الواضح في أصول الفقه فصل
في معنى الخطاب
وهو القياس، وقد مضى تحديده في جَدل الأصول (1)، ونذكر هاهنا
حدودَ المحقَقين من الفقهاء:
فقال قوم: رد فرع إلى أصل بمعنى يجمعهما. وهذا حَد حَملي يشمل
قياس العلَّة، والدلالة، والشبه، والصحيح، والفاسد.
وقياس العلَّة من ذلك هو: حملُ فرع على أصل بعله جامعةٍ
بينهما، وإجراءُ حكم الأصل على الفرع.
وقيل: إن قياس العلَّة الصحيح: إثباتُ حكم الأصل للفرع
لاجتماعهما في علَّةُ الحكم.
والعبارات في ذلك كثيرة (2)، وهذا أسَدُّ ما رأيتُ في كتب
المحققين، وسمعتُ من ألفاظ الأئمة المبرزين.
ومثال قياس العلة: قياس النبيذ على الخمرِ بعلة أن فيه
الشدَّةَ المُطربةَ، وقياس الفأرةِ على الهر (3) بعلة الطيافة،
وقياس الأرز على
__________
(1) انظر الصفحة (433) من الجزء الأول.
(2) انظر"العدة"1/ 174، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 223.
(3) في طهارة سُؤرها.
(2/47)
الحِنطة (1) بعلة الطعم، وأنه مَطعومُ
جِنس.
فصل
وقياسُ الدلالةِ، وهو على ثلاثةِ أضرب (2):
أحدها: الاستدلال بخَصيصةٍ من خصائص الشيء عليه، وذلك مثل:
قولنا بنفي وجوب سجودِ التلاوة، لما وجدنا فيه من خَصيصةِ
النافلة، وهو جواز فعلهَ مع عدم الضرورة على الراحلة، فجواز
الفعل مع عدم العُذر على الراحلة من خصائص النوافل؛ فيستدل به
على كونه نافلة (3).
والضرب الثاني: أن يُستدل بالنظير على النظير، كاستدلالنا في
وجوبِ الزكاةِ على مالِ الصبي وفي ماله بوجوب العشر، وهو نوعُ
زكاةٍ في زَرْعه، فنقول: مَن وجبَ العُشر في زَرعِه، وجب رُبعُ
العشر في ماله. وان مَنعوا قولنا: "في" (4) قُلنا: "مَنْ وَجب
العُشر لأجل زَرعه"، فلا يبقى منع.
وانما يُحقق هذا القياس تَحقيق النظارة إذا طولبتَ بالجمعِ أو
__________
(1) في جريان الربا فيه.
(2) زاد أبو الخطاب ضرباً، وهو: قياسُ الاسم الخاص على الاسم
الخاص، مثل: قياس إزالة النجاسة على رفع الحدث بجامع كونهما
طهارة شرعية، فلا تجوز إزالة النجاسة بالخل كما لا يجوز رفع
الحدث به.
انظر "التمهيد" 1/ 29، و"اللمع": 66.
(3) انظر "المغني"2/ 364 - 366.
(4) أي في قوله: "من وجب العشر في زرعه".
(2/48)
ابتدأتَ به لتُكفَى مؤنة المنع أو
المطالبة. وتحقيق النظارة بينهما: أن كلُّ واحدٍ حق لأجلِ
المال وجبَ مواساةً على وجه القُربة بدليل اعتبار النية،
وسمَّاه الشرع: زكاة، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"
يُخْرَصُ الكَرمُ فَتُؤخذُ زكاتُه زبيباً، يُخْرص الرُّطب
فتؤخذ زَكاته تَمراً" (1)، ونصرف كلُّ واحد منهما مَصرف الآخر،
ويجب طُهرةً للمال، وإنما خرج عن نظارته بالحول؛ لأن الحول في
سائر الأموال جُعل لتكامل النماء، وهذا تكامل نماؤه
باسْتحصادِه.
ومثال آخر لهذا القسم: قولنا في ظهار الذمي: مَن صح طلاقُه صح
ظِهارُه كالمسلِم؛ لأن الظهار نظير الطلاقِ حيث كان قولًا يختص
الأزواجَ دال على الإعراض عن الزوجة، وكلُّ واحدٍ منهما يؤثر
في تحريم الأبضاع، وحقيقته القول (2).
فصل
والثالث من ضروب قياس الدلالة: قياس الشبه، مثل: قياس الطهارة
في إيجاب الترتيب والموالاةِ، على الصلاة من حيث اشتبها في
البطلان بالحدثِ.
وقد أخرجه قوم عن أن يكون دليلًا، وسنذكر ذلك في الخلاف إن
__________
(1) أخرجه من حديث عتاب بن أسَيد: أبو داود (1604). والترمذي
(644)، والنسائي 5/ 109 وابن حبان (3279)، والبيهقي 4/ 122.
وأخرجه مرسلاً من حديث سعيد بن المسيب: مالك في "الموطأ" 2/
703.
(2) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 11/ 56.
(2/49)
شاء الله.
فصل
وقد قسم بعضُ أئمة الفقهاء البغداديينْ القياس على ثلاثة أضرب،
فقال: قياس جَلي، وقياس واضح، وقياس خَفي (1).
قال: فالجلي: مالا يَحتمل إلا معنى واحداً، فهو بين المعقولات
كالنصِّ بين الملفوظات، إلا أن بعضَ الأقيسةِ الجليةِ أجلى من
بعض.
وجعلَ الشافعي رضي الله عنه التنبيهَ (2) من قبيلِ القياس
الجلى، كقولهِ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:
23]؛ لأنًّ تَحريم الضرب ليس بلفظه، إذ ليس هو فى لفظه لكنه فى
معناه، وكذلك قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]،
ومن ذلك: "نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن
التَضحية بالعَوراء" (3)، ليس في لفظه النهي عن العمياء، لكن
في معناه، فهذا عند الشافعي من القياس الجلي (4).
__________
(1) هذا التقسيم للقياس باعتبار قوته وضعفه، وأكثر الأصوليين
يَنصون على أنه ينقسم الى قسمين: قياس جلي أو واضح، وقياس خفي.
فيدرجون الواضح الذي جعله ابن عقيل ضرباً مستقلاً بالجلي. انظر
"العدة" 4/ 1325 و"المسوّدة" ص (374)، و"شرح مختصر الروضة" 3/
223، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 207.
(2) أي فحوى الخطاب.
(3) تقذم تخريجه في الصفحة: (37).
(4) انظر قول الشافعية في ذلك وأدلتهم التي يستندون اليها. في
"المحصول" 5/ 121 - 123، و"البحر المحيط" للزركشي 5/ 36.
(2/50)
وامتنع جماعة من الأصوليين والفقهاء من
إدخال هذا في جملة القياس، فقالوا: ما أكثر ما اغترَّ بهذا قوم
وقالوا: إنه قياس، حيث لم يكن في لفظه نهي عن الضرب ولا ذكر
العمياء، وإنما هو في معناه. وليس كما ظنوا، فإن الوضع هو
للمنع نُطقاً، وصار كقول المتهدِّد: افعل ما شئتَ وأكثِر مما
نَهيتُك عنه. قال الله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}
[فصلت: 40] وقا. ل لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64] هذا كله بلفظ الاستدعاء، فهو أكثرُ
من قولكم في التنبيه: ليس فيه ذكر الضرب، لكن وضِعت الصيغةُ
التي هي بصورةِ صيغةِ الأمرِ، تهديداً لضد مَا وضِعَت صيغة
الأمرِ، فإنَّ التهديدَ زجر عن جميع ما ذكره سبحانه، كذلك ذكرُ
التأفيف والدينارِ صيغة موضوعة للنهي عن الكثر، فإذا جازَ أن
تضع: "افعل ما شئتَ" زجراً عن فعل، كان وضعها للنهيّ عن
التأفيف، نهياً عن الضرب بالصيغة لا بالمعنى، وهذا واضح في هذا
الباب.
وأدخل هذا المُقَسم في القياسِ الجلي قولَه - صلى الله عليه
وسلم -: "لا يَقْضي القاضي حينَ يَقْضي وهُو غَضْبان" (1)، وهو
دونَ الأول، والأوّل أجلى، وإنَما أدخل هذا في باب الجليّ،
لأنَّ السابق إلى الفَهم أنَ الغضب يَشغلُ القلبَ، وُيزعج
الطبعَ، وُيحيل المزاجَ، ويعمي عن الرأي، إذ مبنى الرأيّ على
الاعتدالِ، فيتعدّى ذلكَ إلى كلُّ مُزعج للطبعِ مزيل للاعتدالِ
من الطرب، والحزن، والحَقْنِ (2)، والخوف، والجوع
__________
(1) تقدم تخريجه ص (525) من الجزء الأول.
(2) الحقن: هو احتباس البول، والحاقن: هو الذي حَبسَ بولَه.
"اللسان": (حقن).
(2/51)
المفرط، والعطش.
ومن الجلي أيضاً عنده (1) - وإن كان دون الأول- قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تموت في السمن: "إنْ كانَ
جامداً فالقوها وما حَولها، وإن كان مائعاً فأريقوه" (2).
فيسبق إلى الفهم أن كلُّ جامدٍ من دبس وشحم كذلك يؤخذ ما حولها
من جامِده وُيراق مائِعُه؛ لأن الجامد مُتماسك لا تَتَعدى
نجاسة ما لاقَته إلى ما وراء المُلاقَى منه، والمائع بخلافه.
ومن الجلي عنده أيضاً: ما نص عليه، مثل قوله تعالى: {مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الى قوله {كَيْ
لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:
7]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نَهيتكُم عن ادَخارِ
لُحوم الأضاحي لأجلِ الدَافَة" (3).
__________
(1) أي عند الإمام الشافعي رحمه الله.
(2) أخرجه من حديث ميمونة -رضي الله عنها-: أحمد 6/ 335،
والبخاري (235)، و (236) في الوضوء، و (5538) و (5539) في
الذبائح والصيد، وأبو داود (3841) في الأطعمة، والترمذي (1798)
في الأطعمة، والنسائي 7/ 178، والدارمىِ 2/ 109، وابن حبان
(1392)، والبيهقي 9/ 353، وابن أبي شيبة 8/ 280.
وفي الباب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عند أبي داود (3842).
وعبد الرزاق في "المصنف" (278)، والبيهقي 9/ 353، وأحمد 2/
232، 265 ,490.
(3) أخرجه مسلم (1971) في الأضاحي، وأبو داود (2812)، ومالك في
"الموطأ" 2/ 484 - 485، والنسائي 7/ 235، والبيهقي 9/ 293،
وابن حبان (5927)، وأحمد 6/ 51 والدافَّة: من الدّف وهو السير
السريع. =
(2/52)
القسم الثاني: وهو الواضح، مثل قوله
سبحانه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فالذي ظهر من ذلك ووضح أن نُقصان
الحدِّ في حقها لأجلِ الرق الذي فيها لا لأجل الأنوثة، إذ لو
كإن لأجل الأنوثة لأثرت بحدِّها (1) في التنقيص، ومعلوم أنَ
الأنوثةَ لم تُؤثَر في تكميل الجلد ولا في إحصان الرجم، فلم
يبق إلا مَحْضُ الرق، وذلك موجود في رِقِّ العبد، فَيُعدَّى
إليه تنقيصُ الحدِّ.
وكلُّ ما ثبتَ فيه علةُ الأصلِ بضربِ من الدليل، فهو واضح عند
هذا المُقَسم، ولا بأس بما ذكره (2).
قال: وأمَّا الخَفي، فهو: قياس الشَّبَه، وهو: أن يَتردد فرعٌ
بين أصلين له شبة بكل واحد منهما وشبهه بأحدهما أكثر أو أقيس
شَبهاً وآكد تأثيراً، فإنه يُرد إليه. وهذا إنَما يكون إذا لم
يكن أحدُ الأصلينِ علةً مدلولًا علي صحتها يتعدى إلى الفرع.
ومثال ذلك: صحةُ ملكِ العبدِ، فإن العبدَ يتردَّدُ بين أصلين
في الشبه، فيشبهُ الأحرارَ من وجه؛ لأنه مُكلفٌ يجب عليه
القِصاص إذا قَتل عمداً، ويملكُ الأبضاعَ، ويوقع الطلاقَ
بنفسِه، وتجب عليه
__________
= والدافة -كما قال ابن الأثير: قوم من الأعراب يريدونْ المصر.
يريدُ: أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم النبى - صلى
الله عليه وسلم - عن اذخارِ لحوم الأضاحي ليفرقوها، فينتفع
أولئك القادمون بها.
(1) في الأصل: "بحدتها" ولم نَرَ لها وجهاً.
(2) انظر "العدة" 4/ 1325، و"المسوَّدة" ص (347 - 375)، وقد
أطلق القاضي أبو يعلى على القياس الخفي، اسم: " قياس غَلبةِ
الشبه".
(2/53)
الحدودُ والكفاراتُ، ويتعلقُ بإقرارِه حكمُ
الإِلزامِ للحقوقِ في ذِمته، وإيجابِ القَوَد المفضي إلى قَتله
وإسقاط حقِّ سَيدِه من رقِه وماليتهِ، ويصح أمانُه وإيمانه
وردَّتُه، وهذا حكمُ الآدميةِ في الأصلِ، ويشبهُ البهائمَ من
حيث إنه مملوك يُباع وُيبتاع ويوهب، وتجب قيمتُه عند الإتلاف،
ويضمن بالغُصوب والأيدي المتعدية. فإلى أيّ الأصلين كان أميلَ
وبأيِّهما كانَ أشبه وجَبَ إلحاقُه به، وهذا من أحسنِ
الأقْيسة. فلا عبرة بقول من أسقطه، وسنذكر ذلك في مسائل الخلاف
إن شاَء الله.
ونُشير إلى الدلالةِ هاهنا، وذلك أن الشرع قد ورد باعتبار
الأشباه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي سألَه عن
القُبلةِ في الصومِ: "أرأيتَ لو تَمضْمَضتَ" (1). وقال
للخَثعمية حين سألته عن إدراكِ فريضةِ الحجِّ لأبيها وهو شيخٌ
لا يَستمسك على الراحلةِ لتحجُّ عنه: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ
دينٌ فقضيتهِ، أكانَ ذلك ينفَعُه؟ فَدَينُ الله أحق" (2). وقد
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمة
الله عليه: الفَهم الفَهم فيما تَلَجْلج في صَدرك مما ليس في
كتاب الله
__________
(1) السائلُ هو عمر-رضي الله عنه-، والحديث أخرجه أبو داود
(2385) في الصوم، وابن أبي شيبة 3/ 60 - 61، والدارمي 2/ 13،
والبيهقي 4/ 218، وأحمد 1/ 21، وابن حبان (3544)؛ وصححه الحاكم
في "المستدرك" 1/ 431، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه بنحوه مالك في "الموطأ" 1/ 359، وأحمد 1/ 346، و
359، والبخاري (1513) و (1855)، ومسلم (1334) وأبو داود
(1809)، والنسائي 5/ 117 - 119، والبيهقي 4/ 328، والترمذي
(928)، وابن ماجه (2909)، والبغوي (1854)، وابن حبان (3989) و
(3990). من حديث عبد الله بن عباس.
(2/54)
ولا سُنةِ رسولِ الله، ثم اعرفِ الأشباه
والأمثال وقِس بأشبهها بالحق (1).
فصل
من فصول قياس الشَبه
واعلم أنه إذا ثبتَ في الأصلِ علَّةُ للحكمِ وكانَ الفرعُ
يُشبهُ الأصلَ في غير العَلّة، فهل يجوزُ إلحاقُ الفرع به بذلك
الشبه وإن لم يشبهه في العلَّة؟
اختلف في ذلك العلماء، ولأصحابِ الشافعيِّ وجهان حسب الاختلاف:
فمنهم من قال: يجوز ذلك (2)؛ لأنَ شَبهه به فيما أشبهه يغلب
__________
(1) أخرجه الدارقطني 206/ 4، والبيهقي 10/ 115، والخطيب في
"الفقيه والمتفقه" 1/ 200، وأورده الِإمام ابن القيم في "إعلام
الموقعين" 1/ 85 - 86، وابن حَزم في "الإحكام" 8/ 1003، وقال:
" إن نسبته إلى عمر، لا تصح". وتعقبه الحافظ ابن حجر في "تلخيص
الحبير"4/ 196، وصحّح نسبته إلى عمر -رضي الله عنه-.
(2) وهو ما عليه الأكثرون من الشافعية، ويرشد إليه قول الِإمام
الشافعي في كتاب "الأم ": "والقياسُ قياسان: أحدهما: يكون في
مثلِ معنى الأصل، فذلك الذي لا يحل لأحد خلافه، ثم قياس: أن
يشبه الشيء بالشيء من الأصل، والشيء من الأصل غيره، فيشبه هذا
بهذا الأصل ويشبه غيره بالأصل غيره، وموضع الصواب فيه عندنا
والله تعالى أعلم أن ينظر: فأيهما كان أولى بشبههِ صِير إليه:
فإن أشبه أحدهما في خصلتين، والآخرَ في خصلةٍ، ألحقه بالذي هو
=
(2/55)
على الظن أنَه بذلك الشبه مثلُه في جَلب
حكمِ الأصل إليه وموافقته في حكمه.
ومنهم من قال: لا يجوزُ ذلك (1)؛ لأنه قد ثبت أنَّ الحكمَ في
الأصل لأجلِ العلَّة، لا لما أشبهه فيه الفرع فيفضي إشراكه في
حكم الأصل بغير علته، ويفارق هذا إذا لم تكن للأصل علَّةُ؛
لأنه لا يُفضي إلى إثبات الحكم في الفرع بما لم يثبت به حكم
الأصل، لكنا لم نجد إلا الشبه، فعلقنا الحكم في الفرع بما غلب
على ظننا أنَّه هو الذي تعلق به حكمُ الأصلِ.
ويمكن أن يقال على هذا: إن الأحكام الشرعية قد تَثبت في الأصلِ
المقيسِ عليه بعلتين، ولا يمنع تعدية الحكم إلى الفرع بإحداهما
مشاركةُ (2) الفرع للأصل في تلك الواحدة، ومعلوم أن الشَّبهَ
طريقٌ لإثباتِ التعديةِ لحكمِ الأصل إلى الفرع، فلا يُمنع
إلحاقُ الفرعِ بالأصلِ لأجلِ اشتراكِهما في الشبهِ، وإن انفرد
الأصل بالعلة التي لم يشاركْه فيها الفرعُ، فيصيرُ الشبهُ
كإحدى العلتين، فلما لم
__________
= أشبه بالخصلتين".
انظر"الأم" 7/ 85 باب اجتهاد الحاكم، وارجع إلى قياس الشبه،
ورأى الشافعية في حجيته في "المحصول" 5/ 201 - 203، و"البحر
المحيط" 5/ 234 - 241.
(1) ممن ذهب إلى ذلك من الشافعية: أبو إسحاق. الشيرازي، وأبو
بكر الباقلاني، وأبو بكر الصيرفي. انظر "المستصفى" 2/ 310،
و"المحصول" 5/ 203، و"البحر المحيط" 5/ 236.
(2) في الأصل: "ومشاركة".
(2/56)
يقفْ إلحاقُ الفرعِ بالأصلِ أن يشاركه في
العلتين، بل جاز إلحاقُه به لمشاركتِه في إحداهما، كذلكَ لا
يمنعُ الإلحاقُ لمشاركتِه له في الشبه وان لم يشاركْه في
العلَّة.
