الواضح في أصول الفقه فصول
الكلام على استصحابِ الحال
وهو البقاءُ على حُكْمِ الأصل. وهو أصْلٌ من أصولِ الدينِ،
ودليل من أدلةِ الشَّرْعِ (3)، يبْنى عليه عدة مسائلَ.
قال بعضُ أهلِ الأصولِ: والأصلُ فيه قولُه سبحانه: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ
إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا
حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] وفي هذه
الآية تقديم وتأخيرٌ، وتقديرُها: يا أَيها الذين آمنوا لا
تسألوا عن أشياءَ عفا الله عنها، إن تسألوا عنها تُبْدَ لكم،
وإن تُبْدَ لَكُمْ تسؤكُم. أي: إِن تسألوا عنها، تَظْهَرْ لكم
بنزولِ القرآنِ، وان تظهر لكم تَسُؤْكُم، ومعنى عفا الله عنها:
لم تُذْكَرْ. والعَفْوُ: الترْكُ. عن عطاءٍ
__________
(1) لم نجده.
(2) سبق تخريجه في الصفحة: 27.
(3) خالف أكثر الحنفية في كونه دليلاً من أدلة الشَرع، لأن
الاستصحابَ أَمرٌ عامٌ يشْمُلُ كلُّ شِيء، وإذا كثُر عمومُ
الشيء، كثُرت مُخصصاتُه، وما كثرت مخَصِّصاتُه، ضعُفتْ دلالته،
فلا يكونُ حُجةً.
قال القَرافي في "شرح تنقيح الفصول": 447: والجواب: أَنَّ
الظنَّ الضعيف، يجبُ اتباعُه حتى يُوجَدَ معارِضُهُ الراجحُ
عليه، كالبراءةِ الَأصلية؛ فإنَ شمولَها يمنع من التمسك بها
حتى يُوجَدَ رافِعُهَا.
(2/310)
عن ابن عباس: فما لم يذكر في القرآن، فهو
عفا الله عنه. وكان ابنُ عباس يُسْأل عن الشيءِ الذي لم
يُحَرَّم فيقول: هو عَفْوٌ. وعن عُبَيْد ابن عُمَيْرٍ يقول: ما
أحل الله فهو حلالى، وما حرم فهو حَرام، وما سكَتَ عنه فهو
عَفوٌ. وهذا عَيْنُ استصحابِ الحالِ.
ومن السنة: ما روي في سُنَن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد عن
النبى - صلى الله عليه وسلم -: [قال] "إذا شك أحدُكُم في
صلاته، فَلْيُلْغ الشَك، ولْيَبْنِ على اليَقين (1) " وهذا
عينُ استصحابِ الحالِ الذي يُعَوِّلُ عليه المستدلون به في
المسائلَ.
وعن عبد الله بن زيدٍ قال: شُكي إِلى النبى - صلى الله عليه
وسلم - الرجلُ يُخَيلُ إِليه في صلاته أنه يخرجُ منه شيء، قال:
"لا ينصرف حتى يسمعَ صوتاً أو يَجد ريحاً" أخرجه البخاريُّ
ومسلم (2).
وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمينَ على مَنْ أنْكرَ
لأن معه الأصْلَ (3)، وهو براءةُ ذمَّتِهِ، وقَبِلَ قَوْلَه مع
اليمين، لاحتمالِ ما يدعيه المدعي.
ومن المبنيِّ على حُكْمِ الأصلِ: أنَ إنساناً لو وجَدَ ماءً
قليلاً في مفازَةٍ وجَوزَ نَجاسَتَهُ بولوغِ كلْبٍ أو سَبُعٍ
أو خِنزيرٍ، فإنه يجبُ عليه التطهرُ به، ويجوزُ له شُرْبُهُ
مُمْسكاً بحكْم الأصلِ وهو طُهوريتُه وما خُلِقَ عليه، فلا
يَعْدِلُ عنه إلَا بدليل يُوجبُ نَجاسَتَه وانتقالَه عن الحاق
الأولى.
__________
(1) أخر جه ص سلم (571)، وأبو داود (1024)، النسائي 3/ 27،
وأحمد 3/ 72، 83.
(2) أَخرجه البخاري (137) ومسلم (361) وأَبو داود (176) وابن
ماجه (513) من حديث عبَّاد بن تميم عن عمِّه.
(3) انظر: "فتح الباري" 5/ 444 و"عارضة الأحوذي" 6/ 86 و"سنن
ابن ماجه" (2321).
(2/311)
وكذلك حُكْمُ الثوب والمكانِ والطعامِ مع
تجويزِ نجاسةِ ذلك كلَه بالعوارضِ النَّجِسَةِ من أَبوالِ
الحيوانِ النجِسَةِ وورود النجاساتِ.
وعلى عكْسِ ذلك: لو عَلِمَ نجاسةَ محَل من ثَوْبٍ أَو ماءٍ أَو
بَدَنٍ، ثم جَوز طهارَتَه بعارض طهرهُ من مجيء مطَر أَوْ
إِراقةِ ماءٍ، لم تَجُزْ الصلاةُ عليه، تعويلاً على النجاسةِ
المعلومةِ، وإِلْغاء لِما جَوَزْناه من المُزيلِ لها، فإِنَّ
ذلك شَكٌ، فلا يرتفعُ ما تَيَقَّنَّاهُ بالشكِّ.
وإِذا غابَ عبْدُ إِنسان وخَفِيَ عليه حالهُ، ثم أَهل هلالُ
شوَّال، وجَبَ عليه زكاةُ فِطْرِه، لأَنَّ الأَصْلَ بقاءُ
حياتِهِ. وكذلك إِذا طالت غَيْبَةُ الحُرِّ وخَفِيَتْ حالُه لا
يجوزُ لزَوْجَتِهِ أَن تَتَزَوَّجَ، ولا يجوزُ قسمةُ مالهِ،
لأنَ الأَصْلَ بقاءُ حياتِهِ.
وإذا أَوْقَفَ لأَجْلِ الحَمْلِ وصيَّةً أو ميراثاً، فخرج على
حالٍ لا نعلم: أَحيٌّ هو أَو مَيِّتٌ؟ فلا إِرْثَ له ولا
وصيّهَ، لأنَّ الَأصل عدمُ الحياةِ قَبْلَ العلمِ بولوجِ
الروحِ فيه، فالقولُ قَوْلُ مَنْ يدَّعي عَدَمَ الحياةِ.
ولو تسحر وجل وشَك: هل كان طَلَعَ الفَجْرُ وقْتَ سُحورهِ أو
لم
(2/312)
يطلُعْ؟ بنى على بقاءِ الليلِ وعَدَمِ طلوع
الفَجْرِ؛ لانه الاصْلُ.
ولو أكل، وهو شاك في غُروب الشمسِ، أفْطَرَ، وكان عليه
القَضاءُ تمسكاً ببقاءِ النهارِ الذي هو الأصلُ.
ولهذا تعلَّق مَنْ تعلقَ بإفطارِ يومِ الشكّ، وهو أن الأصْل
بقاءُ شعبانَ ما لم يتحققْ دخولُ شهر رمضان بدليل، هو طلوعُ
الهلال. ولو شك في يوم الثلاثين من رمضانَ فعليه الصومُ بقاءً
على حُكْمِ الأصلِ وهو شهُر رمضان، لأن الأصلَ بقاؤه.
وكذلك ما قاله أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ إذا تيقن الطهارةَ
وشك في الحَدَثِ، يُصَلي؛ لأنَّ الأصْل بقاءُ الطهارةِ، ولو
تَيَقنَ الحدثَ وشَك في الطهارةِ، بنى على الحَدَثِ؛ لأنه
الأصلُ.
وإِذا ادَّعى رجلٌ على رجلٍ دَيْناً، فالأصلُ براءةُ ذمتهِ،
ويكونُ القولُ قَوْلَه. وإذا ادعى من ادعيَ عليه أنه قضى ما
كانَ عليه وأبْرَأه منه المُسْتَمحِق، كان البناءُ على الاصل،
وهو بقاءُ الديْنِ، ولا يَسْقُطُ بدَعوى القضَاء والإبْراءِ من
غير بَيِّنَةٍ.
وإذا شك لى: هل صلى أم لا؟ فعليه أنَّ يُصَليَ، لأن الأصْلَ
اشتغالُ ذمتِهِ بالصلاةِ، فان فاتَتْه صلاة من خمْس لا يعرِفُ
عَيْنَها، لَزِمَهُ قَضاءُ خمسِ صلوات، لأنه كلما صلى واحدةً
بقيَ شاكاً في براءةِ ذمته بأداءِ تلك الواحدةِ، لتجويزِ أن
تكونَ الفائتةُ غَيرَها.
(2/313)
فَصْل منه أيْضاً
إِنا نَجِدُ مسائلَ معارِضَة للأصولِ فيختلفُ قول العلماءِ
فيها: منها:
إذا قطع الرجلُ عُضْواً باطشاً من رَجُلٍ، واختلفا في سلامتهِ
وشَلَلِهِ، فالأصلُ سلامةُ العُضْوِ، والأصلُ براءةُ ذِمة
الجاني ممَّا زاد على صورة العُضْوِ من البَطْشِ الزائدِ على
غرامةِ عَيْنهِ دون بَطشِهِ.
فمن الناس من يجعلُ القول قَوْلَ الجاني، لأَنَّ الأصْلَ
براءةُ ذمَّتِه، ومنهم من يجعلُ القولَ قَوْلَ المجنيِّ عليه،
لاَنَّ الأضلَ بقاءُ العُضْوِ على سلامته الأَصليةِ وعدَمُ
شلَلِهِ وتعطُّلِهِ.
ومن ذلك: إذا ضَرَبَ ملفوفاً في كساءٍ فَقُد بِنِصْفٍ، ثم
اختلف الضاربُ له وأولياءُ المضْروبِ في حياتهِ، فقال الجاني:
كان ميتاً، وقال الأولياءُ: كان حيّاً، فإِنَ الأصْلَ بقاءُ
الحياةِ، والأصل براءةُ الذمة.
ومن ذلك: آنيةُ المجوسِ والنصارى، الأصل فيها الطهارةُ،
والغالبُ أنهم يستعملون فيها الخَمْرَ والمَيتَةَ والخِنْزيرَ.
فصل
واعلَمْ أَن الأَصْلَ يُتْرَكُ لدليلٍ شَرْعيٍّ بنُطْقٍ أو
استنباط.
فالأَصلُ أَن لا وضوءَ من ملامَسَةِ امرأةٍ ولا مسِّ ذكَرٍ،
فأَوْجَبْناه بدليلِ الكتابِ والسُّنَةِ. والأَصْلُ أَن لا
وُضوءَ على مَنْ مَسَّ الدبُرَ ولا على المرأةِ إِذا مَست
زَوْجَها، فأَوجبناه بالقياس.
وإذا قال الرجلُ لزَوْجَتهِ: إنْ حِضْتِ، فأنْتِ طالق. فقالت:
قد حِضْتُ، وكذبَها، فهي تدعي الحَيْضَ ووقوعَ الطلاقِ،
والأصلُ
(2/314)
عدمُهُما، إِلا أنه جُعِلَ القَوْلُ قولَها
لِتَعدُّرِ إِقامةِ البينةِ وأَنَّ الحَيْضَ هي
أَعلمُ به منه.
وسواءٌ كان الأَصْلُ الثابتُ يثبتُ عَقْلاً كبقاءِ الحياةِ
وبراءةِ الذمةِ، أَو يثبتُ شَرْعاً، كبقاءِ طهارةِ الماءِ
وطهارةِ المُتَطَهرِ، فهذا من المُتَفقِ عليه، فأَما المختلفُ
فيه، فهو استصحابُ حُكمِ الِإجماعِ.
فصل في استصحاب حكمِ الِإجماعِ
فكَقْولِ اَصحابِ الشافعيِّ في المتيمَّم إِذا رأى الماءَ في
الصلاةِ: الأَصلُ انعقادُ صلاتهِ وصحتُها بالإِجماعِ. فمَنْ
قال: بَطَلَت برؤيةِ الماءِ. يحتاج إِلى دليلٍ.
