٍ منها، فيَشهَدُوا
له بصحةٍ إنكارِما ادُّعِيَ عليه من الديْنِ، فلذلك كُلفَ
المُدَّعي إقامةَ البيِّنةِ على ادِّعائه؛ إذ لا ضَرَرَ عليه
في إثباتِ الشهودِ في وقتِ دفْعِ المالِ، ولا على الشهودِ في
تعبدِهم لأمرِه فيه، وقد تقوم البَيِّنةُ على المنكِرِ،
فيدَّعي أن له بيِّنةً أخرى تشهَدُ به، وأنه مُكَلَّفٌ
إحضارَها، وهذا أيضاً يُؤكِّدُ ما قلنا في لزوم البيِّنةِ على
من ادَّعى دَعْوى مُقِرَّاً كان فيها أو مُنكِراً، واللهُ
أعلم.
__________
(1) في الأصل: "أنه" بدون الواو.
(1/482)
فصولُ الانقطاعِ
اعلم أن الانقطاعَ: هو العَجْزُ عن إقامةِ الحُجةِ من الوجهِ
الذي ابتُدىءَ للمقالةِ (1).
والانقطاعُ في الأصل: هو الانتفاءُ للشيء عن الشيءِ، وذلك أنه
لا بُدَّ من أن يكونَ انقطاعَ شيءٍ عن شيءٍ.
وهو على ضَرْبَينِ:
أحدهما: تباعدُ شيءٍ عن شيءٍ، كانقطاع طَرفِ الحَبْلِ عن
جملتِه، وانقطاعِ الماءِ عن مَجْراه.
والآخر: عدمُ شيءٍ عن شيءٍ، كانقطاعِ ثاني الكلامِ عن ماضيه.
وتقديرُ الانقطاِعِ في الجدلِ على أنه: انقطاعُ القوَةِ عن
النُّصرةِ للمذهب الذي شَرَعَ في نصرتِه.
وذلكَ أن المسألةَ قد تكونُ مراتبُها خمسةً، فيكونُ مع
المُجادِلِ قُوَّةً على المَرْتبةِ الأولى والثانيةِ، ثم
يَنقطعُ، فلا يكونُ له قُوَّةٌ على المرتبةِ الثالثةِ وما
بعدها من المراتبِ، وانقطاعُ القُوَّةِ عن الثالثةِ عَجْزٌ عن
الثالثةِ،
__________
(1) وانظر في تعريف الانقطاع أيضاً: "التمهيد" 4/ 349 - 250
و"العدة" 5/ 1535
(1/483)
فلذلك قلنا: الانقطاعُ في الجَدَلِ عَجْزٌ
عنه، فكلّ انقطاعٍ في الجدلِ عجزٌ عنه، وليس كلُّ عجزٍ عنه
انقطاعاً فيه، وإن كان عاجزاً عنه.
والانتفاء: قد. يكونُ الإِعدامَ، وقد يكونُ التَّباعُدَ، ألا
ترى أنهم يقولون: انْتَفى من أبيه، وكذلك: نفاهُ من أرضِه، كما
قال سبحانه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]
إلا أن الفرقَ بين الانتفاءِ والانقطاع: أن كلَّ انقَطاعٍ فهو
لشيءٍ عن شيءٍ آخَرَ، وليس كلُّ انتفاءٍ فهو لشيءٍ عن شيءٍ
آخرَ؛ إذكان قد يَنْتَفي بأن يعدَمَ لا عن شيءٍ.
وكلُّ انقطاعٍ فهو انتفاءٌ عن المقالةِ (1) وما ابتدِئتْ به من
النُّصرةِ بالعجزِ عن إقامةِ الحجَّةِ، ولا يخلو أن يكونَ ذلك
لنقصانِ علمٍ بالجدلِ، ولا يَدْرِي كيف يَضَعُ الأشياءَ
موإضعَها في السؤالِ والجواب، أو يكونُ لنقصانِ علمٍ بالحُججِ،
فيكون الذي قَعَدَ به قِلَّة علمِه لَا ضعف جدلِه، أوِ يكونُ
لفسادِ المذهب، فلا عَيْبَ على صاحبه بالانقطاعِ فيه إذا كان
لم يقَصِّرْ عما يَحتمِلُه من الشُّبَهِ، وإنما العيب عليه في
نصرتِه، لأن من نصرَ المذاهبَ الباطلةَ مَعِيبٌ عند أهل العقل
والمعرفةِ، عاصٍ لله سبحانه؛ إذ كان الله سبحانه قد أخذَ على
الناسَ أن يلازِموا الحقَّ في قولِهم وفعلِهم.
وقال بعض أهلِ الجدلِ من ائمَّةِ المتكلِّمين: من علاماتِ
الانقطاعِ ثلاثةُ أشياءَ: جَحْدُ الضرورةِ، ونَقْضُ الجملةِ
بالتفصيلِ، وتَرْك إجراءِ العِلَّةِ في المعلولِ.
فمثال جحدِ الضرورةِ: أن يَرَى شيخاً، فيَدَّعيَ أن هذا الشيخَ
لم
__________
(1) في الأصل: "القابلة".
(1/484)
يزلْ عما هو عليه دون أن تنتقلَ به
الأحوالُ من طفولةٍ إلى شَبيبةٍ إلى كُهولَةٍ، فهذا المدَّعي
قد جحدَ الضرورةَ.
وأما مثالُ نقضِ الجملةِ بالتفصيل: أن يقولَ قائلٌ: كلُّ
شَتْوَةٍ شديدةُ البرْدِ فبعدها صَيْفَةٌ (1) شديدةُ الحَر،
وكلُّ صَيْفَةٍ (1) شديدةِ الحَرِّ فبعدها شَتْوةٌ شديدة
البردِ، ثم قال: وقد كانت شَتْوةٌ شديدةُ البردِ، وهذه
الصَّيفَةُ قليلةُ الحَر، لكان قد نَقَضَ الجملةَ بالتفصيلِ.
وأما مثالُ إجراءِ العلَّةِ في المعلولِ: لو أن قائلًا قال: إن
هذا الفرسَ فارِهٌ (2)، لأنه جرى عَشَرةَ فراسِخَ (3)، فقيل
له: فقل: إن هذا البعيرَ فارهٌ؛ لأنه جرى عَشَرَةَ فراسخَ،
فامتنعَ من ذلك، كان مناقِضاً.
وقال بعضُ الأئمةِ في هذا الشَأنِ: لو قال: لأنه فرسٌ جرى
عَشَرَةَ فراسخِ، ثم ألزِمَ على ذلك البعيرَ، فامتنعَ من
التزامِ البعيرِ، لم يَكُنْ مناقِضاً.
قال عليُّ بنُ عيسى بن عليٍّ النَحْوِيُّ (4) في كتابه الصغير:
فأنا
__________
(1) في الأصل: "صيفية".
(2) قال في "لسان العرب" (فره): قال ابن سيده؛ ولا يقال للفرس
فاره، إنما يقال في البغل والحمار والكلب وغير ذلك، وفي
"التهذيب": يقال: برْذَوْنٌ فاره وحمار فاره، إذا كانا
سَيُورينِ، ولا يقال للفرس إلا جَواد، ويقال له: رائع.
(3) جمع فَرْسَخ، وهو ثلاثة أميال أو ستة."اللسان" (فرسخ).
(4) تقدمت ترجمته في الصفحة (120)، وللرماني عدة كتب تنعت
بالصغير: منها: "شرح المسائل للأخفش"، و"الاشتقاق"، و"الأصلح"،
فلعله أحدها. انظر "الفهرست" ص 69، و"إنباه الرواة"2/ 295
و296.
(1/485)
أقولُ: إنه لو قاله في الفرسِ وامتنعَ في
الحمارِ، لكان مناقِضاً من جهةِ المُعارَضِة، لا من جهةِ
إجواءِ العِلَةِ.
ونظيرُ ذلك في الأمورِ الشرعيةِ: العَوَرُ في الاضْحِيَّةِ لا
يجوزُ لأنها عَوْراءُ، فالعمى أولى أن لا يجوزَ في القياسِ،
لأن فيها ذاك المعنى وزيادةً، وإن لم يَجُزْ عليها الاسمُ،
وإذا قيل لنا: احكموا بالنَّصِّ، فإذا لم تَجِدُوه، فقِيسُوا
عليه، لم يَكُنْ بُدٌّ من أن تُجْرى العمياءُ مُجْرى العوراءِ
في أنها لا تجوزُ؛ لأنا إذا أُمِرْنا بالقياسِ، فقد دُلِلْنا
على هذا.
وكذلك سبيلُ الماءِ إذا نَجُسَ بالمَنِيِّ، فهو أوْلى أن
يَنجُسَ بالبَوْلِ، فهو أوْلى أن يَنجُسَ بالغائطِ في القياسِ،
وليس إذا نَجُسَ بالبولِ، فهو أوْلى أن يَنجُسَ بالمنيِّ، وإن
كان المنِيُّ يُغتسَلُ منه والبولُ لا يُغتسلُ منه؛ لأن مفهوم
ذلك في الشريعةِ ليس من أجلِ عِظَم نجاستِه.
وإذا رَدًا لمجيبُ جوابَه إلى أولٍ في العقل يشهدُ بصِحًةِ
الفرعِ الذي رَدَّ إليه، لم يَكُنْ للسائل أن يُطالبَه
بالرَّدِّ إلى ضرورة، فإن أقامَ على ذلك، كان منقطعاً في حكم
الجدلِ -أعني السائلَ-، لأنه مُطالِبٌ بما لا يَلزَمُ، مُصِر
على ما يقطعُ الوقتَ على غير الطريقةِ، مستزيدٌ في غير موضعِ
الاستزادةِ، فهو من الفروع بمَثابةِ مانع عِلَّهِّ الأصلِ،
فدَلَّ عليها المسؤولُ بظاهر السَّمْعُ، فقال: لا اقنَعُ إلا
بنَصٍّ. فإنه انقطاع من السائل، كذلك ها هنا؛ لأَن الذي عليه
إذا رَدَّهُ إلى أوَّلٍ في العقل يقتضي العقلُ صِحَّتَه، فمتى
اعتقدَ السائلُ بعد هذا أن المسؤولَ على شبْهَةٍ، فقد اعتقدَ
ما لا يَلزَمُ إزالتُه بحكم الجدلِ وإن كانت شبهةً لا تزولُ
إلا بضرورة -كما قلنا في مسائل
(1/486)
الفروعِ-، فلا (1) يلزمُ المسؤولَ أكثرُ من
إقامة دَلالَةٍ صالحةٍ لإِثبات عِلَّةِ الأصلِ وإن كانت شبهةُ
السائلِ لا تزولُ إلا بالنصِّ.
وليس للسائل أن يَتحكَمَ على المُستدِل، ويقولَ: لا أقبلُ إلا
ما يَرجِعُ إلى ضرورة، لأن سبيلَ ما كان أوَّلًا في العقل وما
كان ضرورةً فيه سبيل واحدٌ في أنه كافٍ (2) في العلم؛ لأنه
يُعلَمُ به صِحةُ الأمرِ، فليس له أن يَتخيرَ طرقَ العلمِ، كما
ليس له أن يتخيرَ من الأصولِ إلا ما يَرجِعُ إلى علم
المشاهدةِ؛ لأن ذلك تَحكُّمٌ لا يَستعملُه المُنصِفُ، كتخيُّرِ
الأمَمِ على الأنبياء أعيانَ المعجزاتِ، مع كونِ ما أتَوْا به-
صلوات الله عليهم- كافٍ (2) في خَرْقِ العاداتِ، حتى قال في
تخيّرهِم ما لم يَقُلْ فيما ابْتَدأَ به من المُعجِز، فشَرطَ
عليهم فى إنزال المائدةِ، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ
مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ
أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]، والفرقُ بين
الأوَّلِ في العقل وبين الضَرورةِ: أن الضَرورةَ لا يعترِضُها
شبهةٌ، والأولُ قد تعترضُ عليه شُبهةٌ، والأولُ يُعلمُ بأدنى
فِكرةٍ، والضَّرورةُ تُعلمُ بالبَديهةِ من غير فِكرةٍ.
وطرقُ العلمِ وإن اختلَفَتْ وكان بعضُها أجْلى من بعض فليس ذلك
بمُخرِجٍ لها من أن تُؤديَ إلى العلوم بالمعلومات على ما هي
بها، كما أن ما يُدرَكُ بالحواسِّ بعضُه أَجلَى من بعض، كالخَط
الدَقيق،
__________
(1) في الأصل: "لا"، ولعل الأنسب ما أثبتنا.
(2) في الأصل: "كافي".
(1/487)
والخَطِّ الواضحِ البَيَّنِ الجليلِ،
وكالصَّوتِ الضعيفِ، والصَوتِ الشَديدِ.
وإذا ادَّعى الخصمُ في شيء من الأشياء أنه أولى، فلا يخلو أن
يكونَ على حُجةٍ، أو شبهةٍ، أوشَغبٍ:
فإن كان على حجة: فالتأمُّلُ له يُوجبُ العلمَ به ما لم
تعترِضْ آفةٌ تصدُّ عن ذلك يحتاجُ إلى علاجها، أو شبهةٌ تعترضُ
فيحتاجُ إلى حَلِّها، ومن أكبر الآفاتِ: الِإلْفُ لمَقالةِ
سَلَفٍ، أو السُّكونُ إلى قول مُعَظَّمٍ في النَّفْسِ لا
بدليلٍ، فذلك من أعظم ما يعترضُ فيحولُ بينَ إصابةِ الحقِّ،
فإذا عالجَ الآفةَ ودفعَ الشُبهةَ، عادَ مُفِيقاً من سُكْرِ
الهوى إلى التأملِ ثانياً لتلك الحُجَّةِ.
أو يكونُ ما ادَّعى أنه أَوَّلٌ على شُبهةٍ: لا بُدَّ من أن
يكونَ في العقل ما يَحُل تلك الشُبهةَ، كما أنه ما خلا في
العقل أوَّلاً ما أزالَ تلك الآفةَ المُعترِضةَ بينه وبين
الحُجةِ، وإنما المعترِضاتُ بَلاوي تجبُ معالجتُها، فينبغي أن
يَقصِدَ إليها السائلُ بالإِلزامِ حتى يُبينَ أن ما اعتمدَ
عليه خصمُه اغترار لا يُوجبُ ثقةً، فإن عدل عن ذلك كان منقطعاً
في حكم الجدلِ، لأنه خرجَ عمَّا يلزمُه أن يأتيَ به إلى غيرِه،
وهذا ضَرْب من ضروبِ. الانقطاعِ (1).
أو يكونُ ما ادَّعى أنه أول على شَغْبِ: وهو الإيهامُ لطريق
الحجَّةِ من غير حقيقةٍ، فهذا ليس فيه إلا تكشيفُ ذلك الشَّغْب
حتى يتبينَ أنه ليس فيه مُتعلَقٌ.
__________
(1) "الجدل على طريقة الفقهاء" للمصنف ص 72.
(1/488)
وليس كلُّ سكوتٍ في الجدل انقطاعاً، وإنما
الانقطاعُ: السكوتُ للعَجْزِ عن الاستتمام (1)، ولا بُدَّ
للمسألة من نهاية يجب السكوتُ عندها، وليس علامةُ ذلك اتفاقَ
الخصمين على السكوت، مع أن هذا الاتفاقَ (2) يقعُ، ولو وقعَ لم
يكن به مُعتبَرٌ، وإنما النهايةُ للمسألة أن يقفَ كلامُ الخصمِ
من غير زيادة حجَّةٍ أو شُبهةٍ.
ولا مُعتَبَرَ في ذلك بتكريرِ المعنى على اختلاف العبارةِ؛
لأنه إذا مضى الجوابُ عن الزيادة، فكَررَ السؤالَ بخلاف تلك
العبارةِ، قيلِ للسائل: قد مضى الجوابُ عن هذا، وهو كَيْتَ
وكَيْتَ، فإن كانت زيادةً سمعتَ الجوابَ عنها، وإن لم يَكُنْ
إلا التَكرارَ فقد مضى الجوابُ، وكذلك يقالُ للمجيب: أين الجوب
عمَّا سُئِلْتَ؟ فإنك لا تزالُ تُكَرِّرُ كلاماً خارجاً عن
حَدِّ الجواب عما سئلتَ، فإن كان عندك جوابٌ، وإلا فأفصِحْ
بالانقطاع (3)، فإني لاَ أتقبَّلُ منك ما ليس بجواب عن
المسألة، ولا يَستحِقُّ بَذْلَ زيادةٍ.
وعلامةُ الخروجِ عن حدِّ الكلام بَيِّنةٌ في أكثر الأحوالِ،
فإن أشكلَتْ في بعضه، كان على الخصم أَن يُوقِف خصمَه عليه،
فيقولَ له: خرجتَ من جهة كذا وكذا.
مثالُ ذلك قولُ السائلِ: هل للفعل وجة لم يُخلَقْ منه؟ فيقولُ
__________
(1) المصدر السابق.
(2) في الأصل: "الإنكار"، والذي أثبتناه هو ما يقتضيه السياق
ويتفق ومعنى النص.
(3) في الأصل: "بالإنظار"، والأنسب بالمقام ما كتبناه.
(1/489)
المجيبُ: إن أردْتَ وجهَ الاختراع، فهو
مخلوقٌ فيه، وإن أردتَ وجهَ الكَسْب، فلا يصحُّ ذلك فيه،
فللسَائل أن يُضايقَ المجيبَ حتى يأتيَ بجوابهَ على التحقيق،
فيقول له: لم أسألْك عن تفصيل الِإرادةِ، وإنما سألتُك عما
يقتضي الجوابَ بنَعم أو لا؛ لأني إذا قلتُ: هل كان كذا أو كذا؟
فإنَّما يقتضي الجوابُ بنَعمْ أو لا، فكلًّ ما يأتي به
المسؤولُ [زيادة] (1) عن نَعَم أو لا في جوابِ "هل" فهو خارجٌ
عن حد ما سُئلَ عنه.
فإن قال المجيبُ: ليس الأمرُ كذا. قال السائلُ: الزيادةُ على
ليس الأمرُ كذا: بلى الأمرُ كذا، فدَعِ التَشاغُلَ بما لا
فائدةَ فيه، وأفصِحْ بالجواب عما سُئِلتَ عنه ليَقَعَ الكلامُ
عليه، ويَظهَرَ الحِجاجُ فيه.
فإن قال: ليس يَلزمُني أن أجيبَ السائلَ بما يتخيرُه عليَّ،
وإنما يلزمُني أن أجيبَه بما يَصحُّ عندي. قال له: ولا لك أن
تُجيبَه عما لم يَسألْك عنه، والسائلُ في الحقيقةِ مُتخيِّرٌ
لِما يسألُ عنه، والمجيبُ تابعٌ له؛ لأنه عن مسألتِه يُجيبُ،
لا عما يَصحُّ عنده ما لم يسألْه عنه؛ لأن ذلك خُروجٌ عن حدِّ
الكلامِ الذي يلزمُ في الجوابِ.
فإن قال المسؤولُ: ليس عندي جوابٌ أكثرُ مما سمعْتَ. قالَ له
السائلُ: قل ليس عندي جوابٌ؛ لئلَّا تُوهِمَ أنك قد أجبتَ عن
المسألة إلا اُنه ليس يُزاد على جوابك، وعلى أني أقولُ لك: ولا
طالبتُك إلا بالسؤالِ الذي سمعْتَ، فهَلُم الجوابَ عنه.
ويقالُ له: كيف تعملُ أنت بمن سألتَه عن مسألة فخرجَ عن
__________
(1) زيادة على الأصل يستقيم به المعنى.
(1/490)
جوابك، وقال لك: عندي أكثرُ مما سمعْتَ؟
وبعدُ: فما سمعتَ بسؤالِ الحَجْرِ؟ وهو الذي للسائل أن يَحجُرَ
فيه على المجيب إلا بأحَدِ شيئين أو أشياءَ محصورةٍ لا يجوزُ
غير واحدٍ منها، أو ما قولي لك: كذا هو أم لا؟ سؤالُ حَجْرٍ لا
يقتضي إلا: نعم أو لا؟.
فكلُّ هذا الذي ذكرنا انقطاعٌ من المجيب؛ لأنه خروجٌ عن حدِّ
الكلامِ الذي يلزم فيه، وينبغي للسائل أن يُبيِّنَ أنه خروج
على نحو ما ذكرنا.
مثالٌ آخر: إذا قال السائلُ: هل يصح أن يُعاقِبَ اللهُ العبدَ
إلا بذنبٍ؟ فقالَ المجيبُ: في هذا السؤالِ إيهامٌ ينبغي أن
يُكشف؛ لئلَّا يظنَّ بإِطلاق الجواب غيرُ المقصدِ فيقال: لا
يصح أن يُعاقِبَ الله العبدَ إلا بذنبٍ كان منه، أو بأنه لم
يفعلْ ما وجبَ عليه.
فقال السائلُ: وأيُّ إيهام في هذا السؤالِ؟ أوَ رأيْتَ لو
ادَّعى كلُّ خصمٍ لك في كلُّ سؤالٍ تسألُه عنه أن فيه إيهاماً،
وجعلَ ذلك ذريعةً له إلى جوابك عن غير ما سألتَه عنه، ما كنتَ
قائلًا له؟
وبعد: إن كان فيه إيهامٌ، فهاتِ الجوابَ عنه، ثم فَسِّرهُ، أو
فَسِّرِ السؤالَ بما يُزيلُ الإِيهامَ، ثم أجِبْ عنه، فأمَّا
أن تَدَعيَ أن فيه إيهاماً، ثم تعدِلَ عن الجواب عنه رأساً،
فليس (1) ذلك لك.
وبعدُ: فكيفَ حالُ من لم يفعلْ ما وجبَ عندك؟ أَلَهُ ذَنبٌ أم
لا
__________
(1) في الأصل: "وليس".
(1/491)
ذنبَ له؟ فإن كان له ذنبٌ، استقامَ الجوابُ
لك، فلا يصحُّ أن يُعاقِبَ الله العبدَ من غير ذنبٍ، وإن لم
يَكُنْ له ذنبٌ، فالجوابُ على أصلك: أنه قد يصحُّ أن يُعاقَبَ
اللهُ العبدَ من غير ذنبِ إذا كان لم يفعل ما وجبَ عليه، فلِمَ
تَحِيدُ عن الجواب وهو لك لاَزم؟ إلا أن في القول بأنه يصحُّ
أن يُعاقبَ اللهُ العبدَ من غير ذنبٍ شُنْعَةً في العقول، فليس
العَيْبُ إذاً في السؤالِ، وإنما العيبُ في هذا المذهب،
فاتْرُكْ ما فيه العَيْبُ.
وبعدُ: فما السؤالُ عن هذا المعنى بما لا يكونُ فيه إيهامٌ؟
أرأيتَ لو قيل لك: ايجوزُ اُن يُعاقِبَ اللهُ العبدَ من غير
قبيحٍ كان منه؟ هل كنتَ تقولُ: فىِ هذا إيهامٌ أيضاً؟ وكذلك لو
قيل لك: أيجوزُ أن يُعاقِب اللهُ العبدَ من غير فعلٍ كان منه
أصلاً؛ هل كان في هذا إيهامٌ؟ فكيف السؤالُ عن هذا المعنى بما
ليس فيه إيهامٌ؟ وكل هذا الذي ذكرنا انقطاع من المجيب؛ لأنه
عَجْزٌ عما ضَمِنَه من الانتصار لمذهبه، فادَّعى الِإيهامَ
لِمَا لا إيهامَ فيه، وعدلَ إلى الجوابِ عمّا لمْ يُسأل عنه،
فالمسألةُ واقعةٌ عليه لم يُجبْ عنها، وذلك انقطاع في حكم
الجدلِ، وقد بَيَّنَا أن الانقطاعَ في الجملةِ: هو العجزُ عن
استتمام ما ابْتَدأَ به المتكلِّمُ من نُصرةِ المَقالة، وأنه
إنما سُمي انقطاعاً؛ لأن صَاحبَه وقفَ قبلَ بُلوغِه الغايةَ
التي أَمَّها بالعجزِ عن البلوغِ إليها، فمتى وجدت العجز في
كلام، فاحكمْ على صاحبه بالانقطاع.