ولِمن نصرَ الأول -وهو المنع- أن يقول: إن العلتينِ
مُتساويتان، وكلُّ واحدة صالحة لجلب الحكم، فلذلك اكتفينا في
الالحاقِ للفرع بالأصل باشتراكِهما (1) في إحدى العلتين، وليس
كذلك الشبه؛ لأنه لاَ يساوي العلَّة، فإذا وُجِدَ الحكمُ في
الأصلِ مع وجودِ العلةِ فيه، ولم يوجدْ في الفرع لم نأمنْ أن
يكونَ الشبهُ الذي اشترك فيه الفرعُ والأصلُ خِلواً عن جَلب
الحكمِ، وإنما الجالبُ للحكمِ في الأصلِ العلّةُ لقوَّتها
وضعفِ الشبهِ، بخلافِ ما إذا انفرد الشبهُ عن علةٍ في الأصل؛
لأنه لم يبقَ لنا ظاهر به يُجلب الحكمُ إلى الأصلِ إلا الشبهُ،
وقد شاركه فيه الفرعُ، فلذلك عَدينا حكمَ الأصلِ إلى الفرع
(2).
فصل
فيما يفتقر إليه القياس
قال المحققون من العلماء: ولا بُدٌّ للقياس من أصل، وفَرعٍ،
وعلّةٍ، وحُكم.
__________
(1) في الأصل: "لاشتراكهما".
(2) اكتفى المصنف -رحمه الله- بأن يسوق رأي المجيزين والمانعين
لقياس الشبه، دون أن يرجِّح بينهما، والذي اختاره أكثر
الحنابلة، ونصره القاضي أبو يعلى، أن قياسَ الشبه حجةٌ يعتدُّ
بها، وأن الحادثة تلحق بأقربهما اليها، وأكثرهما شبهاً بها.
انظر"العدة" 4/ 1325 - 1329، و "المسودة" ص (374)، و"شرح
الكوكب المنير" 4/ 188.
(2/57)
فالأصل: ما تَعدى حكمه إلى غَيره.
ومن الأصوليينِ من يقول: إنَ الأصلَ هو: النصُّ الواردُ فيما
جعلتموه أصلًا، مثل نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريم
التفاضل في الأعيان الستة (1)، وهذا وإن كان هو الأصل في إثبات
الحكم، فهو مختص بالأصولِ لا يَتعدَّى عنها، وأما الذي يَتعدى
ما في المنصوص عليه من العلّة، فكانت هي الأصول، إذ كان ثبوت
الحكم في الفرع بمعناها دون النص.
ومن الفقهاء من قال: الأصلُ: ما ثَبت حكمه بنفسه (2). وُيريد
بذلك ماثبت حكمه بلفظٍ يخصه.
وقد اعترض هذا القائل على من قال: بأن الأصلَ ما تعدى حكمُه
إلى غيره: بأنَّ الذهب والفضة أصلان، ولم يثبت بهما حكم غيرهما
عند أصحاب الشافعي. فأجابَ عن ذلك: بأنا إنْ عللَّناهما بالوزن
فقد تَعدى حكمهما، وإن قلنا: العلَّة الثمنية على قول الشافعي
-رضي الله
__________
(1) ورد هذا في حديث أبي الأشعث قال: كان أُناس يتبايعونَ آنية
فضة في مغنم إلى العطاء، فقال عبادة: نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر
بالبرِ، والشعيرِ بالشعيرِ، والتمرِ بالتمرِ، والملحِ بالملحِ،
إلا مثلًا بمثل يداً بَيدٍ، فمن زاد أو استزاد، فقد أربى.
أخرجه مسلم (1587)، وأبو داود (3349)، وابن ماجه (4454)،
والنسائي 7/ 274 - 276، والبيهقي 5/ 277، وابن حبان (5015).
(2) يُرجع إلى معنى الأصل في "العدة"1/ 175، و"شرح مختصر
الروضة" 3/ 229 - 230، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 14 - 15.
(2/58)
عنه- فلا (1)، فإن الذهبَ والفضةَ ليسا
عندَ أصحاب الشافعيّ -رحمةُ الله عليه وعليهم- لا أصلينِ ولا
فرعينِ، بل ثبت حَكمهما بالنص من غير أن (2) يُعدَّى إليهما
حكمُ غيرِهِما، ولا يُعدى حكمُهما إلى غيرهما، فلا يُسَميان
بواحدٍ من الاسمينِ لا بفرع ولا بأصلٍ.
وقد قال بعضهم: إنْ صارتْ الفُلوس أثماناً عُدي حكمُهما إليها،
فحرم التفاضل فيها. فعلى قول هذا القائل قد وُجدت خصيصةُ الأصل
فيها.
واعتُرضَ الحد الذي ذكره من قال: ما ثبتَ حكمه بنفسه، بأن قيل:
ليس لنا شيءٌ ثبتَ بنفسه من سائرِ الأحكام، وما فسره به من
قوله: أردتُ: ما ثبتَ بلفظٍ يخصُه. فلا يَقتضيه لفظُه؛ لأن
اللفظ الذي يخصّه إنما هو غيره، وليس هو نفسه.
فصل
والفرع هو: ما تَعدى إليه حكم غيره.
ومن الأصوليين من يقول: إنه الحكم، كما جُعل الأصلُ النص. فلحظ
في ذلك أنَ الذي تفرع عن الأصل إنما هو الحكم، فجعله فرعاً له.
وقد بينا أن الأصل هو: المنصوص على حكمه، والفرع هو: الذي ثبت
بالعلة حكمه.
__________
(1) في الأصل: "لا" أي لا يتعدى حكمهما.
(2) ليست في الأصل.
(2/59)
فصل
والعلة هي: التي ثبتَ الحكم لأجلها، أو نقول: ما أوجَبت الحكم،
أو نقول: ما غَيرت المعتلَ، وهو المحكوم فيه -على قول أبي علي
الطبري (1) - كما تُغيَّر علةُ المرض المريضَ الذي تقومُ به.
فصل
والمعلول هو: الحكم (2)، ولذلك يقول القائل: بمَ تُعلل هذا
الحكم؛ ويقال: اعتل فلان بكذا. فيما ذهبَ إليه من الحكم.
وقال أبو علي الطبري -من أصحاب الشافعيّ رحمة الله عليه-: إنه
المحكومُ فيه، كما يسمى مَن حلَّته العِلة وقامَ به المرضُ:
مَعلولًا.
والأول أصحُ؛ لأن معلولَ العلَّة هو ما أثارته، وما أثارت سوى
الحكم دون ذاتِ ما قامت به العلةُ، بخلافِ الجسمِ، فإنَّ
العلَّةَ تقومُ به وتوثر فيه، فلهذا كان الجسمُ معلولًا.
فصل
والمُعلل: حكمُ الأصل؛ لأنَه المطلوبُ علتُه.
والمُعَلل هو: الناصب للعلَّةِ، وقد يُسمّى ذلك: المستدل
بالعلة؛
__________
(1) هو الحسن بن القاسم أبو على الطبري شيخ الشافعية، من
مصنفاته "المحرِّر في النظر" وهو أول كتاب في الخلاف المجرد،
و"الإفصاح في المذهب"، درس ببغداد، وتوفي فيها سنة (350) هـ.
"تاريخ بغداد" 8/ 87، "سير أعلام النبلاء" 16/ 62
(2) انظر "الكافية في الجدل": 61 - 62.
(2/60)
لأنَه بمنزلة الناصب لها.
والمُعتَل هو: المحتج بالعلة.
فصل
والحكمُ الذي هو من جملة ما احتاج إليه القياس وشرط له، هو:
قَضاء الشرعِ المستنبط.
وصورته: قول القائِس: فكانَ، فوجبَ، فلزمَ، فلم يَجزْ، فأبيحَ،
فاسْتُحب، فاسْتُحِق، وما شاكلَ ذلكَ من العباراتِ بحسب
المسألة المختلَفِ فيها.
فصل
ويجوزُ أن تكونَ العلَّة صفةً ذاتيةً أو شرعيةً، واسماً مشتقاً
أو عَلماً أو حُكماً (1):
فالصفة الذاتية: كالطعم والقوت في الأعيان المنصوص عليها.
والشرعية: كقولنا: عبادة أو كفارة.
والاسم المشتق: كقولنا في النَّبّاش (2): سارق، وفي واطىء
الأجنبية بغير شُبهة: زان.
__________
(1) تُنظر مسألة تعليل الحكم بالأسماء المشتقة وأسماء الألقاب
في "العدة" 4/ 1340، و"التمهيد" 4/ 41، و"المسوّدة " 393،
و"شرح الكوكب المنير" 4/ 42.
(2) نَبش الموتى: استخراجهم بعد الدفن، والنباش: الفاعل
لذلك."اللسان": (نَبشَ).
(2/61)
والاسم العلم: كقولنا: ماء أو تراب.
والحكمُ: كقولنا: مَن صَح طلاقه صَح ظِهاره، ومَن وجب العُشرُ
في زَرعهِ أو لأجلِ زَرعه، وجبَ رُبع العُشر لأجل مالهِ، وما
لا تجبُ الزكاةُ في ذكورِه لا تجبُ في إناثِه، كغير الخيل من
الوحوشِ والبغالِ والحمير (1).
فصل
وقال قوم من أهلِ الجدل: إنَّ الاسمَ العَلم لا يجوزُ أن يَكون
علةً (2): لأن العلَّةَ: ما أفادت معنى يتعلق به الحكم، والاسم
إنما هو مُواضَعةٌ بين أهل اللغة للتعريف، وما كان للتعريف لم
يتضمن التعليل، كقولنا: زَيد وعَمرو، ولهذا كان مَوجوداً قبل
الشرع.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن العللَ الشرعيةَ أمارات من جهةِ صاحب
الشرع جُعِلتْ علامات على الأحكام وصارت علةً بجعلِ جاعلٍ،
وكذلك لَو وَرد التعليلُ به من صاحبَ الشرع، فقال: أزيلوا
النَّجاسةَ بالماءِ لا بغيرِه؛ لأنَّه ماء، وتَيمموا بالتراب؛
لأنه ترابٌ، كان تعليلًا صحيحاً، وإذا جاز وُرودُ الشرع به
(3)، لم يجز المنعُ من كونِه علةً؛ ألا ترى أن العقوبةَ لما لم
يجزْ أن تكون مُعللةً بإحسانِ المحسِن، وطاعةِ المطيعِ، لم
يجزْ أن يردَ الشرعُ بها، فيقول: عاقبوا زيداً؛ لأنه
__________
(1) انظر تفصيل مسألة زكاة الخيل في "المغني" 4/ 66 - 69.
(2) وهو ما اختاره بعض الشافعية منهم الفخر الرازي، انظر
"التبصرة" 454، و"المحصول " 5/ 311.
(3) ليست في الأصل.
(2/62)
أحسن أو بَر والديه، أو لأنَه وحد الله
وشكر أنْعمه.
وأبداً يوردون على هذا، أنَ صاحبَ الشريعة نفسُ قولهِ حجة،
فلذلكَ حَسُن منه ذلك، ونحن لا نُجوِّز أن يُعَلَّل إلا بماله
شروط العِللٍ، وهذا ليسَ بصحيحٍ؛ لأن صاحبَ الشريعةِ مع كون
قوله حجة، فإنَه إذا أخرجَ الكلامَ مَخرجَ التعليلِ لم يُخرجه
إلا بشروطِ التعليل، وكذلكَ لو قالَ في العقلياتِ من العلل:
إنما أوجبَ كونَ الجسمِ مُتحركاً قيامُ السوادِ به، لم يجزْ.
لِما ثبتَ من أن علّة كونِ المتحرِّكِ مُتحركاً هو الحركةُ،
وقيامُ السواد به لا يوجب إلا كونه أسوداً.
وكذلك لو قال: أحسنوا إلى زيدٍ؛ لأنه مُسيء، وعاقبوا عمراً؛
لأنه
محسن. لم يكن هذا تعليلًا صحيحاً، بل لاتجوزُ علةُ ذلك لما فيه
من الاختلالِ والفساد، ولم يصر صحيحاً لأنه ورد من جهةِ
الشارع.
وكذلكَ القولُ بأنَ زيداً حيُّ وهو ميت، أو أبيض وهو أسود، لما
كان كذباً ممن وجد، ولا يجوزُ ورودُه من صاحب الشرع، كذلك
إضافةُ المعلولِ إلى مالا يَليق بأن يكونَ علةً له، بَل علةً
لضِده.
فإذا ثَبتت هذه القاعدة عُلم أن كلَ شيءٍ علل به الشرعُ، أو
حسنَ أن يُعلّل به، جازَ أن يُعلّق الحكمُ عليه تعليقَ
المعلولِ على علتِه.
فصل
وقال قوم من أهلِ الجدلِ والفقهاءِ: لا يجوزُ أن يكونَ الحكُمُ
علةً للحكم (1).
__________
(1) والراجح المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علَّةُ لحكم آخر.
انظر "التمهيد" 4/ 44، و"المسوَّدة": 411.
(2/63)
وهذا القائلُ لا يرى أن جعْلَ المعلولِ
علةً سؤالًا صحيحاً؛ لأن المعلولَ هو الحكم، فلا يجوز أن نجعله
علةً من حيثُ إيرادُه سؤالًا، وهو لا يراهُ علةً من حيثُ
الاستدلالُ به.
قال: لأنَ الحكمَ معلولُ علةٍ لا ثباتَ له إلا بها، فلا يكونُ
له استقلال إلا بالعله، فكيف يكون علةً لحكمٍ هو مثله؟!
وما ذلك إلا بمثابةِ من قال: إن التحركَ الذي هو معلولُ
الحركةِ علةٌ لتحركِ الجسم.
ومما يدلُ على أنَّ الحكمَ لا يكونُ علةً وانما يكونُ دلالةً
على الحكم: أنا إذا قلنا: ما كانَ رباً في دار الإسلام كانَ
رباً في دار الحرب. لا يقتضي أنه إنما كان رباً في دار الحرب؛
لأنه في دار الإسلام، ولكنَّه إنما كان رباً في الدارين جميعاً
لأجلِ التفاضل فيما حَرُم فيه التفاضل، وذلك هو العلَّة. فإذا
جعله المخالفُ رباً في دار الإسلام، علمنا أنه كان للعلةِ التي
هي التفاضل في الجنسِ، وذلك مَوجود فَي دارِ الحربِ، فكان رباً
فيها بوجودِ علته.
قال بعض أئمةِ الأصول: وهذا استصحاب حالٍ بصورةِ قياس، ومعناه:
أنه قد ثبت كونه رباً في دارنا، فمن ادعى أنَّه ليسَ برباً في
دارِ الحربِ فَعليهِ الدليلُ.
فيقالُ: إن أردتَ أن ذلكَ ليس بعلةٍ موجبةٍ، فهذا حكمُ جميعِ
عللِ الشرع، وإنما الموجبة العللُ العقليةُ.
وإن أردتَ أنها ليست أمارة، فليس بصحيح؛ لأنك أقررتَ بانها
دلالةٌ، والدلالةُ أمارة، ويدل على ذلك أنه قد توجدُ في ذلك
إحدى
(2/64)
الدلائل التي تثبت العلَّة، ألا ترى أنه
يجوز أن يقولَ صاحبُ الشرع: ما كلانَ رباً في دارِ الإسلام
يكون رباً في دار الحرب، كما قال: "مَنْ بَدلَ دينَهُ
فَاقْتُلوه" (1)، فيكونُ علةً، وعلى أنَّ ما كلان رباً في دار
الإسلام فقد تضمن العلةَ الموجبةَ للربا، فصح وصفُه بأنَّه
علةٌ لكونه رباً في دارِ الحرب.
ولعلَّ هذا القائلَ افْترقَ في نفسهِ ما كان غَرضَ الحكمِ وما
لم يكنْ غرضه، وليست العللُ موقوفةً على ذلك، وإنما هي ما
جُعلت بدليل شرعي، وكل علَّةُ يطالب بصحتها فمن مستندها يعطي
أنها لم تقمْ بنفسِها، فيجب أن لا تَصح لنا علَّةُ، إذ لم
نَنفِ أن يكونَ الحكمُ علةً إلا لكونهِ يَستندُ إلى غيره.
فصل
وقد تكونُ العلةُ وجودَ صفةٍ أو اسم، وقد تكون نفياً، كقولنا:
ليس بمطعومٍ (2) ولا ثَمنٍ، أو ليس بموزونٍ وليس بتُرابٍ (3).
وكذلك في الحكم: مالا يجوزُ بيعهُ لا يجوزُ رَهنه، فيكون
النفيُ نافياً للحكمِ، ألا ترى أنه يحسنُ أن نقول: لا تَحسُنُ
عقويتُه؛ لأنه لم يُسىء.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة: (39) من الجزء الأول.
(2) أي ليس بمطعوم فيجوز التفاضل فيه.
(3) أي ليس بتراب فلا يجوز التيمم به.
(2/65)
فصل
ويجوزُ إثباتُ كلَّ حكم شرعي طريقُه الظنُّ بالقياس، سواء كانَ
كفارةً أو حدَّاً أو مُقدراً من المقدرات (1).
ومنع أصحابُ أبي حنيفة من إثبات ذلك بالقياس (2)، واستدلوا في
ذلك بأن الحدود شُرعت ردعاً، وذلك لا يدرك بالقياس، وكذلك
الكفارات لإسقاط المآثم.
وربما قالوا: إن القياس هو رد الفرع إلى أشبه الأصلين به،
والشبَه الآخر شُبهة فيه، والحدود تَسقط بالشبهة بل لا تجب مع
نوع شُبهة.
وهذا لا يصح؛ لأن ذلكَ حكم شرعي ثبتَ بخبر الواحد فثبت
بالقياس، كسائر الأحكام. يوضح ذلك: أن سائر الأحكام ألطاف
ومَصالح، وكما لا يَعلم مقادير الأجرام ومقابلاتها إلا الله،
ينبغي أن لا يُعلم مقدار مصالح الأدميين وألطافهم بالأراء
والقياس، وما اعتل نُفاةُ القياس إلا بهذا في سائرِ أحكام
الشرع، ولو جاز أن لا يثبت حَد ولا كَفارة لما ذكروا من كون
الشبه الآخر الذي لا تَشهد به شُبهة، لكان الخلاف المسوغ شبهةً
حتى لا يجبَ حد مع خلاف، بل لا يجب [إلا] (3) مع الإجماع.
__________
(1) تنظر هذه المسألة، وما قرره الحنابلة ومعهم الشافعية من
جواز إثبات الحدود والكفارات عن طريق القياس، في: "العدة" 4/
1409، و"التمهيد" 3/ 449، و"المسوّدة": 398، و "شرح مختصر
الروضة" 3/ 451.
(2) انظر قول الحنفية هذا في: "أصول السرخسي" 2/ 157 - 164.
(3) زيادة يستقيم بها السياق.
(2/66)
على أننا لا نُثبت حداً ولا كفارة إلا
بقياس دل دليل شرعي على إثباتِ علةِ الحكم به، فصار ثابتاً من
جهةِ صاحب الشرع، وقد ناقضوا بقياسهم كفارةَ الأكلِ على الجماع
بما جمعوا بينهما به من أنه أفطر بمتبوع جنسه وبمقصوده (1).
__________
(1) وذلك فيمن أفطر عامداً بالأكل في نهار رمضان حيث أوجبوا
عليه كفارة المواقع زوجته في نهار رمضان، والتي ورد بها النص،
ودليلهم في ذلك القياس.
