الواضح في أصول الفقه

فصول
في الاعتراضاتِ على الأدلةِ التي قدمنا ذكرها
فنبدأ بالكلامِ على الاستدلالِ بالكتابِ حسب ما بدأنا بدلائل الكتابِ، وذلك من ثمانيةِ أوجه:
أولُها: الاعتراضُ بانَك أيها المستدلُّ لا تقولُ به، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن يكونَ استدلالُه بأصلٍ لا يقولُ به، مثل استدلال الحنفي بدليلِ الخطاب، وله أن يقول: هذا من مسائلِ الأصول ولي فيها مذهب. أو يكونَ استدلالًا بشرطٍ أو علةٍ، ويكونَ ممن يقولُ بهما.
والثاني: أن لا يقول به في الموضِع الذي استدلَّ به، مثلُ استدلال الحنفي في شهادة أهل الذمة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. .} [المائدة: 106]، فيقول الشافعي: هذا مما لا تقولُ به؛ لأنَه وردَ في قضيةِ المسلمين، وعِندكَ لا تُقبلُ شهادتُهم على المسلمينِ (1).
(1) انظر "الأم" 6/ 246.

(2/127)


وتكفَفَ بعضهم الجوابَ عنه فقالَ: إنَه لما قبلَ شهادتَهم على المسلمين؛ دلّ على أنَّ شهادتهم على الكفارِ أولى بالقبولِ، ثم دلَّ الدليلُ على أن شهادتَهم لا تقبل على المسلمين، وبقيَ في حقّ الكفارِ على ما اقتضاه. وهذا ليسَ بجوابٍ صحيحٍ؛ لأنه تعلَّق بالأولى، وذلك أنَّ الخطابَ ارتفعَ حكمه فكيفَ يبقى مع ارتفاعِ حكمِ فحواه؟
وثانيها (1): أن يقولَ بموجبِها وذَلك على ضربين:
أحدُهما: أن يحتجَّ من الآيةِ بوضعِ اللغةِ، فيقول السائل بموجبها في وضعِ الشريعةِ، أو يكونَ ذلك بالعكسِ، بأن يحتجَ من الآيةِ بوضعِ اللغةِ، ويتبع ذلك بأنَّ القرآنَ نزلَ بلغةِ العرب، وأنا لا أنتقل عنه إلا بدليل ينقلني.
وللمستدلِّ أن يقولَ: إطلاق الكتاب ينصف إلى ما استقر في الشرع، وهو الوضعُ الثاني، فيقضي على اَلأول، وهذا يأتي في التعلقِ في تحريمِ المصاهرةِ بالزنا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، والمراد به: لا تَطَؤوا ما وطىء آباؤكم. فيقول مخالفهُ فيها: بل ينصرفُ إطلاقُ النَكاحِ فى النَكاحِ في الشرع، وهو العقدُ، فيكون معناه: لا تتزوجوا من تزوجَ بهن آباؤكُم. وينتقلُ الكلامُ بينهما إلى الأسماءِ، هل فيها منقول، أو هي مُبقاة على وضعِ اللغةِ؟ وذلك مستوفى في مسائلِ الخلاف إن شاء الله.
__________
(1) أي ثاني الأوجه الثمانية.

(2/128)


والضربُ الثاني (1): أن يقولَ بموجبهِ في الوضعِ الذي احتجَّ به، وذلك مثل أن يستدل الشافعيُّ في العفوِ عن (2)، القِصاص إلى الدية من غير مصالحةٍ ولا رضا من الجاني بقولِه تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، والعفوُ هو الصفحُ والتركُ، فيقول الحنفي: أنا قائل بموجبهِ، والعفو هاهنا هو البذل، ومعناة: إذا بذلَ الجاني للولي الديةَ، اتبعَ بالمعروفِ. فيسلك الشافعى الترجيح، وأن العفوَ في الإِسقاطِ أظهر، فإنَ ورودَها في الإسقاطِ أكثر، ومعناها بالإِسقاط ألحق وأشبهُ. وذلك في عرفِ القرآن والتخاطب، فإنَها لم تَرِد إلا للإِسقاط: {واعف عَنا} [البقرة: 286]، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، وقرنَ العفوَ بالغفران فقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الخضروات: "عَفوّ، عفا الله عنها أو عنه" (3).
ويسلك مسلكاً ثانياً إن وجدَ من ساقَ الآيةَ وأمثالَها، مما يؤكد أحدَ الوضعينِ فيها على الوضعِ الآخرِ، فإن قويَ الوضع لما أراده السائل
__________
(1) أي الضرب الثاثي من الوجه الثاني.
(2) في الأصل: "على".
(3) أخرج الدارقطني 2/ 97، والبيهقي في "السنن" 4/ 129، والحاكم في "المستدرك 1/ 401 عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ "فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر، يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأمَّا القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر؛ فعفوٌ عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأورده المتقي الهندي في "الكنز" (15879).

(2/129)


صحَ قولُه بالموجِب، وإن قويَ ما أراده المستدل اندفع القولُ بالموجبِ.
فاسلكْ ذلك أبداً تجد البغيةَ بعونِ الله.
ثالثُها: أن يدعي السائلُ إجمالَ الآيةِ التي استدلً بها المستدلُّ، إمَّا في وضعِ الشرعِ، أو في وضعِ اللغةِ. فأمَّا إجمالُها في الشرع؛ فمثل استدلال الحنفي في نيةِ صوم رمضانَ من النهارِ بقولِه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وهذا قد صامَ بعد شهودِه الشهرَ فخرجَ من عُهدةِ الأمرِ.
فيقولُ المعترض: هذا مجملٌ؛ لأنً المرادَ به: فليصمُه صوماً شرعياً، ونحنُ لا نعلمُ أنَّ مَنْ صامَ بنيةٍ من النهارِ قد أتى بصومٍ شرعي، فكيف يعلمُ أنه خرجَ من عهدةِ الأمرِ؟!.
فيسلكُ المستدلُ أحدَ مسلكين: إمَّا أن يوضحَ أنَّ الصومَ مُبَقّى على ما كانَ عليه في اللغةِ، وأنه لم ينقلْ عن الوضعِ اللغوي، فمدعي نقلهِ يحتاجُ إلى دليلٍ، وإذا احتاجَ إلى دليلٍ لم يتحقق الإِجمالُ الذي ادعاه، فإن كان ممن يرى نقلَ الأسماءِ عن اللغةِ إلى الشرعِ، سلك بيان أن الصوم الشرعي بنيةٍ منَ النهارِ، وأن صومَ النافلةِ شرعيٌ، وقد عُهدت في الشرع صحتُه بنية من النهارِ، فينصرف الإِطلاقُ من الشرعِ إلى الصومِ المستقرِ في الشرعِ، وهذا ما طالبتُ به.
وأما الإِجمالُ في اللغة، فهو مثلُ استدلالِ شافعي في أن الِإحرامَ
بالحج لا يصحُّ في غير أشهرِ الحج، لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ

(2/130)


مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ...} الأية [البقرة: 197].
فيقول مخالفهُ: هذه آيةٌ مجملة؛ لأنَ الحجَّ ليس باشهرٍ، ألا تراهُ قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فصرحت الآيةُ بأن الحَج غيرُ الأشهر؛ لأنَّ الحجَ لا يُفرضُ فيهنَ وهنَ الحَج. فلا بُدٌّ من معرفةِ المرادِ بالمضمرِ ما هو؟ هل هو إحرامُ الحج؟ أو أفعال الحج؟ إذ لهُ إحرام وأفعالٌ، فوجبَ التوقفُ إلى أن يعلمَ ما المرادُ به، وما هذا سبيلهُ فما وضحَ منه دليل للحكمِ المستدل عليه، فإذا شرعَ في الدليلِ على أنٌ المرادَ به وقتُ إحرامِ الحج، فإن كان بغيرِ لفظ الآيةِ تحققَ إجمالُها الذي ادعاة المعتَرض؛ لأن حاجتَه إلى الدلالةِ تفسيرٌ ومعرفة للحكمِ من غيرِ اللفظِ، وحدُّ المجملِ: ما لم يُعرفْ معناهُ من لفظهِ.
وإن حقَق من نطقِ الآية، أنَّ المرادَ به: وقتُ الِإحرامِ، فقد أجابَ. مثال ذلك: أن نقول: أجمعنا على أن الأفعالَ في أيامٍ وقوفٌ ورمي وطواف، لا تزيدُ على الأيام المعدودةِ، فلم يبقَ ما يتحققُ في الشهورِ، إلا الإِحرامُ يقعُ من شَوال إلى التاسع من ذي الحجة، فيجري كلُّ قبيل في يومٍ من هذه الشهورِ، فهو وقتٌ ممتدٌ لمن أرادَ الإِحرامَ، ولأنه نطق بما يعطي الِإحرامَ، وهو قوله: فَرَضَ، والفرض: الِإيجابُ والِإلزامُ، وهو الِإحرامُ، ولهذا عقَبه بالنهي، فقال: فمن فرضَ، فلا رفثَ، فعَقَب الفرضَ بفاءِ التعقيب لتجتنبَ المحظوراتِ، والذي يتعقبُه التحريم والتجنبُ إنما هو الإِحَرام، فأمَّا الأفعال، فإن جميعها يسبقه التجنب، فمثلُ هذا البيان رفعَ الإِجمالَ الذي ادَّعاهُ

(2/131)


المعترضُ، فتأمل كلَّ آيةٍ يدّعي فيها الإِجمال، فإذا وجدت فيها مثلَ هذا بَطل دعوى الِإجمال.
ورابعها: المشاركةُ في الدليلِ.
فيقرر السائل أن له في الآيةِ دلالةً من وجهِ، كما أن للمستدل دلالةً من وجهٍ، ولا يقعُ سؤالُ المشاركةِ إلا من مُسَلم وجهَ دلالةِ المستدل منها، فلا يحسن بعد قولِه: إنِّي مُشارك لكَ في الآيةِ، أو إنها مشتركة الدلالةِ بَيني وبينك. أن يأتي بالمطالبةِ، كما لا يحسنُ في القولِ بموجب العلَّةِ، أن يعقبه بالمطالبةِ، لأنَ القائلَ بالشركةِ مقر بالدلالةِ؛ لأن الَشركة في الدلالةِ أن يكونَ لكلِّ واحد من المستدلِ بها دلالةٌ، فإذا عادَ يقول: ما وجه الدلالةِ؟ كان بمثابةِ من ادُعي عليه دار في يديه، فقال: المدعي شريكي فيها. ثم عادَ يقولُ: أقمِ البينةَ على أنَ لك فيها حقاً. فإنَه لا يُعوَّلُ على مطالبته بعدَ إقرارِه بمشاركتهِ إياه في المِلكِ، ولا يحسنُ أن يتعقبَ دعوى المشاركةِ دعوى الإِجمالِ، فإن المشاركةَ إنما تكونُ بعد ثبوتِ الدلالةِ التي أقرَ بمشاركتِه فيها، وبعد الإِقرارِ بالدلالةِ لا تجوزُ دعوى الإِجمالِ؛ لأنَ المجملَ: ما لم يعقلْ معناه من نُطقِه، والدلالةُ لا تكون إلا بمعقولٍ؛ لأن الدلالَة مرشدةٌ، وكيف يُسترشد بما لايعقل؟
ومثالُ ذلك: استدلالُ الشافعي أو الحنبلي في النكاحِ بغير ولي بقولِه تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فلو لم يكن تزويجها إلى الأولياءِ، لما نهاهم عن العَضْلِ، إذ لا يتصورُ العضل عندهم.

(2/132)


فيقولُ الحنفيُ: لي في الآية مثلُ مالكَ، وهو قولُه: {أَنْ يَنْكِحْنَ}، فأضافَ النكاحَ إليهنَّ، فيدل ذلك أن لهن أن يعقدنَ، ونحن أرجحُ استدلالًا بها؛ لأن العقدَ إذا اطلقَ اقتضى العقدَ الصحيحَ، والعضلُ قد يكونُ بحق وبغيرِ حقٍ.
خامسُها: الاعتراضُ باختلافِ القُراءِ في الأيةِ، فيصيرُ كتقابُل اثنينِ أو روايتينِ في تفسيرِ الآيةِ، فيوقفُ الاستدلالُ بنا، قالَ بعض المشايخِ: وهي آكد من الخبرين (1)؛ لأن كلُّ واحد منهما يجوزُ أن يكون حقاً، ويجوزُ أنْ يكونَ باطلاً، والقراءتانِ نزلَ بهما القرآن، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نَزل القرآنُ على سَبعةِ أحرفٍ" (2) فلا يجوزُ على واحدة منها الخطأ، وإنما يبقى التأويلُ، فيقعُ فيه الترجيحُ، فالمُخَفصُ من ذلكَ أن نقولَ بهما إنْ أمكنَ ذلك، أو نرجحَ القراءةَ بنوع نقل، أو نُرجحَ القارىء بها لكونه الأعلمَ، أو أنَ الشواهدَ لها أكثر، أو أنَها توجب الاحتياط.
مثال ذلك: استدلالُ الشافعي أو الحنبلي في إيجابِ الوضوء لمن
__________
(1) أي آكد من كلُّ من الخبرين الواردين بطريق الأحاد.
(2) ورد في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلَ القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفرٌ -ثلاثاً-، ما عرفتم منه، فاعملوا به، وما جَهلتم فردوه إلى عالمه". أخرجه أحمد 2/ 300، والطبري في "التفسير" 1/ 11، وابن حبان في "صحيحه" (74) و (743)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 51، وابن كثير 2/ 10 في" تفسيره" وقد صَححَ إسناده. وفي الباب عن ابن مسعود، وأُبي بن كعب.

(2/133)


لمسَ النساءَ بقولِه تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) [النساء: 43، المائدة: 6] وهو حقيقة في المماسةِ باليدِ.
فيقولُ الحنفي: قد قُرىء: {أو لامَستُم}، وهو على وزنِ فاعلتم، وذلك اسمٌ للجماعِ وكنايةٌ عنه، إذ به تتحققُ المفاعلةُ، وليس حملُك له على اللَّمسِ باليد بتلك القراءةِ، بأولى من حملِنا له على الوطءِ بهذه القراءِة (2).
فيقولى المستدلُّ: من قرأ: {لمستُم} انصرفت قراءتُه إلى الِإمساسِ باليدِ صريحاً، ومن قرأ: {لامَستُمْ} وقع على الوطءِ كنايةً، فكانَ الصريحُ أولى، ولأنَّا نجمعُ بين إيجاب الطهارتينِ بالقولِ بالقراءتين، غسلاً بالجماعِ ووضوءاً باللمسِ باليد.
سادسُها: الاعتراضُ بالنَّسخ؛ وهو من ثلاثةِ أوجه:
أحدُها: أن يُنقلَ الناسخُ صريحاً، وذلك مثلُ: استدلالِ الحنبلي والشافعي في إيجاب الفدية على الحاملِ والمرضعِ إذا أفطرتا في رمضانَ خوفاً على الجَنينِ والولدِ بقولِه تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فيقولُ الحنفى: قد قالَ سلمةُ بن الأكوع: إنَّها منسوخة (3) بقولهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
__________
(1) أو {لمستم} بغير ألف هي قراءة حمزة والكسائي. و {أو لامستم} بالألف، هي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وعاصم، وابن عامر، انظر "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي: 3/ 163 و"الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" لمكي بن أبي طالب: 1/ 391.
(2) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 1/ 256 وما بعدها.
(3) الخبر عن سلمة بن الأكوع، قال: لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ =

(2/134)


فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
فيجيبُ الشافعيُّ أو الحنبليُّ: بأنها منسوخة في حقّ من كانَ له الِإفطار من غيرِ حمل ولا رَضاع، وحكمُها في حق الحاملِ والمرضعِ باق.
والثاني: أن يُدَّعى نسخُها بآية أخرى متأخرة، مثل استدلالِ الحنبلي والشافعي فى تخيرِ الإِمام في الأسرى بين المَنِّ والفِداءِ، بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فيقول الحنفي: قد نُسخ هذا التخييرُ (1) بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]؛ لأنها متأخرةٌ.
فيجيبُ المستدلُّ: بأنا نجمعُ بين الآيتين، فنستعملُ القتلَ في غيرِ الأسرى، والتخييرَ في الأسرى، ولا وجهَ لدعوى النسخِ مع إمكانِ الجمعَ.
والثالثُ: أن يُدَّعى نسخُها بأنها شرعُ من قبلَنا، وقد نسخَها شرعُنا
__________
= مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، كان من أراد منا أن يفطر أفطرَ وافتدى، حتى نزلت الأية التي بعدها فنسختها. أخرجه البخاري (4506)، ومسلم (1145)، وأبو داود (2315) والترمذي (798)، والنسائي 4/ 190.
(1) أخرج الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] قال: الفداء منسوخ، نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. وهو مذهب ابن جريج والسدي وابن عباس. والذي رجحه الطبري أن الآية محكمة، وأن حُكم الفِداء والمن باق لم ينسخ. وهو مذهب ابن عمر والحسن وابن سيرين ومجاهد وأحمد والشافعي. انظر "تفسير الطبري" 27/ 26، و"أحكام القرآن" للشافعي 1/ 158، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي: 466.

(2/135)


كاستدلالِ الشافعي أو الحنبلي في ايجابِ القِصاص في الطرفِ بينَ الرجلِ والمرأةِ بقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فيقول الحنفي: هذا راجعٌ إلى حكم التوارةِ؛ لأنه قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} ... وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، وقد نُسختِ التوراةُ بالقرآنِ، وشريعةُ موسى بشرعِ محمدٍ صلى الله عليهما.
فيجيبُ الشافعي: بأنَّ شرعَ من قبلنا شرعٌ لنا نتمسكُ به، وندلُ على ذلك بأدلتنا في تلك المسألة -وسنذكرها في مسائلِ الخلافِ إن شاء الله- وعمدتُنا: أنَّ شريعةَ من قبلَنا (1) شرعٌ ثابتٌ بدلالةٍ مَرضيّةٍ، فلا نعدِلُ عنها، ولا نحكمُ برفعِ أحكامِها إلا بصريحِ نَسخ، فأمَّا بنفس شريعةٍ تَحتمل التقريرَ للكلَ، وتَحتمل نسخَ البعضِ وتَبْقِيةَ البعضِ، فلا وجهَ لإزالة الأحكامِ الثابتةِ بالاحتمالِ.
وسابعُها: التأويلُ، وهو ضربان:
تأويلُ الظاهرِ، مثلُ استدلالِ الشافعي والحنبلي في إيجاب الإيتاءِ في الكتابةِ (2) بقولِه تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فيقول الحنفي: إنَّما أرادَ به مالَ الزكاة، ويشهدُ لذلك إضافتُه إلى الله سبحانه، أو نحملهُ على الإيتاءِ من طريقِ الاستحبابِ بدليل نذكره.
والثاني: تخصيصُ العموم، كاستدلالِ الشافعي في قتلِ شيوخِ المشركين بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فيقولُ الحنفي:
__________
(1) في الأصل: "قبله".
(2) هو أن يدفع السيد إلى عبده المكاتب جزءاً من مال الكتابة، أو يضع عنه جزءاً منه.

(2/136)


هي مخصوصة في الشيوخِ بدليل.
فلا جوابَ عن ذلك إلا النظرُ في الدليلِ، هل يصلحُ للتخصيصِ أوْ لا؟
فإن لم يصلحْ ردهُ، وإن صلحَ تكلم عليه كلامَه على الأدلةِ المبتدأةِ، فإذا تكلّم عليه سَلمَ لهُ الظاهرُ والعمومُ.
وثامنُها: المعارضةُ، وهي ضربان: معارضةُ بالنطقِ، ومعارضةُ بالعلةِ.
فالمعارضةُ بالنطقِ: مثلُ أن يستدل الشافعيُ في تَحريم شعرِ الميتةِ بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فيعَارضُ الحنبلى أو الحنفيُ بقولهِ تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} [النحل: 80]، فيقولُ الشافعيُ: إنً الله سبحانهَ جعلَ من أصوافِها، ونحن نقولُ بأنَ منها ما هو أثاثُ ومتاعٌ يباحُ استعمالهُ، وهو ما جُزَّ بعدَ الذكاةِ، وقُطعَ عنها حَال الحياةِ، وجعل له غاية، وهو الموتُ.
وإن عارضَ بعله تكلم عليها بما يتكلمُ على العللِ المبتدأةِ، ليسلمَ دليلة.

(2/137)


فصول
في الاعتراضات على الاستدلال بالسنة
وهو من ثلاثة أوجه:
أولها: الردُ.
والثاني: الكلامُ على الِإسنادِ.
والثالث: الكلامُ على المتنِ

فصل
فأمَّا الردُ، فمن وجوهٍ:
أحدُها: ردُ الرافضةِ أخبارنا في مَسحِ الخفينِ، وايجاب غَسل الرجلين (1)، وزعمِهم أنهم لا يقبلونَ أخبارَ الآحادِ.
فجوائنا لهم من ثلاثة أوجه:
__________
(1) فهم لا يوجبون غسل الرجلين في الوضوء، بل يقولون بمسحهما فقط، واحتجوا بقراءة خفضِ: {وَأَرْجُلَكُمْ} في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بعطف: (أرجلكم) على الممسوح لا على المغسول، وهو خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. انظر "المغني" 1/ 184 وما بعدها.

(2/138)


أحدُها: أن أخبارَ الآحادِ أصلٌ من أصولِ الدينِ، فإن منعوا ذلك، نقلنا الكلامَ إلى ذلك الأصل.
والثاني: البيان لتواترها من طريقِ المعنى، فإن جميعَ أصحابِ الحديثِ فيها بينَ ناقلٍ وقابل، فهو كشجاعةِ علي (1)، وسخاءِ حاتم (2)، وفصاحةِ قُسٍّ (3). وفَهاهة باقِلٍ (4)، جملتها تواتر، وخبّرونا بها آحاد.
والثالث: أن يناقضوا بما خالفوا فيه، فإنهم أثبتوا ذلكَ بأخبارِ الآحادِ، كتصدُّقِ عليٍّ عليه السلام بخاتِمه في الصلاةِ (5)، ونكاحِ
__________
(1) يعني علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
(2) حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي، أبو عدي، كان من أجواد العرب في الجاهلية، وكان يضرب بجوده وسخائه المثل، توفي سنة (46) قبل الهجرة. "الأعلام" 2/ 151، "مجمع الأمثال" 1/ 82.
(3) قس بن ساعدة بن حذافة بن زهير الإيادي، من حكماء العرب قبل الإسلام، يضرب المثل بفصاحته وبلاغته، توفي سنة (23) قبل الهجرة. "الأعلام" 5/ 196، "المعارف" لابن قتيبة: 61.
(4) رجل جاهلي من إياد، يضرب بعيه المثل، فيقال: أعيا من باقل. قيل: إنه اشترى ظبياً بأحد عشر درهماً، فمر بقوم سألوه عن ثمنه، ففتح أصابع كفيه ودلع لسانه، يريد: أحد عشر، فهرب الظبي منه. "المعارف": 608، "مجمع الأمثال" 2/ 72، و"الأعلام"2/ 42.
(5) عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ذلك فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأية: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على =

(2/139)


المتعةِ، والمنع من الصلاةِ على ما ليسَ من الأرضِ، أو نبات الأرض (1)، ونقضِ الوضوءِ بأكلِ لحم الجزورِ (2)، وما شاكلَ ذلك.
الثاني: ردُّ أصحاب أبي حنيفةَ أخبارَ الآحادِ فيما تَعُمُ به البلوى (3)
__________
= أصحابه، ثم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". أورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 17 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه من لم أعرفهم، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 293، وأورد نحوه عن ابن عباس: السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 293 والهندي في "الكنز" (36354) والشوكانىِ في "فتح القدير" 2/ 56. وذكر ابن الأثير في "جامع الأصول" (6515) نحوه عن عبد الله بن سلام. وذكر ابن كثير في "تفسيره" بعض رواياته، ثم قال: وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. انظر "تفسير ابن كثير" 2/ 71، "تفسير الطبري" 6/ 288،"فتح القدير" 2/ 56.
(1) فهم يشترطون في مكان سجود الجبهة أن يكون على الأرض أو على شيء من نبات الأرض. انظر "الروضة البهية" 1/ 66.
(2) الوضوء من أكل لحم الجزور، ورد في الحديث الذي رواه جابر بن سَمُرة، قال:" أمَرَنا رسول الله ي أن نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم". أخرجه: ابن أبي شيبة "المصنف" 8/ 46 - 47، وأحمد 5/ 102، 105، ومسلم (360)، وابن حبان (1125)، (1127).
كما أخرجه من حديث البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أنصلي في أعطان الإبل؟
قال:"لا". قيل: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قيل: أنتوضا من لحوم الإبل؟ قال:"نعم"، قيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "لا".
أخرجه: أحمد 4/ 288، وابن ماجه (494)، وأبو داود (184) والترمذي (81)، وابن حبان (1128)، وابن خزيمة في "صحيحه" (32).
فنقض الوضوء بكل لحم الجزور لم يتفرد به الشيعة بل هو قول الإمام أحمد ابن حنبل وأحد قولي الشافعي. انظر "المغني" 1/ 250 وما بعدها.
(3) ينظر رأي الحنفية في رد خبر الواحد إذا ورد موجباً للعمل، فيما تعمُّ به =

(2/140)


كردّهم خبرَنا في مسّ الذكر (1). وقالوا: ما يعمُ به البلوى يكثرُ سؤالهُم عنه، وجوابه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نقله الواحدُ اتُّهِمَ، واقتضى الحالُ أن ينقله العددُ الكثير والجمُّ الغفيرُ. فننقلُ الكلامَ معهم إلى ذلك الأصلِ، ونناقضهم بما عملوا فيهِ بخبرِ الواحد، كالمنعِ من بيعِ رباع (2) مكةَ، وإيجابِ الوتر (3)، والمشي خلفَ الجنازة (4).
الثالثُ: ردُّ أصحابِ مالك فيما خالفَ القياس، كردّهِم خبرَ خيارِ المجلسَ (5).
__________
= البلوى، وما يَستندون إليه من أدلةٍ وحجج في "أصول الجصاص" 3/ 113، و"أصول السرخسي" 1/ 368، و"تيسير التحرير" 3/ 112.
(1) الوضوء من من الذكر ورد في حديث بُسرة بنتِ صفوان، أن النيي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مَس أحدُكم ذكره، فليتوضأ" أخرجه: مالك في "الموطأ"1/ 42، والشافعي في "المسند" 1/ 34، وأحمد 6/ 406، وأبو داود (181)، والترمذي (83)، والنسائي 1/ 100، 216، والحاكم 1/ 137، والدارقطني 1/ 146، والبيهقي 1/ 129، 130، وابن حبان (1112) و (1113) و (1114).
والحديث إسناده صحيح، صححه غير واحد من الأئمة. أما الحنفية فقد ردوه لتفرد بسرة به عن سائر الصحابة مع حاجتهم إلى معرفته، انظر" أصول السرخسي" 1/ 368.
(2) الرباع: جمع رَبْع، وهو الدار، أو المنزل، وانظر تفصيل المسألة في "المغني" 6/ 364 وما بعدها.
(3) انظر "المغني" 2/ 591 وما بعدها.
(4) انظر المصدر السابق 3/ 397 وما بعدها.
(5) تقدم في الصفحة: 44.

(2/141)


والجوابُ لهم: إفسادُ ذلك الأصلِ بأدلتنا ويناقضونَ فيه بما قالوا به مما يخالفُ القياسَ.
الرابعُ: ردُّ أصحاب أبي حنيفة فيما خالفَ قياسَ الأصولِ، كردهم خبرنا في المصراة (1)، والقرعةِ (2)، وغيرهما.
__________
(1) خبر المصراة رواه أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصرّوا الإبلَ والغنم، فمن ابتاعها بعدَ ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يَحلبها، إن رضيَها أمسكها، وان سخطها ردَّها وصاعاً من تمر" أخرجه مالك 2/ 683، وأحمد 2/ 242، والبخاري (2150)، (2151)، ومسلم (1515)، (1524)، وأبو داود (3443)، والترمذي (1251)، (1252)، وابن ماجه (2239)، والنسائي 7/ 253، وابن حبان (4971).
والتصرية: هي أن يجمعَ اللبن في ثدي الإبلِ والغنم، حتى يُوهمَ ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير.
ووجَّه الحنفية رد هذا الخبر، بأنه مخالف للأصول من وجوه: أولًا: أنه معارض لقوله صلى الله عليه وسلم:" الخراج بالضمان". ثانياً: أن فيه معارضة لمنع بيع الطعام بالطعام نسيئةً، وذلك لايجوز باتفاق. ثالثاً: أن الأصل في المتلفات إمَّا القيم واما المثل، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلًا. رابعاً: في ردِّ صاع من تمرٍ بدل اللبن، بيع طعام مجهول بالمكيل المعلوم، لأن اللبن الذي دلس به البائع غير معلوم القدر. قال ابن رشد: "ولكن الواجب أن يستثنى هذا من هذه الأصول لموضع صحة الحديث، وهذا كأنه ليس من هذا الباب، وانما هو حكم خاص" انظر "الهداية في تخريج أحاديث البداية": لأبي الفيض العماري: 7/ 334.
(2) الحديث بمشروعية القرعة رويَ مسنداً من حديث عمران بن حصين، أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، وليس له مال غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فاعتق اثنين، ورد أربعة في الرِّق. أخرجه أحمد 4/ 438 =

(2/142)


والجوابُ: أنَّ قياسَ الأصولِ هو القياسُ على ما ثبتَ بالأصولِ، وقد بينا الجوابَ عنه، ولأنهم قد ناقضوا فعملوا بخبرِ الواحدِ في نبيذِ التمرِ (1)، وقَهقهة المُصلي (2)، وأكلِ الناسي في الصومِ (3).
والخامسُ: رذُ أصحابِ أبي حنيفة أخبارَنا مما يوجبُ زيادةً في
__________
= و 445، ومسلم (1668)، وأبو داود (3961)، وابن حبان (5075).
وأخرجه مرسلًا من حديث سعيد بن المسيب: أحمد 4/ 445، وعبد الرزاق (16751)، والشافعي 2/ 67، والبيهقي 10/ 286، وابن حبان (5075).
(1) قوله فعملوا بخبر الواحد في نبيذ التمر، يشيرُ بذلك الى قول الحنفية بأن نبيذ التمر لا يسمى خمراً، ولا يقام الحد على من شربَ قليله الذي لا يسكر، وإنما الحد على من سكرَ بالفعل. والخمر المحرم الذي يجب الحد في قليله وكثيره عندهم هو ما كان مصنوعاً من ماء العنب اذا غَلا واشتد وقذف بالزبَد، وما عدا ذلك من الأشربة فإنما يجب الحد على السكر منها، لا على مجرد الشرب.
وقد ساق الحنفية عدة آثار وأخبار في ذلك، الا أنها لا تقوى على معارضة الأخبار التي ساقها جمهور الفقهاء في ذلك. انظر تلك الأثار في "نصب الراية" 4/ 307 - 310، وتفصيل المسألة في "المغني" 12/ 514 وما بعدها.
(2) انظر "نصب الراية" 1/ 47 - 54، و"المغني" 2/ 451.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة (114).
وقد أخذ الحنفية بهذا الحديث رغم مخالفته للقياس؛ لأن الصوم يفوت بفوات ركنه، وهو الاحتباس عن الطعام والشراب، ورغم ذلك تركوا هذا الأصل، وأخذوا بحديث الأحاد الوارد في شأن الناسي.

(2/143)


نصِ القرآنِ وأن ذلكَ نسخ، كخبرنا في إيجابِ التغريب (1)، فقالوا: هذا يوجب زيادة في نص القرآنِ، وذلك نسخ، فلا يقبلُ فيه خبرُ الواحد.
والجوابُ: أنَ ذلك ليس بنسخ عندنا؛ لأن النسخَ هو الرفعُ والِإزالة، ونحن لم نرفعْ ما في الآيةِ من الجلدِ، إنما ضممنا وزِدنا إليه التغريبَ، وهو عقوبةٌ أخرى؛ ولأنهم قد ناقضوا في ذلك حيثُ زادوا الوضوءَ بالنبيذِ في آيةِ التيممِ بخبرِ ابنِ مسعود (2).
__________
(1) ورد ذلك في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيِّب بالثيِّب، جلدُ مائةٍ والرجم، والبكِرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ ونَفيُ سَنة"، وقد تقدم تخريجه في الصفحة: (193) من الجزء الأول، وانظر أيضاً "المغني" 12/ 322 وما بعدها.
(2) عن عبد الله بن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن: "عندك طهور؟ " قال: لا، الا شيءٌ من نَبيذ في إداوة، قال:" تمرة طيبة، وماء طهور". زاد الترمذي: "فتوضأ منه" أخرجه: أبو داود (84)، والترمذي (88)، وابن ماجه (384). قال الترمذي: وانما رويَ هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا تعرف له رواية غير هذا الحديث.
وقد بين الزيلعي في "نصب الراية" علل هذا الحديث التي توجب. ضعفه. انظر "نصب الراية" 1/ 137 - 148.

(2/144)


فصل
في الاعتراض على الإِسناد
وأما الاعتراض على الإسنادِ، فالكلام عليه من وجهين:
أحدهما: المطالبة بإثباتهِ، وهذا إنما يكون في الأخبارِ التي لم تدون في السننِ والصحاحِ، ولم تسمعْ إلا من المخالفينَ، كاستدلالِ الحنفي في صدقةِ البقرِ بأنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في أربعينَ مسنة وفيما زادَ بحسابه" (1)، فلا جواب عن هذا إلا أن يبَينَ إسنادَه، ويحيلَه على كتابٍ موثوقٍ به معتمد عليه.
الثاني: القدح في الإسنادِ، وهو من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أن يذكرَ الراوي بأمرٍ يوجب ردَّ حديثه، مثلَ الكذبِ أو البدعةِ أو الغفلة.
والثاني: أن يذكر أنه مجهول. وجوابه: أن يبينَ للحديثِ طريقاً آخر فيزيل جهالتَه رواية الثقاتِ عنه، أو بثناءِ أصحابِ الحديث عليه.
__________
(1) عن معاذ بن جبل قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم الى اليمن، فأمره أن يأخذ من كلُّ ثلاْثين بقرة تبيعاً، أو تبيعةً، ومن كلُّ أربعين مسنة، ومن كلُّ حالم ديناراً، أو عدله معافر. أخرجه أبو داو (1576)، والترمذي (623)، وعبد الرزاق (6841)، وابن ماجه (1803)، والحاكم 1/ 398، والبغوي في "شرح السنة" (1517) وأما قوله: "وفيما زاد بحسابه" فلم أقف له على أصل في كتب الحديث التي بين يدي.
وانظر "نصب الراية" 2/ 346 - 353.

(2/145)


والثالث: أن يذكرَ أنَهُ مرسلٌ، وجوابُه: أن يبيِّنَ إسنادَه، أو يقولَ: المرسَلً كالمسند إن كان ممن يعتقدُ ذلك.
وأضاف أصحابُ أبي حنيفة إلى هذا وجوهاً أُخَر:
منها أن يقول: السلف رَدُّوه (1)، كما قالوا في حديثِ القَسامة (2)، أن عمرَو بن شعيب (3) قال: والله ما كان الحديثُ كما حَدثَ سهل (4).
__________
(1) ومما يدخل في هذا عند الحنفية، أن يجري الاختلاف بينَ الصحابة في حكم، ويكون هذا الحكم قد تضمنه أحد الأحاديث المرفوعة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكونُ اختلافهم دليلًا على ضعف الخبر، وعدم صحة نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذاك لما اختلفوا، ولسلموا بماكشفَ عنه الخبر.
انظر: "الفصول في الأصول " 3/ 117، و"أصول السرخسي" 1/ 369.
(2) تقدم شرح معنى القسامة في الجزء الأول، الصفحة (106).
(3) عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، من التابعين، روى عن أبيه وعن الربَيع بنت معوذ، توفي سنة (118) هـ. "تهذيب الكمال" 22/ 64، "شذرات الذهب" 1/ 155.
(4) هو سَهل بن أبي حَثْمة بن ساعدة الأنصار -رضي الله عنه- راوي حديث القَسامة: أن عبد الله بن سَهل، ومُحَيصةَ بن مسعود أتيا خَيبر في حاجة لهما، فتفرقا، فقتلَ عبدُ الله بن سَهل، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم أخوه عبد الرحمن بنُ سهل وابنُ عفه حُوَيصة، فتكلم عبد الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "الكُبْرَ الكبْرَ"، فتكلما بامر صاحبهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تستحقون صاحبكم- أو قال: قَتيلكم -بأيمانِ خمسين منكم" قالوا: يا رسول الله، لم نَشهده، كيفَ نحلف عليه؟! قال: "فتبرئُكُم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا: يا رسول الله، قوم كفَّار. قال: فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَلِهِ. قال سهل: فدخلتً مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الِإبلِ ركضةً. أخرجه مالك 2/ 877 - 878، وأحمد =

(2/146)


وجوابهُ: أنَه إذا كان الراوي ثقةً لم يُرد حديثهُ بإنكارِ غيرهِ؛ لأن المنكرَ ينفي، والراوي يثبتُ، والإِثباتُ مقدَمٌ على النفي، لأن المثبتَ معه زيادة علمٍ.
ومنها: أن يقولَ: الراوي أنكرَ الحديث، كما قالوا في قولهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأةٍ نُكحتْ بغير إذن وليها، فنكاحُها باطل" (1): إن راويهُ الزُهْري (2)، وقد قال: لا أعرَفه.
فالجواب عنه: أنَ إنكارَ الراوي لا يَقدحُ في الحديثِ؛ لجوازِ أن
__________
= 4/ 142، والبخاري (2702)، و (3173)، و (6142)، و (6143)، ومسلم (1669)، وأبو د اود (4520)، و (4523)، والتومذي (1422)، والنسائي 8/ 8 - 9، والبغوي (2546)، والبيهقي في "السنن" 8/ 118 - 119، وابن حبان (6009).
(1) أخرجه من حديث عاثشة -رضي الله عنها-: أحمد 6/ 47 و 165 - 166، وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، والدارقطني 3/ 221 و 225 - 226، والحاكم 2/ 168، والبغوي في "شرح السنة" (2262)، وابن حبان (4074).
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات، سماع الرواة بعضهم من بعض، فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية، وسؤاله ابن جريج عنه، وقوله: إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه، فقد ينسى الحافظ الحديث بعد أن حدث به، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث.
(2) محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر الزهري المدني الحافظ، من مشاهير التابعين، توفي سنة (124) هـ. انظر "تذكرة الحفاظ"1/ 108، "شذرات الذهب" 1/ 162.

(2/147)


يكونَ أنْسِيَهُ، وقد صنفَ الناس فيمن نسيَ ما رواه (1)، فرويَ له عن نفسه، فقال: حدثني فلان عني، حتى قالوا: فصارَ بنسيانِه بينه وبينَ نفسهِ رجلٌ.
ومنها: أن يقولَ: راوي الحديثِ لم يعملْ به، ولو علمَ صحتهَ لم يعدلْ عن العمل به، كما قالوا في حديثِ الغَسلِ من ولوغِ الكلبِ سَبعاً (2): راويه أبو هُريرة، وقد أفتى بثلاث مرات (3).
فالجوابُ: إنَ الراوي يجوز أن يكونَ قد نسي في حالِ الفُتيا أو أخطأ في تأويلهِ، فلا تُتركُ سنةٌ ثابتةٌ، لأجلِ تركهِ لها.
ومنها: أن يقولَ: إنَّ هذه الزيادةَ لم تُنقَل نقلَ الأصلِ كما قالوا في حديث: "فيما سَقَت السماءُ العشرُ، وفيما سقي بنَضح أو غَرْب نصفُ العشر إذا بلغ خمسةَ أوسق" (4)، فقالوا: هذا الحديث رواةَ
__________
(1) منهم الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت، صنف كتاب "من حَدث ونسي".
(2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولغَ الكلب في إناء أحدكم، فاغسلوه سَبع مرات". أخرجه: مالك 1/ 34، وأحمد 2/ 460، والبخاري (172)، ومسلم (279) (90)، والنسائي 1/ 52، وابن ماجه (364)، والبغوي (288)، والبيهقي 1/ 240، وابن حبان (1294).
(3) أخرج الدارقطني عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة، قال: إذا ولغ الكلبُ في الإناء، فاهرقه ثم اغسله ثلاث مرات.
كما أخرج الدارقطني عن أبي هريرة أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه، وغسله ثلاث مرات. "سنن الدارقطني" 1/ 66، وانظر "نصب الراية" 1/ 130 - 132.
(4) الحديث- دون قوله: "إذا بلغ خمسة أوسق"- أخرجه من حديث عبد الله =

(2/148)


جماعةٌ، فلم يذكروا الأوسُقَ، فدل على أنهُ لا أصل لها.
فالجوابُ: أنه يجوزُ أن يكونَ قد ذكرَ هذه الزيادةَ في وقتٍ لم تحضر (1) الجماعة، أو كانَ هو أقربَ إليه، فسمع الزيادةَ دونهم، فلم يجزْ ردُ خبرِ الثقةِ مع هذا التجويزِ والاحتمالِ.

فصل
وأما الكلامُ على المتنِ: فالمتنُ ثلاثةُ أقسام: قولٌ، وفعلٌ، واقرارٌ.
فالقولُ ضربان: مبتدأٌ، وخارجٌ على سببٍ.
فالمبتدأ: كالكتاب، يتوجهُ عليه ما يتوجهُ على الكتاب، وقد قدمنا شرحَه، إلا أنا نذكرُ هَاهنا ما يتوجهُ على المتنِ بأوضحِ أمَثلةٍ، ولربما اتفق فيه زيادة، لم تكن في الكتاب.
واعلم أن الاعتراضَ على المتنِ من ثمانيةِ أوجه:
__________
= ابن عمر: البخاري (1483)، والترمذي (640)، وأبو داو (1596)، والنسائي (5/ 41). وهو من حديث جابر بن عبد الله عند مسلم (981)، وأبي داود (1597)، والنسائي 5/ 42.
أما التقييد بلفظ: "خمسة أوسق" فقد ورد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، أخرجه البخاري (1448)، ومسلم (979)، وأبو داو (1558) و (1559)، والترمذي (626) و (627)، وابن ماجه (1793)، وابن خزيمة (2293) و (2294) و (2295) و (2298).
(1) في الأصل: "يخص"، ولعل المثبت هو الصواب.

(2/149)


أحدُها: أن يستدلَّ بما لا يقولُ به، وذلك من ثلاثةِ أوجه:
منها: أنْ يستدل بحديث، وهو ممن لا يقبلُ مثلَ ذلك الحديث؛ كاستدلالِهم بخبرِ الواحدِ فيما يعم البلوى به، أو فيما خالفه القياسُ، وما أشبه ذلك مما لا يقولون فيه بخبرِ الواحدِ.
فالجوابُ: أن تقول: إن كنت أنا لا أقول به، إلا أنَك تقولُ به، وهو حجةٌ عندك، فيلزمُك العملُ به.
وهذا قد استمرَ عليه أكثرُ الفقهاءِ، وعندي أنَّه لا يحسنُ الاستدلالُ بمثلِ هذا؛ لأنً الدليلَ على المذهب المسؤولِ عنه، إنَما يكونُ بما يعتِقدُه المستدل دليلًا، فإذا استدلَّ بمَا يعتقده غيرُهُ دليلاً وهو يعتقده غيرَ دليلٍ لمْ يَكُن مُسْتَدِلًا، لكنَّ صورتَه صورةُ المستدلِ، ومعناهُ معنى الملتزمِ على مذهبِ غيرِه، والمفسدِ لمذهبِ غيره. وليس هذا من الاستدلالِ في شيء.
ومن نصرَ الأوّل قال: على هذا ليس يحسنُ بنا أن نستدل على نبوةِ نَبينا - صلى الله عليه وسلم -، بما نتلوُه من آي التوراةِ والِإنجيل المغَيرين المُبَدَّلَين، لكن نستدل به على أهل الكتاب اعتماداً على تصديقِهم، لما فيه من الأخبارِ التي يعتقدونهاَ أخباراً لله سبحانه، التي أوحاها إلى موسى وعيسى عليهما السلام.
والثاني: أن يستدلَّ منه بطريقٍ لا يقولُ به، مثل أن يستدلَّ بدليلِ الخطاب وهو لا يقولُ به، كاستدلالِهم في إبطالِ خيارِ المجلسِ، بما روي عنَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن بيعِ الطعام حتى يُقبضَ" (1) فدل
__________
(1) أخرجه البخاري (2135)، ومسلم (1525) (29)، وأبو داود (3497)، =

(2/150)


على أنه إذا قُبض في المجلسِ جازَ بيعهُ.
فيقالُ لهُ: هذا احتجاج بدليلِ الخطاب، وأنتَ لا تقول بهِ، فيقول في الجواب عن هذا: هذه طريقة لبعضِ أصَحابنا، وأنا ممن أقولُ به.
أو يقولُ: إَن هذا اللفظَ للغايةِ، وأنا أقولُ به فيماَ عُلقَ الحكم فيه على الغايةِ.
والثالثُ: أن لا يقولَ به في الموضعِ الذي وردَ فيه، كاستدلالهِ على أن الحرَّ يقتلُ بالعبدِ، بقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن قتلَ عبدَه قَتلنا" (1).
فيقالُ له: القتلُ الذي يتناولُهُ الخبرُ لا نقولُ به، فإنَّه لا خلافَ بيننا أنَه لا يُقتلُ بعبدِه. وقد تكلَف بعضهُم الجوابَ عنه فقال: لما أوجبَ القتلَ على الحر بقتلِ عبده، دل على أنه يُقتلُ بعبدِ (2) غيره أولى. ثم دل الدليلُ على أنه لا يقتلُ بعبدِه، ونفي قتله بعبدِ غيرهِ على ما اقتضاه.

والاعتراضُ الثاني أن نقولَ بموجبه، وذلك على وجهين:
__________
= وابن ماجه (2227)، والترمذي (1291)، والطبراني في "الكبير" (10874).
وابن أبي شيبة 6/ 368، وأحمد 1/ 215، وابن حبان (1847). من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-.
(1) أخرجه أحمد 5/ 11، وأبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي 8/ 20 - 21، والبيهقي 8/ 35، وابن ماجه (2663)، والد ارمي 2/ 191، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-.
(2) في الأصل: "بعبده"، والمثبت هو الأنسب لاستقامة العبارة.