وليس في الانقطاع دليلٌ على فساد المذهب لا مَحَالَةَ، ولكنْ
فيه دليلٌ على أحدِ شيئين: إمَّا تقصيرُ الخصمِ عماَ يَحتمِلُه
المذهبُ من الحِجاجِ فيه، وإما استثناؤه ما يحتملُه مع تقصيرِه
عما يَضمَنُه له؛ إذ
(1/492)
كان قد تضمَّن استشهاد الأصولِ الثابتةِ
على صحَّته، فوقفَ دون ذلك لفساد مذهبه، ولا يكونُ سبيلُه بعد
الانقطاعِ فيه كسبيله قبل ذلك، بل يجبُ عليهَ أن يَنظرَ: هل
إلى التخلُّص مما وجبَ عليه حكمُ الانقطاعِ سبيلٌ؟ ويجبُ عليه
إذا خلا بنفسه أنَ يتطلَّبَ: هل يجدُ سبيلًا إلى التخلُصِ منه؟
فإن وجَدَه، وإلا اتَهمَ مذهبَه، وفكَّرَ (1) في مذهب
مُخالفِهِ، فإنه لا يلبَثُ أن يظهرَ له الحقُّ متى طلبَه
وجعلَه غرضَه، وإنما الانقطاعُ زاجرٌ عن الاعتقادِ حتى ينظرَ،
فيُكشفَ له الصوابُ.
فصل
في الانقطاع بالمُكابَرةِ
اعلم أن الانقطاعَ بالمكابرة (2): عجزٌ عن الاستتمام
بالحُجَّةِ إلى المكابرة، وهو شرُّ وجوهِ الانقطاعِ، وأقبحُها،
وأدلها على سُخْفِ صاحبه، وقِلَّةِ مبالاتِه بما يظهرُ من
فضيحتِه، وتخليطِه في ديانته، وليس يُنتفعُ بكلام مَن كانت
عادتُه أن يَحمِلَ نفسَه على المكابرة.
والمكابرةُ تَعرِضُ للخصمِ في أمور:
منها: أن يقولَ شيئاً، فإِذا رأى ما يَلزَمُ عليه، جَحَدَ أن
يكونَ قالَه، وصَمَّمَ على ذلك، وكابرَ فيه، وهذا الضرْبُ من
المكابرة يقعُ كثيراً بين الخصومِ، ولقد التجأْتُ من مُكالَمةِ
بعضِ من هذه سبيلُه
__________
(1) في الأصل: "وفكره".
(2) يقال: كابرته مكابرة: غالبته مغالبة، وعاندته. والمكابرة:
هي المنازعة في المسألة العلمية لا لإظهار الصواب، بل لإلزام
الخصم، وقيل: هي مدافعة الحق بعد العلم به. "المصباح المنير"
(كبر)، و"التعريفات" ص 227.
(1/493)
إلى شهادة مَنْ حضرَ على ما قالَه قبلَ أن
أَظهرَ ما يَلزمُه عليه خوفاً من جَحْدِه إياه، أو مكابرتِه
فيه.
ومنها: أن يجحدَ مذهباً له، أو الرئيسَ الذي ينتحلُ قولَه.
ومنها: أن يجحدَ ضرورةً يشتركُ أهلُ العقولِ فيها، ويدَّعيَ أن
الحقيقةَ معه في جحدها، وإنما يُطلِقُونَ ما أَطلَقُوا من
إثباتها على جهة المجَازِ دون الحقيقة.
فصل
في الانقطاع بالمُناقَضَةِ
اعلم أن الانقطاعَ بالمناقضة: عجز عن الاستتمام بالحُجَّةِ إلى
المناقضة، وهو دون المكابرةِ؛ إذ قد يَرَى ما يلزمُه على القول
الأولِ فيرجعُ إلى نقيضْه، ولا يُكابِرُ فيه.
وإنما كان انقطاعاً؛ لأنه لمَّا ضَمِنَ النُّصرةَ لشيء، فلم
يُمكِنْهُ حتى عدلَ إلى خلافه، كان ذلك عجزاً عن استتمام
الحُجَّةِ به، وذلك كابتداء بعضِ الخصوم لنصرةِ القولِ
بالرويَةِ؛ من جهة أن إدراكَ البَصَرِ: هو إحاطةُ البصرِ، فلما
رأى ما يَلزَمه على ذلك، قال: ليس إدراكُ البصرِ بمعنى
الِإحاطةِ في الحقيقة، ولكنَّه بمعنى الاتِّصالِ والمُخالَطة،
فهذا مُنقطِعٌ عن استتمام النصرةِ من الوجه الأولِ، وإن كان ما
صار إليه ظاهرَ الفسادِ؛ لأني قد أُدرِك السماءَ وإن لم يَكُنْ
على الاتصال والمخالطة، وعلى أن سبيلَ رؤيةِ البصر كسبيل إدراك
البصرِ، فإن وجبَ أن إدراكَ البصرِ لا يكونُ إلا باتصالٍ
ومخالطةٍ، فرؤيةُ البصر لا تكونُ إلا باتصالٍ ومخالطةٍ، وصاحبُ
المذهب الفاسدِ مُتحيِّرٌ
(1/494)
كالغريق يَتَشَبثُ بكل ما يجدُه وإن كان
فيه حَتْفُه، ونعوذُ بالله من مَلَكَةِ الهَوى، وما تُكسِبُ من
الحَيْرةِ والعمَى.
فصل
في الانقطاع بتَرْكِ إجراءِ العِلةِ عن الاستتمام بإلحاق
الحُكمِ لكل ما فيه العِلةُ.
وذلك أن العِلَةَ إذا اوجبَتْ حكماً من الأحكام بكونها للشيءِ،
فكلُّ ما كانت له فواجب له مثلُ ذلك الحكمِ.
مثالُ ذلك: قولُ الحنبلى والخارجيِّ (1) إذا سُئِلَ عن عذاب
الطفلِ في النَّارِ: لِمَ جازَ (2)؟ فقال: لأنهم ملكُه، فقال
له مُخالِفه: فَقل: إنه
__________
(1) الواحد من الخوارج، وكل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت
الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة
على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان،
والأئمة في كلُّ زمان، ولكن المقصود بهم عند الإطلاق فرق معينة
كانت بداية ظهورها في النصف الأول من القرن الهجري الأول، لها
آراؤها الخاصة، ومقالاتها التى تعرف بها، يجمعها القول بالخروج
على الأئمة اذا خالفوا السنة ورؤية الخروج حقاً واجباً، وتكفير
عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم، وهم متفقون
أيضاً على أن العبد يصير كافراً بالذنب. انظر "الملل والنحل"
1/ 114 و115، و"اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" لفخر الدين
الرازي ص 51. وراجع أيضاً لمقالاتهم وفرقهم "مقالات
الإِسلامين" ص 86 وما بعدها، و"الفرق بين الفرق" ص 72 وما
بعدها.
(2) كان المصنف رحمه الله يرى أن مذهب الِإمام أحمد القول
بجواز تعذيب الأطفال، وأن أولاد المشركين في النار، وهو ما
حكاه القاضي عياض عنه،=
(1/495)
يجوزُ عذابُ الأنبياءِ بالنَّارِ لأنهم
ملكُه. فإن امتنعَ من ذلك ناقضَ، وإن قال: يجوزُ عندي تعذيبُ
الأنبياءِ بالنَارِ، فقيل له: مع وَعْدِ اللهِ لهم بالجنَّةِ
والنَّجاةِ، أم مع عَدَمِ وعْدِه؟ فإن قال: مع وعدِه، تحقَّقَ
من مقالته إخلافُ وعدِ اللهِ، وإن قال: فالوعدُ في حقِّ
الأنبياءِ منعني من تجويز عذابِهم بالنَّار، فقيل:
فليَمْنَعْكَ ها هنا التُمدُّحُ بالعدلِ، وهو قولُه: {وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]،
[وقَولُه]: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ
قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا
رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ
وَنَخْزَى} [طه: 134]، ومعلوِمٌ أنه لم يُرِدْ بعْثَةَ رسولٍ
إلى غير المُعذَّب، لكنْ ما كنا مُعذَبين حتى نبعثَ رسولًا
إَلى من نُعذبُه إقامةً للحُجَّةِ علَيه، وهذا ما ارسلَ إليه
فكيفَ يُعذَبُ؟
فصل
في الانقطاع بالانتقال
وهو عجزٌ عن الِإتمام للأوَّلِ للخروج إلى الثاني، وذلك في
الانتقال عن الاعتلال إلى الاعتلالِ قبلَ الاستتمام، أو
الانتقالِ عن مسألة إلى مسألة أخرى قبل تمامِ الأولى.
__________
= واختاره القاضي أبو يعلى، وذكر أنه منصوص عن أحمد، ولكن شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله غلطهما بأن هذا قول لبعض أصحابه،
ولا يحفظ عن الإمام أصلاً، وأن النصوص المنقولة عنه تدل على أن
مذهبه الوقف في أطفال المشركين. انظر "مجموع الفتاوى" 4/ 281
و303 و 24/ 372، و"الفتح" 3/ 246. وراجع تفصيل هذه المسألة
وأقوال أهل العلم فيها في " مجموع الفتاوى" 4/ 281 و303 - 304
و 312 و 24/ 371 - 373، والفتح " 3/ 246 - 247، و"شرح صحيح
مسلم " 16/ 207 - 208.
(1/496)
مثالُ ذلك: قولُ المجيب إذا سُئِلَ عن جواز
الرُّؤيَةِ على الله سبحانه بالأبصارِ؟ فقال: تجوزُ؛ لأنها لا
تَسلُبُه معنىً، ولا تُحِلُّه معنىً.
فقيل له: فقل بجواز السمع لصوتٍ لذاته بالأذُنِ؛ لأن السمعَ له
لا يَسلُبُه معنىً ولا يُحِلُّه معنىً. فقال: قال اللهُ تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
[القيامة: 22 - 23] فأَوجبَ الرؤيةَ ولم يُوجب السمعَ، فقد
انتقلَ من الاعتلال بجواز الرؤيةِ بالعقل إلى الاحتَجاج
بدَلالةٍ من دلائل السمعِ.
فأمَّا الانتقالُ من سؤال إلى سؤال، فكقول السائلِ: ما الدليلُ
على القول بجُزْءٍ لا يَتجزَّأ؟ فقال المجيبُ: إن الجسمَ إذا
انتفى كلُّ اجتماع فيه، صار إلى جزءٍ لا يَتجزأُ. فقال
السائلُ: وما حَدُّ لجسمِ؟ فقد انتقلَ إلى سؤالٍ آخرَ عن
مَقالَةٍ اخرى، وإنما حكمُه أن يسألَ: وما الدليلُ على أنه
يصحُّ أن يَنْتَفِيَ كلُّ اجتماعٍ في الجسم وهو موجودٌ؟
فيُطالَبُ من جهة "لِمَ"، أو من جهة الإِلزامِ.
فصل
في الانقطاع بالمُشاغَبةِ
اعلم أن الانقطاعَ بالمشاغبة: عجزٌ عن الاستتمام لِمَا
تَضَمَّنَ منٍ نُصرةِ المقالةِ إلى الممانعة (1) بالإِيهام من
غير حُجَّةٍ ولا شُبهةٍ، وحقُّ مثلِ هذا إذا وقَع أن يُفصَحَ
فيه بأنه شَغْبٌ، وأن المُشغِّبَ لا يَستحِقُّ زيادةً.
__________
(1) في الأصل: "المشانعة"، وصححناها من "شرح الكوكب المنير" 4/
381، فإنه نقل هذا المبحث عن ابن عقيل.
(1/497)
فإن كان المشغِّبُ مسؤولًا، قيل له:
إنأَجبْتَ عن المسألة زِدْنا عليك، وإن لم تجِبْ عنها أمسَكْنا
عنك.
وإن (1) كان سائلًا قيل له: إن حَصلْتَ سؤالَا سمعتَ جواباً،
وإِلا فإن الشَغْبَ لا يَستحِقُّ جواباً، فإن لَجَّ وتمادى في
غَيِّه أُعرِضَ عنه؛ لأن أهلَ العلمِ إنما يتكلمون على ما فيه
حجَّةٌ أو شبهةٌ، فإذا عَرِيَ الجدل عن الأمرين إلى الشَّغْبِ
لم تَكُنْ فيه فائدةٌ، وكان الأَوْلى بذي الرَّايِ الأصيلِ
والعقلِ الرَّصينِ أن يصونَ نفسَه عنه، وَيرغبَ بوقتِه عن
التضييع معه، ولا سِيَّما إذا كان في الاشتغال به ما يوهِمُ
الحاضرين أن صاحبَه سالكٌ لطريق الحُجَّةِ، فإنه ربما كان في
ذلك شُبَهٌ (2) بما يرَى منه من حسْنِ العبارةِ، واغترارٌ
بإقبال خصمِه عليه في المناظرة، فحقُّ مثلِ هذا أن يُبيَّنَ
أنه على جهة المشاغبةِ دون طريق الحُجَّةِ أو الشُّبهةِ.
فصل
في الانقطاع بالاستفسار
اعلم أن الانقطاعَ بالاستفسار: عجزٌ عن الاستتمام بطلب
الاستفسارِ في غير موضعهِ، وذلك إذا ضاقَ على الخصم الكلام،
مالَ إلى استفهام ما لا يُستفهَم عن مثله، واستفسارِ ما لا
يُستفسَر في حال المناظرة، فقال: ما معنى كذا؟ وما معنى كذا؟
وهو استرواحٌ إلى جَرْي
__________
(1) في الأصل: "فإن"، وما أثبتناه هو الأنسب، وكذلك هي في
المرجع السابق 4/ 382.
(2) في الأصل: "نسبه"، وهي ساقطة من النص الذي نقله صاحب "شرح
الكوكب المنير" في 4/ 381 - 382.
(1/498)
عبارتِه بدلًا من سَكْتَةٍ يخجلُ بها،
ويتَضِحُ بها انقطاعُه، فيبدِّلُ السكوتَ بالاستفسار إيهاماً
للحاضرين أنه إذا فسَّرَ لي معنى هذا تَكلَمتُ عليه، وإنما
المعيقُ لي عن الكلام عدم فهمِ معناه، أو يَحيدُ (1) عن
النَظَرِ، ويتعلَق بذلك تعلقَ المتحيِّرِ.
مثال ذلك: أن يقولَ في مسألة ينجَرُّ الكلامُ فيها إلى
الأصلَح، فيقولَ السائلُ: وما الأصلحُ؟ فيقولَ المجيبُ: هو
الأحكمُ الأتقنُ الأصوبُ. فيقولَ: وما الأصوب الأحكمُ؟ فهذا ما
ينبغي للمجيب أن يَدخلَ فيه ولا يَتقبلَه، لأنه متى ما تقبلَ
ذلك وشرعَ في تفسير الواضحِ، لَزمَه أن يُجيبَ عن الأوضحِ، فلا
يتناهى السؤالُ والجوابُ.
وإنما يسوغُ الاستفسارُ والمراجعةُ فيما يترددُ المعنى فيه
وَيشترِكُ، فأمَّا مع عدم التَّردُّدِ والاشتراكِ فلا وجهَ
للاستفسار، أو يكونُ في العبارة نوعُ تغييرٍ وإَغماضٍ، فيطلبُ
تفسيرَها بالأكشَفِ، وما خرجَ عن هذه الأقسامِ فالاستفسارُ عنه
بطالةٌ وإطالةٌ.
فصل
في الانقطاع بالرجوع إلى التسليم
اعلم أن الانقطاعَ بالرجوع إلى التسليم: عجزٌ عن الاستتمام بما
سُلَّمَ إلى الرجوع عنه، وسواءٌ كان ذلك تسليمَ جدلٍ أو تسليمَ
اعترافٍ؛ لأن الخصمَ إنما يُسلَمُ تسليمَ الجدلِ ليُوقعَ
المنازعةَ في التفريع عن الأصل دونَ الأصلِ، وذلك أنه لمَّا
كان له أن ينازِعَ في
__________
(1) في الأصل: "يخبر".
(1/499)
صِحَّةِ الأصلِ قبلَ التسليمِ، وله أن
ينازعَ في شهادةِ الأصلِ بالفرع، إذا آثرَ الكلامَ في أحدهما
دون الآخَرِ، وتضَمَّنَ أن يَكسِرَ المقالةَ من جهته دون
كسرِها من الوجه الآخرِ، فكان عليه استتمامُ ذلك، وإلا فقد
ظهرَ عجزُه عما تَضمَّنَه، وانقطاعُه عما ظَنَّ أنه يَبلُغُه.
مثالُ ذلك: التسليمُ أن النَّشْأَةَ الأولى لو أنها كانت
بالطَّبيعةِ لا تشهدُ بأنه لا يكونُ نشأةٌ ثانية بالطبيعة، بل
يجوزُ ذلك ولا يُمنَعُ منه، فإذا وقعَ التسليمُ لأصل
الدَّهْرِيِّ في هذا، فينبغي أن يُقصَدَ إلى الكلام في وقوعه،
وُيستقصى القولُ فيه، حتى يُبَيَّنَ أن ذلك الأصلَ لا يشهدُ
به، بل يجوزُ أن يكونَ معه، ويجوزُ أن لا يكونَ معه.
فصل
في الانقطاع بجَحْدِ المذهبِ
اعلم أن الانقطاعَ بجَحْد المذهبِ عجزٌ عن نُصرة المقالةِ، لا
بالانتفاء عن مقالة أخرى.
والمثلُ في ذلك، والمثلُ له من طريق الصُّورة: رجلٌ ضَمِنَ على
نفسه بناءَ بيتٍ تسلَمُ مع بنائه أبنيةُ مُجاوِرِيهِ فلم
يُمْكِنْهُ أن يبنيَه إلا بهدم بيتٍ يَليهِ لبعض مُجاورِيه،
فهو لا مَحالةَ منقطعٌ عن بلوغ ما قَدَّرَ، فكذلك الخصمُ إنما
يُكلِّمُ خصمَه على سلامة مذاهبِه عنده، وإذا جحدَ شيئاً إمَّا
على جهة الرجوع وإما على جهة المكابرةِ فيه؛ كان مُنقطعاً في
حكم الجدلِ.
مثالُه في المسائل: استدلالُ النَّجَّارِيِّ (1) على أن كلَّ
فعلٍ مُحكَمٍ
__________
(1) نسبة إلى النَّجَّارية، وهم أصحاب وأتباع الحسين بن محمد
النَّجَّار، وافقوا =
(1/500)
مُتقَنٍ فإنه لا يكونُ إلا من عالم بأن
الكتابةَ لا يفعلُها في الشاهد إلا عالمٌ بها، فهذا يَهدِمُ
أصلَه فىِ إنكار التَوَلُّدِ، فإذا طُولِبَ بالحجةَ فجحدَ كان
منقطعاً، لأن هذا من الأصولِ المشهورةِ التي يُطبقُ عليها
أصحابُه وكلُّ من وافقَه في أصله.
فصل
في الانقطاع بالمُسابةِ
اعلم أنه إذا انتهى الجدالُ إلى المُسابَّةِ، دلَّ على أن الذي
حملَه على ذلك ضيقُ عَطَنه، وانقطاعُه عن حُجتةِ، وليس السب أن
يظهرَ فيه إنكارُ المذهب الذي قصدَ إلى الطعْنِ عليه، وإقامةِ
الحُجَّةِ على إفسادِه، لأنه لا بُدَّ له من ذلك، والدَّلالةِ
على صِحَّةِ ما يقولُه فيه، وإنما المُنكَر الطعْنُ على الخصم
أو على أسلافِه بما ليس من اعتقاد المذاهبِ وألاختلافِ فيها في
شيءٍ.
وإذا فعلَ أحدُ الخصمين شيئاً من ذلك، بُيِّنَ له أن ما أَتَى
به خارجٌ عن حدِّ السؤالِ والجوابِ إلى السِّبابِ، ولم يكن
الاجتماع
__________
= المعتزلة في أصول، منها: نفي علم الله، وقدرته، وحياته،
وسائر صفاته الأزلية، وإحالة رؤيته بالأبصار، والقول بحدوث
كلام الله تعالى، ووافقوا الأشاعرة في أصول، منها: قولهم بأن
الله خالق أكساب العباد، وأن الاستطاعة مع الفعل، وفي أبواب
الوعيد، وانفردوا بأصول لهم، وكان أكثر معتزلة الري وما
حواليها على مذهب النجار. انظر لآراء النجارية وفرقها "مقالات
الِإسلاميين" ص 283 - 285، و"الفرق بين الفرق" ص 207 - 211،
و"الملل والنحل" 1/ 88 - 90، و"اعتقادات فرق المسلمين" ص 104 -
105.
(1/501)
للمُسابَّةِ، وإنما كان لإِقامة الحُجَّةِ
وحَل الشبهةِ، وما عدا ذلك مما ليس بسَبٍّ لا يَحسُنُ إدخالُه
على ما اجتمعنا لأجله، فكيف بإدخال ما لا يَحِلّ للعاقل
اعتمادُه بحالٍ؟! وهو السَّبُّ الذي يجبُ صيانةُ النَّفْسِ
عنه.
فصل
أورَدْتُه في تقسيم الانقطاعِ مُختصَراً بعد البَسْطِ
اعلم أن الانقطاعَ على أربعةِ أضربٍ:
أحدها: السكوتُ للعجز.
والثاني: جَحْدُ الضَّروراتِ، ودفعُ المشاهَداتِ،
والمُكابَرَةُ، والبَهْتُ.
والدليلُ على أن هذا من الانقطاع: أن المجيبَ إنما يَبْنِي
جوابَه على تصحيح المُشاهَدةِ، واستشهادٍ بالمعقولِ، وهذا هو
المفهومُ عند إجابتِه، فإذا لم يَجِدْ في العقول والضروراتِ
شيئاً يُحقَقُ به مذهبَه، وُيتِمّ به جوابَه، فقد عَجِزَ عما
ضَمِنَه على نفسه بخروجه عن المعقول والضروراتِ إلى المكابرة
والبَهْتِ، وإنما تمامُ الشَّرْط أن تكونَ مادَّتُه من هذين
الموضعين أعني: العقلَ والضرورةَ -دون ما صارَ إليه.
وهذا الضَّرْبُ شَرٌّ من الأوَّلِ -أعني السكوتَ-؛ لأن أحسنَ
الأمورِ إذا لم يَجِدْ حقًّا يَتكلَّمُ به أن يُمسِكَ عن
الباطل، وأقبح ما ينطقُ به من الباطل بهتُ العقولِ والطبائعِ
والحواس، ومكابرتُها.
والضربُ الثالث: المُناقَضَةُ: وهو أن يَنْفِيَ بآخِرِ كلامِه
ما أثبتَه
(1/502)
باوَّلِه، أو يثبِتَ بآخرهِ ما نفاه في
أولِه.
والدليلُ على أن هذا الضَرْبَ انقطاعٌ أيضاً: أن المجيبَ
لَمَّا ابتدأ بالِإثباتِ، كان قد ضَمِنَ على نفسه تحقيقه،
والدَّلالةَ على صِحَّتِه، وبناءَ سائرِ الجوابِ عليه،
وملاءمةَ ما يُورِدُه بعده له، فإذا نفاه فقد عَجِزَ عن تصحيح
ما ضَمِنَه من ذلك على نفسه، وافتقرَ إلى نَقْضِه عند الِإياسِ
من صحَّته.
وصاحبُ هذا الضَّرْب أحسنُ حالًا من المُباهِتِ؛ لأن الرجوعَ
عن الباطل عند انكشافِه أحسَنُ من المكابرة، والرجوعُ الى حقِّ
حَسَنٌ جميلٌ، ولا عَيْبَ في العجز عن نُصرةِ الباطلِ، كما لا
عَيْبَ في الرجوع عنه، بل شائنةُ العيبِ الشروعُ في نُصرتِه.
والضَّرْبُ الرابعُ: الانتقال عن الاعتلال بشيءٍ إلى الاعتلال
بغيره.
والدَّلالةُ على أن هذا الضربَ انقطاعٌ: أن المُعتَلَّ إذا
ابتدأَ بعِلَّةٍ، فقد ضَمِنَ على نفسه تصحيحَ مذهبِه بها وبما
تَفرَّعَ منها، وذلك أنه لم يَعتَلَّ بها إلا وهي عنده صحيحةٌ
مُصحِّحه لِمَا اعتلَّ له، فإذا انتقلَ عنها إلى غيرها، فقد
عَجِزَ عن الوفاءِ بما وعدَ والإِيفاءِ لِمَا ضَمِنَ، وافتقرَ
إلى غيرها لتقصيرِه عما ظنَّه بها.
فإن قيل: فقد انتقلَ إبراهيمُ -عليه السلام- من عِلَّةٍ إلى
غيرها وكان في مقامِ المُحاجَّةِ كما أخبر اللهُ سبحانه عنه
(1)، وبهذا تعلَّقَ مَنْ
__________
(1) وذلك في قوله تعالى في سورة البقرة، [الأية: 258] {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ
آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي =
(1/503)
رَاى أن الانتقالَ من دليل إلى غيره ليس
بانقطاع ولا خروجٍ عن مقتضى الجِدالِ والحِجاجِ.