(2/67)
فصل
في استصحاب الحال (1)
وهو ضَربان:
استصحابُ حالِ العقلِ في بَراءة الذمم من الحقوق، وهي
العباداتُ والغراماتُ، كقولِ القائلِ في إسقاطِ ديةِ المسلمِ
إذا قُتِلَ في دارِ الحرب، أو في إسقاطِ ما زادَ على ثلث الدية
في قَتل الكتابي خطأ: الأصلُ براءةُ الذمة وفراغُ الساحة، فمن
ادّعى شَغلها فعليه الدليل.
ولسنا نجدُ في الشرعِ ما يشغلها بديةِ المسلم المقتولِ في دار
الحرب، ولا بما زاد على الثلث في قتلِ الكتابي، فيبقى على حكمِ
الأصل. فهذا دليل يفزعُ إليه المجتهدُ عند عدمِ الأدلةِ.
والثاني: استصحابُ حالِ الإِجماعِ، وهذا مُختلف فيه، وهو مثل
قول الشافعي في حق المتيمم إذا وَجَد الماءَ في صلاته: إن
صلاتَه انعقدت بالإِجماع، فلا يزول عن ذلك إلا بدليل. وسيأتي
الكلام على ذلك إن شاءَ الله.
__________
(1) الاستصحابُ لغة: طلب المصاحبة واستمرارها. وشرعاً: استدامة
إثبات ما كان ثابتاً، أو نفي ما كان منفياً. "إعلام الموقعين"
1/ 294، وانظر: "شرح مختصر الروضة" 3/ 147 حيث عرفه الطوفي:
"بالتمسك بدليل عقلي أو شرعي لم يظهر عنه ناقل".
(2/68)
فصول
تجمع أنواعاً من الأقيسةِ، وبيانُ الأحسن والأقوى منها
والأَرَكِّ، وتُحققُ ما أهمله كثير من الفقهاءِ.
فصل
في التقسيم (1)
وقد سبق تحديدُه، وتَقريبه ها هنا: أن يذكرَ المستدلُّ كلَّ
قِسم يتوهم أن الحكم يتعلق عليه ويُبطله، سوى القسم الذي تعلق
به الحكم، وأكثر ما يتفق هذا ويكون مثلُه في الموضعِ الذي يتفق
الخُصماء أو الخصومُ على أن للحكمِ علةً واحدةً.
مثاله: ما يُقال في أن الشفيع يأخذ (2) الشِّقْص (3) بالثمن
الذي وقع العقدُ عليه.
فيقولُ المستدِلُ على ذلك: قد دلَّ على ثبوتِ الشفعةِ للشفيعِ
__________
(1) التقسيم هو: حصر المعترض مدارك ما ادعاه المستدل علةً،
وإلغاء جميعها "شرح مختصر الروضة" 3/ 491، و"التمهيد" 4/ 22،
و"العدة" 4/ 1415، و"المسوَّدة": 426 وانظر ما تقدم في الجزء
الأول (472).
(2) في الأصل: "فى حدِّ".
(3) الشقص: هي القطعة من الأرض، والجمع: أشقاص، انظر "اللسان":
(شقص).
(2/69)
بعد تمام الشراءِ، وأنه ياخذُه بعوض، فلا
يخلو ذلك العوضُ إمَّا أن يكونَ قدرَهُ ما يرضى به الشفيعُ، أو
ما يرضى به المشتري للشقص، أو يَتراضيان به، أو بقيمةِ الشقص،
أو بالثمنِ الذي وقع عليه العقدُ، إذ ليس هاهنا قسم آخر له
تعلق به.
ثم يَشرع في إفسادِ كلِ قسم سوى القِسم الذي يتعلق به الحكم،
فيقول: ولا يجوزُ أن يكونَ القدرُ هو ما يرضى به الشفيعُ؛
لأنَّه قد يكونُ رضاه بالأقلِ الذي يَستضر به المشتري، والضررُ
لا يزال بالضررِ، ولا يجوزُ أن يكونَ ما يرضى به المشتري، فإنه
قد يرضى بالأكثرِ الذي إن أخذَ به الشفيعُ اسْتَضر، وان لم
ياخذ [به] (1) لما يرى من كثرتهِ استضرَّ بإسقاطِ شُفعتِه، ولا
يجوزُ أن يكونَ ما يتراضى به الشفيعُ والمشتري معاً؛ لأنه
يؤخذُ من غير رضَى، وربما لا يتراضيان على شيءٍ، فيؤدي إلى
إسقاطِ الشفعةِ، ولا يجوزُ بقيمةِ الشقص؛ لأنها قد تزيدُ على
الثمنِ فيستضرُ به الشفيعُ، وقد تنقصُ عن الثمن فيستضرُ
المشتري، فلم يبقَ إلا الثمنَ الذي وقع العقدُ عليه، وفي
الأخذِ بالثمنِ إزالةُ الضررِ عنهما (2)، فوجبَ الأخذُ به دونَ
ما سبق من الأقسام.
فصل
ومنها: الاستدلال بالعكسِ، وهو:. رَد آخِر، الأمرِ إلى أولِه،
أو أولِه إلى آخِره (3).
__________
(1) زيادة ليست في الأصل.
(2) في الأصل "عنها".
(3) انظر "العدة"4/ 1414، و "التمهيد" 3/ 358، و"المسودة" 425.
(2/70)
وأصله في اللغة: شَدُّ رأسِ البعير
بخِطامِه إلى ذِراعه.
وعند أهلِ الجدلِ: أن يتبدلَ ترتيبُ الكلامِ ويتحفظَ معه
أمران: الصفةُ والصدقُ.
ومثال ذلك: قولك: رجل قائم. فإذا عكستَ قلت: قائم رجلٌ. فتجعلُ
المبتدأ خبراً والخبرَ مبتدأ، ويتمُ ذلكَ عندهم في النفي العام
أبداً، ولا يتمُ في النفي الخاصّ أبداً. والإثباتُ الخاصُ يتمُ
فيه أبداً، وأما الإثباتُ العام فلا يتمُ فيه إلا إذا جعلته
خاصاً، فإذا قلت: كلُّ مسكرِ حرام. كان هذا صدقاً، وإذا عكست
فقلت: كلُّ حرامِ مسكر. لا تصدقُ إلا إذا خصصت فقلت: وحرامٌ ما
يُسْكِرُ.
وأما صورتُه عند الفقهاءِ: فكقولِ الحنفيّ في الماءِ إذا تغيرَ
بالخل أو الزَّعفران: إنه لو كان تَغير الماءِ بالزعفرانِ
يمنعُ الوضوءَ به، لكان وقوعه فيه يمنعُ (1)، كالنجاسةِ إذا
حصلتْ في ماء قليل، لما منعَ تغيرُ الماءِ بها من الوضوء منع
وقوعها فيه. وذلك أنه يدعي أن التغييرَ والوقوعَ يفترقان
وينعكسان، ما يمنع وقوعه يمنع تغيره، ثم يُبدل فيقول: ما يمنعُ
تغيرَه يمنعُ وقوعَه، على ترتيبِ أهلِ الجدل، إلا أنه ينقلُه
إلى الزعفران فيقول: ثم وجدتُ الزعفرانَ وقوعه لا يمنع،
فتغيرُه لا يمنعُ.
فحقيقةُ العكسِ عند أهل الجدلِ: ما يمنعُ وقوعَه يمنعُ تغيّره،
وما يمنعُ تغيرَه يمنعُ وقوعَه، إلاَ أنه لا يتمُ له إلا إذا
أتى بهما خاصَّين منكرين.
والفقهاءُ يريدونَ بعكسِ العلَّةِ: عدمَ الحكمِ عند عَدمِ
العلَّةِ بكل
__________
(1) أي لكان مجرد وقوع الزعفران في الماء يمنع الوضوء، حتى لو
لم يحُدث تغيراً في طعمه أو لونه.
(2/71)
حال، وهو هذا، لأنهما لا يَفترقان أبداً.
ومثال آخر: من صَح طلاقُه صح ظِهاره، عكسُه عند أهلِ الجدلِ:
مَن صح ظهاره صح طَلاقُه. ويعبر عن ذلك: لو لم يَصح ظهارُ
الذميّ لم يصح طلاقُه، كالصبيِ والمجنونِ.
فصل
وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في صحةِ الاستدلالِ بهذا- أعني العكس
الذى ذكرناه ومثلناه-.
فمنهم من قال: لا يصح (1)؛ لأن عدمَ العلَّةِ لا يدلُّ على
عدمِ الحكمِ في الشرعياتِ، لأن الحكمَ قد ثبت بعكس، فإذا زالت
إحدى العلتينِ جاز أن تخلفَها علَّةُ أخرى، وكذلك عدم أخذ
الحكمين لا يدلُ على عدمِ الحكمِ الأخرِ لجوازِ أن يختلف
طَريقُهما.
ومنهم من قال: يصح الاستدلالُ به، وهم الأكثرونَ من الفقهاءِ
وأهلِ الجدل، وهو أصح (2)؛ لأن الحكمينِ إذا كان طريقُهما
واحداً وثَبتا معاً جاز أن يُستدل بوجود أحدِهما على وجودِ
الآخر، وبعدم أحدِهما على عدم الآخر؛ لأن القرآن تضمنَ
الاستدلالَ بالعكسِ، قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمراد بقولِه:
إلا الله: غير، وهي صفة، فوصفَ الألهةَ التي ادعوها بانها غيرُ
__________
(1) نُسِبَ ذلك إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وغيره من
الشافعية، انظر؛ "شرح الكوكب المنير"4/ 219، "البحر المحيط" 5/
46 - 48.
(2) وهو اختيار أكثر الاصوليين والفقهاء، وقد استدلى به
الشافعي في عدة مواضع.
انظر: "البحر المحيط" 5/ 47.
(2/72)
الله، ولم يتعرضْ لذكرِ الواحدِ في هذا
الموضِع البتة، فكأنه قال سبحانه: لو كانَ فيهما الألهةُ التي
تدعونها لفسدتا، فلما لم تفسدا علمنا أنها ليست آلهة. وهذا
استدلال بالعكسِ.
فصل
ومن جملةِ العكسِ ما يقوله الفقهاء: جعلُ العلَّةِ معلولاً
والمعلولِ علَّةُ (1)، وهو: أن يقدم المؤخر ويؤخر المقدمَ.
والمعلولُ، هو: حكمُ الفرعِ.
مثاله: قولُ أصحابِنا وأصحاب الشافعي في الصداقِ: ما جاز أن
يكون ثمناً جاز أن يكون صَداقاً، كَالعشرةِ. فيقولُ الحنفي:
أنا أقول: ما جاز أن يكون صَداقاً جاز أن يكون ثمناً،
كالعشرةِ، وذلك أنك تقول: العشرةُ جازتْ في الصداقِ؛ لأنها
جازت في الثمنِ، فعلتُك الثمنُ، وحكمُك جوازُ الصداق. وأنا
أقول: بل العشرةُ جازت ثمناً؛ لأنها تجوزُ صداقاً، فأجعلُ
العلَّةَ جوازَها صداقاً، والحكم جوازَها ثمناً، فلا يكونُ
أحدُنا أولى به من الآخِر، فيقف الدليلُ.
وهل يصحُّ هذا السؤال أم لا؛ على مذهبين:
أحدهما: يصح؛ لأنه يقفُ معه الدليلُ (2).
__________
(1) جعلُ العله معلولًا، والمعلول علَّةُ، هو نوع من أنواع
قياس القلب، كما صرح به الكلوذاني في" التمهيد" 4/ 215 - 212
والمجد في" المسوَّدة": 446، وانظر: "شرح الكوكب المنير"4/
335.
(2) هذا رأي الحنابلة والشافعية، انظر: "التبصرة": 479.
(2/73)
والمذهب الثاني: أنه لا يصح ولا يقدم في
الدليل (1)؛ لأن الحكمينِ إذا أوجبَهما دليلٌ واحدٌ فلا
يفترقان، فوجود أحدِهما يدل على وجودِ الآخرِ، فإذا كان
النَكاح الصحيح يوجب الطلاقَ والظهارَ، فصحة الظهارِ تدل على
صحةِ الطلاقِ، وصحة الطلاقِ تدلُّ على صحةِ الظهارِ، كما أن
وجوبَ نَفقةِ الزوجة يَدل على وجوبِ السكنى والكسوة، ووجوث
الكسوةِ يدل على وجوبِ النفقةِ، ولأنه يصير بمنزلةِ منعِ علةٍ
وادعاءِ علّة؛ ولأن علتك قاصرةٌ وعلةَ المستدلِ متعدية،
والمتعدية أولى.
فصل
ومن ذلك: الاستدلال بالاستقراءِ في لغةِ الجدليين، ويسميه
الفقهاء: شهادة الأصول (2).
وهو: أن يستقر حكمٌ في أصولِ الشريعة على صفةٍ واحدة ثم
يتنازعُ المجتهدان في فرعِ حكمٍ يوافق تلك الأصول، فإلحاقه
بتلك الأصولِ أولى، كما تقولُ في نواقضِ الوضوء، كالنوم
والبولِ والغائطِ والريحِ والمذي: كلُّ ذلك ينقض الوضوء خارجَ
الصلاة وداخلَ الصلاة، والكلام والمشي والقيام والضرب: كلُّ
ذلك لا ينقض الوضوء خارج الصلاةِ ولا داخلَ، ثم اختلفوا في
القَهْقَهةِ، فقال الحنفي: تَنْقُض الوضوء داخلَ الصلاة ولا
تنقضة خارج الصلاةِ (3). وذلك مخالفٌ
__________
(1) ذهبَ إلى ذلك الحنفية، والقاضي أبو بكر الباقلاني. انظر
"تيسير التحرير" 4/ 161.
(2) أي من الطرق الدالة على صحة العلَّة، الاستقراء أو شهادة
الاصول، انظر "العدة" 5/ 1435.
(3) انظر "المغني"1/ 239.
(2/74)
للأصول الناقضةِ للوضوء وللأصولِ غيرِ
الناقضة، فمن يلحقه بالأصولَ أولى.
فصل
ومن ذلك: ما يسميهِ الفقهاءُ: الذرائع، ويسميه أهلُ الجدلِ:
أنه المؤدي إلى المستحيل في العقل أو الشرع.
من ذلك: قولنا وأصحابُ الشافعي في إيجاب القِصاص على المشتركين
في القتل أو إيجابهِ في القتلِ بالمثقل: إَن القولَ بإسقاطِ
القود يفضي إلى إهدار الدماء.
ومنه: قول أصحابنا وأصحاب الشافعي في اعتبارِ الولي لعقدِ
النكاح: إننا لو لم نَعتبرْ اَلولي، لأفضَى إلى تضييع الأبضاعِ
وإسقاط حقوقِ الأولياء؛ لأن الغالبَ من حالِها انخداعُها
وميلُها إلى من تَشتهيه دون من يكافئُها.
ومنه: القول بأننا لو صححنا القراضَ (1) على العروض، لأدى إلى
أن يأخذ رب المال جميعَ الربحِ لحاجةِ العاملِ أن يشتري مثلَ
العروض برأسِ المالِ والربحِ الذي اجتهد في تحصيلِه، فيقعُ
عملُه ضياعاً، أَو يأخذَ العاملُ بعضَ رأسِ المال لتحصيلِه
لمثلِ العروضِ بأقل ما باعه.
__________
(1) القِراض: هي شركةُ المضاربةِ؛ بأن يكونَ المالى من أحد
المتعاقدين، والعملُ والجهدُ من المتعاقد الآخر، وَيشترطُ
جمهور الفُقهاء لصحتها أن يكون رأس المال نقداً، ذهباً أو فضة،
ولا يصح أن يكون عروضاً.
(2/75)
ومنه: أنا منعنا تزوجَ المسلمِ بالأمةِ
الكافرةِ لئلا يؤدي إلى استرقاقِ الكافرِ ولد المسلم.
والاعتراضُ على هذه الدلالةِ من وجهين:
أحدهما: أن يقالَ: إن الشريعة كما حسمت المضار أثْبَتَت (1)
جوازَ التوصلِ إلى الأغراضِ وإسقاطِ العقوبات بالشبهاتِ، ولم
تحملْنا على القتلِ لمن قَتل بالعصا الصغيرة، إذا قامت بقتله
بينة هي شاهد وامرأتان، أو شهدَ بذلك الفساق، وغير ذلك من
الأسباب التي تسقط، وإذا اشتركَ من يجبُ عليه ومن لا يجبُ، أو
عفا أحدُ الأولياء عن الجارحِ (2) كلُّ ذلك أُسقط به
الاستيفاء، ولو كان القصدُ الاحتياط لما بناهُ الشرعُ على
الدَّرء والِإسقاط؛ لأنهما ضدان، وتعليلُ الولي بما ذكروا يزول
بإذن الأولياءِ لها في النكاح، فتزول الذريعة. وانفرادُ أحد
المتضاربين، غيرُ ممتنعٍ في المضاربةِ، كما أفردَ ربُ المالِ
بالخسارِة وجُبر المالُ بالربحِ، ويخرج عمل العامل ضياعاً.
وتملكُ الكافرِ المسلمَ حكماً جائز غيرُ ممنوعٍ منه شرعاً
بدليلِ الإرثِ.
والوجه الثاني: أن يُقالَ: ما ذكرتموه يُفضي إلى ما احتَرزتم
عنه، ويقررُ الوجوهَ التي تحصل منها الذريعةُ، وهو: أن قتل
الجماعةِ بالواحدِ يفضي إلى إخراجِ القتلِ عن بابه؛ لأنه مما
يَسقط بالشبهة إجماعاً، والشركة شبهة من حيثُ إنَ كلُّ واحد من
الجراحات يَتغطى حكم سِرايته بالجراحة الأخرى، ولا يُدرى لعله
ماتَ من فعلِ واحدٍ دون
__________
(1) في الأصل: "ثبت".
(2) في الأصل: "الخارج".
(2/76)
الباقين، أو من فعلِ اثنين أو ما شاكل ذلك،
فنكون بقتلِنا الجميع قاتلين غير قاتل في طَى قاتل، والدماء
على أصلِ الحَقْن في حقَ الظالمِ والمظلومِ، ونتبعُ كلَ مسألةٍ
بمثلِ هذا.
فصل
لا يختلفُ أهلُ الجدلِ في الِإثباتِ أنَه يجوزُ أن يُجعل علةً
للأحكام الشرعية، مثلُ قولِنا: مطعوم، فلا يجوز التفاضلُ في
بيعِ بعضهِ ببعض، ومُشتد فحرم، ورقيق فضمن باليدِ، ومُسلم فلا
يُقتل بالكافر، وكافر فلا يقتل به المسلمُ، وأبٌ وعدوٌ فاسق،
فلا تُقبل شهادتهُ.
واختلفوا في النفي: هل يصح أن يُعلل به الحكم الشرعي؟ فقال
أصحابُنا والمحققون من أصحاب الشافعي وكثيرٌ من أهلِ الجدل:
يصحُّ (1)، وقد تُنعتُ النكرةُ بالنَفي فَي العربية، قال
سبحانه: {إنها بَقَرةٌ لا فارِضٌ} [البقرة: 68] {إِنَّهَا
بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي
الْحَرْثَ} [البقرة: 71]، {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا
خُلَّةٌ} [البقرة: 254]، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا
بَنُونَ} [الشعراء: 88]،، كما وصف ونعتَ بالإثباتِ، فقال
سبحانه: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69].
__________
(1) هذا ما اختاره الحنابلة، ووافقهم في ذلك بعض الشافعية كأبي
إسحاق الشيرازي، والفخر الرازي، والقاضي البيضاوي. انظر
"المسوَّدة": 418، و"شرح الكوكب المنير"4/ 48، و"التبصرة":
456، و"المحصول" 5/ 295 - 299.