(2/151)


أحدُهما: أن يحتج المستدل باحدِ الموضعين، فيقول السائلُ بموجبه بالحملِ على الموضعِ الآخر، مثل أن يستدل الشافعيُ في نكاحِ المحرم بقولهِ عليه الصلاة والسلام: "لا يَنكحُ المحِرمُ ولا يُنبكح" (1). فيقولُ الحنفي: النكاحُ في اللغةِ هو الوطءُ، فكأنَّه قال: لا يَطأ المحرِمُ الرجلُ، ولا يُوطىء: لا تُمكنُ المرأةُ المحرمَ مِن وطْئِها.
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن يقولَ: النكاحُ في عُرفِ الشرعِ هو: العقدُ، وفي عرفِ اللغةِ هو: الوطءُ، واللفظ إذا كان له عرف في اللغة وعرف في الشرع حُمِلَ على عُرف الشرع، ولا يُحمَلُ على عرفِ اللغةِ إلا بدليل.
والثاني: أن يبينَ من سياقِ الخبرِ وغيرِه، أن المرادَ به ما قاله.
والضربُ الثاني: أن يقولَ بموجبهِ في الموضع الذي احتجَ به، كاستدلالِ أصحابنا في خيارِ المجلس، بقولهِ صلى الله عليه وسلم: "المتبايعانِ بالخيارِ مالم يتفرقا" (2)، فيقول المخالفُ: المتبايعانِ هما المتشاغلان بالبيع قبل الفراغ، وهما عندي هناك بالخيار.
فالجوابُ عنه من وجهين:
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 57، 64، 68، ومالك في "الموطأ" 1/ 348، ومسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي 5/ 192، وابن ماجه (1966)، والبغوي في "شرح السنة" (1980)، وابن حبان (4123).
من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه-.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة (44) من هذا الجزء.

(2/152)


أحدهما: أن يبينَ أن اللفظَ في اللغةِ حقيقة فيما ادعاه.
والثاني: أن يبينَ الدليلَ عليه من سياقِ الخبرِ أو غيرهِ، أنَّ المرادَ به ما قاله.

فصل

والاعتراضُ الثالث: أن يدعى الإجمالَ، إمَّا في الشرعِ أو في اللغةِ، فأمَّا في الشرع؛ فمثلُ أن يحتجَ الحنفيُّ في جوازِ الصلاةِ بغيرِ اعتدال، بقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلوا خَمْسَكم" (1)، وهذا قد صلى خمسَه.
فيقولُ الشافعي أو الحنبلي: هذا مجمل؛ لأن الأمرَ بالصلاةِ الشرعيةِ هنا، وذلك لا يعلمُ من لفظِ هذا الخبرِ، بل يقتصرُ في معرفتهِ إلى غيره، فلم يحتج به، إلا بدليل يدلُ على أن تلكَ صلاة.
فيجيبُ عن هذا: بأن اللفظَ يقتضي صلاةً في اللغةِ، لأن القرآنَ بلغتِهم، فإذا صلى صلاةً شرعيةً حصل ممتثلًا، فينتقلُ الكلامُ إلى ذلك الأصل، وأن يقولَ الشافعي أو الحنبليُ: بأن إطلاقَ الأمرِ بالصلاةِ، ينطلقُ إلى ما تقررَ في الشرع، ولسنا نعلمُ أن من صلى ولم يعتدلْ أنه قد وفى الصلاةَ الشرعيةَ، ولَا خَرَجَ من عهدةِ الأمرِ بها.
وأما المجملُ في اللغةِ؛ فمثلُ أن يستدل الحنفيُ في تضمينِ
__________
(1) حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع، فقال: "اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم"، أخرجه: أحمد 5/ 251، والترمذي (616)، وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم في "المستدرك" 1/ 9، والبغوي 1/ 23.

(2/153)


الرهنِ بقولهِ عليه الصلاة والسلام: "الرهنُ بما فيهِ" (1). فيقولُ له الشافعيُّ أو الحنبلي: هذا مجملٌ؛ لأنه يفتقرُ إلى تقدير مضمرٍ، فيحتملُ أن يكونَ معناهُ: الرهن مضمون بما فيه، ويحتمل أن يكونَ معناهُ: مبيعاً بما فيه، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به: محبوساً بما فيهِ.
فوجبَ التوقفُ فيه إلى أن يرد دليل يرجحه إلى أحدِ محتملاتهِ.
فالطريق في الجواب أن يبينَ أن المرادَ به ما ذكرنا. إمَّا من طريقِ الوضعِ، أو من جهةِ الَدلالةِ، وذلك أن قولَنا: محبوسٌ بما فيه، وهو رهنٌ. كقولهم (2): مضمونٌ بما فيه، وليس برهن.

فصل
في الاعتراضِ الرابعِ، وهو: أن يدعيَ المشاركةَ في الدليلِ.
__________
(1) هذا الحديث روي مسنداً ومرسلاً: أما المسند فرواه الدارقطني في "السنن" 2/ 32، 34 من حديث أنسِ بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرهن بما فيه" وقد بين الإمام الدارقطني ضعفَ هذا الحديث بل بطلانه؛ لأن في سنده رجالاً لا يؤخذ بحديثهم لضعفهم. انظر "سنن الدارقطني" 3/ 32، 34.
وأما المرسل فرواه أبو داود في "المراسيل" عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الرهن بما فيه"، قال ابن القطان: "مرسلٌ صحيح"، ومعنى الحديث: أنه إذا هلك الرهن وعميت قيمته، يقال حينئذ للذي رهنه: زعمتَ أن قيمته مائة دينار، أسلمته بعشرين ديناراً، ورضيتَ بالرهن، ويقال للآخر: زعمتَ أن ثمنهُ عشرة دنانير، فقد رضيت به عوضاً من عشرين ديناراً. انظر "نصب الراية" 4/ 422.
(2) في الأصل: "قولهم".

(2/154)


وذلكَ: مثل أنْ يستدل الحنفى في مسألةِ الساجة (1) بقولهِ عليه الصلاةُ والسلام: "لا ضررَ ولا ضرارَ" (2)، وفي نقضِ بناءِ الغاصبِ إضرار به، فوجب أن لا يجوز.
فيقولُ الشافعيُّ أو الحنبليُّ: هو حجةٌ لنا؛ لأنَ في إسقاط حق مالِك السَّاجة من ردَها بعينها، والعدول عنه إلى رد قيمتها، إضراراً بمالِكها المغصوب منه، ولربّما تعددت القيمة، فبقي ذلك حقاً وديناً في ذمَّةِ الغاصبَ، وانتقالُ الحق من عينِ مالِه إلى ذمّةِ غيرِه غايةُ الِإضرارِ. ومَعنا تَرجيح، وهو: أنًّ المتعديَ جلبَ الإضرارَ بتعديه، والمغصوبُ منه بريء من الابتداءِ بالإضرارِ، فكان بنفي الإِضرار عنه أحق.
__________
(1) مسألة الساجة التي يقول بها الحنفية هي: إذا غصَبَ أحدُهم ساجةً أي خشبة، وأدخلها في بنائه، فإن كانت قيمةُ البناء أكثر من قيمة الخشبة، فإنه يملكها، ويعوضُ صاحبُها قيمتَها، وان كانت قيمتها أكثر منِ قيمة البناء لم ينقطع حق المالك عنها. واستدلوا على ذلك بحديث: "لا ضرر ولا ضِرار".
انظر "الأشباه والنظائر" لابن نجيم: 88، و"بدائع الصنائع" 9/ 4417.
(2) حديث حسنٌ بطرقه وشواهده، رواه الإمام مالك مرسلاً في "الموطأ" 2/ 745 ورواه موصولًا من حديث أبي سعيد الخدري، الدارقطني 3/ 77، و 228/ 4، والبيهقي 6/ 69، والحاكم 2/ 57 - 58، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد 1/ 213، وابن ماجه (2341)، والدارقطني 4/ 228.
وعن عبادة بن الصامت عند أحمد 5/ 326 - 327، وابن ماجه (2340).
وعن أبي هريرة عند الدارقطني 4/ 228 وعن عائشة عند الدارقطني 4/ 227، والطبراني في "الأوسط" (270) و (1037).

(2/155)


فيجيبُ الحنفيُّ بما يقررُ نفيَ الإضرارِ معهُ برد القيمةِ.

فصل
في الاعتراضِ الخامِس، باختلافِ الروايةِ.
مثلُ أن يستدل الحنبليُّ أو الشافعيُّ في إباحةِ الجنينِ بذكاةِ أمّه بقولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمه" (1).
فيقولُ الحنفيُّ: قد روي: ذكاةَ بالفتحِ، وروي ذكاةُ أمة بالضم، والفتح يعطي أن تكون ذكاته مثل ذكاة أمه، كقوله سبحانه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، وقال في موضع آخر: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، وقول الشاعر:
فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدُها (2)
وإذا تردد بين أن يكون ذكاتُه نفسَ ذكاةِ أمّه، وبين أن يكون مثلَ ذكاة أمِّه، وقف الدليل على الترجيح. وكان ما ذهب إليه أبو حنيفة أشبه؛ لأنَّ الباب بابُ حظرٍ في الأصل، إلى أن يحصل يَقينُ الذكاة، ومما يرجِّح
__________
(1) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري أحمد 3/ 31، 39، 53 وعبد الرزاق (865)، وأبو داود (2727)، والترمذي (1476) وابن ماجه (3199)، والدارقطني 4/ 274، والبيهقي 9/ 335، وابن حبان (5889)، والبغوي (2789)، قال الترمذيْ هذا حديث صحيح، وقد رويَ من غير هذا الوجه عن أبي سعيد، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم.
(2) صدر بيت لمجنون ليلى قيس بن الملوح، وعجزه: (ولكن عظمَ الساقِ منكِ دقيق). وهو في ديوانه: 207، و"الكامل" للمبرد: 1038.

(2/156)


هذا، أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الصيد: إ إذا أصابَه السهمُ، ووقع في الماء، فلا تاكله، لعل الماء أعانَ على قَتلِه " (1)، فحكمَ بحظرِ صيدٍ حصلَ العقرُ فيه، لتردّد الأمر في مساعدة التخنق بالماء، فكيف يبيحُ ما وقع العقر في غيره، وقطعنا على تَخَنقِهِ الصرف الذي لم يَشُبْهُ عقر ولا مباشرة باَلة الذكاة؟ بل يكون تَنبيهاً، ويبقى الجنينُ على ما ورد به نص الكتاب من تحريم المُنْخَنِقَةِ.
ومثل استدلال الشافعي أو الحنبلي في تخيير أولياء الدم بين القَوَد والدِّية، بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قتيل خُزاعة: "وأنتُم يا خُزاعة، فَقد قَتلتم هذا القَتيل، وأنا واللهِ عاقِلُه، فمن قتل بعد ذلك قَتيلًا، فأهلُه بين خِيَرتَين؛ إن احبوا قَتلوا، وإن أحبّو أخَذوا العَقْلَ" (2) فيقول الحنفي: قد روي:
__________
(1) ورد هذا من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذا أرسلتَ كلبك وسميت، فأمسَكَ وقَتَلَ فكُلْ. وإن أكَلَ، فلا تأكل، فإنَّما أمسَكَ على نفسه، وإذا خالط كلاباً لم يُذكر أسم الله عليها، فأمسكن فقتلْنَ، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتل. وإنْ رميتَ الصيدَ فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به الا أثرُ سَهمِك"، فكلْ. وإنْ وقع في الماء، فلا تأكل، فإنكَ لا تدري الماء قتله أم سهمُك"، أخرجه: البخاري (5484)، ومسلم (1929) (6) (7)، وأبو داود (2850)، والترمذي (1469)، والدارقطني 4/ 294.
(2) أخرجه البخاري (112)، و (2434) و (6880)، ومسلم (1355)، وأحمد 2/ 238، وأبو داود (2017) و (4505). وأبو عوانة 4/ 42، وابن حبان (3715)، والطحاوي في "شرح مشكل الأثار" (3145) و (4793)، والبيهقي في"الدلائل" 5/ 84، وفي "السنن" 8/ 52، والدارقطني 3/ 97 - 98، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(2/157)


"إنْ أحبوا فادوا" (1)، والمفاداةُ مفاعلة، فلا يكون إلا صُلحاً بالتراضي، والخبرُ خبر واحد، فيجب أن يتوقف فيه حتى يعلم أصل الحديث.
فالجواب: أنه قد روي الجميع، والظاهر منهما الصحة، فيصير كالخبرين، فنجمع بينهما، فنقول: يجوز بالتراضي وبغير التراضي، وهم يسقطون العمل بخبرنا، فمن عمل بالروايتين كان أولى.

فصل
والاعتراض السادس بالنسخ؛ وذلك من وجوه:
أحدها: أن ينقل نسخه صريحاً.
والثاني: أن لا يكون صريحاً، لكن ينقل ما ينافيه متأخراً، فيدعي نسخه بذلك المنافي المتأخر عنه.
والثالث: أن ينقل عن الصحابة العمل بخلافه ليدل على نَسخه.
الرابع: أن يدعي نسخه بأنه شرع من قبلنا، وأنه نسخه شرعنا.

فصل
فأمَّا النسخ بالصريح؛ فمثل أن يستدل الشافعي في طهارة جُلود الميتة بالدباغ، بقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهابٍ دُبِغ فقد طَهُر" (2). فيقول الحنبلي [من] أصحابنا (3): هذا منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عُكَيْم: "كنتُ رخصتُ لكم في جلودِ الميتة، فإذا أتاكم
__________
(1) أخرجه البيهقي في "السنن" 8/ 53.
(2) تقدم في الصفحة (34) من هذا الجزء،
(3) في الأصل: "لأصحابنا".

(2/158)


كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصب" (1). وهذا صريح نسخ كلُّ خبر ورد في طهارة الجلود بالدباغ.
فيقول الشافعي: هذا عادَ إلى تحريم الِإهاب، وبعد الدباغ لا يُسمى إهاباً، لكن يسمى جلداً أو أديماً.
فيقول أصحابنا: إنما عاد النهي إلى ما كان تَقدم من الِإباحة، فانقلوا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أباح اهُبَ الميتات، فلا يجدوا ذلك في نقل صحيح.
لم يبق إلا أنه عاد النهي إلى ما كان مباحاً وسماه إهاباً، استتباعاً للاسم الأول، كما سميت المطلقةُ زوجةً، والمطلق بَعلاً بعد الطلاق استِتباعاً.

فصل
وأمَّا النًسخ بنقلِ المتأخِّر، فمثل: أن يستَدِل الحنبلي أو الظاهري في جَلْدِ الثَّيِّب مع الرَّجمِ بقوله عليه الصلاة والسلام: "خُذُوا عني، قد جَعَلَ الله لَهنَّ سَبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثَّيِّبِ جلدُ مئةٍ والرَّجمُ" (2).
فيقول له الحنفيُّ أو الشَّافعيُّ: هذا منسوخٌ بما رُوي: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجَمَ ماعِزاً ولم يَجْلِدْهُ (3)، وهذا منه كان متأخِّراً عن قَوله الذي
__________
(1) تقدم في الصفحة (194) من الجزء الأول.
(2) تقدم في الصفحة (193) من الجزء الأول.
(3) قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي أخرجها أحمد 2/ 286 - 287 و 453،=

(2/159)


تَضَمَّنه خَبَرُكم؛ لأنَ خبرَكُم وَرَدَ أولَ ما شُرِعَ الجلدُ والرجمُ.
فالجوابُ: أنَ قولَهُ في خبرِكم: "ولم يَجْلِدْه"، نفيٌ لا يحيطُ به الراوِي، وعساهُ شاهَدَ الرجمَ خاصَةً، فروى ما شاهدَ، وعساهُم سَبقُوا إلى رجْمِهِ ذُهولاً عن الجَلْدِ، فسقطَ بالسهْوِ عنه.
والذي يوضحُ هذا ما روي: أنَّ علياُّ -كرمَ الله وجهه- جَلَدَ شُراحَةَ الهَمْدانِيةَ يومَ الخميسِ، ورجَمها يومَ الجُمُعَةِ، ثم قال: جلَدْتُها بكتابِ اللهِ، ورجَمْتُها بسنةِ رسولِ اللهِ (1)، فكان هذا من على -كرم الله وجهه-
__________
=والبخاري (5271) و (6815) و (6825) و (6167)، ومسلم (1691) (16)، وابن ماجه (2554)، والترمذي (1428)، والنسائي في "الكبرى" (7177) و (7178)، والبيهقي 8/ 219 من حديث أبي هريرة.
وأخرجها أحمد 3/ 323، والدارمي 2/ 176، والبخاري (5270) و (5272) و (6816) و (6820) و (6826) و (7168)، ومسلم (1691) (16)، وأبو داود (4430)، والترمذي (1429)، والنسائي في "المجتبى" 4/ 62 - 63. من حديث جابر بن عبد الله، وأخرجها أيضاً الطيالسي (2627)، وعبد الرزاق (13344)، وأحمد 1/ 245 و 314 و328، ومسلم (1693)، وأبو داود (4425) و (4426)، والترمذي (1427)، والنسائي في "الكبرى" (7171) و (7172) و (7173)، وأبو يعلى (2580)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 143، والطبراني (12304) و (12305) و (12306) من حديث عبد الله ابن عباس.
وهي مروية أيضاً من حديث غيرهم من الصحابة كجابر بن سمرة. وأبي سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب، وعمران بن حصين، ونعيم بن هزال.
(1) أخرجه أحمد 1/ 93 و 107 و 116 و 121 و 140 و141 و 143 و 153، والبخاري (6812)، والنسائي في "الكبرى" (7140) و (7141)، =

(2/160)


رِوايةً وعملًا، وهو إثباتٌ معه روايةٌ، وخَبَرُكم نَفْيٌ معه احتمالٌ، فبقيَ لفظُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجَمْعِ بينَ الجلدِ والرجمِ بحالهِ، فلا يُنْسخُ (1) بمحتَمِل فتَردِّدٍ.

فصل
وأما النسخُ بعملِ الصحابةِ بخلافهِ، فمثلُ: استدلالِ الحنفي في مسألة استئناف الفَرِيضةِ في زكاةِ الإِبل بقوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا زادَتِ الإِبل على عِشْرِينَ ومئةٍ، استَؤنِفَتِ الفَرِيضةُ في كلِّ خَمْسٍ شاءٌ" (2).
__________
= والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 140، والحاكم 4/ 365. وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.
(1) يعني قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا .... "الخ.
وانظر: "أصول السرخْسي" 2/ 71 و"التمهيد" للكلوذاني 2/ 378.
(2) وأخرجه إسحاق بن راهوية في "مسنده" كما ذكر الزيلعي في "نصب الراية" 2/ 343، وأبو داود في "مراسيله" (106)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 375، وابن حزم في "المحلى" 6/ 33 - 34 من طرق عن حماد بن سلمة قال: قلت لقيس بن سعد: خذلي كتاب محمد بن عمروبن حزم، فاعطاني كتاباً، أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لجده، فقرأته، فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومئة، فاذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كلُّ خمسين حقة، وما فضل فمنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كلُّ خمس ذود شاة.
وأخرجه موقوفاً الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 377 عن عبد الله بن =

(2/161)


فيقول الحنبلي أو الشافعي: هذا الخبرُ منسوخٌ؛ لأن أبا بكر الصديقَ وعمرَ -رضي الله عنهما- لم يعملا به، وأمْرُ الزكاةِ ظاهرٌ غيرُ خافٍ، فلو عَلِما بقاءَ حُكْمِه لعملا به، لم يَبْقَ إلا أنهما علما نَسْخَه.
فالذي ينبغي أن يجيبَ به: هو أن يتكلمَ على عملِ الصحابة بأنه يجوزُ أن يكون لم يَبْلُغْهما، أو بلغَهما فتأوَّلاهُ كما تأوَّلْتُم (1).

فصل
وأما النسخُ بأنه (2) شرع مَنْ قَبْلنا (3): فمثل: استدلال الحنبلي أو الشافعي في مسألة إحْصَان الرجم، وأنه لا يُعْتبرُ له الإسلام، بما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمَ يهوديّين زنيا بعد إحصانهما (4).
__________
= مسعود أنه قال في فرائض الإبل: إذا زادت على تسعين، ففيها حقتان إلى عشرين ومئة، فإذا بلغت العشرين ومئة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كلُّ خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففرائض الإبل، فإذا كثرت الإبل، ففي كلُّ خمسين حقة.
وأخرجه موقوفاً أيضاً ابن أبي شيبة 3/ 125، والبيهقي 4/ 92 عن علي قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومئة، تستأنف الفريضة.
(1) انظر "التمهيد" لأبي الخطاب الكلوذاني 3/ 193.
(2) فى الأصل: "فإنه"، والذي يقتضيه السياق ما أثبتناه.
(3) في الأصل: "قبلها"، وهو تحريف.
(4) قصة رجم اليهودي واليهودية اللذين زنيا أخرجها مالك 2/ 819، وأحمد 1/ 5 و 7 و 17 و 61 - 62 و 63 و 76، 126، والدارمي 2/ 178، والبخاري (3635) و (6841)، ومسلم (1699) (26) و (27)، وأبو داود (4446) و (4449)، وابن ماجه (2556)، والنسائي في "الكبرى" (7334) من حديث =

(2/162)


فيقول الحنفي: إنما رجمهما بحُكمِ التوراةِ، فإنه أمرَ بإحْضارِ التوارة، ثم عمل بذلك، وشرعُنا قد نسخ حكمَ التوراةِ.
فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَثِقُ بنقلِ هذهِ التوراةِ، لما تطرق عليها من التبديلِ والتغيير، وإدخالِ كلامٍ غيرِ كلام اللهِ فيها، وفيها العجائبُ، وكم حوادثَ طَرأَتْ فاستأصلت ما كان منها، فأعادُوا تَسْطِيرَ ما تَلَقَّفُوه من الرِّجالِ، فهذا يمنعُ النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يعملَ بحكمها في الجملةِ، لا شَرْعاً لموسى، ولا شرعاً له مُوافقة لموسى، ومتابعةً بحكم نَقْلِها، لم يَبْقَ إلا أنه عَلِمَ ذلك بطريقِ مِثْلِه، وهو الوَحْيُ المعصومَ عن الزيادةِ والنُقْصانِ، وكيف يجوزُ أن يُظَن بأنه يقيمُ حداً، ويتلفُ نَفْساً بحكم لم يَثْبُتْ أنه شرع الله سبحانه بطريقِهِ الذي يثبتُ الشرع بمِثْلِهِ؟ وهل يجوزُ أن يَفْعَلَ فيهم إلا ما يفعلُه فينا بما شَرَعَ الله له، مع قول الله سبحانه له: {وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهم بما أَنّزَلَ الله} [المائدة: 49]؟ وإنما اسْتَدْعا بالتَوْراةِ، ووافَقَهم على كذبِهم حيثُ قالوا: إن عقوبةَ الزَّاني (1) التَّحْمِيمُ (2) لِيُبَيِّنَ كذبهم فيما أخْبَروا به، وفيما كَتَمُوهُ من ذِكْرِهِ صلى الله عليه في التوراة.
__________
=عبد الله بن عمر.
وقد رويت قصة رجمهما أيضاً عن غيره من الصحابة، وفي بعضها: أنهما كانا محصنين. انظر "فتح الباري" للحافظ ابن حجر 12/ 167 - 169.
(1) في الأصل: "الزان".
(2) في" اللسان" (حمم): حمَّم الرجلَ: سَخم وجْهَه بالحُمَم، وهو الفحم، وفي حديث الرجْم: أنه أمر بيهودي مُحَمم مَجْلود، أي مُسْوَدّ الوجه، من الحُمَمَة وهي الفَحْمة.

(2/163)


فصل
وقد ألْحَقَ أصحابُ أبي حنيفة وجهاً آخر، وهو النسخُ بزوالِ العِلَّةِ (1)، وذلك مثل: أن يستدلَّ الشافعي أو الحنبلي في تَخْلِيل الخَمْرِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أبا طَلْحَة عن تخليلها، وأمرَه بإراقَتِها (2)، فقالوا: كان أوَّلَ ما حُرمَ الخمرُ وألِفُوا شُرْبَها، فنهى عن تَخْليلِها تغليظاً وتشديداً، وقد زالَ ذلك المعنى، فزالَ الحكمُ.
فالجواب عن ذلك: أن نَتَبَيَّنَ أن النَهْيَ كان حُكْمَ اللهِ في الخَمْرِ كإيجاب الحَدِّ والتَّفْسيقِ بشُرْبِها. والتنْجيسِ بها، فدعوى أنه كان لتلك الحالِ تشديداً، وأنه زالَ باعتيادِ الترْكِ، نسخ بغيرِ دليل، بل لمجرَّدِ احتمال، على أنَّ النهيَ منطوق به، والعلةَ منطوق بها، فقوْلُه جواباً لأبي طلحة حيثُ قال له: أفأخَللُها؟ قال: "لا، أهرقْها"، قال: إنها لِأيْتام، قال: "أرَقها"، والله سبحانه عَلَّلَها بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، وهذانِ النُّطْقانِ لا يجوزُ أن يُسْقطا بمجرَّدِ قولِكم: يجوزُ أن يكونَ حالُ النهي اقْتَضَت
__________
(1) كذا قال المؤلف رحمه الله، والمسطور في كتب أصول الحنفية أنه لا يعد نسخاً، وقالوا: هو من قبيل انتفاء الحكم لانتفاء العلَّة. انظر "التقرير والتجبير" 3/ 71، و"فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" 2/ 86.
(2) أخرجه أحمد 3/ 119 و 180 و 260، والدارمي 2/ 118، ومسلم (1983)، وأبو داود (3675)، والترمذي (1294) عن أنس بن مالك.
وأخرجه الترمذي (1293) عن أنس، عن أبي طلحة الأنصاري.

(2/164)


الاحْتِدادَ (1)، ثم فَتَرَ النهيُ ونُقِضت الأحكامُ، كما لا يجوزُ ذلك في إيجابِ الحد، والتفسيقِ، وسقوط التغْريمِ على متْلِفِها، ونجاستِها، ويدَعى أن ذلك كان في حالِ احتدادِ النهي، وقرْبِ عَهْدِهم بها.
فالنهي مطلق والأحكام ثابتةٌ، والنسخ ممتنع بعدم النطقِ الصالح للنسخِ، بل قد أبْقَى الشرع أحكاماً على سبيل التعَبُّد بعد زوال عِلَلها، كإبقاء تشريع الرمَلِ (2) والاضْطِباعِ (3)، وإن كانا وُضعا لاظهار الجَلَدِ للمشركين، وقد زال الخوف وبقيا تعبداً خِلْواً من عِلةٍ، وكذلك إبقاءُ القَصْرِ بعد اشتراطِ الخوف، فلما قَالوا له: يا رسولَ الله، ما بالُنا نقصر وقد أمِنَا، والله تعالى يقول: {إنْ (4) خِفْتُم} [النساء: 101] فقال: "صَدَقَةٌ تَصدَّقَ الله بها عليكم" (5)، فكان لأجل الخوف، فلما
__________
(1) أي: الشدة.
(2) الرَمَل، بالتحريكِ: الهَرْوَلَةُ يشير بذلك إلى رَمَلانهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابهِ ليرُيَ المشركين قوَّتهم.
انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 13 و"سنن الترمذي" (857) و"النهاية في غريب الحديث والأثر". (رَمل).
(3) الاضطباع: أن يُدخلَ المُحرمُ الرداءَ من تحت إبْطِهِ الأيمنِ، ويردُّ طَرَفَهُ على يسارِه، ويُبدي مَنْكِبَهُ الأيمَنَ ويُغَطي الأيْسرَ، سمي به لإبداءِ أحد الضبْعَيْن.
وهو العضُدُ أو الإبْطُ. قاله المجد في "القاموس" (ضبع).
وانظر: "مسند أحمد" 1/ 306 و"سنن الترمذي" (859) و"سنن أبي داود" (1883) و"سنن ابن ماجه" (2945).
(4) في الأصل: "وإن".
(5) تقدم تخريجه في الصفحة: 26.

(2/165)


زالت العلَّةُ بَقِيَ مجرَّدَ صدقة.
فإذا كانت الشريعةُ على هذا، لا يجوز أن يُقدَمَ على نسخ النطقِ الصريح بالنهي المطلقِ لأجْل دعوى علَّةٍ ما ثبتت، ودعوى أَنها قد زالت، ودعوى أنها إذا زالت انْتَسخ الحكمُ، والكلُّ لم يَثْبُت، ولا أصْلٌ استقر في الشرعِ، ولا نُسَلِّمه لك.

فصل

والاعتراضُ السابع: التَّأويل، وذلك على ضرْبَين:
تأويل الظاهرِ؛ كاستدلالِ الحنفي في إيجابِ غَسْلِ الثوب من المَنِيِّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان رَطْباً فاغْسِلِيه، وإن كان يابِساً فَحُكَيه" (1)، فحَمَلَه أصحابُنا وأصحابُ الشافعي على الاستحبابِ بدليلٍ.
ومثل: استدلالهم في الشفْعَةِ بالجِوَارِ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الجارُ أحقُ بصَقَبِه" (2)، فيقول أصحابنا: هو محمولٌ على العَرْضِ عليه
__________
(1) لا يُعرفُ هذا الحديث مرفوعاً من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، والمنقول أن عائشة -رضي الله عنها كانت تفعلُ ذلك من غير أن يأمرَها. قالت: كنتُ أفركُ المَنِى من ثَوْب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان يابسا، وأغسلهُ إذا كان رَطباً.
انظرَ: "نصب الراية" للزيلعي 1/ 209 و"شرح معاني الآثار" 1/ 49 و" سنن الدارقطني" 1/ 125 وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 279 عن أم سلمة وقال: رواه الطبراني في"الكبير" وفيه أبو بكبر الهُذليُّ وهو ضَعيف. وانظر "المعجم الصغير" للطبراني 1/ 25.
(2) أخرجه أحمد 6/ 10 و 390، والبخاري (2258) و (6977 - 6981)، وأبو داو (3516) وابن ماجه (2495) و (2498)، والنسائي 7/ 320، وابن حبّان =

(2/166)


استحباباً، والِإحسانِ لجوارِه بدليلِ المسألة، وهي أن الشُّفْعة لا تُسْتَحَق إلا بالشَرِكةِ، فيُجْمَعُ بين هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعةُ فيما لم يُقْسَمْ، فإذا وقعتِ الحدودُ، وصُرِّفت الطرقُ، فلا شُفْعَةَ" (1).

فصل
وأما تخصيصُ العمومِ، مثل: استدلالِ أصحابنا وأصحاب الشافعي في قتل المُرْتَدةِ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بَدل دينَه فاقتُلُوه" (2)
__________
= (5180) و (5181) و (5183)، وانظر "أصول السًرَخْسي" 1/ 144.
وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "بصَقبه"، قال البغوفي في "شرح السنة" 8/ 242: والسقَبُ: القُرْبُ بالسين والصاد، يريدُ بما يليه، وبما يقربُ منه، وليس في هذا الحديث ذِكْرُ الشُّفْعةِ، فيحتمل أن يكمنَ المرادُ منه الشفْعةَ، ويحتمل أنه أحقٌ بالبرِّ والمعونةِ.
(1) أخرجه أحمد 3/ 296 و 3172 و 399، والبخاري (2213) و (2214) و (2257) و (هـ 249) و (2496) و (6976)، وأبو داود (3514)، وابن ماجه (2499)، والترمذي (1370)، والنسائي 7/ 321، وابن حبان (5184) و (5186) و (5187) من حديث جابر بن عبد الله.
وأخرجه أبو داود (3515)، وابن ماجه (2497)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 121، وابن حبان (5185) من حديث أبي هريرة. ورواية أبي داود مختصرة بلفظ: "إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وصُرفت"، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 4/ 436: أي بُنيت مصارفُ الطرقِ وشوارعها، كأنه من التصرف أو من التصريف، وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصِّرف بكسر المهملة، الخالص من كل شيء.
(2) تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: (39).

(2/167)


فيخُضُه الحنفي بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُها قُتِلتْ وهي لا تُقَاتِلُ" (1)، وبما يذكرُهُ من القياسِ.
فالجواب: أن يُتَكلمَ على الدليل، فيُبْقَى له العمومُ.

فصل

في الاعتراض الثامن: المُعارَضَةُ
وهي ضربان: معارضة بنُطْقٍ، ومعارضةٌ بعِلَّةٍ:
فالمعارضةُ بالنطقِ، مثل؛ أن يستدل الشافعي في جوازِ صلاةٍ لها سبَب في أوْقاتِ النهْيِ بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها، فَلْيُصَلها إذا ذَكَرَها" (2)، فيُعارضهُ الحنفى أو الحنبلي بنَهْي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاةِ في هذهِ الأوقاتِ (3)، ويُقدَمُ خبرَه على العموَمِ، لكونه نَهْياً
__________
(1) أخرجه أبو داود (2652)، وابن ماجه (2842)، وانظر "عون المعبود" 7/ 329، و"إيثار الِإنصاف في آثار الخلاف" لسبط ابن الجوزي: 241، و"التمهيد" للكلوذاني 1/ 12، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 243، و"شرح مختصر الروضة"2/ 577، و"المستصفى" 2/ 148، و"التمهيد في تخريج الفروع" للإسنوي: 413.
(2) أخرجه البخاري (597) ومسلم (1558) وابن ماجه (696) والترمذي (77 - 178) والنسائي 1/ 236، وانظر "فتح الباري" 2/ 268 و" شرح مختصر الروضة" 2/ 577، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 366.
(3) يريد قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمسُ، ولا صلاةَ بعد العصرِ حتى تغيبَ الشمس" أخرجه أحمد 3/ 95 والبخاري (586) ومسلم (827) والنسائي 1/ 278 من حديث أبي سعيد الخدريِّ -رضي الله عنه-.=

(2/168)


مخصَصاً لأوقاتٍ، والخاصُ يَقْضِي على العامَ.
فالجوابُ له من وجهَيْن: أحدهما: أن يُسْقِطَ المعارضةَ بما ذكرنا من وجوهِ الاعْتِراضاتِ، والثاني: إن يُرَجحَ دلِيلَه بما يَجِدُ من وجُوهِ التَرْجيحاتِ.

فصل
فأمَّا الخارجُ على سبَبٍ فضرْبانِ -على ما قَدمنا- مستقِل بنفسِهِ دونَ السبب، والكلامُ عليه كالكلام على السنةِ المُبْتَدَأةِ، وزادَ أصحابُ مالك في الاعتراض عليهَ زيادةً على ما يُتَكَلمُ به على المبتدأ، وهو أن قالوا: هذا مقصور على السبب الذي وَرَدَ فيه، وذلك مثل: استدلالنا في إيجاب الترْتيب في الطهارةِ بقوله: "ابدَؤُوا بما بَدَأ الله بهِ" (1)، فقالوا: هذا وَرد في الَسعْيِ بين الصفا والمَرْوَةِ، وأرادَ به
__________
=وانظر "الرسالة": 316 - 330، و"فتح الباري" 2/ 25 و"شرح الكوكب" 5/ 604 و"المستصفى" 2/ 148 و"شرح مختصر الروضة" 2/ 577 و"إحكام الفصول": 666، و"شرح معاني الآثار" 2/ 186.
(1) هذه رواية النسائي 5/ 236، وصححها ابن حزم والنووي كما في "نَيْل الأوطار" 2/ 56 وصححها الأبادي، في "عونِ المعبود" 5/ 367. وأخرجها الدارقطني في "السنن" 2/ 254.
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في إسناد هذه الرواية: ورجاله ثقات.
لكنَ هذه الرواية شاذَّةٌ، فإنَ مالكاً وسفيان ويحيى بن سعيد القطَان قد اجتمعوا على رواية: "نبدأ". انظر: "زاد المعاد" 2/ 227 ونقل الشوكاني عن ابن حجر قوله: وهم أحفَظُ من الباقين.
ورواية: "نبدأ" أخرجها مالك في "الموطأ" 1/ 305 وأبو داود (1888) =

(2/169)


ابدؤُوا فِعْلا بما بدأَ الله به قولًا، فوجبَ الترتيبُ حيثُ ورد، وفيما ورد، ولا يُحْمَلُ على غيرِهِ إلا بدَلالَةٍ.
والجواب: أن اللفظَ صالح لِإيجابِ الابتداء بكل ما بدا الله به، وصالحٌ أن يكون معللاً بكونِ الله سبحانه بدأَ به، وفي ذلك معقول، وهو أنه ما بدأ به إلا وهو الأوْلى عندَه سبحانه في الفِعْلِ، فإذا جاء في طَيِّ الأمرِ المطلق، اقتضى ما اقتضاهُ الأمرُ المطلق، فلا يُتْرَكُ عمومُ الففْظ لخصوصِ السبب، وسيأتي الكلام عليه في مسائل الخلاف إن شاء الله.

فصل
الثاني: مالا يَستقل بنفسه دونَ السبب، فالذي يخصُّه من الاعتراضِ دعوى الإجْمالِ، وذلك مثل: أن يستدل الشافعي أو الحنبلي في مسألة مُدِّ عَجْوَةٍ بما روي: أن رجلًا أتى النبى - صلى الله عليه وسلم -، ومعه قِلادَة وفيها خَرَز وذَهَبٌ، فقال: إنى ابتَعْتُ هذا بسبعةِ دنانيرَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حتى تُمَيِّزَ" (1).
فيقول الحنفي: هذا مُجْمَل؛ لأنه قضية في عَيْنٍ، فيُحْتَمَلُ أن
__________
=والترمذي (862) واُبن ماجه (3074) من حديث جابر بن عبد الله. وانظر: "المسوَّدة": 130 و "اللمع في أصول الفقه": 38 و"التبصرة": 144 و"شرح مختصر الروضة" 2/ 501 و"أصول السرَخْسي"1/ 200.
(1) أخرجه مسلم (4051)، وأبو داود (3351)، والترمذي (1255)، والنسائي 7/ 279 من حديث فَضالةَ بن عُبَيْد. وانظر "شرح النووي على مسلم" 11/ 20، و"عون المعبود" 9/ 200.

(2/170)


يكون الثمن مثلَ الذَّهب الذي فى القِلادة، فنهاه لذلك، ويحتمل أن يكون أكثرَ، فنهاه لأجلِ الزيادة، لا لأجْل اجتماعِ الذهب وغيْرِه، فوجبَ التوقفُ حتى يُعْلَمَ.
فالجواب عنه: أن هذا زيادةٌ في السبَب المنقولِ، والحكمُ إذا نُقِلَ مع سببه لم تَجُزِ الزيادةُ عليها إلا بدَلالَةٍ والسبب كون الذَهب مع الخَرَزِ، والذهبُ بالذهب، والحكمُ هو النهي، فما ادعَيْتَه زيادةٌ لم تُنْقَلْ، على أن الظاهرَ أن عاقلًا لا يبيعُ ذهباً بذهبٍ مثلِهِ، أو ذهبُه أكثرُ من الذهبِ الذي باعَهُ به ومعه زيادة خرزٍ، فليس هذا البيعَ المعتادَ، بل الظاهرُ أن الذهبَ الذي في القلادةِ أقَل.
ولأنه لو كان المَنْعُ لِمَا ذكرتم لنُقل، ولا يجوزُ أن يُنقلَ مالا يَتعلَّقُ الحكمُ به، ويُسْكَتَ عما تعلقَ به الحكم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَفْصِلْ، ولو كان لِمَا ذكرتم لكان موضِعُ الاستفصالِ إن لم يَعْلَم كيفيَّةَ الحالِ، ومكانُ البيانِ للعلَّةِ إن كان عَلِمَ، ليُجتنبَ أمثالُ ذلك من البيوعِ.

فصل
وأما الفعلُ فيَتَوَجَّهُ (1) عليه ما يتوجه على القولِ من الاعتراضِ، فالأول: أن يبين أن المُسْتدِل لا يقولُ به، وذلك مثل: أن يستدل الحنفي في قتل المسلم بالكافر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مسلماً بكافر، وقال: "أنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بذِمتِهِ" (2).
__________
(1) في الأصل: "فيوجه".
(2) أخرجه الدارقطني، وقال: لم يسنِده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروكُ =

(2/171)


فيقول له الحنبلي أو الشافعي: هذا لا نَقُولُ به، فإن الذي قَتَلَه به كان مُسْتأمِناً، لأنه كان رسولًا، ولا يُقْتل المسلمُ بالرسولِ عندَ أبي حنيفة.
وقد تكلفَ بعضُ أصحابِ أبي حنيفة الجوابَ عن ذلك، فقال: لما قَتَل المسلمَ بالرسولِ، كان ذلك دالاً على قتلِ المسلم بالذِّمِّيِّ من طريق الأوْلى، فنُسِخَ قَتْلُ المسلمِ بالرسولِ، وبقي الذميُّ على مُقْتَضَاهُ الأولَ.

فصل

الاعتراضُ الثاني: المنازعةُ في مُقْتَضاه، وهذا النوع يتوَجه على الفعلِ من طريقين: أحدهما: أن يُنازِعَه فيما (1) فَعَلَ، والثاني: أنْ ينازِعَه في مُقْتَضَى الفعلِ.
فأمَّا الأولُ: فمثل: أن يستدل الشافعي في تَكْرارِ مسح الرأسِ بما رُوي: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تَوَضأ ثلائاً ثلاثاً، وقال: "هذا وُضوئى، ووضُوءُ
__________
=الحديثِ. ورُوي مرسلاً من طريق عبد الرحمن بن البيلماني، وعن عبد الله ابن عبد العزيز الحضرمي، أخرجهما أبو داود في مراسيله. وقد أوفى الحافظ الزيلعى على الغاية في الكلام على هذا الحديث فانظر "نصب الراية" 335/ 4. و"شرح معاني الآثار" 3/ 192 و"إيثار الإنصاف" لسبط ابن الجوزي: 397 و"سبل السلام" 3/ 458 و "نَيْل الأوطار" 7/ 9 و"الاختيار لتعليل المختار" 5/ 27 و"اختلاف الحديث" للشافعي بحاشية "مختصر المزني": 564 و"شرح الكوكب المنير"3/ 263.
(1) في الأصل: "فما".

(2/172)


الأنبياءِ قَبْلي، ووضُوءُ خليلِي إبراهيمَ" (1).
فيقولُ (2) الحنفي: قوله: "توضأ ثلاثاً" معناه غَسَلَ، لأن الوُضوءَ في اللغة هو النظافةُ وما تحصل به الوَضَاءَةُ، وذلك إنما يحصل بالغَسْل دونَ المسْح.
فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن يُبَينَ أن الوضوءَ في عُرْفِ الشرع هو الغَسْل والمَسْحُ جميعاً، وفي اللغة عبارة عن الغَسْل، فوجب أن يُحمل على عرف الشرع، والثاني: أن يُبينَ بالدليلِ من جهة السياقِ أو غيرِه أن المرادَ به الغسلُ والمسح، مثل: أن يقولَ الشافعي: لما كان قولُه في الأولى: "توضأ مرة مرة" رجع إلى مسح الرأس مع غسل الأعضاء وجب أن يكون قولُه: "ثم توضا مرتَيْنِ مَرتينِ" راجعاً إلى جميعِ الأعضاء دون أن يخرجَ الرأسُ من الثانيةِ والثالثةِ، وقد انتَظَمَها الخبرُ.
الطريقُ (3) الثاني: أن يُسَلمَ ما فعلَه عليه الصلاةُ والسلام، لكِنه ينازعُه
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (419) والبيهقي، في "السنن الصغرى" 1/ 53 وفي "السنن الكبرى" 1/ 80 من طريق ابن عمر، وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العَمِّيِّ عن أبيه. قال البوصيري في "الزوائد" 1/: في الإسناد، زيدٌ العَميُ وهو ضعيف. وعبد الرحيم متروك، بل كذاب. وانظر "نصب الراية" 1/ 28، و"الاختبار لتعليل المختار" 1/ 7 و"الكافي" لابن قدامة 1/ 65 و"المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى 1/ 73 و"نيل الأوطار" 1/ 159.
(2) في الأصل: "فَقول".
(3) في الأصل: "فالطريق".

(2/173)


في مُقْتضَى فعلِه، وذلك مثل: أن يستدلَّ الشافعي أو الحنبلي في الاعتدالِ في الرُّكوعِ والسجودِ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك، فيقولُ المُخالِفُ: فِعْلُه لا يَقْتَضِي الوجوبَ (1).
والجواب عنه من ثلاثَة أوْجُه: أحدها: أن يقولَ: فِعْلُه عندِي يَقْتَضِي الوجوبَ، وان لم تُسَلِّمْ، دللْتُ عليه، والثاني: أن يقولَ: هذا بيان لمُجملٍ واجبٍ في القرآنِ، وبيانُ الواجب واجبٌ، والثالث: أن يقول: قد اقْتَرَنَ به أمْر، وهو قولُه عليه السلامَ: "صَلوا كما رَأيْتُمُوني أصَلِّي (2). والأمرُ يَقْتضِي الوجوبَ.

فصل

الاعتراضُ الثالث: دعوى الإجمالِ، وهو مثل: أن يستدلَّ الشافعي في طَهارَةِ المَنِيِّ بأن عائشةَ أمَ المؤمنين رضي الله عنها قالت: كنت أفْرُكُ المنيَّ من ثَوْب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي" (3)، ولو كان نَجِساً لقَطَعَ الصلاةَ.
فيقول الحنفي: هذا مُجْمل لأنه قَضِية في عَيْن، فيحتمل أنه كان قليلًا، ويحتمل أنه كان كثيراً، فوجبَ التوَقُّفُ فيه.
__________
(1) انطْر في هذه المسألة: "أصول السرخسي" 2/ 87 و"المسوَّدة": 76 و"إرشاد الفحول": 74 و"إحكام الفصول": 223 و"شرح تنقيح الفصول": 288 و"التمهيد" للكلوذاني 2/ 316.
(2) أخرجه أحمد 5/ 53 والبخاري (631) والدارمي (1253) من حديث مالك ابن الحويرث.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة: 166. أخرجه ابن خزيمة (290) بنحو اللفظ المذكور

(2/174)


فالجواب: أن يبينَ بالدليل أنه كان كثيراً، لأن عائشةَ احْتَجَّتْ بهذا الخبرِ على طَهارَتِهِ، ؤلَا يجوزُ أن تَحْتَج بما يُعْفَى عنه مع نجاسَتِه، ولأنها أخْبَرَت عن دوام الفعل وتَكَررِه، وَيبْعُدُ أن يستويَ حالهُ في القِلةِ مع تكررِه.