قيل: لم يكُ انتقالُه للعجز؛ لأنه قد كان يَقدِرُ أن يُحقِّقَ
مع نُمْرُودَ حقيقةَ الإِحياءِ الذي أرادَه؛ وهو إعادةُ الروحِ
إلى جَسَدِ المَيْتِ، أو إنشاءُ حَيٍّ من مَواتٍ، وأنَّ
الِإماتةَ التي أرادَها هي إزهاقُ النَّفْسِ من غير مُمارَسَةٍ
بآلةٍ ولا مُباشَرَةٍ، ويقولَ له: فإذا فعلتَ ذلك كنتَ مُحيياً
مُمِيتاً، أو فافعلْ ذلك إن كنتَ صادقاً، ومَعاذَ اللهِ أن
يُظَنَّ بذلك الكريمِ أنه أنشَأَ إلزاماً مع تأييدِه بالوَحْي
والرِّسالةِ، وما كان عليه من قُوَّةِ الاستدلالِ الذي أخبرَ
اللُّه به عنه لماَ جَنَّ عليه الليلُ وبحَثَ عن النُجومِ، وما
أفْضَى به الاستدلالُ بالتَّغييرِ والأفُولِ من الحكم عليها
بالحَدَثِ وإثباتِ مُحدِثِها (1)، ثم يتركُ ما أنشأهُ،
ويَعدِلُ عما ابتدأ به إلى غيره عجزاً عن استتمامِ النُصرةِ،
لكنَّه لما رأى نُمْرُودَ غبيًّا أو مُتغابياً بما كشفَه عن
نفسه من الإِحياءِ -وهو العفوُ عن مُستحِقِّ القتلِ
-والإِماتةِ- وهي القتلُ الذي يُساوِيهِ فيه كلُّ أهلِ مملكتِه
وأصاغر رَعِيَّتِه-، انتقلَ إلى الدليل الأوضحِ في باب تعجيزِه
عن دَعْواهُ فيه
__________
= وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}.
(1) وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام، [الأيات: 76 - 78]:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ
هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ
(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (78)}
(1/504)
المشاركةَ لبارئِه بحكم ما رأى مِنَ
الحالِ، فلم يُوجَدْ في حقِّه العجزُ عن إتمام ما بدأ به بخلاف
ما نحن فيه.
وإنما سمِّيَ انقطاعاً: لأن صاحبَه وقفَ قبلَ بلوغِ الغايةِ
التي ضَمِنَ على نفسه أو رامَ البلوغَ إليها، ومنه قالوا في
العاجزِ عن السَّيْرِ مع القافلةِ: مُنقطعٌ، فمتى وَجَدْتَ
العجزَ في كلام فَاحْكمْ على صاحبِه بالانقطاع.
وللسائل انقطاعٌ أيضاً (1): منه السكوتُ، ومنه الانتقالُ من
مسألةٍ إلى مسألةٍ، وهو نَظِيرُ انتقالِ المجيبِ مِن اعتلال
إلى غيره، وقد يكونُ أيضاً بحَمْلِ المجيب على المكابرة من غير
أن يَلزَمُه ذلك، وهو نظيرُ بَهْتِ المجيبِ.
وها هنا ضَرْب أذكرُة لك إن شئتَ أن تجعلَه خامساً، وإن شئتَ
فاجْعَلْه مُركَّباً وممزوجاً، وهو: تخليطُ السائل والمجيب،
اعنِي: إذا أتَى السائلُ بما ليس له، ودخلَ معه المجيب في
ذلكَ، وشرعَ في إجابته عما لا يَلزَمُه بحكم الجدلِ، وكل من
أَلجأَ فجادِلَه إلى التخليطِ فقد ظَفِرَ به، سواءٌ لا أَلجأَه
إلى الانتقالِ أو الِإمساكِ أو الشَّغْبِ [أو] إلى شيء مما
ذكرناه انقطاعا، والله أعلم.
__________
(1) انظر "الجدل على طريقة الفقهاء" ص 72.
(1/505)
فصل
في بيان الأمورِ التي كَثُرَ غَلَطُ أهلِ الحِجاجِ والجِدالِ
فيها.
وهو تمثيلُهم الحقَّ بباطلِ غيرهِم، واستشهادُهم على صوابهم
بخطإ غيرِهم، وهو قولُ الواحدِ منهم لصاحبهِ: قلتُ كذا ولم
أقلْ كذا، كما قلتَ أنت كذا ولم تَقُلْ كذا. ومُخالفُه عنده
مُخطِىءٌ (1) في امتناعه ممّا امتنعَ منه مع إطلاقِه لِمَا
أطلَقَهُ، فرُبَّما استعملُوا هذا في المعاني، فقال
مُتحذلِقُهم (2): أعتقِدُ كذا وكذا ولا ألزِمُ نفسي كذا، كما
اعتقدْتَ أيُّها الخصمُ كذا وإن لم تُلزِمْ نفسَك كذا. هذا
والخصمُ عنده قد تركَ بامتناعه ما يَلزمُهُ نفسَه نظيرُ ما
اعتقدَهُ، فكأنه يقولُ: قد أخطاتُ وتركتُ الواجبَ كما فعلتَ
أنت من ذلك، وكأنه أيضاً يقولُ: الدليلُ على صوابي فيما أصبتُ
فيه خطؤك فيما أخطأتَ فيه، وكأنه أيضاً يقولُ من وجهٍ آخرَ:
صوابي في ترك ما تركتُه واجتنابي ما اجتنبتُه، مثلُ خَطَئِك في
ترك ما تركتَه مع اجتنابك لنظيرِه، وكأنه أيضاً قال: الدليلُ
على صوابي في جنايَتِي خَطأُ فُلَانٍ في سَرِقَتِه. وكأنه
سَبَّهُ سابٌ باللِّواطِ، فقال له: وأنتَ أيضاً زانٍ، وإنما هو
إخبارٌ بأن المُعيِّرَ مشارِكٌ في مثل
__________
(1) في الأصل: "مخط".
(2) المُتحذلِقُ: المتكيِّس الذي يريد أن يزداد على قدره،
يقال: حَذْلَقَ الرجل وتَحَذْلَقَ: إذا أظهر الحِذْقَ وادَّعى
أكثر مما عنده. "اللسان" (حذلق).
(1/506)
ما عَيَّرَ به، وليس بحجةٍ في صواب ما
عِيبَ أو عِيبَ عليه.
فصل
من آداب الجدلِ (1)
اعلم أن تسليمَ الشيءِ يقومُ مَقامَ الإِقرارِ به فيما يوجبُه
الإِقرار من البناءِ عليه واستشهادهِ على غيره، لأن المُنكِرَ
لَما حالَ إنكارُه بينه وبين السؤال في فرعه، سَلمَه المقِر به
بتوَهُّمِه بذلك إلى ما يصل (2) إليه المُقِرُّ من المساءلةِ
في الفرع الذي أَقَر بأصله، وليس لتسليمه وجهٌ غير هذا،
فعامِلْهُ معاملةَ المُقِرِّ.
ومما يُبَيِّنُ ما قلنا: أنه لما سألَ في الفرع فمُنعِ
الجوابَ، وقيل له: الكلام بيننا وبينك في الأصل، فإذا صحَ
الأصلُ دَلَلْناكَ على صِحةِ فرعِه، وناظَرْناكَ حينئذٍ فيه.
قال عند ذلك: فإذا أُسَلَمُه ولا أطعُنُ فيه، فناظروني الآن في
فرعه؛ لِيَصِلَ بالتسليم إلى ما مَنَعهُ منك بالِإنكارِ،
والتسليم إقرار (3)، لأنه أقر على شَرْطٍ في الظاهر.
وتَتَّبعْ قولَ خصمِك: يجوز، ويمكِنُ، وُيتوهم، وُيقدَرُ عليه،
وُيراد، وُيكرَهُ، ويجوزُ لك، مما يَتعلقُ بغيره، فإن كان
توقفُه على غيره
__________
(1) انظر "علم الجذل في علم الجدل" ص 13 - 18 للطوفي، و"الفقيه
والمتفقه" 2/ 25 - 32، و"الجدل" لابن عقيل ص 2، و"أصول الفقه"
لابن مفلح 2/ 890، و"الكافية" ص 529 - 541، و"الإيضاح لقوانين
الاصطلاح" ص 42.
(2) في الأصل: "اتصل"، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) في الأصل: "إقرارا".
(1/507)
وتعلُّقُه به، وإلا فامنَعْهُ وعرِّفْهُ
أنه لا تجوزُ الأشياءُ بتوهمِه، وربما قال أحدُهم: يجوزُ إلا
أن يكونَ كذا، وليس من عَقْدِه أن ذلك المذكورَ قصدٌ يقعُ
التعويلُ عليه، فيصيرُ بمنزلة مَنْ قال: يجوزُ لا شيءَ. وهذا
فاسدٌ. وتعتقدُ ما يَتكلمُ به ويَلفِظُه تسليماً للتعبُّدِ
والِإجماعِ، وما يقولُه لصِحَّةِ معناه في القياس إذا لم يمنعْ
من العبارة عنه، وعَمِلْتَ على إجماعهم على صحَّةِ العبارةَ
الدالَّةِ على المعاني الحقيقيَّةِ وما يَصحُّ معناه، وقد جاءَ
التعبُّدُ بالمنعِ منه، ولا تَخلِطْ بعضَ ذلك ببعض، واردُدْ
كلَّ شيءٍ إلى أصلِه، فإذا الزِمْتَ نظيرَ القولِ الذي
مَطلَبُه للتعبُّدِ في دَلالتِه ومعناه، وعلى أوضاع اللُّغة
وفي قياسها، فلا تَبْنِ عليه، وقل: ليس إطلاقي لِمَا اطلَقْتُ
لِمَا شاركَهُ فيه القولُ الذي قابلتموه به، ولو كان كذلك لكان
الأمرُ أهَم، ولكن التعبُدُ فَقَطْ، فإن أوجدتموني هذه
العِلَّةَ في الآخَرِ، سَوَّيتُ بينهما في الِإطلاق، فإن
افترقا في عِلَّةِ الإِطلاقِ لأحدهما، لم يَجِب التسويةُ
بينهما في منعٍ ولا إطلاقٍ، وإن كانا قد استويا من وجهٍ آخرَ.
فأمَّا الآخران: فإن القياسَ إنما يعملُ في إيجاب اعتقادِ
المعاني فقط، وإذا صحَّ معناهما في القياس وجبَ اعتقادُهما،
واللغةُ والعبارةُ لا يعملُ فيها القياسُ، لأنها أوضاعٌ
وعلاماتٌ لا تقعُ مواضِعَها لأَعْيانِها كما تقعُ المعاني
مواقعَها لأنفسِها، ولكنْ بالرِّضا والتخيُّرِ والاصطلاح، ولو
قَلَبْتَ ذلك في باب الأسماءِ لانقلبتِ العلاماتُ ودَلالتُها.
(1/508)
فصول
وصايا في الجدل
قال العلماءُ (1): واحذَرِ الكلامَ في مجالس الخوفِ، فإن
الخوفَ يُذهِلُ العقلَ الذي منه يَستمِدُّ المُناظِرُ
حُجَّتَه، ويستقي منه الرأيَ في دفع شبهاتِ الخصم، وإنما
يُذهلُه ويَشغَلُه بطلبه حِراسةَ نفسِه التي هى أهم من مذهبهِ
ودليلِ مذهبهِ، واجتَنِبْ مكالمةَ من تخافُ فإنها مميتةٌ
للخواطر، مانعةٌ من التَثبُّتِ (2).
واحْذَرْ كلامَ من اشتدَّ بغضُك إياه فإنه داعية إلى الضَّجَرِ
والغضب من قليلِ ما يكونُ منه، والضجرُ والغضبُ مُضيِّقٌ
للصدور، ومُضعِفٌ لقُوَى العقولِ.
واحذرِ المحافلَ التي لا إنصافَ فيها في التسويةِ بينك وبين
خصمِك في الإِقبالِ والاستماع، ولا أدبَ لهم يمنعُهم من
التسرُعِ إلى الحكم عليك، ومن إظهار العصبيةِ لخصمك.
والاعتراضُ يُخلِقُ الكلامَ، وُيذهِبُ بهجةَ المعاني بما
يُلجِىءُ إليه من كثرة التَّردادِ، ومَنْ تركَ التَردادَ مع
الاعتراضِ، انقطعَ كلامُه، وبَطَلَتْ معانيه.
واحذر استصغارَ الخصمِ، فإنه يمنعُ من التحفُظِ، وُيثبِّطُ عن
__________
(1) انظر "الكافية" ص 530 - 531:
(2) في الأصل: "التثبيت"، والجادة ما كتبناه، وهو الموافق لما
في "شرح الكوكب المنير" 4/ 387، فإنه نقل هذا المبحث عن ابن
عقيل إلا الفقرة الأخيرة منه.
(1/509)
المبالغةِ، ولعل الكلامَ يُحكى، فيَعتدُّ
عليك بالتقصير.
واحْذَرْ كلامَ من لا يفهمُ عنك؛ فإنه يُضْجرُك وُيغضِبُك، إلا
أن يكونَ له غَريزيَّةٌ صحيحةٌ، ويكونَ الذي بَطَّأَ به عن
الفهم فَقْدُ الاعتيادِ، فهذا خليلٌ مُسترشِدٌ تُعلِّمُه، وليس
بخصمٍ فتُجادِلَه وتُنازِعَه.
وقَدرْ في نفسك الصَّبرَ والحِلْمَ (1) لئلا تَستفِزَكَ
بغَتاتُ الإِغضاب، فلو لم يَكُنْ في الحِلْمِ خاصَة لها
يُجتلَبُ، لكانت مَعُونتُه (2) علَى المناظرة تُوجِبُ إضافتَه
إليها.
ومع هذا فليس يَسلَمُ أحدٌ من الانقطاع إلا مَنْ قَرَنَهُ
اللهُ -جلَّتْ عظمتُه- بالعِصْمَةِ من الزَّلَلِ، وليس حَد
العالِمِ بأن يكونَ حاذِقاً بالجدلِ، فالعلمُ صناعة، والجدلُ
صناعة، إلا أنه (3) مادةُ الجدَلِ، والمًجادِلُ يحتاجُ إلى
العالِمِ، والعالِمُ لا يحتاجُ في علمه إلى المُجادِلِ كما
يحتاجُ المُجادِلُ في جَدلِه إلى العالِمِ.
وليس حدُّ الجدلِ بالمجادلةِ أن لا ينقطعَ المُجادِلُ أبداً،
ولا يكونَ منه انقطاعٌ كثير (4) إذا كَثُرَتْ مجادلتُه، ولكنَ
المُجادِلَ من كان طريقُه في الجدل محموداً وإن نالَهُ
الانقطاعُ لبعض الآفاتِ التي تَعرِضُ.
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "الحكم".
(2) في الأصل وفي "شرح الكوكب المنير" 4/ 389: (معونة).
(3) في الأصل والمرجع السابق 4/ 389: "أن".
(4) في الأصل: "كثيراً".
(1/510)
واعلم أني لم أرِدْ بقولي أهلَ النَظَرِ
المُتكلِّمينَ في عصرنا هذا، فإنما الكلامُ على صفةٍ
متقدِّمةٍ، ولَئِنْ حَفِظْتَ وصيتي في ترك استعمالِ ما وصفتُ
لك في هذا الباب إلا مع أهلِه، بل وصِيةَ المسيحِ عليه السلام
السابقةَ لوصيتي؛ إذ يقولُ: لا تَبذُلُوا الحِكمةَ لغير أهلِها
فتَظلِمُوها، ولاتَمنعُوها من أهلها فتَظلِمُوهم، ليَطُوَلنَّ
صمتُك حتى تُضافَ إليه، ويزولَ عنك اسمُ الكلامِ. اللهم إلا أن
تُحدَثَ قومَ سَوْءٍ ممن غَلَبَ على الكلام في هذا العصرِ.
فصل جامع
لقوانينِ الجدلِ وآدابِه
اعلم أن الجدلَ: هو الفَتْلُ للخصمِ عن المذهب بالمحاجَّةِ
فيه، ولا يخلو أن يُفتَلَ عنه بحجَّةٍ أو شُبْهةٍ، فأمَّا
الشَغْبُ فليس مما يُعتقَدُ به مذهبٌ.
ولا يخلو من أن يكونَ فَتْلاً على طريقة السؤالِ، أو على طريقة
الجواب، وطريقةُ السؤالِ: الهدمُ للمذهب، كما أن طريقةَ
الجوابِ: البناء للمذهب، لأن على المجيبِ أن يَبْنِيَ مذهبَه
على الأصول الصحيحة، وعلى السائل أن يُعجِزَهُ عن ذلك، أو عن
الانفصال عما يَلزَمُهُ عليه من الأمور الفاسدةِ، فأحدُهما
مُعجِزٌ عن قيام الحُجةِ على المذهب، والآخرُ مُبينٌ لقيام
الحجَّةِ عليه، وذلك مما يَدَّعيه كلُّ واحدٍ إلى أن يظهرَ ما
يوجبُ استعلاءَ أحدِهما على الآخر بالحُجةِ.
وكلُّ جدلٍ فإنما يُحتاجُ إليه لأجل الخلافِ في المذهب، ولو
ارتفع الخلافُ لم يَصِحَّ جدلٌ، وذلك أن السائلَ إذا لم يكنْ
غرضُه
(1/511)
فتلَ المجيب عن مذهبه فليس سؤالُه بسؤال
جدلٍ، وكذلك المجيبَ إذا لم يكن غرضُه فتلَ السائلِ عن مذهبه
لم يكُنْ جوابُه جدلًا، ولا بُدَّ من مذهبِ يختلفان فيه،
فيكونُ أحدُهما فيه على الإِيجاب والآخرُ على السَّلْب،
كاختلاف اثنين في الاستطاعةِ: هل هي قبلَ الفعل أو مع الفعل؟
فإذا تكافأَ الخصمان في القُوَّةِ على الجدل، ثم استعلى
أحدُهما على الآخرِ، دَلَّ ذلك على قُوَّةِ المذهب؛ لأنه لا
يبقى للرجحانِ وجهٌ من طريق القُوَّة، إذ قد فَرَضْنا
تساويهماَ فيها، فلا يبقى للرُّجحان وجهٌ سوى قُوَّةٍ تعودُ
إلى المذهب، لأنهما قد استويا فىِ كلِّ شيءٍ إلا أن أحدَهما
ينصرُ المذهبَ والآخرَ يَطعُنُ عليه، فلولا تَرجحُ الحال من
جهة قوةِ المذهب لأحدهما وضعفِه من جهة الآخَرِ لتكافآ في ذلك،
وما ذلك إلا بمثابةِ ميزانٍ سُوِّيَ بين كَفَتَيْهِ، وعُدِّلَ
عمودُه، ولم يَبْقَ فيه عَيْن (1) ولا مَيْل، متى وُزِنَ به
فرَجَحَ إحدى (2) كفَّتَيْهِ، لم يَبْقَ للرجحان وجهٌ سوى
ثِقَلِ الموزونِ الذي رجحَ على المقابِل له، وعلى هذا جميعُ
المُتكافِئاتِ لا وجهَ للترجيح بينها، حتى سمعتُ بعضَ
الأئمَّةِ في الأصول والحقائقِ يقولُ: لو أَن شعرةٌ بين اثنين
يتجاذبانِها، بيد كلِّ واحدٍ طرفٌ منها وقُواهما متكافئة ما
انقطعت، ولا ينبغي انقطاعُها إلا إذا كان أحدُهما أرجحَ
قُوَّةً.
وقال آخرٌ: لو أن طَبَقاً فيه رُطَبٌ خلقَه اللهُ تعالى
متساوياً من كل
__________
(1) العَيْنُ في الميزان: المَيْلُ، والعرب تقول: في هذا
الميزان عَيْنٌ: أي في لسانه مَيْل قليل، أو لم يكن متساوياً.
"اللسان" (عين).
(2) في الأصل: "أحد".
(1/512)
وجهٍ؛ لوناً ومَنْظَرَاً و (1) نوعاً
ونُضْجاً، فإنه لا تمتدُّ اليدُ إلى واحدة من الرطَب مع
يَقَظَةِ الدَّواعي والإِرادةِ، وإنما تمتدُ اليدُ إلى واحدة
مع الغَفْلةِ بَما يَجْري مَجْرى العَبَثِ، فإنَّ الفاعلَ لا
يُعينُ إلا لِعلَةٍ، والعلَّةُ لا تكونُ إلا مِيزَةً، وعَسَاهُ
لا يبقى إلا القربُ، فيأخذ بالأقرب (2) منه لعِلَّةِ القُربِ،
إذ لا بُدَّ أن يكونَ الرطَبُ على وجه يكونُ بعضُه إليه أقربَ
من بعضٍ، وإذا كانت المتكافئاتُ بهذه الصورةِ، لم يَبْقَ أن
يكونَ لترجيح كلامِ أحدِ المُتساوَييْنِ المَفْرُوضَيْنِ في
الجدلِ إلا لترجُّحِ المذهبِ الذي ينصرُه لا غيرُ.
وأصلحُ ما سمعتُه من ذكرِ الشَعْرَة والرُّطَب ما تأَمَّلْتُه
من نفسي، وهو إذا خرجتُ قاصداً لأمرٍ، فاعترضني القصَدُ لأمرٍ
آخرَ، فلا أزالُ أخطو نحوَ الأرجحِ عندي، فتَعرِضُ لي مساواةُ
الأمرين، فتُوقِفُني جبراً عن الحركة، أصابني ذلك عدَّةَ
دَفَعاتٍ، وهذا يُؤيِّدُ أن لا ترجيحَ مع التكافؤ والمساواة.
فأمَّا إذا كان أحدُ الخصمين أقوى في الجدل من الآخر، لم
يَكُنْ في استعلاءِ الأقوى دليلٌ على قُوَةِ مذهبهِ، ولكنْ لو
اسْتَعْلى الأضعفُ على الأقوى لاقتضى ذلك قُوَةَ مذهبهِ لا
غيرُ؛ إذ كان ظهورُه وترجُّحُه أقوى في بيانِ قُوَّةِ مذهبهِ
(3) من ظهور المساوي.
وكلُّ مُتجادِلَيْنِ فلا بُدَّ من أن يكونَ الحق مع أحدِهما
دونَ الآخَر؛
__________
(1) في الأصل: "أو" والأحسن ما أثبتناه.
(2) في الأصل: "بأقرب".
(3) في الأصل: "مذهب" دون هاء الضمير.
(1/513)
إذْ لا يجوزُ أن يكونَ الحقُّ في إيجاب
الشيءِ وسَلْبِه، ولا في أن القولَ عليه صدقٌ والقولَ عليه
كذبٌ؛ لأن ذلك متناقض، ولا يصحُّ [إلا] أحدُ النقيضين دونَ
الآخرِ، إلا أنه يجوز أن يكونا جميعاً قد عدَلا عن طريقِ
الحُجَّةِ، ويجوزُ أن يكونَ عليها أحدُهما، ولا يجوزُ أن يكونا
عليها جميعاً؛ لأنه لا حُجَّةَ على الباطل.
وكلُّ جدلٍ فإنه ينبغي أن يُتحرَّزَ فيه من حيلةِ الخصمِ
بإخراج السائلِ عن سؤاله والمجيب عن جوابه، فإن لذلك وجوهاً
تَلْطُفُ، متى لم يتقدَّمْ في التحرُّزِ منها، حصلتِ المسألةُ
من غير جوابِ، والجوابُ من غير زيادةٍ إلا الإِيهامَ.
ومن التحرُزِ في ذلك: أن يَنظُرَ السائلُ، فإن كان المسؤولُ قد
أتى بمعنى الجوابِ محقَّقاً أو غيرَ محقَقٍ، كان له أن
يُكلِّمه عليه ويُحاجَّه فيه، وإن لم يكُنْ أتى بمعنى الجواب
طالبَه بذلك، وبَيَّنَ له أنه ليس يصحُّ أن يشرعَ في المُحاجةِ
دون أن يُظهِرَ الجوابَ، فأمَّا المسؤولُ يأتي بحديثٍ اَخرَ
ليس فيه معنى الجوابِ، فلا يصحُّ حِجاجٌ.
فأمَّا المجيبُ فينبغي له أن يتأملَ ما يعترضُ به السائلُ عن
جوابه، فإن كان فيه شُبهةٌ تتعلَّقُ بالمسألةِ وتَتَصلُ بها
أجابَ عنها، وإن أوردَ شبهةً، وافقَه على ذلك، وبَينَ له أنه
لم يأتِ بمُتعلَّقٍ يَستحِق جواباً.
وكلُّ ما يحتالُ به الخصمُ من غير جهةِ إخراجِ السائلِ عن
سؤاله، والمجيبِ عن جوابه، فالتَّحرُّزُ منه أسهلُ من التَحرزِ
عن هذين الوجهين.