(2/77)
واستدل من نص [على] (1) ذلك بأن الدلالة قد
تكونُ بنَفي على نفيِ ما دل إثباته على الإثباتِ، مثاله: أن
العِلم والقُدرةَ دليلان على حياةِ مَن قاما به واتصف بهما،
فلا عالم قادر إلا حى، وكما دل إثبات القُدرةِ والعِلم على
إثباتِ الحياةِ دل نَفيُ الحياةِ من المحلِّ، على نفي العلمِ
والقدرةِ.
ونقول في الفقه: ليس بماءٍ، فلا يجوز الوضوء به. ليس بترابٍ،
فلا يجوزُ التيممُ به. ليس بعَدلٍ، فلا تُقبلُ شهادتهُ. ليس من
جنسِ الأثمان ولا مَطعوم، فلا ربا فيه. لا يجوزُ الانتفاع به
فلا يجوزُ بيعُه (2). أو غيرُ منتفع به، فلا يجوز بيعُه (2).
والعقلاء لا يُنكرون قول القائل: زيد ليس في الدارِ؛ لأنه لا
صجة في داره ولا دابته على بابِ دارِه، كما لا ينكرون قول
القائل: إنه في الدارِ لضجةِ غلمانِه ووقوفِ فَرسِه.
وقال قوم: لا يصح أن يستدلَ به (3)؛ لأن النفيَ غير شيء، وما
ليس بشيء لا يَدل؛ لأن الدلالةَ زيادةٌ على كونِ الشيء شيئاً؛
لأن لنا أشياء لا تدلُ، فلا يدل إلا شيءٌ.
__________
(1) ليست في الأصل والسياق يقتضي إثباتها.
(2) مكرر في الأصل.
(3) هذا مذهب الأحناف، واختاره الآمدي وابن الحاجب، وتبعهما
ابن السبكي، وقال الأمدي: منعه الأكثر.
انظر "تيسير التحرير"4/ 2، و"فواتح الرحموت" 2/ 274 و" جمع
الجوامع" 2/ 280، و"الإحكام" للآمدي 3/ 295، و"مختصر ابن
الحاجب" مع شرحه للعضد 2/ 214.
(2/78)
وهذا لا يصحُّ؛ لأن العدمَ وإن لم يكنْ
شيئاً فإنه يدلُ، يقولُ العقلاءُ: لا روحَ في الشِّعر؛ لأنه لا
حِس فيه.
فإن قيلَ: فهذا ليس باستدلالٍ بالنفي، لكنه قول بالنفي لعدم
الدليلِ، فكان قولُهم: لا روحَ فيه لأنه لا حِسَّ فيه، معناه:
لا اثبتُ فيه روحاً إذ لا أجدُ فيه دلالة الروحِ. فهذا عدمُ
الدليل لا أنه دليل.
وكذلك قولُهم: لا ضَجة في دارِه فليس هو في دارِه، تقديرُه: لا
أجدُ دليلَ كونِه في الدار، فلا أثْبتهُ في الدارِ، وكلُ ما
جاء من هذا القبيلِ فهذا معناه، فأمَّا أن يكونَ النفي دليلًا
فكلاً.
قيل: بل قد يكونُ دليلَاً للنطقِ، ويرجعُ إلى أحدِ أصلين:
إمَّا دليلُ الخطاب، فيكون قول القائلِ من أصحابنا أو أصحابِ
الشافعي في النُّورَة: ليس تُراباً، وفي الخَل: ليسَ بماءٍ،
وفي المعلوفة: ليست سائمةً، اعتماداً على قول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "جُعِلت لي الأرض مَسجداً، وجُعل تُرابها لي
طهوراً" (1)، وقوله: "الماءُ طهور" (2)، فيكونُ الحكمُ المعلقُ
على الاسمِ دل على نفيه عن غيره، فيكون دليلاً فيما هذا سبيلُه
من الأسماءِ والأوصافِ، فإذا علق نَفي الحكم على نفيها، كانَ
ذلكَ بدليل الخطابِ.
أو يكون اعتماداً على أصلٍ آخر وهو: أن الأصلَ نفيُ الأحكام من
إيجابِ زكاةٍ في المال، ومن طهوريّةٍ في الجامدات والمائعاتِ
سوى
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة: (45).
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: (39) من الجزء الأول.
(2/79)
الماءِ، فإذا عَلَّق الشرعُ حكمَ الطهوريّة
على التراب، والزكاةَ على السائمةِ، وقال القائل في الجِصّ:
ليس بتراب، وفي الَمعلوفةِ: ليست سائمةً؛ كان معتمداً في نفي
الحكم علىَ الأصلِ، حيث انتفى المعنى الذي عُلِّقَ الحكم عليه
في الشرع، وهو الترابيةُ في الطهارةِ، والسومُ في الزكاة، فهذا
وجهٌ من جوهِ الدَلائلِ لا عدمَ الدليل الذي عولت عليه.
ويقال: إنَّ النفيَ وإن لم يكنْ شيئاً، فإنه يجوز أن يجعل
دليلاً على نفي مثلِه، فإن الشرعَ والعقلَ لا يمنع من ذلك. ألا
ترى أنه قد عَلق الشرعُ جوازَ التيممِ بالتراب على عَدم
الماءِ، والانتقالَ إلى الإِطعام أو الصوم عند عدم الرَقبةِ،
والعدم ليس بشيء، فلأجلهِ أحدث حَكماً آخرَ وَنقل إليه.
ويحسنُ أن يقالَ: من أساءَ فعاقِبه، ولا تعاقبْ من لم يُسىء.
وعدمُ الِإساءةِ ليست شيئاً، ويحسن أن نُعلِّلَ بالنفي، فنقول:
إنما لم يُعاقَب؛ لأنه لم يسىء، ويُقال: إنما لم أستودعْه
المالَ؛ لأنه ليس بثقة.
ويستدلون بالإِثباتِ على النفي، فيقالُ: إنه فاسق، فلا تقبل
شهادتُه، ومحسنٌ، فلا تَحسن عُقويتُه، ومَطعومٌ، فلا يجوز
التفاضل فيه. ولا يُستنكر أن يكونَ الاثبات جَلَبَ نفياً،
والنفي ليس بشيء، فكما لا يُقال ذلك في الحكمِ، كذلك لا يقالُ
في دلالةِ الحكمِ.
وأصلُ التعاليل الشرعية أماراتٌ ودلائل، وقد يقعُ النفي أمارة
ودلالةً، فيقالُ: لا عقلَ لهذا؛ لتَخَبُّطِ (1) أفعالهِ. ولا
حياةَ فيه؛ لأنه لا حِس فيه
__________
(1) في الأصل: "لتثبط"، والصواب ما اثبتناه.
(2/80)
ولأ نَماء. وعلى هذا أبداً، فلا تَغترَّ
بقولِ مُهول يقول لك: العدمُ ليس بشيء وكيف يدل ما ليس بشيء
على حكمٍ أوحال. فإن هذا وأشباهَه كلام خِلو من معنى يمس ما
ذكرناه.
فصل
وإذا كان القياس استثناء، فقد اختلفَ العلماءُ في صحته.
فقال قوم: يجوز الاستدلال به. وقال قوم: لا يجوزُ، وذلك مثلُ
قولِ أصحاب الشافعي في السباعِ: حَيوان ليس بكلبٍ ولا خنزير
فكان طاهراً، أَصلهُ الشاةُ. فجعلَ الحيوانَ علَّةُ، واستثنى
منه الكلبَ والخنزيرَ.
وهذا عندي يُبنى على أصلٍ وهو: القولُ بتخصيص العلَّةِ، فمن
قال بجوازِ التخصيصِ ساغ الاستثناءُ عنده في هذهِ العللِ،
والكلامُ فيها فرغ على ذلك الأصلِ (1)، فنُشير ها هنا إلى ما
يليقُ بالفصلِ، وهو: أن الحيوانية لو كانت علَّةُ لساغتْ في
سائرِ الأحياءِ، ولا يُعرف كونُ العلَّة علةً إلا بجريانها
وسلامتها، ولأنَّ من اعتمدَ على التخصيصِ أغناه ذلك عن وصف هو
سلب واستنثاء.
فإن قيل: لو كان السلبُ والاستثناءُ يُفيد التخصيصَ أو يعطي ما
ذكرتم، لكانت العلةُ ذاتَ الوصفين مخصوصةً؛ فإذا قالَ الشافعي:
مطعومُ جنسٍ، خصَ تحريمَ التفاضلِ في الجنسيةِ، ألا تراه لو
قال: مطعوم، وأمسك عن الجِنس لساغ في كلُّ مطعوم بيع بمطعوم.
__________
(1) سيأتي فصل تخصيص العلَّة في المباحث الآتية.
(2/81)
قيل: لا يلزمُ هذا؛ لأن الطعمَ علَّةُ في
تحريمِ التفاضلِ أينما وُجد، لكن بشرطِ ملاقاةِ جنسِه، البر
للبرِّ، والشعيرُ للشعيرِ، ولا نقول: إنه علَّةٌ في البر وليس
بعلةٍ في الشعيرِ، والمستثني في العلَّة بنفي الكلب والخنزيرِ
مُخرجٌ لهما من الحيوانية، فقد تخصصتْ الحيوانيةُ، وهي
اَلعلةُ، فوقف على محل دون محل، فالحياةُ توجبُ طهارةَ الشاةِ
ولا توجبُ طهارةَ الكلبِ والخنزيرِ، فترددَ السبعُ بينهما لأنه
لا يمكنُ أن يُقاسَ عليهما جميعاً مع تضادِ الحكم فيهما.
فصل
في (غَير) هل تدخل على العلَّة
أما من قال بالاستثناءِ في العلِل، فجوّز ذلك من غيرِ تفصيل،
ومن منعه ولم يسوَغْه في العللِ، فقد اختلفَ هذا القبيلُ بحسب
اختلافِ حالِ (غير)، فإنها قد تجيء بمعنى الصفةِ (1)، وتجيء
بمعنى الاستثناءِ، فإذا جاءت بمعنى الصفةِ أجازها الفريقان،
وإذا جاءت بمعنى الاستثناء كانت على ما ذكرنا من الخلافِ، وقد
جاءت في قولِه تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]، على الوجهين، فقرىءَ: {غيرَ
أولي الضرر} بالنصب (2)، فكانت استثناءً، وجاءت بالرفع فكانت
صفةً (3)، كأنه قال: لاَ يَستوي القاعدون من
__________
(1) وهو الأصل فيها، انظر "المساعد على تسهيل الفوائد" لابن
عقيل، 1/ 590.
(2) هذه قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، انظر "حجة القراءات"
لابن زنجلة: 210، و"الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي 3/
178 - 179.
(3) وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، على أنها
صفة للقاعدين. انظر المراجع السابقة.
(2/82)
المؤمنينَ السليمون، فالسلامةُ وصف له
نُطقان: إن شئتَ قلتَ: سليماً، وإن شئتَ قلت: بلا ضرر به.
تقولُ في الصفة: جاءني القومُ غيرُ زيد. بالرفعِ، وتقول: جاءَ
القومُ غيرَ زيد، بالنصب استثناءً، فأثبتَ المجيء للقومِ
ونَفيتَه عن زيد، فإذا جعلتها وصفاً: وصفتَ القومَ الجائين
بانهم غيرُ زيد، تقولُ: المئةُ غيرُ الواحدِ، والواحدُ غيرُ
المئةِ، فالمئةُ وصف للجماعةِ من العدد المخصوصِ، والواحدُ
صفةٌ لزيدٍ، ولا نتعرضُ لزيدٍ بنفي ولا إثباتٍ.
فصل
في العلَّةِ إذا كانت ذاتَ وصفٍ واحدٍ وصحت كانت أولى (1)
وذلك مثل قولنا في العبد: مُقوم فَضمن بقيمتهِ بالغاً ما بلغ،
كالبهيمة. قاتل فلا يرث، كالبالغ وكالعامد. وارث فلا وصيةَ له.
وذات الوصفين، مثل قولنا: حُر مُسلم، مَطعومُ جنس، شرابٌ
مُشتدّ.
وذات الثلاثة أوصاف والأربعة والخمسة، مثل قولنا: ماءُ تغير
بمخالطةِ ما ليسَ بمُطهرٍ، والماء مُستَغنٍ عنه. حُرةٌ سَليمة
مَوطوءة في القُبل، ولا حَصَر في هذا على مُعلل.
ولا عبرةَ بقولِ من قال: إنه لا يُزاد القياس على خمسة أوصاف.
__________
(1) يريد بهذا: أنه إذا تقابلت علتان من أصل واحد، وكانت
إحداهما ذات وصف واحد، والأخرى ذات وصفين أو أكثر، فالعلة ذات
الأوصاف الأقل، هي الأولى بأن تجعل مناطاً لثبوت الحكم. وهذا
ما قرره القاضي في "العدة" 4/ 1331، وأبو الخطاب في "التمهيد"
3/ 235، وانظر "المسوَّدة": 379.
(2/83)
فإنَّ هذأ بحسب اجتماع الفَرع والأصلِ في
العلَّة مهما بلغت أوصافُها.
وقد قال أصحابنا وأصحابُ الشافعي في مسألةِ من كان بقُرب المصر
يجبُ عليه الحضورُ إذا سمع النداء: حُر مُسلم صَحيح مُقيم في
موطنٍ يبلُغهُ النداءُ من موضع تصحُّ فيه الجمعةُ، فهوكالمقيمِ
في المِصْرِ. وهذا القياس يَتضمن سبعةَ أوصاف.
فَوجه من جَعل الأولى من القياس ما قلَّ أوصافَه أن قال: إن
ذلك مُؤذِن بقلةِ دخولِ الفسادِ، كمدينةٍ تكتفي في الحراسة
بسورٍ واحد وحارسٍ واحد.
ومن الناس من قال: الكثيرةُ الأوصاف أولى (1)؛ لأن ذلكَ مؤذن
بكثرة شَبَه الفرع بالأصل، وخاصة على أصلِ من يقول بأنَ
التسويةَ بين الأصلِ والفرعِ دافع للنقض.
واعترض بعضُ أهل الجدلِ على اعتلالِ القائلِ الأول وقوله: أقل
لدخول الفَساد، وقال: هذا قولُ من يظن أن الأوصافَ موضوعة
للاحتراز، ولذلك شبهها بالأسوارِ والحصونِ، وليس الأمرُ على
ذلك؛ لأن الأوصافَ إنما تدخل في التعليلِ بحسب تأثيرها في جَلب
الحكم لا للسلامة من النقضِ، ولذلك لايعتد بوصف هو حَشوَ خِلْو
من معنى، وإن كان دافعاً للنقض، وما هو إلا بمثابة الشبه في
باب القِيافة، وكلما كثر الشبه تأكًد الظن في إلحاق الولد
بالمُشبَّه به.
__________
(1) هو رأي بعض الشافعية كما في "التبصرة": 489، و"اللمع": 80.
(2/84)
فصل
وقد تضم إلى أوصافِ العلَّة الشرائط، كقولِ القائلِ: زَانٍ
محْصَن، وقولنا: ملكَ أربعينَ من الغنم سائمة حولًا، وسرق
نِصاباً من حِرز مثله لا شبهة له فيه. أُم حرة سليمة صحيحة
مقيمة رشيدة، خالية عن الأزواجِ، راضية بأجرةِ المثل، فكانت
أحقَ بولدِها. فإن هذه العللَ تَجمع أوصافاً وشروطاً، كالحولِ
والسوم مع ذكر النصاب من الغنم، وذكر الوطنِ مع الحريةِ
والإِسلام والذَكوريةِ. فعمل العلَّةِ: الجلب، وعمل الشرطِ:
أنه مصحح لعملِ العلَّةِ.
فصل
وينفصل الشرط عن العلَّةِ بأن العلَّةَ تليق بتعليقِ الحكمِ
عليها، والشرط لا يليق بتعليقِ الحكم عليه.
بيان ذلك: أنه لا يحسن أن يعلق على الاحصان - وهو نوع فضل
مكتَسب - إيجابُ الرجم، ولا على السوم والحولِ إيجاب الزكاة،
وإنما الذي يليق: العقوبة بالجريمة، وهي: الزنا، وسرقة
النصابِ.
والمواساة بالمقدارِ من المالِ، وهو: الغنى، لا بالأجلِ وقلةِ
المؤونةِ، وهما مرفقان بربِ المال ليتكاملَ النماء وتقل
المؤونة، فتسهل المواساة.
فصل
واختلفَ أهل الجدل في العلّة التي تكون صورةَ المسألة (1)، مثل
__________
(1) انظر "البرهان" 2/ 1098.
(2/85)
قولنا في حجة رهنِ المشاع: إنه رهن مشاع،
فصح، كما لو رهنه من الشريك، وهبةُ مشاع فصحت، كما لو كانت مما
لا يَنقسم (1)، وفي الطهارة: بأنها طهار بالماءِ، فصحت بغير
نية، كإزالة النجاسة (2)، وفي بَيع اللحم بالحيوان (3): إنه
بيعُ لحمٍ بحيوان، فلم يصح، كبيع اللحمِ بالمُدَبر، وبيع اللحم
بالبعير المنكسر.
فقال بعضُهم: لا يصح؛ لأن ذلك يُفضي إلى أن يكون نفسُ العلَّةِ
هو المعلل له. ولأنه يؤدي إلى التنافي؛ لأنه يفضي إلى كونِ
المسألةِ معللة لا معللة؛ لأنك إذا قلتَ: حرمت الخمرُ لأنها
خَمر. فقد علَلت وبينت أنها معلَلة، إلا أن معنى قولك: لأنها،
غير معللة لعينها، وهذا يدل على أنها غير معللة.
ومنهم من قال بصحتها -وهو عندي أصح- إذا دلت الدلالة على صحة
العلَّة، ألا ترى أنَكَ تعلل لوجوب الحدِّ على الزاني بأنه
زان، والقطعِ على السارقِ بأنه سارق، فنفس السؤالِ يجعل علةً
لصلاحيتهِ علةً، فلا تَنظر إلى أعداد التسميات، كما ينظر بعض
المتفقهة، فيقول: هذه المسألة، فأين العلَّة؟ طلباً لأعدادِ
أركانِ العلَّة التي قد عدوها من وصفٍ وحكم وأصل، وإنما
العبرةُ بما يدل الدليل على أنه علَّةُ وما يصلحُ لجلب الحكمِ،
فلا فرقَ بين أن يكون عينَ المسألة أو غيرَها. وقد أشبعت
الكلامَ في ذلك في الأسئلة على القياس في سؤالٍ يكثر من
المتفقهة وقولهم فيه (4): هذه المسألة، فأين العلَّة؛ أو
__________
(1) "المغني" 6/ 456، و8/ 247.
(2) "المغني" 1/ 156.
(3) نفس المصدر 6/ 90.
(4) في الأصل "في".
(2/86)
هذه العلةُ، فأين المسألة؟ بما فيه كفاية.
وبينت أنه سؤال باطل.
فصل
واختلفوا في العلَّةِ الواقفةِ التي لا تَتعدى أصلها (1)، مثلُ
قولنا في تعليل (2) غير الماء لإِزالة النجاسة: لأنه مائعٌ لا
يرفع الحدثَ. وقولِ أصحاب الشافعي -رحمة الله عليه-: إنَّ
علَّةُ الربا في الذهبِ والفضةِ كونُهما ثمنينِ للأشياءِ
غالباً.