وكما يقولُ أَهلُ الظاهرِ في الرجلِ إِذا قال لامرأته: أَنْتِ
عليَّ حرامٌ. ولا نيَّةَ له: لا حُكْمَ لهذا القَولِ، لأَن
الأَصلَ استدامةُ النكاحِ وبقاؤه وصحته وجوازُ الاَستباحةِ فيه
إِجْماعاً. فَمَنْ قال: إِن الزوْجةَ تحرمُ بهذا القَولِ،
فعليه الدليلُ.
وكما يقول أَصحابُ الشافعيِّ في العَيْنِ المَغصوبةِ إِذا
ارتَهَنَها الغاصبُ: لا يَبْرأُ من الضمانِ، لأَنَ الأَصلَ
بقاءُ الضمانِ، وأَنَّ هذه العَيْنَ دَخَلَت، في ضَمانِ
الغاصبِ بالغَصْبِ إِجْماعاً. فَمَنْ قال: إِنَّه قد بَرِىء
بحدوث الرهن عليه الدليلُ.
فهل يصحُّ التعلُقُ بمثْلِ هذا أم لا؟
(2/315)
الصحيحُ عندي أنه لا يصح التعلقُ به، وهو
على خلافٍ بين الجَدليين، ولأصحابِ الشافعيِّ كَرَّم الله
وجْهَهُ فيهِ قولان:
أحدهما: يصح، وهو قولُ أهْل الظاهرِ.
والثاني: لا يصحُّ. وهوالأصحُّ عند الأئمَّةِ منهم الذين
رأيْناهُم واستَفَدْنا مِنْهُم.
وجْهُ المذهبِ الأول: أنَ الإجماعَ انعقد في مسألةٍ على صِفةٍ،
والخلافُ وَقَعَ في مسألةٍ على غيرِ تلك الصفةِ.
وذلك أنَ الإجماعَ انعقد على صحةِ الصلاةِ قَبْلَ رؤيةِ
الماءِ، والخلافُ حصل في مسألة أخرى وهي صحَةُ الصلاةِ
وفسادُها بعد رؤيةِ الماءِ، وانعقادُ الإجماعِ على مسألةٍ لا
يكونُ إجماعاً على مسألةٍ أخرى.
فإِن قيل: يَلْزَمُ عليه استصحابُ حالِ العَقْلِ، لأنَّ
الأصْلَ بقاءُ الطهارةِ قَبْلَ حدوثِ الشك، فأمَّا مع حدوثِ
الشك، فلا.
قيل: لا فَرْقَ بَيْنَهما، لأنَّا لانَتْرُكُ اليقينَ فيهما من
غَيْر دليلٍ ناقلٍ، وحدوثُ الشكِّ ليس بدليلٍ، وكذلك رؤيةُ
الماءِ المجرَّدةُ.
وقَوْلُهُ: أنْتِ حرام. بمُجَرَّدِهِ ليس بدليلٍ، فأن دلَّ
دليل آخَرُ أنَّ رُؤيةَ الماءِ تُفْسدُ الصلاةَ، و "حرام"
يقطعُ النكاح، انتقلنا عن الأصْلِ، وإن لم يدل دليل وشَكَكْنا،
تَرَكْناهُما على حالةِ الأصْلِ، فأمَّا أن يُجْعَلَ الإِجماع
على ما قَبْلَ رؤيةِ الماءِ إجْماعاً على حالةِ رؤيةِ الماءِ
بَعْدَها، فلا يتمُّ ذلك. ولو دلَّنا دليل على أنكم إذا
شكَكْتُم في الحَدَثِ وجَبَ عليكم الوُضوء، لَتَرَكْنا الأصْلَ
للدليلِ.
(2/316)
فَصْلٌ
ومن ذلك: القَوْلُ بأقل ما قِيلَ.
وهو كما نقول: إذا أتْلَفَ رجل ثَوْباً على آخَرَ، فَشهِدَ
عليه شاهِدان أنَه يساوي عَشَرَةَ دراهمَ، وشهد آخَرانِ أنَه
كان يساوي خَمْسةَ عَشرَ دِرْهماً، فإِنَه، يجِبُ على
المُتْلِفِ عند أصحاب الشافعيُّ أقَل الثمَنيْنِ.
وكما نقول: في دِيَةِ اليهوديِّ ثُلُثُ دِيَةِ المسلمِ في
روايةٍ (1)، وكذلك أصحابُ الشافعيُّ، فنقول: الأصل براءةُ
الذمةِ، والأقَلُّ قد ثبت بالإِجْماعِ، وما زادَ فلا دليلَ
عليه، فلا يلزمه إِلّا بأمْرٍ ثابتٍ ودليلٍ صحيح.
فصل من ذلك أيضاً
وهوحكمُ الأشياءِ قَبلَ وُرودِ الشَرْع. وهذا مفروض متوهم،
لأنَه لم يَنفك العالمُ مِنْ شَرْع. وهذا بأصولِ الدياناتِ
أخصُّ منه بالفِقْهِ وأصولهِ. ولكن ذكرْناه لأن الفقهاء
بَنَوْا عليه مسائلَ.
فَعنْ صاحبنا -رضي الله عنه- فيه: إنها على الحَظْرِ، وبه قالت
المعتزلةُ البغداديون.
وعَنْهُ رِواية أخرى تقتضي الإِباحةَ، وهو اختيارُ ابي الحسنِ
التميمي (2).
__________
(1) انظر "الكافي" 4/ 16 و"التمهيد" 4/ 268.
(2) انظر "التمهيد" 4/ 269 و "المسودة" 485 - 486 ففيها كلامٌ
نفيسٌ.
(2/317)
ولأَصحابِنا وأَصحابِ الشافعيِّ فيها
ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
أَحدُها: أَنّها على الِإباحة وهو قَولُ أَبي العباسِ (1)
وأَبي إِسحاق المَرْوَزيِّ (2)، ما لم يعلم الإِنسانُ فيه ضررا
لِنَفْسِهِ أَو لغيرِهِ.
والوجْهُ الثاني: وهو قَولُ أَبي علي بن أَبي هُرَيرةَ (3):
أَنها على الحَظْرِ (4)، فلا يجوزُ لأَحدٍ أَن يَنْتَفعَ بشيءٍ
إِلا ما يدفَعُ به ضَرَراً.
والوجهُ الثالثُ: وهو قَوْلُ أَبي عليٍّ الطبريِّ أنها على
الوقف لا يُحكَمُ فيها بحَظرٍ ولا إِباحةٍ، وهو قول أَبي
الحسَنِ الأَشعريّ (5) وقال بعضُ أَهلِ العلم: فأيُّ شيءٍ
حُكِمَ به من حَظرٍ أَو إِباحةٍ أَو وقفٍ، كلُّه حُكْمٌ قَبْلَ
ورودِ الشَّرْعِ، وتَوْجيهُ ذلك يردُ في مسائل الخلافِ إِنْ
شاءَ الله (6).
__________
(1) يعني: ابن سُرَيج.
(2) هو إبراهيم بن أحمد المروزي الشافعي، توفي سنة (340).
"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 175.
(3) هو أبوعلي الحسنُ بن الحسن بن أبي هريرة البغدادي القاضي
شيخ الشافعية، له مصنفات، منها "شرح مختصر المزني"، ومسائل في
الفروع محفوظة، توفي سنة (345) هـ. "سير أعلام النبلاء" 15/
430، و" طبقال الشافعية الكبرى" 3/ 256 - 262.
(4) انظر "التبصرة" ص 532 - 533، و"الإِبهاج" 1/ 142، و"البحر
المحيط"
(5) انظر "البحر المحيط" 1/ 156، و "المحصول" 1/ 159.
(6) في الجزء الأخير من الكتاب.
(2/318)
فَصْلٌ
ومن هذا القبيلِ أيضاً: القوْلُ بأنَّ شرعَ من قَبْلَنا شَرْعٌ
لنا ما لم يَثبت نَسْخُهُ، وذلك استصحابٌ لحكْمِ الشرائعِ
الأولِ، ومجيءُ النسْخِ، كقيام دلالةِ الصرْفِ عن التمسُّكِ
بالأصلِ.
وهو على ثلاثة أضرُب:
ما نُهينا عنه: فيُحْكمُ بنسْخِهِ كالتمسكِ بالسَّبْتِ (1)،
وأكلِ الخِنْزيرِ، والتقرب بالخَمرِ.
والثاني: ما أمِرْنا بفعلهِ: فهو شَرْع لنا بالخطاب الذي
جاءَنا به قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إِلى قولِهِ: {وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
والثالثُ: ما لم نؤمَرْ به، ولم نُنْهَ عنهُ، ففيه مَذْهبان،
ولأصحابِ الشافعيُّ وجْهانِ:
أحدُهما: انَه شرْع لنا ما لم نُنْهَ عنة، لأن الشَريعةَ
الأولى شريعة لله سبحانه ثابتة، لا يجوزُ تَرْكها إِلا بصريح
نَسخٍ، وبعْثَة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصريحِ
نَسْخ؛ لإِمكانِ الجَمْعِ بين شريعتِهِ وشريعةِ من قبله، فكيفَ
وقد وَرَدَ أمْرُ الله سبحانه لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -
باقتدائِه بهم، فقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال
__________
(1) يريد المصنف ما كان عليه بنو إسرائيل من تعظيم يوم السبت
والقيام بأمره، وما ابتلاهم الله عز وجل به من الاحتباس عن
العمل والصيد فيه.
(2/319)
سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (123)} (1) [النحل: 123]
فصل
وقد اختلفَ الناسُ: هل كان مُتَعَبداً بشيءٍ قَبْلَ بَعْثتِهِ؟
فقال قَوْم: كان مُتَعبداً بمِلةِ إبراهيمَ وما وصلَهُ منها
وعرَفَهُ، حيثُ كان يتحنثُ في غارِ حِراءٍ، يعني: يَتعبدُ.
ومنهم مَنْ قال: لم يَكْنُ مُتَعبداً بشرعِ غَيْرِه مِنَ
الأنبياءِ.
وقال قوم: كان يَعرِفُ بدليلِ العَقْلِ إثباتَ الصانعِ
والوَحْدانيةَ، ويَسْتَقِبحُ عِبادةَ الوَثَنِ، كما عَرَفَ ذلك
إبراهيمُ قبلَ النبوةِ بما ذكرهُ الله عنه في كتابه في
استقراءِ الكواكِب، ولمَّا رَأى زيدَ بنَ عمرِو بنِ نُفَيلٍ
يَمتِنعُ مِمّا يُذبَحُ للوثنِ، امْتَنعَ هو (2).
وسنُوضحُ هذا إنْ شاءَ الله في مسائل الخلافِ على الاستيفاءِ.
__________
(1) أغفل المصنف ذكر المذهب الثاني، وهو أن شَرْعَ مَن قبلنا
ليس شرعاً لنا، ولم نُتَعَبد به، بل نُهينا عنه.
وفي المسألة مذهب ثالث، وهو الوقف. انظر "نهاية السول" 3/ 49،
و"البحر المحيط"6/ 41 و 44.
(2) أخرجه أحمد في "المسند" برقم (1648) طبع مؤسسة الرسالة، من
حديث سعيد بن زيد بن عمرو، وفي اسناده ضعف.
وأخرجه أحمد في "المسند" برقم (5369) و (5631) و (6110)،
والبخاري (3826) و (5499) من حديث عبد الله بن عمر، لكن ليس
فيه قضية امتناعه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن أكل شيء
مما ذبح على النصب، وانظر تمام تخريجه في التعليق على
"المسند".
(2/320)
فصلٌ
مُحققٌ في استِصْحابِ الحالِ أيضاً
اعلم- وفًقَكَ الله- أنَّ استصحابَ الحالِ هو البقاءُ على حكمٍ
اسْتَندَ إِلى دليلِ عَقْلٍ أو حُجَّةِ سَمْع، ومتى لم يَكُنِ
الحالُ المعتمدُ رجوعاً إِلى حُجَّةٍ، لم يَصِحَّ التعلقُ بها.