فصل

والاعتراضُ الرابع: المُشارَكةُ في الدليلِ، مثل: أن يستدل الحنفي في جوازِ تَرْكِ قِسْمةِ الأراضي المَغْنُومَةِ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ قِسْمَةَ بعضَ خَيْبَرَ (1).
فيقول الشافعي أو الحنبلي: هذا حُجة، لأنه قَسَمَ بعضَه، وفعلُه يقتضي الوجوبَ، وأما تَرْكُه لِماْ تركَ فيُتأوَّلُ على وَجْهٍ من وجوهِ العُذْرِ، إمَّا لنوائبه أو مهمات الأسلام.
فيجيب الحنفي بأن يَتَأوَّلَ القسْمَ ليَجْمَعَ بينَه ويينَ التَرْكِ، ويقولُ: لستُ أوجِبُ القِسْمَةَ، وفعلُه وتركهُ بيانٌ لجوازِهما، وأصْرفُه عن الوجوب بدليلٍ.

فصل

والاعتراضُ الخامس: اختلافُ الروايةِ، وذلك مثل: أن يستدل الحنفي في جوازِ نكاح المُحْرِمِ بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - تَزوجَ مَيْمُونَةَ وهو
__________
(1) انظر "سنن أبي داود" (3393) و "الكافي" لابن قدامة 4/ 160 و"الأموال" لأبي عبيد: 581 و"الموطأ" 2/ 540 و"الاستخراج" لابن رجب: 228 و"أصول السرخسي" 2/ 8.

(2/175)


مُحرِم (1).
فيقول الشافعيُّ أو الحنبليُّ: رُوي أنه تزوجها وهما حَلالانِ (2). والجواب عنه من وجهين (3): أحدهما: أن يَجمعَ بين الروايتيْنِ إن أمْكَنَهُ.
والثاني: أن يُرَجحَ روايتَهُ على روايةِ المخالفِ.

فصل

والاعتراض السادس: دعوى النسخِ، وذلك مثل: أن يستدل الحنفي في سجود السهْوِ بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ بعدَ السلامِ. فيقول الشافعي: هذا منسوخ بما روى الزهْرِيُّ قال: كان آخِرَ الأمْرَيْنِ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - السجودُ قبل السلامِ (4).
__________
(1) حديث زواجه - صلى الله عليه وسلم - ميمونةَ وهو مُحرم، أخرجه البخاري (5114) ومسلم (1410) وأبو داود (1827) والترمذي (842) والنسائي 5/ 191 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 372: وأما قول ابن عباس- يعني حديثه هذا - فمما استُدرك عليه، وعُد من وَهْمه.
وانظر "فتح الباري"10/ 207 و"نيل الأوطار" 5/ 13 و"شرح معاني الآثار" 2/ 268، و"التمهيد" للكلوذاني 3/ 206.
(2) انظر "سنن أبي داود" (1826) و"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 200 و"مسند أحمد" 6/ 333.
(3) انظر "أصول السرخسي" 2/ 21.
(4) "السنن الصغرى" للبيهقي 1/ 316. وانظر هذه المسألة في "زاد المعاد" 1/ 286 و"سبل السلام"1/ 389. و"بداية المجتهد" 1/ 270

(2/176)


فالجواب للحنفي أن يقولَ: أنا أجْمَعُ بينهما بالتأويلِ، أو (1) يتكلمَ على النسخِ بما يُسْقِطُه (2).

فصل

الاعتراض السابع: التأويل، وهو مثل: أن يستدل الحنفي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجَ ميمونة وهو مُحرمٌ.
فيتأولُه الحنبلي أو الشافعيُّ، فيقول: معناه أنه مُحْرِم بالحَرَمَ لا بالإِحْرام (3)، مثل قولهم لمن كان بتِهامَةَ: مُتْهِمٌ، ومن كان بنَجْد: مُنْجِدٌ، وأَنشدُوا في عثمان رضي الله عنه حيثُ كان بحَرَمِ المدينةِ:
قتلُوا ابنَ عفانَ الخليفَةَ مُحْرِماً ... وَدَعا، فلم يُرَ مثلُه مَخْذُولًا (4)
وَيحْمِلُه على ذلِكَ بالدليل.
فالجواب: أن يَتكلَّمَ على الدليلِ الذي صَرَفَه به عن ظاهِرِه ليُسقِطَه، ويَبْقى له الظاهرُ.

فصل

والاعتراضُ الثامن المعارضة، وذلك يكون بظاهرٍ، وقد يكون بعلةٍ.
__________
(1) في الأصل: "أَن".
(2) وقد أطال الطحاويُّ النَّفَس في مناقشة هذه المسألة في "شرح معاني الآثار" 1/ 440 وانظر "نصب الراية" 2/ 170 والاعتبار في "الناسخ والمنسوخ من الآثار" للحازمي: 115.
(3) انظر "زاد المعاد" 3/ 374، و"غريب الحديث" للخطابي 1/ 323.
(4) من كلمة نفيسةٍ للراعي النميري في "ديوانه": 231.

(2/177)


فالظاهر: مثل أن يستدل الشافعي في رفع اليد بما روى أبو حميد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حذو منكبيه (1). فيعارضه الحنفيُّ بما روى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حيال أذنيه (2).
والجواب أن يتكلم على المعارضة بما ذكر من وجوه الاعتراضات (3)، أو يرجح دليله على ما عورض به بما نذكره في فصل الترجيحات إن شاء الله. وإن كانت المعارضة بالعلة، فالجواب عنه أن يتكلم عليها بما يتكلم على العلل.

فصل
وأما الإقرار فضربان على ما قدمنا (4): إقرار على قول، وهو كقوله عليه السلام في الاعتراض والجواب، واقرار على فعل. فهو كفعله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتراض والجواب على ما قدمنا.

فصل
الاعتراض على الاستدلال بالإجماع، وهو من أربعة أوجه:
أولها: من جهة الرد، وهو من ثلاثة أوجه: أحدها رد الرافضة (5)،
__________
(1) أخرجه البخاري (735، 736، 738) ومسلم "بشرح النووي" 4/ 315 وابن ماجه (862).
(2) أخرجه النسائي 2/ 122 وابن ماجه (867).
(3) انظر "شرح الكوكب المنير" 4/ 628 - 633.
(4) انظر: الصافحة (24).
(5) انظر "المسوَّدة": 315 و"التمهيد" 3/ 224 و"شرح الكوكب المنير"2/ 213 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 14 و"شرح تنقيح الفصول": 324 و"التبصرة في =

(2/178)


فإن عندهم أنه ليس بحجة في شيء من الأحكام، فالجوابُ أن يقال: هذا أصل من أصول الدين، فإذا لم تُسلموا دللناَ عليه بما سنذكره في مسائل الخلاف من هذا الكتاب إن شاء الله (1).
على أنه إن لم يكن حجة عندهم، ففيه حجة، وهو قولُ الإمام المعصوم عندهم، فوجب الأخذ بِه.

فصل
في الثاني منَ الرَّد:
وهو رد أهلِ الظاهرِ لإِجماع غير الصحابة (2).
فالجوابُ: أن ذلك أصل لنا، وندل عليه بما يأتي في مسائل الخلافِ إن شاء الله (1).
__________
= أصول الفقه": 349 و"إرشاد الفحول": 132 و"أصول السرخسي" 1/ 295 و"فواتح الرحموت" 2/ 211.
قلتُ: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" 2/ 213: وروي- أي إنكار الإجماع -عن الإمام أحمد- رضى الله عنه-، وحُمِل على الوَرعَ، أو على غير عالمٍ بالخلافِ، أو على تعذرِ معرفة الكُل، أو على العام الَنطقي، أو على بُعْدِه، أو على غيرِ الصحابة لحصرهم وانتشار غيرِهم. وانظر "المسوَّدة": 315 - 316.
(1) في الجزء الأخير في الكتاب الصفحة 101 وما بعدها.
(2) انظر: "النبذة الكافية في أحكام أصول الدين" لابن حَزْم: 18 و"مراتب الإجماع له": 11 و"المستصفى" 1/ 189 و"الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم.

(2/179)


فصل
في الثالث من وجوه الرَّد:
رَدُ أهل الظاهر لما ظهر فيه قولُ بعضِهم وسكت الباقون، فإنَّ عندهم أن ذلك ليس بحجة (1).
فالجواب أن يقال: إن ذلك حجةٌ، فإن لم يُسَلِّموا نقلنا الكلام إليه لما سيأتي في الخلاف إن شاء الله (2).

فصل
الاعتراض الثاني بعد قبول الإجماع
المطالبة بتصحيحِ الِإجماع، وذلك: مثل أن يستدل الحنبلي أو الشافعي في تغليظ الدية بالحرم بأن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم غلظوا بالحرم.
فيقول الحنفي: هذا قولُ نَفَرٍ من الصحابة وليس بإجماع (3).
فالجواب: أن يُبَينَ ظهورَ الِإجماع بأن يقول: شأنُ القتلِ مما يشيع وينتشر ويُتَحَدثُ به وُينْقَلُ القضاء فيه لا سيما في قضية عثمان رضي الله عنه، فإنه قضى في امرأة قتلت في زحام الطواف بتغليظ الدِّية والطواف يَحضُرهُ الناس من الأفاق، ولم يخالفه أحد، فالظاهر أنَّه إجماع.
__________
(1) انظر "النبذة الكافية": 22، و"المستصفى"1/ 191.
(2) في الجزء الأخير من الكتاب الصفحة 190.
(3) انظر "بداية المجتهد" 4/ 279.

(2/180)


فصل
والاعتراض الثالث
أن ينقل الخلاف عن بعضهم، مثل: أن يستدل الحنفيُّ في توريثِ المبتوتة بأن عثمان رضي، الله عنه ورَّث تُماضرَ بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف بعدما بت طلاقها.
فيقول الشافعيُّ: روي عن ابن الزبير أنه خالف، فقال: ورثَ عثمانُ تماضر، أما أنا فلا أرى توريث المبتوتة (1).
فالجواب: أن يتكلم على قولِ ابن الزبير بما يسقطه، فيسلم له الإجماع.

فصل
الاعتر اض الرابع
أن يتكلم عليه بما يتكلم على متن السُّنة وقد بينَاه.

فصول
الاعتراض على قول الواحد من الصحابة
اعلم أن الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه:
أحدها: الرد، وأنَّهُ ليس بحجة، فيدل المستدلُّ به على ذلك
__________
(1) انظر "إيثار الإنصاف": 179، و"السنن الصغرى" 3/ 126 و "الموطأ": 448.

(2/181)


الأصل، وأنه حُجة بما يأتي ذكره في مسائل الخلاف إن شاء الله (1).

والثاني: أن يعارض قول الصحابي بنص كتاب أو سنةٍ.
فجواب المعارضة: الكلامُ عليهما بما يتكلم على الكتاب والسنة المستدل بهما ابتداءً بما بينا.

فصل

الاعتراض الثالث: أن ينقلَ الخلافَ عن غيرِهِ من الصحابةِ، فتصيرَ المسألةُ خلافاً بين الصحابةِ، فيقفَ دليلُه.
والجوابُ عن ذلك: أن يتكلمَ على ما ذَكَر من قَوْلِ غيرِهِ بما يُسْقِطُهُ، إمَّا بتأويل يجمعُ به بين القَوْلينِ، أو ترجيح لقولِ من استدل به، فيسلم له قَوْلُ من استدل بقولِه من الصحابةِ. والترجيحُ: ان يذكر أنَ المُستدِل بقولهِ كان أعرفَ وأقْرَبَ إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -، أوْ أخص به، أو بكوْنهِ من الخُلفاءِ. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَتي وسُنةِ الخُلفاءِ الراشدين من بَعدِي" (2)، أو يكون استدلالهُ بقَوْلِ الأخصِّ منهم كأبي بكر وعمرَ، فيقول: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاقتداءِ بهما، فقال: "اقتدوا باللذَيْنِ مِن بعدي: أبي بكرٍ وعمر" (3).
__________
(1) انظر الجزء الأخير من الكتاب الصفحة 199.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة 280 من الجزء الأول.
(3) أخرجه الترمذي (3663) وأحمد 5/ 399 وابن ماجه (97) وابن حبان (6902) من طريق حذيفة بن اليمان.

(2/182)


فصول
الكلام على فحوى الخطاب (1)
اعلم أن الاعتراضَ عليه من وجوه:
أحدّها: المطالبة بتصحيحِ المعنى الذي يقتضي تأكيدَ الفَرْعِ على الأصل، وذلك مِثْل: أن يقولَ الشافعيُّ في إيجاب الكفَارةِ في قَتْلِ العَمْدِ: إنَما وجبتِ الكفَارة لتغطيةِ المأثَمِ أو رَفْعِهِ؛ فإذا وجبت في قَتْلِ الخطأ ولا إثْمَ فيه، فافي العَمْدِ أولى (2).
فيقول الحنفيُّ أو الحنبليُّ (3): لا أسلمُ أنَ الكفارةَ وُضِعَتْ لِرَفْعِ المأثَم، وما ذكَرْتَة مِن قَتْلِ الخطأ، فهو الدالُّ على خلافِ ما ادعَيْتَ؛ لأنَ قَتْلَ الخطأ لا مأثَمَ فيه، فكيف تستدل على أنها وضِعَت لِرَفْعِ المأْثَم؛ والأَصْلُ [الذي] به نَبَّهتَ ما وَجَبتْ فيه لمأْثَمٍ، على أَنَّها لو وَجَبَتْ فيما لم يتمحَّضْ مَأْثَمةً مُطبقةً لنوعِ تكفيرٍ أو تطهير، فمن أين لنا أنها تُقاومُ جُرماً كبيراً ومأْثماً مَحْضاً؛
__________
(1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 2/ 189 و"إحكام الفصول": 439 و"شرح تنقيح الفصول": 54.
(2) انظر: "الأم" 6/ 9 و"شرح النووي على مسلم" 11/ 177 و"نَيْل الأوطار" 7/ 7.
(3) انظر "إيثار الإِنصاف": 405 و"تفسير القرطبي" 5/ 331.

(2/183)


فيقولُ الشافعيُّ: الدلالةُ على أنها وُضِعَت لذلك تَسْمِيَتُها بكفارة، وقولُه صلى الله عليه وسلم في عِتْقِ الرقبةِ في عمْدِ الخطأ: "أعتقوا عنه رَقَبَةً، يَعْتِقِ الله بكل عُضْوٍ منها عضْواً منه من النارِ" (1) وإذا لُحِظَ وَضعها وأنها مُتَتَبعٌ بإيجابِها مواضعَ الجرائم والهُتوكِ، فلا تتعدّى قَتْلًا، أو هَتْكَ صيام أو إحرام، أو قَتْلَ صَيْدٍ، أو ارتكابَ محظورٍ في الحج، أو هَتْكَ حُرْمةِ اسمٍ أقسِمَ به، عُلِمَ بذلك أنها وُضعت مُكَفِّرة للذنوب، وشذَّ قَتْلُ الخطأ من بين هذه الجرائمِ فوجَبَتْ فيه، لأنه صورةُ جريمةٍ، لأنه قَتلُ نَفْسٍ بغَيْرِ حقٍّ، وغالبُ الحالِ فيه: أنه لا يخلو من تَفْريطٍ في الاحتياطِ والتأمُّلِ، وإن لم يكن، فهو نادر من الجِنْسِ، فألْحِقَ بالغالبِ كما أُلحِقَ المتودع (2) في سَفَرهِ في استباحةِ الرخص بالغالب من المسافرين في أرباب المشاقِّ، وكالآيسةِ في العِدةِ والطِّفلَةِ ألحقاَ بمَنْ يُتَصَوَرُ في حقَهن شَغْلُ الرحِمِ بإيجابِ العِدَّةِ والاستبراءِ.

فصل

في الاعتراض الثاني
أن يقولَ بموجب التأكيدِ، مِثْلَ أن يقولَ: لما كان القَتْلُ العَمْدُ آكدَ، غُلِّظَ فيه بإيجابِ القَوَدِ.
فيقول الشافعي: القَوَدُ لحَق الآدميَ، ولذلك يسقطُ بعَفْوِهِ، ويؤخَذُ فيه المالُ بصُلْحِهِ، وينحط عن رُتبةِ العقوبةِ بذلك إلى رُتبةِ المُعاوضةِ وأحكامِ الأموالِ، وذلك لا يقضي حق الله سبحانه من القَتْلِ، كما
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 490، 491، وأبو داود (3964) من حديث واثلة بن الأسقع.
(2) أي: المسافر في دَعَةٍ دون مشقة.

(2/184)


لم يَقْضِ في شِبْهِ العَمْدِ والقَتْلِ في الحَرَم تَغْليظ الدِّيةِ عن إيجاب الكفارةِ، فكما لم يَنُب إيجابُ القيمةِ من الصَيدِ المملوكِ عن الجزاءِ، ولا وجوبُ المَهْرِ في الوطْءِ بشُبْهةٍ في نهارِ رمضان عن كفَّارةِ الصوْم، بل حق اللهِ تعالى إذا تغاير لم يسقُط بالتغليظِ بغيرِهِ، كإيجاب الحَدِّ على الزاني في نهارِ رمضان لا يُسقط عنه كفارة الصيام، فأوْلىَ أن لا يُسقطَ تغليظُ حق الآدميِّ هُنا حقَّ الله تعالى.

فصل

والاعتراضُ الثالث: الإِبْطالُ، وهو أن يُبْطِلَ هذا بالردَةِ، فإنَّها أعظمُ في المأثم من قَتْلِ الخطأ: ثم لم تجبْ في الرِّدَةِ مع وجوبها في قَتْلِ الخطأ، فقد بأن أنَها قد تَجِبُ في الأَدْوَن ولا تَجِبُ في الأغْلَظِ.
فالجوابُ للشافعيِّ أن يقول: إن الردَةَ مُحْبطَة للأعمالِ عند كافةِ العلماءِ، فكيفَ كفرُ أعمالُ الخير وهي لا تَقَعُ معها إلَّا مُنْحَبِطَةً، ولأنَّه ليس من جنسِ الردَّةِ من الكُفْرِ ما يوجبُ تكفيراً، والقَتْلُ فيه ما يُوجبُ، وهو الخطأ، وعَمْدُ الخطأ، فنبَّه إيجابُها في أدْوَنهِ على إيجابِها في أعلاهُ، على أنَ الردِّ ةَ قد أوجَبَت لله تعالى قَتْلَ المرتد، فما خلا من عقوبةٍ عظمى لأجْلِ جريمتِهِ العُظْمى.

فصل
في الاعتراضِ الرابع
وهو أن يُطالبَهُ بِحُكْمِ التأكيدَ، وذلك مِثْلَ أَن يقولَ الحنفي أَو الحنبلي لأَحدِ مَذْهَبَيهِ في إزالةِ النجاسةِ بالخَل: إنه إذا جازَ بالماءِ فبالخل

(2/185)


أجْوَزُ لحِدتِهِ وقَلْعِهِ للآثار، فيقول الشافعيُّ: فالأوْلى يُوجبُ أن يكونَ مَذْهبُك في الإِزالةِ بالخلِّ أولى من الماء؛ لأنه أبلغُ، وعندك الماءُ أفضَلُ، فلا يطابقُ مذهبُك دليلك!
فيقول الحنفيُ: إنَّما كان الماءُ أَولى؛ لأَن فيه نصّاً مُتَأوّلًا، فتعلَّقت الفَضيلةُ به لأَجل ذلك (1).

فصل

في الاعتراضِ الخامس
أن يجعلَ التأكيدَ حُجة عليه، وهو مثل استدلال الحنبليّ أو الشافعيِّ في اللواط بأَئه إذا وجبَ الحدُّ بالوَطْءِ في القُبُل مع كوْنِهِ مما يُستباحُ بَعْقدٍ وَبملكٍ، فلأن يجبَ في اللواطِ وهو ممّا لايُستباح بَعْقدِ نكاحٍ ولاملْكِ يمينٍ أولى (2).
فيقول الحنفيُّ: هذا هو الحُجةُ؛ لأنَّ اللواطَ لما كان أغْلَظَ في التحريمِ لم يُجْعَلِ الحد مُطَهِّراً له، ولا مُطيقاً لتكفيرِهِ لتَغَلظِهِ.
فيقول الشافعيُّ أو الحنبليُّ: ليس وَضْعُ الشرْع على ما ذكَرْتَ، بدليلِ أَنَّ العقوباتِ تتغلَّظ بتَغَلظِ الجرائمِ، فقُطِعَ بسرقةِ اَلمالِ، ثم ضوعفَتْ بقطعِ الرِّجْلِ مع اليَدِ بأخذِ المالِ والسعْيِ في الأرْضِ بالفسادِ في
__________
(1) انظر في هذه المسألة: "الاختيار لتعليل المختار"1/ 35 و"إيثار الإنصاف": 46 و"الكافي" 1/ 28 و "السنن الصغرى" 1/ 80.
(2) قارن "بالكافي" 4/ 85 و"زاد المعاد" 5/ 40 و" ملتقى الأبحر"1/ 334 و"إيثار الِإنصاف": 209 و"نَيْل الأوطار" 7/ 116 و" المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" 2/ 317.

(2/186)


حقِّ قاطع الطريق، وتغلظ القَتْلُ فيه بالانحتامِ، وتغلظ حد الثيب على حد الأبكارِ، ولأنَّه لو كان هذا صحيحاً لَما وَجَبَ به التعزيرُ رأساً، بل كان لا يُعاقَبُ باللواطِ حداً ولا تعْزيراً.

فصل

في الاعتراض السادس
أن يُقابلَ التأكيدَ بما يُسْقِطُه: وهو أن يقول: إن كان اللواطُ آكدَ في التحريمِ، إلّا أن الفساد في وَطْءِ النساءِ أعظمُ؛ لأنَه يُفْضي إلى خَلْطِ الأنسابِ وإفسادِ الفراشِ، فهو بالحد أوْلى.
فيقال: الفسادُ في اللواطِ أشد؛ لأنه يقطعُ النسْلَ بوَضْعِ النطَفِ في غيرِ محل الحَرْثِ، وقد أشار الله سبحانه إِلى ذلك فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت: 29]، والمراد به سبيلُ النَسْلِ، والله اعلم (1).

فصول
الكلام على دليلِ الخطابِ
وهو جارٍ مَجْرى الخطاب في أكثرِ الاعتراضات، إلا أن الذي يكثُرُ فيه وجوهٌ أحدُها: الرد مثْلَ أن يستدلَّ الشافعيُّ أو الحنبليُّ في تَبَع الثمرةِ للنخْلِ المَبيعِ قَبْلَ التأبيرِ بما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ باع نَخْلًا بعد أن تُؤبرَ، فثمرتُهَا للبائعِ إلا أن يشرطَها المبتاع (2) " فدلَّ على
__________
(1) "تفسير القرطبي" 13/ 341 و"معاني القرآن" للفراء2/ 316.
(2) أخرجه البخاري (2204) و (2716) ومسلم "بشرح النووي" 10/ 433 =

(2/187)


أنَّه إن باع قَبْلَ أن يُؤبرَ فثمرتُها للمشتري.
فيقول الحنفيُّ: هذا استدلال بدليلِ الخطابِ، وعندنا أنَّ ذلك ليس بحُجَّةٍ.
والجوابُ للشافعيِّ أن يقولَ: هو عندنا حُجَّة، فإِن لم يُسَلِّم، يُقْلَبِ الكلامُ إليه.

فصل
والثاني: أنَّ يقولَ: هذا احتجاجٌ بنَفْسِ الخطاب، فإِنه قال: مَنْ باعَ، و"مَنْ" حرث من حروفِ الشرطِ، فدل على أنَ التأبيرَ شَرْط في كَوْنِ الثمرةِ للبائع، وعندهم أنَّ ذلك ليس بشَرْطٍ.

فصل
والثالثُ: انَ ذِكْرَ الصفةِ في الحُكْمِ تعليل؛ ألا تَرى أنه إِذا قال: اقطعوا السارقَ، كان معناه: لسرقته، وحُدُّوا الزاني، معناه: لزناه، فكذلك لمّا قال: "من باع نَخْلاً بعد أَن تُؤبَّرَ، فثمرتها للبائعِ"، وجب أن يكونَ معناه: لكونها مؤبرةً، وعندهم أنَّ ذلك ليس بعلَّةٍ.

فصل
الاعتراض الثاني
أنَّ يُعارضَه بُنْطقٍ او فَحْوى النطْقِ، وهو التنبيهُ، أو بالقياسِ.
__________
=والترمذي (1244) وابن ماجه (2211) من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-. وانظر "الفقيه والمتفقه" 1/ 212. و"التمهيد" للكلوذاني 2/ 189 "وشرح مختصر الروضة" 2/ 764.

(2/188)


والجوابُ: أن يتكلَّم على هذه المعارضاتِ بما يُسْقِطُها، فيبقى الدليلُ.

فصل
والاعتراضُ الثالث: أن يتكلَّمَ عليها بالتأويلِ؛ وهو أن يُبَينَ فائدةَ التخصيصِ بأن يقولَ: إِنَّما خَصَّ هذه الحالَ بالذكْرِ؛ لأنه مَوضعُ إِشكالٍ، مثلَ أن يستدلَّ الحنفيُّ في إِسقاطِ الكفارةِ في قتْلِ العَمْدِ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فدكَ على أَنه إذا قتله عَمْداً لم تجبِ الكفارةُ (1).
فيقولُ الشافعيُّ أَو الحنبليُّ لإِحدى الروايتين (2): إِنَّما خَصُّوا الخَطأَ بالذكْرِ لأَنه موضعُ إِشكالٍ حتى لايَظُن ظانٌّ أَنه لا يجبُ عليه الكفارةُ لكونه مُخْطئاً، أو خُصَّ بالذكْرِ؛ لأَنَ الغالبَ أَنه لايَقَعُ قَتْلُ مؤمنٍ لمؤمنٍ إِلأ على هذه الصفةِ.
ومثْلُه أيضاً: أنَّ يَستدلَّ الحنفيُّ في المَنْعِ من التيمُّم في الحَضَر بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فدلَّ على أنه إِذا لم يكن في السفرِ لم يتيمَّم (3).
__________
(1) انظر "إيثار الإنصاف" للسبط: 405 و"ملتقى الأبحر" 2/ 282 و" شرح معاني لآثار" 3/ 177.
(2) انظر "الكافي " 4/ 52 و"الروايتين والوجهين" 2/ 298.
(3) "الاختيار لتعليل المختار" 1/ 20 و"مختصر الطحاوي": 20 و"فتح الباري" 1/ 588.

(2/189)


فيقول الحنبليُّ أو الشافعي: انما خص السفر بالذكْرِ؛ لأن غالبَ تعذرِ الماءِ يكون في السفرِ، فأحمله على ذلك بدليلِ كذا وكذا.
والجواب: أن يتكلم على الدليلِ بما يسْقطه، ليسلم له الدليل.

(2/190)


فصول
الكلام على معنى الخطاب وهو القياس
فصل
في عدد الَأسئلةِ التي يُعترضُ بها عليه
قال بعضُ الائمةِ: وُيعترضُ على القياسِ من عشرةِ اوجهٍ.
وقال بعضُهم: يُعترضُ عليه بأربعةَ عَشَرَ سؤالاً:
فالأوَّلُ: الاعتراضُ على وَضْعِ القياسِ.
والثاني: الاعتراضُ بالممانعةِ فيه.
الثالثُ: المطالبةُ بتصحيح العِلَة.
الرابعُ: إِفسادُة بعَدَمِ تأثيره.
الخامسُ: النَقْضُ.
السادسُ: القَوْلُ بموجبه.
السابعُ: القَلْبُ.
الثامنُ: الكَسْرُ.
التاسعُ: فسادُ الاعتبارِ.

(2/191)


العاشرُ: المعارضَةُ.
فالأربعة التي زيدت: منها تفصيلٌ دخل تَحْتَ إجمالِ قولِ الأولِ، والممانعة فيه. فقال مَنْ جعل الأسْئِلةَ أربعةَ عشر: ومن الأسْئلةِ: مَنعُ الحكمِ في الأصْلِ. ومَنْعُ الوصفِ في الأصلِ أو في الفَرْع، وان لا تُوجبَ العلةُ أحكامَها، وفسادُ الوَضْع غَيْرُ فسادِ الاعتبارِ، وأن يُعْتَرَضَ بعلةٍ على أصْلِها. فهذه جملةُ الأَسئلة (1).

فصل
في حدودِ هذه الاعتراضاتِ والأسْئلةِ على القياس، وأمثلتها لينكشفَ للمبتدي ويُسفر للمنتهي، وبيان ما ينبغي أن يكونَ جواباً لها.
فالأوَّلُ: الاعتراض على وَضْعِ القياسِ، إِما على جملته من جهةِ نُفاةِ القياسِ؛ كأهلِ الظاهرِ والإمامية، وهو الرد والمَنْعُ من كَوْنِهِ حُجَّةً في دين الله تعالى.
فالجوابُ عن هذا النوعِ من الاعتراضِ: إقامةُ الدِّلالةِ على كونهِ دليلًا من أدِلةِ الشرعِ بما نذكرُهُ في مسائلِ الخلافِ إن شاء الله.

فصل
والثاني: الرد له من جهةِ مثبتي القياسِ بادّعائهم أنك احَتَجْجتَ به في غيرِ موضعه؛ لأنه دليلٌ ظنيٌ، وقد استدللتَ به في محل لا يُقبَلُ فيه
__________
(1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 99 و"أصول السرخسي" 2/ 118، 232، و"شرح الكوكب المنير"4/ 229 و"الفقيه والمتفقه" 1/ 214 و"الإبهاج في شرح المنهاج" 3/ 84 و"روضة الناظر" 2/ 262.

(2/192)


إلا الدليلُ القَطْعىُّ، وذلك قد يودُ من حنبليٍّ أو حنفى على شافعيٍّ استدلَّ على إثبات: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من الفاتحةِ وكلِّ سورةٍ بأنها مكتوبةٌ في المصاحفِ بلا نكير، مَتْلُوَّة في المحاريب بغيرِ تغيير، فهي كسائرِ الآيِ من السُّوَرِ.
فللشافعيِّ أن يقولَ: إنني غيرُ مستدل بقياس، لكني مستدلٌ بدليل قطعيٍّ، وهو الإِجماعُ.
وتعاطى بعضُهم فقال: إني مستدل بعلةٍ تُوجبُ العلمَ، وهى إجماعُهم على كَتْبِهِم لها في المصاحفِ، وتلاوتهم لها في المحاريب، فإذا كانت علةً تُوجبُ العِلْمَ، ثبتَ بها ما طريقُهُ العِلْمُ كالعِلَلِ العقليةِ (1).
فيقول الحنبليُّ أو الحنفيُّ: أما الإجماعُ على الكَتْب والتلاوةِ فلا يُصَرِّحُ بالإجماع على انها آية مما يُكتبُ في ابتدائهِ أو كُتِبَتْ، بل يجوزُ أن تكون تلاوتُهم لها وكَتْبُهم إياها ابتداءً تبرك، واستفتاح باسمِ الله، كما كان يكتبُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (2) الآية [آل عمران: 64].
فأَمَّا دعوى التعليلِ بعلةٍ قطعيةٍ، فالذي ذكرْتَهُ في الأصْلِ وهو جميعُ آيِ القُرآنِ، فإن كان موجوداً في الفَرْع، فأثْبتْ به ولا تَجْعَلْهُ علةً، وإن لم يكن موجوداً في الفَرعِ، فلا يصحَ قياسُكَ، وما مَثَلُكَ في
__________
(1) انظر "التمهيد"4/ 102.
(2) أخرجه البخاري (4424) ومسلم (1773) من حديث ابن عباس. وانظر
"شرح النووي على مسلم" 12/ 322.

(2/193)


هذا إلا مَثَلُ مَنْ قال: الشعيرُ فيه الربا؛ لانه مَنْصوص على تحريم التفاضلِ فيه، فأشْبَهَ البُرَّ. فإنه قد ادَّعى اجتماعَ الشعيرِ مع البُر في النَّصِّ (1)، فمنعه ذلك من أَن يكونَ قائساً؛ لأنَّه إنَّما يُقاس غيرُ المنصوصِ على المنصوصِ، وفي دُخولِ الشعير مع البُر في النص على تحريمِ التفاضُلِ ما يمنعُ القياسَ وُيغني عن أخْذِ حُكْمِ أحدِهما من الآخَرِ؛ إذ ليس أخْذُ حكْمِ الشعيرِ من البُر بأولى من أخْذِ حُكْمِ البُر من الشعير مع استوائِهما في اشتمالِ النصِّ عليهما وتناوُلِهِ لهما، كذلك إذا كان الإجماعُ قد انعقد في الفَرْعِ كَتْباً وتلاوةً، وفي الأصْلِ كذلك، فلا وَجْهَ للقياسِ، فهذا مما يصَور صورةَ القِياس وليس بقياس صحيح، كما قُلنا في قياس البُر على الشعيرِ، والشعيَرِ على البُر.

فصل
ومن الاعتراضِ: ردُ القياسِ من مُثْبتي القياسِ في محل لا يليقُ القياسُ بإِثباتهِ، كإثباتِ الأسماءِ فيمنع أصحابُ أبي حنيفةَ من إِثباتِها به، وإثباتِ اللغةِ في الجملةِ، وذلك مثل تَسْمِيَتنا النبيذَ خَمرْاً؛ لُمخامرتِه العَقْلَ وتغطيته له وفِعْلِهِ كفِعْلِ الخَمْرِ، وعساهم يقولون: إن الأسماءَ واللغاتِ مفروعٌ منها، وذلك إِما بالإلهام والتعليم من الله
__________
(1) يريدُ حديث عبادة بن الصامت: (إني سمعتُ رسول - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بَيْع الذهب بالذهب، والفضًةِ بالفضةِ، والبر بالبُر، والشعيرِ بالشعيرِ، والتمْرِ بالتَمْرِ، والمِلْحِ بالمِلْحِ، إلْا سواء بسواءٍ، عَيْناً بَعْينٍ، فمن زاد او ازداد فقد أربى". تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: 48.

(2/194)


سبحانه لأدم حيث علَّمه أَسماءَ الأَشياءِ، والأعمالُ كلها داخلة فيها، أو من حيثُ إنَّ أهْلَ اللغةِ لم يتركوا شيئاً إلّا وقد وضعوا له اسماً، فلم يَبْقَ للقياسِ مساغٌ (1).
فيُقال: إِن الإشباعَ في هذا يأتي في مسائلِ الخلافِ أنَّ شاء الله (2)، لكنا لا نُحِب أنَّ نُخْليَ هذه الشبهةَ من جواب، وذلك أنَّ الله سبحانه قد ألْهَمَ آدمَ وعلمه، وكما قال سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وأنزلَ في آخرِ أمرِ النبى صلى الله عليه وسلم وزمانه قولَه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، ثم إِن الحوادثَ التي تجدَّدَتْ فى أعصارِنا بَعْدَهُ عَصْرَاً بعد عَصْرٍ، ولم يَنزل فيها قُرآن، ولا وَرَدَ فيها سُنة مِثْلَ الخُنْثى المُشْكِل، والغَرْقى، والهَدْمى، وميراث المُعْتَقٍ بَعْضُهُ، والنهبى، ومسألة الجد مع الأخوة وما شاكل ذلك كلَّها من دينِ الله، لكن عَنى بتَتِمَّةِ الدين: ما كان بَعْضُ أدلَتةِ نَصاً، وبعضُها استنباطاً، وما خلا كتابُ الله وسُنةُ رسولةِ من أدلةِ الأحكامِ الحادثةِ بما وَفقَ القائسين له من الاستنباطات والِإلحاقاتِ، وأخذِهم للمسكوتِ من المنطوقِ، كذلك علم آدم الأسماءَ بَعْضَها نُطْقاً وبَعْضَها إلْهاماً، وبَعْضَها بأن وَهَبَ له القُوَّةَ لاستنباطِ الاسمِ لما لم يُسَم مما سُمَّيَ بطريقِ المُشاكلةِ والمشابهةِ.
__________
(1) انظر "المستصفى" 2/ 331 و"شرح تنقيح الفصول": 412 و"الإحكام" للآمدي 3/ 210 و "أصول السرخسي" 2/ 156. وانظر في مسألة أصل اللغة: "المُزهر" للسيوطي 1/ 20 - 28.
(2) انظر الصفحة 397 من هذا الجزء.

(2/195)


وأيْضاً، مثال لِإثباتِ اللّغاتِ أيضاً، فمِثْلُ قياسِنا لَفْظَةَ السَّراحِ والفِراقِ على صيغةِ الطلاقِ، فيقال: هذا إِثباتُ لغةٍ بالقياسِ ولا يجوزُ ذلك.
فيكون الجواب الدلالةَ على ذلك الأصْلِ بما سنذكرة في مسائل الخلافِ إِن شاءَ الله (1).

فصل
ومن الاعتراضِ بردِّ القياسِ أيضاً من جهةِ القائلين به في الجُملةِ ردُّ أصحاب أبي حنيفةَ للقياسِ في الحدودِ والكفَّاراتِ والمقدَّراتِ في الجُملةِ، وَاعتلالُهم في ذلك بأَنَّ طريقَ ذلك العِلْمُ بمقاديرِ مراتبِ الإجْرام، ولا يُعْلَمْ ذلك بالأماراتِ، على (2) شافعيٍّ أو حنبليٍّ قاسَ اللِّواطَ عَلى الزنا في ايجاب الحدِّ (3)، وقولهم: إنَّه لا طريقَ إِلى معرفةِ ذلك؛ لأنَّه إِنَّما يُعلمُ بالَعِلْمِ بمقْدارِ الجُرْمِ وما يستحق عليه من العقوبةِ، ولا يعلمُ ذلك إِلّا الله سبحانه.
فيقول القائسُ: يجوزُ ذلك عندنا، وإِن لم تُسَلِّمْ، دَلَلْتُ عليه.
ونذكرُ ما وضعناه من الأدلَّةِ في كتابنا هذا في هذه المسألةِ في مسائل الخلافِ (1)، ونذكر مناقضاتِهم فيما قاسوا فيه من هذا القبيلِ، كقياسِهم الردَّ في قُطَّاع الطريقِ في استحقاقِ الحَدِّ على الرد في الجهادِ في
__________
(1) انظر الصفحة 403 من هذا الجزء.
(2) على شافعي: متعلق "ردُّ أصحاب".
(3) انظر في هذه المسألةِ: "نَيْل الأَوطار" 7/ 117 و"الكافي" لابن قدامة 4/ 85 و"عون المعبود" 12/ 153. و"عارضة الأحوذي" 6/ 240.

(2/196)


استحقاق السهْم، وقياسِهم الأكلَ على الوَطْءِ في شَهْرِ رمضان في ايجابِ كفَارةِ الصَوْم.

فصل
ومن الاعتراض: ردُّ القياس من جهةِ مثبتي القياس، كردهم (1) القياسَ في إِثباتِ حَيْضِ الحامل بالقياسِ، وهو أنه دَم رأتهُ في وَقتِهِ على صفتهِ ونَعْتِهِ فكان حَيْضاً كاَلدم الذي تراه غير الحامِل. فيقولُ الحنبلي أو الحنفيُّ: هذا امر طريقُهُ الوجودُ فلا يثبتُ بالقياسِ، وما ذلك إلّا بمثابةِ مَنْ قال: هذا شَخْص أسمر طويلٌ. فكان ولداً لزيدٍ كابنهِ فُلانٍ وكان مُشابهاً له في الصورةِ.
فالجواب: إِنه لا يمتنعُ أن يجعلَ صاحبُ الشريعةِ أمارَةً هي عَلَم على كوْنِ الدمِ حَيْضاً، ودِلالةً على كَوْنِ الدمِ له حُكْمُ دَم الحيضِ كما أنَه جعل وُجودَ سنين معلومٍ وقَدْرٍ معلومٍ ولَوْنٍ معلومِ، مِثْلَ أنَّ نقولَ: إِذا رأتْ بنتُ عشر سنينَ دماً فهو حَيْض، ومِثْل مَا قال في الصفة: "دَمُ الحيض أَسْوَدُ يُعرفُ " (2)، ومثل ما قال في العَدَدِ: "تحيضي في عِلْمِ الله ستاً اوسَبْعاً كما تحيضُ النساءُ ويَطْهُرْنَ لميقاتِ حَيْضِهِنَ
__________
(1) في الأصل: ردهم.
(2) يُريدُ قولَه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبَيْش وكانت تُستحاضُ: "إذا كان دمُ الحيضِ فإنه دم أسودُ يُعرَفُ، فإِذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأخَرُ فتوضئي وصلي". أخرجه أبو داود (304) والنسائي 1/ 123 و 183 - 184. وانظر "الكافي" لابن، قدامة 1/ 42. و"شرح معاني الآثار" 1/ 103.

(2/197)


وطُهْرِهِن" (1).

فصل
ومن جُملةِ رَد القائسين للقياس: اعتراضُ أصحاب أبي حنيفةَ على مَنْ أثبتَ البدلَ بالقياسِ، كإثْباتِ البدلِ لدم الإَحصارِ بأنه هَدْي متَعلِّق بالإحرامِ، فأشْبَهَ هَدْيَ التمتعِ.
وقَوْلِهم: إن البَدَلَ ما سَد مَسَد المُبْدَلِ، وذلك لا يعلمُهُ الأ مَنْ يعلمُ مقدارَهما من الأصلح.
والجوابُ: إِنه يثبت بالقياسِ عندنا، ويدلى عليه بما سنذكره في مسائلِ الخلافِ (2) إنْ شاءَ الله، ثم يُناقَضون بما أثبتوه من الإِبدالِ بالقياسِ كوَضْعِهم.

فصل
ومن الاعتراضِ برد القياسِ من القائلين به: ردُ اصحاب ابي حنيفةَ للقياسِ في إثباتِ المُقدرات مثل قولِ الشافعي في حد البَلوغ: السنَةُ السابعةَ عَشْرَةَ يُحكم فيها ببلوغِ الجاريةِ، فحُكم فيها ببلوغِ الغُلام في الثامنة عشرة.
فيقولُ الحنفيُّ: هذا إثباتُ تقدير بالقياسِ، والتقديرُ لا يُعرَفُ له
__________
(1) أحرجه الترمذي (128) من حديث حمنة بنت جحش. وقال: حديث حسن صحيح.
(2) في الجزء الأخير من الكتاب.

(2/198)


معنى فيُقاسُ به، وإنما بالتوقيفِ (1).
فالجوابُ أن يُقالَ: عندنا يجوزُ إثباتُه بالقياسِ، وإن لم تُسَلم، دلَلْتُ عليه. ويُناقَضون بتقديرهم خَرْقَ الخُفِّ بثلاثِ أصابع بالقياسِ على المَسْحِ حيث قال الراوي: كان مَسْحُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً بالأصابع (2)، وقَدروا العَدَد في الجمعةِ بأربعةٍ بالقياسِ (3).

فصل
ومن الاعتراضِ بالردِّ له أيضاً: رد اصحابِ أبي حنيفةَ له إذا زادَ في نَص القرآنِ، مثل قياسِ الحنبليُّ أو الشافعيِّ في إيجاب النيةِ في الوضوء على التيمُّمِ، فيقول: هذا قياسٌ يتضمن الزيادةَ في نَص القُرآن (4)؛ لأن القرآنَ نص علي غَسْل الأعضاءِ المخصوصةِ، وهذا القياسُ يزيدُ فيها ايجابَ النيةِ، والزيادةُ في نَص القرآنِ نَسْخٌ له، ولا يجوزُ نَسْخُهُ بالقياس.
فالجوابُ: أن ذلك ليس بنسْخ، ويدلُّ عليه إذا منعوا، بما نذكرهُ من الأدلةِ على ذلك الأصل في مسائلِ الخلافِ (5)، ويُناقَضون بزياداتِهم في النصوصِ بالأقيسةِ، من ذلك قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] فزادوا فيه اعتبارَ الفَقْرِ، فقالوا: إنَّ كانوا فقراءَ، بدليلِ القياسِ (6).
__________
(1) "شرح مختصر الروضة" 3/ 553.
(2) انظر "الاختيار لتعليل المختار" 1/ 24 و"الإحكام" للباجي: 547.
(3) انظر "المغني" 3/ 204.
(4) انظر "التمهيد" 4/ 105 و"أصول السرخسي"2/ 283.
(5) انظر 4/ 241.
(6) التمهيد 41/ 105.

(2/199)


فصل
ومما اعترضوا به من رَدِّ القياسِ مع قولهم بالقياسِ في رَد الجُمَلِ، وذلك مثل قياسِنا وأصحاب الشافعيِّ في إجازةِ المساقاةِ وإثباتِها على المضاربةِ، فيقول الحنفىُّ: المساقاةُ أصل من الأصولِ، وجُمْلةٌ من الجملِ، وليس في قوةِ الرأيِ إثباتُ جُمْلَةٍ به، كما لا يجوز اثباتُ صلاةٍ سادسةٍ بالقياسِ (1).
والجواب: أنَّ عندنا يجوزُ ذلك كما يجوزُ إِثباتُ التفصيل، وان لم يُسَلم ذلك، دلَلْنا عليه بما سيأتي في مسائلِ الخلافِ إن شاءَ الله (2).

فصل
ومن الاعتراضِ برد القياسِ أيضاً: مُخالفةُ دليل هو أقوى من القياسِ، مثل أن يقول: هذا قياس يخالفُ دليلاً مَقْطوعاً، مثل نَص قرآنٍ او سُنَّةٍ متواترةٍ او الاجماع، فيُجيبُ المعللُ عنه بأن يُبَينَ أنَّ ما اعتقده نَصاً مقطوعاً به ليس على ما اعتقده، وإنما هو ظاهِرٌ يُحتمل أو عُمومٌ، فيصرفه عن ظاهرِهِ وعُمومهِ بالقِياسِ، ولا جوابَ عنه إلا هذا، فإنه متى ثبتَ أنَ ذلك نَص أو دليلُ قَطْع في الجملةِ، سقط حكْمُ القياسِ، فلم يكن له مساغٌ في إثباتِ الحكْمِ (3).
__________
(1) انظر "الإحكام" للباجي: 549.
(2) انظر 4/ 240.
(3) "التمهيد"4/ 156.