وقد حُكي عن أبي بكر القَفّال (3) -من أصحابِهم- أنه عللهما
بالاسم، وذلك غير صحيح، لأنه قد أجمع القائمون أنَّ لهما علةً
واحدة، ومتى علل بالاسم مع كون اسماهما اثنين، فيصير خَرقاً
لإِجماع القائسين حيث يكونُ تعليلهما بعلتين.
وذهب جماعة من الفقهاءِ (4) وأهلِ الجدل إلى إبطالها، كأبي
الحسنِ الكرخي (5) ومن نذكره في مسائلِ الخلافِ إن شاء الله.
__________
(1) وتسمى بالعلة القاصرة، والخلاف إنما هو في القاصرة
المستنبطة، أما المنصوصة أو المجمع عليها، فاتفقوا على صحتها،
انظر "العدة" 4/ 1379، و "التمهيد" 4/ 61، و،"المسودة": 411
و"شرح مختصر الروضة" 3/ 317.
(2) في الأصل: "تعلل".
(3) تحرفت في الأصل إلى: "البقال"، والقفال تقدمت ترجمته في
الصفحة: (44).
(4) إبطال العلَّة القاصرة هو مذهب الحنفية وأكثر الحنابلة،
انظر "أصول السرخسي" 2/ 158، و"فواتح الرحموت" 2/ 276.
(5) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي
الكرخىِ مفتي =
(2/87)
واعتل من صَححها (1): بأنها يجوزُ أن تكونَ
علةً بالنص، كذلكَ جازَ أن تكونَ علةً بالاستنباطِ.
قالوا: ولأنه إذا دل الدليل على صحتِها، ووجد الحكمُ بوجودِها
وعُدمَ بعدمِها؛ ظهر أن الحكمَ ثبتَ لأجلها، فصارت كالمتعديةِ
ولم يضر عَدمُ تعديها.
واعتل من ذهبَ إلى إبطالِها: أنها لا تفيد إلا ما أفاده النصُ،
وفي النصِ غنية عنها في تعليق الحكمِ عليه دونها.
ولأصحاب الشافعي أن يمنعوا عدمَ الفائدةِ؛ لأن العلمَ بعلةِ
الحكمِ علم زَائد على العالم بالحكمِ، والتعدي فائدة أخرى، فلا
تَجحد فائدة مظفورٌ بها لفائدةٍ لم تَتحصلْ، فالنصُ أفادَ منعَ
التفاضلِ والنَساءِ، والعلة كونهما ثمناً. وقد أوقفَ من خالفهم
تحريمَ التفرقِ قبل القَبض في بيع الأثمان بعَضِها ببعض،
وعللوا ذلكَ بكونه صرفاً، وذلك غيرُ متعدٍ. وعلَّل القائمون
كلهم عدمَ نفوذِ إعتاقِ الصغير والمجنون بأنه غير مُكلَّف،
وليس بمتعدٍ.
__________
= العراق، وشيخ الحنفية، انتهت إليه رئاسة المذهب، وانتشرت
تلامذته في البلاد، صنف "المختصر في الفقه" وله رسالة في أصول
الحنفية، توفي سنة (340) هـ" تاريخ بغداد" 10/ 353 - 355، "سير
أعلام النبلاء" 15/ 426.
(1) هم أكثر الشافعية والمالكية وبعض المعتزلة، وهو اختيار أبي
الخطاب، وابن قدامة، والمجد ابن تيمية من الحنابلة. انظر
"المحصول" 5/ 423، و"التبصرة": 452، و، "المستصفى" 2/ 345، و
"اللمع": 72، و"المعتمد" 2/ 801.
(2/88)
فصل
في التعليل بأن الشيء مختلف فيه
مثل قولِ القائلِ في إباحة الخيل: بأنه حيوانٌ مُختلفٌ في وجوب
الزكاة فيه، فجاز كلُه، كالمعلوفةِ من الماشيةِ، أو حيوانٌ
مختلفٌ في أكلِه، فطهرَ جلدُه بالدباغ، أو كان سُؤره طاهراً،
أو فطهر بالذكاة، هل يصح أن يجعلَ ذلك علةً أم لا؟
فذهب قومٌ إلى المنعِ. قالوا: لأن الحكمَ، وهو: جوازُ أكلِه
والمنعُ من أكلِه، مُضافٌ إلى عصرِ النبي - صلى الله عليه وسلم
-، والاختلافُ حادثٌ بَعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فيؤدي
إلى أن يسبقَ الحكمُ علتَه.
وذهب قومٌ إلى أن ذلك جائز، إذ كان لكونه مختلفاً فيه تأثيرٌ
في الحكمِ المعلًقِ عليه، كقولنا على ذلك (1): إنً النبيذ
مختلفٌ في إباحته، فلا يفسقُ شاربُه متأوِّلاً، وكقولنا في
الشاهد واليمين: حكمٌ مختلفٌ فيه اختلافاً ظاهراً واجتهاداً
بيَناً، وليس فيه مخالفةُ نص من كتابٍ ولا سُنةٍ ولا إجماعٍ،
فاذا حَكَم به حاكم نَفَذ حكمُه ولم يُنقَض، كسائرِ
المُجتَهَدِ فيه من الأحكامِ. فهذا تأثير صحيح في نُفوذِ حكمِ
الحاكمَ.
وقولهم: يُفضي أن يَسبق الحكمُ علته. ليس بصحيح؛ لأنً كونه
مختلفاً فيه من أحكام الشرعِ، وتسويغه من أحكام الشرع، ولأن
المجتهدَ لم يؤخذ عليه إَلا ما يصل إليه بعد وفاة النبي - صلى
الله عليه وسلم - ولا اعتبار
__________
(1) تحرفت في الأصل الى: "ملك".
(2/89)
بما كان في زمانِه إذا لم يكن [له] (1) به
علم، والله أعلم.
فصل
ويجوزُ أن يُجعلَ الوصفُ المركبُ علةً (2)، والوصفُ المركبُ
أولى من الأصلِ المركبِ، كقولنا في الحُليّ: لا تجبُ فيه
الزكاةُ إذا كان للصغير، فلا تجبُ فيه الزكاةُ إذا كان لكبيبر،
كالجواهر.
وكقول أصحاب أبي حنيفة في بيع المدبَّر: حيوانٌ لا يجوزُ بيعه
باللحم، فلا يجوز بيعُه بحال أصله الحر. فوصفُه بهذه الصفةِ قد
وجد وسُلِّم، وإن اختلف الخصمان في طريقِ وجوده، لكن تقف صحة
كونه علةً على الدليل، كسائر الأوصاف، وهل تجب مُساواة الكبير
والصغير في الزكاة أم لا؟
فصل
في تعليلِ المعلل بالشيء، وقوله: إنه مجمع عليه، فإنه تصحُ
علته إذا أثرت (3).
__________
(1) ليست فىِ الأصل.
(2) العلّةُ ذات الوصف المركب: هي العلَّة المركبة من عدة
أوصاف كما في تعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان. ويجوز
التعليل بالوصف المركب عند أكثر الأُصوليين، ونقل عدمُ جواز
ذلك عن الآشعري وبعض المعتزلة. انظر "المستصفى" 2/ 336،
"المحصول" 5/ 305 و"مُسَلم الثبوت" 2/ 291، و"أصول السرخسي" 2/
175 و"شرح تنقيح الفصول": 409، "شرح الكوكب المنير" 4/ 93.
(3) انظر "شرح الكوكب المنير" 4/ 93، و "المسوَّدة": 409.
(2/90)
ومثاله: ما نقولُه فيمن عَقد على ذاتِ
مَحرم: يجب عليه الحد؛ لأنه وَطء حُرِّم بالإِجماع لم يصادْف
مِلكاً ولا شبهةَ مِلك، والواطىء من أهلِ الحدِّ، عالمٌ
بالتحريمِ، فوجبَ عليه الحد، كما لو لم يعقد.
وكما يقول أصحاب أبي حنيفة في المتولد من بين الغَنم والظباء:
تجب فيه الزكاة؛ لأنه منفصل من حيوانٍ تجب فيهِ الزكاة
بالإجماع، فجازَ أن تجبَ فيه الزكاةُ، كالمتولِّدِ من بينِ
السائمةِ والمعلوفةِ، وهذا يصح إذا أثرَ الوصف في الحكمِ؛ لأن
لكونه مجمعاً عليه تأثيرٌ في وجوب الحد وإسقاطِ الحد، ولكونه
مجمعاً عليه تأثيرٌ في وجوبِ الزكاةِ.
فصل (1)
والحكم الواحد في الشرعِ يتعلق بأسباب مختلفة، كالقتل يجب
بالقتلِ العمدِ، وبالردَّة، وبالزنا مع الإِحصان. وتحريمِ
الأكل دل عليه المنغ من القَتل، كنهي النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن قَتلِ الضفدعِ (2)، فدل تحريم قتلهِ على المنعِ من
أكلهِ. وإباحة القَتلِ دل على تحريمِ الأكل، كالخمسِ المؤذيات
نص على إباحة قَتلهِن (3)، فكان إباحة قتلهن دالاً
__________
(1) انظر "المسودة": 416 - 417 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 339 -
340 و"شرح الكوكب المنير" 4/ 71، و"البرهان" 2/ 819 - 830،
و"المستصفى" 2/ 342، و"فواتح الرحموت" 12/ 282.
(2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 453 و499، والنسائي 7/ 210، وابن
ماجه (3223)، والد ارمي 2/ 15 - 16، والبيهقي 9/ 258، وأبو
داود (5269).
(3) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "خَمس فواسق يقتلن في الحِل والحَرَم: العقرب،
والحِدأة، والغُراب الأبقع، والفأرة، والكلبُ العقور". أخرجه:
"البخاري (1829)، ومسلم (1198). (71) =
(2/91)
على تحريمِ أكلهن، وكالأمرِ بقتل البَهيمة
الموطوءة (1)، ووجوبُ الغُسلِ يَتعلقُ بالجنابةِ والحيضِ
والنفاسِ، وقد يجبُ على الشخصِ الواحِد القتلُ بأسبابِ تجتمع
فيه، كرجلٍ قَتَلَ وارتَد، فإن عُفيَ عن القصاصِ قُتل بالردَة،
وإن تابَ عن الرِّدة ولم يُعف عن القصاص قُتل قَوَداً.
فأمَّا الأصلُ الواحدُ إذا عُرف حكمهُ بنص أو إجماعٍ وله
وصفان، هل يجوزُ أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الوصفين علةً
بانفرادهِ ثبت الحكمُ فيه لأجلهِ؟ فإن تنافتْ فروعُها امتنعَ
أن يكونا صحيحين، وإن لم تتناف فروعُها وقامَ الدليلُ على صحةِ
كلِ واحدٍ منهما بنطقٍ أو ببينةٍ تَنطق، جازَ أن يُعلل بكِل
واحدةٍ منهما، وكذلك إذا دلَّ على صحة كلُّ واحدة منهما
الإِجماعُ.
ومثال ذلك: أن بيعَ السمك في الماء لا يجوزُ، وهذا حكم متفق
عليه، ومعلل بأنه غير مملوك للبائع، ومعلل أيضاً بأنه مجهول
الصفة، ومعلل أيضاً بأنه غيرُ مقدورٍ على تسليمه، فإن حصل في
شبكةِ الصياد سمك بحيث لا يمكنهُ أن يتخلصَ، فقد ملكه، فإن كان
فشاهَداً مَرئياً صحَ، إمَّا في شَبَكَةٍ أو بركة صافيةِ
الماءِ بحيث كُشفَ للناظرِ من وراءِ الماءِ الصافي، صَحَّ
بيعُه، لحصولِ الملكِ والرؤيةِ والقُدرة على
__________
= والترمذي (8371)، وابن حبان (5633)، وأحمد 6/ 33، 87، 259،
والنسائي 5/ 208، والبيهقي 5/ 209.
(1) لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى بهيمة فاقتلوه
واقتلوا البهيمة". أخرجه أبو داود (4464)، و (4465)، والترمذي
(1454)، وابن ماجه (2564)، والبيهقي 8/ 233 - 234، وأحمد في
المسند (242)، والحاكم 4/ 355.
(2/92)
تسليمهِ، وفي ذلك زوال العللِ الثلاثِ التي
كانت مانعة من بيعِه.
وإن زالت علتان وبقيت علةٌ من الثلاثِ، مثل أن يحصلَ ولا يمكنه
الخروجُ منها لكنه التبسَ بالشبكةِ أو ركب بعضه بعضاً فصار
كالصُبْرَةِ فلم يشاهَد لم يصح، لتخلفِ علَّةُ واحدة من
الثلاثِ، وهي عدم رؤيةِ التَّحْتاني، مع كونِه مختلفاً لا
يُقنع نظر الأعلى منه عن نظرِ الأسفلِ، بخلافِ الأطعمةِ
المتساويةِ الأجزاءِ.
وكذلك إن أزلتَ علَّةُ علةً وبقيت الأخرى نهضت الباقية بالمنعِ
كما منع الثلاث، ومن هاهنا امتنعَ اعتبارُ العكسِ عندنا وعند
المحققين من أهلِ الجدل؛ لأنَ بقاءَ علة من العللِ يَمنعُ، فلا
يمكن أن تنعكسَ العلةُ مع بقاءِ خلفها، بخلافِ العللِ
العقليةِ؛ فإنَ معلولَها لما لم يثبتْ إلا بها وحدَها لا
جَرَمَ وجب العكس، فإذا قلتَ: كلُّ جسمٍ قامت به الحركةُ،
فَهومتحرك، وكل جسمٍ لم تَقمْ به حركة، فليس بمتحركٍ. صَحَّ
ولزم ذلك، إذ ليس للمعلولِ -وهو التحرك- علَّةً سوى الحركةِ،
فلا يخلفها ما يَعمل عملَها.
وإذا قلتَ في الشرعية: كلُّ امرأةٍ قامَ بها الإِحرام إذا
اتصفت بالإِحرام كانت مُحَرمة. لا يمكنُ أن تقولَ: وكل امرأةٍ
لم تتصفْ بالإِحرام فَهي مباحةٌ. لصحةِ تخلُّفِ علةٍ تعملُ
عملَ الإحرام، وهي الصومُ، أو العدةُ، أو الحيضُ، فافهم ذلك،
فهذا على قولِ من لم يَعتبر العكسَ في العللِ الشرعيةِ.
وأمَّا على قولِ من اعتبرَ العكسَ، فإنَه لا يجيزُ، قال: لأنه
لا يمكنُ الدلالةُ على حجتها بالنطقِ ولا بالبينةِ ولا
بالإِجماعِ ولا بالسلبِ
(2/93)
والوجودِ ولا بشهادةِ الأصولِ، فحينئذٍ
تفسدُ لعدم الدليلِ على صحتِها لا لأجلِ أنَ الحكمَ الواحد لا
يتعلقُ بعلَتين.
وهذا لا يلزم؛ لأنَه إذا ثبتَ لكِل واحدةٍ من العللِ التاثيرُ
والجلبُ للحكمِ بدلالةِ النطقِ أو البَيّنةِ أو الإجماعِ،
واجتمعتْ في محلٍ فجُلِبَ الحكم، لم يمكنْ أن تَخلوَ كلُّ
واحدة من أن تكونَ مؤثِّرة، ويبينُ ذلك بحالِ انفرادِها، وأنها
تَستقل بالحكمِ، وهذا كافٍ في نفي اعتبارِ العكس، وفي صحةِ
ثبوت الحكمِ بعللٍ عِدةٍ.
فصل
فإذا صحَّ إثباتُ الحكمِ في الأصلِ بعلتين، وتعليلُه بعلتين،
وكانَ أحد الوصفينِ أعمَّ من الآخرِ، ودل الدليلُ على صحةِ
كلِّ واحدةٍ، كان المعلِّل بالخيارِ بين أن يستدل بالعامةِ
وبين أن يستدل بالخاصةِ، كالخبرين؛ أحدهما يدلُّ على حكم
بعمومِه، والأخر يدل عليه بخصوصِه، كان مخيراً في الاستدلالِ
بأيِّهما شاء (1).
وقال قوم: الخاصَّةُ أولى، لأنَّها تصرحُ بالحكم. ولم يسلموا
أن الخبرَ العامَ يساوي الخاصَ بل الخاصُ في الحكمَ المقدم.
فصل
وإذا صحتا -أعني: العلتين المثبتتين للحكم- فلا فرقَ بين أن
يكونَ فروعُ إحداهما أكثرَ من الأخرى أم تتساوى (2).
__________
(1) انظر "المسوَّدة": 379 - 380، و"العدة" 5/ 1534 و"البرهان"
2/ 1291.
(2) وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب، وعليه أكثر
الشافعية. انظر =
(2/94)
وقال قوم من أهل الجدل: مِن شرط صحتهما أن
تتساويا في الفروع؛ لأن الكثيرةَ الفروعِ هي التي يثبت بها
الحكمُ، فلا يُحتاج في إثباتِه إلى ما قلَّت فروعُها. وهذا لا
يصحُّ؛ لأن كثرةَ الفروع لا تدل على صحةِ العلَّةِ (1).
فصل
في القياسِ على أصل مختلف في حكمهِ (2)
فإن كان قد ثبتَ عند المعلّلِ بنصٍ من كتابِ أوسنةٍ، جاز
القياسُ عليه؛ لأن الاعتبارَ بالدليلِ، وليس الدليلُ كلهُ
الَاتفاق، بل غيرُ الاتفاقِ أدلة كثيرة، والاتفاق واحد من جملة
أدلة، فإذا لم يوجد الاتفاق ووجدَ دليل آخر ثبت الحكم (3).
وإن كان القياسُ على أصل يوافقُه خصمهُ في حكمِه ويخالفهما فيه
غيرهُما من أهلِ الاجتهاد، فإن كان لهما عليه دليل صحيح صحَّ
القياسُ عليه، وإن لم يكن لهما عليه دليل لم يجز العملُ على
هذا القياس؛ لأن حكمَ أصلهِ لم يثبتْ بدليل شرعي، لأنَ اتفاقَ
الخصمين
__________
= "التمهيد" 4/ 248، و" المسوًدة": 381، و" البرهان" 2/ 1272،
و"التبصرة": 488.
(1) هو رأي بعض الشافعية كما في "التبصرة": 488.
(2) انظر هذا الفصل في "العدة"4/ 1364، و"التمهيد" 3/ 437
و"المسوَّدة": 401 - 452، و"شرح الكوكب المنير"4/ 100.
(3) وخالفَ في ذلك بشر المريسي، واشترط أن يكون الأصلُ منصوصاً
عليه، أو مجمعاً على تعليله حتى يجوز قياس الفرع عليه، انظر
المراجع السابقة، و"المحصول" 5/ 368.
(2/95)
ليسَ بدليل من أدلَّةِ الشرعِ، وإنَّما في
الجدال إذا اتفق الخصمان كفى، لكن ليس القياسُ على هذا الوجه
قياساً مدلولًا عليه، بل قياسٌ اتفقا على حكمهِ في الأصلِ.
فصل
في القياسِ على العام الذي دخله التخصيصُ، وعلى المخرجِ من
العمومِ.
مثاله: قولهُ عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]،ثم
خُصَّ بقوله عز وجل: {فَإنْ أَتَيْنَ بفاحشةٍ فَعَلَيْهِن
نُصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العذاب} [النساء: 25]،
وقوله تعالى: {والسارِقُ والسارِقةُ فَاقْطَعوا أيديهما}
[المائدة: 38]، خصَّ بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا قَطْعَ في ثَمرٍ ولا كَثَر" (1). فيجوزُ القياسُ على الأصل
الخاص المخرجِ من العموم، فيقاسُ العبيدُ في تَنصيفِ الحد على
الإماءِ، وتُقاس الأموال التي ليست في الإحراز على الثمر
والكَثَر.