(1/514)
وكلُّ جدلٍ فإنه لا بُدَّ فيه من علم
الاختلافِ في المَقالةِ وما يَعتمدُ عليه المُخالِفُ للحقِّ من
الشبهةِ، أما المقالةُ: فلِتَتمكَّنَ من كسرِها، ولا سبيلَ لك
إلى ذلك من غير أن تعلمَ ماهِيَّتها، وأما الشبهةُ: فلِتُداوي
صاحبَها من الوجه الذي قد دخلت عليه البَلِيَّةُ فيها؛ لأن
مثلك في ذلك مثلُ الطبيبِ الذي يُعابُ بما يَصلُحُ من الدواء.
وأولُ كلِّ جدلٍ: الاختلافُ في المقالة، وتحقيقُه: أن يكونَ
أحدُ الخصمين فيه على المُوجِبةِ والآخرُ على السَّالبةِ، فإذا
ظهرَ الخلافُ وقعَ الحِجاجُ بعدَه على طريقة السؤالِ والجواب،
والسائلُ مُخيرٌ أن يْلزِمَ خصمَه ليُعجزَهُ عن الانفصالِ، أو
يسألَهَ ليُعجزَهُ عن إقامةِ البرهانِ.
وكلُّ جدلٍ فإن الجوابَ فيه لا يخلو أن يكونَ مما يقعُ في
مثلهِ الخلافُ، أو يكونَ ليس مما يقعُ في مثله الخلافُ، فإن
كان ليس مما يقعُ في مثله الخلافُ، سقطتِ المطالبةُ بِلمَ
وبالِإلزام من الوجه الذي لا يقعُ في مثله الخلافُ، وإن كان
مما يقعُ في مثله الَاختلافُ، فلا (1) يخلو أن يكونَ مما
يقتضيه العقلُ، أو ليس مما يقتضيه العقلُ، فإن كان مما يقتضيه
العقلُ، سَقَطَتِ المطالبةُ فيه بلمَ، وبقيت المطالبةُ
بالإِلزام، وإن كان مما يقعُ فيه الاختلافُ وليس يقَتضيه
العقلُ، ساغت المطالبةُ فيه بلِمَ وبالإِلزامِ، فتدَبَّرْ هذا
فإن عليه (2) مدارَ الأمرِ في الجدل.
__________
(1) في الأصل: "ولا"، والأنسب ما كتبناه.
(2) في الأصل: "علته".
(1/515)
وكلُّ جدلٍ يقعُ فيه ظلمُ الخصمِ فإنه
يَختلُّ بحَسَب قُوَةِ ذلك وضعفِه، وذلك أن ظلمَ الخصمِ يكسرُ
من نفسه، أوَ يُزيلُه عن طريقته، فينبغي أن يُحتَرَزَ منه؛ إذ
كان انكسارُ النَّفسِ يُميتُ الخاطرَ، ويقطعُ عن بلوغ الآخِرِ،
والزوالُ عن الطريقِ يُخرِجُ عن الاعتمادِ، ومن عُرِفَ من
عادته ظلمُ خصمهِ فليس ينبغي أن يُكلمَ إلا أن يرجعَ إلى
الإِنصاف، أو يَدْفَعَ إلى ذلك حالٌ، فيُحترَزَ منه غايةَ
الاحْتراز.
وأدبُ الجدلِ: استعمالُ ما يَحسُنُ فيه:
أما في السؤال والجواب: فبضَبْطِ حدودِ كلِّ واحدٍ منهما،
وتَبينِ وجوهِه، ولزومِ سُنَتِه، وقد مضى ذلك في أبوابِه.
وأما في معاملة الخصم: فبالتَوفِيَةِ لحقَه، والتجنُّب
لظُلمهِ، ولا بُدَّ في ذلك من علم الأبوابِ التي تَقدَمَتْ،
وما يجبُ استَعمالُه فيها، وما لايَحسُنُ مما يَحسُنُ.
وآدابُ الجدلِ تُزينُ صاحبَها، وتركُ الأدبِ يَشينُه، وليس
ينبغي أن يَنظُرَ إلى ما يَتَفقُ لبعضِ من تركَه من الحُظْوةِ
في الدنيا، فإنه إن كان رفيعاً عند الجُهَّالِ، فإنه ساقطٌ عند
ذوي الألبابِ.
وبكلِّ (1) حالٍ فإنه لا يصلُح الاستبقاءُ على الخصمِ إذا
ابتدأَ بما يَتموَّهُ أنه سؤالٌ أو جوابٌ، وأما إن أتى بما لا
يَتموَّهُ مثلُه، فليس على خصمه استماعُه، وذلك إذا أخذَ في
السبابِ وما جَرَى مَجْرى ذلك من التخليطِ الذي لا يُشْكِل على
عاقلٍ أنه ليس من السؤال والجواب في شيء، ومثلُه في ذلك مثلُ
مَنِ ابتدأَ في إنشادِ الشَعرِ على طريق الاستشهادِ، وابتدأَ
__________
(1) في الأصل: (وكل).
(1/516)
في شيء من أخبار الزمانِ وتَصرُّفِ
الأحوالِ الذي لا يَشتبِهُ على عاقل أنه ليس من السؤال والجواب
في شيءٍ.
وكلُّ جدلٍ لم يَكنِ الغرضُ فيه نصرةَ الحقِّ فإنه وبالٌ على
صاحبه، والمَضرَّة فيه أكثر من المنفعة؛ لأن المخالفة تُوحِشُ،
ولولا ما يلزمُ من إنكار الباطلِ، واستنقاذِ الهالكِ بالاجتهاد
في رَدِّه عما يَعتقِده من الضلالة، وينطوي عليه من الجهالةِ،
لَمَا حَسُنَتِ المجادلةُ، لِمَا فيها من الإِيحاشِ في غالب
الحالِ، ولكن فيها أعظمُ المنفعةِ وأكثرُ الفائدةِ إذا قَصَدَ
بها نُصْرةَ الحقِّ، وإنكارَ ما زَجَرَ عنه الشرعُ والعقلُ
بالحُجَّةِ الواضحةِ والطريقةِ الحَسَنِةِ.
فصل
ومن آداب الجدلِ: أن يجعلَ السائلُ والمسؤولُ مَبْدأَ كلامِه
حَمْدَ اللهِ والثناءَ عليهَ، فإن كلَّ أمْرٍ ذي بالٍ لم
يُبْدَأْ فيه باسم اللهِ فهو أبْتَر (1)،
__________
(1) ورد هذا حديثاَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أخرجه السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" 1/ 12 من طريق الخطيب
البغدادي، بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن
الرحيم فهو أقطع". وفي سنده: أحمد بن محمد بن عمران، أبو الحسن
النهشلي، ويعرف بابن الجندي، مضعف ورماه ابن الجوزي بالوضع،
انظر "تاريخ بغداد" 5/ 77، و "لسان الميزان" 1/ 288.
وأخرجه أحمد 2/ 359، وأبو داود (4840)، وابن ماجه (1894)،
والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (494)، وابن حبان (1) و (2)،
والدارقطني 1/ 229، و 3/ 208 - 209 عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "كل =
(1/517)
ويجعلا قصدَهما أحدَ أمرين، وَيجتهِدا في
اجتنابِ الثالث:
فاعلى الثلاثةِ من المقاصد: نُصْرةُ الحق ببيان الحُجةِ،
ودَحْضُ الباطلِ بإبطالِ الشُبْهةِ؛ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي
العُليا.
والثاني: الإِدمانُ للتقَوِّي على الاجتهاد، والاجتهادُ من
مراتب الدِّينِ المحمودةِ (1)، وهي رتبةُ الفُتْيا (2).
فالأولى: كالجهادِ، والثانيةُ: كالمُناضَلةِ (3) التي يُقصدُ
بها التَقَوِّي على الجهادِ.
ونعوذُ بالله من الثالثِ، وهو: المُغالبَةُ وبيانُ الفَراهةِ
على الخصمِ والتَرَجُّحِ عليه في الطريقةِ، ومِنَ اللهِ
نستمِدُّ الإِعانةَ على طلب ما يُوافِقُ الشَرعَ، وُيطابِقُ
الحق، وهو حَسْبي ونِعْمَ الوكيلُ.
فصل
وإذا كان أحدُ الخصمين في الجدل حسنَ العبارةِ، والأخرُ
مُقصِّرا عنه في البلاغة، فربما أدْخَلَ ذلك الضَّيمَ على
المعاني الصحيحةِ.
والتدبيرُ في ذلك: أن يَقصِدَ إلى المعنى الذي قد رَتَبَه
صاحبُه بعبارته عنه، فيعبِّرَ عنه بعبارة أخرى تدل عليه من غير
تزيينٍ له، فإنه يظهرُ
__________
= أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع". وورد عند أحمد:
"بحمد الله أو بذكر الله". ولا يصح موصولًا، والصواب ارساله عن
الزهري.
(1) في الأصل: "المحمود".
(2) رسمها في الأصل هكذا: "النسا"، ويترجح لنا أن صوابها كما
أثبتنا في المتن.
(3) ناضله مناضلة ونضالًا: باراه في الرمي."اللسان" (نضل).
(1/518)
في نفسه وَيبِينُ العُوارُ (1) الذي فيه،
وينكشفُ عند الحاضرين التَمويهُ الذي وقعَ به.
وكذلك إذا أردْتَ أن تمتحنَ معنىً قد أتى به بليغٌ، فانْقُلْه
إلى غير تلك العبارةِ، ثم تأمَّلْه، فإن كان حسناً في نفسه
فإنه لا يُبطِلُ حُسْنَه نقلُه من عبارة إلى عبارة، كما لا
يُبْطِلُ حُسْنَه نقلُه من الفارسيَّةِ إلى العربيَّةِ، وإذا
كانت عبارةُ السائلِ أو المُستدِلِّ تَقصُرُه عن تحقيق
الحُجَّةِ والشُبهةِ، وكان خصمُه قادراً على إخراجها إلى عبارة
ينكشفُ بها قُوَّةُ كلامِه، فينبغي أن يُخرِجَها بعبارته إلى
الِإيضاح، فإن اتَّضَحَ فيها الحقُّ اتَّبَعَه، وإن كان ذلك
شُبهةً بعد إيضاحها زَيَّفَه (2) وأبطَله.
وإذا كان أحدُ الخصمين في الجدلِ قد أخطأ في بعض المذاهب،
فاحذَر الاغترارَ بذلك، فإنه ليس في خطئه في مذهب دليلٌ على
أنهَ قد أخطأ في مذهب آخرَ، كما ليس في كذبه في خبر دليلٌ علىِ
أنه قد كذبَ في خبر آخرَ أَخْبَرَ به، فلا تَلتَفِتْ إلى
التَّمويهِ بأن بعض مذاهبِ فلانٍ يَتعلقُ ببعض، فإن فسدَ واحد
منها (3) فسدَ جميعُها، فإن ذلك يَحملُك على التخطئة بغير
بصيرةٍ لِمَنْ لعلَّه أن يكونَ مصيباً فيما أتى به، فاعْتَبِرْ
ذلك، ولا تَتَكِلْ على مثل هذا المعنى، ولكِنْ إذا كَثُرَ
خطؤه، أوجبَ ذلك تُهْمَةً لمذهبه، وقِلَّةَ سكونٍ إلى اختياره،
من غير أن يُحصِّلَ ذلك دليلًا على فسادِه لا مَحَالَةَ.
__________
(1) العُوار -مثلثة العين-: العيب. "القاموس المحيط" (عور).
(2) أي أظهر زَيْفَه ورَدَّه، من قولهم: زَيف الدراهم تزييفاً:
إذا أظهر زَيْفها، ورَدَّها لِغشٍّ فيها." المصباح المنير"،
و"اللسان" (زيف).
(3) في الأصل: "منهما" على التثنية.
(1/519)
وإذا كان الخصمُ معروفاً بالمُجُونِ في
الجدلِ، وقلةِ الاكتراث بما يقولُ وما يقالُ له، ليس غَرَضُه
إقامةَ حُجَّةٍ ولا نُصْرةَ ديانةٍ، وإنما يريدُ المطالبة
والمباهاةَ، وأن يقالَ: علا قِرْنَه وغلبَ خصمَه أو قطعَ
خصمَه، فينبغي أن يُجتنَبَ وتُحذرَ مكالمتُه، فليس يحصُلُ
بمناظرته دينٌ ولا دنيا، وربما أوْرَدَ على خصمه ما يُخجِلُه
ولا يستحسنُ مكافأته عليه، فينقطِعُ في يَدِه، ويكونُ في
انقطاعه فِتنةٌ لِمَنْ حضرَه.
وإذا كان الغرضُ بالجدل إدراكَ الحقِّ به، وكان السبيلُ إلى
ذلك التثبُّتَ والتأمَّلَ، وجبَ على كلُّ واحدٍ من الخصمين
استعمالُهما، وإِلا حصلا على مجرَّدِ الطلب مع حِرمانِ
الظفَرِ، وحاجةُ كلِّ واحدٍ من الخصمين إلى التَّنبُّهِ على
مَا يأتي به صاحبُه كحاجة الأخرِ إلى ذلك، قال بعض العلماءِ في
هذا الشأنِ: العقلُ أطولُ رَقْدَةً من العَيْنِ، وأحْوَجُ إلى
الشحْذِ (1) من السيفِ، وقد أحسنَ التشبيهَ؛ لأن العقلَ يحصُلُ
به دَرْكُ الحقَّ كما يُدرَكُ بالعين الشخصُ، إلا أن حاجةَ
العقلِ إلى التَّنبيهِ على الحقَّ أشدُّ من حاجة العين إلى
التَنبيهِ على الشخص، ولربَّما أيقظَ العينَ من رَقْدَتِها
لَكْزَةٌ (2) أو كَلمةٌ تُوجِبُ اليَقَظةَ بسرعة، والعقلُ
يحتاجُ في تنبيهه إلى عمل، وهو تخليصُ نظَرِه (3) من آفاتِ
النَظرِ المُعترِضةِ.
__________
(1) الشحْذُ في الأصل: التحديد، يقال: شَحَذَ السكَين والسيف
ونحوهما يَشحَذه شَحْذاً: أحَدَّه بالمِسَنِّ وغيره مما
يُخرِجُ حده. "اللسان" (شحذ).
(2) اللَّكْزُ: هو الضرب بجمْعِ اليد -أي قبضتها- في جميع
البدن، أو في الصدر والعنق. "اللسان" (لكزا).
(3) في الأصل: "نظيره".
(1/520)
فالجدلُ يَشحَذُ ويُرهِفُ وُيثيرُ
الخواطرَ، وُيخرِجُ الدقائقَ، وكلُّ ذلك آلةٌ لِإدراك العقلِ
للحقِّ، فاذا كان لا سبيلَ إلى حَلِّ شُبهةِ الخصم في الجدل
إلا بعد إدراكِها، فلا بُدَّ لخصمه من التَّأمُّلِ لِمَا يأتي
به، فإن وقعَ له معنى الشُّبهةِ تمكَنَ من كَسْرِها بما
يُدخِلُ عليها من الفساد الظاهرِ والبيانِ القاهرِ، وإن لم
يَقَعْ له، راجعَه في ذلك إلى أن يستقِرَّ الأمرُ على إظهار
أنه قد أوردَ ما يَحتاجُ إلى حَل، أو لم يُورِدْ ذلك، فيكونُ
كلامُه أو إمساكُه بحَسَب ما يَظهرُ من الحال، فهذه طريقةُ (1)
الِإنصافِ، والتي يحصُلُ له ولخَصمه بها الانتفاعُ.
وإذا كان الصَبرُ على شَغْبِ السائلِ في الجدل فضيلة،
والحِلْمُ عن بادِرَةٍ (2) إن كانت منه رِفْعَةً، فينبغي لمن
أحَبَّ اكتسابَ الفضائل أن يستعمِلَ ذلك بحَسَب علمِه بما له
فيه من الحَظ الجزيلِ والمَحَل الجليلِ، وليس يُنقِصهَ
الحِلْمُ إلا عند جاهلٍ، ولا يَضَع منه الصَبرُ على شَغْب
السائلِ إلا عند غبِيٍّ يَعتقِدُ أن ذلك من الذُلَ والركاكةِ
(3) وانْخِساسِ النَّفْسِ.
وقُصورُ اللسانِ في الشَغْب هو الفَضْلُ، فإن مَنْ خاضَ فيه
تعوَّدَه، ومن تَعودَه حُرِمَ الِإصابةَ واسْتَرَوَحَ إليه،
ومَنْ عُرِفَ بذلك سقطَ سُقوطَ الذَّرَّةِ، ومن صَبَرَ على ذلك
وحَلُمَ عنه، ارتفعَ في نفوس العلماءِ، ونَبُلَ
__________
(1) في الأصل: "فهذا طريقه".
(2) قال في"اللسان" (بدر): البادرة: الحِدَّةُ، وهو ما
يَبْدُرُ من حِدَّةِ الرجل عند غضبه من قول أو فعل، وبَدَرَتْ
منه بوادر غضب: أي خطأٌ وسَقَطاتٌ عندما احتدَّ، والبادرة من
الكلام: التي تَسبِقُ من الإنسان في الغضب.
(3) الرَّكاكةُ: الضعف. "القاموس المحيط" (رك).
(1/521)
عند أهلِ الجدلِ، وبانَتْ منه القُوَّةُ
على نفسه حيثُ منعَها المقابلةَ على الجفاءِ بمثله، والقُوًّةُ
على خصمه حيثُ أحوَجَه إلى الشَّغْب، لا سِيَّما إذا ظهرَ منه
أنه فعلَ ذلك حِرْصاً على الإِرشاد إلى الحَق، ومَحبَّةً
للاستنقاذ من الباطل الذي أَثارَتْهُ الشُّبهةُ من الضلال
المُؤَدِّي بصاحبه إلى العَطَبِ والهلاكِ، فله بهذه النِّيَّةِ
الجميلةِ الثَّوابُ من ربِّه، والمِدْحَةُ من كلِّ مُنصِفٍ
حضرَه أو سَمعَ به.
وإذا كان المجلسُ مَجلِسَ عَصَبِيَّةٍ على أحد الخصمين
بالتخليط عليه، وقَل فيه التمكُّنُ من الِإنصافِ، فينبغي أن
يحذرَ من الكلام فيه، فإنما ذلك إثارةٌ للطباعِ وجَلْب
للإِفحاش، وُيفضِي إلى انقطاع القويِّ المُنصِفِ بما يتداخلُه
من الغضب والغَمِّ المانِعَين (1) له من صِحَّةِ النَّظَرِ
والصَّاديْنِ له من طريق العلم.
وكلُّ صناعةٍ فإن العلمَ بها غيرُ الجدلِ فيها، وذلك أن العلمَ
بها: هو المعرفةُ بجواب مسائلِ الفُتْيا فيها التي تُرَدُّ إلى
المُصادرَةِ لها، فأمَّا الجدل: فإنما هو الحِجاجُ في مسائل
الخلافِ منها، فالعلمُ صناعةٌ، والجدلُ صناعةٌ، إلا أن العلمَ
مادَّةُ الجدلِ، لأن الجدلَ بغير علمٍ بالحُجًةِ والشُّبهةِ
فإنما هو شَغْب، وإنما الاعتمادُ في الجدلِ على إقامةِ
الحجَّةِ أو حَلِّ الشُّبهةِ فيما وقعَتْ فيه مُخالفَةٌ.
وإذا كان الجدلُ قد صَدَّ عنه آفةٌ عرَضَتْ لبعض من هو محتاجٌ
إليه، فينبغي أن يعملَ في إزالة تلك الآمةِ؛ ليرتفعَ الصادُّ
عنه، وتظهرَ للنَّفْسِ الحاجةُ إليه ومقدارُ المنفعةِ به.
__________
(1) في الأصل: "المانع".
(1/522)
فمن الآفاتِ فيه: الشُبهةُ الداخلةُ على
النفس في تقبيحِه، أو أنه لا يُؤدِّي إلى حقٍّ، ولا يَحصُلُ به
نفعٌ.
ومنها: التقليدُ، والِإلْفُ، والعادةُ، أو النَّظرُ فيما عليه
الاسلافُ أو الآباءُ والأجدادُ.
ومنها: المَحبةُ للرئاسةِ، والميلُ إلى الدنيا والمفاخرةُ
والمباهاةُ بها، والتشاغلُ بما فيه اللَّذَّةُ وما يدعو إلى
الشَهْوَةِ، دون ما تُوجبُه الحُجَّةُ ويقضي به العقلُ
والمعرفةُ، فعلى نحوِ هذا من الأسباب تَكونُ الآفةُ الصارفةُ
عنه والموجبةُ منه.
وينبغي لمن عَرفَ هذه الآفاتِ أن يَجتهِدَ في نَفْيِها وما
شاكلَها، وَيتحرزَ منها ومن أمثالِها، فإن المضَرَّةَ بها
عظيمةٌ، فمن عرفَها وتَحرَّزَ منها، بَصُر رُشْدَه وامنَ
الزَّيغَ، نسألُ الله أن يُوفِّقَنا لصواب القولِ والعملِ
برحمتِه.
فصل
فيما يجبُ على الخصمين في الجدل (1)
اعلم أنه يجبُ لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبه مثلُ الذي يجبُ
للآخَرِ عليه: من الإِجمالِ في خطابه، وتركِ التَّقطيعِ
لكلامه، والإِقبالِ عليه، وتركِ الصِّياحِ في وجهه، والتَّأملِ
لِمَا يأتي به، والتجنُب للحِدَّةِ والضَّجرِ عليه، وتركِ
الحَمْلِ له على جَحْدِ الضَّرورةِ
__________
(1) هذا المبحث ذكر الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" 1/
394 - 392 أنه نقله عن "الواضح" لابن عقيل.
(1/523)
إلا من حيثُ يَلزَمه ذاك بمذهبه، وتركِ
الإِخراجِ له عن الحَدِّ الذي ينبغي أن يكونَ عليه في السؤال
أو الجواب، وتركِ الاستصغارِ له، والاحتقارِ لِمَا يأتي به،
إلا من حيثُ تُلزِمُه اَلحُجِّة إياه، والتَّنبيهِ (1) له عن
ذلك إن بَدَرَ منه، أو مُناقَضَة إن ظَهَرَتْ في كلامه، وألا
يُمانِعَه العبارةَ إذا أدَّتِ (2) المعنى وكان الغرضُ إنما هو
في المعنى دونَ العبارة، وأن لا يَخرُجَ في عبارته عن العادةِ،
وأن لا يُدخِلَ في كلامِه ما ليس منه، ولا يستعملَ ما يقتضي
التَّعدَّيَ على خصمه -والتَّعدِّي: خروجُه عما يقتضيه السؤالُ
والجوابُ -، ولا يَمنَعَه البناءَ على أصلِه، ولا يُشَنِّعَ ما
ليس يُشنَّعُ من مذهبه، أو ما يعوذ عليه من الشَّناعةِ مثلُه،
ولا يأخذَ عليه شرفَ المجلسِ للاستظهارِ عليه، ولا يستعملَ
الِإبهامَ بما يخرُجُ عن حَدِّ الكلامِ.
فصل
في الغضب الذي يَعْتَرِي في الجدل
اعلم أنه إذا دخلَ المُجادِلُ على توطين النَفسِ على الحِلْمِ
عن بادِرَةٍ إن كانت من الخصمٍ، سَلِمَ من سَوْرةِ (3)
الغَضَب، واعلم أن تلك البادرةَ لا يخلو أن تكون من رئيسٍ
تَعرفُ له فضلَه، أو نظيرٍ تَغفِرُ له زَلَله، أو وضيع ترفعُ
النفس عن مُشاغبتِه ومُقابلتِه، فإذا عَرَفْتَ ذلك
__________
(1) في الأصل وفي "شرح الكوكب المنير" 4/ 391: "التنبه".
(2) في الأصلى: "أردت"، وصححناها كما في المتن، وهو الموافق
للمثبت في "شرح الكوكب المنير" 4/ 392.
(3) سَوْرَةُ الغضب: حِدَّته ووثوبه. "اللسان"، و "مختار
الصحاح" (سور).
(1/524)
وَوطَّنْتَ (1) النفسَ عليه، سَلِمْتَ من
سَوْرَةِ الغضبِ.
واعلم أن في الغضب ظَفَرَ الخصمِ إذا كان سفِيهاً، والغالبُ
بالسَّفَه (2) هو الأسفهُ، كما أَن الغالبَ بالعلم هو الأعلمُ،
ولو لم يَكُنْ من شُؤْم الغضب إلا أنه عزلَ به عن القضاءِ،
فقال الشارعُ عليه السلام: "لا يقضيَ القاضي حين يقضي وهو
غضبانُ" (3)، [لكفى] (4).