وهذا دليل يَفْزعُ إِليهِ المجتهد عند عدم الأَدِلَّةِ.
وقد ذهبَ قومٌ من الفقهاء الأعاجم إِلى أنه ليس بدليلٍ (1)،
وإِنما هو حقيقةُ الجَهْلِ، ورَدّ للسؤالِ على السائلِ، وطلبُ
الدليلِ منه، لأنه يقول: الأصلُ كذا، فَمنِ ادَّعى نَقْلَنا
عنهُ، فعليهِ الدليلُ، فكان محصولُ الكلامِ: لا أعلمُ ما
يَنْقُلُني، فَهَلُمً دليلًا (2) اتبِعُهُ.
وليس هذا بكلام من فَهِمَ التمسُّكَ بأحكام الأدِلَّةِ
والبقاءَ عليها، وإِنما الجهلُ ما صورةُ العبارةِ عنه: لا
ادري.
فأمَّا مَن قِيلَ لهُ: ما مذهبُكَ في أمَ الولدِ؛ هل تُباعُ؟
فقال: تُباعُ. فقيلَ له: ولم قُلْت،: إِنها تُباعُ؟ فقال:
لأنَّ الأصلَ فيها الرِّق وجوازُ البَيْعِ، فإِنا نَتمسكُ بهذا
الأصل إِلى أنَّ يقومَ دليلٌ بالمَنْعِ، فإِنَه (3) قد
__________
(1) نقل هذا المذهب عن جمهور الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين
البصري، انظر "تيسير التحرير" 4/ 177، و"المعتمد" 2/ 325،
و"البحر المحيط" 6/ 17.
وفي الاحتجاج باستصحاب الحال مذاهب أخرى، انظرها في "البحر
المحيط" 6/ 18 - 20.
(2) في الأصل:"دليل".
(3) في الأصل: "بأنه"
(2/321)
تعلَّقَ بدليل وتمسَّكَ به، ثم قال بعد
التمسكِ: فمن ادعى بغير ذلك، فعليهِ الدليلُ.
فما (1) جَهِلَ ولا تعلَّقَ بجهلٍ، وانما تعلَّقَ بحُكْمٍ
بدلالةٍ، وقال: لا أنْصرِفُ عنه إلا بدلالةٍ تَصرفُني، فكان
كمن قال: أنا مُتمسِّكٌ بهذه الآيةِ، فلا أتركها حتى يَرِدَ ما
ينسخُها، لا يقالُ: إِنه جَهِلَ، ولا إِنه ما اسْتَدلَّ، فكان
كأهلِ قُباء لَمَّا كانوا مُستقبلينَ قِبلةَ اليهودِ، لو
جاءَهم مَن قال لهم: لِمَ استقبلْتم بيتَ المقدسِ في صلاتِكم،
ولِمَ لا تَسْتقبِلُونَ (2) الكعبة؟ فقالوا: لأنَّ محمداً
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَقبلَها، وقد ثبت عندنا
وجوبُ اتباعِهِ بما قامَ على نبوَّتهِ من الإِعجاز، فلا
نَعدِلُ عن هذه القبلةِ إلى غيرِها إِلا بأمرِهِ باستقبال
غيرِها، ونهيه لنا عن استقبالها.
فإِنه لا يقالُ: هؤلاءِ جُهالٌ ما استدلُّوا، ولا أنهم (3)
اخبَروا بالجهلِ عن أنفسِهم، بل يقالُ: أدْنى (4) كلامِهم
تَمسُّكٌ بدليلِ الحكمِ الذي اسْتَداموه وتَمَسكُوا به، وإِنما
نَطقُوا بالجهل بالدليل الصارفِ لهم عَمَّا تَمسكوا به من
الحكمِ الأوَّلِ، فقالوا: ولا نعلمُ ما يصرِفنا عمَّا نحن
عليه، فكان كمَنْ قال: هذه الدارُ في يَدي وتصرفي، فلا أسلمها
غيرِي إِلا بأنْ تَقُومَ بينةٌ باسْتِحقاقِها، فإنه متمسك بما
يُسْتدلُّ بمثلِه في الأملاكِ، وهو اليد والتَّصرف، وقد شَهِدَ
لذلك قولنا: هذا الحكمُ شَرْعُ
__________
(1) في "الأصل": "بما".
(2) في الأصل: "تستقبلوا".
(3) في الأصل:"لكنهم".
(4) صورتها في الأصل: "أدل".
(2/322)
إِبراهيمَ وموسى وعيسى، فلا يَزالُ شرعاً
لكلِّ مَن سَمِعَهُ، ولازِماً لكلِّ من وصلَهُ، إِلا أنْ
يَنطِقَ مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بصريحِ نسخِهِ، فينصرفَ
عن شريعةِ صادقٍ بقول هو نَسْخٌ مِن صادقٍ.
ومن قال ذلك، لم يُقلْ: إنَه ما اسْتدَلَّ وِإنما تَعلقَ
بالجهلِ واستَطعمَ الدليلَ، ولا إنه رَدَّ الدليلَ على
السائلِ، بل اسْتدل على الحُكْمِ الذي تمسَّك به، وقال لغيرِه:
فإنْ كان عندكَ ما يَنقُلُني عَمّا تمسكت به لصِحةِ دليلِهِ،
فهاتِهِ لأصيرَ إِليه إن كان صالحاً لصَرْفي ونَقْلِي عما أنا
عليه.
وقد أشارَ الشرعُ إلى ذلك، حيثُ قال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "إن الشيطانَ ليَأتي أحدَكُم، فينفُخُ بين أليَتَيْهِ،
فلا يَنصَرِفَنَ حتى يَسْمَعَ صوتاً، أو يَشَمَ رِيحاً (1)
فأمَرَنا بالتمسك بما تَيَقَناهُ من الأصلِ، وأن نُلْغِي حكمَ
الشَك إِلى أن تقومَ دَلالةُ الحدثِ، وهي صَوْتهُ وريحُهُ،
وهذا بعينهِ هو ما نحن فيه مِنَ التمسك بالحكمِ الذي يَثْبُتُ
بدَلالةٍ، إلى أن تَصْرِفَنا عنه دَلالةٌ.
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 414، والدارمي 1/ 183 - 184، ومسلم (362)،
وأبو داود (177)، والترمذي (75)، وابن خزيمة (24) من طرق عن
سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، بنحوه.
وأخرجه بنحوه أيضاً أحمد 3/ 12 و37 و 50 و53. وأبو داود
(1029)، وابن خزيمة (29)، وابن حبان (2665) و (2666)، والحاكم
1/ 134، من طريق عياض بن هلال، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه بنحوه أيضاً الحميدي (413)، وأحمد 4/ 40، والبخاري
(137)، (177) (2056)، ومسلم (361)، وأبو داود (176)، وابن ماجه
(513)، والنسائي في "المجتبى"1/ 98 - 99، وفي "الكبرى" (152)،
وابن خزيمة (25) و (1018) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم
الأنصاري.
(2/323)
فصل
يُوضحُ أن المُتمسكَ المُستصحبِ للحالِ مُستدِلُ
فنقولُ: إِنَه إِذا سُئِلَ عن وجوب الكَفَّارةِ بقتلِ العَمدِ،
فلا (1) شَك أنَّه إِذا قال: إِنَ الذِّمَمَ خُلِقَتْ
بَرِيئةً، ودَلالةُ العقل أوْجبتْ سلامةَ كلُّ ذِفَةٍ
وبراءَتَها، فأنا مُتمسِّكٌ بذلك إِلى انْ يَصوِفني عنه دليلْ
يُوجبُ شَغْلها. فلا شَك أنه قد استدل، حيثُ أسندَ مذهبه إِلى
دَلالةِ العقلَ.
فصل
وأمّا الاحتجاجُ على إسقاطِ الفَرائِض والغَراماتِ والكفّارات
وما جَرى هذا المَجْرى مِما يَشْغَلُ الذِّمَمَ ببراءَةِ
الذِّمَمِ، والأصلُ أنَّه لا فَرْضَ، فاحتجاجٌ صحيح؛ وذلك أنَّ
الناسَ في مُجوزاتِ العقولِ في الأصل على ثلاثةِ مَذْاهِبَ:
منهمِ مَن قال بالحَظْرِ، وهو وجهٌ لأَصحابِنا وعليه عَوَّلَ
(2) المُحقِّقون منهم.
ومنهم منَ قال بالِإباحةِ، وهو وجهٌ آخرُ لأَصحابِنا.
ومنهم مَن قال بالوقْفِ. وسنذكرُ الخلافَ فى ذلك فى مسائِلِه
مستَوفىً إِن شاء الله (3).
ومعنى الوقفِ: هو اعتقادُ [ما] (4) ذُكِر مِن هذه الأَشياءِ
غيرَ محظورةٍ ولا مباحةٍ.
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "بلا".
(2) فىِ الأصلْ "عولوا".
(3) انظر الصفحة 505 من هذا الجزء.
(4) أضيفت لاستقامة النص.
(2/324)
واستصحابُ الحالِ على هذه المذاهبِ
الثلاثةِ صحيحٌ:
فالقائلُ بالإباحةِ يَسْتَصحِبُ ما دَل العقلُ عليه؛ مِن أن
هذه الأمورَ غيرُ مفروضةٍ، وأنه لا سبيلَ إلى إيجابها إلا
بالسمْعِ، وإلا فبراءةُ الذمة مُستِقرٌّ من ناحيةِ العقلِ.
والقائلُ بالحظر يقولُ: إِنَّ الأموالَ والدِّماءَ والفُروجَ
وغيرَ ذلك من هذه الأفعالِ ممنوع محظورٌ، إلا انْ يَنقُلهُ
السمعُ وُيغيرَ حُكمهُ.
ومن قال بالوقفِ قال: الأصلُ أنَّ لا فَرْضَ، وان الذمة
بَريئةٌ من كلُّ فرض مما سموه عقلياً وسمعيا. فإذا سُئِلَ هذا
القائلُ عن وجوب الكَفَّارةِ، أو غُرْمِ قيمةِ مُتْلَفٍ أو
صلاةٍ، أو بعضَ العباداتِ، صَح أنَ يقولَ: قد دَل الله سبحانه
في الأصلِ على براءةِ الذمة، فلا نَشْغَلُها بوجوب شيءٍ إلا
بسَمْعٍ. وهذا عَيْنُ الاستصحاب؛ لأنه تعلق بحالٍ قد دَلَ
دليلُ العقلِ عليها، فهو كالرجُّوعِ إِلى التعلُّقِ بالحالِ
الذي دَل السمعُ من النًص والظاهرِ عليها.
فصل
في ذِكرِ الطعْنِ في التَعلُّقِ باستصحابِ الوقفِ
فقال قومٌ: إنما يَسُوغُ هذا الاستصحابُ لقائل يقولُ بالحظْر
والإِباحةِ، لأن ذلك قولٌ بمذهبٍ وحكمٍ قد ثبَتَ، والقول
بالوقفِ ليس برجوعٍ إلى حُكم ثابتٍ.
وما اصابوا في هذا، والدلالةُ على فسادِه: أنَّ القول بالوقفِ
هو نفْسُ القولِ ببراءةِ الذِّمَّةِ وزوالِ الفرضِ من ناحيةِ
العقل، فقد شارَكَ
(2/325)
في هذا المعنى الذي إليهِ يرجِعُ أصحابُ
الإباحةِ وأصحابُ الحظر؛ لأنهم جميعاً يقولون: إن الذمة بريئة،
وأهلُ الوقفِ يقولونَ: إِن الذمة بريئة، غير أنهم لا يقولونَ
مع ذلك: إن الأفعالَ التي سماها مخالفوهم مجوزات العقولِ
محظورة ولا مباحةُ، وليس معنى وصفِ الشيءِ بأنه محظورُ أو مباح
براءةَ الذَمةِ منه؛ لِما بينه القومُ في مقالتِهم بأدِلَتهم
في باب الإِباحةِ والحظرِ، وإذا ثبتَ هذا، صحَ التَعلقُ
ببراءةِ الذَمةِ لكل فريقٍ من هؤلاءِ الثلاثةِ المُختلفينَ في
حكمِ الأصلِ: هل هو الحظرُ، أو الِإباحةُ، أو الوقفُ؛ ولا وجهَ
للتَّعاطِي لإِخراجِ بعضِهم.