__________
(1) روي هذا من حديث رافع بن خديح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:" لا قطع، في ثمَرٍ وكَثَر" أخرجه مالك 2/ 839، وأحمد 3/
463 - 464، وأبو داود (4388) و (4389)، والترمذي (1449)،
والنسائي 8/ 87 - 88، وابن ماجه (2593)، وابن حبان (4466)،
وعبد الرزاق (18916)، والبيهقي 8/ 262 - 263 والكَثَر: جُمار
النخل، وهو شحمُه الذي في وسط النخلة."النهاية" 4/ 152
(2/96)
فصل
فأمَّا القياسُ على ما بقي تحت العموم بأن يُقاسَ على السارِق
في وجوبِ قطعِ الجاحِد للوديعة أو الخائنِ والمختلسِ، ويُقاس
على الزاني في وجوبِ مئة جلدةٍ اللّائِطُ ومَن أتى بَهيمةً،
فهذا مُختلَف فيه.
فقيل: لا يجوزُ؛ لأن لفظَ العموم لما دخله التخصيصُ ضعفَ عن
الاستيعابِ عند قوم، وصار مجازاً عند قومٍ، فإذا ضعفَ لفظهُ
وزالت حقيقتهُ، ضعفَ معناه.
وقيل: يجوز، وهو الأصحُ عندنا وعند أصحابِ الشافعي (1)؛ لأن
العلَّةَ التي تُستنبطُ منه قد صحت، والمعنى الذي فيه لا
يضعفُ، والاعتبارُ بالدليل على صحةِ العلَّةِ.
فصل
من هذا القبيل وهو المخصوص
حُكي عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يُقاس على المخصوص (2)،
فحمله المحققون من أصحابه -رحمة الله عليهم-
__________
(1) انظر "العُدّة" 2/ 538، و"المسوَّدة": 116، و"شرح الكوكب
المنير" 4/ 38، و"المنخول": 153، و"التبصرة": 448، و"البحر
المحيط " 5/ 71.
(2) ورد ذلك في قوله -رحمه الله- في "الرسالة" في الصفحة: 545:
"ما كان الله فيه حكم منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيفٍ
في بعض الفرض دون بعض: عُمِلَ بالرخصة فيما رخَص فيه رسول الله
دون ما سواها، ولم يُقس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم من حكم عام بشيءٍ ثم سن فيه سنة تفارق
حكم العام".
(2/97)
على أحد أمرين:
إمَّا الأحكام التي خُص بها أشخاص، كرضاع سَهْلة لسالم وكان
كبيراً (1)، والرخصة لأبي بَكرة في دخوله الصف رَاكعاً (2)،
وكرخصته لأبي بُردة في الذَبح للعناق أضحية (3).
وإما الرخصُ التي اختصت معانيها بها، وذلك كالمسحِ على الخُفين
لم نَقِس عليه برقعاً ولا عِمامةً ولاقُفازين، حيث جعَل ذلك
__________
(1) روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم، عن عائشة -رضي
الله عنها- قالت: أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَهلة
امرأة أبي حذيفة، أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة حتى تذهب
غَيرة أبي حذيفة، فأرضعته وهو رجل.
قال ربيعة: فكانت رخصة لسالم، أخرجه مسلم (1453)، والنسائي 6/
105، وأحمد 6/ 38 و 39 و 201 و356، وابن ماجه (1943)، والبيهقي
7/ 459 وابن حبان (4213)، وعبد الرزاق (13884). وتخصيص الحكم
بسالم وسهلة هو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر وأبي
هريرة، وابن عباس، وسائر امهات المؤمنين -غير عائشة-، وانظر
تفصيل ما قيل في المسألة في "المغني" 11/ 320 - 322، وكلام ابن
القيم رحمه الله في "زاد المعاد" 5/ 577 - 593.
(2) عن أبي بكرة -نفيع بن الحارث -رضي الله عنه- أنه دخل
المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، قال: فركعتُ دونَ
الصف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "زادكَ الله حِرصاً
ولا تَعُدْ". أخرجه البخاري (783) في الأذان، وأبو داود (683)
و (684) في الصلاة، والبغوي في "شرح السنة": (822) و (823)،
وابن حبان (2194) و (2195)، والبيهقي 6/ 103، وأحمد 5/ 39، 45،
وعبد الرزاق (3376)، وانظر "المغني" 3/ 76 - 78.
(3) عن البراء بن عازب: أنَّ خالي -أبا بردة- ذبحَ قبل أن يصلي
النبي صلى الله عليه وسلم فقال =
(2/98)
للمشقةِ اللاحقةِ التي لا يساويها خلعُ
غيرهما فيها (1)، ومثل الرخصةِ في تَحلل المُحصَرِ عن الإحرام
بالعدو الصاد عن المسجدِ الحرام وبقاعِ المناسك الواجبة
بالإِحرام، فلا يقاسُ عليه الحصرُ من المرضِ؛ لأنه يُمكنه
التخلصُ من العدو بالتحلُّل، ولا يتخلص من المرض، ولا يُقاس
موضعُ النجاسة على البدنِ والثوب على نجاسةِ أثرِ الاستنجاء
حتى يقتصر (2) فيه على المسح (3)؛ لأن المشقة بالتكرر هناك لا
توجدُ في غيره، ولا يقاس على تكررِ أيمانِ القَسامة أيمان في
حقٍ من الحقوقِ لتَغلظِ الدماءِ وتَخصصِها بالغِلظة من سائرِ
الحقوق، فهو من البابِ الذي علته غير مُتعدية.
وقال بعض أصحابِه (4): وكل ما كان مستثنى للضرورة أو الرخصة
__________
= النبي صلى الله عليه وسلم: "شاتك شاة لحم وليس من النسك في
شيء" فقال: يا رسول الله،
فعندي عَنَاق جَذعة هي خير من مُسِنة، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "تُوفي عنك ولا
توفي عن أحدٍ بعدك".
أخرجه البخاري (5557)، ومسلم (1961) (9)، وأبو داود (2800)،
والنسائي 7/ 223، وابن حبان (5910) و (5911)، والبيهقي: 9/
277، والدارمي 2/ 80.
والعَنَاق: الانثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. "اللسان":
(عنق).
(1) انظر "الرسالة": 546، ومنعُ المسح على العمامة هو قول
الشافعية ومالك وأبي حنيفة، وجوز الحنابلة المسح عليها. انظر
"المسألة فيا المغني" 1/ 379 وما بعدها.
(2) في الأصل: "يقتضي".
(3) انظر "المغني" 1/ 218 - 219.
(4) منهم أبو منصور البغدادي حيث قال: لا يجوز القياس عندنا
على الرخص؛ =
(2/99)
للمشقة من جُملة محظورٍ لا يجوز القياسُ
عليه (1).
فصل
في الاستحسان
والاستحسانُ في اللغةِ: استفعالٌ من الحُسنِ، وهو: أن يرى
الشَيء حَسناً أو يعتقده حَسناً، يقول الرجلُ من أهلِ اللغةِ:
استَحسنتُ صورةَ زيد، ورِكْبَةَ (2) عمروٍ، ودارَ خالدٍ. كما
يقول: استصوبتُ رأيهُ واستعقَلتهُ واستَجهلته، أي: وجدتُ رأيه
صواباً، ورأيتُه عاقلاً، أو وجدته عاقلًا، ووجدته جاهلًا.
ومراد الفقهاء بذلك: الرأي والاعتقاد، وهو: أن يعتقد وَيرى أن
هذا الحكم في الشرع حَسَن، فإن كان ذلك الدليل شرعياً، فَهو
صحيح (3).
وقد نَطَق بالاستحسانِ أبو حَنيفة (4).
__________
= لأنه معدول بها عن الأصل وما عدا محل الرخصة يبقى على الأصل.
"البحر المحيط" 5/ 57 - 58.
(1) عقد الزركشي مبحثاً ذكر فيه أمثلة على استعمال الشافعية
القياس في الرُّخَص التي تبين معناها. "البحر المحيط" 5/ 58 -
61.
(2) الرَّكْبة: ضربٌ من الركوب، يقال: هو حسن الركبة.
"اللسان": (ركب).
(3) للاستحسان عدة تعريفات، من أجودها تعريف أبي الحسن الكرخي:
"العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليلٍ شرعي خاصَ بتلك
المسألة" انظر: "التلويح على التوضيح" 2/ 81، و (المسودة) 451
- 454 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 190، و"شرح الكوكب المنير" 4/
431.
(4) انظر "أصول السرخسي" 2/ 200 و "ميزان الاصول" 2/ 898
و"فواتح =
(2/100)
وقد نَص عليه صاحبُنا أحمد ابن حنبل، فقال
في المُضارِب إذا خالف رب المال في الشراء: الربحُ لصاحِب
المال، ولهذا أجرةُ مثله، وكنتُ أذهب إلى أن الربحَ لصاحب
المال ثم استحسنتُ (1).
وقال في رواية المَروذي (2): يَجوز شراءُ أرض السوادِ ولا
يَجوز بَيعها، فقيل له: كيف يُشترى. ممن لا يملك؛ فقال:
القياسُ كما تقول، ولكن هو استحسان (3).
وقال الشافعي -رحمة الله عليه- في السارِق إذا أخرج يده اليسرى
بدل اليمنى فقطعت، فقال: القياس أن تُقطع يمناه، والاستحسان أن
لا تقطع (4).
وقال في الاستِحْلافِ بالمصحِف: حَسن (5)، أي للتخويف والردع.
وجملته: أنه تركُ القياسِ لدليلٍ أقوى منه.
__________
= الرحموت" 2/ 320، و"كشف الأسرار" 2/ 290.
(1) وردت هذه الرواية عن أحمد في "العدة" 5/ 1604.
(2) هو أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي، من أجل أصحاب
الإمام أحمد، وقد نَقل عنه الكثير من المسائل، توفي سنة (275)
هـ. انظر "سير أعلام النبلاء" 13/ 173 و"طبقات الحنابلة" 1/
56.
(3) واستند الإمام أحمد -رضي الله عنه- في هذا الاستحسان، الى
فعل الصحابة حيث رخَّصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها. انظر
العدة 5/ 1605.
(4) انظر "الأم" 6/ 53، و"الإحكام"، للآمدي 4/ 157.
(5) نفس المصدر 6/ 279.
(2/101)
وقال أبو الحسن الكَرخي: والاستحسان: تركُ
الحكمِ إلى حكمٍ أولى منه.
وقال قوم: الاستحسانُ هو: تخصيصُ العلَّةِ.
وقال قوم: هو تركُ الطريقة المطردة لطريقةٍ غيرِ مطردة لأمرٍ
يختصُ بذلك الحكم.
وقال قوم: هو تركُ القياسِ لدليل أخفى منه.
وقال بعضُهم: إذا امتد القياسُ على بعضِ الأصولِ أدى إلى
التفاحشِ، وخرج عما يعرفهُ الفقهاء، فحينئذٍ نرى أن يُقطع من
جملة البابِ، ويحكم له بحكم آخر.
وقال القاضي أبو عبد الله الصَيْمَري الحنفي (1) -رحمه الله-:
الاستحسانُ هو: العلمُ بالشيء على الوجهِ الذي لوقوعهِ عليه
يكون حسناً، والاستقباح هو: العلمُ بالشيء على الوجهِ الذي
لوقوعهِ عليه يكونُ قبيحاً.
وقال بعضُ أصحاب أبي حَنيفة: لا يجوزُ أن يشترط فيه العلم؛ لأن
القصد به غلبة الظنَ، وليس الاستحسانُ القولَ بغيرِ دليل.
قالوا: وقد روي عن إياس بن مُعاوية (2): قيسوا القضايا ما صلح
__________
(1) هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري، من كبار
فقهاء الحنفية، والمناظرين، عُرِفَ بوفرة العقل، والصدق في
النقل، توفي سنة (430) هـ، عن إحدى وثمانين سنة. انظر "تاريخ
بغداد" 8/ 98، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 616.
(2) هو أبو واثلة إياس بن معاوية، قاضي البصرة، يضرب به المثلُ
في الذكاء =
(2/102)
الناس، فإذا فسدوا فاستحسِنوا. وقال أيضاً:
ما وجدتُ القضاءَ إلا ما يستحسنُه الناسُ.
قالوا: وقد أمر الله سبحانهَ باتباع الأحسن، قال تعالى:
{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:
18].
قالوا: فيتركُ القياسُ للكتاب في حقِّ من قال: "مالُ صدقةٍ"
القياسُ يقتضيِ العمومَ فحملناهُ عَلى الأموالِ الزكاتيةِ
لقولهِ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:
103].
وللخبرِ في القهقهةِ (1)، وخيارِ الثلاثِ في البيعِ (2)،
ولسبقِ الحدثِ
__________
= والدهاء والسُؤدد والعقل، توفي سنة (121) هـ. انظر "حلية
الأولياء" 5/ 177، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 155.
(1) قوله: و"للخبر في القهقهة"، يشير إلى رأي الحنفية في قولهم
بوجوب الطهارة لمن قهقه في الصلاة، وهو حكمٌ معدول به عن أصل
القياس، ذلك أن القياس في نواقضِ الوضوء جميعها، أنها تنقضُ
الطهارة في الصلاة، كما تنقضها خارج الصلاة، وهذا أمرٌ لا
يتحقق في القهقهة، اذ لا تنقض الوضوء إلا في الصلاة، والذي
أوجب العدول عن هذا القياس ورود الخبر في القهقهة: "من ضحكَ
منكم قهقهة فليعد الصلاة والوضؤ جميعاً".
وسيأتي تخريجه في 2/ 143. وانظر: "أصول السرخسي" 2/ 153.
(2) يشير بقوله: "خيار الثلاث في البيع" إلى أن الأصل في البيع
أن يكون لازماً، إلا أنه قد عُدِل عن هذا الأصل لورود الخبر
الذي جوز خيار الشرط ثلاثة أيام.
وهو ما رواه ابن عمر أن حَبَّان بن منقذ كان يُخاع مما ابتاع
فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له الخيار فيما يشتري
ثلاثاً. أخرجه: الدارقطني في "السنن" =
(2/103)
في الصلاةِ.
والإِجماعِ؛ (1) كإسلامِ الدراهمِ في الحديدِ (2)، وأجرةِ
دخولِ الحمامِ مع الجهالة.
ولقولِ الصحابي، بمثلِ مسألة زيد بن أرقم لقول عائشة (3)،
__________
= 3/ 54 - 55، والحاكم في "المستدرك" 2/ 22، والبيهقي في
"السنن الكبرى" 5/ 273، والحميدي في "المسند" 2/ 292 - 293.
(1) أي يترك القياس للإجماع الوارد على خلافه، فيقتضي العدول
وقطع المسألة عن حكم نظائرها.
(2) كان يقول الرجل للصانع: اعمل لي آنية من نحاس أو حديد
-ويبين نوعها وصفتها- ويقدر ثمنها بكذا من الدراهم. فالقياس أن
هذا لا يجوز؛ لأنه بيع معدوم، لكنه جاز استحساناً لإجماع الناس
على التعامل به.
انظر "كشف الأسرار" 4/ 5، "أصول السرخسي" 2/ 203
(3) أخرج البيهقي في "السنن" 5/ 330، والدارقطني في "سننه" 3/
52، وعبد الرزاق في "المصنف": (14812) و (14813)، عن أبي إسحاق
السبيعي، عن امرأته: أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها-،
فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم
ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين، إني بعت غلاماً من زيد بن
أرقم بثمانمئة درهم نسيئة، واني ابتعته بستمئة درهم نقداً.
فقالت لها عائشة -رضي الله عنها-: بئسما اشتريت، وبئسما شريت،
إن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل، إلا أن
يتوب.
فقول عائشة -رضي الله عنها- مخالف للقياس؛ لأن البيعة الأولى
مختلفة عن البيعة الثانية، وقد ثبت عليه بالبيعة الأولى الثمن
كاملاً، إلا أنه قد عُدل عن هذا القياس لقول عائشة -رضي الله
عنها-، والذي يرجِّح سماعها النهي من النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن هذا البيع، حيث جعلت جزاء مباشرته بطلان الجهاد مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانظر "المنار": 735.
(2/104)
وتقديرِ عينِ الدابةِ ربع قيمتها لقول عمر
(1)، وقتلِ الجماعةِ بالواحدِ لقول عمر (2).
والاستدلالِ بمن حَلف أن لا يصليَ لا يحنثُ حتى يأتىَ بمعظم
الركعةِ، لأنَ الأقل ملغى، ومن حلفَ أنه يهودي أو نصرانيٌ،
القياسُ إن لا تجب عليه الكفارةُ؛ لأنَهُ لا يحلف الله، ولكن
حَنثناهُ استحساناً؛ لأنه هتكَ حرمةَ الدينِ، فصار كالحالفِ
بالله في هتكِ الحرمةِ.
وجملةُ ذلك أنه ينقسمُ ثلاثةَ أقسام:
أحدُها: تركُ القياس لدليل أقوى منه، فهذا نقول به، وهو صحيحٌ.
والثاني: تركُ القياسِ لغيرِ دليل، فهذا لا يجوزُ لأحد أن
يذهبَ إليه؛ لأنه مجردُ هوى النفسِ واستحسانها.
والثالثُ: ترك القياس للعُرفِ والعادةِ، فهاهنا يتصورُ
الخلافُ.
ومن وجهٍ آخر، وهو أن ما يرونه أقوى من القياسِ، يتكلم عليه
وأنه ليس بأقوى.
فأمَّا الأولُ: هو أن القياسَ حجةٌ شرعيةٌ، ودليل يجبُ المصيرُ
إليه، فلا يجوز تركُه للعرفِ الطارىء كالكتابِ والسنَةِ
والِإجماعِ.
__________
(1) أخرج عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 77 عن شريح: أن عمر كتب
إليه: في عين الدابةِ ربع ثمنها.
(2) يعني قول عمر -رضي الله عنه-: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء
لأقدتهم به"، تقدم في الصفحة: 369 من الجزء الأول.
(2/105)
وأما الكلامُ في الثاني؛ هو: أن تلفيق
شهودِ الزنا والسرقةِ ليس بأمرٍ قوي لإِقامةِ حد الزنا والقطعِ
في السرقةِ، وقد نوافقهم في موضعِ الاستحسانِ، ونخالفهُم أنه
عُدِلَ بهِ عن القياسِ، بل القياسُ هو موضعُ الاستحسانِ،
كقولهم: القياسُ أن لا يُباعَ على المفلِس ماله، لأنه مكلف،
وإنما استحسنا في بيعِ دراهمَ بدنانيرَ، لأنهما كالجنسِ
الواحدِ. فنقول: بل القياسُ من امتنعَ من أداءِ حقٍّ أخذَ به
جبراً، إذا أمكن الاستيفاءُ منه.
وقد نُعارض مثل قولِهم بالاستحسانِ، بأن نقولَ: إن كان القياسُ
اقتضى أن لا يجبرَ مكلف على بيعِ مالِه، فالقياس أن [لا] (1)
يضيعَ على مسلم حق.
ثم إنهم تركوا الاستحسانَ في مواضعَ، وأخذوا بالقياسِ فيها.