(2/200)


فصل
ومن الاعتراض بردِّ القياس من مُثْبتي القِياسِ قولهم: إِنه يُقابلُهُ قولُ الصحابى ويُخالفُه، فلا يُعْتَد بقياس يُخالفُه قَوْلُ الصحابي.
فيقول الشافعيُّ: دَعْ تَقابُلَهُ، وهل هو إلا قَوْلُ مجتهدٍ يُصيبُ تارةً ويُخطىءُ أخرى، والقياسُ دليل من أدلّة الشرعِ، وينقل الكلام إلى ذلك الأصل، وإن أمكنه أن يُوافِقَ بين قَوْلِ الصحابيِّ وبينه بنوع بيانٍ، أو يتأوّلَ قَوْلَ الصحابي بما يُخرجه عن مخالفةِ القياسِ فعل (1).

فصل
ومن الاعتراضِ برد القياسِ من القائلين به في الأصلِ، ردُّ أصحاب أبي حنيفةَ القياسَ إِذا تضمَّن تخصيصَ العموم ابتداءً، أعني العمومَ الذي لم يُخَصَّ، وذلك مثل استدلالِ الشافعيِّ على أنَّه لا تنقضي عِدَةُ امرأةِ الصغيرِ بوَضْعِ حَمْلِها بعد موتِه، بأَنه حَمْلٌ مُنْتَفٍ عنه قَطْعاً ويقيناً فأشْبَهَ الولدَ الذي ولَدَتْة لِدُونِ ستَّةِ أشْهُرٍ منذ تزوجها (2).
فيقول الحنفيُّ: هذا تخصيصٌ مبتدأ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، بالقياسِ، وعندي لا يجوزُ.
فيقول الشافعي: هذا عندي جائز؛ لانَ المعنى الذي جازَ به تخصيصُ العمومِ الذي قد خُصَّ بالقياسِ إنما هو لان القياسَ يتناولُ
__________
(1) انظر "التمهيد"4/ 106.
(2) "التمهيد"4/ 106، وانظر "مختصر المزني": 218.

(2/201)


الحُكْمَ بصريحِهِ، والعمومُ يتناولُ الحكْمَ بظاهرهِ، وهذا موجودٌ في العمومِ المبتدأ.
ويمكن أيضاً أن يُبَينَ أن اللفظَ مخصوصٌ في الحَمْلِ الذي قِسْنا عليه والحَمْلِ الحادثِ بعد الموتِ، فلم يكن القياسُ الذي ذكَرْناه مُبْتَدأً به التخصيصُ، إذ قد بان تخصيصه فيما ذكَرْنا من الموضعَيْن.

فصل
ومن هذا القبيلِ: رد مَنْ لا يرى تَخْصيصَ العموم بالقياسِ رأساً إذا قابله العمومُ.
فيقول المستدلُّ: يجوز ذلك؛ لأن القياسَ دليلٌ شرعيٌّ خاص فى الحُكْمِ مصرحٌ به فخُصَّ به العمومُ كخبرِ الواحدِ (1).

فصل
ومن ذلك: أن يُعْتَرضَ على الأصلِ بأنَه لا يجوزُ القياسُ عليه، مثل استدلالِ الحنفيِّ على جوازِ صوم شهرِ رمضان بنيَّةٍ من النهارِ (2) بالقياسِ على صَوْم يومِ عاشوراء، فيَقول المُعترضُ: إن صَوْمَ يوم عاشوراء إنْ كان واجَباً فقد نُسِخ، فلا يجوزُ القياسُ عليه.
فيقول المستدل: إنَّما نُسِخَ وُجوبُه دون إجزائه بنيّهٍ من النهارِ، والأَولى
__________
(1) انظر"شرح الكوكب المنير" 3/ 379 و"أصول السرخسي" 1/ 141 و"فواتح الرحموت" 1/ 357.
(2) انظر "ملتقى الأبحر" 1/ 197 و"الاختيار لتعليل المختار" 1/ 126 و"رحمة الأُمة" 194 و"إيثار الإنصاف": 77 و"التمهيد" 4/ 108

(2/202)


أنْ يقال ما ذكرْته أنا في النظرِ. خاطراً، وهو: أنَّ صَوْمَ يومِ عاشوراء أول ما شُرِعَ بالنقلِ الصحيحِ،- حيث دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجدهم يصومونه، فسألهم في أثناء النهار عن صومهم له فقالوا: هذا يومٌ نجى الله فيه موسى، وساقوا فضائِلَه فقال: "أَنا أَحق بأخي موسى"، أو قال: "بصِيامهِ" ثم صامَ ذلك اليَوْمَ وأمر بصيامه (1)، فلا يخلوا أن يكونَ فَعَلَ ذلك إيجاباً بوحْيٍ نزل بإيجابهِ فقد حَصَلَ الوجوبُ بالوحْي (2) حيث أشْعِرَ بحالهِ في أثناءِ اليَومِ، فما تأخرت النية عن حالِ الوجوبِ، وما هذا سبيلُه كذا تكونُ نيَّتُه، كاستدارةِ أهلِ قُباء إلى الكعبة حيث سمعوا وإن كان الاستقبالُ شَرْطاً من ابتداءِ الصلاةِ المفروضةِ، لكنْ لمَا لم تُفْرَضْ على أولئك إلا في أثناءِ الصلاةِ؛ لوجودِ سَبَب الِإيجاب في أثنائِها، قُنع منهم باستقبالِها في أثناءِ الصلاةِ، فهذا علىَ أشد ما قَيل، وأنَه وَجَبَ لكن على هذه الصفة، وصَوْمُ شهرِ رمضانَ ليس من هذا القبيلِ، بل هو صَوْمٌ وُجِد سَبَبُ إيجابه قَبْلَ الشروع فيه، فكانت النيةُ فيه على حُكْمِ وَضْعِها في الواجباتِ كلَّها من الصوَم وغَيْرِهِ، وبهذا القَدْرِ انقطع القياسُ عليه.
وإن سَلكْنَا مَسْلَكَ أصحابِنا، فإنهم والمحققون من أصحاب الشافعيِّ لم يُقِروا بوجوبهِ وإنما كان تطوُّعاً، والتطوعُ ما زال في شَرْعِنَا نِيتُهُ من النَّهارِ، ولقياسِهم عليه جوابٌ يخُصُّهُ.
__________
(1) أخرجه البخاري (2004) و (3397) ومسلم "بشرح النووي" 8/ 250 وأبو داود (2444) من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-.
(2) في الأصل: "والوحي": ولعل الجادَةَ ما أُثْبِتَ.

(2/203)


فصل
ومن ذلك ردُّ القياسِ لِما ثبتَ من تَخْصيصِ أصْلِهِ بحكْمٍ يختصُّهُ، وانقطاعهِ عن الفَرْع، مِثْلَ قياسِ الحنفيُّ عَقْدَ النكاح بلَفْظِ الهِبَةِ على نكاحِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (1)، فيقول: نكاحٌ عُقِدَ بلَفْظ الهبةِ فكان صحيحاً، كنكاحِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
فيقول الحنبليُّ أو الشافعيُّ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً بذلك دون أمَتهِ، فينقطع القياسُ عن أصله كما انقطع في باب عدَدِ المنكوحات. فيقول المستدلُّ: إنً حكمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمتِهِ واحَدٌ في حُكم الأصلِ إلا أنْ تَرِدَ دلالةُ التَخْصيصِ، ولا يجوزُ أن يَرِدَ هذا السؤالُ ممن يَحْتَجُّ بافعالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها كأقوالِهِ، وهل يحتجُّ بأفعالهِ إلا مَنْ يجعلُهُ مشارِكاً في التكليفِ وسائرِ أحكام الشَّرع، ولو كان مخصوصاً في أصْلِ التكليفِ لانقَطَعْنا عن الاقتداَءِ به، إَلا أن تقومَ دلالةُ اتباعهِ والاقتداءِ به في بَعْضِ أحوالهِ، فدعواها هنا تحتاجُ إلى دلالةٍ، وإلا فَنَحْنُ باقون على حُكْم الأصْلِ وهو وجوبُ المساواةِ في جميعِ أحكامه. فيحتاج المُعترِضُ أن يتكلَّف الدلالةَ على تَخْصِيصه بذلك بالآية، وهو قولُه سبحانه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} إلى قوله {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]، فيقع الترجيحُ في تردُّدِ الهاء إلى الهِبَةِ أو إلى المرأةِ الموهوية وتخصيصه بها زَوْجةً من
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 109 و" أصول السرخسي" 1/ 179 و "إيثار الِإنصاف": 148، و"مسند" أحمد 5/ 330، و"فتح الباري" 10/ 257، و"سنن النسائي" 6/ 91.

(2/204)


دون سائرِ المؤمنين (1).

فصل
ومن هذا القَبيلِ وهو دَعوى تخْصيصِ الأصل بما يُقطعُ عنه الفَرْعُ أن يُقاسَ عليه: قياسُ أصحابنا، وأصحاب الشافعيِّ في بقاءِ حُكْمِ الإحرام بَعْدَ الموتِ للمُحرم مِنَّا على المُحرِمِ الذي وَقَصَتْهُ ناقتُهُ في عَصرِاَلنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى في حقه بما قَضى من النَّهْيِ عن تَخْميرِ رأسه، وتكفينهِ في ثَوْبَيْهِ، ونَهْيِهم أن يُقربوه طيباً، فيقول الحنفيُّ: ذلك المحرمُ كان مخصوصاً ببقاءِ إحرامه، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - أخبرَ أنَّه يُبْعثُ مُلَبياً (2)، ولا نَجدُ ذلك في المُحرم مِنَّا إذ لا يشهدُ له الصادقُ ببعْثهِ مُلَبياً، فبقيَ على الأصْلِ من سُنَّةِ بني آدم المنطوقِ بها من جهةِ الملائكةِ عن الله سبحانه حيثُ غسلوا أبانا آدمَ صلى الله عليه.
فيقول المستدلُّ: بل العِلَّةُ الحالُ التي كان عليها، وهي الِإحرامُ ومَوْتة عليه، ويكون التجنُّب وإخبار النبيِّ ببَعْثِهِ مُلَبيا أو ملبِّداً بسبب مَوْتِهِ على الإِحرامِ وتَجْنيبهم له ما يتجنَبُه المُحْرم، كما قال في شهداءِ أحد: "زملوهم في كلومِهم ودمائِهم، فإنَّهم يبعثون يَوْمَ القيامةِ
__________
(1) انظر في هذه المسألة: "تفسير القرطبي" 14/ 212، و"تفسير الخازن" 3/ 474، و"الخصائص الكبرى" للسيوطي 2/ 246، و"المُحلَّى" 9/ 464.
(2) يريدُ ما أخرجه البخاري (1266) من حديث ابن عباس قال: بينما رجلٌ واقفٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفةَ إذ وقع من راحلته فأقْصَعَتْهُ- أو قال: فأقْعَصَتْهُ- فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ، وكفنوه في ثوبَيْن، ولا تُحنطوه ولا تُخَمَّروا رأسه، فإنَّ الله يبعثه يوم القيامة ملبيْاً". وأخرجه مسلم بشرح النووي "8/ 368 والنسائي 5/ 195، وانظر التمهيد 4/ 110.

(2/205)


وأوْداجُهم تَشْخُبُ دماً، اللونُ لون دمٍ، والريحُ ريح المِسْكِ" (1)، فكأنَّ دَفْنَهُم بآثارِ الشهادةِ أَوْجَبَ لهم ذلكَ وعمَّ شهيدٍ بعْدَهم، ولم يَجْعَلْ ذلك لهم خاصّةً، ويجعل ما أَخْبَرَ به عنهم يومَ القيامةِ خِصّيصَةً تخصُّهم، ولا فَصْلَ بين القِضَّتَيْن.
ولأصحابِ أبي حنيفةَ أن يقولوا: لَفْظُ التعليلِ يُقَدَمُ على الحالِ، ونحن نُعَلِّلُ بقَوْلهِ: "فإنَّه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ مُلَبِّياً" ولَفْظ التعليلِ أحق بتعليقِ الحكمِ عليه من الحالِ، وخرج الشهداء بدلالةِ الِإجماعِ وبأنَّ الشهادةَ لا يثبتُ حُكمها إلّا بَعْدَ المَوْتِ، إذ هي حُكْمُ الموتِ على صفةٍ، وهو القَتْلُ من [أجل] إعلاءِ كلمةِ الله، والِإحرامُ عبادةٌ تختصُ الحياةَ، والله أعلم.

فصل
ومما يُرَدُ القياس به أن يُقالَ: إنَك قِسْتَ على أصلٍ، الخلاف فيه كالخِلافِ في الفَرْعِ، ومثالُ ذلك: أنَّ يقيسَ أصحابُ الشافعيِّ الخِنْزيرَ على الكَلْبِ في وُجوبِ العَدَدِ في الغَسْلِ من وُلوغهِ (2).
فيقول الحنفيُّ: أَنا أُخالفُك في وُلوغِ الكلبِ، كما أُخالفُكَ في وُلوغِ الخِنزيرِ، ومن قاسَ مخْتلِفاً على مُخْتَلِفٍ، فقد ادَّعى في الأصلِ كما ادَّعى في الفَرْعِ، ولا دلالةَ على دَعْواه منهما فيما استدلَّ.
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 431، والنسائي 4/ 78 و 6/ 29 من حديث عبد الله ابن ثعلبة.
(2) انظر "شرح النووي على مسلم" 3/ 176، وشرح "معاني الآثار" 1/ 21، و"فتح الباري"1/ 370، و"عون المعبود"1/ 137.

(2/206)


فيقول الشافعيُّ: إنَّ الكَلْبَ هو الأصْلُ من حيثُ وَرَدَ الخبرُ في غَسْلِ وُلوغهِ، فإذا صحَ الخَبرُ فيه وقد صحَّ، كان هو المنطوقَ، وغيرُهُ مسكوتاً عنه، وهذا شَرْطُ القياسِ، فلا علينا من مَنْعِكَ وتَسْليمك بعد أنَّ صحَّ الحديثُ في النُّطقِ بالعَدَادِ، ومنازعتكَ لا تُخْرِج الخَبرَ انَ يكونَ دليلاً، بل الخَبَرُ يَقْضي على مَنْعِكَ ومُنازعتِك، فأنا ادلُّ به على مَنْعِكَ.

فصل
وما (1) يغمضُ من فَسادِ القياسِ ذكرته لِتَحْذَرَ منه ومن أمثاله وتَنْهى عنه مَنْ سَلَكَهُ.
وتخليصُ الفَرْعِ من الأَصْلِ فيه أَن يقيسَ على أصْلٍ ليس فيه دليلٌ يخصُّه. وإنَّما هو ومسألةُ الفَرع التي هي موضعُ الخلافِ فَرْعانِ أو أصلان، فلا يجوزُ قياسُ أحدِهما على الآخَر؛ لأنَ ليس أحدُهُما بأن يكونَ أصلاً بأوْلى من الآخَرِ، ولا كَوْنُ أحدهما فَرْعاً بأوْلى من الَآخَرِ لِتَساوي الأَصْلِ والفَرْعِ فما الذي أحْوَجَ أحدَهما إلى الَاخَرِ؟
مثالُ ذلك من الأقيسَةِ الفاسدةِ: أنَّ يُسأل شافعيٌّ عن البُقول: هل يَجْري فيها الربا؟ فيُجيبُ بإثباتِ الرِّبا، فإذا طولبَ بالدليلِ قاسَ البُقولَ على الفواكهِ، فإذا نازَعَه المخالفُ في الفواكهِ كما نازعه في البُقولِ فَزِعَ إِلى الدلالةِ على ذلك بَقْولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الطعامَ بالطعامِ إِلّا مِثْلًا بمِثل" (2)، أو يستدلّ بقياسِ الفواكهِ على البُرِّ إِذا
__________
(1) في الأصل: "وممّا". ولعلَّ الجادة ما أَثبتناه.
(2) أخرجه مسلم "بشرح النووي"11/ 22 من طريق مَعْمر بن عبد الله، وقال=

(2/207)


سُئِل عن الرِّبا في الفواكه، ويعَلِّلُ بأنَه مطعوم، فهذا مّما لا يدخلُ في الأَقْيسَةِ، لاستواءِ الأصلِ فيه والفَرْع في الدلالةِ، فلا مَزِيَّةَ لأحدِهما فيكونَ بتلك المَزِيةِ أصْلاً، ولَا يَنْحَطُّ أحدُهما عن الأخرِ فيكونَ بذلك الانحطاطِ فَرْعاً، فهو كَمَنْ أرادَ أنَّ يُوَزَعَ الأعيانَ المَنْصوصَ عليها فيجعلَ الشعيرَ مَقيساً على البُرِّ بعِلَّةِ الطعْمِ، وذلك فاسدٌ لِما ذكرْنا، كذلك هذا. والعلَةُ في الجميعِ أنَّ الدلالةَ شَمَلَتْ الشعيرَ والبُرَّ وهو النَصُّ. كذلك النص في الطعْم شَمَلَ الفاكهةَ والبُقولَ، فَتجنَبْ من الأَقْيسَةِ ما هذا سَبيلُهُ، فَمِثْلُ هَذا القياسِ مَرْدودٌ، لفسادهِ، فلذلك ذكَرْتُه في جُمَلةِ فُصول الردودِ.

فصل
فإِن قاسَ قائسٌ على أصلٍ مُجْمَعٍ عليه، فقال المُعترضُ: إنَ الِإجماعَ إِنَما يصدرُ عن دليلٍ. فيحتاجُ أنَّ يُبَينَ الدليلَ، فعساه يَشْتَمِلُ على الفَرْعِ كاشتمالهِ على الأصْلِ، فلا يكونُ في القياسِ فائدة، فيكون من قبيلِ القياس الأولِ، وهُو من الأقْيسةِ الرائجةِ التي يغترُّ بها مَنْ لا يَعرِفُ عُمَدَ الأقَيسَةِ وشروطَها، وهذا من الانتقادِ الذي يَغْفُلُ عنه كثيرمن الفُقهاءِ ممن لا مُعاناةَ له بهذا العِلْمِ فَضْلاً عن المُتَفقِّهةِ.
فالجواب: أَنَّ دليلَ الأصلِ [لا] (1) يجوزُ أَن يكونَ نَصّاً، لأَنَّه لو كان نَصّاً لَما خَفِيَ عن المُجتهدين وغيرهم. لم يَبْقَ إِلّا انَه في الظاهرِ علَّةُ
__________
= المِزي في "التحفةِ" (11482): انفرد به مسلم وأخرجه أحمد 6/ 400، والبيهقي في "السنن الصغرى"2/ 244 من الطريق نفسِها. وانظر "مختصر المزني": 76، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 87.
(1) زيادة يقتضيها السياق.

(2/208)


الحُكْمِ، فإِذا اجتمعا في علَّةُ الحكْمِ فهو المُصَححُ للقياسِ. والظاهرُ أنَ الإِجماع حصل لاتفاقهما في عِلةِ الحكمِ.
وقد قال إِمامٌ في الجدل والفِقْهِ في الجَواب عن هذا الإِشكالِ: إِن دليلَ الأصل إِنْ شَمَلَ الفَرع، أو وقع الإِجَماعُ فيه كما وقع في الأصْلِ، فثبت انَه يخصه، وان القياسَ، جائز عليه.

فصل
ومن جُملةِ هذا القبيلِ الذي يَرد به القياسَ بَعْضُ مَنْ يقول بالقياسِ: أنَّ يقولَ المُعترضُ على القياسِ للقائسِ: إِنك قد قِسْتَ على موضعِ الاستحسانِ، وموضعُ الاستحسان مَخْصوصٌ، وكل مَخْصوصٍ فلا يُقاس عليه؛ لان المَخْصوصَ مُقْتَطَعٌ، ومَنْ جَمَعَ بَيْنَ مُقْتَطَعٍ وغَيْرِهِ، رامَ إزالةَ اقتطاع الشَرْع، فكان بمثابةِ مَنْ قَطَعَ بَيْنَ ما جمع الشَرْعُ بينهما (1).
فالجوابُ عنه أن يُقالَ: أنَّ القياسَ عندنا جائزٌ على كلِّ أصل يُوجَدُ فيه علَّةُ الحُكْمِ، ولأنَه اذا ثبتَ بالخَبَرِ أنه الحُكْمُ، صارَ أصلًا وكان القياسُ عليه أولى من القياسِ على غَيْرِهِ، وإِذا كان مَخْصوصاً عندكَ من القياس لم يَمْنَعْ ذلك كَوْنَه أصْلاً، وقد قاسَ أبو حنيفةَ جماعَ الناسي في صوم رمضان على أكْلِ الناسي (2)، وإن كان إسقاطُ القضاءِ عن الآكلَ ناسياً ليس يُقاسُ، لكنه استحسانٌ، وسنُشْبِعُ إِن شاءَ الله الكلامَ على ذلك في مسائلِ الخلافِ (3).
__________
(1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 111.
(2) انظر "الاختيار لتعليل المختار"1/ 133 و"رحمة الأمة": 199.
(3) في الجزء الأخير من الكتاب.

(2/209)


فصل
ومن هذا القبيلِ أيضاً: أنَّ يقولَ المُعترضُ على القياس: إنَك جَعلتَ الاسمَ عِلَّةً، مثل قَوْلنا: كلب أَو تُرابٌ، فيقولُ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ (1): قد قدمْنا القولَ في جواز ذلك، وأنَّ الأسماءَ يجوزُ أن تُجعلَ عِلَلاً بالأحكام الشرعيةِ، وسندلُّ في مسائلِ الخلافِ إِن شاءَ الله على هذا الأصْلِ (2).

فصل
ومما يردُّون به القِياسَ أيْضاً اعتراضُ من اعترضَ على القياسِ بأَنَه نَفْى للاسمِ، ونَفي الاسمِ لا يجوزُ أن يُجعلَ علَّةً للحُكْمِ، مِثلَ قَولِنا وقولِ أصحاب الشافعيُّ في النورةِ والجِصِّ: ليس بترُاب، أو لا يَقَعُ عليه اسمُ التُّرابَ، فيقول الحنفي: هذا نفي اسمٍ، فلا يكونُ عِلَّةً لِنَفْي الحكمِ ولا لِإثْباتِهِ.
فجوابُ المستدلِّ: أنَّ الاسمَ يُعلَّلُ به عندي لِإثباتِ الحكمِ الذي نفيته بنفي الاسم، والدَلالةُ عليه تأتي في مسائلِ الخلافِ إن شاءَ الله.

فصل
ومن هذا القَبيلِ في رد القياس: أن يقولَ المُعترضُ للقائس: إنَّك جَعَلْت الخلافَ علَّةً، والاختلافُ حادثٌ بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - والعِلةُ
__________
(1) انظر"التمهيد" 4/ 114.
(2) انظر الصفحة 397 من هذا الجزء.

(2/210)


أمارةٌ شرعيَّةٌ تحتاجُ إلى نَصْب صاحب الشريعةِ، وذلك مثل قَوْلِ أصحاب أبي حنيفة في الكلب: إنَّه حيوَان مُختلف في إباحةِ لَحْمِهِ، فلم يَجَب العَدَدُ في وُلوغه، كالسِّباع (1).
والجوابُ: أَنَ هذا وإن كان حادثاً، فيجوزُ أن يكونَ أمارة، كما كان الإجماعُ حادثاً، وكان دليلًا معلوماً.
فإن قيل: إن الإجماعَ إنما كان دليلًا لأن صاحبَ الشريعةِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالةٍ" (2)، قيل: إنْ عولْتَ على هذا في هذا الأصلِ العظيمِ، لم يَثْبُتْ؛ لأن خَبرَ الواحدِ في الأصلِ طريقٌ مَظْنونٌ، والإجماعُ مقطوعٌ، فكيف يثبتُ أصلٌ مقْطوعٌ بدلالةٍ مَظْنونةٍ؟ ولا سيَّما هذا الخَبَرُ وليس بثابتٍ عند القَوْم، ولو صح لم يكُ فيه على الإِجماعِ فيما نحنُ فيه من الأحكام حُجة؛ لأنه لم يَقُلْ: أمتي لا تجتمعُ عَلى خَطأ، وإنما قال: "على ضَلالةٍ" والخطأ هُنا ليس بضَلالةٍ، لأن خَطاَ المُجتهدين في الأحكامِ ليس بضلالةٍ، بدليلِ أن
__________
(1) انظر "رحمة الأُمة": 33 - 34، و"الدر المختار" 1/ 37، و"فتح القدير" لابن الهمام 1/ 64، و"المغني"1/ 613.
(2) أخرجه ابن ماجه (3590) من حديث أنس، والترمذي (2167) من حديث ابن عمر، وأبو داود (4253) من حديث أبي مالك الأشعري. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوَجهِ، ونقل البوصيري في الزوائد عن العراقي أن طرق هذا الحديث كلها فيها نظر. وأخرجه أحمد 4/ 204 و 205، والبخاري (7352)، ومسلم (1716)، وابن ماجه (2314)، وأبو داود (3574) من حديث عمرو بن العاص.
وأخرجه الترمذي (1326) والنسائي 8/ 224 من حديث أبي هريرة.

(2/211)


الضَّلالةَ إذا ثَبَتَتْ في حق الجماعةِ كانت في حق الواحدِ كذلك.
ومعلومٌ أنَ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ، فله أجْران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر"، وما فيه أجر لا يُسَمَّى من الجماعة ضلالةً.
فالأشْبَهُ أن يكونَ هذا الحديثُ إنْ صحَّ، راجعاً إلى أنَ أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا تجتمعُ على عبادةِ غَيْرِ اللهِ، ولا على مُخالفةِ ما جاءَ به رسولُ الله في أصْل، بخلافِ امَّة موسى حيث عَبَدتِ العِجْلَ في حال غيْبتهِ، وعَبَدتْ عُزيراً بَعْدَ وفاته، وأمة عيسى اتَخذَتْهُ وأمَّه إلهيْنِ مع الله سبحانه، وهذه الأمةُ لا تجتمعُ على ما هو كهذه الضَلالاتِ، بل إنْ شَذَت منها طائفة مَرَقَتْ، فإنَما تَمْرُقُ وَحْدَها، والكلُّ عادلون (1) عنها، مبَدعون (1) لها، وغايةُ ما ينتهي إليه مُبْتَدعةُ هذه الأمةِ الابتداعُ في إثباتِ وَصْفٍ من أوصافٍ لا تَليقُ به، أو جَحْدُ وَصْفٍ يَنْبغي أن يُوصَفَ به لنوع من تأويل، أو شُبْهَةٍ بظاهرِ تنزيلٍ، وانْ عوَّلَ على الأمَّةِ، فلايثبت له شيء مما رامَ.
وُيقالُ له أيضاً: فالاختلافُ أيضاً لا يكونُ عِلَّةً إلَأ أن يكونَ على كَوْنِها عِلَّةً دليل شَرْعيٌّ كغَيْرِها من العِلَلِ، ولأنَّ الاختلافَ يتضمَّنُ خِفَّةَ حُكْمِ اللَّحْمِ، وذلك معنىً موجودٌ فيه قَبْلَ الاختلافِ. وكذلك إن جَعلَ الاختلافَ علَّةً لقولهم في المُتَولدِ بين الظباءِ والغَنَم: إنَه مُتَولدٌ من حيوانٍ تجبُ فيه الزكاةُ بالاتفاقِ، فإن اعترضَ عليهَ بأن الاتفاقَ حادِث، كان الجوابُ بما مضى، وأن الاتفاقَ يدذ على تأكُدِ الزكاةِ فيه.
__________
(1) في الأصل: "عادلين، مبدِّعين".

(2/212)


فصل
ومن هذا القبيل، وهو ردُّ القياس: أنَّ يقال على القياسِ: إن العِلَّةَ متأخَرَةٌ عن الحُكمِ فلا تكونُ علةً له، وهذا كما قاسَ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ الوضوء على التيممِ في إيجابِ النيَّةِ، فقال أصحابُ أبي حنيفةَ: إنَّ فَرْضَ الوضوء تَقَدَّمَ على فَرْضِ التيمُّمِ فكيف تُوجدُ للمتقدمِ في الفَرْضِ حُكْماً وشَرْطاً من المتأخرِ؟ والعِلةُ لا يجوزُ أن تتأخَّر عن معلولها (1).
والجوابُ: أن العِلَلَ الشرعيةَ دلائلُ وأماراتٌ، ويجوزُ أن تَقَعَ الأماراتُ والدلائلُ متقدمةً على مَدْلولِها ومُتأخرةً عنه ومع شروع الحُكْمِ، حتى جازَ ذلك في الدلائلِ القطعيةِ كالمُعجزاتِ؛ فإن بَعْضَها تأخر عن النبوَّةِ، وبَعْضَها قارَنَ، وكل واحدٍ دلالةٌ على نبوَّتهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتأخرُ والمُقارِنُ، وكذلك ما ضمَّن الله سبحانَه المُحدثاتِ من دلائلَ دلت على وُجودهِ سبحانه، وهو الأوَّلُ في الحقيقةِ.
فإذا ضَمَن الله سبحانه في التيممِ المتأخرِ دلالةً تدل على وُجوبِ النيةِ في الوضوء، لم يكُ ذلك. خارِجاً عن أسلوب الأدلةِ، وانما يمتنعُ ذلك في العِلَل العقليةِ؛ لأنه لا يُتَصَوَّرُ تحركُ اَلجسْم بحركةٍ يتأخَّرُ وجودُها عن تحركِهِ، وكذلك لا يكون الجِسْمُ أسوَدَ لسوَادٍ يقومُ به في مُستقبلِ الحال متأخراً عن كَوْنِهِ أسوَدَ.
__________
(1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 111 - 112، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 79.

(2/213)


فصل
ومن ذلك أن تكونَ العِلَة التي عللَ بها تضادُّ عِلةَ الشرْع في الحكْم المعَللِ له، وذلك مِثْل أن يعلِّلَ الحنفيُّ جوازَ بَيْعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ بَأنه جِنْسٌ واحدٌ مكيل بيع بَعْضه ببَعْض على وَجْهٍ يتساويان في الكَيْلِ في حالِ العَقْدِ، فوجبَ أن يجوزَ كبَيْعِ التمْرِ بالتمْرِ (1)، فيقول الحنبليُّ أو الشافعيُّ:
هذه عِلةٌ تُضادُّ عِلَّةَ صاحب الشريعةِ - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال لمّا سئل عن بَيْعِ الرطَب بالتمْرِ، فقال: "أينقص الرُّطَب إذا يَبسَ؟ " فقيل: نعم، فقال: "فلاَ إذاً" (2)، فهي فاسدة من حيث تضمنتَ اعتبارَ التساوي حالَ العَقْدِ، وإهمالَ ما يتجدد من التفاضلِ بعد العقد.
والجواب للحنفي في مِثْلِ هذا: أن يتكلم على الخَبَر بطَعْن أو تأويلٍ إن أمكَنَه (3).
__________
(1) انظر "التمهيد"4/ 113.
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 485 من طريق زيد بن عيّاش. وأخرجه من طريق مالك: الشافعي في "الرسالة": 331 - 332. وأبو داود (3359) وابن ماجه (2264) والنسائي 7/ 268 - 269، والترمذي (1225) وقال: هذا حديث حسن صحيحٌ والعملُ على هذا عند أهلِ العِلْمِ. وهو قولُ الشافعِّي وأصحابنا.
وقد أوفىَ الشيخ أحمد محمد شاكر- رحمه الله- على الغاية في الكلام على هذا الحديث في "الرسالة"، فانظر كلامه فإنه جَيد.
(3) انظر "أصول السرخسي" 1/ 367 و"إيثار الإنصاف": 290، وممن نصر هذا الرأي ابن حَزْمٍ في "المُحلِّى" 8/ 461 - 462، وانظر "المغني" لابن قدامة =

(2/214)


فصل
ومن ذلك: الردُّ للقياسِ بأنَّ حُكْمَ الفَرْعِ ضدَّ حُكْمِ الأصْلِ.
مثالُ ذلك: إذا علَّلَ لسقوطِ القَوَدِ في القَتْلِ بالمُثَقَّلِ. فيقول الحنفي: إنَّها آلة تَقْتُلُ، فاستوى صغيرُها وكبيرُها كالمُحَدَّد.
أو علَّل الشافعيُّ في وُجوب، النيةِ في الطهارةِ بأنَّها طهارةٌ فاستوى جامدُها ومائِعُها في النِّيَّةِ كإزالةِ النجاسةِ (1).
فيقول المعترضُ مِن هؤلاءِ على هؤلاءِ ومن الآخرين على أُولئك: إنَّ هذا فاسدٌ، لأنَّه أَخَذَ حُكْمَ الشيء من ضِدِّه، لأنَّ الصغيرَ والكبيرَ في المُحَددِ يَسْتَويان في إيجابِ القَتْلِ، وهم يزيدون في الفَرْعِ تَساوي الخشبةِ الصغيرةِ والكبيرةِ والحجر الكبير والصغير في إسقاطِ القَتْلِ.
ويزيدُ أَصْحابُنا وأَصحابُ الشافعي بالاستواء في إزالةِ النجاسةِ في إسقاطِ النيةِ، وفي الفَرْعِ في إيجابِ النيةِ، فلا يجوزُ قياسُ الشيء على ضِدِّه، لأن مبنى القياس على التسويةِ والتشابهِ ويبعدُ تساوي حُكْمَى المتضادَيْن.
فالجوابُ أن يقول: إنَ حُكْمَي التسويةِ بين الصغيرِ والكبيرِ في الأصلِ والفَرْعِ، وهذا حكمٌ قد تساوى فيه الأصلُ والفَرْعُ، فلا علينا من تضادِّ غَيْرِهِ، فإنه ليس بحُكْم للقياسِ لكنه حُكمٌ شرعيٌّ اخرُ ليس من حُكْمِ العِلةِ في شَيْءٍ. ومِثْلُ هذا لا عِبْرَةَ به في باب الأدلةِ، ألا ترى أنك إذا قُلْتَ: إنَّ عيسى، كموسى في النبوَّةِ بدلالَةِ المعجزةِ،
__________
= 4/ 12، و"شرح معاني الآثار" 4/ 6.
(1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 113 - 114، و"المهذِّب" للشيرازي 2/ 176، و"شرح معاني الآثار" 3/ 186.

(2/215)


ومحمد كَهُما في النبوَّةِ بدلالةِ المعجزةِ، لم يَلْزَم في التساوي في الإعجاز أن لا تتضادَّ نفسُ المعجزةِ أو تتغايَرَ، بل لو كان أحدُهما يُميتُ الأَحياءَ، مِثلَ إصعاقِ السبعين لموسى الذين بُعِثوا من بَعْدِ موتِهم، وإخراجِ يده بَيْضاءَ بَعْدَ عدم بياضِها، وكان الأخَرُ يُحيي الموتى وُيزيلُ بياضَ البَرَصِ، لم يَمْنَع ذَلك التضاد والتباعدُ والتغايرُ من اجتماعِ الكل في دلالةِ الصدقِ والرسالةِ. وكذلك اختلافُ مُعجزِ نبينا بكونه انفلق له القَمَرُ في السماءِ، ومعجز موسى فَلْقُ البحرِ في الأرْضِ، كذلك حُكْمُ علَّةُ المُعَللين ها هُنا: التسويةُ بين الصغيرِ والكبيرِ، والجامد والمائعِ دون ما وراءَ ذلك.

فصل
ومما ردوا به القياسَ: قولُهم: إن هذا قياسٌ لم يُصَرح بحُكمهِ، ومثال ذلك قولُ أصحابنا وأصحاب الشافعيُّ في مسألةِ القَتْلِ بالمُثَقل: إنه آلةٌ تقتلُ غالباً، فأشبَهَتِ المُحددَ (1) 0 أو يقول الحنفيُّ في نَفي النيةِ في الوضوءِ: بأنَها طَهارة بالماءِ أشبهَتْ إزالة النجاسةِ، فيقول المعَترضُ من كلُّ طائفةٍ على مُخالفهِ المُعَفَل بمِثْل هذا: إنّك لم تُصَرحْ بالحُكْم الذي تُثْبتُه عِلتُك، بل قَوْلُك: فأشبَهَ، أجْمَلَ (2) الحُكْمَ إجمالاً، فلا يُعْلَمُ من حُكْمِكَ ما تُريدُهُ، ألا ترى أنك إذا قُلْتَ: زْيدٌ أشْبَهَ عَمْراً، أو يُشْبهُ عَمْراً، لم يُعْلَمْ في ماذا يشْبِههُ. فالجواب أن نَقول: إنما أرَدْت التشبهَ في الحُكْم الذي اختلفنا فيه ودَلَلْتُ عليه، وعنه سُئِلْت، فكان
__________
(1) انظر" التمهيد" 4/ 113.
(2) في الأصل: إجمال.

(2/216)


ذلك بمنزلةِ النًّطْقِ به، والأصلُ فإنَّما هو المُحَددُ. وقولي: فأشْبَهَ، قد بَينْتُ أنه عبارة عن الحُكْمِ الذي دَلَلْتُ عليه، ولو صَرحْتُ به أمْكَنني وجازَ، وصار مما شَبَّهْت به من ذِكْرِ تَشَبُّهِ زيدٍ بعمروٍ قولنا: زَيْدٌ قَتَّالٌ فأشْبَه عَمْراً، أو: زيدٌ قارِىء فأشبَهَ عَمْراً، فإنه لا ينصرفُ التشبيهُ الأ إلى القَتْل أو القراءةِ.

(2/217)


فصول
الممانعة
وهي الاعتراضُ، والسؤال الثاني على القياسِ بَعْدَ الرد له. وحدها: تكذيبُ دَعْوى المُسْتَدِل، إمَّا في المُقَدمةِ، وهي وَصْفُهُ في الفَرْعِ، أو الوصف في الأصلِ، أو فيهما جميعاً، أو في حكم الأصلَ.
فالذي يُبْدَأُ بهِ: مَنْعُ الحكْمِ في الأصلِ، فيجابُ عنه من أوْجُهٍ:
أحدُها: أن يُبَيّنَ أن الروايةَ الصحيحةَ تَسْليمُ الحُكمِ في الأصْلِ، وهذا لا يجوزُ أن يكونَ من طريقِ الدلالةِ على صحةِ الروايةِ، لكن يُبَيّنُ أن المَرْوِي عن صاحبِ المَذْهبِ هو التسليمُ.
ومثالُ ذلك: أنَّ يستدل الشافعيُّ على أن من أحْرَمَ بالحج تطوعاً وعليه فَرْضُهُ أنه يَنْعَقِدُ فَرْضاً، بأنه أحْرَم بالحجِّ وعليه فَرْضُهُ، فوقع عن فَرْضهِ كما لو أحرمَ بالحجِّ مُطْلَقاً (1).
فيقول المخالفُ: لا أُسلمُ الحُكْمَ في الأَصْلِ، فإنَّ الحسنَ بنَ زيادٍ (2) روى عن أبي حنيفةَ أنَّه لا يقع عن فَرْضِهِ.
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 119.
(2) من أصحابِ أبي حنيفة. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 9/ 543 =

(2/218)


فالجوابُ عنه: أن يبين صحة روايةِ التَسْليمِ، وأنها هي المذهبُ المعوَلُ عليه، لأن أبا الحَسَنِ الكَرْخي (1) ذكرها، ولم يذكر روايةَ الحسنِ بن زيادٍ، لأنه ضَمِنَ أنه لا يذكر إلا الصحيحَ، وليس أبو حنيفةَ ممن يقولُ بقَوْلَيْن، فلا بُدَّ من تقديم إحدى الروايتين عنه على الأخرى، فيجبُ تقديمُ التي عول عليها أبوَ الحسنِ الكَرْخيُّ حيث بينها فيما ضَمِنَ فيه على نَفْسهِ الصحه واثباتَ مَذْهبهِ بها.
الوَجْهُ الثاني من الأجوبةِ: أن يبين الأصلَ في موضع مُسَلم.
وذلك مثل: أن يستدل الشافعي في إثباتِ الترتيب في الطهارةِ بأنها عبادةٌ يُرجع إلى شَطْرِها في حالِ العُذْرِ، فوجب فيها الترتيبُ كالصلاةِ (2).
فيقول المعترضُ: لا أسلمُ وجوبَ الترتيب في الطهارةِ، لأن عندي مَنْ تَرَكَ أرْبَعَ سَجداتٍ من أربعِ ركْعاتٍ، جازَ أن يأتيَ بهِن متوالياتٍ.
فيقول المستدل: إنني جَعَتُ أصْلَ قياسي ترتيبَ الركوعِ على السجودِ وذلك مُسَلَّمٌ.
والثالث: أن يدل على صِح حُكْمِ الأصلِ إذا لم يكن واحد من الطريقَيْن الأولَيْن، وذلك مثل: أن يستدل على وُجوبِ غَسْلِ الاناءِ من
__________
= و"تاريخ بغداد" 7/ 314 و "تاج التراجم" لابن قُطلوبغا: 150.
(1) تقدمت ترجمته في الصفحة: 87.
(2) انظر "التمهيد" 4/ 118.

(2/219)


وُلوغِ الخِنْزِيرِ بأنه حيوانٌ نَجسُ العينِ فوجب غَسْلُ الإناءِ من وُلوغهِ سبعاً كالكلبِ (1).
فيقول المعترض: لا أُسلمُ حُكْمَ الأصلِ. فلِلْمُسْتَدِل أن يدل عليه وينقلَ الكلامَ إليه بقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلبُ في إناءِ أحدِكُم فاغسلوه سبعاً إحداهنَّ بالترابِ" (2).
فإن. قيلَ: هذا انتقالٌ من المسؤولِ عن المسألةِ التي سُئِل عنها، وذلكَ عَجْزٌ عَن نُصْرَةِ ما بدأ بنُصْرته، فهو عَيْنُ الانقطاعِ. قيل: إنه ليس بعَجْزٍ ولا انتقالٍ ولا انقطاع، لأنَ المسؤولَ قد لا يكون له طريقٌ إلى إثباتِ الحكْمِ فيما سأله عنه إلّا من جهةِ هذا الأصلِ فبِهِ حاجة إلى القياسِ عليه.
فإن قيل: فهلا استَسْلَمَهُ منه قَبْلَ استدلالهِ؟ فإنْ سلمه له، وإلا دل عليه وبنى الكلامَ عليه لئلا يحتاج إلى ما قد أوْقَعَ الإشكالَ، هل هو انقطاعٌ واتصالٌ، أو ليس كذلك؟
قيل: لا حاجةَ به إلى ذلك، لأن ذلك تطويل للكلام وعُدول عن السؤالِ إلى مَسْألةٍ أخرى، فإذا ابتدأ بالدَلالةِ على ما سُئَل عنه، ثم دَفَعَتْهُ الحاجةُ إلى الدلالةِ على ما نُوكِرَهُ ومُونِعَهُ دلَّ عليه، ولم يكن
__________
(1) انظر "المهذب" للشيرازي 1/ 48، و"نَيْل الأوطار" 1/ 33، و"المُغني" 1/ 63، و"فتح الباري" 1/ 368.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 148.

(2/220)


ذلك خُروجاً عن قانونِ الجَدَلِ ولو وَجَبَ ما ذَكَرْتُم لوجبَ إذا سُئِل عن مسألةٍ يقتضي الحالُ استدلالَه فيها بالعُمومِ أو بدليلِ الخطاب فدل بذلك، فناكره السائلُ وقال له: هذا ليس بدليلٍ عندي، أن لاَ يَشْرعَ في الدلالةِ على أن العُمومَ صيغةٌ، وأن دليلَ الخطاب حُجةٌ، بل يقالُ له: هذا انتقالٌ، وهلا بدَأتَ السائلَ لك بالاستفْصَالِ عن تَسْليمه أو مَنْعِهِ لئلّا يحتاجَ إلى هذا المُوهِمِ أنه انتقال؟ بل كان الأمْرُ فيه على ما ذَكَرْنا من المُضيِّ على سَنَنِ ما سُئِل عنه والدلالةِ عليه بما يعتقدهُ دليلاً، فإن مونع فَدَعتْهُ الحاجةُ إلى إقامةِ الدليلِ على صحةِ ما استدل به، فَعلَ ذلك، وكان سُلوكاً لقانونِ الجَدَلِ، كذلك هاهُنا ولا فَرْقَ بينهما، وهذا كلُّه لمعنى أصليٍّ، وهو أنَّ مَنْ كان معه في حُكْم الأصْلِ مِثْلُ هذا الخبرِ المشهوار المُدوَّنِ في الكُتبِ والسُّنَنِ، لا يجوز أن تَضْعُفَ نَفْسُهُ في البناءِ عليه، بحيث يستسلمُ حكْمَهُ مَنْ عَساهُ لم يَسْمَعْهُ أو لم يَعْرِفْ محلَّه من إثْباتِ الحُكْمِ. ويطولُ علينا في الجَدَلِ أن نَبتعد عن إسناداتِ الأحكل أم إلى مِثْل هذه الآثارِ لأجْل شُبَهِ المُخالفين.

فصل
فإن استدل أصحابُنا أو أصحابُ الشافعي في مسألة إِثباتِ الخيارِ في النكاحِ بالعيوب، بأنَ العَيْبَ، معنى يمنعُ أكْثَرَ المقصودِ أو مُعْظَمَ لمقصودِ، فأُثْبِتَ الخَيارُ كالجَب والعُنةِ، فقال المُعْتَرِضُ: لا نُسَلِّمُ أَن الجَب يُثبتُ الخيارَ، وإِنَما المثبتُ للخِيارِ عدم استقرارِ المَهْر (1).
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 119 - 120. وانظر: "الاختيار في تعليل المختار" 3/ 115 و"رحمة الأمة": 400 و "المغني" 6/ 471.

(2/221)


فالجوابُ: أنَّ هذا ليس مُمانعةَ الحكمِ في الأصْلِ، لأن الحُكمَ حاصلٌ بوجودِ الجَب والعُنةِ في الزوجِ، وكَوْنُ الجَب يتضمن معنىً لأجْلِهِ تَعلق الحكمُ به لا يمنعُ تعليقَ إلحكمِ عليه. وما ذلك إلا مثلُ تعليقِ المسحِ على الخُفين، وتعليقِ الرخَصِ على السفرِ وان كان المعنى في الاثنين ما تضمنا (1) من المشقةِ في الخَلعِ والسفرِ.