فصل
وكما أن التمسك بالأصلِ في براءَةِ الذمة واجبٌ، صَح أيضاً
بإِجماعِ الفقهاءِ التعلقُ بتأبيدِ الفرض في كلُّ وقتٍ، إذا
دَلتِ الدلالةُ على وجوب تكررِهِ، إِما من ناحيةِ لفظَهِ على
من أثبتَ للعموم صيغةً، أو بدلالةٍ تقَترِنُ به على مذهب أصحاب
الوقفِ والخصُوص، إِلا أنَّ ينقلَ عن ذلك دَلالةُ نسخ فيماَ
يتعلَّقُ بالأزمانِ، أو دلالةُ تخصيص فيما يتعلَقُ بالأعيانِ،
فيجِبُ المصيرُ اليه، وإِلا فالثبوتُ على الحالةِ التي تُوجِبُ
عُمومَها في الأعيانِ والأزمانِ واجب تمسكاً واسْتصحاباً، فما
كان من الأحوالِ المُستصحبةِ جارياً هذا المجْرى لَزِمَ
التعلُّقُ بها، وما لم يَكنْ من هذا في شيءٍ فليس بصحيحٍ.
فصل
وأما ما يتعلَقُ به القائلونَ بالتَمسكِ بالصلاةِ بالتَيممِ
والمُضِى فيها
(2/326)
وإن طلعَ الماءُ عليه اعْتِداداً
بالِإجماعِ على الشُّروعِ فيها، وتمسكاَ به، وتركَ الاحتفالِ
(1) بما تَجددَ مِنَ القُدُرةِ على الماءِ الطَّالعِ، وإهمالَ
الخلافِ الواقعِ، وأَمثالُ هذه المسألةِ من الفِقْهيّاتِ، فهذا
ليس بتمسكِ صحيحِ ولا نافعِ لمن تَمسكَ به، لأن المعُوَّلَ
عليه في هذا ليس بتمسك بأصلِ باقِ (2)، بخلافِ التمسكِ ببراءةِ
الذمةِ في مسألةِ كفارةِ قتل العمْدِ، والزيادةِ على ثُلْثِ
الديةِ في قتلِ الكتابى خطأً، وإِنما كان التمسُكُ بهذا غير
جائزٍ ولا صحيحِ؛ لأَن التمسك ها هنا إنما هو بما كان
إِجماعاً، فالحالتانِ قد افْترقَتا؛ إِذ كانت الحالةُ الأُولى
حالةَ إجماع، والحالةُ الثانيةُ حالةَ خلافِ، ومُحالٌ بقاءُ
حُكم الِإجماع مع طَرَآنِ (3) الخلافِ، وكيف يكونُ ذلك
وسُلطانُ الِإجماعِ عدمُ التَّسويغِ؟ وتجددُ الخلافِ موجِب
للتَسويغِ، فيُفضي إِلى أَن يكونَ ما اتفُقوا عليه هو نفسَ ما
اخْتلفوا فيه، وهذا مُحالٌ، فانقطعَ الِإجماعُ الأَولُ عن
الخلافِ الثاني؛ لأَن الأَولَ إِجماعٌ على الدخولِ بالتيممِ مع
عَدمِ الماءِ، والخلافُ المُجدد هو المُضِيُّ والاسْتِدامةُ في
صلاةٍ بتيممٍ مع وجودِ الماءِ.
__________
(1) رسمت في الأصل: "الاحتفال"، ولعل الجادة ما أثبت.
والاحتفال بالشيء أو بالأمر: المبالاة والاهتمام والاعتناء به.
(2) في الأصل: "باقي".
(3) طرأَ يَطرأ: ورد، وحصل فجاة. "اللسان": (طرأ).
(2/327)
يُوضِّح هذا: أنَّ المسألةَ الأولى مسألة
إِجماع لا يَسوغ الخلاف فيها، فلو مَنَعَ مانعٌ من الشروع (1)
في الصلاة بالتيممِ مع عدمِ الماءِ كان للِإجماعِ (2) خارقاً،
وبخرقِهِ الِإجماعَ فاسقاً.
والمسألةُ الثانيةُ مسألةٌ من أَصابَ فيها الحَقَّ بإيجابِ
الانتقال -وهو مذهبُنا- (3)، فلهُ أَجْرانِ لاجتهادهِ وإِصابةِ
الحَقِّ، ومَنْ أوْجبَ المُضِيَّ فيها (4)، فله أجرٌ لمكانِ
اجتهادهِ في طلب الحقِّ، فأين المسألةُ الأُولى من الثانيةِ؟
وكذلك لا نُجِيزُ (5) لعاميٍّ أَنَ يقِّلدَ مَن يَمنعُ الدخولَ
بالتيمُّم في المسألةِ الأُولى، ونُجِيزُ للعاميِّ تقليدَ مَن
أَوْجبَ المُضِيَّ فيها بعدَ طلوعِ الماءِ، فهذا مما لا خفاءَ
به.
فإذا ثبتَ بهذا انَهما مسألتانِ، فإِذا لم يَكنْ بُدٌّ في
تصحيح الأولى من دليلِ عقلٍ أو حجة سَمْعٍ أو إِجماعٍ أو غيره،
وجبَ أنه لا بُدَّ
__________
(1) في الأصل: الشرع.
(2) في الأصل: "الإجماع".
(3) هو المشهور من مذهب أحمد، وبه قال أبو حنيفة والثوري. انظر
"المغني" 1/ 347، و"المحرر" 1/ 22، و"تحفهَ الفقهاء" 2/ 44، و
"مختصر الطحاوي" ص 21.
(4) مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وداود: أنه يمضي في صلاته،
ولا تنتقض طهارته، ولا تبطل صلاته بحضور الماء. انظر "المجموع"
2/ 310 وما بعدهاث و "بداية المجتهد" 1/ 73 و "المحلى" 2/ 126.
(5) تصحفت في "الأصل" إلى: "بجير".
(2/328)
في المسألةِ الثانيةِ من دليلٍ من الأدلةِ
التي ذَكْرناها، فعلى مَنْ أوْجبَ الخروجَ من الصلاةِ دليلٌ،
وعلى مُوجِب المضِيً فيها دليلٌ، وعلى مَن جَوزَ المُضِيَّ
فيها ولم يوجِبْهُ دليل، إنَ ذهبَ إِليه ذاهب، سِيما مع وقوع
الخلافِ.
فإِن قيلَ: فسبيلُ ما تَمسَّكْتُم به في براءةِ الذِّممِ سبيلُ
ما ذَكَرْتُم؛ لأَن دليلَ العقلِ إنما دَل على براءةِ الذِّمه
من الكفّارةِ، وما زادَ على ثُلْثِ الدِّيةِ، ما لم يُوجب
القَتْل، حتى لو أَوجبه مُوجِبٌ قبلَ القتلِ لأَثِمِ وحَرجَ
(1)، ولمّا تجدَّدَ القتلُ، ساغَ الخِلافُ، وزالَ ما كان من
حُكم ذلك الأصلِ.
قيل: الأصلُ هناكَ -وهو براءةُ الذمة- دل عليه دليلُ العقلِ،
والخِلافُ المتجدد عليه لا يُزيلُ سُلطانَهُ، وليس في قوى
الخلافِ ذلك، فأمّا ما نحن فيه مِن الأصلِ الثابتِ بإجماع
المُجتهدينَ، فإنه إِنما تناولَ مسالةً مخصوصة -وهي دخول في
الصلاةَ بالتيمُم عند عَدم الماءِ-، فلَما تَجددَ طلوعُ الماءِ
صارتْ مسألةً ثانيةً علىَ ما قَدَّمْنا، وساغ فيها الاجتهادُ،
فزالَ سلطان الِإجماعِ بما بَينَا من الأحكام في مسألةِ عدم
الماءِ، ثُم في الثانيةِ من سوغانِ الاجتهادِ، وجوازِ
استِفتاءِ العامِّيِّ لمَنَ شاءَ مِنَ المُختلفين فيه، بعدَ ما
كان مُتعيناً عليه اتِّباعُ المحرمِ بالصلاةِ على الصَفَةِ
المذكورةِ، والدخولُ فيها من غيرِ تأخير لها عن وقِتها.
فإِن قال المُستصحِبُ للحال: نحن على ما أجمَعُوا عليه مِنَ
الدخولِ في الصلاةِ، والتمسك بها إِلى أن ينقُلنا عنها ناسخ.
__________
(1) في المخطوط:"خُرج".
(2/329)
قيل: ما أجْمَعُوا قَط على وجوبِ المُضِى
في صَلاةٍ، ولاعلى صِحتها مع طلوع الماء بل هم في ذلك
مختلفُون؛ لأن القائلين بوجوب الخروجِ من الصلاة مع القُدْرةِ
على التَوَضَي بالماءِ، انما قالوا في الأَصلِ: إن المُضى في
الصلاة واجب أو صحيح بشرِيطةِ عدمِ الماء ولم يقولوا: إِنَ
المتيمِّم يَمْضِي في صلاتِه وإن وجدَ الماء، فهو إِذا وجَدَ
الماءَ على غيرِ الحالِ التي أجْمعُوا عليها، فقد زالَ
الإجماعُ، وعند زوالِه يَجِبُ إِقامةُ الحجَّةِ، وقد أوْضَحْنا
مِن قبل أن هذا ليس هو موضعَ الإجماعِ الذي ظنُّوه، فلا معنى
للتَّعَلقِ به.
فإِن قالوا: لم يَحصُلْ بعدَ الإِجماع إلا حُدوثُ حادثٍ من
رُؤْيةِ الماءِ ووجودِهِ، والحوادثُ لا تَقْلِب الأحكَامَ التي
تَثبُتُ بالدليلِ.
قيل لهم: تُقابَلون بأن يقالَ لكم: لم يَحصلِ الإجماع قَط على
صحَة المُضِيِّ، ولا ايجابه في الصلاة مع وجودِ الماءِ ولا
طلوعِهِ، وإنما أَجْمَعَتِ [الأُمَّةُ] (1) على ذلك عند
عدمِهِ، فلا إِجماعَ هاهنا يرجع (2) إليه.
على أن قولَكمُ: لا يغير الحادثُ أحكاماً، ليس بصحيح، لأنه قد
غير أحكاماً من تسويغ الاجتهادِ بعدَ أن لم يَكنِ الاجتهاد
سائغاً، وجوزَ للعاميِّ التقليدَ لمَنْ أوْجَبَ الخروجَ من
الصلاة بعد أن لم يكُنْ جائزاً، وزالَ سلطان الِإجماعِ بتَجددِ
الخلافِ بعد أَن كان ثابتاً.
ثم يقالُ لهم: الحادثُ إذا اخْتلفَ عند وجودِهِ، هل يقْتضِي
قَطعَ
__________
(1) ليست في الأصل، واثباتها أنسب للسياق.
(2) في الأصل: "رجع".
(2/330)
العبادةِ، أم لا؟ فعلى من يُوجِبُ القطعَ
دليلٌ، وعلى من يُسقِطُهُ دليل؛ لأن الِإيجابَ في هذا
والِإسقاطَ من العباداتِ السَمْعيةِ التي لابد فيها من دليل،
اللهم إلا أن يكونَ الدليلُ الموُجِبُ لِصحةِ الصلاةِ دليلًا
(1) يُوجِبُ المُضِى في الصلاة وإن وُجِد الماءُ بلفظٍ
يَقْتضِي ذلك أو إِجماعٍ عليه، فإِذا لم يَكُنْ هاهنا إِجماع
على هذا ولا لفظٌ يَقْتضِيهِ، وإنما أجمعتِ الأمةُ على المُضِي
في الصلاةِ مع عدم الماءِ لا مع وجودهِ، وقد اخْتلفتْ عند
طلوعِ الماءِ عليه، فوجب إِقامةُ الدليلِ لزوالِ الإِجماعِ
ووقوعِ الخلافِ، وهذا ظاهرٌ لا إشكالَ فيه.