قالوا: لو أسلمَ رجل إلى رجل آخرَ في ثوبٍ ثم اختلفا، فقالَ
صاحبُ السلم: هو هَروي، وقال المُسلِم: هو مَروي، تحالفا،
فحلفَ من عليه السَلَمُ: ما هو هروي وتَبرَّأ. وحلفَ صاحبُ
السلم: ما هو مروي، ورد عليهِ رأس المال، فإنْ أقامَ كلُّ
واحدٍ منهما بينةً فالبينةُ بينة الطالِب، وإن اتفقا على
الجِنس على أنه مروي واختلفا في المقدارِ، فقال الطالبُ: هو
ستةُ أذرع في ثلاثة أشبار، وقال المسلم إليه: هو خمسةُ أذرع في
ثلالةِ أشبار، تحالفا وترادا في القياس. وأما في الاستحسان
فينبغي أن يكون القولُ قولَ المطلوب مع يمينه، فأخذ بالقياسِ
وترك الاستحسان.
__________
(1) ليست في الأصل.
(2/106)
فصل
والاستحسانُ أعم من تخصيصِ العلَّةِ؛ لأن تخصيصَ العلَّةِ
كتخصيصِ العمومِ، يتركُ القياسُ في موضعٍ واحدٍ من الجنس
والباقي على القياسِ.
والاستحسانُ قد يكونُ ترك القياسِ رأساً، كالنسخ، وقد يكونُ
مثلَ تخصيصِ العلَّةِ وتخصيصِ الخبر.
فصل
والمخصوصُ من القياسِ بدليلٍ صحيحٍ، كخبر، أو إجماع، أو
غيرِهما من الأدلةِ، يصير أصلَاً من أصولِ الشرع (1)، فإن دلت
الدلالةُ على تعليلهِ جاز القياس عليه.
وهذا كما يقول: إنَ ديةَ الخطأ تجب على الجاني، قياساً
ومعقولاً، كقتل العمد، وأبدال سائرِ المتلفاتِ، أوجبناها على
العاقلةِ للسنةِ، ولقول عمر وعلي رضي الله عنهما، ثم وجدناه
معللاً، وهو أنَه أرش جنايةٍ على حُرٍّ خطأً، فتحملهُ العاقلةُ
مواساةً، يقاسُ على ذلك ما دون النفسِ على اختلافِ الفقهاءِ في
القدرِ. فأصحابُ أبي حنيفة يقيسون عليه المقدَّر، وهو
الموضِحةُ (2)، وأصحابُنا ما دون الثلثِ، وأصحابُ الشافعي
الجميع حتى مالا مقدر فيه، مما دون الإِيضاح.
__________
(1) انظر "العدة"4/ 1397، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 22، و"شرح
مختصر الروضة" 3/ 303، و"التمهيد" 3/ 444، و"المسودة ": 399.
(2) الموضحةُ: هي الشجة توضح العظم وتظهره وتكشفه.
انظر "أنيس الفقهاء"/ القونوي، تحقيق عبد الرزاق الكبيسي ص:
294.
(2/107)
وأصحاب أبي حنيفة يسمون مثلَ هذا: القياسَ
على موضع الاستحسانِ، واختلفوا في جوازِه، فأجازه بعضُهم، ومنع
منه بعضهم (1).
وقال أبو الحسن الكَرخي: لا يجوز القياس على المخصوصِ من جملةِ
القياسِ إلا في ثلاثةِ مواضعَ:
أحدُها: أن يكون علَّةُ منصوصاً عليها، كقولهِ - صلى الله عليه
وسلم - في سؤر الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (2).
وهذه علَّةُ صاحب الشرع، يعني أنه لا يمكنُ الاحترازُ منها،
فقِسنا على ذلك كلُّ ماَ لا يمكَنُ الاحتراز منه من الحشرات.
أو يكون مجمعاً على تعليلهِ وإن اختلف في علَّتِه.
أو يكون موافقاً لبعضِ الأصولِ، أو يكون مما لم يفصلْ أحدٌ
بينه وبين المخصوصِ، كالأكلِ والجماعِ في رمضانَ ناسياً، ظناً
منه أنه لم يفصلْ أحمدُ وغيرهُ بينهما.
__________
(1) رأي عامة الحنفية: أنَ الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه
الآصول، فإنه يجوز القياسُ عليه إذا كان له معنى يتعداه.
وراجع تفصيل رأي الحنفية في "كشف الأسرار" 3/ 1031 - 1032
و"أصول السرخسي" 2/ 153، و"ميزان الاصول" 2/ 914.
(2) أخرجه: مالك في "الموطأ" 1/ 22 - 23، وأحمد 5/ 303 و309،
والترمذي (92)، والنسائي 1/ 155 - 178، وابن ماجه (367)،
والدارمي 1/ 187 - 188، والبغوي (286)، والحاكم 1/ 160 وصححه،
وابن حبان (1299)، من حديث أبي قتادة: أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: " إنها ليست بنَجس، إنها من الطوافين عليكم
والطوافات" وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2/108)
وعن محمدِ بن شُجاعِ الثلجي (1): أنه لا
يجوزُ القياسُ عليه إلا إذا كان طريقهُ مقطوعاً به. وكلُّ ذلك
غيرُ صحيح عندنا؛ لأنَّهُ إذا دلًت الدلالةُ على تعليلهِ، جاز
القياسُ عليه كسائرِ الأصولِ، فأمَّا مخالفتُه لسائرِ الأصولِ
الأخَرِ فتوجبُ الرجوعَ إلى الترجيحِ، فيعارض الأصلان، على
أنهم قد قاسوا أرشَ الموضحةِ فما زاد على ديةِ الجنينِ، وهو
عارٍ وخالٍ عما ذهبوا إليه.
فصل
فعلى هذا إذا قاسَ الشافعيٌ على موضعِ الاستحسانِ فقال
الحنفيُ: لا أُسَلِّم لك الحكمَ في الأصلِ على حكم القياسِ،
مثلَ أن تقيسَ ما دونَ الموضِحةِ على الموضِحةِ، فيقولُ
الحنفيُ: لا أسَلمُ أنَ الموضِحَة على أصلِ القياس، فهذا
فاسدٌ؛ لأن القياسَ ليس مذهبه الآن، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يمنعَ
على مالا يقولُ به، وإنما وزانه أن يقولَ: لا أسَلِّمُ على
مقتضى العقلِ، وهو فاسدٌ، فكذلك هذا.
وقيلَ: ينظر في ذلك، فإن كان صاحبُ المذهب روي عنه روايتان
رواية قياساً وروايةٌ استحساناً، فالمنع صحيح. فإن قال: فيه
قياس واستحسان وبه أقول، فلا يجوز له الممانعة على القياس، وإن
قال: فيه قياس واستحسان، وسكت، فإن اختارَ أصحابُه القياسَ صحت
الممانعةُ، وإن اختاروا الاستحسانَ لا يصح، والله أعلم.
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن شجاع البغدادي الحنفي، المعروف
بابن الثلجي، عُرِف بالورع والتعبد، له كتاب في "المناسك"،
توفيَ سنة (266) هـ. انظر "سير أعلام النبلاء" 12/ 379،
و"الوافي بالوفيات" 3/ 148، و"الفوائد البهية":171.
(2/109)
فصل
في المركب (1)
واعلم أن القياسَ على الأصلِ المركبِ على ضربين:
أحدُهما: أن يَبني دليلًا على دليل ويقيس مختلفاً على مختلفٍ
ثم يدلّ عليه، وهذا حَسَن يستعمل في كلّ علمٍ، وأكثرُ ما
يستعملُه أهلُ الأصولَ.
مثالُه من الفقهيات: أن يُسألَ عن بيعِ الأرز بالأرز متفاضلًا
فيقول: لا يجوزُ. فيطالَبُ بالدليلِ، فيقول: لأنه مطعوم جنس،
أو لأنه مكيلُ جنس، فحرم التفاضل فيه كالبُرّ. فيقولُ السائلُ:
هذا قياس، وأنا لا أسلمُ لك أن القياسُ حجة. فيستدلُ على صحةِ
القياسِ بالإِجماعِ، فيقولُ: لا أسلمُ لكَ أن الإِجماعَ حجة.
فيستدلُّ عليهِ بالكتابِ، وهي آية الِإجماع: {وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
[النساء: 115]، فهذا تركيب على أصل لم يُسلمْه خصمه، لكنه أصل
يختصُ به المستدِلُّ، ثم يقيمُ الدلالةَ عليه.
وقد استدلَّ الشافعيُ -رحمة الله عليه- بمثلِ هذا في مواضعَ:
منها: أنه قال: ولو كان الصوفُ والشعرُ والريشُ لا يموتُ بموتِ
ذاتِ الروحِ، أو كان يطهرُ بالدباغ، لكان ذلك في قرنِ الميتةِ
وسِنّها،
__________
(1) يرجع في هذا الفصل إلى "شرح مختصر الروضة" 3/ 552، و"شرح
الكوكب المنير" 4/ 313.
(2/110)
وجازَ في عظمِها؛ لأنهُ قبلَ الدباغ وبعدَه
سواء. فقاسَ الصوفَ والشعرَ على العظمِ، ومعلومٌ أنه لا يسلَم
له أصحابُ أبي حنيفة الأصلَ، بل يقولُ أبو حنيفةَ: إنً العظَم
لا ينجس بالموتِ. ولا شكَّ أن الشافعيَ رضي الله عنه لم ينظرْ
إلى منعِ أبي حنيفة، بل عوَّل على الدلالةِ القائمةِ في كونِ
العظمِ يحيا ويموتُ بقوله سبحانه: {قَالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78 - 79].
وقال في البكرِ البالغةِ: يجوزُ للأبِ إجبارُها، ولو كانت إذا
بلغت أحقِّ بنفسِها أشبه أن لا يجوزَ ذلك عليها قبل بلوغها،
كما قلنا في المولودِ يقتلُ أبوهُ: يحبسُ قاتلُه، حتى يبلغَ
[فيقتصَّ] (1) أو يعفوَ.
ونريدُ به: لو لم يجزْ للأبِ إجبارُها بالغةً لم يجزْ تفويتُه
عليها قبل بلوغها، كالقودِ للصغيرِ فيما يقعُ فيه، وهو يعلمُ
أنَّ أبا حنيفة يقولُ: بأن الوليَّ يستوفي القصاصَ للصغيرِ،
لكنه عوّلَ على أنه يدل عليه بأن القصاصَ للتَشَفي وذلك يفوّتُ
على الوارِث، ولأنه حق الصغيرِ فلا يفوتُ عليه، كالمالِ، وهذا
يدلُّ من كلامِه أيضاً، على أنَّ عنده يجوزُ القياسُ على فرعٍ
لأصلٍ آخر.
فصل
والضربُ الثاني (2): الذي يستعملهُ المتفقهة يريدون به هذا
الذي ذكرناه، إلا أنَّه بَعُدَ البناءُ عليه لبُعْدِ ما بين
المسألتين، كما يقولُ أصحابُنا وأصحابُ الشافعي: في أنَّ بيعَ
اللحمِ بالحيوانِ لا يجوزُ؛
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) أي: الضربُ الثاني من القياس على الأصل المركب.
(2/111)
لأنه بيع لحمٍ بحيوانٍ ولا يجوز، أصله بيع
اللحمِ بالمدَبر (1)، أو بيع عين غائبةٍ، فلا يصحُّ، أصله
المدَبرُ.
وأنثى، فلا يصح منها عقد النكاحِ، كبنتِ خمسَ عشرةَ سنة،
وكقولِ أصحاب أبي حنيفة: رهن مشاع، فلا يصح، أصلة نصف الكلب،
ومعلومٌ أنَ المدبَر الغائبَ لا يصحُّ بيعة عند الشافعي للجهلِ
بصفتِه، وعند أبي حنيفة لكونِه مدبراً مطلقَ التدبير، لا للجهل
بصفته، ونصف الكلبِ لا يجوز رهنهُ عند الشافعي، لنجاسةِ عينهِ،
وعند أبي حنيفة لإشاعتهِ، فهذا وأمثاله قد اختلفَ أهلَ الجدلِ
في صحتِه؛ فقال قوم: إنه فاسدٌ.
والدليل عليه: هو أن الطريقَ إلى العلم بحكم الأصلِ لا يختلف،
كتحريم التفاضلِ في البر، وإنما يختلف الطريق إلى العلم
بالعلةِ، وفي المركَبِ تختلف الطريق إلى العلمِ بالحكمِ، لا
طريق العلمِ بعلتِه.
ولأنَّ الأصلَ إذا اختلفَ القائسون في علتِه، كالأشياءِ
الأربعةِ: البر والشعير والتمر والملحِ، قال أبو حنيفةَ:
العلةُ فيها الكيلُ المعتاد. وقال الشافعي: العلَّة هو الطعْم.
وقال مالك: القوت (2). فيثبت الشافعى الربا في الفواكهِ غيرِ
المكيلةِ والموزونةِ ولا يثبته في الجصِّ والنُورَةِ، وأبو
حنيفةَ يثبته في الجصِّ والنورةِ دونَ الفواكِه. فلو تركَ
أحدهما قولَه
__________
(1) المدبر: هو العبد يُعلق عتقه على موت سيده. "اللسان":
(دبر).
(2) انظر "المغني" 6/ 53، و"المجموع" 9/ 395، و"حلية الفقهاء"
للقفال: 4/ 149، و"البناية في شرح الهداية" للعيني 6/ 525،
و"مواهب الجليل" 4/ 336
(2/112)
لقيام دليلٍ، بأن يقول: دلالةُ الطعْم ليس
بعلةٍ لزالَ الخلافُ عن الرمانَ والبقولِ، وكذلكَ لو دلتْ
دلالة على أنَّ الكيلَ ليس بعلةٍ لزال الخِلاف عن الجصِّ
والنورة، بحيثُ لا يكونُ فيه الربا إجماعاً، هذا هو القياسُ
الصحيحُ.
وفي مسألةِ التركيب: لو دل الدليلُ على فسادِ أحدِ القولين لم
يزل الخلافُ؛ ألا ترى أنَ الخلافَ في ابنةِ عشرينَ سنة، هل
يجوزُ أن تزوِّج نفسَها أم لا؟ والأصلُ ابنةُ خمسةَ عشرَ سنةً.
فيقولُ الخصمُ: لو دل الدليلُ على أنَ ابنةَ خمسةَ عشرَ سنةً
بالغ، لجوزتُ لها أن تُزوِّجَ نفسها، وإذا تركتُ قولي في
بلوغِها، لم يزل الخلافُ في ابنةِ عشرينَ سنة، وكذلكَ لو قامَ
الدليلُ على أنَ خمسةَ عشرَ ليس ببلوغ لم يزل الخلافُ.
ومن قالَ بصحتها استدلَّ بأنَّ الحكمَ في الأصل المركبِ متفقٌ
عليه، وإنَما اختلفوا في علتِه، ألا ترى أنهم اتفقوا على أن
ابنةَ خمسةَ عشرَ سنة لا يصح منها النكاحُ، وإنما قالَ
الشافعي: لكونها أنثى. وقال أبو حنيفة: لكونها غيرَ بالغٍ.
وذلكَ لا يمنعُ صحةَ القياسِ عليه، كاختلافِهم في علَّةُ الأصل
في غير المركب.
قلنا: غير المركب اتفقوا على أن طريقَ العلمِ بحكمهِ واحدة،
وعلى تعليله، فإن علته واحدة، ثم اختلفوا في عينِها، على حسبِ
الدلالةِ عند كلِ واحدٍ، ولو دلتْ عنده دلالة على أن التي
ادَّعاها فاسدة لرجعَ إلى قولِ صاحبه، وهذا لا نجدُه في
المركب؛ لأنه لم تُستنبطْ منه علتهُ، ولو دل على فساد أحدِهما
لخرج أن يكونَ أصلًا بحال. وغير المركب لو اتفقوا على فساد
أحدهما كان أصلًا على حاله، ويقوى
(2/113)
بالاتفاق.
فصل
وأما القياسُ على الأصلِ المخالفِ للأصولِ، وهو على موضعِ
الاستحسان، وصورتُه كما نَقولُ: إذا قالَ المشتري للبائع:
بعني.
فقالَ: بعتُكَ. انعقدَ البيعُ قياساً على ما يقولُ المتزوجُ
للوليّ: زَوجني بنتَك فلانة. فيقولُ: قد زوجتكَها. وكما نَقيسُ
جماعَ الناسي في الحجّ -على أحدِ القولينِ- على الجماع في
الصوم، فعند جماعةٍ من أصحاب الشافعيّ وغيرِهم يجوزُ الَقياس
علىَ هذا الأصلِ. وعند أصحاب أبي حنيفةَ لا يجوزُ القياس على
الأصل المخصوصِ من جملة القَياسِ؛ لأن الجماعَ (1) يبطلُ
العباداتِ كلَّها، عامداً وناسياً، كالصلاةِ والوضوء
والاعتكاف، هذا هو القياسُ، إلا أنَّا قلنا: جماع الناسي لا
يبطلُ الصومَ استحساناً؛ لخبرِ الأكل (2)؛ لأنَّ أحداً لم يفصل
بين الأكلِ والجماعِ في الصوم قياساً، وليس كما ظنوا. فإن
مذهبنا أن وطءَ الناسي (3) يُبطلُ بخلافِ أَكلِ الناسي، فأمَّا
الجماعُ في الحجِّ
__________
(1) في الأصل: "الإجماع".
(2) وهو ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إذا أكلَ الصائمُ ناسياً، وشربَ ناسياً، فليتم صومَه
فإنما أطعمه اللهُ وسَقاه". أخرجه: أحمد 2/ 425 و 491 و 513 -
514، والبخاري (1933) و (6669)، ومسلم (1155)، وأبو داود
(2398)، والترمذي (722)، وابن ماجه (1673)، والدارقطني 2/ 180
والبغوي (1754). والبيهقي 4/ 229، وابن حبان (3519) و (3520).
وابن خزيمة (1989).
(3) انظر في فساد صوم من وطىء ناسياً في شهررمضان "المغني" 4/
374، وفساد حج من وطىء ناسياً "المغني" 5/ 173 - 174.
(2/114)
فإنَا نقيسهُ على سائرِ الأصولِ، ولا
نقيسهُ على الصومِ.
وجملتُه: أن عندهم لا يجوزُ القياسُ على موضعِ الاستحسانِ إلا
إذا نص على علّةٍ؛ لأنَ النصَ على العلَّةِ، كالنصّ على وجوب
القياسِ. أو أجمعت الأمَّةُ على تعليلِ موضعِ الاستحسانِ وان
اختلفوَا في علتِه أو يكونَ مما لم يفصلْ أحدٌ بينه وبين
المخصوصِ فيكونُ حكمُه حكمَ ما خُص من جملةِ القياس (1).
فصل (2)
وأما القياسُ على الخبرِ المخصّصِ للعموم، فقد أجازه أبو الحسن
الكرخي، وعند محمدِ بن شجاع: إن كان الخَبرُ مقطوعاً به جاز
القياسُ عليه، وإن لم يكنْ مقطوعاً به لم يجزْ القياسُ عليه
إذا خالف الأصولَ.
وهذا لا يصح؛ لأنَّه قد وردَ التعبدُ بوجوب القياسِ، ومخالفته
لقياسٍ آخرَ، لا يمنعُ من القياس عليه إذا دلتَ الدلالةُ على
صحةِ علّتهِ، والمنصوصُ على علته أوَ المجمعُ على تعليله أولى؛
ولأنَّ الاعتبارَ بالدليلِ الدال على صحةِ العلَّةِ سواء كان
نصاً أو غيرَه، كسائرِ الأقيسةِ.