وكما أن القاضيَ يحتاجُ إلى صَحْوٍ من سُكْرِ الغضب، يَحتاجُ
المناظرُ إلى ذلك؛ لأنهما سواء في الاحتياج إلى الاجتهاد،
وأداةُ الاجتهادِ العقلُ، ولا رايَ لغضبانَ، فيعودُ الوَبالُ
عليه عند الغضبِ بارتجاجِ طُرُقِ النظَرِ في وَجْهِهِ، وضلالِ
رَأيِه عن قَصدهِ.
فمن أوْلى الأشياءِ: التحفُّظُ من الغضب في النَّظَر والجدلِ؛
لِمَا فيه من العَيْب، ولأنه يَقطَعُ عن استيفاءِ اَلحُجَّةِ،
والبيانِ عن حَلِّ الشبهةِ.
__________
(1) في الأصل: "وطنت" دون واو العطف.
(2) في الأصل: "في السفه".
(3) أخرجه أحمد 5/ 36 و38 و46 و 52، والبخاري (7158)، ومسلم
(1717)، وأبو داود (3589)، وابن ماجه (2316)، والترمذي (1334)،
والنسائي 8/ 237 - 238 و 247، وابن حبان (5063) و (5064) من
حديث أبي كرة نفيع بن الحارث الثقفي.
(4) ليست في الأصل.
(1/525)
فصل
[ي التَّقطيعِ (1) على الخصم (2)]
في التقطيعِ على الخصم في الجدل خروجٌ عن حكم الجدلِ؛ إذ كان
لا سبيلَ له إلى فهم الشُبهةِ ليَحُلَّها والحُجَّةِ ليصِيرَ
إليها إلا بالفهم، والتقطيعُ مانعٌ من الفهمِ والتَّفهُمِ، فلا
ينبغي أن يَشغَلَه عما لاغنى له (3) عنه، كما لا يجوزُ له أن
يُشَعِّثَ (4) عليه أداةً من أدواتِ كلامِه، وهو دونَ الفهمِ،
فأوْلى أن لا يُشَغَثَ أداة الفهمِ.
فصل
في المُحببِ الكلام بحَضْرَتِه
اعلم أنه لا ينبغي أن يُتكلَمَ في الجدل بحضرةِ مَنْ دأبُه
التَلَهَي والهزْءُ والتَشفَي لعداوةٍ بينه وبين الخصمِ، ولا
إذا كان مُتحفَظاً للمساوىءِ مُترصِّداً لها، والتحريف للقول،
والتزيدُ فيه بما يُفسِدهُ، والمُباهَتَةُ، فإن الكلامَ مع هذا
وبمحْضَرٍ (5) منه، يُعرِّضُ للهُجنَةِ (6) والخروجِ عن
الطريقة والدِّيانةِ، ومتى لم تَكنِ المجالسُ مُحتشِمةِ تُقصِي
سَفَهَ السفِيهِ وإدغالَ المُدغِلِ (7)؛ كَثُرَ الشَغْبُ
والتعدِّي،
__________
(1) أي مقاطعته، انظر "الكافية" ص 545 - 546.
(2) ليست في الأصل.
(3) في الأصل: "به".
(4) تَشْعِيثُ الشيء: تفريقه وتَنْكيثُه. "اللسان" (شعث).
(5) في الأصل: "وبمحض"، وهو تحريف.
(6) الهُجْنَة -بالضم- في الكلام: ما يَعِيبُهُ، والهُجْنَةُ
في العلم: إضاعته.
"القاموس المحيط" (هجن).
(7) الدَّغَلُ -بالتحريك-: الفساد، وأدْغَلَ في الأمر: أدخل
فيه ما يُفسِدُه =
(1/526)
واستطالَ السفيهُ، وتضاءلَ العالِمُ،
وزالتِ الفائدةُ، ولم يَتحصَل المقصودُ.
فصل
في الرِّياضةِ والتَذليلِ للجدل
اعلم أنه إذا كان في الرِّياضْةِ للبيان عن الحق استدعاءٌ
إليه، وفي التعقيدِ وسُوءِ العبارةِ تنفير عنه؛ فواجبٌ على
كلُّ حليم أرادَ البيانَ عن الذي يأتي به من الحق، والتنفيرَ
عن الباطل الذي يأتي به الخصمُ، أن يستعملَ الرِّياضةَ حتى
تَتذلَّلَ له العبارةُ وَيتسهَلَ له المُستوعِرُ منها.
وحصولُ الرِّياضةِ بكثرةِ الدرسِ والمذاكرةِ، فهما الفاتحان
لأبواب القَرائحِ، والناقبان (1) عن الأسْرارِ، والمُقَرِّبان
(2) للدَّلالةِ على المعنى بالألفاظ الوجيزةِ والعبارةِ
البليغةِ.
فصل
في ترتيب الخصومِ في الجدل (3)
اعلم أنه لا يخلو الخصمُ في الجدل من أن يكونَ في طَبقَةِ
خصمِه، أو أعلى، أو أدوَنَ.
فإن كان في طبقته: كان قولُه له: الحق في هذا كذا دون كذا؛
__________
= ويخالفه، ورجل مدْغِل: مفسد. "اللسان" (دغل).
(1) في الأصل: "والنافيين"
(2) في الأصل: "والمقربين".
(3) هذا الفصل نقله الفتوحي بتمامه عن ابن عقيل في "شرح الكوكب
المنير" 4/ 393 - 396.
(1/527)
من قِبَلِ كَيْتَ وكَيْتَ، ولأجل كذا، وعلى
الآخَرِ: أن يتحرَّى له الموازنةَ في الخطاب، فذلك أسلَمُ
للقلوب، وأنفَى لشغلِها عن ترتيب النَّظَرِ، فإن التَطفيفَ في
الخطاب يُعمِي القلبَ عن فهم السؤالِ والجواَبِ.
وإن كان أعلى منه: فلْيَتَحر (1) ويَجتَنِبَ القولَ له: هذا
خطأٌ، أو غَلَطٌ، وليس كما تقولُ. بل يكونُ قولُه له: أرأيتَ
إن قال قائلٌ: يَلزَمُ على ما ذكرتَ كذا، وإن (2) اعترضَ على
ما ذكردت مُعترِضٌ بكذا؟. فإن نفوسَ الكرام الرؤساءِ
المُقدَّمينَ تأبى خُشونةَ الكلامِ؛ إذ لا عادةَ لهم بذلك،
وإذاَ نَفَرتِ النفوسُ، عَمِيَتِ القلوبُ، وجَمَدَتِ الخواطرُ،
وانسدتْ أبوابُ الفوائد، فحُرمَ الكل الفوائدَ بسفَهِ السفيهِ،
وتقصيرِ الجاهلِ في حقوق الصدورِ.
وقد أدَّبَ اللهُ أنبياءَه [فى خطابهم] (3) للرؤساء من أعدائه،
فقال لموسى وهارونَ في حق فِرْعَونَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا
لَيِّنًا} [طه: 44] ,
سمعتُ بعضَ المشايخِ المُقدَمين في علومِ القرآنِ يقولُ: صيغةُ
هذا القولِ اللَّيِّنِ في قوله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ
تَزَكَّى} [النازعات: 17 - 18]، وما ذلك إلا مراعاةً لقلبه؛
حتى لا يَنفِرَ بالقول الخَشِنِ عن فهم الخطاب، فكيف برئيسٍ
يُقَدَمُ في العلم، تُطلَبُ فوائدهُ، وُيرجَى الخيرُ منَ
إيرادِه، وما تَسْنَحُ به خواطرُه؟ فأحرى بنا أن نُذلِّلَ له
العبارةَ، ونُوطَىءَ له جانبَ الجدالِ؛
__________
(1) في الأصل: "فليتحرا".
(2) في الأصل: "إن" بدون واو، والمثبت هو الموافق لما في متن
"شرح الكوكب المنير" 4/ 394.
(3) سقطت من الأصل، واستدركناها من متن المرجع السابق 4/ 394.
(1/528)
لتَنْهالَ فوائدُه انهيالًا.
وفي الجملة والتفصيلِ: الأدبُ مِعْيارُ العقولِ ومعاملةُ
الكرام، وسؤُ الآدب مقْطَعةٌ للخيرِ ومَدْمَغة للجاهلِ، فلا
تتأخَّرُ إهانتُه، ولو لَم يَكُنْ إلا هِجَرانُه وحِرمانُه.
وأما الأدْوَنُ: فيُكلَّمُ بكلام اللُّطْفِ والتفهيم، إلا أنه
يجوزُ أن يقالَ له إذا أتى بالخطأ: هذا خطأ، وهذا غلط من
قِبَلِ كذا؛ ليذوقَ مرارةَ سلوكِ الخطأ فيجتنِبَه، وحلاوةَ
الصواب فيَتَّبعَه، ورياضةُ هذا واجبةٌ على العلماء، وتركُه
سُدىً مَضرَّةٌ له، فإن عُوِّدَ الإِكرامَ الذي يَستحِقُّه
الأعلى طبقةً، أخلَدَ إلى خطئِه، ولم يَزَعْه عن الغلط وازعٌ،
ومَقامُ التعليمِ والتأديب تارةً بالعُنفِ، وتارةً باللُّطفِ،
وسلوكُ أحدهما يَفوَتُ فائدةَ الآخَرِ، قَال الله تعالى:
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10]، وقيل في
التفسير: إنه السائلُ عن العلومِ دون سؤالِ المالِ، وقيل: هو
عامٌّ فيهما (1).
فصل
في التَحرُّزِ من المُغالَطَةِ في الجدلِ
وهي على ضربين: أحدهما: الإِخراجُ عن السؤال أو الجواب،
والآخر: الِإيقاعُ للاشتراكِ في الكلامِ على خلاف ما يَسبِقُ
إلَى الأفهام، وفي التَّحرُّزِ من ذلك السلامة منه. وينبغي إذا
عرف الخصم تحقق الجواب المطابق للسؤال، ثم رأى صاحبه قد زال
عنه، دَله على أنه
__________
(1) في الأصل: "فيها".
(1/529)
قد قصدَ لإحْواجه عن سؤاله، وأنه عدلَ
لجهلِه بطريقة جوابِه.
ولا بُدَّ للسائل من المطالبة بجوابه إذا رامَ المجيبُ إخراجَه
عن سؤالِه، ومتى لم يَضبطْ ذلك، كان بمنزلة من طلبَ شيئاً
فأْعطِي غيرَه، فلم يَحسُنْ أن يقولَ: ليس هذا طَلَبْتُ، وانما
طلبت كَيْتَ وكَيْتَ.
وأما المُشترَكُ: فينبغي أن يؤْتَى بعبارة تُوضِّحُه وتكشِفُ
عن المراد به، وقال بعضُ علماءِ الأوائل: آفةُ الناس في الغلطِ
المُشترَكُ، وإذا كان أحدُ المعنيَيْنِ فيه أظهرَ وَأسبق إلى
النَفسِ، فهذا الذي لا يكادُ يسلَمُ فيه من الغلط، إذا كان
المرادُ إنما هو المعنى الذي ليس بأسبقَ.
ولا يخلو المُشتَرَكُ من أن يكونَ عارضاً أو لازماً: فالعارضُ:
هو الذي يقعُ من أجل التَّغيُّرِ الجائزِ في الكلام؛ لأن كلَّ
مُغيرٍ فللمعنى فيه عبارتان: إحداهما (1): على جهة التَّحقيقَ،
والأخرى: على جهة التَّغييرِ، وإحداهما (1): على جهة الأصلِ،
والأخرى: على جهة الفرعِ؛ ولذلك كان كلُّ مُغيرٍ مُشترَكاً.
والمشترَكُ على جهة أحدِ الشيئين أو الأشياءِ لا يَحتاجُ إلى
تفسيرٍ، كلَوْنٍ فإنه واحد من جملة الألوانِ على ذلك وضِعَ،
وإنما يحتاجُ إلى التفسير ما كان من المشترَكِ على جهة
البَدَلِ، كجاريةٍ إذا أُريدَ بها: السفينةَ أو المرأةَ، فهذا
جنسٌ وهذا جنسٌ، واللَّونُ جنسٌ واحدٌ، وهو هيئة صابغةٌ
ملتبسةٌ على الجسم، وإنما يحتاجُ إلى الفصل بين سوادٍ
وحُمْرةٍ، والكلُّ لونٌ، والسفينةُ والجارية معلومٌ ما بينهما،
والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: "أحديهما".
(1/530)
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (513 هـ)
تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
الجزء الثاني
مؤسسة الرسالة
(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(2/2)
الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
2
(2/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت -
لبنان
تلفاكس: 319039 - 815112
فاكس 603243 ص. ب: 117460
AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 -
319039
fax: 603243 - P.O.Box: 117460
Email: Resalah@Cyberia.net.lb
(2/4)
فصل
في مراتب الأدلَّةِ الشَّرعيةِ على الأحكام الفِقهيَّةِ
اعلم أن الأصلَ في الدلالةِ والمبتدَأ به في أوَّلِ مراتِبها:
كتابُ اللهِ تعالى، والدَّلالةُ على ذلك من طريقين: النطقِ،
والاستنباطِ.
فالنطقُ: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ -رحمةُ
اللهِ عليه- حيثُ بعثَه إلى اليمن قاضياً: "بمَ تَحكُمُ"؛ قال؛
بكتاب اللهِ، قال: "فإن لم تَجِدْ"؟
قال: بسُنةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تَجدْ"؛ قال: أجتهدُ رأي
ثم لا آلُو (1)، فحَمِدَ اللهَ على توفيقه لذلك. ولو سكتَ عنه،
لكان كافياً
__________
(1) أخرجه الطيالسي (559)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 347 -
348، و) حمد 5/ 230 و236 و242، وعبدبن حميد (124)، والدارمي 1/
60، وأبو داود (3592) و (3593)، والترمذي (1327) و (1328)،
وابن حزم في "الإحكام" 7/ 111 و111 - 112، والبيهقي 10/ 114،
والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" 1/ 154 - 155 و 188 و
188 - 189، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 55 -
56 و56 من طرق عن شعت نجن الحجاج، عن أبي عون محمد بن عبيد
الله الثقفي، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن
أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ووقع عند الطيالسي ومن رواه من طريقه: " .. عن أصحاب معاذ من
أهل حمص -وقال مرة: عن معاذ-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
.... "، وجاء في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند ابن عبد البر
في موضع: " .. الحارث بن عمرو، عن أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، عن معاذ بن جبل .. ".
(2/5)
من حيثُ كونُه إقراراً.
وإنما ابتُدىءَ بكتاب اللهِ تعالى؛ لأنه قَطْعِيٌ من جهة
النَقْلِ المعصوم، ومن جهة الإِعجازِ المأمونِ معه التَحريفُ
والزَيادةُ والنُقصانُ؛ إذ لا يَقبلُ غيرَه من الكلام، ولا
يَختلِطُ به شيءٌ من القول المُتضمِّنِ للأحكامِ وغيرِ
الأحكامِ، هذا تقديمٌ أوجَبَتْه قُوَّةُ الدَلالةِ.
والثاني (1): أنه أفضلُ الأدلَّةِ؛ إذ كان كلاماً الله سبحانه.
فصل
ودَلالةُ الكتابِ الكريمِ من وجهين: نَصٍّ وظاهِرٍ.
والعمومُ أحدُ قِسْمي الظاهرِ على قولِ مَنْ أثْبَتَ له صيغةً
(2)، ومَنْ
__________
وإسناد هذا الحديث ضعيف. انظر كلام أهل العلم عليه مستوفى في
"سلسلة الأحاديث الضعيفة" للشيخ الألباني 2/ 273 - 286.
(1) أي الطريق الثاني للدلالة على أنه يبتدأ بكتاب الله
سبحانه.
(2) هذا مذهب جماعة الفقهاء، وجمهور الأصوليين والمتكلمين؛ فبه
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري، وعامة
أصحابهم، وهو قول جماهير المعتزلة. انظر "المعتمد" 1/ 195، و
"البرهان" 1/ 321، و "المستصفى" 2/ 36، و"إلِإحكام في أصول
الأحكام " للآمدي 2/ 293، و "الوصول إلى الأصول" 1/ 206، و
"البحر المحيط" 3/ 17 - 18، و"أصول السرخسي" 1/ 132، و"فواتح
الرحموت" 1/ 260، و"العدة" 2/ 485 - 489، و"المسودة" ص 89، و
"التمهيد" 2/ 6، و"منتهى الوصول والأمل" ص 75، و"إحكام الفصول"
ص 133، و"الإحكام" لابن حزم 3/ 98، و"إرشاد الفحول" ص 115.
(2/6)
أثبتَ حُكْمَه بالقَرينةِ (1).
__________
(1) وهؤلاء فريقان:
1 - أصحاب الخصوص، الذين قالوا: إنه ليس للعموم صيغة تخصه، وأن
ما ذكروه من الصيغ موضوع للخصوص، وهو أقل ما يتناوله اللفظ،
ولا يقتضي العموم إلا بقرينة.
أو: إن هذه الصيغ حقيقة في الخصوص، ومجاز فيما عداه.
وهذا الرأي ينسبه الأصوليون إلى أبي الحسن بن المنتاب من
المالكية، ومحمدبن شجاع الثلجي من الحنفية، وحكي عن جماعة من
المعتزلة.
2 - الواقفية، الذين قالوا: إنه ليس للعموم صيغ تقتضيه
بمجردها، بل اللفظ فيها مشترك بين الواحد اقتصاراً عليه، وبين
أقل الجمع فما فوقه اشتراكاً لفظياً، فيما يحمل من الصيغ على
الواحد كـ "من، وما، وأي" ونحوها، وأما ألفاظ الجموع فهي
مشتركة بين أقل الجمع وبين ما فوقه اشتراكاً لفظياً، ولا يجوز
حمل أي منها على العموم أو غيره إلا بقرينة تدل على المراد
بها.
أو: إنا لا نعلم أوضعت هذه الصيغ للعموم أم لا؟ أو إنا نعلم
أنها وضعت للعموم، ولكن لا ندري أحقيقة هي أم مجاز؟ مشتركة هي
أم ظاهرة؟ فيجب التوقف فيها حتى يقوم الدليل على المقصود بها.
والقول بالوقف مذهب أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر
الباقلاني، والقاضي أبي جعفر السمناني، ووافقهم عليه محمد بن
عيسى الملقب ببرغوث، وأحمد بن يحيى الراوندي من متكلمي
المعتزلة.
ونقل جماعة من الأصوليين القول بالاشتراك بين العموم والخصوص
مبايناً للقول بالوقف، وحكوه مذهباً آخر لأبي الحسن الأشعري،
والله أعلم. انظر "البرهان" 1/ 320 - 322، و"المعتمد" 1/ 194 -
195، و "المستصفى" 2/ 36 - 37، و"البحر المحيط" 3/ 17 و20 -
25، و"منتهى الوصول والأمل" ص 75، و"الوصول إلى الأصول" 1/ 206
- 207، و"الِإحكام" للآمدي 2/ 293 - 294، و"أصول السرخسي" 1/
132، و "فواتح الرحموت" 1/ 260، و"الِإحكام" لابن حزم 3/ 97، و
"إحكام الفصول" ص 133 و141، و"العدة" 2/ 489 - 490، =
(2/7)
وعَدَّه قومٌ وجهاً ثالثاً (1)، ولا وجهَ
لذلك عندي؛ إذ كان العمومُ إنما يَدُل بظاهره، ولذلك يُصرَفُ
عن شمولِه واستغراقِه إلى الخصوصِ بالدَّلالةِ التي يُصرَفُ
بها عن وجوبِه إلى النَدْبِ، والنَّهيُ عن حَظْرِه إلى
التَنزيهِ.
فصل
فأمَّا النَص: فهو النُطقُ الذي انتهى إلى غايةِ البيانِ،
مأخوذٌ من مِنَصةِ العَرُوسِ، وقيل: ما استوى ظاهرُه وباطنُه،
وقيل: ما عُرِفَ معناه من نطقِه، وقيل: ما لا يحتمِلُ التأويلَ
(2).
وأما عين النص: فقولُه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الانعام: 151] وبينَتِ
السُّنَة المستثنَى بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ دم
امرِىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاثٍ: كفرٌ بعد إيمانٍ، أو زنىً بعد
إِحْصانٍ، أو قتل نفس بغير نفسٍ" (3).
__________
= و"المسودة" ص 89، و"التمهيد" 2/ 6 - 7، و"إرشاد الفحول" ص
115 - 111.
(1) انظر "شرح اللمع" 2/ 147.
(2) أورد المصنف جميع هذه التعريفات في الصفحة (33) من الجزء
الأول.
(3) أخرجه الطيالسي (289)، وأحمد 1/ 382 و428 و 444 و 465 و6/
181، والدارمي 218/ 2، والبخاري (6878)، ومسلم (1676) (25) و
(26)، وأبو داود (4352)، وابن ماجه (2534)، والترمذي (1402)،
والنسائي 7/ 90 - 91 و 8/ 13، وابن حبان (4407) (4408) (5976)
(5977)، والدارقطني 3/ 82 و82 - 83، والبيهقي 8/ 19 و 194 -
195 و 202 و213 و283 - 284، والبغوي (2517)، عن عبد الله بن
مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم
امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا =
(2/8)
ومن النص أيضاً: قولُه تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
فصل
في حكمِ النَّصِّ
وأما حكمُ النَّصِّ: فتَلقِّيهِ (1) بالاعتقادِ له والعملِ به،
ولا يُترَكُ إلا بنص يُعارِضُه.
فصل
وهو (2) أعلى مراتب أدِلةِ الكتاب، كما أن الكتابَ أعلى مراتب
الأدلةِ في الجُملةِ.
فصل
وعينُ الظاهرِ على ضَرْبينِ: ظاهر بوضعِ اللغة: كالأمرِ
يَترجحُ إلى الإِيجاب مع احتمالِه النَدبَ، وكالنَهي يحتمِلُ
التَحريمَ والكراهةَ والتَنزيهَ، وهو في التحريمِ أظهرُ،
وإليهَ أمْيَلُ، وكسائرِ الألفاظِ المُحتمِلةِ (3) لمَعْنيين
وهو في أحدِهما أظهرُ.
__________
= بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه
التارك للجماعة".
وفي الباب أيضاً عن عثمان بن عفان، وعائشة، وعبد الله بن عباس
رضي الله عنهم.
(1) في الاصل: "تلقيه"، والجادة ما أثبتناه؛ للزوم الفاء في
جواب أما.
(2) يريد: النص.
(3) صورتها في الأصل: "المجملة"، وهو تحريف وانظر أيضاً ما
تقدم في الصفحة (33 - 34) من الجزء الأول.
(2/9)
فصل
في حُكْمِه
[حكمُه] (1): أن يُحمَلَ على أظهرِ المَعْنيين، ولا يُحمَلَ
على غيره إلا بدليلٍ.
وأما الظاهرُ بوضعِ الشَرعِ، كالأسماءِ المنقولِة من اللغة إلى
الشرعِ عند من أثبتَ النقلَ، كالصلاةِ نُقِلَتْ من الدُّعاءِ
في اللُّغةِ إلى هذه الأفعالِ المخصوصةِ، والحَجُّ في اللغةِ:
القَصْدُ، ونُقِلَ إلى هذه الأنْساكِ المخصوصةِ.
والأشبهُ عندي: أنها مَزيدَة غيرُ منقولةٍ؛ لأن في الصلاة
الشرعية دعاءً مًشترَطاً (2) على أصلنا، وهو ما تَتضمُه
الفاتحةُ التى لا تَتِمُّ الصلاةُ إلا بها من قوله: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وما تتضمَّنُه من
دعاءِ التشهُّد، وهو واجب عندنا بما ثبتَ من الآثارِ (3).
والحجُّ (4) وإن كان أفعالًا وأنساكاً، لكنْ لا بُدَّ لكل
نُسُكٍ من قصدٍ إلى مكانِه، حتى المَكَيُّ لا يزالُ يَقصِدُ ما
بين عَرَفاتٍ إلى مِنىً، إلى مَحلِّ الطَّوافِ والسعْيِ.
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) بم في الأصل: "ومشترط".
(3) انظر "المغني" (2/ 226 - 227).
(4) تحرفت في الأصل إلى: "الحجج".
(2/10)
فبَقِيَتِ الصلاةُ دعاءً في أفعال، والحجُّ
قصداً (1) إلى مَحالِّ أنساكٍ، فما خرجَ الدعاءُ والقصد عن
أصلهما، ولا استحالا عن معناهما.