فإن قالوا: إِن الإجماعَ على دخولِ الصلاةِ بالتَّيمُّمِ،
وصِحَّةِ ما أدى منها مع عدمِ الماءِ على معنى أنه قُرْبة
يُثابُ صاحبُها، لم يَقَعْ إِلا عن دليل سَمْعيٍّ، فيجبُ أن
يكونَ ذلك الدليلُ في معنى اللَّفظِ الذي يُوجِبُ المُضيَّ في
الَصلاة إلى آخرها وإن وُجِدَ الماءُ؛ لأن الأمَةَ لا تُجْمعُ
إلا عن دليلٍ، ولا تُجمعُ على تَخْمينٍ ولا تَقْليدٍ ولا واقع،
ولا يكونُ الدليلُ في مثلِ هذا إلا سَمْعياًّ، فيجِبُ أن
نُقيمهُ مَقامَ اللفظِ المُوجِبِ للمُضِيِّ في الصلاةِ.
قيل لهم: لعَمْرِي إن الأمةَ لما أجمعَتْ على ما ذَكَرْتُم
إنما أجمعتْ على دليلٍ، ولكن مِن أين لنا أن ذلك الدليلَ هو
لفظ يُوجبُ المُضِيِّ في الصلاة وإن طَلَعَ الماءُ؛ ولعل
الدليلَ هو لَفْظٌ، مضمونُهُ: صَل ما لم تَجِدِ الماءَ، أو إلى
أن تَجِدَ الماءَ، فإِذا وجدْتَهُ، فاخْرُجْ واسْتَأنفِ
الفَرْضَ، ولعلَّهُ قياسٌ صحيحٌ اقتضى المُضِى في الصلاة ما
__________
(1) وقع في الأصل: "دليل".
(2/331)
لم يَجِدِ الماء، ولم يُوجبْهُ مع وجودِه،
والقياسُ معنىً ليس بلفظ يُوجِبُ ما ظننْتُموهُ، فمِن أينَ
لنَا أنَّ المعنى القِياسِيِّ (1) الذي أداهُم إلى وجوبِ
الصلاةِ أو صِحتِها مع عدم الماءِ، يُوجبُهُ مع وجودِ الماءِ؟
والقياسُ طريق من طرقِ الأحكام يَجوزُ عندنا أنَّ تُجْمعَ
الأمةُ على الحُكْمِ عنه (2)، وليس يَصِحُّ الجمعُ بين مسألةٍ
دَل القياسُ عليها عند المُجمِعينَ على صحته، وبين أخرى
مُختلَفٍ فيها، إِلا بوجْه يُوجِبُ رَد المُختلَفِ فيه إِلى
المُتَفَقِ عليه، ومتى تَعاطَوْا هذا ورَجعُوا إِليه، تَركوا
التَّعلقَ بالإِجماع، وأخذوا في المقاييسِ الدالةِ على صِحَّةِ
المُضِيِّ في الصلاة، وَهذا ما أرَدْناهُم عليه.
وقد اعْتَلُّوا لصحةِ مَقالَتِهم التي طَعَنا فيها، ودَللْنا
على فسادِها؛ بأن قالوا: إن الشَرْعَ قد قَررَ ذلك؛ حيث قال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشَيطانَ ليَأتِي أحدَكُم،
فينفُخُ بين ألْيَتَيْهِ، فلا يَنْصَرِفَن حتى يَسْمعَ صوتاً،
أو يَشمَ رِيحاً" (3) فأثبتهُ - صلى الله عليه وسلم - على
حُكمِ اليقينِ، وأسْقَطَ حُكمَ الشَك، فكذلك يَجِبُ أنَّ نكونَ
على ما أجمعنا عليه، ونُسقِطَ حُكمَ الاختلاف، لأن المجمعَ
عليه مُتيقن، والمُخْتلَفَ فيه متوهَّمٌ، فوجَبَ تَرْكُ الشك
لليقينِ.
فيقالُ لهم: الجوابُ عن هذا من وجوهٍ:
احدها: أنَّ تَوهمَكم أنَّ الأمَةَ مُجمعَة على صحة المُضي في
__________
(1) في الأصل: "القياس".
(2) انظر "التمهيد" 3/ 288، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 261،
و"المسودة" ص 328 و330، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 121.
(3) تقدم تخريجه قريباً في الصفحة (323).
(2/332)
الصلاةِ مع وجودِ الماءِ، وأن ذلك
مُتيَقَّنٌ وهذا مُتوهمٌ، غلط ظاهرٌ، قد كَرَّرْنا دَفْعَكم
عنه، فلا معنى لرجوعكُمْ إِليه، وتعلُّقكم به في كلِّ فَصلٍ،
وإنما المُجمعَ عليه المُضِيُّ في صلاةٍ لم يَطلع فيه الماءُ،
ولا إِجماعَ على المُضِيِّ فيها مع وجودِه، فأين الإِجماعُ،
وأْين اليقينُ في هذا؟ وهذا غيرُالوضعِ المُجمعِ عليه.
الوجهُ الثاني من الجواب: أنَا إِنما اسقطْنا حُكمَ الشكِّ في
الطهارة بسَمْعٍ، وأوجَبْنا المُضِيَّ على حالة اليقينِ
بسَمْعٍ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَوَّى بين
الحالتين، وأوْجبَ المُضِى على اليقين بالسمع وتركَ
الاحْتِفالِ (1) والاعتبارِ بالشك بسمعٍ، ولم يُسقِط حكمه لأنه
شكٌّ.
والسمعُ من قولهِ: "فلايَنصَرِفَنَّ حتى يسمعَ صوتاً أويَشَم
ريحا"فأوْجبَ إسقاطَ حُكمِ الشك بهذا القولِ ولو لم يَقُلْهُ
عليه الصلاة والسلام.
واخْتلَفَ المسلمون عند حدوثِ الشكِّ: فأجاز مجيزون المُضِيَّ
في الصلاة، وحَظَرَهُ آخرون، لا حتياجِ (2) حاْظر ذلك إلى
دليلٍ، ومُجوِّزِهِ إلى دليل.
وهذا هو الشاهدُ لنا، أن الأمَّةَ اخْتلفَتْ عند طلوع الماءِ
على المُتيمِّم، فمنهم المُجِيزُ والمُوجِبُ للمُضِيِّ في
الصلاة، ومنهم المُوجِبُ للخروجِ منها، فاحتاجَ كلُّ واحدٍ
مِنَ الفريقين إلى دليلٍ، كما احْتِيجَ في إسقاطِ حُكمِ الشكِّ
إلى قوله عليه السلام: "فلا
__________
(1) في الأصل: "الإحفال".
(2) في الأصل: "لاحتاج".
(2/333)
يَنْصرِفَنَّ"، الذي لولاه للَزِمَتِ الحجة
لمُسقِطِ حكمِ الشك.
ويقالُ لهم أيضاً: نحن مُتيقِّنونَ عند طلوعِ الماءِ بوجُودِ
الخلافِ في حُكمِ الصلاةِ، وزوالِ حُكمِ الإجماع، ومُتيَقَنونَ
أيضاً أن أحدَ مذاهب المُختلفينَ لا يَصِح بالدعاوى ولا
بالخلافِ والشهواتِ، فيَجبُ أن تُتَيَقَّنَ الحاجةُ إلى
الدليلِ عند وجودِ الخلافِ، وهذا مثلُ الَذي قُلْتُموهُ، بل هو
أوْلى وأصح.
ويقالُ لهم أيضاً: إِن الأمةَ لما اخْتلفتْ في المُضِي في
الصلاة عند القُدْرةِ على الماء؛ لوقوع القُدْرةِ على الماء،
زالَ ما كُنا عليه من اليقينِ قبلَ القُدْرةِ على الماءِ،
لوقوعِ الاختلافِ، وارتفاع الإِجماع، وعدمِ اليقينِ، فجُعِلَ
الأمرُ مشكوكاً فيه، فالمُضِيُّ في الصَلاة مشكوك فيه عند
رُؤْيةِ الماءِ، كما أن وجوبَ الخروجِ مشكوكٌ فيه عند رؤيةَ
الماءِ، فلا معنى لترجيحِ أحدِ القولينِ على الآخرِ بنفسهِ مع
هذه التَسْويةِ بينهما في الشَك.
قالوا: ومما يُصحِّحُ قولنا ثُبوتُ (1) القولِ بأقل ما قِيلَ
في أرُوشِ الجِنايات وقِيَمِ المُتلَفاتِ، كدِيَةِ اليهوديِّ
وما جَرى مَجْراة، وأننا إذا قلنا: إِن قيمةَ المتلفِ ما بين
خمسةٍ وعِشْرينَ (2) مثلًا، أخَذْنا بأقلِّ ما قيل، وألْغَيْنا
الخِلافَ، وكذلك إذا قال قائلون: إنَّ دِيَةَ اليهودِي دِيَةُ
__________
(1) وقع فى الأصل: "لثبوت"، والذي يقتضيه السياق، وتسقيم به
العبارة ما أثبت.
(2) في الأصل: و"عشرون".
(2/334)
مسلم، وقال آخرون: نصفُ دِيَةِ المسلمِ،
وجبَ الرجوعُ إلى ما عليه الاتَفاقُ، وهو أقَل ما قيل،
وألْغِىَ موضعُ الخلافِ، وكذلك يجبُ الرجوعُ إلى المُضِيِّ في
الصلاة؛ لموْضعِ الِإجماعِ، واطراحِ الخلافِ.
قيل لهم: في هذا أمورٌ كثيرةٌ:
أوَّلُها: دخولُكم في هذا على ظَنٍّ منكم أن الأمَةَ قد
أجْمعَتْ على المُضِيِّ في الصلاة وإن وُجِدَ الماءُ، كما
أجْمَعْنا على اسْتِحقاقِ أقلَ ما قيلَ في دِيَةِ اليهودِيِّ،
وهذا تَوَهم قد دُفِعْتُم عنه دَفْعَةً بعد أخرى، وثانيةٍ بعد
أُولى، وليس بمثلٍ لِما ذَكَرْتُم.
والثاني: أن التعَّلقَ في هذه المسائلِ بأقلِّ متعلق، بموضعين:
أحدُهما صحيح، والأخرُ مُطَّروح، إذا سُلِكَ فيه السننُ الذي
ذَكَرْتُم، فالصحيحُ: هو وجوبُ أخذِ أقلِّ ما قيل؛ لانه
مُستحَق، والساقطُ: إِيجابُ براءةِ ذِمتِه مما زادَ عليه،
فإِنَّا لا نُسقِطُ الزائدَ على قَدْرِ ما أجمعُوا عليه،
لوقوعِ الخلافِ فيه، وإِن أوْجَبنا أقَل ما قيل.
وبان باسْتِصحاب (1) هذه الحالِ إذا ذُكرَ على هذا الوجهِ،
وجوبُ استصحاب حال أخَرى في مُقابَلتها، وهي أن الجنايةَ لما
وقعتْ، أجمعَ المسَلمون على اشتغالِ الذمةِ بجميعِ قِيمتها دون
بعضِها، فاذا أجمعوا على أقَل ما قيل أخَذْناهُ، ولم نُسقِطْ
ما زادَ عليه مما اخْتُلفَ
__________
(1) في الأصل: "استصحاب".
(2/335)
[فيه] (1)؛ لأن إجماعَهُمْ على الأقلِّ
المُسْتَحَق (2)، ليس هو إجماعاً منهم على أنه كلُ المُسْتَحق،
وقد تَيَقَّنا اشتغال الذمة بكل المُستحَق، ولا تَصِحُ
براءتُها إِلا باداءِ الحقَّ، ولا دليلَ يَدُلُّ على أن ذلك
المُؤَدى هو كلُّ الحق، وليس قولُ مَن قال: إن المُستحَق هو
ثُلْثُ الديةِ، دليلاً (3) على أنه هو كلُ الحق؛ إذ في الأمةِ
مَن يقولُ: إن المُستحَق أكثرُ من ذلك، والذَمَةُ لا تَبْرأ
بالخلافِ، وإنما تَبْرأ بالدليلِ القاطعِ، وهذا يُسقِطُ ما
قالوه إِسقاطاً ظاهراً.