فصل
فإن مُونعَ الحكمُ في الاصل، ففَسرَ (2) لفْظهُ بَتفسير مُسَلم لا تتناولهُ ممانعةُ المانعِ، مثلَ أن يستدل الحنفيُّ في أنَ الإجارةَ تبطل بالموتِ: بأنه عقد على مَنفعةٍ فبطلَ بالموتِ كالنكاح. فيقول الشافعيُّ أو الحنبليُّ: لا أسلمُ الحكمَ في الاصلِ؛ فإن النكاحَ لا يبطُل بالموتِ، وإنما ينقضي وينتهي بالموتِ، لأنه معقودٌ إِلى الموتِ، ولذلك استقر بالموتِ جميعُ المهرِ كما يستقر بالدخولِ.
فيقول المستدل: أريدُ بقولي: فبطل بالموت: أنَّه لا يَبْقى بعد الموتِ، وهذا مُسلمٌ. فيقولُ المعترضُ: إن زوالَ الحكمِ بتمام الشيء لا يُسَمى بُطْلاناً في اللغةِ ولا في الشرع، ألا ترى أنه لا يقالُ: بَطلت الإجارةُ إذا انقضت مُدتها، ولا بطلت الكتابةُ إِذا استُوفيتْ نُجومُها (3)، ويقال ذلك إِذا تلِفت العينُ المسَتأجَرةُ قبل انقضاءِ المدةِ، وعَجز المُكاتَبُ قَبْلَ إيفاءِ النجومِ، وكذلك العبادات يقالُ عند تمامِها:
__________
(1) في الاصل: "تضمنها".
(2) في الأصل: "فقس".
(3) النجوم: الوُقوتُ المضروبة. انظر "القاموس": (نجم).

(2/222)


تَمت، وعند انقضائِها: فُرغَ منها، ولا يُقالُ: بَطَلتْ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أَمنِ الفَواتِ: "فَمَنْ وقَفَ مَوْقِفنا هذا من ليْلٍ أو نهارٍ، فقد تمَّ حَجه وقَضى تَفثَه" (1) ولم يقل: بطل حَجه. وقال: "فمَنْ تشهد من صلاتهِ فقد تمت صلاتُه" (2). ولم يقل: بَطلتْ.

فصل
فإنْ قال المُعترضُ: إنَّ حْكَمَ الأصلِ لا يتعدى إلى الفَرع، مِثْلَ قولِ الحنفي (3) في ضَمِّ الذهب الى الوَرِق في الزكاة: انهما مالان زكاتُهما رُبْعُ العُشْرِ، فضُم أحدُهما إلى الآخَرِ، كالصحاحِ والمكَسرة.
فيقول له المخالفُ: إن الحكمَ في الأصلِ هو الضم بالأجزاءِ، وفي الفرع بالقيمةِ، فليس يتعدَّى حُكْمُ الأصلِ الى الفَرْع، فيقول المُستَدل: إِنما ألحقْتَ حُكمَ الفرع بالأصلِ في وجوب الضَم، ولا يلزمني أنَّ تستوي صفةُ الضم، ألاَ تَرى أنا نقيسُ الكفَارة على نيّةِ الزكاةَ، وانتَ تقيسُ الطهارةَ على، الصلاةِ في النيةِ وإن اختلفا.
__________
(1) جزءٌ من حديث أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي 5/ 264 من حديث عروة بن مُضَرس الطائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه من الطريق نفسها: أحمد في "المسند" 4/ 15، وابن ماجه (3016)
(2) أخرجه أبو داود (970)، وانظر "المغني" 1/ 379، و"المحلى" 3/ 278.
(3) في "التمهيد"4/ 122: كقولِ أصحابِنا، يعني الحنابلة.
قلت: وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. انظر: "الكافي" لابن قدامة 1/ 405، و"المغني" له 3/ 8، و"الروايتين والوجهين" لأَبي يعلى 1/ 241، وانظر "المحلى" 6/ 80/ - 83، و"رحمة الأُمة": 175.

(2/223)


ويمكنُ المعترضُ أن يقولَ: إن الضم الموجودَ في الأصلِ هو نوعٌ غيرُ النوعِ المثبتِ في الفَرع، ويُمكنُ إثبات حُكمِ الأصلِ في الفرعِ، وإنما أثبتَ غَيرَهُ، وتخَالفُ النيةُ لأن الغَرضَ إثباتُ وجودِ القَصدِ إلى العبادةِ، وذلك موجودٌ فيهما.

فصل
فإن اعترضَ معترض على حُكمِ الأَصلِ: بأني لا أعرفُ مَذْهَبَ مَنْ أنصرُهُ فيه، فإنْ أمكنَ المستدلَّ أن يُبَين مذهبَ المخالفِ، وإلا دل عليه، وكذلك إن كان فيه قولان أو وجْهانِ أو روايتان، فإنْ أمكنَ المسؤولَ أن يُبينَ أن أحدَ القولَيْن رجع صاحبُ المذهب عنه، أو يُبينَ أن إحدى الروايتين مرجوعٌ عنها، أو أنها هي روايَةُ الأصلِ أو الصحيحةُ بتَعويلِ مشايخِ المذهب عليها وثِقةِ رُواتها، وكذلك في أحدِ الوجَهين إنْ تعذَّر عليه ذلك، دَل على إثبات الحكم في الأصلِ على ما تقدم (1).

فصل
فأمَّا ممانَعةُ العلَّةِ في الأصلِ، ويُسَميه بعضُهم مُمانعةَ الوصْفِ في الأصلِ، فمِثل أن يستدل أصحابُنا أو أصحابُ الشافعيِّ على وجُوب الموالاةِ في الوُضوء: بأنها عبادة يُبطلُها الحَدَثُ، فكانت الموالاةُ واجبةً فيها كالصلاةِ (2)
فيقولُ المخالفُ: لا أسلمُ أن الصلاةَ يُبطِلُها الحدثُ، وإنما يُبطلُ
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 121 - 122.
(2) انظر "التمهيد" 4/ 118.

(2/224)


الحدثُ الطهارة، وتبطُل الصلاةُ لعدمِ الطهارةِ.
فيُجيبُ المُسْتدل بأن يُبين بُطلانَ الصلاةِ التي لا طهارةَ فيها بالحدثِ، وهو إذا سبقَه الحدثُ، فإنَ المخالفَ يُبطلُ طهارته ولا يُبْطلُ صلاَته، وهو قولُ الشافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ، فلو تعمد الحدثَ بعد سَبقِ الحدثِ بطلت صلاُته، فقد بان صحَةُ ما ذكرتُ من بُطْلان الصلاةِ بالحدثِ، وبطلت ممانعتُك، على أنه يُمكنُ القولُ ببطلانِها بالحدثِ بواسطة بُطلانِ الطهارةِ، فيقول: أردْتُ بُطْلان الصلاةِ به أنه يُبطِلُ شرطَ الصلاةِ فتبطل. والمبطِلُ على ضَرْبَين: مُبْطلٌ بلا واسطةٍ، ومبطلٌ بواسطةٍ، ألا ترى أن القاتلَ على ضَرْبَيْن: قاتل يباشِرُ النفْسَ بالقَتلِ، وقاتلٌ يمنعُ الشرطَ، فالجارحُ مباشرٌ محل الحياةِ فيُزهِقها، والمانعُ لها بالحَبْسِ شرطَ الحياة، وهو الأكلُ والشرْبُ فيُزهِقُها قاتلًا، كذلك هذان يُبطلان، فمُبطلٌ يباشِرُ الصلاةَ، ومُبطلٌ بواسطةِ إبطالِ شَرْطها.

فصل
ومن ذلك قَولُ أصحاب أَبى حنيفةَ في إِيجاب زكاةِ الفِطرِ عن العَبدِ الكافِر: أنَ كلَّ زكاةٍ وجبت عن العَبدِ المسلم وجبَ إخراجُها عن العبدِ الكافرِ كزكاةِ التجارةِ.
فيقول المُخالِفُ: لا أسلِّمُ انها تجبُ عن العَبدِ، بل تجبُ عَن قيمتهِ (1).
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 116، و"المحلِّى" 6/ 132، و"نيل الأوطار" 4/ 181 =

(2/225)


فيقول المُسْتدل: أدل على ذلك بأن الذي في مُلكهِ العَبْدَ دون قيمتِه، ولهذا اذا تَلِفَ العبدُ سقطَتْ.
فيقول المُعترضُ: إن العَبْدَ له قيمة توجدُ بوجوده وتُعدَمُ بعدمِهِ وان لم يتعين مُلكهُ عليها؛ ألا ترى أنه يملكُ الدين وُيزكي عنه وإن لم يتعينْ مُلْكُهُ عليه.

فصل
ولنا نوع من الممانعات، وهي إنكارُ السائل أو المعترض في الجُملةِ علةَ الأصْل على مَذهب المُعَلِّلِ، ويوردُها قوم بَلْفظٍ، هو: أنه لا يصح الوصْفُ في الأصلِ على مذهبِك. وكيفَ ما أوردها المعترِضُ فإنها ممانعة من جملةِ ممانعاتِ الوصفِ في الأصل.
ومثال ذلك: قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ: إنَّ اللعانَ فُرْقة تختص بالقَولِ، فوجبَ أن لا يتأبدَ تحريُمها، كالطلاقِ (1).
وكذلك قولُ الحنفيِّ أيضاً في المنْع من إضافةِ الطلاقِ إِلى الشعرِ: إنَّه معنى تتعلَّقُ صحتُه بالقولِ، فلم يصح تعليقُه على الشَعر كالبَيعَ.
فيقول الشافعيُّ: عندك أنَّ الطلاقَ لا يختص بالقَوْلِ، فإنَه يَقَعُ بالكنايةِ (2) مع النيةِ، وليست قَوْلاً.
__________
و"رحمة الأمة" 181.
(1) انظر "التمهيد" 4/ 117.
(2) كذا بالنون والياء. قال العسكري في "الصناعتين": 368: في تعريف =

(2/226)


فإن قال المُسْتَدِلُّ: الكنايةُ قائمةٌ مَقامَ القَوْلِ ونائبةٌ عنه، قيل: لا يَمْنَعُ ذلك صحةَ المُمانعةِ، لأنها ليسَتْ بقَوْلٍ وإن نابَتْ عنه؛ ألا تَرى أنه لو قال قائل: إن الطلاقَ مُختص بالصريحِ، فنقول له: ليس كذلك لأنه يَقَعُ بالكنايةِ مع النيةِ، فيقول إن الكنايةَ نائبةٌ عن الصريح فكان مُختصاً بالصريح، لأن ما نابَ عن الصريحِ صريح [و] لم يصح كذلك قَولُهُ: الكِنايةُ نائبةٌ عن القَوْل فكان مُخْتصاً بالقَوْل، لا يكون قولاً صحيحاً.

فصل
وأما إنكارُ العِلةِ وممانعتُها في الأصْلِ، فمِثْل أن يقولَ أصحابُ أبي حنيفة في لِعان الأخْرَسِ: إنه معنى يَفْتَقِرُ إلى لَفْظِ الشهادةِ، فلا يصحُّ من الأخرس، كالشهادةِ بالحقوقِ.
فيقول أصحابُ المشافعيِّ: لا نُسَلمُ أنه يفتقرُ إلى لَفْظِ الشهادةِ.
فيحتاجُ المستدلُّ أن يُبَيِّنَ أن مَذْهَبَ، صاحب المذهب ما ذَكَرَهُ، أو يدل على ذلك (1).

فصل
فأمَّا ممانعةُ العِلةِ وانكارُها فيهما، فمثل قولِ أصحابِ أبي حنيفة
__________
= الكناية: هو أن يكني عن الشيء ويُعرِّض به ولا يُصَرح. وانظر "الكليات" لأبي البقاء4/ 108. ووقع في "التمهيد" 4/ 117: الكتابة بالتاء. ويريد: له وقوع الطلاق على طريقِ الكتابةِ، كأَن يكتبَ خطاباً أو رسالةً، لأَن البيان بالكتاب بمنزلةِ البيان باللسان.
(1) انظر "التمهيد" 4/ 123.

(2/227)


في المتمتّعِ إذا لم يَصُم في الحجِّ: أنَه يسقط الصوم، لأنَّه بَدَل بوَقْتٍ، فوجب أن يسقطَ بفواتِ وقْتِهِ، كالجُمعةِ.
فيقول المعترضُ: لا أسلمُ أن الجُمعةَ بَدَل، ولا أسلمُ في الفَرْع أنَه مؤقَّت. فيحتاج المستدل أن يُبَينَ تَسْليمَهُ من مَذْهَبِهِ، أو يدل عليه (1).

فصل
المطالبةُ بتصحيح العِلةِ، وهو السؤالُ الثالثُ عن القياسِ.
فصل
واذا طولب المستدل المعللُ بتصحيحِ العِلةِ والدلالةِ عليها لَزِمَهُ ذلك، وتكون الدلالةُ عليها نُطْقاً وتَنبيهاً واستنباطاً.
فالنطقُ، كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، ومثل قوله فى - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما نهيتكم عن ادخار لحومِ الأضاحي لأجْلِ الدافَّةِ، ألا فادًّخروها" (2).
وأما الفحوى، فَمِثْلُ قولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ
__________
(1) "التمهيد" 4/ 124.
(2) تقدم تخريجه في الصحفحة: 52.

(2/228)


يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وفحوى هذا أن الكوافِرَ من الفتياتِ لا يجوزُ نكاحُها، وأنَّ الإيمانَ علةُ الإباحةِ.
وكذلك نَهْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الكالىء بالكالىءِ (1)، يريدُ بَيْعَ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ، يدلُّ على أن نَهْيَهُ لأجْلِ كونه (2) دَيْناً، وكذلك إذا نُقِلَ الحُكْمُ مع سَبَبهِ دل على تَعَلقِهِ به، كقولهم: سها رسول الله فسجد، وزَنا ماعزٌ فَرَجمه رسولُ الله، والظاهرُ أنه سها فسَجَدَ لأجْلِ سَهْوِهِ، وزَنا ماعز فَرَجَمَهُ لأجْلَ زناه.

فصل
وأمَّا الدلالةُ من جهةِ الاستنباط فمِنْ وجوهٍ: أحدُها وجودُ الحكمِ بوجودِها وارتفاعُهُ بارتفاعِها وزوالها، وذلك مثل أن يُعَللَ تحريمُ الخمرِ بأن فيه شِدَّةً مُطْرِبَةً لأنه إذا كانت عصيراً فهو حلال، وإذا حَدَثتْ فيه الشدَّةُ المطربةُ حَرُمَ، فإذا زالت الشدةُ صارَ حلالاً، وليس نسبةُ الحُكْم إلى العلَّة الآ لوجوده عند وجودِها، وزوالهِ عند زوالِها من غير أن يُشاركَها غيرها في الوجودِ والزوالِ، ولا يقنَع بالمشاركِ حتى يكونَ ممَّا يَظْهَرُ من مِثْلِهِ تأثير [في] ذلك الحُكْم وتَعَلُّقٌ به يوشكُ أن يكونَ مُشارِكاً، فنَفْيُ الصلاحيةِ عن الشريكِ كافٍ في نَفْيِ تعلقِ الحُكْمِ به.
__________
(1) أخرجه البيهقي في" السنن الكبر ى" 5/ 290، و"السنن الصغرى" 2/ 247 من حديث ابن عمر، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 57، وصححه على شرط مسلم، وانظر "غريب، الحديث" لأبي عبيد 1/ 23.
(2) وفي الأَصل:"كونها".

(2/229)


وبَعْضُ أهل الجَدَلِ قال: إنْ وُجِدَ مع العِلةِ شريكَ وجَبَ أن لا يُحْكَمٍ بكونِها علةً حتى تَدُل على أن الحُكْمَ وجِدَ لأجْلِ تلك العِلةِ خاصة، وأنه زال لزوالِها خاصةً، وذلك مثل أن يَدعيَ مَنْ مَنَعَ تَعْليلَ الخَمْرِ بأن التحريمَ مَنَعَ الاسمَ، لأن العصيرَ اذا حدثَتْ فيه الشدةُ المُطْرِبَةُ سُمي خَمْراً، فإذا زالت زالَ الاسمُ، فَتَبَين أن التحريمَ يَتْبَعُ الاسمَ، فيحتاجُ الشافعي أو الحنبلي أن يُوضِّحَ أن التحريمَ تَبعَ الشِّدَّةَ دون الاسمِ، وزال بزوالِ الشدةِ دون الاسمِ، ويدلى على ذلك بأنه إذا طُبِخَ زال عنه اسمُ الخَمْرِ، والتحريمُ باقٍ لبقاءِ الشدةِ المُطْرِبَةِ.

فصل
ومن ذلك أن يَبْطُلَ ما سِوى العِلةِ المذكورةِ في الأصْلِ، فتصح العِلةُ المذكورةُ؛ لأن الأصْل إذا كان مُعَللًا فبَطَلتِ العِلَلُ التي يَنْتهي إليها التقسيم سوى واحدةٍ، دل على أن التي لم تبطُلْ هي عِلتُهُ.
مثالُ ذلك: أن يَدعيَ أن العلَّةَ في الأعيانِ المنصوص على تحريمِ التفاضل فيها، وهي البُر والشَعيرُ والتَّمْرُ والمِلْحُ الطعْمُ (1)، فإذا بَطَلَ ما سوى الطُّعْمِ من الكَيْلِ والقُوتِ والطعْمِ والكَيْلِ معاً صح أن العِلةَ للطعْمِ، فإنْ كان خَصْمُهُ يذهبُ إلى أن العِلةَ الكَيْلُ فإذا أبْطَلَ عِلةَ خَصْمِهِ خاصةً ثبتت عِلتُه، وكان في مُوافقةِ خَصْمِهِ له على إبْطالِ ما سوى عِلتَيْهما غِنىً عن التكلفِ لإسقاطِ ما عداهما، لأن تعاطي الدلالةِ على مَوْضعِ الاتفاقِ قَطْع لِلْوَقْتِ وتَضييع للكلامِ.
__________
(1) انظر "رحمة الأمة": 274 و"المغني" لابن قدامة 4/ 5.

(2/230)


فصل
ومن ذلك ما ذكره أصحابُ الشافعيُّ رحمةُ الله عليه وعليهم من شهادةِ الأصولِ، وإنما يكونُ ذلك في العلَّةِ إذا كانت حُكْماً، كقولهم: ما كان رباً في دارِ الاسلام، كان رباً في دارِ الحرْب؛ لأن الأصولَ تَشْهَدُ أن العقودَ بين المسلمين تستوي فيها الأمكنةُ منَ دارِ إسلام أو حَرْبٍ، فدلتْ التسويةُ في عامةِ العقودِ على أن إثباتَ الربا في إحْداهما رباً في الأخرى (1).
وكذلك قولُهم في زكاةِ الخَيْلِ: مالا تجبُ الزكاةُ في ذُكورِهِ إذا انفَرَدَت لا تَجِبُ في إناثهِ؛ لأن الأصولَ التي تجبُ فيها الزكاةُ من سائرِ الحيوانِ يستوي ذكورُها وإناثُها (2)، فاستوى في هذا النوع المختلفِ فيه، فكانت التسويةُ في الأصولِ في هذه المسائل وأَمثالِها هي الدلالةَ التي يَفْزَعُ إليها المستدل إذا طولبَ بتصحيح عِلتهِ أو الدلالةِ عليها، والله أعلمُ.

فصل
فإن طولبَ مُعَللٌ بالدلالةِ على صحةِ العِلةِ، فقال: الدلالةُ على صِحَّتِها ما دلت على صحةِ القياسِ؛ لأن الشرْعَ أوجَبَ انتزاعَ العِلةِ وقد انتزعَها، لم يكن هذا الجوابُ كافياً؛ لأن كوْنَ الأصْلِ واجباً (3) تَعْليله انما يكون اذا كان مما يصح تعليلُهُ، وإذا جاز تَعْليلُه، لم يدل
__________
(1) انظر "المغني"4/ 30، و"المُحلى" 8/ 514.
(2) انظر "نَيْل الأوطارِ" 4/ 136، و" المحلى"5/ 226 - 229.
(3) في الأصل: "واجبٌ بالرفع".

(2/231)


ذلك على صحةِ علتهِ التي انتزَعَها إلا أنْ يبين أنه لا يُمكنُ أن يُعَللَ بغيرِ ذلك، فيكون حينئذٍ دلالةُ التقسيم، وقد ذكرناها.

فصل
فأمَّا اطرادُ العِلةِ في معلولاتِها وجَرْيُها، فقد اختلف الناسُ فيه، فمنهم مَنْ جَعَلَهُ دلالةً على صحتها. ولأصحابِ الشافعيِّ فيه وَجْهان:
فمنْ جعله دليلاً تعلق بأن هذه العلَّةَ لو لم تكُن صحيحةٌ لكان يردها أصل من أصولِ الشريعةِ فلما لم يردَّها شيءٌ، دل ذلك على صِحتِها، وقد دل على ذلك قولهُ تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] فاستدل عليهم لصحتِهِ أنهَ من عند الله بِعدمِ الاختلافِ والمناقضةِ (1).
وذهبَ الأكثرون إلى أنه لا يكونُ دلالةً، لأن كلُّ واضع لِمذْهب يُمكنه أن يَطْرُدَهُ لا تَبَعاً للأدلةِ ولا التأثيرِ، لكن بتركِ كلِّ قَوْلٍ يُخالفُ وضْعَهُ وبطَلب أنَّ لا ينتقضَ وَضْعُه، حقاً كان المذهبُ الذي يضعُهُ أو باطلًا.
وإِذا كان الطرْدُ فِعْلَ القائسِ لأنه إذا استخْرجَ الوصْفَ من الأصْلِ، طَردَهُ في كلُّ موضع وُجِد فيه، لم يَغْلِبْ على الظن إثبات الحُكْمِ في الفَرْع، لأن الذي ينبغي أن يطردَهُ بعد ثُبوتِ كَوْنِهِ عِلَّةً في الأصلِ، فلا يكَون طَرْدُهُ دِلالةً على كَوْنهِ عِلَّةً، بل يكون كونُه علةً
__________
(1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 35 و"الوصول إلى الأصول" لابن برهان 2/ 303.

(2/232)


أوجَبَ الحكمَ في كلُّ محل؛ ألا ترى أن القائسين أجمعوا على أنَّ العلَّةَ في الأعيانِ المنصوصِ عليها في تحريم التفاضلِ واحدةٌ، ثم اختلفوا في تلك العلَّةِ الواحدةِ، وكل واحدٍ منهم ذكر علةً اطردَتْ في الفُروع (1)، فمن قال: الطُّعْمُ. لم يُخْرِجْ مطعوماً عن كَوْنهِ يحرمُ فيه الربا لوجودِ اَلعلةِ فيه لا قَصْداً لطَرْدِها بل هي المُوجبةُ لذلك، حيث اجتهد فلم يُفْضِ به اجتهادُهُ إِلأ إلى أنها علَمُ الحُكْمِ شَرْعاً.
وكذلك مَنْ قال: هي الكَيْلُ، طَرَدها في كلُّ مكيل مطعوماً كان أو غَيْرَهُ.
وكذلك من قال: انها القوتُ. طردها في كلُّ قوتٍ.
ثم اتفقوا جميعاً على واحدةٍ من العِلَلِ، هي الصحيحةُ دون الباقياتِ وإن كان الطرْدُ قد شمل الكل، فلو كان الطرْدُ عندهم دلالةً على الصحة لكانت العِلَلُ كفها عند كلُّ واحدٍ منهم صحيحةً، فلما اتفقوا على أن الطرْدَ في الكل والصحةَ مختصةٌ بواحدةٍ، بَطَلَ أن يكون الطرْدُ بإجماعِهم دلالةً على الصحةِ.

فصل
وقد ذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن سلامةَ العِلةِ مما يُوجبُ فسادَها دِلالةٌ على صِحتِها، وذهب إليه بعضُ أصحابِ الشافعيُّ رحمة الله عليه قالوا: لأنها لو لم تكن علةً لم تَسْلَمْ مِنْ وجْهٍ من وجوهِ الفسادِ الذي يُعترضُ به على العِلَلِ، ويكون ذلك كافياً في إثباتها، وهذا لا يكفي؛
__________
(1) انظر "المغني"4/ 5 - 6، و"تفسير القرطبي" 3/ 352 - 353، و"الفروق" للقَرافي 1/ 259 - 261.

(2/233)


فإنَّ تطرُّقَ الفسادِ قد يكونُ لِما قدَّمْنا ذِكرَهُ، وهو وضْعُ المذهب، على أَنّه لا يَقْبلُ على العِلةِ نَقْضاً، فنضع المذهبَ لِصحتِها على وجْهٍ لايقْبل المناقضةَ، وأفعالُ الإنسانِ ووضْعُهُ لا يكونُ ذلك دِلالة على صِحة مَذْهبهِ، ولذلك لو أنَّ مُدعي النبوَّةِ قنعَ في الدلالةِ على أنَّ المُنكرين لنبوَّتهِ لا يجدون ما يُكذّبُه لم يَكفِ ذلك دِلالة على صِدْقِهِ حتى يُقيمَ شاهداً بصدْقِهِ، لأن الخَصْمَ يجوزُ أنَّ يُقَصرَ، والمُكذِّبَ لهذا المُدعي يجوز أنَّ يُقَصرَ عن إيرادِ ما يُفْسِدُ قَوْلَ المتنبّىءِ ودعواهُ وعِلةَ المُعَلل، وكذلك المُدعي لسائر الحُقوقِ لا تكون الدلالةُ على صحةِ دعواه كوَنَ المُدعى عليه لا يجدُ ما يردّ دَعْواه ويكذبها، بل لا يُصَحَحُ دَعْواهُ إلأ حُجة يرتضي بها الشرع لإثباتِ دَعْواه هي غَيْرُ عجزِ المُنكرِ (1). فأمَّا قولُه سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] فلا يُشْبهُ ما نحن فيه؛ لأن القرآن لما تضمن الأخبارَ السالفةَ والآنِفَةَ، والغُيوبَ المنتظرةَ والدلائلَ الباهرةَ وزعم القَومُ أنه مِنْ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه ظَفِرَ بما فيه من ذلك بالمُدارَسةِ والاطلاع على السِّيَرِ، كان من جواب الله سبحانه لهم وما أبطلَ به دَعواهم أنَّ قالَ: لو كان هذا من مخلَوقٍ لَما خَلا من اختلافٍ، فكان مُضيهُ على سَنَنٍ واحدٍ، وان كلُّ ما أخبرَ به عن الماضي كان كما أخْبَرَ به، وما كان من المُستقبلِ جاءَ كَفَلَقِ الصبْحِ كَوَعْدِه بإحدى الطائفتين يَوْم بَدْرٍ، وبالفتحِ، وبغَلَبةِ الروم، وبموتِ أبي لهب على الشرك، وبإظهارِ دينهِ على الأديانِ كلها لمَ يَنْخَرمْ من ذلك شيءٌ علِمَ أنَّه لا يَقعُ ذلك بحيث لا يتطرَّقُ اليه اختلافٌ إلّا مِمَّن يطلعُ على الغُيوبِ
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 34

(2/234)


بعِلْم أزلي وإحاطةٍ ربانيةٍ (1).
فإن احتجَّ مُحْتَج بكونِ الطردِ دِلالةً بأنْ قال: إني تَتَبعْت (2) الأصولَ فما وجَدْتُ ما يعترض عليها، فلهذا احتَجَجْتُ بها، وهذا بمنزلةِ المُحتَجِّ بالعمومِ إذا زَعمَ أنه تَتَبعَ الأصولَ فلم يجد ما يُخَصِّصُه، كانَ لهُ الاحتجاج بهِ، فجوابُ هذا المُحتج أنْ يُقالُ لهُ: دَعواكَ لذلكَ لا تُصحِّحُ دليلَكَ؛ لأنكَ تحتاجُ إلى اثبات مَا ادعيتَهُ مِنَ العِلةِ أولًا ثم دَعْواكَ أنكَ تَتبعْتَ الأصولَ، فليس تَتَبعُكَ وعَدمُ وُجْدانِك كافياً، لأنكَ قد لا تَجدُ ما يكونُ موجوداً لِغَيرك؛ إمَّا لقصورِكَ عن الطلبِ وتحقيقه، أَو لِمحبَّةِ المذهبِ وسلامته من المناقضةِ. ويجوزُ أَن لا تَجِدَ في حالٍ وتَجدَ في حالٍ أُخْرى، فلا تَجْعَلْ عدمَ وُجدانِك دليلاً، كما لا تجعلْ عدم وُجْدان ما تكذِّبُ به المتنبّىءَ والمُدعي دليلاً على صحةِ النبوةِ والدعوى، وفارقَ العُمومَ لَأنَّ في اللَّفْظِ ما يُعطي الشمولَ والاستغراق، وإِنَّما ذهبَ قَوْمٌ إلى أَنّه يَسْتَقرِىءُ الأُصولَ لئلا يكونَ فيها ما يُخَصِّصُهُ، وغايةُ ما على المستدلِّ بالعُمومِ أَن لا يعلمَ تَخْصيصَه، وعلى المُعترضِ إثباتُ تَخْصيصِه. وفي مَسأَلتِنا: على المُعلِّلِ أَن يدلَّ على كَوْنِ ما عَلَّل به عِلَّة ودليلاً، والعِلَّةُ لا تكون عِلَّةً إلاّ بدِلالةٍ على صِحتِها، فأينَ العمومُ من مسألتنا والحالُ هذه؟
__________
(1) انظر " التمهيد"4/ 35، و"شرح الكوكب المنير"4/ 400.
(2) في الأصل: "سمعتُ". ولعل الجادةَ ما أثبتناه. ويدل عليه ما بعده من قوله: إنكَ تَتَبعْتَ ... الخ.

(2/235)


فصل
وقد تكون الدلالةُ على صحَّةِ العِلةِ سبباً يُنقَلُ مع الحُكْم، مثْلَ قولِ أصحابنا أو الشافعية: إِن الثيبَ لا تُجَبرُ على النكاحِ لأنهاَ حرةٌ سليمةٌ موطوءةٌ في القُبُل، فلا تُجْبرُ على النكاحِ كالبالغِ، فنطالبُ بالدلالة على صحةِ العِلةِ، فنقول: الدليلُ عليه ما رُوِي أنَّ خَنْساءَ زوجَها أبوها وهي ثَيِّبٌ، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدلَّ على أنَّ لِلْوَطءِ تأثيراً في نَفْيِ الإجبارِ (1).

فصول
الاعتراض بعدم (2) التأثير (3). وهو السؤالُ الرابعُ على القياسِ.
وهو: أن يُبَينَ المُعترِضُ به وجُودَ الحُكْمِ مع عَدَمِ العِلةِ، وهو ضَرْبان:
أَحدُهما: عدمُ التأثيرِ في وصَفٍ إذا اسْقِطَ من العِلةِ انتقضت العِلةُ.
والثانى: عدمُ التأثيرِ في وصفٍ إِذا أسْقِطَ من العِلةِ لم تَنْتَقَض
__________
(1) انظر "التمهيد"4/ 128، وانظر: "صحيح البخاري" (6945)، و"سنن الترمذي" (1108)، و"سنن أبي داود" (2101)، و"سنن النسائي" 6/ 86، و"مسند أحمد" 6/ 328، و"الإصابة" 7/ 611.
(2) في الأصل: "بعد".
(3) انظر في هذه المسألة: "التمهيد"4/ 125 و"المسوَّدة": 421 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 547، و"شرح إلكوكب" 4/ 264 و"إرشاد الفحول": 382 و"الإبهاج" 3/ 111 و"شرح تنقيح الفصول": 401 و"فواتح الرحموت" 2/ 338.

(2/236)


العِلَّةُ. وقد تبيَّنَ ذلك في الأصلِ أو الفَرْعِ أو فيهما.
وقد اختلفوا: هل يُؤثرُ ذلك؟ فقال قَوْمٌ: جميعُ ذلك قادحٌ في العِلةِ.
وقال قومٌ: لا يشترطُ التأثيرُ في الأصلِ ولا في الفَرْع، بل يكفي أن يكونَ مؤثراً في موضعٍ من الأصول، وهو مذهبُ القاضيَ الإمام أبي الطيبِ (1) -رضي الله عنه.
مِثالُه: قولُ أصحاب الشافعيُّ في المُرتد: يجبُ عليه قضاءُ الصلوات؛ لأنه ترك الصلاة بمعصيةِ، فأَشْبهَ السكرانَ.
فيقول أصحابُنا وأصحابُ أبي حنيفة: لا تأثيرَ لهذا الوَصْفِ في الأصلِ؛ لأنَّ السكران لو لم يكن عاصياً بالسكرِ بأن كان مُكْرهاً على الشرب أو مُتداوياً به عندهم بفتوى مُفْتٍ أفتاه بالتداوي، أو دَفَعَ اللقمةَ المُخنقَة بِجرع تجرعها منه إذ لمِ يَجدْ بُقْربهِ سواه، فأسكَرَتْهُ تلك الجُرَعُ، أَو شربَها جاهلاً بأنها خَمْرٌ فأسْكرتْهُ، فإنه في هذه المسائل كلَّها لم يَعْصِ بالشُّربِ، ويقضي ما ترك من الصلواتِ حالَ السكرِ.
فالجوابُ عن هذا على قَولِ مَنْ رأى التأثيرَ في أصل من الأُصولِ وموضع منها كافٍ أَن يقولَ: للمعصيةِ تأثيرٌ في القَضاءِ، وذلك إذا شَرِبَ دواءً ليزولَ عَقْلهُ فزال، لم يسقط عنه فَرْضُ الصلاةِ ولزِمَهُ القضاءُ.
__________
(1) هو أبو الطيب الطبري، من كبار فقهاء الشافعية، مات سنة (450 هـ)، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 17/ 668 و"طبقات الشافعية الكبرى" 5/ 12، وانظر قوله هذا في "لمع الشيرازي": 114.

(2/237)


ولو لم يَقْصدْ ذلك، أو زال عَقْلُهُ بغيرِ فِعلهِ رأساً لم يجب عليه قضاءُ الصلواتِ التي لم يؤدها حالَ زوالِ عَقلِهِ، وكان ذلك لمعنىً يعمُّ كلَّ معصيةٍ؛ وذلك أنَ العَقْلَ شَرْطُ الخِطاب، فإِذا تَسَبَّبَ لِإزالتهِ كان ذلك إِطْفاءً لنورِ الله وتعرضاً لإسقاطِ خطابهِ، فكان أهلًا أن يبقى عليه الخِطابُ تغليظاً؛ إِذْ لم يسقُط الخطابُ عمن زال عَقلُهُ لا بفِعْلهِ إلا تَخْفيفاً من الله ورحمة.
واحتج مَنْ سلك هذا في بيانِ التأثيرِ، بأن التأثير دِلالة على صحةِ العلَّةِ، بحيث ما وُجِدَ دل على كونِها عِلَّةً في هذا الحكمِ وإِنْ لم يؤثَر في هذا المَوضعِ.
والذي يوضحُ ذلك ويشهدُ له: أنَّ العِلةَ يجوزُ أنَّ تكونَ لازمةً في الأصلِ لا يُمكنُ انتزاعُها منه، فلا يكونُ عدمُ تأثيرِها في أصلِ العلَّةِ وفَرعِها مانعاً من كَونِها عِلَّةً. والصحيح عند أكثرِ المُحقَقين: أنَّ العِلَةَ إذا لم تؤثرْ في أصْلِها كانَتْ فاسدةً لأنَه متى لم يكن لها تأثير في الأصلِ، فليست عِلَّةً فيه، ولهذا لا يُمكنُ تعليلهُ بها، فالقائسُ، إِنَما يدعي ثُبوتَ الحُكْمِ في الفَرعِ لوجودِ علةِ الحُكْمِ في الأصلِ جاريةً على الفَرْعِ.
وبيانُ ما ذكرنا أنَه لا يُمكنُ تعليلُ الأصل بها، فنقول فى السكرانِ: إنَّه وجبَ عليه القَضاءُ لأنَّ عَقلَه زال بمعصيةٍ، إذْ لا فَرْقَ فيه بين أن يكونَ بمعصيةٍ أو بغيرِ معصيةٍ، ولا يجوزُ أن يُعللَ الأصلُ بوصْفين يحتاجُ الأصلُ إلى وُجودِ أحِدهما في ثُبوتِ حُكْمهِ.
وإِذا زال عَقْلهُ بغيرمعصيهٍ، وهو أن يكونَ أكْرِهَ على الشربِ، فإِن

(2/238)


القضاءَ يجبُ، ولا بُدَّ أنَّ يكونَ لهذا عِلة ليستْ ما ذكره، وتلك العِلةُ تَشْمَلُ المُكْرَهَ وغَيرَ المُكْرَهِ.
فأمَّا قولهم: إنَ التأثير دليلٌ. فليس بجوابٍ، لأن الاعتراضَ بعدَمِ التأثيرِ نَوْعُ إِفسادٍ للعِلةِ، وليس بمُطالبة بدليلٍ على العِلةِ، ولو كان مطالبَة بالدليلِ لم يكن صحيحاً؛ لأنَه ليس يتعينُ على المُسْتَدل أنَّ يَدلَّ بدليلٍ دون دليلٍ على صحةِ العلَّةِ، ويجوزُ أن يكونَ دليلُه غَيْرَ التأثير، وكان يكفيه أن يقول: على العلَّةِ دليلٌ غيرُه، فلا معنى لهذا السؤالِ، ولأنه لو كان تأثيرُها في موضع من أصولِ كافياً في تعليقِ الحُكْمِ بها، لم يحتج إلى ذِكْرِ الأصول، فإِنَّ ذلك الموضعَ يثبت صحَتها وتعلقَ الحكمِ بها في الفَرْعِ، كما أثْبَتَهُ بذلك في الاصْلِ.
فإِن قيل: في الأصل الحُكْمُ ثابتٌ والفَرْع لم يثبُتْ فيه. قيل: إذا ثَبَتَ وجودُ العِلةِ لهذا الحُكْمِ في هذا الفَرْع ثبت بذلك الحُكْمُ فيه؛ فأمَّا الأصلُ الذي لا يُمكنُ انتزاعُ العلَّةِ منهَ فلا يلزم، لأنا لا نقول: إِن زوالَ العلَّةِ والحُكْمِ شَرْطٌ، وإِنما نقول: إِنَ زوالَ العلَّةِ مع بقاءِ الحكمِ لا لعلةٍ خَلَفَتْها مُفْسِدٌ لكونِها عِلَّةً.
فإن قيل: فكذا نقولُ في المَوضعِ الذي لايؤثر، مثلَ أنَّ يَحْرُمَ وطؤها بالإِحرام والصوْم، فإِذا زال أحدُهما بقي الآخَرُ، فكان التحريمُ باقياً. قيل: إِنَ كان الذَي خَلَفَ هذه العِلةَ بقي الحُكْمُ لبقائهِ يجوز أن يرتفعَ مع بقاءِ هذه العِلَّةِ، كالذي ذكَرْتموه في الصوم والإحرامِ، فلهذه العِلَةِ تأثير يُمكنُ بيانُه، وهو أن تزولَ التي خَلَفَتها ويبَقى التحريمُ متعلقاً بالعِلَّةِ، فإِذا زالت العِلَّةُ زال التحريم، وان كان ما خَلَفَ العِلَةَ

(2/239)


لا يصح أنَّ يزولَ مع وجودِها، فذلك هو العلَّةُ دون ما ذكرتموة، ولأنَّه إذا أمكنَ تعليل الأصلِ بعلَّتَين إحداهما أعمَ من الأخرى كانت العامة هي العِلةَ دون الخاصةِ، ولم يعللْ بهما جميعاً، بل يعلَّلُ بالعامةِ فقط.
فإن قيل: أليس العلَّة المنصوص عليها لا تفسد بعدم التأثيرِ وكذلك المستنبطة؟ قيل: المنصوصُ عليها لا يلزم تأثيرها، ولذَلك لا تسْمَع دعوى المعترض عليها بعدمِ التأثير. فإن قيل: فإِذا دَلَلْتُم على صحةِ العِلةِ بغيرِ النص، وجَبَ أن يقومَ ذلك الدليل مقام النص فى المنع من الاعتراضِ عليها بعدم التأثيرِ. قيل: ليس يلزم ذلك، لأن غيرَ النص لا يزيل الاحتمالَ فيها، وعدمُ التأثيرِ يقدح في دليلِك، فلهذا سمعت دعواه، وهذا بمنزلةِ أنَّ يسقطَ القياس مع النص ويعترضَ به على العمومِ لأنَه محتَمل.
فإِن قيل: إذا ثبتَ كون هذه الأوصافِ علةً في موضع من الأصولِ وجَبَ أن تكونَ عِلة حيث ما وُجِدتْ، لأن الطَرْدَ شَرْطٌ، فثبت كون هذه الأوصافِ علةً في هذا الأصل، وهو ترك الصلاةِ بمعصيةٍ.
قيل: من يقول بتخصيص العِلَّةِ لا يلزمُهَ مدا السؤالُ، لأنه إِذا بأنَ أَنَ العِلةَ غير مؤثرة في هذا الأصلِ كانت العِلة مخْتصَّةً بما اثرَتْ فيه.
وأَما مَنْ قال: إن العِلةَ لا يجوز تَخْصيصها [فقد] أثْبَتَة عِلَّةً في هذا الأصلِ، ولا يكون أصلًا تقاس عِلَّته به، بل هو بمنزلةِ الفَرْعِ المختلفِ فيه؛ لأن تعلقَ هذا الحكمِ بهذهِ العلَّةِ فيه ثبت بأصل آخر وهو الذي بان فيه تأثير العِلةِ، وجرى هذا الأصْلُ مَجْرى الفَرْع الذي رَدَدْتَ إليه، وقد بَينا فيما قَبْلُ أن قياسَ بعضِ الفروع علىَ بعض لا وجْهَ له، لأنَ أحدَهما ليسَ بأولى بأن يكونَ أصلاً للَآخَر.

(2/240)


فصل
في مثالِ عدم التأثيرِ في وصفٍ إِذا أُسْقِطَ من العلَّةِ انتقضت العِلَّةُ فهو أنَّ يقولَ الشافعيُّ أو الحنبليُّ في النيةِ في الوضوء: إنه طهارة عن حَدَثٍ فافتقرت إلى النيةِ كالتيمُّمِ، فيقول الحنفيُّ: لا تأثيرَ لقولِك: طهارة؛ فإِنَ ما ليس بطهارةٍ أيضاً يفتقرُ إلى النيةِ وهو الصومُ والصلاةُ. فيقول المستدلُّ هذا ليس بقياسِ علَّةٍ ولكنه قياسُ دِلالةٍ، والتأثير إِنما به يُطلَب في قياسِ العلَّةِ، لانَ المَعللَ يدعي أنَّ الحُكْمَ ثَبَتَ لهذه العلَّةِ، ولا يُعلمُ ثبوتُ الحُكْم بالعلَّةِ إلا بالتأثيرِ، فأمَّا في قياسِ الدلالةِ فلا يَلْزَمُ، لأنَه لم يَدعِ أنَّ الحُكْمَ ثَبَتَ لهذه العلَّةِ، ولكن يدَّعي أنه دليلٌ على الحُكْمِ؛ ولهذا لزِم التأثيرُ في العِلَلِ العقليةِ.
والثاني: أن يقولَ: هذه العِلًةُ منصوص عليها فلا تحتاجُ الى التأثيرِ، وذلك لأن العلَّةَ لا يلزم بأن يدَلَّ عليها بأكثرَ من دليلٍ، فإذا حصلت الدلالةُ عليها لم يلزمْ أنَّ يستدل عليها بالتأثيرِ أيضاً.
مثالُ ذلك (1): أن يقولَ الحنبليُّ أو الشافعيُّ في رِدةِ المرأةِ: إنَه كُفْر بعد إيمانٍ فأوْجَبَ القَتْلٍ كرِدةِ الرجل، فيقول المخالفُ: لا تأثيرَ لقولك: كُفْر بعد إيمان، فإن كُفرَ الرجلِ لو كان قَبلَ الإيمانِ أوْجَبَ القَتْلَ، فيقول: الكُفْرُ بعد الإيمان منصوص عليه، قال عليه السلام:
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 129 - 130 و "المغني" 8/ 86 و"نَيْل الأَوطار" 7/ 193 و"شرح معاني الآثار" 3/ 220 و"السنن الصغرى" للبيهقي 3/ 278 و" المحلَّى" 11/ 118.

(2/241)


"لا يحلُّ دَمُ امرىءٍ مسلمٍ إِلاّ بإحدى ثلاثٍ: كُفْرٍ بعد إِيمان " (1)، والتأثيرُ يُتَوَصَّلُ به إِلى معرفةِ علَّةِ الشرعِ بنوعِ استنباطٍ، فإِذا ظفِرنا بنصِّ صاحبِ الشَّرعِ ثبتَ كَوْنُه علَّةً، فاستغنى عن تعريفِ ذلك بالاستنباطِ.
والثالثُ: أَن يُبيِّنَ تأثيرها في موضعٍ من المواضعِ، وذلك مثل أَن يقول الشافعي في لبنِ الميتةِ: إنَّه نَجسٌ (2 [لأنه غير ماءٍ لاقى نجاسةً فينجس] 2) كما لو وَقَع في اللبن نجاسة. فيقول الحنفيُّ: لا تأثيرَ لقولِك غير الماءِ لاقى نجاسةً، لَأنَّ الماءَ نَفْسَهُ يتنجَّسُ أَيضاً بمُلاقاةِ النجاسةِ، وهو القليلُ.
فيقول المستدل: تأثيرُهُ في القُلتَيْن، ويكفي التأثيرُ في موضعٍ واحدٍ؛ فإنه لو اعتُبرَ في كلُّ محل لكان عَكْساً، ولا يُشْتَرطُ العكْسُ في عِلَلِ الشرعِ، وإنَما يُعتبرُ في عِللِ العقلِ.

فصل
وأَما عدمُ التأثيرِ فيما لا تنتقضُ العلَّةُ بإسقاطِه.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة: 8.
(2 - 2) زيادة يقتضيها السياف، وانظر "المهذب" للشيرازي 1/ 11 و"المغني" لابن قدامة 1/ 77 و"تحفة الفقهاء" 1/ 52.