وكذلك النِّكاح: الجمع، وهو على الجمع في الوَطْءِ لجمع
الذَّاتَيْنِ، وفي العَقْدِ لجمعِ الشَّمْلِ المفضي إلى الجمع
بين الزَّوجَيْنِ، فأين النقل مع هذه الحالِ؟
فإن قيل: مع ما ذكرْتَ من الِإبقاءِ على حقائقِ الأسماءِ فيما
ذكرْتَ، فلا بُدَّ من نقلٍ؛ لأن اسمَ الصلاةِ كان لمَحْضِ
الدُّعاءِ، وهو الرَّغْبَةُ إلى الله سبحانه والسؤالُ له، وصار
واقعاً على ركوعٍ وسجودٍ وليس بدعاءٍ، فقد نقِلَ، ألا ترى أنّا
كنا نسلُبُ الاسمَ عن القراءةِ والقيام والرُّكوعِ إذا
سُئِلْنا عنه: هل هو دعاء؟ فنقول: لا، وإن قيل لنا: هلَ هو
صلاة؟ فقلنا: لا، فلمّا جاءَ الشرع، قلنا: إنه صلاةٌ وليس
بدعاءٍ، وخَصَّصْنا قولَه: "رَبِّ اغْفِرْ لي"، "اللهم صلِّ
على محمَّدٍ وآلِ محمدٍ"، بأنه صلاة شرعيَّةٌ ودعاءٌ، فقد
تحقَّقَ النقلُ في الأفعال؛ حيثُ صار في الشرع صلاةً وليس
بدعاءٍ، بعدَ أن لم يَكُنْ صلاةً في اللُّغةِ ولا دعاءً.
قيل: يجوزُ أن يكونَ الاسم اقتصرَ على الأْفعال؛ لأنها أحوالٌ
للراغب الطالب، والخضوعُ بهذه الأفعالِ المخصوصةِ بين ركوعٍ
وسجودٍ إنما يثبت على طلب الإِثابةِ من الله والرَّحمة،
فغَلَبَ فيها اسمُ القصدِ بها، واقتصرَ على الأَفعالِ التابعةِ
للطلبِ والرغبةِ، وهو الدعاءُ
__________
(1) في الأصل: "قصد".
(2/11)
لفظاً ومعنىً، كما أن المُحارِبَ يُسَمى
بالمِحْراب (1) حالَ مُجاوَلَتِه (2) في الكَرِّ والفرِّ،
والواطىء يُسَمَّى مُجامِعاً حالَ الإيلاجِ والنزْعِ، وبين
الكَرِّ والفَرِّ تضادٌّ، وبين الإيلاج والنَّزعِ تضادٌّ، لكنْ
لَما كان مُعتاداً في الفِعْلينِ، اقتصرَ عليه حكمُ الاسمين،
كذلك الخضوعُ من الراغب الدَاعي تابعٌ لدعائِه، إذ لا مقصودَ
له في ذلك إلا طلبُ ثمرِ ذلكَ الخضوعِ، وهو الإثابةُ والجزاءُ
على التضرُّعِ، والدعاءُ عنوانُ قصدِه، وحكايةُ ما في نَفْسِه.
فصل
وحكمُ هذا المُختلَفِ في نقله وتبقيتِه: أن يُحمَلَ على ما
نُقِلَ إليه أو ضُمَّ إليه على الخلاف المعروفِ، ولا يُحمَلَ
على غيره، ولا يَبْقى على مُجرَّدِ أصلِه من غير الزِّيادةِ
إلا بدَلالةٍ.
ولأصحاب الشافعي -رحمةُ الله عليه- في النقلِ وجهان،
وسأذكرُهما (3) في الخلافِ إن شاء الله (4).
__________
(1) في الأصل: "بالحراب"، ولعلها محرفة عن: "بالمِحْراب"، فإنه
يقال: رجل محْراب: أي شديد الحرب شجاع، أو صاحب حرب.
(2) يقال: جال: إذا ذهب وجاء، ومنه: الجَوَلان في الحرب، وجال
القوم جَوْلَةً: إذا انكشفوا ثمً كَروا. "اللسان" (جول).
(3) في الأصل: "وساذكرها"، والأنسب بالمقام ما أثبتنا.
(4) انظر الصفحة 422 وما بعدها من هذا الجزء.
(2/12)
فصل
والعمومُ على قول مَنْ اثْبَته صيغةً من جُملةِ الظاهرِ، وقد
قدمنا حَدَّه (1).
فأمَّا عينُه في الإثبات: فكقوله سبحانه: {فاقْتُلوا
المُشْركين} [التوبة: 5]، وقولِ النَبي صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ بَدَلَ دينَه فاقتلُوه" (2)، وسائرِ أَسماءِ الجُموعِ،
وفي النفْيِ في النَكِراتِ: "لا يُقتَلُ مُسلِم بكافر" (3)،
"لا نَذْرَ في مَعْصِيةِ اللهِ" (4).
فحكمً هذا: اعتقادُ حكمِ عمومِه إثباتاً ونفياً، ولا يُخَص شيء
منه
__________
(1) انظر الصفحة (34) من الجزء الأول.
(2) سلف تخريجه في الصفحة (39) من الجزء الأول.
(3) أخرجه ضمن حديث مطول عبد الرزاق في "المصنف" (18508)،
وأحمد 1/ 79 و 122، والدارمي 2/ 190، والبخاري (111) و (3047)
و (6903) و (6915)، وأبو داود (4530)، وابن ماجه (2658)
والترمذي (1412)، والنسائي 8/ 19 و19 - 20 و23 - 24 و24، وابن
الجارود (794)، والطحاوي في "شرح معاني الأثار" 3/ 192،
والبيهقي 8/ 28 و28 - 29 و29 من حديث علي بن أبي طالب.
وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر، وابن عباس.
(4) أخرجه أحمد 4/ 430 و433 - 434، ومسلم (1641)، وأبو داود
(3316)، وابن ماجه (2124)، والنسائي 7/ 19 و27 - 28 و28 و29
و30، والبيهقي 10/ 68 - 69 و70 من حديث عمران بن حصين.
وأخرجه أحمد 6/ 247، وأبو داود (3290) و (3291) و (3292)، وابن
ماجه (2124)، والترمذي (1524)، والنسائي 7/ 26 و26 - 27 و27،
والبيهقي 10/ 69 من حديث عائشة.
(2/13)
إلا بدَلالةٍ صالحةٍ لتخصيص العمومِ، على
الخلاف الذي نذكرُه إن شاءَ اللهُ في مسائل الخلافِ (1).
فصل
وأما الاسمُ المُفرَدُ إذا عُرِّفَ بالألفِ واللَّامِ،
كالرجلِ، والمسلمِ، والمشركِ: فقد اخْتلَف فيه أهلُ الجدلِ:
فمنهم: من جعلَه من ألفاظ العمومِ.
ومنهم: من أخرجَه من العمومِ.
والأشْبَهُ: أنه من ألفاظ العموم (2)؛ إذ كان دخولُها لإِعادة
التَّسميةِ إلى مذكورٍ، مثل قولِنا: دخلتُ السُّوقَ فرأيتُ
رجلَاً، ثم عُدْتُ فرأيتُ الرَّجلَ، وليس ذلك في الابتداءِ،
فلم يعمَلْ دخولها إلا إعادةَ الاسمِ إلى جنسِ الرِّجالِ
والنَساءِ.
فصل
ومن أعْيانِ ألفاظِ العموم: الأسماء المُبْهَمةُ، كـ "منْ"
فيمن يَعقِلُ، و"ما" فيما لا يعقِلُ، و"أيّ" فيَ الجميعِ،
و"أين" في المكانِ، و"متى" في الزَّمانِ، فذلك كلُّه من ألفاظ
العمومِ.
وحُكْمُه: أن يُحمَلَ على عمومه إلأ أن يَخُصَّه دليلٌ، فيخرج
عنه ما خَصَّه الدليلُ (3).
__________
(1) في الجزء الأخير من الكتاب.
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (35) من الجزء الأول.
(3) انظر أيضاً ما تقدم في الصفحة (36) من الجزء الأول.
(2/14)
فصل
في المَرْتَبةِ الثانيةِ من أدِلَّةِ الأحكامِ الشرعيةِ، وهي:
السنَةُ.
وهي ثلاثُ مراتبَ:
فالأُولى منها: القولُ، وهو مُنقسِمٌ قِسْمَينِ: مُبتدأٌ،
وخارج على سببٍ.
فالأوَّلُ: المُبتدأ: وهو مُنقسِم قسمين: نَصٌّ، وظاهرٌ، ومن
جملةِ الظاهرِ: العمومُ، على ما بيَّنَّا في الكتابِ (1).
فصل
فأمَّا النصُّ: فكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الرقَةِ
رُبْعُ العُشْرِ" (2)، "فيما سَقَتِ
السماءُ العُشْرُ" (3)، "في أرْبَعينَ شاةً شاةٌ" (2).
وحكمُ ذلك: إيجابُ تَلَقَيهِ باعتقادِ وجوبِه والعمل به، ولا
يُترَكُ إلا بنصٍّ يُعارِضُه، ونسخٍ يَرفَعُ حكمَه.
والظَّاهرُ: كقوله صلى الله عليه وسلم لأسماءَ في دم الحَيْضِ:
"حُتِّيهِ، ثم اقْرُصِيهِ، ثم اغْسِليهِ بالماءِ" (4)، يُحمَلُ
على الوجوبِ، ولا يُصرَفُ إلى الاستحباب إلا بدليلٍ.
__________
(1) راجع لذلك ما سلف في الصفحة (38) من الجزء الأول.
(2) هو جزء من حديث أنس رضي الله عنه في الصدقات، وقد سبق
تخريجه في الصفحة (37) من الجزء الأول.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 189.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة (38) من الجزء الأول.
(2/15)
والعمومُ: كقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس
في المال حَقٌّ سوى الزَّكاةِ" (1)، "ليس للمَرْءِ إلا ما
طابَتْ به نفسُ إمامِه" (2)، فيَعُمُّ سائرَ الحقوقِ إلا ما
خَصَّه الدليلُ من الغراماتِ والكَفاراتِ والدِّيَاتِ.
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه (1789) عن علي بن محمد بن
إسحاق، عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي حمزة -وهو ميمون
الأعور-، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس مرفوعاً.
وقد خالف عليّ بن محمد أبو كريب محمد بن العلاء فرواه عند
الطبري في "التفسير" (2527) عن يحيى بن آدم، بهذا الإسناد،
فقال فيه:، إن في المال حقاً سَوى الزكاة". وهو الصواب، فقد
رواه بهذا اللفظ الترمذي (654)، والبيهقي 4/ 84 من طريق الأسود
بن عامر شاذان، والدارمي 1/ 385، وعنه الترمذي (655) عن محمد
بن الطفيل، والطبري (2530) من طريق أسد بن موسى، والدارقطني 2/
125 من طريق بشر بن الوليد ومنصوربن أبي مزاحم، خمستهم عن شريك
بن عبد الكه النخعي، به.
والحديث إسناده ضعيف، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة
ميمون الأعور يضعف، وروى بيان واسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا
الحديث قوله، وهذا أصح.
قلت: ورواية إسماعيل بن سالم خرجها الطبري في" تفسيره" (2525)،
وإسماعيل هذا ثقة، وإسناد الطبري إليه صحيح.
وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور، كوفي،
وقد جرحه أحمدبن حنبل ويحيى بن معين فمن بعدهما من حفاظ
الحديث.
قلت: وفي إسناد الحديث علة أخرى غير أبي حمزة لم يشر إليها
الترمذي ولا البيهقي وهي سؤ حفظ شريك بن عبد الله النخعي.
(2) لم نجد هذا الحديث.
(2/16)
فصل
وأما القِسْمُ الثاني -وهو الخارجُ على سببٍ-: فمُنقسِم قسمين:
مُستَقل دون السبَبِ: كما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه
لما قيل له: "إنك تَتَوضأ من بئرِ بُضاعَةَ، وهي تُطرَح فيها
المحائضُ ولحومُ الكلاب وما يُنجي (1) الناسُ، قال: "الماءُ
طَهُورٌ لا يُنجسُه شيء إلا ما غَير طعْمَه أو ريحَه" (2)،
فحكمُ هذا في استقلاله بنفسه حكمُ القولِ المُبتدإ، وقد سَبقَ
بيانُه وانقسامُه.
وقد ذهب بعضُ الفقهاءِ من أصحاب الشافعي إلى أنه يُقصَرُ على
السبب الذي ورَدَ فيه (3)، وليس بصحيحٍ؛ لأنه سُئِلَ - صلى
الله عليه وسلم - عن بئرٍ
__________
(1) في الأصل: (يتنجى).
(2) سبق تخريجه في الصفحة (39) من الجزء الأول.
(3) هو اختيار إسماعيل بن يحيى المزني، وأبي ثور إبراهيم بن
خالد الكلبي، وأبي بكر محمد بن محمد الدقاق من أصحاب الشافعي
كما عزاه اليهم غير واحد، بل إن إمام الحرمين نسبه إلى الإمام
الشافعي نفسه، فقال في "البرهان": فالذي صح عندنا من مذهب
الشافعي اختصاصها به. يعني: اختصاص صيغة العموم بالسبب الوارد
بها، وتابعه على هذا النقل الرازي في "المحصول"، والأمدي في
"الإحكام"، لكن حقق كثير من أئمة الشافعية أن الصحيح من مذهب
الشافعي خلافه: وهو أن اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على
سبب خاص من سؤال أو واقعة، يجب حمله على عمومه، كما نقل ذلك
الزركشي في "البحر المحيط" -ورجحه- عن الشيخ أبي حامد، والقاضي
أبي الطيب، والماوردي، وابن برهان في "الأوسط". والرازي في
"مناقب الشافعي"، وذكر عن ابن السمعاني في" القواطع": أن عامة
الأصحاب يسنده الى الشافعي. ورجحه أيضاً الإسنوي في "نهاية
السول"،
(2/17)
بعَيْنِها، فعَدَل عن ذِكْرِ مائِها
المخصوصِ بها، وأجابَ عن الماء الذي هو أصل، فدَل ذلك على أنه
أرادَ بيانَ حكمِ الماءِ، ولم يُرِدْ بيانَ حكم يَختصُّ
البئرَ؛ لأن السؤالَ مخصوصٌ، وجوابه عائم، فكان الاعتبار
بنطقِه العامَ، دونَ سؤالِ السائلِ الخاصَ، لاسِيما والنبيُّ
[صلى الله عليه وسلم]، أخرجَ جَوابه بخلاف سؤالِ السائلِ، ولا
يَفعَل ذلك إلا لغَرض صحيح، وهو: إفادةُ حكمِ ما سألَ عنه وما
لم يسألْ عنه، ولا تَسقط فائدةُ لفَظِ الشارع نظراً إلى اقتصار
السائلِ في سؤاله عن بعض المياهِ، والشارع عليه الَسلام عم
بالحكم جميعَ المياهِ.
والقسم الثاني من الخارج على السَّبَب: ما لا يَستقِل بنفسه
دونَ السببِ، مثلُ ما رُويَ عن السائل عن لَطْم (1) أمَتِه
الرَّاعِيَةِ؛ حيثُ أكلَ الذئب شاةً من غنَمِه، وأنه أخَذهُ ما
يأخذَ الرجلَ على تَلَفِ مالِه (2)،
__________
= وتاج الدين السبكي في "الِإبهاج". انظر "البرهان" 1/ 372 -
373، و "اللمع" ص 38، و"البحر المحيط" 2/ 203 - 210،
و"الإحكام" 2/ 347، و"المحصول" 3/ 125، و" الإبهاج في شرح
المنهاج" 2/ 184 - 186، و"نهاية السول" 2/ 476 - 480.
(1) في الأصل: "قتل"، وورد في هامشه: "كذا في الأصل، صوابه:
لطم".
(2) أخرجه الطيالسي (1105)، وابن أبي شيبة 11/ 19 - 20، وأحمد
45/ 447 و 448، ومسلم (537) (33)، وأبو داود (930) و (3282)،
والنسائي 3/ 14 - 18، وابن حبان (165)، والبيهقي 10/ 57 من
حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: كانت لي غنيمة ترعاها جارية
لي في قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم وقد ذهب الذئب
منها بشاة، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صكة، فعظم
ذلك علي، فاتيت =
(2/18)
وما رُويَ أن أعرابياً قال له: جامَعْتُ
امرأتي في نهار رمضانَ (1)، فقال لكلِّ واحدٍ منهما: "أعْتِقْ
رَقَبَةً"، فيصيرُ قولُه - صلى الله عليه وسلم - مع سؤالِ
السائل كالقولِ الواحدِ، فتقديرُه: أعتِقْ رقبةً إذا لَطَمْتَ
(2) أمَتَك، وأعتِقْ رقبةً، إذا جامعْتَ في نهار رمضانَ
زوجتَك.
فصل
ومن جُملةِ أقسامِ السنةِ: فعلُ النبى - صلى الله عليه وسلم -،
وهو منقسِمٌ قسْمينِ:
أحدُهما: ما فَعَلَه على غير وجهِ القُرْبةِ، كالأكلِ،
والشُرْبِ، والمَشْيِ (3): فيَدُلك ذلك على الإباحةِ والجوازِ؛
لأنه لا يَفعلُ ما نُهِيَ
__________
= رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: أفلا أعتقها؛ قال:
"ائتني بها" فأتيته بها، فقال: "أين الله؟ "، قالت: في السماء،
قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
قال:" أعتقها فإنها مؤمنة".
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (40) من الجزء الأول.
(2) في الأصل: "قتلت".
(3) عامة أهل العلم على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلية
الصادرة بمقتضى طبيعته صلى الله عليه وسلم والتي ليست على وجه
القربة، كالقيام والقعود والأكل والشرب والمشي وغيرها، تدل على
الإباحة له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، وهو المشهور،
المحكي في كتب الأصول الاتفاق عليه وعدم المنازعة فيه، لكن نقل
القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم ولم يعينهم أنه مندوب، وحكى
الباجي في "إحكام الفصول" أنه مذهب لبعض المالكية، وتابعه عليه
القرافي في "شرح تنقيح الفصول". واشتهر عن عبد الله بن عمر رضي
الله عنه أنه كان يتتبع مثل هذا ويقتدي به، كما هو منقول عنه
في كتب السنة المطهرة. انظر "الإحكام" 1/ 247، و"نهاية السول"
3/ 17، و"سلم الوصول" 3/ 17، و"البحر المحيط " 4/ 177،
و"التلويح على التوضيح" 2/ 14، و"التقرير والتحبير" 2/ 302،
و"فواتح =
(2/19)
عنه، وهذا يَصفُو دليلاً على الإباحة،
ويَخلُصُ دليلاً على الجواز في حق مَنْ قال بعصْمَتِه - صلى
الله عليه وسلم - من الخَطَا، فتقعُ أفعالُه كلها من هذا
القبيلِ مُباحَةً، ومُبِيحةً لأُمَّتِه، وهم المعتزلةُ
والإماميةُ.
فأمَّا على قول أهلِ السُّنةِ، وهو مذهبُنا: فإنه لا تقعُ منه
هذه الأفعالُ دالَّةً على الإباحة إلا مشروطةً بأن لا
يَتعقبَها مَعْتبةٌ من الله، أو استغفارٌ منه واستدراك؛ حيثُ
كان لا يُقَر على الخطإ، على قول من جَوزَ عليه الخطأ، وهذا
ملحوظٌ في هذا الفصلِ على مَنْ أغفلَه، مُستدرَك على مَنْ
أهْمَلَه، بل أطلقَ القولَ إطلاقاً.
ونَكشِفُ ذلك بمثال قد كان منه - صلى الله عليه وسلم -، وهو
أنه استغفرَ للمُشركينَ، وقامَ على قبور المُنافِقينَ، حتى قال
الله سبحانه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، وقال:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فلو أن قائلًا
قال بإباحةِ ما قالَهَ من الاستغفارِ للمشركين، والصلاةِ
والقيامِ على قبور المنافقين، لكان مبادراً بإباحة ما لم يَكُ
مباحاً، فلا بُدَّ من هذا القَيْدِ مع تجويزِ الخطأ عليه - صلى
الله عليه وسلم -، وأنه إنما يَدُلُّ على الإباحة إذا أقِر
عليه، ولم تَأتِ لائمةٌ من الله سبحانه على ما قالَه أو فعلَه،
فحينئذٍ يصيرُ دَلالةً على الجوازِ.
وأما القسمُ الثاني من فعلِه - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما
فعلَه على وجه القُرْبَةِ:
فهو على ثلاثة أضْرُبٍ:
__________
= الرحموت" 2/ 180، و"شرح تنقيح الفصول" ص 288، و"منتهى
الوصول" ص 34 - 35، و"إحكام الفصول" ص 223، و"العدة" 3/ 734، "
و" شرح الكوكب المنير" 2/ 178 - 179، و"إرشاد الفحول" ص 35.
(2/20)
أحدها: أن يكونَ امتثالًا لأمرٍ، فانْظُرْ
في ذلك الأمرِ:
فإن كان أمراً مُطلَقاً أو مُقَيداً بالإيجاب: فذلك الفعلُ منه
واجب، وانما كان كذلك؛ لأن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لا
يُهَمِلُ أمراً اتجَهَ نحوَه من الله سبحانه، فالظاهرُ من فعله
أنه امتثالٌ للأمرِ بتلك القُرْبَةِ على الوجه الذي أمِرَ بها.
وإن كان الأمرُ نَدْباً: كان فعلُه نَدْباً؛ لأن الظاهرَ من
حاله - صلى الله عليه وسلم - امتثالُ الأمرِ بحَسَبه، وعلى
الوجه الذي أمِرَ به؛ لأن إيجابَ اتباعِنا له مَبْنِيٌّ على
اتباعهَ لِمَا أمِرَ به وأُوحِيَ إليه.
فصل
وإن كان فعلُه بياناً لمُجمَل (1): فيُعتبرُ بالمُبينِ؛ فإن
كان واجباً فهو واجبٌ، وان كان نَدْباً فهو نَدْب (2)، وإنما
كان كذلك؛ لأن البيانَ لا يَعدُو رُتْبَةَ المبينِ، ومتى عداه
لم يكُ بياناً؛ لأن البيانَ ما انطبقَ على المُبينِ، كالتفسير
ينطبقُ على المُفسرِ، والتعبيرِ بحَسَبِ المعبرِ.
__________
(1) هو الضرب الثاني من فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي على
وجه القربة حسب ترتيب المصنف.
(2) وان كان مباحاً، فهو مباح. وعلى هذ اتفاق كلمة الأصوليين.
انظر "البرهان" 1/ 448، و"الإحكام" 1/ 247 - 248، و"البحر
المحيط" 4/ 180، و"إحكام الفصول" ص 223، و"التقرير والتحبير"
2/ 302 - 303، و"منتهى الوصول" ص 35، و"شرح تنقيح الفصول" ص
288، و"إرشاد الفحول" ص 36، و"العدة" 3/ 734 - 735،
و"المستصفى" 2/ 214، و"فواتح الرحموت" 2/ 180، و"نهاية السول"
3/ 17 - 18، و"مناهج العقول" 2/ 274 - 275.
(2/21)
وحكمُه: أن يُعمَلَ به وُيصارَ إليه، ولا
يُترَكَ ظاهرُه إلا بدَلالةٍ.
فصل
وإن كان مُبتدأً (1): ففيه ثلاثةُ مذاهبَ:
أحدها: يقتضي الوجوبَ، وهو مذهبُ أصحابنا (2) وبعض أصحاب
الشافعى (3)، وسيجىء ذكرهُ مُستوفى في مسائلَ الخلافِ إن
__________
(1) هو الضرب الثالث من فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي على
وجه القربة.
(2) ذكر القاضي أبو يعلى في "العدة": أنها إحدى روايتين عن
الِإمام أحمد، واختارها في مقدمة "المجرد"، وحكى في"القولين"
عن الحسن بن حامد القول بها، واختارها أيضاً محمد بن علي
الحلواني، وقطع بها محمد بن أحمد ابن أبي موسى الهاشمي في
"الإِرشاد" من غير خلاف.
والرواية الثانية: القول بالندب، ذكرها القاضي في "العدة"،
وقال: هي اختيار أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي،
واختارها أيضاً فخرالدين إسماعيل بن علي المأموني، ونسب المجد
ابن تيمية اختيارها إلى القاضي أبي يعلى في مقدمة "المجرد" مع
أنه عزى إليه اختيار رواية الوجوب كما ذكرنا.