ولكن يَصِحُ أن يُوجَبَ (4) أقل ما قيل، ويُرجَعَ (5) في
إسقاطِ ما زادَ عليه إلى شيءٍ من (6) الاخْتلافِ في
اسْتحِقاقِهِ؛ وهو أنْ يقولَ: الأصلُ أنَّ الذِّمَّةَ بريئةٌ،
فلا يُوجَبُ اشتغالُها إلا بدليلٍ سَمْعىٍّ، وقد تَصَفَحْنا
السمعَ، فَعلمْنا أنه لا دليلَ على اشتغالِ ذِمَّتِه بشيءٍ
يَزِيدُ على أقلِّ ما قيل؛ لأنَّهُ لو كان عليه دليلٌ، لوجَبَ
أنْ نَعْلَمَهُ عند طَلَبهِ والبحثِ عنه، وأن لا يُخْلِينَا
الله مما يَدُلُّنا على ذلك من ظاهرٍ أوَ قياسٍ أو إِجماعٍ أو
حُجَّةِ عقلٍ، فإِذا لم يَكُنْ في أَدلةِ العقْلِ والسمعِ ما
يُوجِبُ اشتغال ذِمَتِهِ بأكثرَ من القدْرِ المجْمَعِ على
استحقاقِهِ، وجَبَ براءةُ
__________
(1) زيادة على الأصل.
(2) في الأصل: "مستحق".
(3) في الأصل: "دليل".
(4) فى الأصل: "يوجد".
(5) في الأصل: "رجع".
(6) في الأصل: "عن".
(2/336)
ذِمتِه، وليس المرادُ بقولنا: إنَّ أقل ما
قيل مُجمعٌ على استحقاقِه، أنَّهُ مجمعٌ على أنه كُل
المُستحَقِّ، وإِنما المرادُ به: أنه مُستحق به، وما زادَ عليه
فيُختلَفُ فيه، فعلى الزائدِ الدليلُ وإلا فالأصلُ براءةُ
الذمة.
فصل
واعْلَمْ نفَعَك الله أن هذه الطريقةَ التي ذَكَرْناها في وجوب
أخْذِهِ أقل ما قيل، وإلغاءِ ما بعدَهُ إذا لم يَدُل على
وجوبِه دليلٌ، طريقةٌ مُعتمدةٌ، وفي إِسقاطِ جميعِ ما يُسألُ
عنه من إيجاب صَلواتٍ وزكواتٍ وحُدودٍ وكَفاراتٍ وغيرِ ذلك.
وصورةُ الاستدلالِ بذلك، وتحريرة: أنَّ نقولَ: الدليل على
سُقوطِ فَرْضِ ما سَألْتَ عنه: أنه قد صح براءةُ الذمة في
الأصلِ، وأن الإِيجابَ فرضٌ مُحددٌ مُتلَقى من جِهةِ السمعِ،
وقد فَتَشْنا السمعَ، وبَحَثْنا عن طُرُقِ الأدلَّةِ ومواضعِها
ومَأخَذِها، فعَلِمْنا أنه لا دليلَ في السمعِ على إيجابِ ما
سألْتَ عنه. وهذا إِنما هو استدلال بوجودِ العِلْمِ بفَقْدِ
الدليلِ وعَدَمِهِ، الذي لا يَثْبُث الحكمُ الا بوجودِه، وليس
برجوعٍ إلى أنَّا لم نَجِدْ على ذلك دليلاً؛ لأن القولَ بأنَا
لم نَجِدْ دليلًا ليس بُمتَضمن لِعلِمنا بعدم الدليلِ، وإنما
هو إخبار عن عدمِ وجودِنا له، وقد يكون الدليل موجَوداً وإن لم
يَجِدْة الناظرُ، وقولُنا: قد عَلِمْنا أنه لا دليلَ على ما
سألتَ، قطع على فقدِ الدليلِ. فاذا سُئِلْنا: من أين علِمْتمِ
ذلك؟ أخبَرنا بطريقِ العلم به، وهو أن الدليلَ الشرعى لو كان
موجوداً، لوجَبَ علمنا به مع شدة طَلَبنا له وبَحْثِنا عنه،
وتوَفرِ دواعِينا على إِصابتهِ، وتَديُنِنا بالانقيادِ له، بلَ
يَجِبُ أن يَجِدَه مَنْ لم
(2/337)
تَكمُلْ فيه هذه الخِلالُ عند طَلَبه، فكيف
مَنِ اجْتَمَعتْ له، وتوفَرتْ هِمَمُه ودواعيه على إصابتِه؟!
فهذَا دليل وثيقٌ في إسقاطِ فرضِ جميعِ ما سألَ عن الأدلةِ على
زوالِ فَرْضِه، إذا كان الدليلُ عليه مفقوداً، فمن ظَن أن هذه
الطريقةَ هي الرجوعُ إلى أنا لا نعلمُ على ذلك دليلاً، أو أنا
لم نَجِدْهُ، فقد أبعدَ وأخطَأ.
وقد يُستدل بمثلِ هذه الطريقةِ بعَيْنِها على إسقاطِ القضايا
العقليةِ التي لا دليلَ في العقلِ عليها، ولا ضرورةَ تُلْجِىءُ
إلى إثباتِها، وذلك كاستدلالِنا على كذب المُتنبىءِ المُدَعِي
للرسالةِ، إذا لم يَظهَرْ على يدِه من الآياتِ ما يَدُل عَلى
صدقِه، ولم يكُنْ ما يُخبِرنُا عنه من ثبوتِ رسالته مما
يُضْطَرُّ إلى العلمِ به.
ووجه الاستدلالِ على كذبِه: أن نقولَ: لو كان صادقاً، وليس إلى
العلمِ بصِدْقِه من جهةِ الاضْطِرارِ سبيلٌ، لوجبَ أن يكونَ
على ذلك دليلٌ منصوبٌ، ولا دليلَ عليه إلا الآياتُ الباهرةُ،
وإذا عَلِمنا أنه لا آيةَ له، عَلِمْناكذبَهُ.
وكذلك فقد يُستدَل على سقوطِ إثباتِ أوصافٍ وحقائقَ للقديم
والمُحْدثِ أكثرَ مما عَلِمْناها؛ بأنها إذا كانت مما لا
تُعلَمُ اضْطِرارَاً، ولم يَكُنْ عليها دليل موجود، وجَبَ
القَطْعُ على أنه لا أصلَ لها.
وكذلك قد يُستدَل على نفيِ قديمٍ عاجزٍ ومَيْتٍ بمثلِ هذا، في
نظائرِ هذه الأمورِ، فيجِبُ أن يُتَنكَبَ في ذلك أجمعَ القولُ
بأنا لا نَعلَمُ عليه دليلاً، ولم نَجدْ عليه دليلاً، ونقولَ
مكانَ ذلك، وبدلاً منه: قد عُلِمَ أنه لادليلَ عليَه. فنأتي
بلفظِ الإثباتِ.
(2/338)
فصل
وقد اخْتلَفَ أهلُ العلمِ في النَّافي: هل عليه فيما نفاه
[دليلٌ] (1)، أم لا؟
فقال قوم من المتكلمين والفقهاءِ: إن المُنكرَ النافي لا دليلَ
عليه، سواءٌ كان ما أنْكرَهُ ونفاهُ مِنَ القضايا العقلية أو
مِنَ القضايا الشَرعيةِ (2).
وقال آخرون من الفقهاءِ والأصوليين: إن النافي لا دليلَ عليه،
إذا كان ما نفاهُ من الأحكامِ السمعيةِ دونَ العقليةِ (3).
وقال المُحقَقُونَ من أهلِ النظَرِ من الفقهاءِ والأصوليِّين
(4): إن
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) حكى هذا القول غير واحد عن داود وأهل الظاهر، وفي كلام ابن
حزم في "الإحكام" ما يشير إليه، وان كان هو قد صحح القول
بخلافه، وهو منقول أيضاً عن بعض الشافعية.
انظر "البحر المحيط "6/ 32، و" الإحكام " لابن حزم 1/ 75 وما
بعدها، و "إرشاد الفحول" ص 245، و، "التبصرة" ص 530، و"إحكام
الفصول" ص 619، و "المسودة" ص 494.
(3) حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني في "التقريب" وابن فورك.
انظر "البحر المحيط" 6/ 32.
(4) هم جمهور الفقهاء والمتكلمين. انظر "أصول السرخسي" 2/ 215
- 216، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" 1/ 395، و"إحكام
الفصول" ص 618، و"المسودة" ص 494، و"إرشاد الفحول" ص 245، و
"التبصرة" ص 530، و"الِإحكام" للآمدي 4/ 294، و"الوصول" 2/
258، و "شرح الكوكب المنير"4/ 525، و"التمهيد"4/ 263، و"شرح
مختصر الروضة" 3/ 161، و"البحر المحيط" 6/ 32، و"نهاية السول"
4/ 374، =
(2/339)
النافيَ إذا ادَّعى العِلْمَ بانتفاءِ ما
نَفاهُ، لَزِمَهُ إقامةُ الحُجةِ والدليلِ عليه، كما يَلْزَمُ
المدَّعى العِلْمَ لإِثباتِ ما أثْبتَهُ الحُجَّةُ والدليلُ،
إذا كان الأمرُ المثُبَتُ والمنْفِى المُختلَفُ فيه مما لا
يُعلمُ نفيُه وإثباتُه باضْطِرارٍ ودَرْكِ الحواسِّ، فإِنَ ما
ثَبَتَ باضْطِرارٍ مِن نفيٍ أو إثباتٍ نَمنَعُ (1) المُطالبةَ
بالدليلِ عليه، والتعرُّضَ لإِقامةِ الدليلَّ عليه؛ إِذ كان
الدليلُ هو المُرشِدَ إلى المطلوب، وما عُلِمَ باضْطِرارٍ فقد
تَحصَّلَ، فمُحالٌ أن يُرشِدَ إلى ما تَحصَلَ، كما أن من
المُحَّالِ طَلَبُ ما قد ظُفِر بهِ وتَحصَّلَ.
والدَلالة على ما ذَهَبَ إليه المحُقَقون -وهو ما
نَعْتَقِدُهُ-: أن التوحيدَ مما أجْمَعَ المسلمون على وجوب
الدَلالةِ عليه حسَبَ ما أجْمعُوا على إِثباتِ الصانعِ،
وحقيقةُ (2) التَوحيدِ: نَفْيُ ما زادَ على الواحدِ في قِدَمهِ
وصُنعِهِ، وكونُه لا يُشْبِهُ الأشياءَ، [وهو] (3) نفى
للمِثْلِ.
والدَلالةُ على ذلك، وقد اسْتدَلَّ الباري عليه بقولِه: {لَوْ
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}
[الأنبياء: 22]، {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ
إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)}
[الإسراء: 42]، ولأنَّ النَافِي لِمَا نَفاهُ لا يَخْلو من
أحدِ أمريْنِ: إمّا أن يدعى العِلمَ بما نَفاهُ، أو لا
__________
= و"المستصفى"1/ 232.
وفي المسألة مذاهب أخرى: انظرها في "البحر المحيط" 6/ 32 - 34.
(1) في الأصل: "نفتح".
(2) تحرفت في الأصل إلى: "ودقيقة".
(3) ليست في المخطوط.
(2/340)
يَدَّعِيَ العِلمَ بانْتِفائِهِ؛ لكنَّهُ
يُخبِرُ أنه جاهل بذلك أو شاكٌ فيه.