(2/242)


مثالُه: أن يقولَ الشافعيُّ في المتولد من بين أصلين: لا زكاةَ في أحدِهما بحال، فلم تجب فيه الزكاةُ (1) كما لو كانت الأمهاتُ من الظباءِ، وهذا قياسٌ على أَبي حنيفة، ولا يُسَلمُهُ أصحابُنا لهم، فيقول المُخالفُ: لا تأثيرَ لقولك: بحالٍ، فإنك لو اقتصرتَ على قولك: لا زكاةَ في أحدهما لم ينتقض بشيءٍ، فقولُك: بحال، حَشْوٌ في العِلةِ لا تحتاجُ إِليه. فيقولُ الشافعي: هذا ذكرْتُه للتأكيد، وتأكيدُ الألفاظِ لا تعدُّها العربُ حَشواً ولا لَغْواً، ولهذا جاء بها القرآن، قال سبحانه: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] فأكَد ثم أَكد، ولم يُعَدَّ ذلك لَغْواً.
أو يقول: هذه الزيادةُ ذكرتُها لتأكيدِ الحُكْم، وذلك مثل أن يقولَ الشافعيُّ في القذفِ: إنَه يتعلق به رد الشهادة، لأَنه كبيرة تُوجبُ الحد، فتعلق بها ردالشهادةِ، كالزَنا. فيقول المخالفُ: قولُك: يُوجِبُ الحد حَشْو في العِلةِ لا يُحتاجُ إليه، فيقول: إن تعلقَ الحدِّ بها يدلُّ على تأكدِها، وتأكدُ العِلةِ يُوجبُ تأكدَ الحُكْمِ، وما يُوجبُ تأكيدَ الحكمِ لا يُعَدُ لَغْواً.
أو يقول: إِن هذه الزيادةَ ذكرتُها للبيانِ، وذلك (2) مثل أن يقول الشافعيُّ في التَحرِّي في الأواني: إنه جنْس يدخُله التحرِّي إِذا كان عددُ المُباحِ أَكثر، وإِن لم يكن عددُ المباحِ أَكثَرَ، كالثيابِ.
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 136.
(2) في الأصل: "ولذلك".

(2/243)


فيقول المخالفُ: لا تأثيرَ لقولِك: إذا كان عددُ المُباح أكثر، فإنَك لو قلتَ: جنس يدخُله التحري لكفاك، فقولُك: إذا كانَ عددُ المُباحِ أكثرَ، حَشْوٌ لا يُحتاجُ إليه، فهو كما لو قال: مطعومٌ مقتاتُ جِنْسٍ فيقول الشافعيُّ: هذا بيان لما تقتضيه العلةُ، وذلك أني لو قُلتُ: جِنْسٌ يدخلُه التحري لكان معناه: إذا كان عددُ المُباحِ أكثرَ، وبيانُ ما يقتضيه الكلامُ لا يُعدُّ حَشْواً، ويُخالفُ ذِكْرُ القوتِ مع الطعْمِ، لأن ذلك ليس ببيانٍ لمعنى العِلَّةِ، ألا تَرى أنَّ بذِكْرِ القوتِ يَخْرجُ (1) ما ليس بقوت، وهذا بيان لِمعنى، ألا ترى أنه لا يخرجُ من العلَّةِ شيءٌ فوِزانُه أن نُضيفَ إلى الطعْمِ ما هو بيان لمعناه بأن نقول: مطعومُ الآدميين في جنس، فيجوز حين كان ذلك معنى المطعوم، لأنَ إطلاقَه إليه ينصرفُ، دون طُعْمِ البهائمِ والجنِّ، وهو النجايل والأتْبانُ والحشائشُ والعظام.
وجوابٌ رابع أن يقولَ: هذه الزيادةُ لتقريب الفَرْع من الأصلِ، وذلك مثل أن يقول الشافعيُّ في جلدِ الكَلْبِ: أنه لا يطَهرُ بالدباغِ (2)، لأنَّ ما بعد الدباغِ حالة حُكمَ فيها بطهارةِ جلْدِ الشاةِ، فوجب أن يُحكمَ فيها بنجاسةِ جِلدِ الكلب، كحالِ الحياةِ.
فيقول الحنفيُّ: لا تأثير لقولِك: يُحكمُ فيها بطهارةِ جِلدِ الشاةِ، فإنك لو قُلْتَ: حالة يحكمُ فيها بنجاسةِ جلدِ الكلبِ كفى، فالزيادةُ عليه حَشْوٌ.
__________
(1) في الأصل: "من ما".
(2) انظر "مختصر المزني": 1، و"نيل الأَوطار" 1/ 62 و"المحلَّى"1/ 123 و"إيثار الإنصاف": 47 - 49.

(2/244)


فيقول الشافعيُّ: هذه الزيادةُ ذكرتُها لتقريب الفرع من الأصل، وان ما بعد الدِّباغ يجري مَجْرى حالِ الحياةِ بدليلِ أنهمَا يستويان في إيجابِ الطهارةِ، وإذا لم تؤثر الحياةُ في طهارةِ جلدِ الكَلْبِ دل على أنَّ الدِّباغَ مثلُه، وتقريبُ الفَرْعِ من الأَصلِ يزيدُ في الظَّنِّ، فلا يُعَدُّ حَشْواً.

فصل
ومن ذلك: إذا كان التأثيرُ على أصلِ المعللِ، نَظَرْت، فإن كان ذلك في الأصل المقيس عليه، يسقط سؤال المُعترِض له، فلا تأثيرَ لهذه العلَّةِ في الأصلِ؛ لأن المُعللَ لا يُسلمُ ذلك.
مثالُ ذلك (1): أَن يُعلِّلَ الشافعيُّ في إنكاحِ الثَيّبِ الصغيرةِ أَنّها حُرَّةٌ سليمةٌ موطوءةٌ في القُبُلِ، فلا يجوزُ إجبارُها، كالكبيرةِ.
فيقول [المعترضُ]: لا تأثير لهذه الأوصافِ في الكبيرةِ، فإنَها لا تُجْبَر وإن لم تكُنْ مَوْطوءةً في القُبُلِ.
فيقول الشافعيُّ: لا أُسلمُ، فإنَ عندي تُجْبَرُ البكرُ الكبيرةُ.
فإن عدل المعترِضُ عن ذلك الى المطالبةِ بالدليل على صحةِ العِلةِ، دل بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - جعل للثُيوبةِ تأثيراً فقال: "الثيبُ أحقُ بَنْفسِها، والبكرُ تُستَأذنُ فى نَفْسها" (2) وإن كان في غَيرِ الأصلِ لم يكن ذلك دليلًا عَلى صحةِ العلَّةِ؛ لأَن تأثيرَ العلَّةِ على أصلهِ بمنزلةِ طَرْدِها، لأنه لما جعلها عِلَّةً أجراها في معلولاتها ورَفعَ الحُكْمَ بارتفاعِها، وهذا
__________
(1) انظر "التمهيد" 4/ 128، و"المغني" 6/ 344.
(2) أخرجه مسلم (1421) وأبو داود (2098) والترمذي (1108) والنسائي 6/ 84 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(2/245)


مِثْل أن يدعي أن الكَيْلَ عِلة في أعيانِ الرِّبا ثم يُبَيِّن صحتَها بأن الفواكه لا رِبا فيها، لأنها ليست مكيلةً.
فيقول المُعترضُ: لا أسلِّمُ ذلك الحُكْمَ، وإنما ذُهب أنَّه لا ربا في الفواكهِ لأنك جَعلتَ العلَّةَ في المنصوصِ عليها الكَيْلَ، فلا يكونُ ذلك دلالةً على صحةِ كَوْنِ الكَيْلِ عِلَّةً.

فصل
إذا لم يكُن للوصفِ تأثير في الأصلِ، ولا في شيءٍ من الُأصولِ لم يكُن عِلَّةً، وعلى ذلك أَكثَرُ الناسِ وجماعةُ أَصحابِ الشافعيّ، وكل من لم يَجْعَل الطردَ دليلًا على صحتِها.
مثالُ ذلك: ما قاسَ بعضُ الفقهاءِ القائلين باعتبارِ العددِ في أحجارِ الاستجمارِ، أنها عبادة تتعلَّق بالأحجارِ لم تَتَقَدمْها معصيةٌ، فاعتُبرَ فيها العَدَدُ، كَرَمْي الجمارِ، فإن قولَهُ: لم تتقدمْها معصيةٌ لا تأثيرَ له في الأصلِ ولا فيَ الفَرْعِ؛ فإنَّه لا فَرْقَ في الاستجمار (1) بين أَن يتقدمَهُ معصيةٌ أو لا يتقدمَة حتى لو أنه أحدث في مسجدٍ فإنه قد تقدَّمه معصيةٌ، ومع ذلك يُعتبرُ فيه العددُ (2).
وكذلك رَمْيُ الجِمارِ لو تقدمه خذف بالحصى قَلَعَ به عُيونَ الناسِ ثم رمى فإنه قد تقدمه معصيةٌ، ويعتبر فيه التكرار.
فيقول المعللُ: تأثيرُهُ في الرجْمِ للمُحصَن (3)، فإنه لما تقدمَتْهُ
__________
(1) في الأصل: "الاستنجاء".
(2) انظر "التمهيد" 4/ 131، و"المغني" 1/ 127 - 129، و"المحفَى" 1/ 95، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 29.
(3) في الأصل: "للتحصن".

(2/246)


معصيةٌ لم يُعْتَبَرْ فيه العَدَدُ، بل لو مات المَرْميُّ بحجرٍ واحدٍ كفى وأجْزَأ في إِقامة الحَدَ.
فيُقال: ليس المُوجبُ لِنَفيِ التقدير تقدُّمَ المعصيةِ ولا علَلهُ أحدٌ بذلك، وكيف يُجْعلُ تَقَدمُ المعصيةِ علًّةً لإسقاطِ التكرارِ، والمعصيةُ أبداً تُوجبُ تأكيدِ التعذيب، فأمَّا أن تكون عِلَّةً لإِسقاطه فلا، وليس يكفي في بيانِ التأثيرِ أنَّ يُعْدَمَ، ولا الحكم في موضع، وإنَما يُعتبرُ أنَّ يزولَ الخكْم لزوالِ العِلَّةِ، وإنَما يُبَين ذلك أن يكونَ زوالُ الحُكْم مَعَلَّلًا بزوالِ تلك العِلَّةِ، مثلَ: أنَّ يزولَ تحريمُ الخمرِ ونجاستُهُ بتخَللهِ وزوالِ شدَّتهِ المُطربةِ فيه، وكذلك أنَّ كان زوال الحُكْمِ بزوالِ بعض أوصافِ العلَّةِ، فإنَّ تلك العِلَةَ مؤثرة.

فصل
فأمَّا الوصفُ إِذا كان يمنع من نَقْضِ العِلةِ فهل يكونُ مانعاً من نَقْضِها كافياً في التأثيرِ؟ قال بعضُ الناسِ من أهلِ الجدلِ وبعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يكون تأثيراً.
والذي عليه المُحقِّقون انَّه ليس بصحيحِ؛ لأنَّ النَّقْضَ يَمْنعُ منه اللفظُ، فقد يكون المانعُ من النًقْضِ اللفظ الذي يزيدُهُ المُعَلَلُ في العلَّةِ بوضْعِه مع كَوْنهِ لا تَعَلقَ للحُكْم به، ويسقطُ الوصفُ الذي يتعلق به الحكمُ، وهذا كما لو قال أصحابُ أبي حنيفةَ في إِزالةِ النجاسةِ بالمائعاتِ: إِن اللَّبَنَ مائع طاهر مشروب فجاز إزالة النجاسةِ به كالماءِ.
كان قولهم: مشروب، يمنعُ دخولَ النقض بالدهنِ والمَرَقِ، وإن كانَ وصفاً لا تعلقَ للحكمِ به، وإِنَّما العِلًةُ أنه مَنْفى، لان مشروباً لا تأثيرَ

(2/247)


له لأنَّ المأكولَ والمشروبَ سواء.

فصل
فإن علل بعض القائلين باسقاطِ الزكاةِ عن الحُليِّ بأنه يُعد لاستعمال مُباحٍ فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ كالثياب المُعَدَةِ لِلبْسِ أو التي لا يُنْوى بها التجارةُ، فقيل له: لا تأثيرَ لقولكَ: لاستعمالٍ مُباحٍ في الأصلِ، لأنه لو أعد لنفْسِهِ الحريرَ كان مُعَداً لاستعمال محظورٍ ولا تجبُ فيه الزكاةُ (1).
فقال: للإباحةِ تأثير في الأصول، لأن زوالَ العَقلِ إذا كان بأمْرٍ مُباحٍ، كدواءٍ شَرِبَه للتداوي تعلَّق به سقوطُ الفَرْضِ، واذا [كان] بأَمرٍ محظورٍ، مثلَ أن شَربَهُ ليزيلَ عَقْلَهُ لمِ يسقُطْ عنه الفَرضُ، فهذا جواب بعيد؛ لأن تأثيرَ العِلةِ يجبُ أن يكون في حُكْمها، إمَّا في الأصلِ في أصح المَذْهبين الذي نَصَرْناه، أو فيْ بَعْضِ الأصولِ، فأمَّا حُكْمٌ آخرُ وهو سقوطُ فَرضِ الصلاةِ فلا وجْهَ له.

فصل
في الوصفِ إذا جُعل تَخْصيصاً لحكمِ العلَّةِ
مِثْل أن يقولَ المُسْتدل في تَخليلِ الخَمْر: بأنَّه مائع لا يطهرُ بالكَثرةِ، فلا يطهر بصَنْعةِ آدمى، كالخَل النَّجِسِ (2).
__________
(1) انظر "المغني" 3/ 9.
(2) انظر "التمهيد" 4/ 133 و"شرح الكوكب المنير" 4/ 275، و"المغني" 8/ 221 و"إِيثار الِإنصاف": 375.

(2/248)


فقال المُعترضُ: لا تأثيرَ لقولِك: "بصنعةٍ"، في الأصل؛ لأنه لا يطهرُ بصنعِة آدمي ولا بغيرِ ذلك، فقد اختلف الناسُ في ذلك، فقال بعضُ أهل الجدلِ وبعضُ أصحاب الشافعيُّ: إِنَّ هذا ليس بسُؤالٍ صحيحٍ؛ لان التأثيرَ لا يطالبُ به في الحُكْمِ، وإِنما يُطلبُ في العِلةِ.
ومنهم مَنْ يقولُ: إن الحُكْمَ إِنما هو عدمُ الطهارةِ، وتعلُّقُ ذلك بالصنْعَةِ من تمام العلَّةِ، فيجبُ بيانُ تأثيرِه، وهذا أصح؛ لأنَ تَفْصيحَ هذا: أنَ الحُكْمَ إذَا أَدْرِجَ فيه حُكْم حَسُنَ أن يُوردَ عليه ما يُورد على الأوصافِ المُخَلصةِ من الأحكامِ، وما ذلك إلّا بمثابةِ ما سمِعْناه من الخُراسانيين كثيراً، وهو قولُهم في وصْفِ العِلَّةِ: هذا عَيْنُ سؤالي، فأين دليلُك؟ أو: هذا دليلُك، فأين المسْالةُ؟
مِثالُ ذلك: قولُ المُسْتَدل على تحريم النَّبيذ: شَرابٌ فيه شدةٌ مطرِبةٌ فكان مُحرماً كالخَمْرِ (1).
فيقول: إنَّما سألْتُكَ عن هذا الشراب الذي فيه شِدَةٌ مُطْرِبَةٌ، فأتَيْتَ بَنْفسِ ما سَألْتُكَ عن حُكْمِهِ والدلالةَ عليه، فَجَعَلْتَهُ دليلاً.
فالجوابُ أنَّ يقولَ: إِنك ليس من حيثُ أتيتَ بما يَصلُحُ أن يكونَ دلالةً فأدْرجْتَهُ في سؤالِك يمنعني ذلك من تعلقي بالاستدلالِ به، لأنه لو مَنَع ذلك من الاستدلالِ لكان للسائِل أن يَمنعَ المُستدِل الاستدلالَ، فإنه يمكنهُ أن ينطقَ بكل صالح للاستدلالِ به في اثناءِ سؤالهِ، فإِذا منعه ذلك من الاستدلالِ به امتنع عليه الدليلُ وانسدَّ عليه طريقُ التعليلِ، حتى إِذا قال له: هل تحسنُ عقوبةُ المسيء؟ فيقول:
__________
(1) "المغني" 8/ 220، و"المحلّى" 7/ 508.

(2/249)


نعم، فيقول: ولم حَسُنَ ذلك؛ فقال: لأنه مسيء قال: هذا سؤالي، فأَين دليلُك؟ وكل ما أَبطَلَ الاستدلالَ فباطلٌ، ولم يَبقَ إِلاّ أَن التحقيقَ في ذلك: أن كلُّ وصفٍ مُدْرج في حُكْم فيتسلط عليه مايتسلطُ على المُفْرَدِ من الأسئلة غير المُدرجِ في الأحكامِ، وكل ما صلح للاعتلالِ به، والاستدلالِ إذا لم ينطقْ به السائلُ ويُدْرجُه في سؤالِه، صلح للاستدلالِ به وإن أدرجه السائلُ في السؤالِ.

فصل
وإذا كان في العِلَّةِ زيادةُ وصفِ تَطَّردُ العِلَّةُ دونه، مثلَ أَن يُعَلل بصحةِ الجمعةِ من غيرِ إمام بأنها صلاة مفروضة فلم تَفتَقِرْ إلى إذن الأمام، ولو قال: صلاة، فلا تفتقرُ الى إذْنِ الأمام أمكنَ ذلك واطردتَ العلةُ (1).
فمن الناسِ مَنْ يقولُ: هذه الزيادةُ لا تضرُّ، لأنَّها تُنبهُ على أَنَ غَيْرَ الفرائضِ لا تحتاجُ إِلى الِإمامِ، فكأنَّه ذَكَرَ لَفظاً يعمُّها.
وقد قيل: إن الغَرَضَ من هذا الوَصْفِ الزائدِ تَقريبُ الفَرعِ من الأصلِ بكثْرةِ ما يجتمعان فيه من الأوصافِ.
ومنهم مَنْ قال: لا نحتاجُ إلى هذا الوصْفِ الزائدِ ولا ينبغي أن يدخل على العلَّةِ لأنها تَسْتَقلُّ دونهُ وليست ببيانٍ، ولا حاجَةَ بنا إلى التنبيه، واللفظُ يعم دونَه، ولا إلى تَقريب الفَرع من الأصل بزيادةٍ على علةِ الحُكْمِ.
__________
(1) انطر "التمهيد" 4/ 134، و"الكافي" لابن قدامة 1/ 330، و "المغني"

(2/250)


فأمَّا إذا كانت الزيادةُ للبيانِ كقولِنا في الأواني: إنَه جنسٌ يدخلُه التحري إِذا كان المباحُ أكثَرَ، فدخله إذا استويا، فإنا لو قُلْنا: يدخلُه التحري كفى، ولكن هذه الزيادةَ لبيانِ موضعِ دخولِ التحري وليست بزيادةٍ في العلَّة فكانت جائزة، فكذلك إذا كانت الزيادةُ تأكيداً جاز كقَولنا في المتولد بين الظباءِ والغَنَمِ: إِنه متولدٌ من بين جنسين لا زكاةَ في أحدِهما بحال، فإن قَولنا: لا زكاةَ في أحدهما، كافٍ في النَّفي على العموم في جميعِ الأحوالِ، فإِذا قُلْنا: بحال، كان تأكيداً لا يُفيدُ إلأ ما أَفاده اللفظُ، فلم يكن زيادةً في العلَّةِ.

(2/251)


فصول
النَّقض
والنقض (1): وجودُ العِلَّةِ مع عدم الحكمِ على قَوْلِ مَنْ لا يرى تخصيص العِلَّةِ. وإذا كانت مُنتقضة كانت فاسدةً عند مَنْ لا يرى تَخْصيصَها. فأمَّا مَنْ يرى تَخْصيصَها فإنه يجعلها كالعموم الذي خَصه الدليلُ، ويأتي الكلامُ في ذلك مشبعاً إن شاء الله في مسائل الخلافِ (2).

فصل
والعلَّةُ على ضربَينْ:
عِلَّة وُضِعَت للجنس.
وعلَّة وُضِعَتْ لِلْعَيْنِ.
فالموضوعةُ للجنسِ تجري مَجْرى الحَد؛ تَفْسُدُ بأن ينتقضَ طَرْدُها، أو يُحيلَ عَكْسُها، وذلك مِثْلُ أنْ نقولَ: الشركةُ هي المُوجبةُ
__________
(1) انظر "أصول السرخسي" 2/ 233، و" اللمع" للشيرازي: 114، و"شرح الكوكب المنير"4/ 281، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 500، و"إرشاد الفحول": 387.
(2) انظر 3/ 265.

(2/252)


للشفْعَةِ، والعَمْدُ المَحْضُ هو المُوجبُ لِلْقَودِ، فمتى تَعَلقَتْ الشُّفْعَةُ بغير الشركةِ، أو لم تَثْبُت مع الشركةِ، بطلَتِ العِلةُ.
وكذلك لو قال قائلٌ: إن المُبيحَ للدَّم الرِّدَّةُ، كان ذلك مُنْتَقَضاً؛ لأن الدمَ يُستباحُ بغيرها.
وأَما إِن كانت العِلَّةُ للأَعيانِ، نَظَرْتَ، فإِن كانت للوجوبِ، فمتى وُجِدت العلَّةُ دون حُكمِها، كانت مُنْتَقَضةً، مِثل أن يقول الحنفيُّ: إِنَّ الوضوءَ طهارةٌ، فلا يفتقرُ إِلى النيةِ كإِزالةِ النجاسةِ، فيُنْقَضُ عليه بالتيمُّمِ؛ لأنه طهارةٌ ويفتقر إِلى النيةِ بإِجماعِنا.
فإِنْ أنكَر المعللُ الحُكْمَ في موضعِ النقْضِ، أو أنكر وجوبَ العلَّةِ فيه إِذا كانت حكْماً، فإِن كان مسؤولاً، لم يكن للناقضِ إِثبات ذلك الحُكْمِ بالدليلِ. وإِن كان معارِضاً، فقد اختلف الناسُ في ذلك: فمن القائسين من أجاز للمسؤولِ نَقْض عِلةِ المعارضِ بأصلهِ، ووجْهُ ذلك: أنَ هذه العِلةَ التي عارَضَه بها المُعترضُ ليست حُجَّةً عند المسؤولِ لانتقاضِها على أصْله، فكان له ردُّها كما لو عارضه بدليلِ الخطابِ وهو لا يقول به، ولانً المسؤولَ قد لا يكون رد هذا القياسَ إلا بنَقْضهِ، فإِذا مُنعَ من ذلك وقف عليه الكلام.
ومنهم مَنْ قال: ليس له نَقْض علَّةُ المُعترض بما يَنْفرِدُ به؛ لأنَ الموضعَ الذي يَنْقُضُ به عليه المعترضُ العِلةَ حُجةٌ للمعترضِ، كما هي حُجة في المسألةِ التي تكلَّما فيها، وذلك مثل أن يستدل الحنفيُّ في أنَ تسميةَ المهْرِ إذا كانت فاسدةً وثبتَ مَهْرُ المَثْلِ، لم يَتَنصَّف

(2/253)


بالطلاقِ؛ بأنَّ عَقْدَ النكاحِ خلا عَنْ تَسْميةٍ صحيحةٍ، فوجب بالطلاقِ قبل الدخولِ المُتْعَةُ، فيُعارضُه الشافعيُّ بأن هذا مَهْرٌ وجَبَ قبلَ الطلاقِ، فوجب أن يتَنصَّفْ بالطلاقِ قَبْلَ الدخول، كما لو سُميَ في العَقْدِ (1).
فيقول الحنفيُّ: ينتقضُ ذلك على أصْلي بالمُفَوضةِ إذا فُرِضَ لها المهرُ قبل الطلاقِ. فيقول المعترضُ: هذه حُجةٌ عليك في ذلك الموضع، كما هي حُجةٌ هاهُنا، ولو جاز لك أن تُبطلَها بذلك الموضعِ، لأمْكنَكَ أن تُبطلَها بالمسألةِ التي تكلمْنا فيها، ولا بُدَّ أن يكون لك دليلٌ يمنعك من استعمالِ هذا القياسِ في هذين الموضعَيْن، فتحتاج أَن تُثْبِتَهُ؛ لتسقطَ عنك المعارَضةُ.
ويُفارقُ القياسُ دليلَ الخطابِ؛ لأن دليلَ الخطاب ليس بحُجةٍ عنده، والقياسُ عنده حُجةٌ، فلا يتركُه إلا بما هو أوْلىَ منه.
فأمَّا إذا قال المستدل: إني لا أعرفُ الروايةَ في المسألةِ التي أَلْزَمه إِياها المعترضُ نَقْضاً، فقد قال بعضُ أصحاب الشافعيُّ: ينبغي أن يقولَ له المعترضُ: ينبغي أن لا تحتج بهذا القياَس، لأنك تعلمُ أنه سليم من النقْضِ.
ويمكنُ المسؤول أن يقولَ: هذا القياسُ حُجةٌ ما لم أعلمْ ما يُفْسدُهُ، كالتمسكِ باستِصْحابِ الحالِ، وبالقياسِ، مالم يُعْلَم هل نزل نصٌ في الحُكْمِ في عصرِ النبى - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجوزُ ما لمْ يَسْمَعْ نُزولَ نَصٍّ، ولايُقالُ: إنه عَمِل بالشكِّ.
__________
(1) انظر "التمهيد"، 4/ 159.

(2/254)


ولقائلٍ أن يُجيبَ عن هذا: بأن استصحابَ الحالِ تمسك واجبٌ بأصلٍ موضوع، وهاهنا لا يثبتُ أنَه قاسَ حتى يعلم سلامتَه من النقضِ.
فإِنْ قال المستدلُّ: انا أَحملُ هذه المسألةَ على مُقْتضى القياسِ، وأثبتُ فيها مِثْلَ حُكْمِ علتي. قيل: هذا إثبات لمذهب صاحبك بالقياسِ، وليس لك هذا، إلاّ أن يُنْقَلَ عنه أنه عللَ هذا الَحُكْمَ بهَذه العِلةِ فيُجْريها (1).

فصل
وإذا نُقِضَتِ العِلةُ، فالجوابُ عنها من وجوه:
أحدُها: أنَّ لا يُسَلَمَ للناقضِ مسألةَ النقْضِ. وذلك مثل أنَّ يقولَ الشافعيُّ في المخالفِ عند هلاكِ السلعةِ: إنَه فَسْخُ بَيْع يصح ردِّ العَيْنِ، فيصحُّ مع رد القيمة، كما لو اشترى ثَوْباً بَعْبدٍ وتقابَضا، ثم هلك العَبْدُ ووجد مُشْتري الثوبِ بالثوْبِ عَيْباً.
فيقول الحنفيُّ: هذا يبطُل بالإقالةِ (2).
فيقول الشافعيُّ: لا أسلمُ الإِقالةَ، فإنها تجوزُ عندي مع هلاكِ السلْعةِ.
والثاني: أن لا يُسَلَمَ وجودَ العِلةِ.
__________
(1) "شرح الكوكب المنير" 4/ 287.
(2) انظر"رحمة الأمةِ": 274، و" ملتقى الأبحر" 2/ 33، وانظر"عون المعبود" 9/ 331، و"سنن ابن ماجه" (2199).

(2/255)


ومثالُ ذلك: قولُ الحنفيُّ في المضمضة: إنها تجبُ في الغُسْلِ لأنها عُضْوٌ يجبُ غَسْلُهُ من النجاسة، فوجب غَسْلُهُ من الجنابةِ كسائر الأعضاءِ.
فيقول الشافعيُّ: هذا يبطلُ بالعَينِ.
فيقول المخالفُ: العَيْنُ عندي لا يجبُ غَسْلُها من النجاسة، فلا يلزمُ النَّقْضُ (1).
الثالث: أن يَدْفَعَ النقْضَ بمعنى اللفْظِ، وذلك شيئان: مقتضى اللفظ، وتَفْسيرُ اللفْظِ.
فأمَّا مُقْتضى اللفْظِ: فهو مِثْلُ أَن يقولَ الشافعيُّ في مَهْر المُسْتكْرَهَةِ على الزنا: ظَلَمها بإتلافِ ما يتقوَّم فلَزمَ الضمان، كما لو أتْلَفَ ما لَها عليها (2).
فيقول الحنفيُّ: هذا ينتقضُ بالحَرْبى إذا وطِئها.
فيقول: قولنا: ظَلَمَها، رجع إلى هذا المستكرِهِ الذي هو من أهلِ الضمانِ، إذْ لا يجوزُ أن يَخْلو قولُنا: ظَلَمها، من فاعل مُعَينٍ تعودُ "هاء" الضميرِ إلِيه، وليس إِلا هذا المُسْتكرِه الذي هو من أهلِ الضمانِ، فصار كأنا قلْنا: هذا الذي هو من أهلِ الضمانِ ظَلمها (3).
__________
(1) انظر "الاختيار لتعليل المختار"1/ 11، و"فتح الباري" 1/ 483.
(2) انظر "المهذب" للشيرازي 2/ 62، و"التنبيه" له: 108، و"المغني" لابن قدامة 5/ 166.
(3) "لتمهيد"4/ 146.

(2/256)


ومثل أن يقولَ الشافعيُّ في ضمانِ المنافعِ بالغَصْب: إِن ما ضُمِنَ بالمُسمَّى في العَقْدِ الصحيحِ، جاز أنَّ يُضْمَنَ بالإتَلافِ بالعُدْوانِ المَحْضِ، كالَأعيانِ.
فيقال: هذا يبطُلُ بالحَرْبى، فإنه يضمَنُ المنافعَ بالمُسَمى في العَقْدِ الصحيح، ولا يَضْمَنُ بالإتلافِ.
فيقول الشافعيُّ: هذا لا يَلْزَمُ، لأنّا لم نَقُل: إن مَنْ ضَمِنَ بالمُسَمى ضَمِنَ بالإتلافِ وإِنما قُلْنا: ما ضُمِن بالمُسمى ضُمنَ بالإتلافِ، وتلك المنافعُ يجوزُ أن تُضمَنَ بالإتْلافِ، وهو إذا أتلفها مسلم أو ذميٌّ، فلا يلزَمُني النقْضُ.
وأمَّا الدَّفْعُ بالتفسير: فهو أَن يحتمل اللفْظُ أَمرَيْن احتمالاً واحداً ففسره بأحدِهما ليدفَعَ النَقْضَ.
وأضافَ أصحابُ أبي حنيفة وأصحابُنا الى ذلك، التسويةَ بين الأصلِ والفَرْع في مسألةِ النقْضِ، ومثالُ ذلك: أن يَقولَ في إيجاب الِإحدادِ على المبتوتةِ: بأنها معتدةٌ بائن، فلزِمَها الِإحدادُ كالمتوفّى عنهَا زَوْجُها (1).
فيُقالُ له: هذا ينتقضُ بالذميةِ.
فيقول: يستوي فيه الأصلُ والفَرْعُ؛ فإن الذميةَ لو كانت متوفىً عنها زوجُها لم يجب عليها الإحدادُ.
__________
(1) "التمهيد" 4/ 168، وانظر"ملتقى الأبحر" 1/ 293، و"رحمة الأمة": 449.

(2/257)


فيقول أصحابُ الشافعيُّ: ليس هذا جواباً صحيحاً، لأنا نَقَضْنا بالمبتوتةِ الذميَّة.
فقالوا: وينتقضُ أيضاً بالذميةِ المتوفى عنها زَوْجُها، فيصير النقْضُ نَقْضَيْن.
ومما دفعوا به أيضاً أن قالوا: هذا موضع استحسان.
مثالهُ: أن يقول في الكلام في الصلاةِ ناسياً: إنَّ ما أبْطَلَ العبادة عَمْدُهُ أبْطلَها سَهْوهُ، كالحَدَثِ.
فيقول المعترضُ: إن النص دل على انتقاضهِ، فيكون آكَدَ للنقْضَ (1).
والثالث من أَجوبتهم: أنَّ قالوا: عندنا تخصيصُ العِلةِ جائز.
فيقال: إنكم دخَلْتُم مَعَنا على مراعاةِ طَرْدِها والاحترازِ من نَقْضِها، ولهذا احتَرَزْتُم من سائر النقوض ولم تَرْجعوا فيها الى جواز التخْصيصِ.

فصل من فُصولِ النقضِ أيضاً
وإذا نَقَضَ المُعترضُ العِلةَ بُحكْم يَتَفقان عليه إلّا أن المُعَللَ يُنكرُ التسميةَ الشرعيةَ، فإن للناقض بيانَ ذلك (2).
__________
(1) انظر"التمهيد"4/ 166، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 291، وقد نقل كلام ابن عقيل.
(2) "التمهيد" 41/ 142.

(2/258)


مِثالُه: تعليلُ الحنفيِّ في أنَّ عِوضَ المنافعِ في عَقْدِ الإجارةِ لا يُسْتَحَق بمُطْلقِ العَقْدِ بأن يقولَ: عَقْد على مَنْفعةٍ فأشْبهَ المُضاربةَ (1).
فيقول المُعترضُ: ينتقضُ بالنكاحِ.
فيقول المعللُ: النكاحُ معقود على الحِل والإباحة دون المنافعِ.
فيقول المُعترِضُ: إن العَقْدَ يتناولُ ما يستَوْفيه من المنافعِ، فأمَّا الحِل فَحُكْم شرعيٌ يحصلُ له بالشرْع لا بالعِوَضِ ولا بالعَقْدِ، وأحكامُ الشرعِ لا تحصلُ بالأعواض ولا بمِلْكٍ ولا تَقْبلُ العُقودَ، وكما لا يُقالُ: يُعقدُ على الملكِ في الأَعيان، لكن يُعقدُ عليها فيحصلُ الملكُ، كذلك لا يُقال: يُعقدُ على الحِلِّ، لأن الملكَ والحِل جميعاً حُكْمانِ.
وكذلك اذا قال الشافعيُّ: إنَ عقدَ السلَمِ معاوَضَة مَحْضَة، فلم يُشترطْ لها التأجيلُ، كالبَيْع (2)، فقال السائلُ: ينتقضُ بالكتابةِ، فإن للشافعيِّ أن يقولَ: الكتابة ليست مَحْضَ مُعاوَضةٍ.
فللسائلِ أن يبين ذلك، لأنه بيانُ اسم وليس بإثباتِ حُكْم، والأسماءُ لا ترجعُ إلى المذاهبِ، فلا يكون بيانُه استدلالًا على المسؤولِ، بل بياناً لحُكْمِ الوَضْعِ اللغويِّ.
__________
(1) انظر: "إيثار الِإنصاف": 334، و"المغني" 5/ 267، و"المحلَّى" 8/ 182.
(2) "المهذب للشيرازي" 1/ 297.

(2/259)


فصل منه أيضاً
إذا دفع المُستدل النقْضَ بإطلاقِ الاسمِ في عُرْفِ الاستعمالِ جازَ (1).
ومثاله: أن يقولَ الشافعيُّ في الرَّجْعَةِ بالوَطْءِ: إنه فِعْل من ناطقٍ فلم تحصل به الرجعةُ، أو فِعْلٌ من قادرٍ على النطقِ فلم تحصُل به الرجعةُ، كالضرْبِ (2).
فيقول المُعترضُ: ينتقض بلفظِ الرجعةِ، فإنه فِعْلُ اللسانِ وتحصلُ به الرجْعةُ.
فيقول المستدل: اللفظُ لا يُسمى فِعْلاً في العُرْفِ والوَضْعِ، ولذلك قالوا: أفعال وأقوال، وفي الشرع أيضاً قد عُلِّقَ على كلُّ واحدٍ منهما من الأحكام ما ميزَ أحدَهما من الأَخَرِ حتى منع أن يكونَ إطلاق الفِعْلِ يقعُ على اَلقولِ.
فأمَّا إنْ فَسرَ اللفْظَ بما يدفع النقْضَ، نَظَرْتَ، فإن كان فَسرَهُ بما يقتضيه ظاهِرُ لفْظِهِ اندفع عنه، وإنْ فَسرَهُ بما هو عدول عن ظاهرهِ كأَن خَص اللفْظَ العامَّ أوعَدَل به عن ظاهرهِ من عُرْفِ الاستعمال لم يقبلْ منه ذلك.
مثال الأول: أن يقول في زكاة المتولدِ بين الغَنَمِ وفُحولِ الظباءِ:
__________
(1) "التمهيد" 4/ 143.
(2) "المهذب" 2/ 103، و"مختصر المزني ": 196، وانظر: "المحلَّى" 10/ 251، و"المغني" 7/ 189، و"نَيْل الأوطار" 2/ 256.

(2/260)


إنه متولِّدٌ من أَصلين لا زكاةَ في أَحدِهما، فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ، كالمتولِّدِ من بين وحْشَيْن (1).
فإذا نَقَضَ عليه بالمتولِّدِ من بين الساءمة والمعلوفة قال: أردت بقولي: لا زكاة في أحدهما بحال, وذلك يقتضي نفي الزكاة في أحدهما نفياً مطلقاً فكأنني قلت لا تجب بحال ولمعلوفة تجب الزكاة في أعيانها بحال, وهو إذا سامت, ويقرر ذلك بأن النفي المطلق يقتضي بظاهره عموم الأحوال, فسواءٌ نطق به أم لم ينطق, لأن القول "بحال" تأكيد لايخل بفائدة الإطلاق.
ومثالُ الثاني: أنَّ يُعَلِّل الحنفيُّ في المُقِر إذا عطف المُفَسرَ على المُبْهم فيقول: له على مئة ودِرْهَم، أن ذلك يكونُ تَفْسيراً للمئةِ بأنه مُفْسرٌ يثبتُ في الذمةِ عُطِفَ على مُبْهَم فكان تفسيراً له، كقوله: عليَّ مئهٌ وخمسون درهماً (2)، فينقضه المعترِض بما إذا قال: له عليَّ مئةٌ وثوبٌ.
فيقول: أَردتُ بقولي: يثبتُ في الذمَّةِ ثُبوتَه بالإتْلافِ، والثوبُ لا يَثْبُتُ في الذمةِ بالإِتْلافِ. فهذا لا يُقْبَلُ، لأن لَفْظَهُ لا يقتضي ثُبوتاً دون ثُبوتٍ، وقد ثَبَتَت الثيابُ في الذمَّةِ ديَةً في الحُلَلِ (3)، وهو مَذْهبُنا ومذهَبُ جماعةٍ من السلفِ.

فصل
ومنه أيضاً إِذا كان التعليلُ للجوازِ لم يُنْقَض بأعيانِ المسائلِ،
__________
(1) "التمهيد" 4/ 144.
(2) انظر "المغني" 5/ 111.
(3) انظر "المغني" 12/ 7.

(2/261)


وذلك: مثل أَن يقول أَصحابُنا وأَصحابُ الشافعيُّ في الزكاةِ في مالِ الصبيِّ: بأنه حُر مسلم، فجازَ أَن تَجِبَ الزكاةُ في ماله، كالبالغِ (1)، فلا يصح أَن يُنْقَضَ بأموالهِ غير الزكاتيةِ، كالمعلوفةِ وعروض البذْلَة وما دون النصاب، لأن حُكْمَ التعليلِ الجَوازُ، وذلك يقتضي حالةً واحدةً، والمُخالفُ لا يوجبُ الزكاةَ بحال فكان حجة عليه، ولم يلزم المعلِّل الزكاةَ في جمعِ الأحوالِ، ولأن لتلك الأموالِ بأعيانِها حالاً تجبُ الزكاةُ فيها في حقِّ الصبى والبالغِ، وهو إذا عُدِلَ بها إلى السوْم والتجارةِ وانضم إلى ما دون النصابِ ما كملَهُ.
ومن ذلك أيضاً: إِذا علَّل للنوعِ ولم يَنْقُضْ عليه بعين مِثْلِهِ.
ومثالُه: أن يقول في زكاةِ الخيلِ: إنه حيوان تجبُ الزكاةُ في إناثهِ فوجبت في ذكورهِ إذا انفردت، كالِإبلِ (2)، فلا ينقض به بذكورِ الِإبلِ والغنمِ إذا كانت معلوفة أو دونَ النصابِ، لأن التعليل للنوعِ والعلفِ وما دون النصابِ حالٌ من أحوالِ النوع، وفي النوع ما يَثْبُتُ الحُكْمُ فيه، وهو إذا كانت ذكورُ الأَنعام نصاباً سَائمة.
__________
(1) "مختصر المزني": 44، و"بداية المجتهد"2/ 33، و"المهذب" 1/ 140، قال أبو إسحاق الشيرازي: وتجب في مال الصبيِّ والمجنون لمِا رُوي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" ابتغوا في أموالِ اليتامى لا تأكُلها الزكاةُ".
وانظر: "نصب الراية" 2/ 331 - 335 - فقد أوفى الحافظ الزيلعي على الغاية في الكلام على هذا الحديث -و"المغني" 2/ 390، و" المحلَّى" 5/ 205، و" التمهيَد" 4/ 148.
(2) انظر "المغني" 2/ 389.

(2/262)


فصل
واختلفوا في دَفْعِ النقضِ بالتسويةِ بين الأصلِ والفَرْعِ، فأجازه قومٌ، ومنَعَ منه قوم. والذي عليه أصحابُ الشافعيُّ والمحققون أنَّه لا يُدْفَعُ، واليه أذهب (1).
وذهبَ أصحابُنا وبعضُ أَصحابِ أَبي حنيفةَ إِلى أنه يَدفَعُ النقْضَ (2).
ومثالُه: تعليلُ مَنْ أَوْجَبَ الِإحدادَ في حق البائنِ بأنها بائنٌ، فوجب عليها الِإحدادُ، كالمتوفى عنها زَوْجُها، فإذا نَقضْتَ عليهم بالذمِّيةِ والصغيرةِ قالوا: يستوي الأصلُ والفَرعُ في ذلكَ، لأن المتوفى عنها الزوجُ إِذا كانت ذميةً أو صغيرةً لم يَجِبْ عليها الإِحدادُ، وغرضُنا بالعلةِ: التسويةُ بين الأصلِ والفَرْعِ.
فيقال: إِنَّ هذا نَقْض للعلَّةِ في الأصلِ والفَرْع، والعلَةُ المنتقضةُ فاسدةٌ؛ لأَن الطردَ شَرْط ومتى عُلل بهذه العلَّةِ في الأَصلِ وهي المتوفَى عنها، وفي الفَرْعِ وهي البائنُ، انتقضت بالذميةِ. وقولهم: الغرض التسويةُ. فإنما يصحُّ إِذا كانت التسويةُ بعلَّه، والمنتقضةُ ليست علَّةً تصلح لجَلْبِ الحُكْمِ، فيتعطل بَنْقضِها عن جَلْبِ الحُكْمِ في الَأصلِ والفَرْعَ.
والتسويةُ في التعطيل لا تنفع في التعليلِ، على أنَ حُكْمَكَ ليس هو التسوية، وإِنَما حُكمك وجوبُ الإِحدا؛ وإِن كان حكمُكَ هو التسويةَ بين المطلَّقةِ والمتوفَّى عنها، احتَجْتَ إلى أَصلٍ تقيسُ عليه العِلَةَ.
__________
(1) نقله صاحب "الكوكب المنير" 4/ 288
(2) في الأصل: البعض.

(2/263)


فصل منه أيضاً
إذا انتقضت علَّةُ المستدل فزاد فيها وصْفاً، فقد انقطعت حُجتُهُ التي بدأ بها، وعجز عن استتمامِ ما بدأ به من نُصْرَةِ الحُكْمِ فيها، وكان ذلك انتقالاً عمّا احتجَّ به (1).
وقال بعضُ أهلِ الجدلِ: لا يُعَد انقطاعاً إذا كان الوَصْفُ معهوداً معروفاً في العلَّةِ، وإنما أَخل به سَهْوٌ أَو سَبَقَ على لسانهِ بَعْضُ أَوصافِها دون بَعْض، وإليه ذهب بعضُ أصحاب الشافعيِّ، واتفقوا في غير المعهودِ أنه يكون انقطاعاً، وعندي أَنَ الأَمرَيْن سواءٌ، إلاّ أَنَ السَّهْو والغَفلةَ وغير ذلك وإن كانت أعذاراً تسقطُ اللاَئمةَ والمَعْتَبَةَ، فإنها لا تُخْرِجُ المعذورَ بها عن العَجْزِ، فإن أكثر الأعذارِ عَجْز، والعَجْزُ انقطاع.
ولو كان السَّهْوُ عُذْراً يمنع من الانقطاع، لكان الجَهْلُ عُذْراً أَيْضاً، ومن أين لنا أنه مع كوْنِ الوصفِ معروفاً لنا أنه معروف عند هذا الذي أخَل به؟

فصل منه أيضاً
وإذا نقض الناقضُ العلَّةَ بحكم منسوخ كان في زمانِ النبى - صلى الله عليه وسلم -، أَو بما خُصَ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل أَن يقول: تكلم في صلاته بخِطابِ
__________
(1) انظر "المسوَّدة "431، و" شرح الكوكب المنير" 4/ 290، و"التمهيد" 4/ 146.

(2/264)


الآدميين فوجبَ أن يَبْطُلَ كالعامدِ (1).
فيقال: ينتقضُ بالصلاةِ في صَدْرِ الإسلام.
أو يقول: نكاح عُقِد بغير لَفْظِ الإنكاحِ والتزويجِ فلم يَصِح، أو فكان فاسداً، كما لَوْ عُقِدَ بلفظِ الِإجارةِ. فيُقالُ: هذا يبطُل بنكاحِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك لو قال الحنبليُّ أو الشافعي في صَوْم رمضان: صَوْم واجب فلا يصحُّ بِنيةٍ من النهارِ، كصَوْمِ القَضاءِ والنذْرِ وَالكفارةِ.
فيقول الحنفيُّ: هذا ينتقض بصوم عاشوراء، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمَرَنا بالإمساكِ في أثناءِ نهارِهِ لما دخل المدَينةَ في أول الأمرِ.
فقد أختلف أهلُ العِلْمِ في ذلك، فمنهم مَن ألزمَ ذلك واحترزَ عن النقْضِ به حيث رآه نَقْضاً، وعلَّل بأنَ العِلَةَ عامة يجب إثبات الحُكْمِ بها في جميعِ ماشَمِلَتْهُ.
ومنهم مَنْ قال: لا تنتقضُ، لأن العلَّةَ وُضِعت لإثبات حُكْم فلا تنتقضُ إلأ بما يُضادها واشتملت عليه، وما نسِخ أو سقط لمْ يَدْخُل في التعليل ولا يَرِد عليه.

فصل
وقد سبق الكلامُ على دَفْعِ النقْضِ بالاستحسانِ، فإنَّه مِن بَعْضِ ما يرى أصحابُ أبي حنيفة الدفْعَ به.
__________
(1) "التمهيد" 4/ 147، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 291، و"المغني" 2/ 32.