__________
(1) هذا التفصيل هو رأي أبي الحسن الكرخي وقد تقدمت الإشارة
إلى ذلك.
(2) هذا الفصل تابع للفصل الذي تقدم فيه البحث عن جواز القياس
على الفرع المخالف للقياس، واعتباره أصلًا قائماً بذاته.
(2/115)
فصل
يجمع مسائل في الشرع طريقها القياس
منها: أنَّ اللهَ سبحانَه قالَ: {ومَن قتلَ مؤمناً خطأً
فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ ودية مُسلمة إلى أهلِه} [النساء: 92]،
فنصّ على الذكرِ؛ لأنَ لفظَ (مؤمنٌ) لا يقع إلا على الذكرِ،
وهو نكرة أيضاً، فلا يعمُ الذكَرَ والأنثى، ووجب في قتلِ
المؤمنةِ تحرير رقبةٍ قياساً على المؤمنِ.
ومنها قولُه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}
[النساء:43، المائدة: 6] ولم يذكر الحائضَ والنُفَسَاءَ إذا
انقطعَ دَمُهما ولم يجدا الماءَ، فأمر بالتيمم عند عدمِ الماء،
وكانَ ذلك قياساً على المنطوق به من الأشخاصِ المحدثينَ الذين
انتظمتهم الآيةُ.
ومنها: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]، فخص المؤمناتِ بالذكرِ، وقيسَ عليهن
الذمياتُ أيضاً، فإنهنَ إذا طُلقنَ قبلَ الدخولِ لم يكن عليهنَ
عدة، وقضيَ بالقياسِ، ولم يُعولْ على دليلِ الخطابِ في هذا
البابِ تقديماً للقياس عليه.
ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
(2/116)
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فكان المعقولُ منعه
سبحانه من البيعِ لئلا يشتغلَ بهِ عن الصلاةِ، فقيسَ عليه
الإجارةُ والنكاحُ وسائرُ الأعمالِ من البناءِ والنَجارةِ.
ومنها: قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ولم يذكرْ الذينَ يرمون
المحصَنينَ من الرجال، ومعلومٌ أنَ إيجابَ الحد على الذكورِ،
كان قياساً على مكانِ النطقِ؛ لأنَه قذفَ شخصاً محصناً، وهتكَ
عِرضاً سليماً، فنَظَرَ القائسون إلى المعنى، ولم يَقصروا
الحكمَ على النطقِ وهذا هو عينُ القياس.
ومنها: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ} [النساء: 11] فخصّ الحجبَ بالِإخوةِ ذكراً، فعداه
القائسون إلى الأخواتِ بالمعنى، فجعلوا الأخواتِ كالإِخوةِ في
حجب الأم من الثُّلث إلى السدسِ، بعلة أنهم أولادُ أبٍ وأولادُ
أمٍ.
ومنها: قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] الأية، ولم يذكرْ
الجداتِ أمهاتِ الأباءِ والأمهاتِ، ولا بناتِ البناتِ ولا
بناتِ البنين، ولا خالاتِ الأبوين وعماتِهما.
فإن اعترضَ أهلُ الظاهرِ فقالوا: إنما ثبتَ ذلك بالاسمِ؛ لأنَّ
أمهاتِ الأمهاتِ أمهاتٌ، وبناتِ البنين والبناتِ بناتٌ.
قيل: هذا لا يصح؛ لأنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالَ
للجدة: لا أجدُ لكِ في كتاب الله شيئاً (1). وهو سيدُ اللغةِ،
ولو كانت
__________
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 513، وأبو داود (2894)،
والترمذي =
(2/117)
أمّاً في اللغةِ، لكانت موجودة في ذكرِ
الأمهاتِ على زعمِكم، ومحال أن يعدمَ هو الاسم ونجدُه من بعده،
ولا يقالُ في لغةِ العرب لعماتِ الجدِّ عمات حقيقة، ولا لبنت
بنتِ الأخ بنتُ أخ حقيقة.
فصل
يجمع الأقيسةَ على السنةِ
من ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من باعَ
عبداً ولهُ مالٌ فمالُه للبائع إلا أن يشترطَ المبتاعُ" (1)،
وحكمُ الجاريةِ إذا بيعتْ ولها مال حكمُ العبدِ إجماعاً إذا (2
بيع وله مال 2) قياساً على العبدِ، فالإجماعُ على الحكم،
والقياسُ على العبدِ قول القائس.
ومن ذلك: ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُفعَ
القلمُ عن ثلاثة: عن الصبى حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى
يفيقَ، وعن النائمِ حتى يَستيقظَ" (3). وروي: "ينتبه" فخصَّ
هؤلاء بالذكرِ، وحكمُ الِإناثِ من
__________
= (2101)، وابن ماجه (2724)، والبيهقي 6/ 234، وابن حبان
(6031) والحاكم 4/ 338.
(1) أخرجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- البخاري (2379)
ومسلم (1543) (80)، والترمذي (1244)، والنسائي 7/ 296، وابن
ماجه (2211)، والبيهقي 5/ 324، وابن حبان (4922).
(2 - 2) في الأصل: "بيعت ولها مال"، ولعل المثبت هو الصواب.
(3) أخرجه من حديث عائشة -رضي الله عنها-، أحمد 6/ 144، وأبو
داو (4398) والنسائي 6/ 156، وابن ماجه (2041)، وابن حبان
(142).
وفي الباب عن ابن عباس، وأبي هريرة وأبي قتادة، وغيرهم انظر
"نصب الراية"4/ 161 - 165.
(2/118)
هؤلاءِ حكمُ الذكورِ، وما ورد الحكم الذي
هو العفو إلا في الذكور.
ومن ذلكَ: ما روي عن النبي فى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مَن أعتقَ شِركاً لهُ في عبدٍ،- ويروى: مملوكٍ - قومَ عليه
قيمةُ عدل، وإلا عَتَق منهُ ما عَتَقَ، ورق ما رق (1) "فكان
حكمُ الإِماءِ حكمَ العبيد قياساً عند القائسين.
ومن ذلكَ: ما روى ابنُ عباس عن ميمونةَ أن فأرةً وقعتُ في سمنٍ
فأُخبرَ النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "ألقُوها وما حَولَها
وكُلوا" (2). فقيسَ على الفأرةِ ابنُ عِرس (3) والعصفورُ وكل
ميتٍ له دم سائلْ عند قومِ، وما لا دمَ له أيضاً عند قوم،
وقيسَ على السمنِ الدبسُ الجامدُ وَالزبدُ واللبنُ وسائرُ
الجامدات.
فصل
فيما حكمَ النيى صلى الله عليه وسلم لأشخاصٍ، حُمِلَ عليهم
غيرُهم في تلك الأحكام
وذلك قياس عند قومٍ وليست أقيسةً عند قوم.
وعلى الأول أكثرُ العلماءِ من القائسين.
__________
(1) أخرجه مالك 2/ 772 والشافعي 2/ 66 وأحمد 2/ 2 و15 و77 و
105 و112 و142، والبخاري (2522) و (2523) ومسلم (1501)، وأبو
داود (3940) و (3941) و (3942) و (3943)، والترمذي (1346)،
والنسائي 7/ 319 وابن حبان (4316)، من حديث ابن عمر -رضي الله
عنهما-.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة (52).
(3) ابن عِرس: دُوَيبة معروفة تَشبه الفارة وهي دونَ المنَوْر،
تفتك بالدجاج ونحوها. والجمع (بنات عِرس).
انظر "لسان العرب" و"المعجم الوسيط": (عرس).
(2/119)
منها: حديثُ الأعرابي الذي ساله عن
المواقعةِ لامرأتِه في نهارِ رمضان، فقال له صلى الله عليه
وسلم: "أعتِقْ رَقَبة" (1) حُمل ذلكَ على كلِّ مجامع في نهارِ
رمضان، وصار كأنه قال: لأنَكَ جامعتَ في نهارِ رمضان.
ومنها: قولُه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمةَ بنتِ قَيس لما
طلقها رِفاعة ثلاثاً، فتزوجتْ عبدَ الرحمن ابن الزبير، وذكرتْ
أن معهُ كهُدبةِ الثوب، فقال: "لعلك تريدي أن تراجعيْ رفاعةَ"
أو كما قال، ثم قالَ لها: "لا حتى تذوقي عُسيلتَه ويذوقَ
عُسَيلتك" (2)، حُمل على كلِّ امرأةٍ طلقَها زوجُها ثلاثاً،
فزوجت بغيره، لا تباحُ للأول بمجرد العقد حتى توجدَ الإصابةُ.
ومنها: قولُه لفاطمةَ بنتِ أبي حُبَيش: "إنما هو دمُ عرقٍ،
فتوضئي لكلِّ صلاة" (3)، فكان محمولاً على كلُّ مستحاضةٍ.
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة 40.
(2) أخرجه مالك 2/ 531، والبخاري (5792)، ومسلم (1433)،
والبيهقي 7/ 375، وابن حبان (4121). والصواب أن قوله - صلى
الله عليه وسلم - لتميمة بنت وهب انظر "الفتح" الحديث (5317).
وهدبة الثوب: هي طرفه الذي لم ينسج، تعني بذلك أن متاعَه رخو
كهُدبة الثوب.
(3) ورد ذلك في حديث عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي
حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟
قالت: فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:" إنما ذلك
عرق، وليست بالحيضة، فاتركي
الصلاةَ، فإذا ذهبَ عنكِ قدرُها، فاغسلي عنك الدم وصلي ".
أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 61، وأحمد 6/ 42 و137 و194 والبخاري
(306) و (320) و (325) و (331)، ومسلم (333)، وأبو داود (282)
و (298)، والترمذي (125)، وابن ماجه (624)، والنسائي 1/ 181 و
185 و186، وابن حبان (1350) و (1351) و (1352) و (1353) و
(1354).
(2/120)
ومنها: قوله لهندٍ زوجةِ أبي سُفيان لما
شكتْ إليه شُحَّ أبي سفيان: "خُذي ما يكفيكِ ووَلَدك بالمعروفِ
(1) "، فحملَه قومٌ على كلُّ مستحقٍّ لدينٍ، زوجةً كانت أو
غيرَ زوجةٍ، وحملَه قومٌ على كلِ زوجةٍ دونَ أربابِ الديونِ.
واستدل من قالَ: ليسَ هذا من باب القياسِ، إنما عُلِمَ التعدي
بالنصِّ، وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "قَولي للواحدِ
قوَلي للجماعةِ" (2) "قولي لامرأةٍ واحدةٍ قولي لمائةِ امرأةٍ"
(3). فلما كان حكمُه - صلى الله عليه وسلم - للواحد وعليه،
حكمه
__________
(1) ورد هذا في حديث عائشة -رضي الله عنها.
أخرجه: أحمد 6/ 39 و 50 و 206، والبخاري (2211) و (5730) و
(5364) و (7180)، ومسلم (1714)، وأبو داود (3532)، وابن ماجه
(2293)، والنسائي 8/ 246 - 247، والبيهقي 7/ 466 و477 و 10/
269 - 270، وابن حبان (4255) و (4256).
(2) اشتهر هذا الحديث في كلام الفقهاء والأصوليين، وليس له أصل
ولا سندٌ في كتب الحديث. نبَّه إلى ذلك ابن كثير، والمزي،
والذهبي، والسبكي، وابن حجر العسقلاني. انظر "موافقة الخَبَر
في تخريج أحاديث المختصر" لابن حجر العسقلاني: 1/ 527،
و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (578).
والحديث التالي يؤدي معناه.
(3) ورد ذلك في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيتُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا
رسولَ الله على أن لا نشرِكَ بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني
ولا نقتلَ أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا
وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: "فيما استطعتن وأطقتن" قالت: فقلت: الله ورسولُه أرحمُ
بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمئة امرأة
كقولي لامرأة =
(2/121)
للجماعة وعليهم، كان غيرُ هؤلاء الأشخاصِ
داخلينَ بحكمِ هذا النطقِ دونَ القياسِ، وذلك لأنَه مبعوث إلى
الكافة.
فيقالُ: هذا حثٌ منهُ - صلى الله عليه وسلم - على القياسِ؛
لأنَ بيانَه للواحِد لا يعمُّ الجماعةَ من جهةِ اللفظِ،
والحكمُ للشخص الواحِد والخطابُ خاصٌ له، فكان يجوزُ أن يختصَ
ذلك الواحد، كأبي بُردةَ في الجذعةِ من المعزِ (1)، وكسالم في
الرضاعِ بعد علو السن وخُروجه عن حَدِّ الرضاع (1)، وكأبي
بكرةَ في (1) في دخولِه الصف راكعاً وإنما عم من حيث المعنى،
فقولُه: "قولي للواحد قولي للجماعةِ"، "حكمي في الواحدِ حكمي
في الجماعةِ" دالٌ على القياسِ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم -
أمرَ بإجراءِ المعنى على عمومِه وهذا هو عينَ القياسِ.
فصل
إذا نصَّ صاحب الشرعِ على حكمِ شيء، وقال: قيسوا عليه ما هو
مثلُه ونظيرُه، فإنَا نبحثُ عن علته، ثم نقيس عليه لنعطيَ
اللفظةَ
__________
= واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة".
أخرجه: أحمد 6/ 357، والنسائي 7/ 149، والترمذي (1597) وابن
ماجه (2874)، والحاكم 4/ 71، وابن حبان (4553). قال الترمذي:
وهذا حديث حسن صحيح.
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (98).
(2/122)
حقَّها، وهو قولُه: ما هو مثلُه. وهذا
إجماع، وإنما يقعُ الاجتهادُ منا في معرفةِ العلَّةِ ومعرفةِ
النظيرِ.
ولو لم يأمرْنا بالقياسِ عليه لكن نص على علتِه بأن يقولَ:
حرمتُ هذا لكذا، فإنه يجوزُ القياسُ عليه، واجتهادُنا يقعُ في
طلب النظيرِ ووجودِ العلَّةِ فيه، دونَ معرفةِ العلَّةِ.
وكذلك لو أجمع العلماءُ على علته، كان حكمُه حكمَ ما نصَّ
عليهِ صاحبُ الشرع، وكذلكَ لو أجمعَ العلماءُ على تعليلهِ ولم
يثبتوا علته، فإنَه يجوزُ القياسُ عليه، وكذلك إن دلتْ
الدلالةُ على تعليله، جازَ القياسُ عليه.
وقال بشر المريسي (1): لا يجوزُ القياسُ على أصلٍ ما لم يكنْ
منصوصاً على علتِه أومجمعاً على علتِه.
وقال قومٌ: لا يجوزُ القياسُ على أصل لم يرد النصُّ بالقياسِ
عليه.
وهذا غيرُ صحيح؛ لأنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - ورضوانُ اللهِ عليهم قاسوا على أصولٍ لم يرد النصُّ
بالقياسِ عليها بعينِها، ولا وردَ النصُّ على عللِها ولا
تعليلها، ولو كان ثم نص لبانَ لنا وظهر، كما ظهرَ حكمُ الأصل.
__________
(1) هو أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي
البغدادي. غلبَ عليه الكلام، وانسلخ من الورع والتقوى، وقال
بخلق القرآن، حتى كان عينَ الجهمية وعالمهم، فمقته أهل العلم،
وكفره العديدُ منهم.
انظر: "تاريخ بغداد" 7/ 56 - 67، و"الوافي بالوفيات" 10/ 151،
و"سير أعلام النبلاء"10/ 199 - 202.
(2/123)
ولأنَه إذا دل الدليلُ على صحةِ القياسِ
على الجملةِ، وأنَه أصلٌ من أصولِ الشرعِ يجبُ العمل به، فإذا
وجدنا بعدَ ذلكَ قياساً صحيحاً، ودلَّت الأماراتُ على صحتِه،
علمنا أنَه من جملةِ القياسِ الذي قامَ الدليلُ على وجوب
العملِ به؛ ولأنَّه إذا دلَّ دليل على صحتِه بعدمِ النصِّ على
علتِه، أَو عدمِ الاجماعِ على علتِه لا يُمنعُ من صحتِه،
كالحكمِ.
فصل
في بيانِ القياسِ على أصلٍ ثبتَ حكمهُ بالنص
فمن ذلكَ: أن الله سبحانه نصَّ على حد الإِماءِ على النصفِ من
حَدِّ الحرائر، فقال سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والمحصناتُ ها هُنا الحرائرُ، ثم
قاسَ العلماءُ عليهن حدَ العبيدِ.
وعن عامرِ بن سَعدٍ أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه ضربَ
العبدَ في الفرية أربعينَ.
وعن [ابن] (1) أبي الزنادِ عن أبيه قال: حضرتُ عمرَ بن عبد
العزيز جلدَ عبداً في فريةٍ ثمانين، فأنكرَ الذين شهدوه من
الناسِ وغيرُهم من الفقهاءِ، فقالَ عبدُ الله بنُ عامر: أدركتُ
واللهِ عمرَ بن الخطاب فما رأيتُ إماماً جلدَ أعبداً في فريةٍ
فوقَ أربعين (2).
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) أخرجه مالك في "الموطأ"2/ 26، وعبد الرزاق 7/ 438،
والبيهقي 8/ 251، وابن أبي شيبة 9/ 504 من طريق سفيان عن عبد
الله بن أبي بكر.=
(2/124)
وقيلْ؛ إن الضاربَ للعبدِ ثمانين في
الفِريةِ، أبو بكر بن محمد بن عمروِ بن حزم (1).
وإذا فسختِ المعتقةُ تحتَ عبدٍ نكاحَها، إن كان قبلَ الدخولِ؛
لا عِدةَ عليها، وإن كان بعدَ الدخولِ؛ اعتدتْ عِدةَ المطلقة
(2)، لقولِ اللهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولقولهِ
تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
وكذلك انفساخهُ بالرضاعِ، وهو أنْ تُرضعَ امرأةُ الرجلِ
الكبيرةُ، امرأتَه الصغيرةَ يبطلُ نكاحُها عند الجمهورِ،
خلافاً للأوزاعي (3)، ثم في عدتِها ما ذكرناه.
وقاسَ الجمهورُ استعمالَ آنيةِ الذهب والفضةِ في الوضوء
والاغتسالِ والبخورِ، على الأكلِ والشرب (4)، وقاسوا ما سوى
الحجرِ في الاستنجاءِ على الحجرِ، وما سوى الشَّثَ (5)
والقَرَظِ (6) في الدباغ
__________
=والمقصود بالفرية: القذف.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 503.
(2) انظر "المغني" لابن قدامة 11/ 214.
(3) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 11/ 327 وما بعدها.
(4) انظر "المغني" 1/ 101 وما بعدها.
(5) الشَّث: نبت طيب الريح يدبغ به، وجمعه شثاث."القاموس
المحيط": (شثَّ).
(6) القَرَظ هو ورقُ السلَمِ، أو ثمر السنْط، يُدبغ به ويصبغ.
تقول: أديم مقروظ. أي: مدبوغ من القَرَظ. "القاموس المحيط":
(قرظ).
(2/125)
على الشَثِّ والقَرَظِ، وقاسوا تقليمَ
الأظفارِ في الإِحرام على حلق الشعرِ، وقياسُ الجماع في
العمرةِ على الجماعِ في الحجِ، وقاسَ الشافعيُ النبيذَ على
الخَمرِ، وقاسوا على الأربعةِ في الربا (1) ما سواها، والله
أعلم.
__________
(1) أي الأصناف الأربعة: البُرُّ، والتمر، والشعير، والملح،
والتي تتحقق فيها علَّةُ المطعومية.
(2/126)
|