فإِن كان مِمن يُخبِرُ بجَهلِه وشكِّهِ، فلعَمْري أنَّ
الدَّلالةَ لا تَلزَمه كما لا يَلزَمُهُ إِقامةُ الدليلِ على
أنه لا يَجِدُ ألَمَ البَردِ والحَر وحلاوةَ العَسَلِ؛
لتجويزِنا داخلًا دخَلَ على مِزاجهِ، فافسَدَ دَرْكَهُ، ولأن
أهلَ النَظرِ قاطبةً لا يُوجبُونَ على الجاهلِ والشَاكِّ
دليلًا على ما ادَّعى من جهلِه وشَكِّهِ، ولاَ يَسألونَ عن
الطريق المُؤَدِّي إليهما، لأنه لا دليلَ عليهما، ولا طريق إلى
إثباتِهما، فلا نقولُ للجاهل: لم جَهِلْتَ؟
وللشاكِّ: لم شَكَكْتَ؟ وإنما تكَلمَ الناسُ مع ابي حنيفة في
شَكِّه [فى سؤرِ] (1) الحِمارِ لا في عَيْنِ الشك، لكِنْ
تكلموا معه في الحُكمِ الذي رَتَبهُ عليه.
قلت: وليس ما نحن فيه من جميع ما ذَكرُوا في شيءٍ، بل إذا
جَهِلَ، وأخْبَرَ عن نفسِه بذلك، قلنا له: أيقِظْ عقلَكَ بما
تُوقَظُ به العقولُ مِنَ النَّظَر، يَظْهَرْ مِن جوهرِ العقلِ
ما يَنْتَفِي به الجهلُ: فالذُّهولُ عن النظَرِ، آفةٌ (2)
يُمكِنُ إزالتها، كما أنَّ العارضَ على المِزاجِ من الآفَةِ
يُمكِنُ عِلاجُه (3)، فهو إِذا لم يَكُنْ عليه دليل، كان
__________
(1) ليست في الأصل.
والشك في سؤر الحمار معروف من مذهب الإمام أبي حنيفة. انظر
"تحفة الفقهاء" 1/ 54 - 55، و"البناية شرح الهداية"1/ 454 -
456.
(2) في الأصل: "أنه".
(3) في الأصل: "بخلافها".
(2/341)
عليه البحثُ الذي هو علاجُ ما عرضَ أو
تأصلَ مِنَ الجهلِ.
وإن كان النافي مِمن يَدعي العِلْمَ بصِحةِ ما نَفاهُ، تَطرقَ
لنا عليه أنَّ نقولَ: من أين غلبَ نفيُ ما نَفيْتَهُ؟
أباضْطِرارٍ أم باسْتدلالٍ؟ فإن ادَّعى الضرِورةَ وكان ذلك
الأمرُ مِمّا نَشْرَكُه فيه، سقطَ الاستدلالُ، وإن لم
نشْرَكْهُ فيه مع دَعْواهُ الضرورةَ، كان عندنا أحدَ رجلين:
إمَّا أن يكونَ صادقاً فيما أخْبَرَ لآفَةٍ دَخَلَتْ عليه، كمن
تَدخُلُ عليه الأفةُ في الِإثبات لأشكالٍ يراها مُتخيلَةً له،
ولا نَشْرَكُهُ فيها لعدمِ ما عَرَضَ له في أمْزِجَتِنا؛ فإن
في الأمراض ما يُشَكلُ الأشْخاصَ ولا أشْخاصَ، كذلك في باب
النَفْي.
وإنِ ادَّعى أن ذلك عَلِمهُ بطريق الاستدلالِ، طُولِبَ
بالدلالةِ بالأدلةِ عليه؛ لأن كلُّ معلوم بالاستدلالِ إنما
يُعْلَمُ بدليل، فالدليلُ الذي نَصَبَهُ لنفسهِ في النفيً
يجِبُ أن يُقيمَه لنا إذا طالَبْناهُ.
فإِن قيل: أليس المُنكِرُ لما كان نافياً لم تَلْزَمْهُ
البينه، والمدعى لما كان مُثبِتاً لَزِمَتْهُ؟
قيل: المُنكرُ أسندَ إلى أصل هي أدلة العقلِ على براءةِ
الذمَمِ، على أنه ما أخْلاهُ الشرعُ من بينةٍ هي يَمِينهُ،
وإلا فقد كان يَكْفِي قولُه في جواب المُدَعِي وقولُه [فيما]
(1) اسْتَحَق عليه: بأنه (2) ما يَسْتَحِقُّ على شيئاً. والله
أعلم.
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل: "فإنه".
(2/342)
فصولٌ تَتضمَّنُ بيانَ الأَسئِلةِ الفاسدةِ
لتُجْتنَبَ
فصل
من الأسئلةِ الفاسدةِ أن تقولَ: لو كانت هذه عِلَّةً في كذا
وكذا، لكانت في كذَا وكذا، وهذا إنما يكونُ فاسداً عندي، إذا
كان الحُكمُ الذي جَعَلَ اسْتِدعاءَهُ من مُقْتَضى العِلةِ ليس
من الحُكمِ الذي أوْجَبَهُ بها في شيءٍ، فأمَّا إن كان نظراً
وحُكماً يَصلُحُ أن يكونَ حكماً للعِلة، فقد جعلهُ الشيخُ
الإمامُ أبو إسحاق (1) سؤالًا حسناً، وهو أن تكونَ العِلةُ لا
تستدعي أحكامَها، فأفْسَدَها بذلك.
فمثالُ الصحيحِ: أن يقولَ الحنفيُّ في الزكاةِ في مال الصبِى:
غيرُ المكلف، فلا تَجِبُ الزكاةُ في مالِهِ، كمن لم تَبلُغْهُ
الدعوة. فقال: إن هذه العِلةَ لم تَستاع (2) عدمَ إيجابِ
العُشْرِ في زَرْعِه، وزكاةِ الفِطْرِ
__________
(1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي
الشيرازي، شبخ الشافعية، مولده سنة (393) هـ، له المصنفات
المشتهرة منها: "التنبيه" و"المهذبا في الفقه" و"اللمع"
و"شرحه" "الملخص" و "المعونة" في الجدل و"التبصرة" في الأصول،
وغيرها. توفي سنة (476) هـ. انظر "السير" 18/ 452 - 464،
و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 215 - 256.
(2) في الأصل: "تستدير".
(2/343)
في مالهِ، وهما نَظِيرا زكاةِ رُبْعِ
العُشْرِ، ولا تستدعي نفيَ رُبْعِ العُشرِ فهذا سؤالٌ حسنٌ
صحيحٌ.
ومثالُ الفاسدِ: أن يُعَلِّل حنبليٌّ أو شافعيٌ في تحريمِ
النَّبيذِ: بأن فيه شِدَّةً مُطرِبة، فكان مُحرماً، كالخمرِ.
فيقول المُعارِضُ: لو كانت هذه عِلةَ التحريمِ، لكانت عِلَّةً
في التفسيقِ.
وكذلك إذا عَلَّلَ في المضمضةِ والاستنشاقِ: بأنهما لا يَجبانِ
في الوضوء، فلا يجبان في الجنابةِ. فيقول: لوكان ذلك عِلَّةً
للمضَمضةِ، لكان عِلَّةً لِمَا تحتَ اللِّحْيةِ.
وإنما كان كذلك؛ لأن التفسيقَ أَبطَأُ من التَّحريمِ،
والتحريمَ أسرعُ من التفسيقِ؛ لأن لنا محرماتٍ لا تُفَسِّقُ،
ولأن مسائلَ الاجتهادِ لا يُفسَّقُ بها، وباطنُ اللِّحْيةِ
مُستتر بحائل ليس من أصلِ الخِلْقةِ.
فهذا وجهُ فسادِهِ عند مَن يقولُ: بأن العِلَّةَ إذا لم
تَستدعِ أحكامَها كانت فاسدةً.
فأمَّا مَن يَرى: أن سؤالَ العِلَة لا تستدعي أحكامَها (1).
ليس بسؤال لازم، يَعتل في فسادِ السؤالِ الأولِ والثاني: بأنه
لا يَمتنعُ أن تكونَ العِلةُ عِلَّةً في أحدِ الموضعين دون
الأخير، فلا يُعترَضُ بذلك.
ومنها (2): أن يقولَ: أَخَذْتُ حكمَ الأسبق من الُمتأَخرِ،
كقول أصحابِ أبي حنيفةَ في الاعتراضِ على أصحابنا وأصحابِ
الشافعي حيث قاسوا الوضوءَ على التيمم في إيجابِ النية،
فقالوا: إن فَرْضَ الماءِ نَزَلَ قبل
__________
(1) في الأصل: "أحكاما".
(2) أي: من الأسئلة الفاسدة.
(2/344)
فرضِ التيمُّمِ، فمتى وَجَدْنا فَرْعاً
اخِذَ له الحكم من أصلٍ لم يَسبِقْهُ (1)؟
وفساد هذا السؤالِ: من جهةِ أن الادلة لا ينكر فيها مثل هذإِ،
وإن تَضَمَّنَ الأول دَلالةً ويسلبها الثاني، فنَأخذ مِن تضمن
المتأخر إيجابَ النِّيَّةِ ايجابها استدلالاً للمقدَّم،
ويتبيَّن وجوبُها في الماءِ بما ضَمنَ الله بَدلَها من إِيجابِ
النَيَّةِ، وهَو التيمُّم.
فصل
ومنها: أنَّ تَعترِضَ على العِلةِ: بأنك اعتبَرْتَ فسادَ
الأصلِ بفسادِ الفرعِ. وذلك مثل قولِ أصحابنا وأصحابِ
الشافعيُّ في النكاحِ الموقوفِ (2): إنه لا تتعلَّق به
الاستبَاحة، فكان باطلاً.
__________
(1) في الأصل: "نسبقه".
(2) العقد الموقوف عموماً: هو العقد الذي فيه تجاوز على حق
لغير عاقده، يوجب توقفه على إرادته وإجازته، كعقد الفضولي، أو
فيه مانع آخر يمنع نفاذه كالإكراه.
ومنه النكاح الموقوف، ومن صوره: إذا زوج الولي العم الصغيرَ،
كان النكاح موقوفاً على إجازته في رواية عن أحمد.
ومنها: أن يعقد الولي نكاح المرأة ويوقفه على إجازتها، ويذكر
أنه لم يعلمها بذلك، فهذا متوقف على إجازتها عند المالكية.
ومنها: نكاح الفضولي -وهو من يتصرف لغيره بغير ولاية ولا
وكالة- الذي يباشره مع آخر أصيل أو ولي أو وكيل، فإنه يتوقف
على الإجازة عند الحنفية.
انظر "المدخل الفقهي العام" للأستاذ مصطفى الزرقاء1/ 577،
و"شرح حدود ابن عرفة" لمحمد الأنصاري المشهور بالرصاع،
والمسائل الفقهية من كتاب "الروايتين والوجهين" للقاضي أبي
يعلى بتحقيق الدكتور عبد الكريم=
(2/345)
فيقولُ: الاستباحةُ حُكمُ العقدِ
وتُسْتَفَادُ به، فلا يكونُ نفيُها يُوجبُ نَفْيَ العقدَ.
وهذا اعتراض فاسد، من حيث إن العقدَ يُرادُ لأحكامِه التي
تُستفادُ به؛ إذ ليس يرادُ العقدُ لعَيْنهِ، فإذا وُجِدَ ولم
تَتعلقْ به أحكامُهُ لا من جهةِ شرطٍ يحتاجُ إِليه، دَل على
فسادِه، كما أننا نَعلمُ صِحَةَ العقدِ ونَستدِلًّ عليه بوجودِ
أحكامِهِ ومقاصدِهِ.
فصل
ومن ذلك: أن يُفَرقَ بين الأصلِ والفرعِ بما لا يقَدَحُ في
العِلةِ.
مثلُ قياسِ أصحابنا وأصحاب الشافعيُّ النبيذَ على الخمرِ في
التحريمِ، فيُفرَقُ بينهَما بالتَفسيق.
وقد بَينّا أنه لا يُوجَدُ الفِسْقُ من التحريمِ، ولا يُنفى
التحريمُ بنفيِ التَفسيقِ؛ لأنه يجوزُ أن تَجْلِبَ العِلةُ
التحريمَ دون التفسيقِ، فلا يكونُ افتراقُهما في التفسيقِ
مانعاً من صِحتِها وجَلْبِها للتحريمِ.