(2/265)


فصل
القَوْلُ بموجب العِلةِ أَوْ فَى سؤال يرِدُ على العلَّةِ (1) لأَنَّه يُسْقِطُ احتجاجَ المُحتج بها؛ لَأن الحُجةَ إِنَما تقومُ على الخَصْمِ فيما ينكرهُ لا فيما يقولُ به.
والعلَّةُ نوعان: أحدُهما تعليل لإثباتِ مَذْهب المُعَللِ. والثاني: تعليل لإِبطالِ مَذْهبِ مُخالفِهِ.
والَأوَّلُ نوعان:
أحدهما: تعليلٌ: عامٌ إيجاباً كان أو نَفْياً، فلا يمكن القولُ بمُوجبِ ذلك، لأن مسألةَ الخلافِ داخلة في العمومِ، ولا يكون قائلاً به حتى يكون قائلاً بعُمومِه، وذلك مِثل أَن يقولَ الحنبلي أو الشافعيُّ في إيجابِ القيامِ على المُصَلي في السفينةِ: بأنّ القيامَ فَرْض يجبُ على المصلي في غير السفينةَ فوجب على المُصلي في السفينةِ كسائرِ الفروضِ.
فيقولُ المُعترضُ: أقول بموجب العلَّةِ إذا كانت السفينةُ واقِفَةً. لم يكن ذلك صحيحاً، لأنَ العلَّةَ تُثْبتُ ذلك في كلِّ حالٍ، فإذا سلَّمه في حالٍ بَقِيت العِلةُ حُجَّةً في غير تلك الحالِ، وما هو الا بمثابة شافعيٍّ أو حنبليٍّ استدل بقَتلِ المرتدة بقولهِ: "مَنْ بَدل دينَه فاقتلوه" (2).
فيقول الحنفيُّ: أنا قائل بالخبرِ في الرجالِ، فيقال: ليس هذا
قولًا بالعمومِ بل بالخصوصِ، فهو فيما نَفى من الخبرِ حُجة بحالهِ.
__________
(1) انظر: "روضة الناظر" 2/ 1 - 298 و"شرح مختصرها" 3/ 555 و"الِإبهاج" 3/ 131 و"التمهيد" 4/ 186،و"المحلى" 4/ 185.
(2) سبق تخريجه في الصفحة 39 من الجزء الأول.

(2/266)


وكذلك في النَّفْي العام إذا قال في المائعاتِ: إنَّه مائع لا يرفَعُ الحدثَ، فلا يُطَهرُ المحلَّ النَجِسَ، كالدُّهنِ.
فيقول المعترضُ: أقولُ بمُوجبهِ في الخَل النجِس.
لم يكن صحيحاً، لأنَّ العِلَّةَ تقتضي أنْ لا يَطْهُرَ بكل حال، لأن النفيَ على العُمومِ.
والثاني: أن يكونَ التعليلُ للجوازِ مثل أن يقول المُخالِفُ: إن الخَيْلَ حيوان تجوزُ المُسابقةُ عليه، فجاز أَن يتعلق به وجوبُ الزكاةِ كالِإبلِ.
فيقول المُعارِضُ: أقولُ بموجبهِ، لأن زكاةَ التجارةِ تتعلَّق به.
فإن قال المستدلُّ: إنّ الألف واللام يستعملان للعهد، والذي سألْتَ عنه هو زكاةُ السَّوْم، فانصرف الحكْمُ الى ذلك. لم يكن صحيحاً؛ لأن العِلةِ يجب انَ تكون مُسْتَقِلةً بألفاظِها غَيرَ مبنيةٍ على غيرِها؛ لاَنها حُجَّةُ المذهبِ لا تختصُّ السائلَ.
فإن قال: الألِفُ واللام لاستغراقِ الجنسِ إذا لم يكن عَهْد، فاقتضت العلَّةُ ايجابَ أجناسِ الزكاةِ في الخيل، قيل: الذي يَقتضي لامُ الجنسِ واحدٌ منه، ولو اقتضى جميعه لم يصح، لأن جميع أجناس الزكاةِ لا تجبُ في الخيلِ.

فَصل
فإن علل الشافعي في إيجاب القَوَدِ في الطرَفِ بأنه أحدُ نَوْعي القِصاص، فجاز أَن يثبت معجلاً، كالقِصاص في النفس.

(2/267)


فقال المُعتَرِضُ: أقولُ بموجب ذلك إذا قطع يَدَهُ، فجاء آخَرُ فقتله فإنه يجبُ القصاصُ في اليدِ مُعجلاً.
قيل له: لم يَجِبْ مُعَجلاً، وانما تُعجل بقَتْلِهِ.
ويمكن المعترض أن يبين القَوْلَ بموجب العلَّةِ اذا قطع أحدُهما يَدهُ وضَرَب الآخرُ عُنُقَهُ في حالةٍ واحدةٍ، فإن هاهُنا يجبُ القِصاص مُعَجلاً.

فصل
فأمَّا النوعُ الآخرُ، وهو التعليلُ لإبطالِ مذهب المخالفِ، مثل: أن يقولَ الحنفيُّ: إن الحج عبادة فلا تجبُ بِبَذل الَطاعةِ، كالصلاةِ.
فيقول المعتَرضُ: أقولُ بموجب هذه العلَّة، فانها لا تَجبُ عندي ببذْل الطاعةِ، وإنما تَجبُ بالاستطاعةِ لانه لو عَلِمَ أنه إذا امَرَهُ أطاعَ لَزِمَهُ الحج، وإن كانَ لم يَبْذُلْ له الطاعة.
ويمكن المستدل أن يقولَ: إنما سألتني: هل يجبُ الحج ببذْلِ الطاعةِ؟ ولأنه إذا عَلِمَ أنه يُطيعُه إذا أمَرَهُ، فقد عَلِمَ أنه باذِل للطاعةِ.
ويمكن المستدل أن يقولَ: إنما دلَلْتَ في المَوْضعِ الذي بذل فيه الطاعةَ ولم يكن واثِقاً ببَذْلِهِ قَبْلَ ذلك.
ويقولُ أيضاً: إنما صار مُسْتطيعاً ببذْلِ الطاعةِ، فبها تعلق الوجوبُ.
وكذلك إذا استدل الحنبليُّ أو الشافعي في أن الإجارةَ لا تَنْفَسخُ بالمَوْتِ، بأن الموْتَ معنىً يزيل التكليفَ، فلا يُبطل الإجارةَ

(2/268)


كالجنونِ (1).
فيقول الحنفيُّ: أقولُ بموجب الدليلِ وأنها لا تبطُل بالموتِ، وإنما تبطلُ بزوالِ الملْكِ، ولهذاَ عندي إذا باعَها ورضي المستأجرُ بَطَلَتِ الإجارةُ، فيكون السؤالُ وقعَ عن ذلك وأن الموتَ سبب فيه، وأن زوالَ الملْكِ لا يُبْطلُها بدليل عِتْقِ العَبْدِ المستَأجَرِ.

فصل
ولا يجوزُ القَوْلُ بموجبِ العلَّةِ في الأصْل، لأنه لو جاز ذلك لم تَسْلَمْ علًة، لأن التعليلَ وقع لإلحاقِ فَرْعٍ بالأَصْلِ، لأن الأصلَ قد ثبتَ حكْمُهُ لا مِنْ جهةِ القياسِ.

فصل
سؤال على العلَّةِ أفاده الِإمامُ أبو إسحاقَ -رضي الله عنه- وهو: أن العِلةَ لا تستدعي أحكامَها، وذلك أن تكونَ العِلةُ تَجْلِبُ حُكْمَينِ، فيتعلَّق عليها أحدُهما دون الآخَرِ، مثالُهُ: أن يقولَ الحنفيُّ في صَوْم رمضان: لا يَفْتَقِرُ الى تَعْيينِ النيةِ, لأنه مستحقُّ العينِ، فهو كرد الوديعةِ.
فيقول أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ: استحقاقُ العَيْنِ كما يُوجبُ إِسقاطَ التعينِ يُوجبُ إسقاطَ النيةِ، فلو أسْقَطَ التعينَ لأسْقط النيةَ كما
__________
(1) "المهذب " للشيرازى 1/ 407 و"رحمة الأمة": 345 - 346 و"المغني" 5/ 281.

(2/269)


قال زُفَرُ (1) وكما قُلْنا في الوديعةِ.
فالجوابُ: أَن يُبينَ اختلافَ الحُكْمَيْن، وذلك أَن يقولَ:
النيَّةُ تُراد لِتَحْصيلِ القُربَةِ، والزمانُ يحتملُ القُرْبَةَ وغَيرَ القُرْبَةِ، وهو إمساكٌ لا قُرْبَةَ فيه، بل على سبيلِ الحِمْيَةِ أوالإهمالِ من غيرِ عقيدةٍ، والتعْيينُ يُرادُ للتمييز بَيْنَ أصنافِ القُرَب، ولهذا المعنى لا يكفي في الصلاةِ أن يَنْوي: أصلِّي، حتى يَنْوِي ظهْراً أو عَصْراً، وزمانُ رمضان لا يحتملُ أصنافَ القُرَب، ولهذا المعنى افتقر طَوافُ الزيارةِ إلى النيَّةِ لتحصيلِ القُرْبةِ، ثمَ لا يفتقر إلى التعيينِ، لأنَّه لا يحتملُ الوَقْتُ أصنافَ القُرَبِ.
__________
(1) زفر بن الهذيل بن قيس البصري، من فقهاء الحنفية المجتهدين، توفي سنة (158) هـ. "الجواهر المضية" 2/ 207.

(2/270)


فصول
الاعتراضِ بالقَلْبِ (1)
فصل
اختلف أهلُ العِلْمِ في القلب: هل هو سؤالٌ صحيحٌ أم لا؟
فمنهم مَنْ قال: ليس بسُؤال صحيح، فاعتَل لفسادهِ بأنَه فَرْضُ مسألةٍ على المستدلِّ، وإِنما الفَرْضُ إلى المُستَدلِّ.
ومثالُ ذلك: أنَّ يُعَلِّلَ أصحابُ أبي حنيفة مَسْحَ الرأسِ بأنهُ عُضْوٌ من أَعضاءِ الطهارةِ فوجبَ أن لا يُجْزِىءَ منه ما تقَعُ عليه الاسمُ، كسائرِ الأعضاءِ.
فيقول السائلُ: أَقْلِبُ فأَقولُ: فوجب أَن لا يتقدَّرَ بالرُّبْعِ، كسائِر الأعضاءِ.
فالمسؤولُ فَرَضَ الكلامَ في إبطالِ مَذْهَبٍ يُخالفُه حيث قال: لا
__________
(1) انظر في هذا الفصل: "التمهيد" 4/ 202 و"أصول السرخسي" 2/ 238 "المسوَّدة": 445 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 519 و"فواتح الرحموت" 2/ 351 و"شرح تنقيح الفصول": 401 و "رشاد الفحول": 383 و"اللمع": 115 و"شرح التلويح على التوضيح" 2/ 94 و"شرح الكوكب"4/ 331.

(2/271)


يجزىء ما يقع عليه الاسمُ، والسائلُ فَرَضَ الكلامَ في إبطالِ تقديرِ المخالف، ويتعذرُ في القَلْب أن يَنْفيَ ما أثْبَتَهُ المُعَللُ، أو يُثْبِتَ ما نفاهُ، لَأن النفْيَ والإثباتَ لَا يتفقان في الأصلِ، وانما يتفق في الأصلِ حكمانِ مختلفان.
وأكثرهم قالوا: إنَه سؤالٌ صحيحٌ.
ولأَصحابِ الشافعي وجْهان، كالمَذْهَبيْن (1).
وقال أبو علي الطبري (2): هو من أَلْطفِ ما يستعملُه المناظِر.
واعتلَّ منْ ذهب إِلى صحتِهِ أَنه احتج عليه بعلّتهِ وأصْلِهِ في حُكْمٍ لا يُمكنهُ أَن يَجمعَ (3) بَيْنَه وبين حُكْمهِ؛ لأَنَّهما اتَفقا على أَن ما زاد على الرُبْعِ ليس بواجبٍ، وبأنَّ ما خالفَ قولَهما فاسدٌ، فإذا نَفى العلَّةَ بالتقديرِ، لم يَبْقَ إِلاّ أنْ يُجريَ ما يقَعُ عليه الاسمُ، فقد صار ما أَثْبَتَهُ بالعِلَّةِ ينفي الحُكْمَ الذي أَثْبتهُ المستدل، وجرى ذلك مَجْرى أَن يَنْفيَهُ صريحاً.
فإنْ قال مَنْ نَصَر القَوْلَ الأوْلَ: إِنَّ حُكْمَ المستدل وحُكْمَ القالبِ يجوزُ أَن يَجْتَمِعا ولا يتنافيا، وذلك أنه يجوزُ أَن يكونَ التقديرُ بالربُعِ، والاقتصارُ على ما تقَعُ عليه الاسمُ فاسِدَيْن، فلا يكون نَفْيُ أَحدِهما إثْباتاً للآخَرِ.
__________
(1) "اللمع": 115 و"التبصرة": 475 كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي.
(2) تقدمت ترجمته في الصفحة (60).
(3) في الأصل: "يخرج".

(2/272)


فالجوابُ ما قدمْتُهُ من اتفاقهما على إِفسادِ ما عداهما، فصارا مُتنافيَيْن، فمتى ثَبَتَ فَسادُ أحدِهما ثَبَتَ الآخرُ.

فصل
إذا ثبتَ هذا: فإنَّ القلْبَ معارضةٌ، وإنَّما يتميزُ من بينِ المعارضاتِ لأنه عارضَهَ بعلتهِ في أصلهِ، والمعارضةُ تكون بعله أخرى في أصلهِ.
ويُحكى عن بعضِ أصحاب الشافعيُّ أن ذلك إفسادٌ وليس بمعارضةٍ لأن علتَهُ تعلق عليها حكماَن متضادان (1)، وهذا ليس بصحيح، لأنه إنما يكون كذلك اذا كانا متساوِيين من كلُّ وجهٍ، ولا بُدَّ أنَّ يكون لتعلق أحدِ الحُكْمين بها تَرْجيحٌ على الآخَرِ، أو يتوجه على أحدِهما (2) إِفسادٌ، فيسلم الآخر،. ويجريان مَجْرى العِلتَيْن إذا تعارضا، فيكون الطريق في الجواب عن القَلْب بأنْ يُعتَرضَ عليه بما يُعترضُ به على العلَّةِ المُبْتدأةِ.

فصل
وأمَّا إذا كان الحُكْمُ للتسويةِ، مثْل: أَن يُعللَ أصحاب أبي حنيفةَ طلاقَ المُكْرَهِ بأَنَّه طلاق من مكلَّف صادفَ ملْكَه فوجب أَن تقعَ، كطلاقِ المختارِ.
فيقول أصحابنا وأصحابُ الشافعيُّ: فاستوى حكْمُ إقرارِه وإيقاعِهِ كالمُختارِ (3).
__________
(1) في الأصل: "حكمين متضادَيْن".
(2) في الأصل: "إحداهما".
(3) وانظر: "التمهيد"4/ 208 و"الإبهاج" 3/ 129 و"رحمة الأمة": 417 و"المغني"، 7/ 80 و"المحلى"10/ 202.

(2/273)


فقد اختلف القائلون بصحةِ القلب في هذا القَلْب: هل هو صحيح أَم لا؟ فقال قومٌ: ليس بصَحيح، لأنهِ وُجِدَ في الفَرْعِ استواءُ حُكْمِ الإقرارِوالإيقاع في عَدَم الصحةِ وفى الأصلِ استواء الإيقاعِ والإقرارِ في الصحةِ، فحكمُ الأَصلِ والفَرْع متضادان.
ومنهم مَنْ قال: يصح، والحُكْمُ في الأصلِ والفَرْعِ سواء لأن الحُكْمَ إنما هو التسويةُ بين الإيقاعِ والإقرارِ دون صحتهِ وفسادهِ، وهذا حُكْمٌ صحيحٌ يجوزُ أن يَنُص صاحبُ الشريعةِ عليه، فيقول: الإيقاعُ والإقرارُ يَسْتَويان، فكل موضع دل الدليلُ على أحدِهما صح الأمْرُ، ومتى فَسَدَ أحدُهما، فَسَدَ الآخرُ.
إذا ثبتَ هذا، فإن من الناسِ مَنْ يقول: التصريحُ بالحُكْمُ أوْلى، فكُل مُصَرح بالحُكْمِ يكونُ تعليلُه أولى مِنْ تَعْليلِ مَنْ لايُصَرِّحُ، كما أن النص مقدمٌ على الظاهرِ والعمومِ، وإليه ذهبَ بَعْضُ الشافعيةِ.
وذهب آخرون: إلى أنه لا يُقدمُ ولا يرَجحُ بتصريحِ الحُكْمِ، لأن الحُكْمَ هو التسويةُ على ما قدر، والتسويةُ بين الإقرارِ والإيقاع مصرحٌ به، ولا عِبْرَةَ بعدمِ التصريحِ بالصحة والفسادِ، كما أن وقوعَ الطلاق يُصَرحُ به، ولا يُشبهُ هذا ما ذكروه، لأَن الخاص إذا قضى على العام لا يُبْطُله بل يَبْقى حُجةً فيما لم يتناوَلْهُ الخُصوصُ، وها هُنا متى ثبتَ وقوعُ الطلاقِ، بطَلَ التساوي بين الإقْرارِ والإيقاعِ، ويكون الكلامُ على هذا القَلبِ، كالكلامِ على النوعِ الأولِ.

فصل
وقد يُشَبهُ بالقَلْبِ ويُجْعَلُ كالنوعِ منه جَعْلُ المعلولِ علَّةً والعِلَّةِ

(2/274)


معلولًا، وذلك مِثل ما قال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ في ظِهارِ الذمِّيِّ: مَنْ صح طلاقُه، صح ظِهارُهُ، كالمُسْلمِ (1).
فيقول المخالفُ: لا أسلِّمُ هذه العلَّةَ في الأصْلِ، بل صحةُ ظِهارِ المسلم عِلة في صحةِ طلاقهِ، فيكونُ قَلْباً؛ حيث جعل الحُكْمَ في الفَرْعِ علةً لحُكْمِ الأصْلِ.
وقد اختلف الناسُ في الجوابِ عن ذلك: فلأصحابِ الشافعيُّ وجْهان:
فمنهم مَنْ قال: الجوابُ عنه أن ما ذَكَرَهُ المُخالِفُ من العلَّةِ لا يُعارِضُ عِلةَ المستدلِّ. ويجوزُ أنَّ يكون كلُّ واحدٍ من الحُكمين علةً للآخَر، لأن عِلَلَ الشرْع أدلةَ وأماراتٌ على الحكمِ غَيْر موجبات، فتكونُ إِحدى الَأمارتَين دالّةً على حصولِ الأَمارةِ الأُخرى، فيحسن أَن نقولَ: مَنْ صَحَحت ظهاره فاحكُموا بصحَّةِ طلاقهِ، ومَنْ صحَحت طلاقَه، فاحكُموا بصحةِ ظِهارهِ، وإنما يمتنع هذا في العقلياتِ؛ لأنها عِلَل مُوجبات.
وقد وردَ الشرعُ بما يشهدُ لِما قُلْنا في العِلَلِ الشرعيةِ؛ فإنه أمَرَنا بالتسويةِ بين الأولادِ في العطايا والهِباتِ، وبين تسوية ما بين النساءِ في القَسْم، فاذا عَلمْنا أنه قَسَمَ لامرأةٍ وأعطى ولداً عطيةً عَلِمْنا بذلك أَنّه قَسَمَ للأخرى وأعَطى الولدَ الآخَرَ عَطيةً، ويكون وجودُ كلِّ شي من ذلك في حق بعضِ النساءِ وبعضِ الأولادِ دلالةً على وجودِهِ في حقِّ المرأةِ
__________
(1) "التمهيد"4/ 210 وانظر "الكافي" لابن قدامة 3/ 165 و"رحمة الأمة": 425.

(2/275)


الأخرى والولدِ الآخرِ.
ومنهم مَنْ أَجاب بغير هذا، فقال: بأَنَّ هاتَينِ كالعِلَّتَيْن عارضتان، واعتل في ذلك بأن العلةَ تقتضي الحُكْمَ، فلا يجوزُ أن تقتضي ما يقتضيها وتوجبُ ما يُوجبها. فقيل له: هذا حُكْمُ العِلَلِ العقليةِ الموجبة (1)، فأمَّا هذه فإنَّها أمارَة.
فأَجابَ: بأنَّ هذه وإن كانت أمارَةً، فقد جُعلتْ بمنزلةِ المُوجبةِ، ولهذا لم نُجوِّزْ تخصيصَها كما لا تُخَصصُ العقليةُ لأنها بعد جَعْلِها علَّةً وجبَ أن تُعْطى حُكْمَ العِلَلِ، ولو رُوعيَ فيها معنى الأمارةِ دون العلَّةِ لجازَ تَخْصيصُها كما يجوزُ تَخْصيصُ الألفاظ. وبهذا فارقَ ما احتج به الأوَّل من التسويةِ بينه وبين الأولادِ والنساءِ لَأن العِلْمَ بذلك لا من جهةِ العلَّةِ، لكنْ بمحْضِ الأمارةِ، ولهذا يجوزُ أن يُدْفَعَ إليها مَرةً واحدةً، فثبت أنه ليس أحدُهما علةً للآخَرِ؛ اذ لو كان علَّةً لاحتاجَ المعلولُ إلى العلَّةِ وما وُجدَ معه، فما وُجِد عنه ولا لأَجْلِهِ. فإن قيلَ: فمثلُه نقول في مَسْألتنا، إذا لْبتَ صحةُ الظهارٍ من شَخْصٍ ثَبَتَ صحةُ الطلاقِ منه، واذا ثبَتَ صحَةُ الطلاقِ منه ثْبَتَ صحةُ الظهارِ منه.
قال: لا يُمكنُ ذلك، لأن العِلةَ يجبُ أن تكونَ جاريةً في معلولاتِها، واذا وجَبَ كونُ السابقِ منهما علةً وجَبَ كونُه علةً حيث وُجدَ، لأن العِلة وجودُهُ دون سَبْقِهِ، ومنْ قال بهذه الطريقةِ، أجابَ عن هذه المُعارضةِ بأَن علةَ المستدلِّ تتعدَّى وتُفيدُ حُكْماً، وهو ظِهارُ الذميِّ،
__________
(1) لأن الحُكْم لا يثبتُ في العَقْلِ بأَكْثَرَ مِنْ علَّةٍ واحدةٍ. انظر"التمهيد" 4/ 212.

(2/276)


وعلَّةُ السائل لا تتعدى، وهو ممن يقولُ: إن الواقفةَ ليست بعلةِ، ومَنْ قال: هي عِلة، يقول: المُتعديةُ اولى منها.
ومما تترجَّح به علَتُنا أَيضاً: أَنَّ الطلاقَ سابقٌ للظهارِ، لأَنَّه كان موجوداً قَبْلَ الشَّرْعِ، والظهارُ ثَبَتَ حُكْمُهُ في الشَرْعِ (1)، والله أَعلم.

فصل من القَلْبِ أيضاً
واعلم أن القَلْبَ على ثلانةِ أضْرُبٍ.
قَلْب بحُكْمِ مَقْصودٍ. مثالهُ: أن يستدل أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ في بيع الفضولي وأنه باطل، لأنه عَقْد على مِلْكِ العَيْنِ بغيرِ ولايةٍ ولا نِيابةٍ فلم يَنْعَقِدْ كما ساغ ملْكهُ لِغَيرِهِ أو لِنَفْسهِ اتّفاقاً منه على إذْنِه بأنْ يقولَ: ابْتَعتُ عَبْدَ زيْدٍ هذا بمئةٍ (2).
فيقول الحنفيُّ: أقلِبُ فأقولُ: فلم يَبْطُلْ لِعَدَمِ الإذْنِ كالشراء. فالجوابُ عنه: الجوابُ عن العِلَلِ المبتدأةِ كيف جاء الإفسادُ وعلى أَيِّ وَجْهٍ تأتى، والذي يكثر من الأجوبةِ فيه أن يقولَ: هذه الأوصافُ لا تؤثرُ في حُكْمِ القَلْبِ، فإنّك لو قُلْتَ: عَقْد فلم يَبْطُلْ لِعَدمِ الإذْنِ. لم يَنْتَقِضْ عليك بشيءٍ.
__________
(1) "التمهيد" 4/ 214.
(2) انظر: "رحمة الأمة": 267 والمسائل الفقهية من كتاب "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى 1/ 352. و"الكوكب المنير"4/ 332 و"ايثار الإنصاف ": 305 و"شرح مختصر الروضة"3/ 526 و"المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف"11/ 55.

(2/277)


والثاني: أن يقول: هذه الأوصافُ تقتضي إبطالَ العَقْدِ فلا يجوزُ أَن يُعَلَّقَ عليها الصحَّةُ، لأَن العِلَلَ لا يُعَلَّقُ عليها ضِدُ مُقْتضاها.
ومِن أصحاب الشافعيِّ من أجابَ عنه: بأن هذا القَلْبَ فَرْضُ مسألةٍ في غيرِ الموضَعِ الذي نُصِبَ له الدليلُ، وهذا لا يجوزُ.
وهذا جواب فاسد، لأنه إنْ كان فَرْضاً إلّا أن في إثْباته إِبطالَ حُكْمَ المُعَللَ.

فصل
والضرْبُ الثاني: قَلبُ التسويةِ، وقد مضى الكلامُ فيه مُسْتَوْفىً.
والضرْبُ الثالث: جَعْلُ المعلولِ علةً، وقد مضى بيانُه ومثالُه والكلامُ عليه. وإنَما قَصدت بإعادةِ هذه الفصولِ الحَصْرَ.

فصل
ومَّما يُذكَرُ في القَلْب وليس بقَلْب، وإِنما هو معارضَة في الحقيقةِ أنَّ يقولَ المستدل في جَوازِ تقديم الكفَّارةِ على الحِنْثِ: إنه كفر بعد الحَلِفِ فأشبهَ إِذا كفر بعد الحِنْثِ.
فيقول المُعارِضُ: إنَّه كفر قَبْلَ الحِنْثِ فأشْبَهَ اذا كفر قَبْلَ اليمين، وهذا عَيْنُ المعارَضةِ، فلا وَجْهَ لاعتقادِهِ قَلْباً (1).
__________
(1) "التمهيد"4/ 214 - 215.

(2/278)


فصول
الاعتراض بفسادِ الاعتبارِ (1)
اعلم أن فسادَ الاعتبارِ يَتَسعُ القَوْلُ فيه وتكْثُرُ أنواعُه، فمن ذلك: أن يقولَ المستدل على أن قَدْرَ الدرهم من النجاسةِ يجبُ إِزالتُه: إِنها نجاسة مَقْدور على إِزالتِها من غَيرِ مَشَقةٍ، فوجب اعتبار إزالِتها لصحَّةِ الصلاةِ، كالزائدِ على قَدْرِ الدرهم.
فيقول المعترض: إِنك اعْتَبرتَ القليلَ بالكثيرِ في التحريمِ، والأصول فَرقَتْ بين القليلِ والكثيرِ، لأنً القليلَ من العملِ لا يفْسِد الصلاةَ والكثيرَ يُفسدُها، وكذلك كلام الناسي وغيرهما، فكان اعتباراً فاسِداً.
فالجواب عن ذلك: إِما عن طريق مَنْ يوجب الدلالةَ على صحةِ العلَّةِ في الأصل، ولا يكْتفى فيها بالطرْدِ ولا بسلامتها على الأصولِ، فلا يلزَمه الجوابُ عن ذلك، لأَن الدلالةَ إذا دلَّتْ على صحَّةِ العلَّةِ في الأصْلِ وكانت موجودةً في الفَرْعِ وجَبَ اجتماعُهما في الحكْمِ، وما
__________
(1) انظر في هذا الفصل: "شرح الكوكب المنير"4/ 236 و"التمهيد" 4/ 191 و"شرح مختصر الروضة"3/ 467 و"رشاد الفحول": 386 و"الإحكام للآمدي" 4/ 76.

(2/279)


ذكره من اختلافِ القليلِ (1) والكثيرِ في الأصولِ، فإِنَّما هو في حُكْمٍ اخر، فلم توجد علَّةُ ذلك الحُكْمِ في القليلِ، فلم يشارِك القليلُ الكثيرَ في حُكْمِهِ، بخلافِ مَسْألتنا.
وأمّا مَنْ يَقنَعُ في صحةِ العلَّةِ بجريانِها وسلامتِها على الأصولِ، فيُجيبُ: بأن الأصولَ ليسَتْ مُتفِقَةً فيما ذكَرْتَهُ، بل منها ما يستوي فيه القليلُ والكثيرُ مِثْل الكلام العمْدِ في الصلاةِ، وتركِ شيءٍ من الوضوء، والزيادةِ في الرِّبا، وما أَشبهَ ذلك. وإذا كان من الأحكامٍ ما يستوي فيه القليلُ والكثيرُ، وفيها ما يختلفُ، كانت الأصولُ متعارِضة، فلا مخالفةَ وكانت علتي سليمةً.
فإنْ قيل: العِلةُ إذا خالفَت بعضَ الأصولِ، كَفى في إفْسادِها وإنْ وافَقَتْ غَيْرَهُ، ألا ترى أن العلَّةَ تُنْقَضُ بمسألةٍ واحدةٍ وإن كانت جاريةً في غيرِ تلك المسألةِ.
فالجوابُ: أن النقْضَ كونُ الوصفِ علةً للحُكْمِ إذا كانت موجودةً فيه، والحكمُ معدومٌ. وفي مسألتِنا اختلفَ القليلُ والكثيرُ في غيرِ الحُكْمِ الذي يُصيبُ العلَّةَ، وإنما يفسدُ اعتباره إذا كان مُخالِفاً لجميع الأصولِ، فإذا كان منها ما يُوافقُ اعتبارَه، لم يُعترضْ بالفسادِ على ما وافَقَ اعتبارَهُ، فلا يُعترضُ على اعتبارِهِ.
فإن قيل: إذا كان فى الأصولِ ما يُخالفُ هذا الاعتبارَ وفيها ما يُوافقُه، وجبَ تقديمُ المُعترضِ، كماْ يقدَم الجَرْحُ في الشهادةِ على التزكيةِ والتعديلَ.
__________
(1) في الأصل: العِلَل.

(2/280)


فالجوابُ: أَن ذلك ليس بجارح، لِما بيَّناهُ مِنْ أنَّه لم يَجْرَحْ فيما وافق هذا التعليل، لأنه ليس في حُكْمِهِ، وإنما الجارحُ بَعْضُهُ، وقد قَدَّمناه، ولأنَ الجارحَ في الشهادةِ إنَّما قَدَّمْنَاهُ لأنه عَلِمَ ما خفيَ على المُزكين، لأن ما يَجْرَحُ أبداً يستسرُّ به في العادةِ، وما يُمْدَحُ به وُيزكَّى يتظاهرُ به الناسُ في العادةِ. وفي مَسْألتِنا هما سَواءٌ وكان ذلك بمثابةِ أن يختلفَ المُتبايعانِ في شَرْطٍ يُفسِدُ العَقْدَ، فأحدُهما يدَّعيه والآخَرُ يُنكرُهُ، فإنا لا نُقَدمُ ما يَجْرَحُ العَقْدَ بل ما يُصَححُة (1).
وفَرْق آخَرُ: وهو أن الشهادةَ لا يُرجحُ فيها بكَثْرةِ العَدَدِ، فإذا تقابَلَ الجَرْحُ والتعديلُ تعذرَ الحُكْمُ بالشهادةِ، والقياسُ يُرجحُ فيه بكَثْرةِ الأصول وِالنظائرِ، فإذا تقابلت الأصولُ بقيَ أصْلُ العِلةِ فرجَحَتْ به.
فإن قيل: فقد افترق الحالُ بين قليلِ النجاسةِ وكثيرِها؛ فإنه عُفِيَ عن يسيرِ الدمَ.
قيل: إنما افترقا للمشقةِ بازالةِ القليلِ من الدم وتعذُّرِ الاحتراز منه، فلا تُوجدُ فيه علتُنا، فأمَّا قَدْرُ الدرهمِ فليس بيسَيرٍ؛ ألا تَرى أنَّ ما زادَ على الدرهمِ يستوي حكْمُهُ وحُكْمُ ما هو أكثرُ منه (2).
وكذلك انْ قال المُعترضُ: اعتَبرْتَ الصغيرَ بالكبيرِ في الزكاةِ، واعتَبَرْتَ الثيبَ الصغيرةَ بالكبيرةِ في الولايةِ، والبكْرَ الكبيرةَ بالصغيرةِ في الإجبارِ، واعتَبَرْتَ حق الله تعالى بحق الآدميَ وكذلك في إيجابِ
__________
(1) "التمهيد"4/ 196.
(2) انظر: "المغني"1/ 248 - 249.

(2/281)


الكفَارةِ والقَتْلِ على الصبيِّ اعتباراً بالدَيَةِ، وكذلك اعتبر الشافعيُّ الحيَّ بالميتِ في [عدم] إِسقاطِ المَضْمَضَةِ والاستنشاقِ في غَسْلِهما.
فالجوابُ عن ذلك ما مضى، وُيزادُ في حقِّ الميتِ بأن يقولَ الشافعيُّ: إِنِّي لم أعتبِرْ الحيَّ بالميِّتِ بل الحيَّ بالحيِّ، لأنَّ الغُسْلَ الموقَعَ في الميت إنّما يجبُ على الحيِّ، ولأن ايجابَ الغُسْلِ في حق الميِّتِ آكَدُ لأنَه لا يجبُ إلأ مُسْتَوْعَباً، وغُسْلُ الحيِّ ينقسُم إلى استيعابٍ واقتصارٍ.
وكذلك: إن قال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ لحنفي: اعتَبَرْتَ غَيْرَ النبى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في عَقْدِ النكاحِ بلفْظِ الهِبَةِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مخصوصٌ في النكاحِ بأحكام كثيرةٍ.
فيقول المستدل: إِنَّ ما جازَ للنبى جاز لغيرهِ إلا أن يَثْبتَ تَخْصيصٌ له في حكمٍ بعينه، ويحتاجُ المعترضُ أن يُثْبتَ أنَّه مَخْصوصٌ بذلك، لقولهِ تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] حتى يصحَّ سؤالُه وتقربَ الدلالةُ من الآيةِ.
وكذلك إِن استدلَّ حنبليٌّ أو شافعيٌّ في أَنَّ النكاحَ الموقوفَ (1) ليس بصحيحٍ، لأنَه عقد لا يملكُ الزوجُ المُكلفُ ايقاعَ الطلاقِ فيه، فكان فاسداً، كنكاحِ المُعْتدةِ.
فيقول المعترضُ: هذا اعتبار فاسدٌ، لأن الطلاقَ من أحكام العقدِ وفروعِه، فلا يجوزُ أَن يُستدلَّ بفسادِ الفَرْعِ على فسادِ الأَصلِ.
__________
(1) النكاح الموقوف، هو عقد نكاح اشتُرطت إجازته من الولي أو أحد الزوجين أو السيد.

(2/282)


فالجوابُ: أنَّ ما طريقُه الدِّلالةُ والأمارةُ يجوزُ فيه مِثْلُ ذلك، وعللُ الشرعِ من هذا القبيلِ، فيجعل عدم حُكْمِهِ دليلاً على فسادهِ، لأنَ العَقْدَ يُعْقَدُ لإفادةِ أحكامِهِ، ولهذا لو شرط إِسقاطَ حُكْم من أحكامهِ، فَسَدَ العَقْدُ.
وكذلك إنْ قال: اعتبرتَ الوضوءَ بالتيمُّمِ في النيةِ، والتيمُّم بَدَلٌ والوضوءُ اصل، فلا يُعتبرُ الأصلُ بالبَدَلِ.
فالجوابُ: نَحْوُ ما مضى.
وكذلك إن قال: إنَّ حُكْمَ الأصلِ أقوى من حُكْمِ الفَرْع في قياسِ أصحابنا وأصحابِ الشافعيُّ موضعَ الاستنجاءِ على سائرِ اَلبَدَنِ في وُجوبِ الَإزالةِ فيه.
فيقولُ المُعترِضُ: النجاسةُ الموجودةُ في سائرِ البَدنِ آكَدُ حكْماً، ولهذا يجب إزالتُها بالماءِ بخلافِ موضعِ الاستنجاءِ.
فالجوابُ: أن العِلةَ الموجبةَ للإزالةِ يشتركُ فيها الأصْلُ والفَرْعُ، فوجبَ اعتبارُهُ به وتأكد الأصلُ في حُكْم آخرَ لا يَمْنَعُ القياسَ، لأن الاصلَ يكونُ اقوى من الفَرْعِ، فإنَه يثبتُ بالنص أو يَقَعُ الإجماعُ على حُكمهِ، ولا يمنعُ ذلك القياسَ عليه (1).
ومِثْلُ هذا أيضاً: قياسُ النبيذِ في التحريمِ على الخَمْرِ، وإنْ كان تحريمُ الخَمْرِ آكَدَ فإنه يوجبُ قليلُه الحد والتفسيقَ ويكفُرُ مُسْتَحله، إلا أن العلَّةَ المُوجبةَ للتحريمِ يشتركان فيها، فكان الفَرْعُ معتبراً به.
__________
(1) انظر"التمهيد"4/ 198.

(2/283)


فإن قيل: فقد اعترض الشافعي فى مناظرتِه محمدَ بن الحسن (1) بمثلِ هذا الاعتراضِ، حيث قال محمدُ بنُ الحسنِ في الزِّنا: إِنه ينشر الحُرْمَةَ واعتبرهُ بالوَطْءِ المُباح، بأنَّ هذا جماع وهذا جماع، فقال الشافعيُّ: هذا جماع حُمِدْت به، وهذا جماعٌ رُجِمْتَ به.
فالجوابُ: أنّ هذا خَرَجَ مَخْرجَ الفَرْقِ بين الجِماعَيْن، لأن الجماعَ إذا حُمِدْتَ به كان له حُرْمَة تقتضي المحْرميَّةَ في حقِّ الموطوءَةِ، والذي يوجبُ الحدَّ لا حُرْمةَ له فلا يتعلَّق به التحريمُ.

فصل
ويحصل فسادُ الاعتبارِ من وَجْهَيْن، بعد انتشارِهِ في الكتابِ بما ذكَرْتُ من الوجوهِ:
احدُهما من جهةِ النص.
والثاني من جهةِ الأصولِ.
فما يُعرفُ بالنصَ، هو أن يَعْتَبِرَ حُكْماً بحُكْمٍ، وقد ورَدَ النصُّ بالتفرقةِ بينهما، كاعتبارِ أصحابِ أبي حنيفة تخليل الخَمْرِ بالدباغ (2).
فيقول الشافعيُّ: النصُّ فرقَ بينهما، لأنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - نَدَبَ إلى الدباغِ في شاةِ مولاة ميمونةَ (3) ونهى أبا طلحة عن التخليلِ لخَمْرِ
__________
(1) محمد بن الحسن أبو عبد الله الشيباني، من كبار أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة (187) هـ. "الجواهر المضية" 3/ 122.
(2) انظر "إيثار الإنصاف": 375 و"المغني" 12/ 517 و"المحلى" 7/ 516.
(3) يريد قوله - صلى الله عليه وسلم - حين مر بشاةٍ ميتةٍ لمولاة ميمونه: "هلّا أخَذْتُم إهابها،=

(2/284)


الأيتام (1). وما فرقَهُ النص لا يجمعُه الرأيُ والاجتهادُ.
وجوابُ الحنفي عن هذا: أَن يُبَيّنَ صحةَ اعتباره وأن الشرع ورد باعتبارِ أَحدِهما بالآخَرِ؛ فإنه قال: يُحِل الدِّباغُ الجِلْدَ كما يُحل الخَل الخَمْرَ، ويتكلَّم على خبر النهى عن التخليلِ بما يُسْقِطُ الحجةَ منه.
وألحَقَ أَصحابُ أَبي حنيفة بهذا حَمْلَ المُطْلقِ على المُقَيدِ، حيث قِسْنا كفارةَ الظهارةِ على كفارة القَتْلِ في اعتبارِ الإيمانِ، فقالوا: القُرآنُ فرقَ بينهما فلا يجوزُ اعتبار أَحدِهما بالآخَرِ، وهذا غيرُ صحيح، لأن النص ما فرقَ بينهما في اعتبارِ الإيمانِ بل ذكره في أحدِهما وسكت عنه في الآخر (2)، وأبداً يُقاسُ المسكوتُ على المنطوقِ.
وأَمَّا ما يُعرفُ بالأُصولِ، فَمِنْ وجوهٍ: أَحدُها: أَن يَعْتبرَ حُكْماً بحُكْم، وأحدُهُما مبنى على التوسعةِ والآخر على التَّضْييقِ، كاعتبارِ الكفَّارةِ في رمضان بالقضَاءِ، والقطعِ بالضمانِ، فيُقالُ: هذا اعتبارٌ باطلٌ، لأنَّ أَحدَهُما مَبْناهُ على التَّضْييقِ والآخَرَ على التوسعةِ، فلا يُعتبرُ أَحدُهما بالآخَر.
__________
=فد بغتموه، فانتفعتم به". وتقدم تخريجه في الصفحة: 34.
(1) أخرجه أحمد 3/ 119 والدارمي 2/ 159 من حديث انس بن مالك.
(2) يريد أن القرآن اعتبر كون الكفارة رقبةً مؤمنةً في قَتْلِ الخَطأ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وسكت عن كونِها مؤمنة في كفارةِ الظهار في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]
وانظر في هذه المسألة: "تفسير القرطبي" 5/ 314 و17/ 280 و "المغني" 13/ 517 - 519.

(2/285)


أو يَعتبرَ الابتداءَ بالدوامِ، كاعتبارِ ابتداءِ النكاحِ باستدامته في الإحرامِ، فيُقالُ: الاستدامةُ أقوى والابتداءُ أضْعَفُ، فلا يُعْتَبَرُ أحدُهما بالآخَرِ.
أو يَعتبر الرق بالعِتْقِ، أو العِتْقَ بالبيعِ، وبُنيَ أحدُهما على الضعفِ والآخَرُ على القُوةِ، فلا يجوزُ اعتبارُ أحدِهما بالآخَرِ.
والجوابُ: أنَّ يُبَيِّنَ أنهما في الموضع الذي علل سواءٌ (1).
والثاني: أن يعتبر فرْعاً بأصْلٍ، وهما مختلفان في نظائرِ الحُكْمِ كاعتبارِ الصبى بالكبيرِ في إيجاب الزكاةِ، وهما مختلفانِ في أصولِ الفُروضِ، كالصلاةِ والصيامِ والحج.
وكاعتبارِ المرأةِ بالرجلِ في إيجاب القَتْلِ بالردةِ، وهما مختلفان في القَتْلِ بالكُفْرِ الأصليِّ، وما أشبه ذلكَ.
والجوابُ: أن يُبَينَ أن ما ذُكِرَ أنه نظير للحُكْمِ ليس بنظيرٍ، وإِنَّما نظيرُ الحُكْمِ غيرُهُ، وهما يتفقان فيه (2).
وأضاف اصحابُ ابي حينفة وُجوهاً أُخَرَ، فقالوا: لا يجوزُ اعتبارُ المُتقدم بالمُتَأخِّرِ، كاعتبار أصحابنا وأصحاب الشافعيُّ الوضوءَ بالتَيَممِ في اشتراطِ النَيةِ لان آية التيمُّم نزلت مُتأخرَةً عن آيةِ فَرْض الوضوءِ، ووجَبَتْ فيه النيَّةُ قَبْلَ أَن يُشْرَعَ التيممُ، فلا يجوزُ أَن يُجعَلَ
__________
(1) انظر "المعونة في الجدل": 114.
(2) "المعونة في الجدل": 114 - 115 و"التمهيد"4/ 197.

(2/286)


وجوبُ النيةِ في التيممِ علةً لوجوبِها في الوضوء؛ لأنَه يؤدي إِلى أن تتأخرَ العلَّةُ عن الحكمِ، والأصلُ عن الفَرْع، وهذا لا يجوزُ.
والجوابُ: أَنّا لم نَجْعَل التيمُّمَ عِلَّةً لوجوبِ النيَّهِ في الوضوءِ وإنَّما جعلناه دليلاً، فقُلنا: لمَا أوْجَبَ الله تعالى التيممَ بعد الوضوء وأوجَبَ فيه النية، وهو بَدَلٌ عَنْهُ وقائمٌ مقامَهُ، دلنا ذلك على أن النيةَ واجبةٌ في الوضوءِ، لأنَه الأصْل، إذ البَدَل لا يُفارق [المُبْدَلَ] (1) في باب النيةِ في الأصول، بدليلِ الكفاراتِ إثباتاً والعِدَدِ سَلْباً، وهذا مِنْ طريقِ الدَلالةِ، والدَلالةُ يجوز تأخُّرها عن المَدْلولِ، فَيضمنها الله دلالةً على السابقِ لها في الوجودِ، وهذا كما ضَمَن المحْدَثاتِ دلائلَ دلتْ على محْدِثِها وصانِعها، فدلت المحدثات على القديمِ سبحانه. واستدللنا بالمُعْجزِ المتاخِّرِ على نبؤَةٍ سابقةٍ تثبتُ بمُعْجزٍ قَبْلَ المُعجزِ الثاني والثالثِ.
ومما الحقوه وأضافوه إِلى فسادِ الاعتبارِ: أنَه لا يجوزُ الاستدلالُ بنَفي وقوع الطلاقِ في النكاحِ الموقوفِ على نَفْيِ أصلِ النكاحِ، وقد سَبَقَ الكلامُ عليه.
ومما أضافوه أيضاً أن قالوا: لا يجوز أن يعَلقَ الحكْمَ على معنى مُتَوهمٍ، كاستدلالِ الشافعيِّ في نكاحِ المسلمِ الأمةَ اليهوديةَ: أَن هذا يؤدي إِلى أن يسترق الكافرُ ولَدة منها (2)، فقالوا: الاسترقاقُ معنىً مُتَوهَّمٌ، فلا يجوزُ إبطال العَقْدِ بسَبَبِهِ.
والجوابُ: أنَّ الولدَ مِنْ مقاصدِ النكاحِ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق، وانظر "المعونة في الجدل": 115.
(2) انظر "المغني" 9/ 554.

(2/287)


"تناكحوا، تكثُروا (1) "فجاز أن يُجعلَ علَّةً للحكم ولأنَّ العلَّةَ كونه مما يؤدي إلى أن يسْتَرق ولدة منها، وهذا معنىً فتَحقق غيرُ فتَوهم، ولأن هذا متفق على استعمالهِ. فأمَّا ما نَحْن فيه فاستعملناه هاهنا وهم استعملوه في السلَمِ في المعدومِ، فقالوا: ربما مات المُسلم إليه ولا نجدُ المُسلم فيه.