وهناك رواية ثالثة ذكرها أبو الخطاب في "التمهيد" -ورجحها-،
وهي القول بالوقف، عند الكلام على فعله - صلى الله عليه وسلم -
الذي لم تعلم جهته، ولم يقيده بكونه على سبيل القربة مع أنه
أجرى الاختلاف في الرواية نفسها فيه؛ وقد روي عن أحمد ما يدل
على أنه يقتضي الوقف، حتى يعلم على أي وجه فعل ذلك، عن وجوب أو
ندب أو إباحة. وعزى اختيارها إلى أبي الحسن التميمي، وهو خلاف
ما نسبه إليه القاضي. انظر "العدة" 3/ 735 - 737، و"المسودة" ص
187 - 188، و"التمهيد" 2/ 317 - 318، و" شرح الكوكب المنير" 2/
187 - 189.
(3) انظر "البرهان"1/ 488 - 489، و " الإحكام" 1/ 248، و
"البحر المحيط" 4/ 181.
(2/22)
شاءَ الله (1)، ولا يُصرَفُ عن ظاهره إلا
بدليلٍ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - القدْوةُ، وفي فعلِه
الأسْوة، وهو المأمورُ باتَباعِه، لقوله تعالى: لقَدْ كانَ
لكُمْ في رَسُولِ اللهِ أسْوَة حَسَنة [الأحزاب: 21]، وقال:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]، فلو لم يكُنْ فعلُه دليلًا
لنا، لمَا زال الحَرج بفعلِه عنا، وكذلك لما سُئلَ عن الغُسْلِ
قال: "أما أنا فيكفيني أن احْثوَ على رأسي ثلاثَ حَثَياتٍ من
ماءٍ" (2)، وقال: "إنما أنْسَى لأسن" (3)، ولَمَّا خلعَ
النَّعلَ خَلَعُوا (4).
__________
(1) في الجزء الرابع، الصفحة 111.
(2) أخرجه أحمد 4/ 81 و84 و 85، والبخاري (254)، ومسلم (327)،
وأبو داود (239)، وابن ماجه (575)، والنسائي 1/ 135 و 207،
والبيهقي 1/ 176 من حديث جبيربن مطعم قال: تماروا في الغسل عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم -،" فقال بعض القوم: أما أنا
فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف".
وفي الباب أيضاً عن جابر بن عبد الله، وعائشة، وأم سلمة،
وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
(3) روى مالك في "الموطأ" 1/ 100: أنه بلغه، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "إني لأنْسى أو أنس لأَسُنَّ".
قال ابن عبد البر في "التمهيد" 24/ 375: هذا الحديث بهذا
اللفظ، فلا أعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه
من الوجوه مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد
الأحاديث الأربعة في" الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا
مرسلة، والله أعلم، ومعناه صحيح في الأصول ...
(4) رواه الطيالسي (2154)، وعبد الرزاق (1516)، وابن أبي شيبة
2/ 417، =
(2/23)
وإذا ثبتَ هذا فلا يُصرَفُ عن الوجوب إلا
بدَلالةٍ توجبُ تخصيصَه بذلك.
والثاني من المذاهب: يقتضي النَدْبَ؛ لأنه قد بلغَ مَبْلَغَ
القُرَبِ، وتَرددَ بين أن يكونَ خاصاً له وبين أن يكونَ
عامَّاً لنا، فأعطَيْناهُ أدنى مراتبِ القُرَبِ، وهو النَدْبُ،
ولم نَرْتَقِ إلى ما أعلى منه إلا بدليلٍ.
والثالثُ: أنه على الوَقْفِ، لترددِه بين تخصيصِه - صلى الله
عليه وسلم - وبين تشريعِه، فوقَفْنا حتى يَبينَ من أيَ
القِبيلَيْنِ هو، وليس له صيغةٌ تقتضي إيجاباً ولا نَدْباً.
فصل
في الثالث من مراتبِ السنةِ وأقسامِها
الِإقْرارً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لآحادِ أُمَّتِه
على قول يسمعُه فلا يُنكِرُه، أو فعلٍ يراهُ فلا يَنْهى عنه،
فيكونُ إقرارُه عليه في حكمِ تَجْويزِه له بصريح القولِ؛ لأنه
كما لا يُقَرُّ هو على الخطإِ لا يجوزُ له إقرارُ أُمتِه على
الخطإِ.
__________
وأحمد 3/ 20 و92، والدارمي 1/ 320، وأبو داود (650)، وأبو يعلى
(1194)، وابن خزيمة (1017)، وابن حبان (2185)، والحاكم 1/ 260،
والبيهقي 2/ 431، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي عن
أبي سعيد الخدري، قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، فلما صلى خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فخلع القوم نعالهم،
فلما قضى صلاته قال: "مالكم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك
خلعت فخلعنا، قال: "إني لم أخلعهما من بأس، ولكن جبريل أخبرني
أن فيهما قذراً، فإذا أتى أحدكم المسجد، فلينظر في نعليه، فإن
كان فيهما أذى، فليمسحه".
(2/24)
فالإقرار على القولِ: مثلُ قولِ أبي بكرٍ
بمحْضَرٍ منه لماعِزٍ: إن أقَررْتَ أربعاً رجَمَكَ رسولُ الله
(1)، فهو كقوله لماعِزٍ: إن اقرَرْتَ أربعاً رجمتُك.
ألا تراه لم يَتجاوزْ عن قول الخطيب: من يطعِ اللهَ ورسولَه
فقد رَشِد، ومن يَعصِهما فقد غَوَى، بل قال له: "بئس الخطيبُ
أنت، أسِيَّانِ هما؟ قل: ومن يعصِ اللهَ ورسولَه فقد غَوى"
(2)، فأقَرة على الجمعِ بين اسمِ اللهِ واسمِه بالواو، وهي
للجمع، ولم يُقِرة على التَّثْنيةِ في "يعصِهما" (3) حسبَ ما
جاءَ به الكتابُ العزيزُ: {والله ورسولُه أحقُّ أن يُرْضُوهُ}
[التوبة: 62]، ولم يَقُلْ: يُرضُوهما.
وكذلك لما سمعَ رجلًا يقولُ: الرجل يجدُ مع امرأتِه رجلًا؛ إن
قتلَ قتلتُموه وإن تكلمَ جَلَدتُموه، وإن سكتَ سكتَ على
غَيْطٍ، أم كيف يَصنع (4)؟ فلم يُنكِرْ عليه ذلك، فكان إقراراً
له على ذلك، فكأنه قال: إن قتلتَ قَتلتك، وإن تَكلَّمتَ
بالقَذْفِ جلدتُك، وإن سكتَّ فاسْكُتْ على غيظٍ منك.
__________
(1) سلف تخريجه في الصفحة (41) من الجزء الأول.
(2) رواه أحمد 4/ 256 و379، ومسلم (870)، وأبو داود (1099) و
(4981)، والنسائي 6/ 90، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"
(3318)، وابن حبان (2798)، والحاكم 1/ 289 من حديث عدي بن
حاتم. وليس عندهم جيمعاً: "أسيان هما؟ ".
(3) في الأصل: "يعصيهما".
(4) راجع تخريجه في الصفحة (41) من الجزء الأول.
(2/25)
وإلى أمثال ذلك من إقراره لهم (1) على
اعتراضاتِهم عليه - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، كقولهم:
نَهَيْتَنا عن الوِصالِ وواصَلْتَ، ما بالُنا نَقصُرُ وقد
أمِنَّا؟، دعاكَ قوم فأجبْتَ، ودعاكَ قومٌ فلم تُجِبْ،
أمَرْتنا بالفسخِ ولم تَفْسَخْ، فاعتذر عن كلِّ اعتراضٍ منهم
بعُذْرٍ، فقال في الوِصالِ: "لستُ كاحدِكم" (2)، وقال في
القصْرِ: "صدقةٌ تَصدَّقَ بها اللهُ عليكم، فاقبلوا صدقتَه"
(3)، وقال في الفسخِ: "إني قلَّدْتُ هَدْيي ولَبدْتُ رأسي، فلا
أحِل حتى أنْحَر" (4)، وقال في الزيارةِ: "إن في بيتِ فُلانٍ
__________
(1) في الأصل: "له" بضمير الِإفراد، والصواب ما أثبتناه.
(2) رواه ابن أبي شيبة 3/ 82، وأحمد 3/ 124 و173 و193 و 202 و
218 و235 و247 و253 و276 و289، والد ارمي 2/ 8، والبخاري
(1961) و (7241)، ومسلم (1104)، والترمذي (778)، وابن حبان
(3574) و (3579)، والبيهقي 4/ 282 من حديث أنس بن مالك.
وفي الباب عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري،
وعائشة رضي الله عنهم.
(3) أخرجه أحمد 1/ 25 و36، والدارمي 4/ 351، ومسلم (686)، وأبو
داود (1199) و (1200)، وابن ماجه (1065)، والترمذي (3034)،
والنسائي 3/ 116 - 117، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/
415، وابن حبان (2739) و (2741)، والبيهقي 3/ 134 و140 - 141 و
141 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) أخرجه مالك 1/ 439، وأحمد 6/ 283 و 285، والبخاري (1566) و
(1697) و (1725) و (4398) و (5916)، ومسلم (1229)، وأبو داود
(1806)، وابن ماجه (3046)، والنسائي 5/ 136، وابن حبان (3925)،
والبيهقي 5/ 12 و12 - 13 و 134 من حديث حفصة أم المؤمنين أنها
قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شأن الناس حلوا
ولم تحلل أنت من عمرتك؛ فقال: "إني =
(2/26)
كلباً"، فقالوا له: إن فى بيت فُلانٍ
هِراً، فقال: "الهِرُّ سَبُعٌ ليست بنَجَسٍ" (1)، وهذا كُلُّه
يَدُلُّ على جواز الاعتراضِ لاستعلام العللِ، ولو لم يَجُزْ
لنهاهم عن أصل الاعتراضِ.
وحُكم القولِ قد بيناه (2)، فكذلك إقرارُه الجاري مَجْراهُ.
فصل
وأما إقرارُه على الفعل: فمثلُ ما رُوِيَ أنه رأى قَيْسَ بن
قَهْدٍ يُصلي ركعتي الفجرِ بعد الصبح، فلم يُنكِرْ عليه (3)،
فكان حكمُ إقرارِه لقيس حكمَ فعلِه للركعتين، وقد سبقَ الكلامُ
في فعله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
= لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر".
(1) أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 32، وأحمد 2/ 327 و442، والطحاوي
في" شرح مشكل الأثار" (2656)، والعقيلي في "الضعفاء" 3/ 386 -
387، وابن عدي في "الكامل" 5/ 1892، والدارقطني 1/ 63، والحاكم
1/ 183، والبيهقي 1/ 249 من طريق عيسى بن المسيب البجلي، عن
أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار، قال: فشق ذلك عليهم،
فقالوا يا رسول الله، سبحان الله، تأتي دار فلان، ولا تأتي
دارنا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأن في داركم
كلباً، قالوا: فإن في دارهم سنوراً، فقال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "إن السنور سبع". وهو عند بعضهم مختصر، ولفظه في
بعض المصادرة "الهر سبع" كما عند المصنف. وفي إسناد الحديث:
عيسى بن المسيب البجلي الكوفي، وهو ضعيف. انظر "نصب الراية" 1/
134 - 135، و"التلخيص" 1/ 25، والتعليق على "شرح مشكل الآثار".
(2) انظر ما تقدم قريباً في الصفحة (15).
(3) سبق تخريجه في الصفحة (41) من الجزء الأول
(2/27)
فصل
في الدَّلالةِ الثالثةِ بعد الكتابِ والسنةِ، وهي الإجماعُ
وقد مضى تحديدُه (1) بما أغنى عن إعادتِه، وهو ضربان: أحدُهما:
ما ثبتَ بقول جميعِهم، كاتفاقهم على جواز البَيْعِ، والشرِكةِ،
والمُضارَبةِ، وغيرِ ذلك من أحكام الشرع التي لم يَخْتلِفِ
الناسُ في جوازِها.
فحكمُه: أن يُصارَ إليه وُيعمَلَ به، ولا يجوزُ تركُه بحال، إذ
لا يَتسلطُ على حكمه بعد ثبوته نسخٌ؛ لأنه لاطريقَ إلى النسخ
بعد انقطاعِ الوَحْي، ولا نَص يُعارِضُه، ولا لنا إجماعٌ
يُعارِضه، بخلاف ما قلنا في النص الذي يعارضُه نص آخرُ؛
لاجتماع نَصيْنِ في زمنٍ واحدٍ؛ لأن النصَيْن يصدران عن عصرٍ
يجتمعُ (2) فيه النصان، وهو عصرُ النبوَّةِ، والإجماعُ لا
يَتحققُ في عصر النبوَّةِ، والنص لا يبقى لنا مُجدداً في (3)
زمن الإجماعِ، فلذلك لم يُتصوَّرْ معارضتُه بنص -ولا إجماع،
وامتناعِ إجماعين في عصر واحدٍ، ولأن الأمةَ معصومة في
اتِّفاقها عن أن تُجمعَ على حكم ثبتَ فيه نص عن الله سبحانه أو
عن رسولِه بخلاف اتِّفاقِهم.
__________
(1) انظر الصفحة (42) من الجزء الأول.
(2) في الأصل: "يجمع".
(3) عبارة الأصل: "ونص لا يبقى لنا مجدد"، ولعل الصواب كما
أثبتنا.
(2/28)
فصل
فأمَّا ما ثبتَ بقول بعضِهم (1) أو فعلهِ وسكوتِ الباقين، مع
انتشارِ ذلك بينهم من غير إنكارٍ له، ولا ظهور ما يدل على أنهم
في مُهلةِ النَظرِ فيه، كقوله: حتى أنظُرَ في هذا، أو دَلالةِ
حال تدل على توقفِه توففَ الناظر فيه، لا المُصحَحِ له، فذلك
حُجةٌ.
ومهما ظَهَرَ نكير أو توقفٌ، فليس ذلك الحكمُ والفَتْوى إلا
قولٌ (2) لقائلِه ومذهبٌ للناطقِ فيه دون الساكتِ، وإنما كان
كذلك؛ لأن الإنكارَ مخالفة، فلا إجماعَ، وظهورَ الارْتياءِ
والنظَرِ عدمُ موافقةٍ، فلا يكونُ إجماعاً مع عدمِ الاتفاقِ؛
إذ ليس الِإجماعُ إلا الاتفاقَ.
وأما السكوت: فقد جعلَه قوم إجماعاً، ومَنَعَ منه آخرون مع
قولهم: إنه حُجةٌ، ومَنْ منعَ أن يكونَ قولُ الصحابى حجةً،
ومنعَ أن يكونَ السكوتُ موافقةً، فلا يَتحققُ عنده حُجةً ولا
موافقةً.
فوَجْهُ من قال: إن سكوتَهم الذي لا يَظهرُ معه التوقفُ للنظرِ
موافقةٌ: هو أن الأمَةَ معصومةٌ على مذهب القائلين بالإجماع،
والمعصوم كما لا يَنطِق بخطأٍ لا يُقِر على خطَأٍ، ألا ترى أن
الرسوَلَ - صلى الله عليه وسلم - كان معصوماً عن الخطإ بنفسهِ
في أحكامِ الشرعِ لم يقِر على
__________
(1) هو الضرب الثاني من الإجماع.
(2) كذا الأصل بالرفع، وهو مخرج على لغة بني تميم؛ فإنهم
يبطلون عمل "ليس" إذا اقترن الخبر بعدها بـ "إلا"؛ كما يبطل
أهل الحجاز عمل "ما" إذا كان خبرها كذلك. انظر "مغني اللبيب"
1/ 293 - 294 و"الجنى الداني" ص 460.
(2/29)
خطإ، فجعِلَ إقرارُه على الأقوال والأفعالِ
كقوله وفعلِه المعصُومَيْن من الخطإِ.
فإن قال- مَن لم يجعلِ السكوتَ موافقة، ولم يَنسِبْ إلى ساكتٍ
قولًا -: إن الساكتَ منهم أمرُه في سكوتِه مُتردِّدٌ بين
النظرِ والارتياءِ في حكم القَضيَّةِ، وبين حِشْمةِ القائلِ
بأن يكونَ إماماً صارماً أو عالِماً مهوباً (1)، كما قال
بعضُهم: هِبْته وكان امْرَأٌ مَهِيباً (2)، وكما قال أبو
__________
(1) من الهيبة، بني على قولهم: هُوبَ الرجل، لما نقل من الياء
إلى الواو، فيما لم يسم فاعله، ومنه قول حميد بن ثور الهلالي:
وتأْوِي إلى زُغْبٍ مساكين دونهم ... فلًا لا تَخطَّاه الرفاق
مَهُوبُ
وهو شاذ مخالفً للقياس، والجادة فيه: مَهِيبٌ. انظر "شرح
الشافية" 3/ 149، و"اللسان" (هيب).
(2) قاله ابن عباس في عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وذلك في
مسألة المباهلة، وهي أول مسألة عالت في الميراث في زمن عمر،
وخالف فيها ابن عباس بعد وفاة عمر. فقد روى البيهقي في "السنن"
6/ 253، وأورد ابن حزم في "المحلى" 9/ 264 عن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان
على ابن عباس بعد ما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال:
ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً
وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟ .. ، فذكر الحديث.
وفي آخره: قال ابن عباس: فلو أعطى من قدم الله فريضة كاملة، ثم
قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص، ما عالت فريضة، فقال له
زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته والله!.
وروى بعضه عبد الرزاق في "مصنفه" (19022) و (19024)، وسعيد بن
منصور في "السنن" 1/ 44. وانظر "المغني" 9/ 28 - 29.
(2/30)
هريرة لمَّا أكْثَر الروايةَ بعد موتِ عمرَ
رضي الله عنهما: إني لو رَويت ذلك في أيَّامِه، لرأيتُ
الدِّرَّةَ تفعلُ وتصنعُ (1).
ويحتملُ أن يكونَ السكوتُ للموافقةِ وحُجةً لا تَتحققُ مع
الترددِ؛ لأنه مَقامُ اتَباع وبناءِ أحكام الشرع المُوجبةِ
للأموالِ، والمُريقةِ للدماءِ، والمبيحةِ للفُروجِ، فكيفَ
يُقدَمُ عليها بأمرٍ يتردَّدُ هذا التردُّدَ المتقابِلَ الذي
لا يُرجحُ إلى الموافقةِ دون المخالفةِ، [و] الذي لا يُبْنى
عليه رضاً بنقلِ ملْكٍ، ولا إتلافِ مال، حتى لو أمْسَكَ عن بيع
مالِه، لم يكُ ذلك رضاً ولا إذناً، ولو أمسكَ عن إفسادِ مال،
لم يكُ ذلك إذناً مُسقِطاً للضَّمانِ، فكيف يُبنى من الِإمساكِ
حُجَّة هي آكَدُ حُجَّةٍ لأهلِ الِإسلامِ.
قيل: التَّرددُ المذكورُ يُتصوَّرُ في حق النبىِّ - صلى الله
عليه وسلم -؛ بأن يكون مُنتظِراً للوَحْي، وكم قضيَّةٍ وسؤالٍ
وحادثةٍ انتظرَ في حُكْمها الوحيَ، كقصَّةِ عائشةَ رضي الله
عنها لما اتُهمَتْ، أمسك حتى جاء الوحيُ، فأقامَ الحدَّ على
القاذفِ (2)، وقصَّةِ المُتلاعِنَيْن ما زال يقولُ للزوج:
"البَيِّنَةَ أو
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (20496)، وأورده ابن عبد
البر في" جامع بيان العلم وفضله" 2/ 121، وابن كثير في
"البداية والنهاية" 8/ 110.
(2) قصة الإفك أخرجها عبد الرزاق (2748) و (2749) و (2750)،
وأحمد 6/ 194 - 197 و197 - 198، والبخاري (2637) و (2661) و
(2879) و (4025) و (4141) و (4690) و (4757) و (6662) و (6679)
و (7369) و (7545)، ومسلم (2770)، وأبو داود (4735) و (5219)،
والترمذي (3185) و (3581) والنسائي في "الكبرى" (8931)، وابن
جبان (4212) و (7099)، والبيهقي 7/ 101 و 302 و302 - 303 من
حديث عائشة رضي الله عنها.
(2/31)
حَد في ظَهْرِك" (1)، حتى نزلَتْ آيات
اللِّعانِ.
ويحتمل أن يكونَ سكوته لمهْلَةِ النظرِ، على قول من يُجَوزُ في
حقَه الاجتهادَ في الحوادثِ، وَيرَى الاجتهادَ طريقاً لأحكامه
في القضايا، والنقل يشهد بصحَةِ ذلك؛ حيث عوتِبَ على الفِداءِ
(2)، ولو كان فعلُه عن وحيٍ، لما عتِبَ عليه، بل كان ما نزلَ
نسخاً للحكم في المستقبل، لا عِتاباً على الأولِ، ومثل عَتْبِه
على الاستغفار للمشركين (3)، والصلاةِ والقيامِ على قبور
المنافقين (4)، ثم مع كونه
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 238، والبخاري (2671) و (4747) و (5307)،
وأبو داود (2254) و (2256)، وابن ماجه (2067)، والترمذي
(3179)، والبيهقي 7/ 393 - 394 و 394 - 395 و 395 من حديث عبد
الله بن عباس رضي الله عنه.
وفي الباب عن أنسى بن مالك عند أحمد 3/ 142، ومسلم (1496)،
والنسائي 6/ 171 و172 - 173، والبيهقي 7/ 405 - 406.
(2) أخرجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أحمد 1/ 30 -
31، و32 - 33، وعبد بن حميد (31)، ومسلم (1763)، وأبو داود
(2690).
(3) أخرج أحمد 5/ 433، والبخاري (1360) و (3884) و (4675) و
(4772)، ومسلم (24)، والنسائي 4/ 90 - 91 من حديث المسيب بن
حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ... ، فقال: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك"، فانزل
الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] وأنزل الله تعالى في أبي طالب:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
[القصص: 56].
(4) وذلك عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله
بن أبي ابن سلول، فانزل =
(2/32)
يَجتهِدُ تارةً، وينتظِرُ الوحيَ تارةً، لم
يَخرُجْ إمساكُه عن الِإنكارِ للأقوالِ والأفعالِ عن كونه
حُجَّةً مُتَبَعةً، وسُنَّةً محتجاً بها، على أن القومَ لم
يكونوا لِيمسكُوا عن لائحِ اعتراضٍ عليه - صلى الله عليه وسلم
-، وعلى (1) أئِمتهم ومُتقَدميهم في العلوم؛ طلباً لإِثارة
الفائدةِ، وعِلْمِ ما لم يَعْلموا، والنبيُّ [- صلى الله عليه
وسلم -]، يُقِرُّهم على اعتراضهم وُيجيبُهم، وكذلك المُتقدَمون
من الأئمَّةِ والخلفاءِ.
فأمَّا اعتراضُهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقولُهم:
ما بالُنا نَقصُرُ وقد أَمنَا؟ واللهُ تعالى يقولُ: {أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ,
فلم تقُلْ: ليس لكم الاعتراضُ، بل أنتم مأخوذونَ بالاتباع من
غيرِ سؤال، بل قال لهم: "صدقةٌ تصَدَّقَ الله بها عليكم،
فاقْبَلُواَ صدقَته" (2).
وقالوا له في فَسْخِ الحجِّ: أمَرْتَنا بالفسخ ولم تفسخْ؟
فقال: "لو استَقْبلتُ من أمرِي ما اسْتَدبَرتُ، لما سُقْتُ
الهَدْيَ، ولَجعلْتُها عُمرةً، لكنَي سُقْتُ هَدْيِي، ولَبدْتُ
رأسي، فلا أحِلُّ حتى أَنْحَرَ" (2).
وقالوا له: نَهَيْتَنا عن الوصال وواصَلْتَ، فقال: "لستُ
كأحدِكم،
__________
= الله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، أخرجه من
حديث عبد الله بن عمر: أحمد 2/ 18، والبخاري (1269) و (4670) و
(4672) و (5796)، ومسلم (2400) و (2774)، وابن ماجه (1523)،
والترمذي (3098)، والنسائي 4/ 36 - 37.
(1) في الأصل:"وعن".
(2) سلف تخريجه في الصفحة (26).
(2/33)
إني أظَل عند ربي، فيُطعِمُني وَيسْقِيني"
(1).
ولَمَا قال في شاةِ آلِ مَيْمونةَ حيثُ مَروا بها عليه تُجَر
كما يُجَر الحمارُ: "هلَّا أخذَ أهلُ هذه الشَاةِ إهابَها،
فدَبَغُوه، فانتفَعُوا به"، قالوا: إنها مَيْتة، ومعلومٌ أنهم
لا يجوزُ أن يَظُنُوا فيه أنه لم يَعلَمْ أنها مَيْتة مع جَرهم
(2) لها، ومع ذِكْرِ إهابِها بالدبْغِ دون سائرِ أجزائِها، لكن
كان قولُهم لِإثارة فائدةٍ، وإزالةِ شُبْهةٍ مع قول الله
سبحانه: {حُرمَتْ عليْكُمُ المَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فخرجَ
جوابُه مَخْرجَ ما عَلِمَه من شبههِم بظاهر الآيةِ، فقال:
"إنَما حَرُمَ من المَيْتَةِ أكْلُها" (3)، فكأنه أجابَهم
بتخصيص عمومِ الآيةِ التي كان من عمومِها الشُبْهَةُ.