فصل في فسادِ الوَضْعِ (2)
وهو: أنَّ يعلقَ على العلَّةِ ضِدُّ ما تقتضيه. وانما يعرف ذلك من وَجْهَيْن:
من جهةِ الرسولِ، ومن جهةِ الأصولِ.
فأمَّا جهة الرسولِ، فَمِثْلُ: قَوْلِ الحنفيُّ في تنجيِسِ سؤرِ السَّبُعِ: لأنَه سَبُع ذو نابٍ، فكان سؤرُهُ نَجِساً، كالخِنزير.
فيقول له الشافعي: كوْنه سَبعاً جُعِلَ في الشرع علةً للطهارةِ؛ والدليلُ عليه ما روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعِيَ إلى دارِ قَوْم فأجابَ، ودُعي إِلى دارِ قوم فلم يجبْ، فقيل له: دعاكَ فلان فأجَبْت، ودعاك فلانٌ فلم تجِبْ! فقال: "إنَ في دارِ فلانٍ كَلْباً"، فقيل: وفي دارِ فلانٍ هِرة،
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه (10391)، وضعَّفه المُناوي والأَلباني.
انظر: "التيسير بشرح الجامع الصغير" 1/ 456 و"ضعيف الجامع": 365.
(2) انظر في هذا الفصل: "التمهيد" 4/ 199 و"شرح مختصر الروضة"3/ 472 و"شرح الكوكب المنير"4/ 241 و"فواتح الرحموت" 2/ 346 و"المعونة في الجدل": 111.

(2/288)


فقال: "الهرةُ سَبُع (1) ". فجعل كَوْنَ الهِرةِ سَبُعاً علةً في الطهارةِ، فلا يجوز أنَّ يُجْعلَ علةً للنجاسةِ.
والجوابُ أَن يتكلم على الخَبَرِ بما يُسقطه لتسلمَ له العلَّةُ.
وأما ما عُرفَ من جهةِ الأُصولِ، فمِثْلُ: أن يقولَ الحنبليُّ أو الحنفيُّ في قَتْلِ العَمْدِ: إنه معنى يوجبُ القَتْلَ، فلا يُوجبُ الكفارةَ، كالردَّةِ.
فيقول الشافعيُّ: علقْتَ على العلَّةِ ضد مقتضاها (2)، لأن كَوْنَهُ موجباً للقَتْلِ سببٌ للتغليظ، فلا يجوزُ أَن يُجْعَلَ سبباً لأسقاطِ التخيير بالتكفير.
والجواب للشافعيِّ أن يقولَ: إِنه لا يقتضي إلا ما عُلقَ عليه، لأنه إِذا تغلًظ بوجوبِ القَتْلِ وجب أن يُستغنى عن تغليظٍ آخَرَ.
وأجاب بعضُهم عنه: بأن هذا يبطلُ بالأصلِ، وهو الردةُ، فإنها أوجبتِ القَتْلَ، ثم لم تُوجب الكفارةَ.
وهذا ليسس بصحيحٍ؛ لأَن السائلَ لم يقلْ: إِنَّ وجوبَ القَتْلِ علَّةُ لإيجابِ الكفارةِ. وإنما قال: سببٌ للِإيجابِ، وسببُ الِإيجابِ لا يصلُحُ أَن يُعَلقَ عليه الِإسقاطُ. وإِن كان لا يتعلَّقُ به الِإيجابُ كالشاهِد الواحدِ على الِإيجابِ، لا يُحْتَج به في الِإسقاطِ، وإن كان لا يتعلَقُ به الإيجابُ، وكذلك هاهُنا.
__________
(1) تقدم خريجه في الصفحة: 27.
(2) في الأصل: "نقيضاها". وانظر التمهيد 4/ 200.

(2/289)


فَصْلٌ في اعتراضِ العلَّةِ على أصلها
وذلك من وَجْهين:
أحدُهما: أَن تُسْقِطَ أَصْلَها، كعِلَّةِ أَصحابِ أَبي حنيفة في جواز الصلاةِ بلفظ التعظيم: أنّه لفْظ يقصَدُ به التعظيمُ لله سبحانه فأَشْبَهَ لَفْظَ التكبيرِ، فإن الأَصلَ ثبت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاحُ الصلاة الطهور، وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التسليم (1) " وهذا يقتضي تخصيص التحريمِ بلفْظِ التكبيرِ، وهذه العلَّةُ تُبطُل هذا، فأبْطَلَتْ أَصْلَها.
والثاني: أَن تَخُصَّ أَصلَها، كقولهم في الرِّبا: إِنه مكيل جِنْسٍ، فإِنَّ الأصلَ ثبت بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعوا البُر بالبُر (2) " وهو علَة في القليلِ والكثيرِ، وعلَّتكم تخصُّ الأصْلَ في القليلِ، فلا تصحُ، لأنه لو كان ذلك علةً، لَعَمت جميع الأَصلِ، لأنَّ المطلوبَ علَّةُ الأصل.
والجوابُ: أن يتكلم على الخبرِ في المَوضعَيْن، ويُبَينَ أَن الخبرَ في الأول لا يقتضي الحَصْرَ، والخبر في الثاني لا يتناول القليل، ليبقى القياسُ بحاله.

فصل في الكَسْرِ والاعتراض به على العلَّة (3).
وهو نَقْض المعنى. وهو وجود معنى العلَّةِ ولاحُكْمَ، كما أنَّ النَقْضَ
__________
(1) أخرجه الترمذي (3) وابن ماجه (275) والدارقطني 1/ 360 من حديث على رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه في الصفحة (48) من الجزء الأول.
(3) انظر في هذا الفصل: "المسوَّدة": 429 و"التمهيد" 4/ 168 و"شرح الكوكب"4/ 293 و"الإبهاج" 3/ 125 و"المعونة في الجدل": 107 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 510.

(2/290)


وجودُ ألفاظِ العلَّةِ ولا حُكْمَ.
وقد اختلف فيه أهل العلم: فقيل: ليس من الأسئلةِ اللازمةِ.
وقيل: هو لازمٌ.
فمن لم يجعله سؤالًا، لم يلْزَمْ عنده الجواب عنه، لأنه يعتقد أنه ليس بكلامٍ على الدليلِ.
ومن اعتقده سؤالاً ألزمَ الجوابَ عنه.
ومثالهُ: قَوْلُ أَصحابِنا وأَصحابِ الشافعيِّ في بَيع ما لم يَرَهُ: إنه مَبيع مجهولُ الصفةِ عند العاقدِ حال العَقْدِ، فلم يصحَّ بيْعُهُ، كما لو قال: بعتُك عبْداً (1).
فيقول المخالفُ: هذا ينكسرُ به إذا تزوج امرأةً ولم يَرَها، فإنها مجهولة الصفةِ عند العاقدِ حالَ العَقْدِ، ثم يَصحُّ. فمَنْ مَنَعهُ قال: هذا ليس بكلام على دليلي، لأنَك غَيرْتَ الوصْفَ، وإِذا غيرت الوصْفُ لم يكن الذي تكلمت عليه دليلي.
ومن أجاب عنه واعتقده سؤالًا قال: ليس النكاحُ كالبَيْع؛ وأَخَذ يبعد بالمعنى حسب الإِلزامِ بالمعنى، ويوضح في تَبْعيدهِ: أَن النكاحَ لا يُعْقدُ فيه على الصفات، ولذلك لا تُفْرَدُ صفاتُه بالعَقْد ولا يلزمُ اشتراطُها، ولا يثبتُ الخيارُ فيه بالرؤيةِ بخلافِ سائرِ السلع.
فيُجيب الحنفي: بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حث على تأملِ صفاتِ المنكوحةِ
__________
(1) انظر "المغني" 6/ 299 وما بعدها.

(2/291)


قَبْلَ النكاح، وقال: "تُنكحُ المرأةُ لجمالِها (1) ". وُيقرِّب النكاحَ من البَيْعِ بحيث يَنْدفغَ الفَرْق وَيقْرب النكاحُ من البَيْعِ بالمعنى.
واعتلَّ مَنْ مَنَع كَوْنَه سؤالًا بما نُحَقَقه في مسائلِ الخلافِ إن شاءَ الله، ولكنا نُعَجِّلُ منه طرفاً هاهُنا بأن نقول: الكَسْرُ كلام على بعضِ الدليلِ أو على غيرِهِ، لأَنَّه لا يَقَعُ إلاّ ممَّن يُسْقِطُ من العلَّةِ وصْفاً، أَو يُغَيِّرُ وصْفاً، فالكلامُ على بعْضِ الدليلِ ليس بكلام على الدليلِ، ويكون ما اسقطه أو غَيَّرُه هو الفَرْق بين مسألةِ الإلزام وبين المسألةِ المُستَدَلِّ عليها.
قال: وُيخالفُ نَقْضَ اللَّفْظِ، لأنَه أبْطَلَ العلَّةَ التي ذكرها، ولهذا لم يقبَلْ منه الفَرْقُ، لأنه يكونُ زيادةً على ما ذكره من الدَّليلِ.
ولِمَنْ نَصَرَ صحةَ الكَسْرِ أنَّ يقولَ: انما نُوردُ الكَسْرَ على علًةٍ فيها وصْف ليس بمؤثّرِ في الحُكْمِ ولا يتعلًقُ به المعنى, فلا نكون قد نَقَضْنا من العلَّةِ شَيْئاً، ومتى كانت جميعُ أوصافِ العلَّةِ مؤثرةً فلا كَسْرَ.
فيقول النافي لصحًةِ الكَسْرِ: فإِذا كان في العلَّةِ وصْف غَيْرُ مؤثرٍ وجَبَ إِسقاطُه والطَعْنُ في العلَّةِ لعَدَمِ التأثيرِ، ولا معنى لإِيرادِ الكَسْرِ.
فيقول المُثبتُ للكَسْرِ: عَدَمُ التأثير سؤال لإِفسادِ العلَّةِ، والكَسْرُ طريق أيضاً لإِفسادِ العلَّةِ، فأيَّهما أوْرَدَ، نابَ مَنابَ صاحبهِ.
فيقول النافي للكَسْرِ: هذا غيرُ مستقيمٍ، لأنَّه مُتَرَتِّبٌ على سؤالٍ
__________
(1) أخرجه أحمد فى 2/ 428 والبخاري (5090) وأبو داود (2047) والنسائي 6/ 68 وابن حبان (4036) من حديث أبي هريرة.

(2/292)


قَبْلَهُ تَفْسُدُ به العلَّةُ، وهو بيانُ أن هذا الوَصْفَ لا يتعلقُ به الحُكْمُ، والمعنى مُتعلَق بما سِواه ليتم له إيرادُ الكَسْرِ، وإن ثَبَتَ أنه لا تأثيرَ لوصفٍ من الأوصافِ [فى]، العلَّةِ، فقد فَسَدت العلَّةُ بعدمِ تأثيرِ ذلك الوصْفِ، ولا معنى لإيرادِ الكَسْرِ.

(2/293)


فصول المُعارضة (1)
فصل
إذا عارَضَ المُعترضُ العلَّةَ بُنْطقٍ، نَظَرْتَ، فإِن كان نَصّاً كان مُقَدماً عليها، لأنَّ نَصَّ خَبَر الواحدِ مُقَدَّم على القياسِ، وبيانُ ذلك في أصولِ الفِقْهِ وتراتيبِ الأدلةِ وقد مضى (2).
وإن كان النُّطْقُ ظاهراً أو عموماً، فقد اختلف أهلُ الجَدَلِ فيه، ولأصحاب الشافعيُّ فيه وجْهان: فمنهم مَنْ يقولُ: يُقَدَّمُ النطْقُ، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "بمَ تحكمُ؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تَجدْ؟ " قال: بسُنَّةِ رسول الله، قال: "فإن لمَ تَجدْ؟ " قال: أجتَهِدُ رأيي، قال: "الحمدُ لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ اللهَ لِما يرضاه رسولُ الله" (3). فأخر الرأيَ عن الكتابِ والسنَّةِ.
ومنهم مَنْ قال: يقدم القياسُ، لأنه تناولَ الحُكْمَ بنصهِ وصريحِه وحقيقتِهِ، فكان مقدماً على ما تناوله بظاهرهِ أو عُمومِهِ، كما أنَّ نَص خَبَرِ
__________
(1) انظر "التمهيد"4/ 215 و"شرح الكوكب المنير"4/ 294 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 527.
(2) أنظر: ما تقدم في الصفحة (5) وما بعدها.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة (5).

(2/294)


الواحدِ يخصُّ عُمومَ القرآنِ وإِنْ كان طريقهُ الظنَّ، وطريقُ القرآنِ العِلْمُ والقَطْعُ، لأَنه تناوله بَنصَه.
إِذا ثبتَ هذا، فإنَّ أَصحابَ أَبي حنيفة يقولون: لا يُبْتَدأُ التخصيصُ
بالقياسِ، فإن كانَ العمومُ مخصوصاً بغيرِهِ، خَصَصْناه به.
مثال ذلك: تعليل أَصحابنا وأَصحابِ الشافعيِّ في مسألةِ امرأةِ الصبي إذا مات وهي حاملٌ: أنها تعتد بالَأشهر دون الحَملِ، لأَنَّ هذا الحَمْلَ مَنْفيّ عنه قَطْعاً ويقيناً، فلم يُعْتَدَّ به، كما لو حَدَثَ بعد مَوْتِهِ.
فقال أَصحابُ أَبي حنيفة: هذا القياسُ يخصُّ عُمومَ القُرآنِ، وهو
قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]
فلا يُصْرَف عن ظاهرِهِ بالقياس.
ووَجْهُ ما ذكرْناه: أَنّه لا فَرْقَ في تَخْصيص العُموم بين ابتداءِ التَخْصيصِ وثانيهِ، لأنَّ للفْظِ المخصوصِ دلالةً فيما لم يُخصّ، كما أن لِلَّفظ في الابتداءِ في الكُلِّ. لا يُخالفُ أَبو حنيفةَ في ذلك وإِنَّما عيسى بن أَبان (1) يقولُ: إِذا خُصَ بطلت دلالتُه، فلا معنى لما ذكروه، وعلى أَنه في هذه الآيةِ قد خُصت في الحَمْلِ الحادثِ بعد الموت.

فصل
وأما إنْ عارضَ بعلةٍ نُظرَتْ: فان كانت من غير أَصلِه، مثل أَن يقولَ الحنبليُّ أَو الشافعي في إزالةِ النجاسةِ: إنَّها طهارة فلا تصحُ بالخَلِّ، كالوضوءِ.
فيعارضه السائل؛ بأنها عين يزول حكمها بالماء، فوجب أن تزول بالخل، حَالطيب على توب المحرم.
__________
(1) هو عيسى بن أبان بن صدقة، أبو موسى القاضي، الفقيه الحنفي، توفي بالبصرة سنة (221). انظر "الجواهر المضية" 2/ 678.

(2/295)


كان على المُسْتدِلِّ أن يتكلم على العلَّةِ التي عارضَه بها بما يتوجه عليها من أَنواعِ الإفْسادِ أَو يُرجحَ عليه، كما لو كان السائلُ هو المستدِل ابتداءً.

فصل
وأما إنْ عارَضَهُ بعِلةٍ من أصلهِ، نُظرَتْ، فإن كانت العلةُ التي عارضه بها واقعةً مِثْلَ أن يُعَللَ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ في ظِهارِ الذميِّ بأنه يصح طلاقُه، فصح ظِهارُهُ، كالمُسْلمِ.
فيقول الحنفي: المعنى في المسلمِ أنه يصحُّ منه الكفارةُ.
فيقول المستدل: هذه علةٌ واقفةٌ (1)، والواقفةُ عندك ليست صحيحةً، وعلى أني أقولُ بالعلتَيْنِ، لأن حُكْمَ هذه العلَّةِ التي ذكرتها لا يُنافي حُكْمي.
ومن الناسِ مَنْ قال: لا حاجةَ به إلى تسْليم العلَّةِ له، بل يقولُ: هذه العلةُ التي ذكرْتها لا تُنافي علتى ولا تَمْنَع تَعلقَ الحُكْم بها، لأَنَها تُوجبُ حُكماً مِثْلَ حكمِ علتي.
فإنْ قال: إذا ثبتَ تَعلقُ الحُكْمِ بهذه العلَّةِ، ثبتَ أنَّ حُكْمَ الفَرْع بخلافِ ذلك، لأنه لا يُوجَدُ فيه.
قال له المُسْتَدِلُّ: ليس يَلْزَمُ في العِلةِ أنَّ تنعكسَ، ويجوزُ أنَّ يثبت الحكمُ في عَكْسِها لعلةٍ أخرى، فيكون الحكمُ في الأصلِ ثابتاً
__________
(1) العلَّة الواقفة: هي العلةُ القاصرة. وانظر تمام الكلام عليها في "شرح الكوكب المنير" 4/ 51، و"التبصرة": 452.

(2/296)


بعلتَيْن تُوجدُ إحداهُما في الفَرْع دون الأخرى.
فإن قال السائلُ: فقد أقْرَرْتَ بصحةِ علتي التي عارضْتُ بها، وأنا لا أقر بصحةِ عِلتِك التي ادعَيْتَها، فيلزمك الدليلُ، صار هذا مطالبةً بتصحيحِ العلَّةِ وخَرَجَ عن حُكْمِ المعارضةِ.

فصل
وأما إنِ كانت العلةُ التي عارضَ بها مُتَعدِّية، نظرت، فإن كانت معلولاً بها داخلة في معلولاتِ علَتِهِ، لم تصح المعارَضةُ، لأَنَّها علَّةُ المُعَلِّلِ وزيادةٌ.
وذلك مثل: أَن يُعَللَ أَصحابُنا في إحدى الرواياتِ وأصحابُ الشافعي البُر: بأَنَّه مَطْعومُ جنْسٍ، فيقول المالكيُّ: إنَّه جِنْسٌ فكان القُوتُ داخلا في الطعْمِ، كأنَّه قال: مطعوم (1)، وكذلك قال أصحابُنا في طعامِ الكفارةِ: لا يجوزُ أَن يُعْطى منه مسكينٌ واحدٌ مُديْنِ في يَوْمَيْن؛ لَأنه مسكين استوفى قُوتَ يوْمِهِ من كفارة، فأَشْبَهَ إذا أَعطاه ذلك عن يَوْمَيْن في يَوْمٍ واحدٍ سَلَفاً لحاجتِه من الغَدِ (2). فيقول الحنفيُّ: المعنى في الأصلِ أنَّه استوفى قُوتَ يَوْمِهِ من كفارةٍ.
لم تصِح هذه المعارَضةُ، لأنَّ يَوْمَهُ داخلٌ في علَّةِ المعلِّل من أصحابِنا، وهو اليوم المُنكَرُ، قال أبو عليِّ الطبري من أَصحابِ الشافعي: وكذلك إِذا قيل في حرمان الميراثِ بقَتْلِ الصبيِّ
__________
(1) انظر مقدمات ابن رشد بهامش المدونة 3/ 174.
(2) انظر "المغني" 13/ 513.

(2/297)


لمَوْروثِهِ: إنَّه قاتل فاشْبَهَ البالغَ (1).
فقال أصحابُ أبي حنيفة: المعنى في البالغِ أنه مُتهم بالقَتْلِ؛ لأن المتهم في استعجال الميراثِ بالتسَبب إلى القَتْلِ ولم يَحْصُل منه، مِثْلَ إن عدا على موروثه بحديدةٍ أو أطَعمه سُماً قاتلًا، فتدواى فَسلِمَ منه، هذا مُتهَم في تَعْجيلِ الإرْثِ ولا يُحْرَمُ الإرْثَ. وكذلك لو جَرَحَهُ جراحةً يموت بمِثْلِها، فلا زال يُداويها حتى بَرأ، ثم مات من غَير سرايتِها، فإنَّه مُتَّهَم، ولا يُحْرَمُ الإِرْثَ، فإِذا كانت التهمةُ بالقَتْلِ، فهي داخلة في علةِ مَنْ عللَ بالقَتْلِ خاصةً.
فأَما إن لم تكن معلولاتُها داخلة في معلولاتِ علَتِهِ، مثل أَن يُعَلِّلَ البُر بأنه جِنْسُ مطعومٍ ونَقيسُ عليه الفواكه.
فيقول الحنفي: المعنى في البُر أنه مَكيلُ جِنْسٍ. فيحتاج المستدل أن يتكلم على علَّةُ المُعارِضِ بما يتوجه عليها من إفسادٍ، أو ترجيحِ علته على ما علل به من الكَيْلِ. ويوضِّح أنَّ الطعْمَ وَصْف ذاتيٌّ، والكيل مِقْدار وعَلَم على التساوي، فَيَبْعُدُ أنَّ يكونَ علةً. ومتى عجز عن واحدٍ منها، كان مُنْقَطِعاً بمساواتهِ المُعْترِضَ، وليس يخرجُ من الانقطاعِ إِلا بترجيحٍ لِعلتِهِ.
قال بعضُ الشافعيةِ: ولا يُمكنُ أنَّ نقولَ بالعلتَيْن؛ لأَن الإجماعَ انعقد على أنَّ العلَّةَ في البُر واحدة، وليس كما وقع له، بل قد ذهب
__________
(1) انظر "المغني" 9/ 152.

(2/298)


صاحبُنا -رضي الله عنه- في رِوايةٍ إلى أَنَ العِلَةَ ذاتُ وَصْفَيْن، وهما (1): الطعم والكَيْلُ (2)، فيمكن الحنبلي أن يقولَ بما علل به المعارضُ إذا نَصَرَ هذه الروايةَ؛ لأن ما جعله المخالفون علةً هو عِنْدَ صاحبِنا وَصْف، فالعِلةُ ذاتُ وَصْفَيْن: طُعْمٌ، وكَيْلٌ.

فصل
ولا تحتاجُ علَّةُ الأصلِ إلى أصلٍ تُردُّ إِليه، لأن الأصل ثبت حُكْمُه لا مِن جهةِ القياسِ على غيرِهِ، وإنما ثبت بالنُّطْقِ، والعلَّةُ مُسْتَنْبَطَة منه (3)، فإن كان الأصلُ ثبت حكمُه بالقياسِ على قول مَنْ أجاز القياسَ عليه، فانما يكون القياسُ عليه بغيرِ العلَّةِ التي أُثْبِتَ حُكْمُهُ بها، وتكونُ العلةُ التي ثبت حُكْمُهُ بها جاريةً مَجْرى النُّطْق فيه، لَأنَ القياسَ دليلٌ شرعيٌ، كما أَن النُّطْقَ دليلٌ شرعيٌ، وإِذا قيس عليه بالعلَّةِ التي ثبت الحُكْمُ بها، فلا يكون أصلًا لما قِيسَ عليه، لأن الذي قيسَ عليه مُقاس على الأصْلِ الذي انتُزِعَتْ منه العلةُ، ولا يكونُ أَحدُهما بكَوْنِهِ فَرْعاً أوْلى من الآخَرِ.
وأما الفَرْعُ فلا بُد لعلتِهِ من أصْل، لأن الفَرْعَ ثَبَتَ حُكْمُه بغَيْرِهِ.

فصل
وليس من شَرْطِ علةِ المعارَضةِ في الأصلِ أن تُعْكَسَ في الفَرْعِ،
__________
(1) في الأصل: وهو.
(2) انظر كتاب المسائل الفقهية من "كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء 1/ 316.
(3) "التمهيد"4/ 222.

(2/299)


بل يجوزُ أنَّ تُذْكَرَ عِلةٌ في الأصْلِ ويُذكَرَ في الفرع علَّةُ أخرى (1).
وذكر بعضُهم: أَنه متى لم يعكِسْها في الفَرعِ، لم يحصل الفَرْقُ، لأنَه يمكنه أنَّ يقولَ بعلة الأصل وليس، ما اعتبره هذا القائلُ صحيحاً، لَأنَّ علةَ الَأصْلِ لا بُدَّ أَن يَحْصُلَ بها الفَرْقُ، لأَنها غيْر موجودةٍ في الفَرْعِ، ويكفي عَدَمُ وجودِها في الفَرْع، لأَن يَخْرُجُ بعدَمِ وجودِها أنَّ يكون فَرْعاً، وأَن يكون مُعَلِّلاً بما يَحْصُلُ به العَكْسُ، وهو إذا ذكر علَّة في الفَرْعِ وليست موجودةً في الأصْل فقد خَرَج أنَّ يكون فرْعاً، فصار بذلك فرْقاً صحيحاً. فلا وجْهَ للمطَالبة بالعَكْسِ، وقد حصل الفَرْقَ بما ذكَرْنا مع عَدمِ العَكْسِ. وأما قولُه: أَنَّه يُمكنه القولُ بها في الأصل، فليسٍ بصحيح؛ لأن علةَ الأصلِ التي لم يعكسْها يجوزُ أَن تكون مُنْتَقَضَة على أَصْلِ المعللِ، لأنها تتعدى إلى فُروعٍ لا يقول بها، وإِنما يصح ذلك في العلَّةِ الواقِفةِ، ولأن علَّةُ المُعارِض لا بُدَّ أن تكون مُنعكسة على أصْلِهِ، وإنما في الفَرْع يُعْدَلُ عن ذلكَ، لأن المستدل لا يُسَلَمُ له حصول العكس في الفَرْع، وذلك يكونُ في العلَّةِ إذا كانت حُكْماً أوْ صِفةً شرعيَّةً، مثل أن يُعَللَ أصحابُ أبي حنيفة طهارةَ جِلْدِ الكَلْبِ بالدَباعِ: بأنَّه حيوانٌ يجوزُ الانتفاعُ به حال حياتِه، فطَهُرَ جِلْدُهُ بالدباغ، كالفَهدِ.
فيقول الشافعيُّ: المعنى في الفَهْدِ أنه يجوز بَيْعُهُ حال حياتهِ ولا يُغْسَلُ الإناءُ مِنْ ولوغهِ عَدَداً، ويُقْتنى إعجاباً به واستحساناً له لا لأجْلِ الحاجةِ إليه، وليس كذلك الكلب، لأَنَّه نَجِسُ العَيْنِ لا يجوزُ بَيْعُهُ،
__________
(1) "التمهيد"4/ 223.

(2/300)


وَيقفُ اقتناؤهُ على الحَاجةِ، فهذا العكْسُ كله لا يقولُ به الحنفيُّ ولا يُسَلِّمُهُ (1).

فصل
وإذا عارَضَه في الأصل بعلةٍ مُجْمَع عليها، وذلك مثل: أن يُعَلِّلَ الشافعيُّ في أَن صفةَ الطلاقِ لا تنعقه قَبْلَ النكاحِ: بأَنَّ مَنْ لا تقَعُ طلاقُهُ المباشِرُ لا تنعقد صفتُه بالطلاقِ كالصبيِّ. فيقول الحنفيُّ: المعنى في الأصلِ أنه غيرُ مكلفٍ فلم تنعقد صفتُه بالطلاقِ، والبالغُ مُكلَّفٌ أَضافَ الطلاقَ إِلى مُلْكِهِ، فأَشْبَهَ الزَّوْج.
كان للمستدل أن يقولَ: أنا أقولُ في الأصلِ بالعلًتَيْن. ويتكلَّم على علَّةُ الفَرْع، كما يتكلَّمُ عليها إِذا ابتدأ الاستدلال بها، فيقول: لا تأثيرَ لقولِك: أضافَ الطلاقَ إلى ملْكِهِ في الأصل لأن الزَّوْجَ يَقَعُ طلاقُهُ وإِنْ لمْ يُضِفْهُ إلى ملْكِهِ.
وربما قيل على المعارَضةِ: إِنَّ اختلافَ الصبى والبالغِ في التكليفِ لا يمنعُ استواءَهما مع عَدَم الملْكِ، كما استويا في الطلاقِ المُباشر.
ولربَّما قيل بلَفْظٍ آخر: وهو أنَّ الصبى إن كان غَيْرَ مكلف، فهذا غَيْرُ مالكٍ، وعدَمُ الملْكِ في مَنْعِ التصرفِ كَعَدَمِ التكليف.

فصل
واذا كان القياسُ على أصول عدة، فعارضَ في بَعْضِها، لم يكْفِهِ
__________
(1) انظر "المغني" 6/ 352، 356. و"نَيْل الأوطار" 1/ 62.

(2/301)


ذلك في المعارَضةِ؛ لأَنَّ الحجَّةَ باقيةٌ بما بقي من الأصولِ ولو أصلٌ واحدٌ.
مثالُ ذلك: أن يستدلَّ أصحابُنا في رواية وأصحابُ الشافعيُّ في نجاسةِ شَعْرِ الميتة، بأَنَّه شعر نابتٌ على ذاتٍ نَجِسَةٍ فكان نجساً، كشَعرِ الكَلْبِ.
فيقول الحنفيُّ: المعنى في الكَلْب أنَّ شَعْرَهُ في حالِ حياتهِ نَجِس، فكان نَجِساً بعد مَوْتِهِ. كان للمسَتدل أنَّ يقولَ: هذه معارضةٌ فاسدةٌ، لأنَّها في بَعْضِ الأَصْلِ، وأَنا قِسْتُ على شَعْرِ الكَلْبِ حالَ حياتهِ وبعد مَوْتِهِ، فإِذا عارضني في بَعْضِ أصلي كان التعليلُ باقياً مُسْتَقِلًا بما بقي لي من الأصْلِ.

فصل
إِذ تعارَضَتْ علَّتان ولم يتوجه على إحداهُما إفسادٌ، وهذا إِنَّما يكونُ في قَوْل مَنْ يعتبرُ جَرَيانَ العلَّةِ وسلامتَها على الأصولِ خاصةً في صحَّتِها. فَأمَّا من اعتبر تأثيرَ العلَّةِ والدلالةَ على صحَّتِها فيقل وُجودُ ذلك. فإِذا تعارَضَت العلَّتان لم يكن بُدٌّ من ترجيحِ إِحداهُما على الأخرى، فيُعملُ بالراجحةِ.
فمِما يُرجَّحُ به: أن تكونَ موافقةً لعمومِ كتاب أو سُنةٍ أو قولِ صحابيٍّ، وذلك مِثل أن يُعَللَ مَنْ قال: أنَّ بَدَلَ العبْدِ تَحْملُه العاقلةُ بأَنه يتعلَّقُ بقتلِه القَصَاصُ والكَفارةُ، فحُمِّلت العاقلة بَدَلَه، كالحُر.
ويُعَقَلُ مَنْ قال: إنَها لا تَحْملُه: بأنَّه مالٌ تَجبُ قيمتُه بالِإتْلافِ فلا تحملُه العاقلةُ، كسائرِ الأَموالِ، فرجح مَن قال بهذا قياسُه بأَنه مُوافق

(2/302)


للكتاب، فمن [ذلك] قوْلُه تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ويمكنه أن يُرَجحَ بنوعٍ آخَرَ، وهو أنَ المُتْلفاتِ مُعْظَمها يجبُ على المُتْلفِ، وإِنَّما ثبتَ التحمُّلُ في حق الحُر خاصةً لِما يحصلُ بقَتْلهِ من النائرةِ بين الحيَيْن أو العشيرة فكان إلحاقُ هذا العَبْدِ بسائرِ الأموال أولى.
ويُمكنُ مَنْ ألْحقَهُ بالحُرِّ أن يقولَ رد العَبْدِ إلى الحُر أَولى، لأنَّه يُرَد إِلى شَكْلِهِ وجنْسِه، وذلك مثل قَوْلِ أَصحابِ أَحمدَ والشافعيِّ: إن اللعانَ يَمينٌ؛ لأنَّه ذكر الله تعالى على وَجْهِ تأكيدِ الخَبَرِ، فكان كسائرِ الاَيْمانِ، فكان إِلحاقه بها اوْلى مِنْ إِلحاقهِ بالشهاداتِ.

فصل
ومن ذلك: أن تكونَ إحدى العِلَّتيْن تَخُصُّ أَصلَها الذي انتُزِعَتْ منه، وذلك مِثْلُ علَّةُ أصحابنا في إِحدى الرواياتِ، وعلَّةِ أصحاب أبي حنيفة في البُرِّ أنَّه مَكيلٌ، فإِنها تُخرجُ الذي لا يُكالُ من الرِّباَ على أصلِ أصحاب أبي حنيفة خاصَّةً، فإِنَّ أصحابَنا مع المُوافقةِ لهم في التعليلِ بالكَيْلِ، يخالفونهم في اليَسيرِ.
وعلَّةُ أصحاب الشافعيُّ وأصحابنا في الروايةِ الأخرى: الطُّعْم، وهي تَجْمَعُ الكُلَّ، فلا تَخُص أَصْلَها.

فصل
ومن ذلك: أن يكونَ حكم العلَّةِ موجوداً معها، وحكم الأخرى يوجد قَبْلَها، فتكون المصاحِبَة للحكْمِ أوْلى.

(2/303)


مثالُه: قَوْلُ أصحابنا وأصحاب الشافعيِّ في البائن: لا نَقَقَةَ لها، بأنَّها أَجنبيّة منه، فاَشبَهَتِ المقضيّهَ العِدَّةِ.
وقَوْلُ أصحابِ أبي حنيفة: إِنَّها مُعْتدَّةٌ مِنْ طلاقٍ، فأشبَهَتِ الرجعيَّةَ، والنفقةُ تجبُ للزوجةِ قَبْلَ أن يطلقها طَلْقَةً رجعية، فعلتنا المُصاحبهُ أَولى، لكونها لم يَسْبِقْها حُكْمُها بَلْ صاحبَها.

فصل
ومن ذلك: تَقْديم أصحاب الشافعيِّ تَمْييزَ المستحاضةِ على عادتِها، لأن التمييزَ صفةٌ قائمةٌ فيَ الحالِ، والعادةُ زمانٌ مَضى.

فصل
وذكر أَبو عليٍّ الطبريُّ من أَصحاب الشافعيِّ: أَنَّ العِلَةَ إذا اتفق الفَرْعُ مع الأصل في الاسمِ بالجِنْسَ والمَعْنى كانَتْ أوْلى.
مثالُ ذلك: أن يُعَللَ في رَهْنِ المَشاعِ أو هِبَتِهِ بأنَّه رَهْنٌ، فأشْبَهَ اذا رَهَنَ من اثنين أو وهب من شريكهِ، كذلك اذا علل في المُكاتَب أَنّه لا يجوزُ عِتْقُهُ في الكفَّارةِ بأنَّه مُكاتَبٌ، فلا يُجْزىء في الكفارةِ، كما لو كان قَدْ أدى مِنْ كتابتِهِ نَجْما (1).
وكذلك إذا مات فإنه مات مكاتَباً فأشْبَهَ إذا لم يكن له وَفاءٌ، وإنما كانت هذه أَوْلى، لأنَّ الغَرَضَ تَقْريبُ الأصلِ من الفَرْعِ، فإذا اشتركا في الاسم كان أقْرَبَ، وهذا صحيحٌ فيما يكون للاسمِ فيه تعلق
__________
(1) يقال: نَجَّمْتُ المالَ: إذا أديْتَه نُجوماً. والنجْمُ: الوَقْتُ المضروب. انظر "الصحاح" 5/ 2039.

(2/304)


بالحكم. فأَما إذا لم يكُن فيه تَعَلق بالحُكْمِ، فلا وَجْهَ للترجيحِ به.

فصل
ومما يُرجَّحُ به: أَن تكونَ إِحداهُما مَرْدودةً إِلى أَصْلٍ مُجْمَعٍ عليه، والأخرى إلى أصْلٍ مُخْتَلفٍ فيه، أو تكونَ إحداهما مُفَسرة والأخرى مُجْمَلةً، كقَوْلِ أصحابِنا في الأكْلِ في الصوم: إِنَّه إفطارٌ بغيرِ جماع. وقولِ أصحابِ أبي حنيفة: أفْطَرَ بمَتْبوع جِنسهِ أو أفطر على ما فيَ البابِ من جِنْسِهِ، فإن هذا إجْمالٌ.
وكذلك إذا كانَ مع إحدى العلتين زيادة، كأن تكونَ إحداهُما فيها احتياطٌ للعرض، أو تكون إحداهُما ناقِلةً عن العادةِ والأخرى مُثْبِتَةً على حُكْمِ العادةِ، فالناقلةُ أوْلى؛ لأن معَها إفادةَ حُكْمٍ.
وكذلك إذا كانت إحداهما تُوجِبُ والأخرى تَنْدبُ، فالتي تُوجبُ معها زيادةٌ.
وكذلك إِذا كانت إحداهما حاظِرةً، والأخرى مبيحة. ويُحكى عن بَعْضِ أصحابِ الشافعيِّ أنهما سواءٌ.
وسمعتُ بَعْضَ أَئمة الأُصوليين يقول في ذلك قَوْلاً حَسَناً: وأَنَّ الاحتياط بالإيجاب لا وَجْهَ له، بل يجوزُ أن يَقَعَ في الأفعالِ، والعلَلُ موجبة للأحكام، فلا بُدَّ من اعتقادِ الإيجاب، وقد سوَّت الأصولُ بين اعتقادِ ما ليسَ بواجبٍ واجباً وبين اعتقادِ إسقاطِ الوجوبِ فيما هو واجبٌ، فلا وجْهَ للترجيحِ في الاعتقادِ بينهما.
فأمَّا في الفِعْلِ الأحوط من غيرِ اعتقادٍ، فذاك غَيْرُ ما نَحْنُ فيه

(2/305)


من العِلَلِ الموجبةِ للأحكامِ، وهذا الكلامُ مؤَيدٌ [من] هذا (1) الوجْهِ لأصحاب الشافعيِّ.

فَصلُ
ومن ذلك أنَّ تكونَ إِحدى العلتين تَسْتوي في معلولاتِها، وذلك مِثْلُ: أنَّ يُعَللَ [الشافعي] العِتْق على المالكِ بالوِلادةِ أو التعْصيب، وُيعَلِّلَ أصحابُنا وأصحابُ أبي حَنيفه بأنه ذو رَحِم مَحْرَمٍ في النَسَبَ، وهذا يختص بالنساءِ والولادةِ، والتعْصيبُ يستوي فيه نساءُ الأقارِب ورجالهُم.
ومن ذلك: أن تكونَ إحداهُما متعدِّيةً والأخرى واقِفةً، فالمتعدية أوْلى؛ لأنَها تُفْسِد أحكاماً في فُروعِها.

فصل
ومن ذلك: أن تكون إِحدى العلتين لا نظيرَ لها في الأصولِ وللأخرى نظائرُ، فالتي لها نظيرُ أوْلى، وذلك مِثل ما قالوا في رَدِّ شهادةِ القاذفِ بعد تويتِهِ مع زوالِ فِسْقِهِ بها، وليس في الأصول ما يُوجبُ رد الشهادةِ مع زوالِ ما أوْجبَ ردها، ولا لنا فِسْقٌ يَمْنَعُ فيزولُ، ويبقى ردُ الشهادة بعد زواله.

فصل
واعلم أن المُعارضةَ في الَأصْلِ، هي الفَرْقُ الذي يقصدُ به المُعارِضُ قَطْعَ الأصلِ من الفَرْع. ويَنْقَسم كما ينقسمُ أصل القياسِ:
__________
(1) في الأصل: "لهذا" ولعلَّ الصواب ما أَثبتناه.

(2/306)


فقد يكونُ بقياسِ علَّةٍ، وقد يكونُ بدِلالةٍ، وقد يكونُ بقياسِ شبَهٍ.
فأمَّا الفَرْقُ بقياس العِلَّةِ: فالكلامُ عليه أن يتكلم على علةِ الأصل والفَرْع بكل ما يتكلمَ به على العِلَل المُبْتَدأةٍ. والذي ينبغي أنَّ يُعْنى به أَن يَنْظُرَ إلى علَّةِ الأَصْلِ، فإِن كانت علَّةً اتفقا على صحتها، وقد بينا مثالَ ذلك في قوْلِ أَصحابِنا في الطلاقِ هل تنعقد صفتُه قَبْلَ النكاح معلقا على النكاح؛: مَنْ لا يملكُ الطلاق المباشر لا تنعقدُ صفةُ طلاقِه كالطفل. فيعارضُه الحنفيُّ: بأَنَ الأَصل غيرُ مكلف وهذا مكلفٌ، وقد سَبَقَ الكلامُ عليه باستيفاء (1).
وإِن كانت علَّةُ الأصلِ مُخْتلفاً فيها، مثل أن يقيسَ الشافعيُّ في الربا في الفاكهةِ على البر، فالذي ينبغي أن يُعْنى به، أن يتكلمَ على علَّةُ الأصْلِ بأن يقولَ: لا يجوزُ أن يكون الكَيْلُ علةً، لأن الكَيْلَ يتخلص به من الرِّبا، فلا يجوزُ أنَّ يُجعَلَ علَماً يقتضي تحريمَ الرِّبا، ولأن الكَيْلَ لا يُوجَدُ الحكم بوجودهِ، ولا يُعْدَمُ بعَدَمِهِ، ولأنْ التعليل بالكيْلِ يعودُ على أصْلهِ (2) بالِإبطالِ، وما أَشْبَهَ ذلك.
واما الفَرْقُ بقياسِ الدلالة فضرْبان (3):
أَحدُهما: أَن يفرق بحكْمٍ من أَحكامِ الفرع، وذلك مثل: أَن يقولَ الحنفيُّ في سجودِ التلاوةِ: إنَّه سجود يجوز فِعْلُهِ في الصلاةِ، فكان
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة (301).
(2) في الأصل: أهلهِ. وصوابُه من "المعونةِ في الجدل": 116.
(3) "المعونة في الجدل": 116 ويبدو أن المصنِّف قد أَخذ هذا الفصل منه.

(2/307)


واجباً، كسجود الصلْبِ وسجودِ السهْوِ، فيقول الحنبلي أو الشافعي: المعنى في سُجودِ الصلب أنه لا يجوزُ فِعْلُهُ على الراحلةِ في غَيْرِ حالِ العُذْرِ، وسجودُ التلاوةِ يجوزُ فِعْلُه على الراحلةِ مع عَدَمِ العُذْرِ، فهو كسُجودِ النفل.
والجوابُ عنه: أن يتكلم على علَّةُ الأصْلِ وعلة الفَرْع بكُل ما يتكَلمُ به على العِلَلِ. والذي يختص به أنَّ يُبَيَنَ علةَ جوازِ فِعْلِهِ على الراحلةِ. وهو أَنه وُجِد سَبَبُهُ على الراحلةِ، وهي القراءةُ. وسجود الصلب لم يوجد سببُه على الراحلة. ولذلك لم يَجُزْ فِعْلُهُ على الراحلةِ.
والثاني: أن (1) يُفرقَ بنظيرٍ من نظائرِ الحُكْمِ، وهو مِثْلُ أن يقولَ الحنبلي أَو الشافعي في الزكاةِ في مالِ الصبي: إنّه حر مُسْلمٌ، فأَشبَهَ البالغَ.
فيقول الحنفيُّ: البالغُ يتعلَقُ الحج بمالهِ فتعلًقتِ الزكاةُ بمالهِ، وهذا لا يتعلق الحجُّ بمالهِ، فلم تتعلق الزكاةُ بمالهِ (2).
والجوابُ: أن يتكلمَ على العِلتَيْن بكُلِّ ما يتكلم به على العِلَل، والذي ينبغي أَن يُعْنى به؛ أَن يبين أَن الزكاةَ ليست بنظيرٍ للحج.
وأما الفَرْقُ بقياس الشبه، فهو مِثْلُ أنَّ يقولَ الشافعي في نفقةِ غير الوالدِ والولد: إنها لا تجبُ؛ لأنَ كلُّ قرابةٍ لا تَجِبُ بها النفقةُ مع
__________
(1) في الأصل: "لأن".
(2) انظر: "إيثار الِإنصِاف":72، و"المغني" 4/ 69، و"المُحلى" 5/ 201 و"رحمة الأمة": 160.

(2/308)


اختلافِ الدينِ، فلا تجبُ؛ بها النفقةُ مع اتفاقِ الدينِ كقَرابةِ ابنِ العمِّ (1).
فيقول المخالفُ (2): المعنى في الأصلِ أنَّ تلك القَرابةِ لا يتعلق بها تحريمُ المناكحةِ، وهذه القرابةُ يتعلَقُ بها تحريمُ المُناكحةِ، فهي كقَرابةِ الولدِ.
والجوابُ: أنَّ يتكلمَ على العلتين بكُل ما يتكلم به على العِلَلِ، والذي يَخْتَص بهذا انْ يُقابلَ الفَرْقَ بَجْمعٍ مِثلهِ، فيقول: إن افترقا في المُناكحةِ فهاهُنا ايْضاً قرابةُ الأب والأخ اجتمعا في تحريمِ أحدِهما على الآخرِ، ورد الشهادةِ، وأحكامَ كثيرةٍ، فيجب أن يجْتَمعا في إسقاط النفقةِ، والله أعلمُ.

فصل
والفَرْقُ سؤالٌ (3) صحيحٌ، خلافاً لبعضِ الخُراسانِيةِ؛ وذلك أَنَّ الفِقهَ هو الجَمْعُ بملاحظةِ المعنى، والفَرْقُ قطع لِما بينَ الأصلِ والفَرْع بأخص منه. وقد يكونُ الجامعُ جَمعَ بالأعم، فيُفَرقُ المُفَرقُ بالمعنىَ الأخَص، وقد يُخطىءُ الجامعُ، فيصيبَ المُفَرقُ، وقد يُصيبُ الجامعُ فيُخطىء المُفَرِّقُ، فلا يُخْرِجُ ذلك الفَرْقَ عن كَوْنهِ سؤالًا، كما لو لم
__________
(1) "كفاية الأخيار"2/ 87 و"حاشية البيجوري" 2/ 190.
(2) انظر "رحمة الأمة": 456.
(3) وهو إبداءُ المُعترضِ معنى يحصلُ به الفَرْقُ بين الأصلِ والفَرْع، حتى لا يُلْحَقَ به في حكْمهِ.
انظر: "شرح الكوكب المنير" 4/ 325 و"شرح تنقيح الفصول": 403 و"المسوَّدة": 441 و"الوصول إلى الأصول"2/ 327.

(2/309)


يَخْرجِ الجَمْعُ عن كونهِ دليلًا وقياساً صحيحاً، وما قرع الناسُ في دَفْعِ الشُّبْهَةِ عن الحُجةِ إِلاّ بإظهارِ الفَرْق، كقولِ النبيِّ في الأَسودِ العَنْسيِّ لما قيل له: إِنه يتكلم بالشيءِ قَبْلَ كونه، فقال:" إنه إِذا شُككَ، شَك (1) "، وقوله: "الهِرُّ سَبُعٌ ليست بنجِس (2) " لما تعلقوا بكونِها في بَيْتِ مَنْ أجابَهُ.