ولَمَا دُعِيَ إلى دار قومٍ فأجابَ، ودُعِيَ إلى دار قومٍ فلم
يُجِبْ، اعترضوا اعتراضَ المُستعلِمِين للفرق، فقال: "إنَّ في
بيتِ فُلانٍ كلباً" يعني الذي امْتَنَعَ من قَصْدِه، فاعترضوا
عليه اعتراضاً ثانياً يُضاهي الكَسْرَ (4) لتعليله - صلى الله
عليه وسلم -، فقالوا: فإن في بيت فلانٍ هِراً، فلم يُنْكِرْ
ذلك، وهو إتباعُ اعتراضٍ على الجواب، بل عدَلَ إلى الفَرْقِ،
فقال: "الهرُّ سَبُعٌ ليست بنَجَسٍ" (5).
__________
(1) انظر لتخريجه الصفحة (26).
(2) في الأصل: "خبرهم".
(3) هو عند أحمد 6/ 329، ومسلم (363)، وأبي داود (4120)، وابن
ماجه (3610)، والنسائي 7/ 171 - 172، وابن حبان (1285)،
والبيهقي 1/ 15 - 16 من حديث ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها.
(4) لأن الكسر نقض على المعنى دون اللفظ، ويرجع إمَّا إلى منع
صحة العلَّة، أو إلى معارضتها بما يفسدها. انظر "علم الجذل في
علم الجدل" ص 66.
(5) مضى تخريجه قريباً في الصفحة (27).
(2/34)
وذلك باب مُتَّسِعٌ، لكنْ فيما ذكرنا
كفايةٌ لمن عَقَلَ أنَّ القومَ لم يكُ مِنْ دأبِهم وعادتِهم
الإِمساكُ عن أحدٍ في الأحكام الشرعيةِ، ولو سَكَتُوا لأحدٍ
يوماً ما، لسكتوا لأفعالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وقد اعترضوا فيما هو أكبر من ذلك، وهو يوم عُمْرةِ القَضاءِ،
فقالوا: أليسَ قد قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ}؟؛ وقد صُدِدْنا، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -:
"واللهِ لتَدْخلنَّ" (1)، وقال أبو بكرٍ: أقال لكم: العام؟،
فالظاهر مع هذه الحالِ أنَّ سكوتهم موافقةٌ.
وأما ما ذهبَ إليه المعترِض من الحِشْمَةِ والمحاباةِ، فقد
انهالَ إلينا في السِّيَرِ من اعتراضاتٍ لبعضهم على بعضٍ ما
يَمنَع هذا التأويلَ ويُبعِده عنهم، فمن ذلك: ما روِيَ أن
عمرَرضي الله عنه لما نَهى عن المُغالاةِ في صَدَقاتِ النساءِ،
اعترَضَتْ عليه امرأةٌ، فقالت: لِمَ تَمْنَعنا ما اعطانا الله،
والله سبحانه يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (2) [النساء: 20].
ولمَّا نفى نَصْرَ بن حَجَّاج حيث سمعِ امرأةً تشبِّب بذِكْرِه
في شِعْرِها ليلًا، وحَلَقَ وَفْرَتة، قالت له أُمُّه: لِمَ
نفَيْتَ ولدي؟ فقال: لأنه يَفتِن نساءَ المسلمين، فقالت: فهل
نَفَيْتَه إلى بلاد الشِّرْكِ (3)؟! فهذا
__________
(1) هذا الكلام لم يكن في عمرة القضاء، بل هو في يوم الحديبية
عندما صدتهم قريش عن البيت، وهو جزء من حديث مطول: أخرجه عبد
الرزاق (9725)، وأحمد 4/ 328 - 331، والبخاري (2731) و (2732)،
وابن حبان (4872) عن المسور بن مخرمة.
(2) رواه عبد الرزاق في "المصنف": (10420)، والبيهقي في السنن
7/ 233، وأورده ابن كثير في تفسيره 2/ 213.
(3) أخرج ابن سعد في "الطبقات" 3/ 285 عن عمرو بن عاصم
الكلابي، قال: =
(2/35)
اعتراضُ النساءِ على إمامِ وَقْتِه مع
شِدَّتِه وبَأسِه.
وقولُ عليٍّ عليه السلام على مَنْ قال: الماءُ من الماءِ، ولم
يُوجِبِ الاغتسالَ من (1) الإكْسالِ: تُراني أرْجمُهُ، ولا
أوجبُ عليه صَاعاً من ماءٍ (2)!
وقولُ من نَفى العَوْلَ منهم: والذي أَحْصى رَمْلَ عالجٍ عدداً
ما جعلَ اللهُ في الفَريضةِ نصفاً ونصفاً وثُلُثاً، ذهبَ
المالُ بنصفَيْهِ، فأين موضعُ الثُّلُثِ (3)؟!
__________
= أخبرنا داود بن أبي الفرات، قال: أخبرنا عبد الله بن بريدة
الأسلمى، قال: بينا عمر بن الخطاب يعس ذات ليلة، إذا امرأة
تقول:
هل من سَبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْرَبَها ... أم هل سبيلٌ إلى
نَصْرِ بن حجًاجِ
فلما أصبح، سأل عنه، فإذا هو من بني سُلَيْم، فأرسل إليه،
فأتاه، فإذا هو من أحسن الناس شعراً، وأصبحهم وجهاً، فأمره عمر
أن يطم شعره، ففعل، فخرجت جبهته، فازداد حسناً، فأمره عمر أن
يَعْتَمَّ، ففعل، فازداد حسناً، فقال عمر: لا والذي نفسي بيده
لا تُجامعني بأرض أنا بها، فأمر له بما يصلحه، وسيره إلى
البصرة.
وفي سند هذه القصة انقطاع؛ عبد الله بن بريدة لم يسمع من عمر
بن الخطاب، وعمرو بن عاصم الكلابي قال الحافظ في "التقريب ":
صدوق في حفظه شيء.
(1) في الأصل: "عن".
(2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (943) عن علي بلفظ: يوجب
الحد، ولا يوجب قدحاً من ماء؟!.
ورواه البيهقي في "السنن" 1/ 166 عن علىِ أيضاً بلفظ: ما أوجب
الحد أوجب الغسل.
(3) هو من قول ابن عباس، وقد تقدم تخريجه في الصفحة (30).
(2/36)
وقولُ الآخرِ: رَحِمَ اللهُ زيداً، جعلَ
ابنَ الابنِ ابناً، ولم يَجْعلْ أبا الأبِ أباً (1).
والآخرُ يقول: يا أميرَ المؤمنين، إن جعلَ الله لك على
ظَهْرِها سَبيلاً -يعني بالحَدِّ في حق الحاملِ-، فماجعل لك
على ما في بَطْنِها سبيلَاً (2).
وقولهم لأبي هريرة حيثُ رَوَى غَسْلَ اليَديْنِ عند القيامِ من
النَّومِ (3): فما يُصْنَع بالمِهْراس (4)؟
__________
(1) هو من قول ابن عباس في زيد بن ثابت رضي الله عنهما، انظر
المغني لابن قدامة 9/ 68.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 10/ 88 - 89 في الحدود،
والقائل هو معاذبن جبل رضي الله عنه.
(3) حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الِإناء حتى
يغسلها ثلاث مرات، فإنَ أحدكم لا يدري أين باتت يده".
أخرجه: مالك 1/ 21، وأحمد 2/ 241 و 465، والبخاري (162)، ومسلم
(278)، وأبو داود (105)، والترمذي (24)، والنسائي 1/ 6 و7 و
99، وابن ماجه (393)، وابن حبان (1061) و (1062) و (1063) و
(1064) و (1065).
(4) ذكر هذا الاعتراض أحمد في المسند 2/ 382: " ... فقال قيس
الأشجعي: يا أبا هريرة، فكيف إذا جاء مهراسكم؟ قال: أعوذ بالله
من شركَ ياقيس".
والمهراس: هو الحَجرُ الكبير المنقور، لا يقِلُّه الرجال
لثقلِه، يَسعُ ماءً كثيراً، يتطهر الناسُ منه. "النهاية" 5/
259، و"اللسان": (هرس).
(2/37)
وكلامُ عائشة رضي الله عنها في روايات أبي
هريرة بتحقيقِ الأحاديثِ (1).
وقولُ عائشةَ في روايات ابنِ عباسٍ (2).
هذا ظاهرٌ عنهم لمن عَرَفَ السيرة، فأين دعوى الإِمساكِ؟ وفي
هذا كفايةٌ إلى أن يُوَضحَ في مسائل الخلافِ إن شاءَ اللهُ.
فصل
فأمَّا قولُ الواحدِ من الصحابةِ، فقد عَدَّه قوم من الأدلةِ
والحججِ الشرعية، فعلى قولهم: يكون حجة رابعةً للأدلةِ الثلاثة
-أعني الكتابَ والسنةَ والإِجماعَ -وتعلقوا في ذلك بقول النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَةِ الخُلفاءِ
الراشِدينَ مِن بَعدي" (3)، فلا يجوزُ أن يكون ذلك راجعاً إلى
روايتهم عنه؛ لأن ذلك قد دخل في قوله: "سُنتي"، ولأنهم عرفوا
التنزيل والتأويل، وشَهدوا من أفعالِ النبي - صلى الله عليه
وسلم - ما لم يَشهدْه التابعون، فكان قولُهم حجةً لهذه المزية،
وقد أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك حيث
__________
(1) أخرج البخاري (3568)، ومسلم (2493)، وأبو داود (3655)،
والترمذي (3643)، وأحمد 6/ 118، 138، 157، 257 عن عروة بن
الزبير أنَ عائشة قالت: ألا يُعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلسَ إلى
جنب حُجرتي يحدِّث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُسمعُني
ذلك، وكنت أُسَبح، فقام قبل أن أقضي سُبحتي، ولو أدركتُه
لرددتُ عليه، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن
يسرد الحديث كسردكم.
أي: أنها أنكرت عليه كثرة تحديثه وسرده للأحاديث وعدم تمهله
وإعادته ليفهم عنه. وانظر "الِإجابة لِإيراد ما استدركته عائشة
على الصحابة": 121.
(2) انظر "الِإجابة لِإيراد ما استدركته عائشة علئ الصحابة":
87 - 101.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة: (280) من الجزء الأول.
(2/38)
قال: "أَصحابي كالنُجوم، بأيّهم اقتديتم
اهتَديتم" (1). فعلى هذا القولِ هو حجة وُيقدَمُ على القياسِ
كما تُقدمُ سنَةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - (2).
وذهب قومٌ إلى أنه كأقوال المجتهدين ليس بحجةٍ (3)؛ لأنَّ
قولَهم الذي لا يصدُر عن روايةٍ هو المختلفُ فيه، ورأيهم لا
وَجه لترجيحِه على رأينا وقياسِنا، ولو ترجح رأيهُم لقُربهم،
لترجحَ الرأيُ بقُرب الخلفاء والأئمة، ولترجح على الأئمةِ
أقربُهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان كذلك
لكان قولُ أبي بكرٍ حجةً على من دونه، وقول عمرَ حجةً على من
دونه ... وعلى هذا. ولا وجه لذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لمِ يجعل الأفقه الأقرب، بل قال للأقرب: "رحم اللهُ
امراٌ سمع مَقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حاملِ فقه
إلى مَن هو افقه منه" (4). وقد يروي الصحابي للتابعي.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة: (280) من الجزء الأول.
(2) وهذا قول المالكية وأكثر الحنابلة وبعض الحنفية، وهو رأي
الشافعي في القديم.
انظر هذا الرأي وأدلته في: "العدة" 4/ 118، و"التمهيد" 3/ 331،
و "المسودة": 335، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 422، و"شرح تنقيح
الفصول" 445، و"التبصرة": 395، و"البرهان" 2/ 1358، و" الفصول
في الأصول" للجصَّاص 3/ 361، و"أصول السرخسي" 2/ 106.
(3) هو قول الشافعي في الجديد، والرواية الثانية للِإمام أحمد،
ورجّحه الغزالي والآمدي وابن الحاجب وأبو الحسن الكرخي، انظر
المصادر السابقة و"أصول مذهب الِإمام أحمد" 394 و398، و
"إِرشاد الفحول": 243، والمستصفى 1/ 261.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة: (7) من الجزء الأول.
(2/39)
وقد أطلق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
اسم الأفقه على الأبعد عنه، وليس للقُرب والمشاهدة إلا منزلة
التَقدم، فأمَّا الآراء فإنها صفات مخلوقة في الفِطَرِ، فلا
مَزية فيها بالتقدم، ولو كانت الآراء تَتَقاصر بالتأخر، لما
بقي للأواخر من الرأي ما يصلح للمعاشِ ولا المعاد، بل كانت
الآراء تَتَلاشى.
وذهب قوم إلى أنَّ قولَ الواحد من الصحابة حجة مع القياس
الضعيف، وليس بصحيح؛ لأنّه ما لم يكن حجةً من نفسه لايَصيرُ
حجةً بضم القياس إليه، لقول التابعي، ولأنه لو كان قول الصحابي
لقوته، حجة مع قياس ضعيف لكان قولُ التابعي حجةً مع قياس قوي
وجَلى، ولأنهم إن أشاروا بالقياس الضعيف إلى الخَفي وذهبوا إلى
أنه حجة في نفسه، فبانضمامه إلى غيره ما تجدَّد له في نفسه
حجة، فكيف تجدَد في غيره بأن صار حجة به؟
وإن ذهبوا إلى أن القياس الضعيف ليس بحجة، فكيف جعلوا قول
الصحابي بانضمام ما ليس بحجة [له] (1) حجة؟ ولمَ خصّوا ذلك
الضعيف دون أن يجعلوا انضمام صحابي آخر إليه شرطاً في كونه
حجة، والأشخاص إلى الأشخاص حجة في الشرع كالبينَة.
على أن هذا قول فاسد من وجهٍ آخرَ، وهو: أنه لا يكون الإجماعُ
مع كونه من أعظِمِ الأدلة إلا إذا صدر عن دلالةٍ، ولو قياساً
أسندوا الحكم إليه، لم نحتجْ أن نقولَ في الإجماع: إنه لا يكون
حجة إلا بانضمام قياس إليه. كذلك لا نَحتاج - مع علمنا بأنه لا
يذهب
__________
(1) زيادة يستقيم بها السياق.
(2/40)
الصحابي إلى مذهبِ لا يكون مستنداً إلى
رواية إلا بقياس ورأيٍ- أن نَعتبر مع قوله ليكوَن (1) حجةً
قياساً ضعيفاً، بل نكتفي بعلمه أنه ما قال ذلك إلا عن قياس،
كما اكتفينا في الإجماع بذلك، وقد ذهب الشافعي -رحمة الله
عليه- في أحدِ قولَيه إلى أنه ليس بحُجةٍ، فلا يُحتج به ولكن
يُرجحُ به الدليلُ.
فصل
واختلف القائلون بأنه حجُةٌ: هل يُخصصُ به العمومُ؟ على
مذهبين:
فقال قوم: يُخصّ به العموم؛ لأنه دليلٌ ثبت به الحكمُ الشرعي،
فجازَ أن يُخص به العموم وُيصرف به الظاهر، كالقياس.
والثاني: لا يُخص به العموم؛ لأن العمومَ ظاهرُ كلامِ صاحبِ
الشريعة، فلا يُتركُ لِقَول من ليس بمشرع (2).
فقال من نصر المذهبَ الأول: إذا جاز أن يُثبتَ به حكمٌ شرعي
وإن لم يكن قولًا للشارع، جاز أن يُخَص به العمومُ وُيصرفَ به
الظاهر، وان لم يكنْ قولًا للشارع.
فصل
ويترتب على ذلك التنبيه، وهو فَحوى الخِطاب، وقد عدَّه قومٌ من
__________
(1) في الأصل: "ليكن".
(2) سيأتي تفصيل هذه المسألة وبيانها في 3/ 397.
(2/41)
أدلة النُّطق، وعده آخرون من المعقول (1).
وصورتُه: نَصٌ على الأعلى بحكم يُنبه به على الأدنى، أو على
الأدنى ليُنبه به على الأعلى، كقوله سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فنبه بأداءِ القِنطارِ
على أداءِ الدينار، ونبه بنفي أداء الدينار على نفي أداء
القِنطار، ونَهى عن التأفيف في حق الأبوين، ونبه بذلك على ما
هو أكثر منه من الأذايا، ووجهُ قلة الأذية بالتأفيف: أنه دالٌّ
على التبرمِ والضجرِ، وليس بصريح، والصريحُ آكد في تأليمِ
القلوبِ.
وقد سماه قوم: قياساً جلياً، وكنهي النبي صلى الله عليه وسلم
عن التضحيةِ بالعَوراء (2)، فكان ذلك منه تَنبيهاً على
العَمياء، إذ فقدُ العينِ الواحدةِ أقلُ في التعيب والمضرة؛
لأنها قد ترعى من أحد الجانبين، والعمى يعدمها الرعي ورؤيةَ
العُشبِ والمرعى، ويعدم منها عضوان مُستطابان.
ووجه من جعله قياساً: أنه ليسَ في نُطقِ الناهي عن التأفيف
نَهيٌ عن الشتم، وليس في لفظِ الناهي عن العَوراء لفظُ نهي عن
العمياء، لم يبقَ إلا أنه مَعقول من لفظه أنه لما كَرِه
العَوَر -وهو أقل تعييباً- كره العمى لكونه أكثرَ، ولما صانَ
قلب الوالدينِ بنَهيه عن التأليم بالتأفيف لكونه دالًا على نوع
تبرم وتضجر، كان المعقول منه أنه مستدعى لصيانة قلبيهما عن
التأليم بالشتم الذي هو أوفى تأليماً وأذيةً من طريق الأولى.
__________
(1) لهذه المسألة تفصيل وبيان في 3/ 258 وما بعدها.
(2) تقذم تخريجه ص (37) من الجزء الأول.
(2/42)
ووجهُ من قال: إنَّه نُطْقٌ: أن العربَ
وضعتْ هذا مبالغة، فإذا قال: هذا الفرسُ لا يلحقُ غُبارَ
فَرسي. كان أفصحَ عندهم من قولِه: سَبقه فرسي. وإذا قال: فُلان
يأسف على شَم قُتارِ (1) مَطبخه. كان أبلغ من قوله: لا يُطعمني
من طعامِه ولا يَسقيني من شرابه. واذا كان تَنكبُ النطقِ
المُنبىء عن معنى إلى نطقٍ موضوع هو أوفىَ في التفهيم، كان ذلك
نُطقاً، ولا يكون قياساً؛ لأن القياسَ مًا احتاجَ إلى نوعِ
استنباطٍ وتشبيهٍ.
فصل
ويَتلو ذلك: دليلُ الخطاب (2).
وفيه خلافٌ كبير بين أهل العلم الأصوليين والفقهاء في أصله: هل
هو دليل أم لا؟
ثم في تفاصيله اذا عُلَّق الحكمُ على وصفٍ أو شرطٍ أو غايةٍ،
أو اسم، هل يدل على نفي الحكم عما انتفى عنه ذلك الوصفُ وتلك
الغاية وذلك الشرط أو الاسم؟ أو لا يدلُ على النفي بل يكونُ
الحكمُ فيما علق عليه، ويكون ما لم يعلقْ عليه على حكم الأصل
إلى أن تقومَ دلالة، أو يكون دليلًا في تعليقِ الحكمِ بالغايةِ
خاصةً أو الشرطِ والغاية دونَ الوصفِ أو بالثلاثةِ دونَ الاسم
أو بالجمع، ذلك كله مُستوفى في مسائلِ الخلاف إن شاء الله،
إلَا أن من اثبته جعله من
__________
(1) القُتار: ريح القِدر والشواء. "القاموس المحيط": (قتر).
(2) ويسمى كذلك مفهوم المخالفة، وانظر "العدة" 2/ 448، و"شرح
مختصر الروضة"2/ 725.
(2/43)
أدلة المعقول، والمحققون أكثرهم على إسقاطه
من الأصوليين (1)، ووافقهم ابن سُرَيج (2) والقاضي أبو بكر
(3).
ودليل الخطاب عند من أثبته، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ
أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" في
سائمةِ الغنم زَكاة" (4)، فدل ذلك عند من جعله دليلًا على نفي
إيجاب النفقة لغير الحوامِل، ونفي إيجابِ الزكاة في غير
السوائم.
فصل
في التعليق على الغاية
مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَبايعان كلُّ واحدٍ
منهما بالخيار ما لم يَتفرَّقا" (5)،
__________
(1) انظر "التبصرة": 218، و "المستصفى" 2/ 194، و"الإبهاج" 1/
235.
(2) هو أبو العباس أحمدُ بن عمرَ بن سُريج البغدادي، من أعلامِ
فقهاءِ المذهب الشافعيّ، له مصنفات كثيرة تبلُغ نحو (400)
مصنف، منها "الودائعَ" وتصنيف على "مختصر المزني"، توفي ببغداد
سنة (306) هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" 4/ 287 - 290، و"سير أعلام النبلاء" 14/
201.
(3) هو محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي الشافعي، المعروف
بالقفّال الكبير، كانَ فقيهاً وأصولياً ولغوياً. وإمام وقته
فيما وراء النهر، وعنه انتشرَ فقهُ الشافعى بما وراء النهر.
توفي بشاش سنة (365) هـ. انظر "طبقات السبكي" 3/ 200 - 222،
و"سير أعلام النبلاء"16/ 283.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة (37) من الجزء الأول.
(5) أخرجه أحمد 1/ 56، والبخاري (2111)، ومسلم (1531)، وأبو
داود (3454)، والنسائي 7/ 248، وابن حبان (4916)، والبغوي
(2047)، من=
(2/44)
و" لا زكاةَ في مالٍ حتى يَحولَ عليهِ
الحَوْل" (1)، و "على اليدِ ما أخَذَت
حتى تُؤديه" (2). فيدلُّ ذلك على أن ما بعد الغاية بخلاف ما
قبلها.
فصل
فأمَّا تعليقُ الحكم على الأسماءِ، مثل قوله - صلى الله عليه
وسلم -: "جُعلَت لي الأرض مسجداً وجُعِل تُرابها طهوراً" (3)،
فيدل على أن غيرَ التراب عندهم ليس بطهور (4)، واستقصى قومٌ
إلى أن جعلوا تعليقَ الأحكامِ على أسماءِ الألقاب يدلُّ على أن
ما عداها بخلافِه، وتركُ المكالمةِ لهمَ
__________
= حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، بلفظ: "المتبايعان
كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه بالخيار، ما لم يتفرقا، إلا بيع
الخيار".
(1) أخرجه بهذا اللفظ ابنُ ماجه (1792) من حديث عائشة -رضي
الله عنها- وأخرجه عن على -رضي الله عنه-: أحمد 1/ 148، وأبو
داود (1573)، والبيهقي 4/ 95، والدارقطني 2/ 91، وابن أبي شيبة
3/ 158 و 159، بلفظ: "ليس في مال زكاة حتى يحولَ عليه الحول".
وفي الباب عن أنس وابن عمر، انظر" نصب الراية"2/ 329 - 330.
(2) أخرجه أحمد 5/ 8 و12، وأبو داود (3561). والترمذي (1284)،
وابن ماجه (240) والدارمي 2/ 264.
(3) جزء من حديث خصال النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي فُضل
بها على غيره، أخرجه البخاري (335) في التيمم، و (438) في
الصلاة، و (3122) في الجهاد، ومسلم (521)، وأحمد 3/ 304،
والنسائي 1/ 209 - 211، والدارمي 1/ 322 - 323، وابن حبان
(6398) من حديث جابر بن عبد الله.
وفي الباب عن أبي ذر عند أحمد 5/ 148، وأبي داود (4891)
أوالحاكم 2/ 424
(4) هذا رأيُ أكثر الحنابلة، كما قرره المجد في "المسودة" ص
(352)، وانظر "العدة" 2/ 475، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 509 -
510.
(2/45)
أصوبُ، لكن لا بُدَّ من إيضاحِ فَضيحتهم في
ذلك، فإنَّ المقالات البعيدة إذا لم يُتكلم عليها بإيضاحِ
فسادها اشْتاقَت قلوب المتفقِّهة إليها، لتوهم أن القائلين بها
على شيءٍ، ويأتي شرح ذلك كله في مسائل الخلاف إن شاء الله.
(2/46)
|