فصل
والفرقُ بين المسألتين يَقَعُ على ضربين:
أحدهما: أن يكونَ بياناً للأصولِ المُفْرَدةِ المُلتزَمةِ لا
بعلةٍ، فإنه يَكفِيهِ بيانُها وكشفُ معانيها، ولا يَحتاجُ إلى
أصل؛ لأن هذا الفَرْقَ هو مُتطوع به؛ إذ كان لا يَلْزَمُه على
طريقةِ مَن لا يرى الكَسْرَ سؤالًا صحيحاً، وهذا هو الجوابُ عن
الكَسْرِ، وقد ذَكَرْتُ المذهبينِ فيه (1).
__________
= ابن محمد اللاحم 2/ 82، و"حاشية ابن عابدين" 3/ 97.
(1) انظر الصفحة (290) وما بعدها.
(2/346)
والثاني: الفرقُ القادحُ في الجمعِ، فهذا
يَحتاجُ إلى أصل يَرجعُ إليه؛ ليَصِحً قَدْحُهُ، ويكونَ الأصلُ
شاهداً لصحِة القَدْحِ؛ إذ الفَرْقُ (1) كالجَمْعِ، والجامعُ
لا بُدَّ له من الدلالةِ على صحةِ جمعِه، فالفارقُ كذلك، ومَن
أحبَّ أن يُسقِطَ عنه كُلْفَةَ الفرقِ، والدلالةِ عليه،
ورَدِّهِ إلى أصلِه، طالبَ المُستدِل بصحةِ الجمعِ.
وإنما احتاجَ الفارقُ إلى أصل؛ لأن فرقه دعوى لا بُرهانَ
عليها، وليس شيء من الأصولِ إلا وهو مفارقٌ للآخرِ في شيءٍ
يقعُ به الافتراقُ صورةً، فلو لم تُعتبرِ الدَلالةُ والرد إلى
أصل، لكَثُرَ الفرقُ واتسعَ لقُرْب مُتناولِه، كما أنه لولا
احتياجُ الجامع إلى دَلالةٍ، لاتسعَ القياسُ الجاَري (2) من
تأثيرٍ وجلْبٍ.
وقد قال بعضُهم: لا يَحتاجُ الفارقُ في فرقِه إلى أصل،
واختارهُ بعضُ أصحاب الشافعيِّ، وتعلَّقَ بأن الشافعيَّ رحمةُ
الله عليه فَرقَ بين الجُنُب إذا كانَ إماماً ولم يَعْلَمْ به
المأمومُ، وبين الكافرِ: بأن الجُنُبَ يكون إماماً بحالٍ،
بخلاف الكافرِ.
وهذا لا يَلزَمُ؛ لأن كلامَ الشافعيِّ يَرجعُ إلى أن الجُنُبَ
من أهلِ الإِمامةِ، فأشبَهَ المُتطهَرَ، والكافرُ بخلافِ ذلك.
وقد قال الشافعيُّ رحمةُ الله عليه في اعْتِدادِ (3)
المبتُوتَةِ: إنها قياسُ المُتوفَى عنها؛ لاجتماعِهما في
كونِهما في عِدةٍ لا رَجْعةَ للزَوجِ
__________
(1) في الأصل: "القدح".
(2) في الأصل: "الحالي".
(3) في الأصل: "إحداد".
(2/347)
عليها، وإن اختلفا في أنَ إحداهما فارقَها
زوجُها.
واعترضَ المُزَني (1)، فقال: كلُّ ما قِيسَ على أصلٍ فهو
يُشبِهُهُ من وجهٍ وُيفارِقُه من وجهٍ آخرَ، ولو لم يَكُنِ
القياسُ إلا باستيفاءٍ، بطَلَ، فقالَ أصحابُ الشافعيِّ: الفرقُ
الذي ذَكَرَهُ الشافعيُّ يَقْدَحُ في الجمعِ؛ لأنه يَرجِعُ إلى
الرجْعةِ؛ فلهذا عارضَ به القياسَ.
فصل
في بيانِ الانقطاعِ
وقد سَبقَ حَدُّهُ وأمثلتُه مُسْتوفىً في جَدَلِ الأُصولِ (2)،
ونشيرُ إليه هاهنا:
فانقطاعُ المُستدِلِّ: أن يَعجِزَ عن بيانِ مذهبهِ، أو يَعجِزَ
عن بيانِ الدليل بعدَ بيانِ مذهبه، أو يَعجِزَ عن الانفصالِ
عَمّا عارضَهُ السائلُ به بعد بيانِ مذهبهِ وإقَامةِ دليلِهِ،
وكذلك إن جَحَدَ مذهبَه الذي يُلزِمُه الحُجَّةَ، وكذلك إن
جَحَدَ ما ثَبَتَ بالإِجماعِ أو النصِّ، وكذلك إن انْتقَلَ عما
سُئِل عنه إلى غيرِهِ.
وفي هذا القَبِيلِ من الانتقالِ ما لا يكوَنُ انقطاعاً، مثلُ:
إن سُئِلَ عن رَدِّ اليَمين، فيقولُ: هذا مَبْنِي عندي. على
الحكم بالنَكولِ، فأنا
__________
(1) إسماعيل بن يحيى المزني، أبو إبراهيم الشافعي، صاحب الإمام
الشافعي، وله مصنفات كثيرة في المذهب، توفي سنة (264) هـ.
"طبقات الشافعية" للسبكي 2/ 93.
(2) في الصفحة (483) من الجزء الأول
(2/348)
أعتقِدهُ (1)، إذا ثبتَ أنه لا يُحكمُ
بالنُّكولِ.
وكذلك إذا سُئِلَ عن قضاءِ صوم التطوعِ (2) على مَن أفْسَدهُ،
فيقولُ: هذا يَنْبنِي عندي على أنه لاَ يَلزَمُ إتمامهُ
بالشروع، فيدُل عليه.
فإن طالبَهُ السائلُ بالدَلالةِ على ما سَألهُ إيّاه، كان
انقطاعاً مِنَ السائلِ دونَ المسؤولِ، لأن الأصولَ بعضُها
يُبْنى على بعضٍ، وليس كلُّها لها مِنَ الأدلَّةِ ما
يَخُصُّهُّا.
ومنه ما يكونُ انقطاعاً وانتقالاً، وهو: أن يُسألَ عن حُكم،
فيَدُل على ما لا يُبْنى عليه، مثالُه: أن يُسألَ عن وجوب
الترتيب في الطَّهارةِ، فيقول: نحن نَختلِفُ في الترتيب وفي
النِّيةِ، فأدُلَّ على وجوبِ النيه، فإذا وجبَتْ وجبَ
الترتيبُ؛ لأن الترتيب لا تَعلقَ له بالنيةِ.
وكذلك إذا اسْتدَلَّ بدليلٍ ثم أوردَ آخرَ، فهو مُنتقِل عن
دليلِه الذي ضَمِنَ نُصْرَةَ المسألةِ به، فكان انقطاعاً.
فصل
وانقطاع السائل،: يكونُ بالعَجْزِ عن بيانِ السؤالِ، وبالعجزِ
عن المطالبةِ بالدليلِ، وبالعجزِ عما شَرَعَ فيه، وبجحد
مذهبِه، أو ما ثبتَ بنصٍّ أو إجماعٍ.
__________
(1) في الأصل: "أعتقد".
(2) في الأصل: "المتطوع".
(2/349)
فصولُ التراجيحِ
فصل
في ترجيحِ الظواهرِ
وذلك يَقعُ من وجَهينِ؛ ترجيحٌ في الإسنادِ، وترجيح يقعُ في
المَتْنِ.
فأمَّا الإسنادُ: فيَختَص به أخبارُ الآحادِ؛ إذ ليس تَحتَمِلُ
المتواترةُ اختلافاً، فيقعُ فيه ترجيحٌ؛ لأنها انْتهَتْ إلى
العلمِ الذي لا يَحتمِلُ التزايُدَ، انما أخبارُ الآحادِ
طريقُها الظن، فكلما قَوِيَ طريقُها -وهو الإسنادُ-، كان
الأرجحُ إسناداً أقوى في غَلَبَةِ الظن.
فصل
ومما يَحصُلُ به التَّرْجيحُ في الِإسناد.
أن يكونَ أحدُ الرَاوِيَيْنِ (1) كبيراً والآخرُ صغيراً،
فتُقدَّمُ روايةُ الأكبر، لأنه أضْبطُ.
والثاني: أن يكونَ أحدُهما أعلمَ، فتُقدمُ روايةُ الأعلمِ؛
لأنه أعلمُ بما يَرْوِي.
والثالثُ: أن يكونَ أحدُهما أقربَ إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -؛ لأنه أوعى وأعرفُ بإشاراتِ النبى - صلى الله عليه
وسلم - ومقاصدِهِ، ويَعلَمُ كيف خرجَ اللفظُ، وماذا
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "الروايتين".
(2/350)
قَصَدَبه، مثلُ: روايةِ عائشةَ رضي الله
عنها في شان أحوالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في
بيتِهِ، واغتسالِهِ وطهاراتِهِ، وصلواتِهِ.
والرابعُ: أن يكونَ أحدُهما مباشراً للقِصَةِ، أو القصةً
تَتعلقً به، فيًقدمً، لأنه أعرفُ، مثلُ: قِصةِ حَمَل بن مالكٍ
(1) وما شاكلَها من القِصَصِ، وكذلك إذا كانت القِصةُ تتعلقُ
به، قُدمَ لأنه أعرفُ.
__________
(1) قصة حمل بن مالك أخرجها أحمد في "مسنده" 1/ 364 و4/ 89 -
80، والدارمي 2/ 196 - 197، وأبو داود (4572)، وابن ماجه
(2641)، والنسائي 8/ 21 - 22، وابن حبان (6021)، والدارقطني 3/
115 - 117 و 117، والبيهقي 8/ 114 من طرق عن ابن جريج، عن عمرو
بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، عن عمر: أنه نشد قضاء النبي
- صلى الله عليه وسلم - في الجنين، فجاء حمل بن مالك بن
النابغة، فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح،
فقتلتها وجنينها، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنينها
بغُرة عبد، وأن تقتل بها.
وأخرجها عبد الرزاق (18343)، ومن طريقه الطبراني (3482)،
والدارقطني 3/ 117، والحاكم 3/ 575 عن سفيان بن عشة، عن عمرو
بن دينار، به.
لكن ليس فيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن تُقتَل بها
القاتلة.
وأخرجها أبو داود (4574)، والنسائي 8/ 51 - 52، وابن حبان
(6019)، والطبراني (11767)، والبيهقي 8/ 115 من طريق سماك، عن
عكرمة، عن ابن عباس- ولفظه: كانت امرأتان ضَرَّتان، فرمت
إحداهما الأخرى بحجر، فماتت المرأة، فقضى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - على العاقلةِ الديةَ، فقالت عمتها: إنها قد أسقطت
يا رسول الله غلاماً قد نبت شعرهُ، فقال أبو القاتله: إنها
كاذبة، إنه والله ما استهل ولا شرب، ولا أكل، فمثله يُطَل.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَجْع الجاهلية، غُرة".
فقال ابن عباس: اسم إحداهما: مليكة، والأخرى: أم غطيف.
(2/351)
والخامسُ: أن يكونَ أحدُ الخَبرَيْنِ أكثرَ
رواةً، فيكونُ أوْلى؛ لأن الأمرَ بين الجماعةِ أحفظُ منه مع
الواحدِ، ولأن الشيطانَ من الواحدِ أقربُ، وهو من الاثنين
أبعدُ، وكلما زاد في العددِ، زادَ الشيطانُ بُعْداً.
ومِنَ الناسِ مَن قال: لا يُرجحُ بالعَدَدِ، كما لا تُرجحُ
الشهادةُ بالعدد، وإليه ذهبَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ (1).
والسادسُ: أن يكونَ أحدُهما أكثرَ صُحْبةً، فيُقدمُ لأنه أعرفُ
بما دامَ من السُّنَنِ، وما نُسِخَ وما لم يُنسَخْ، وبدوام
صُحبتِه يَعرِفُ معانيَ الألفاظِ، ومخارج الكلام، ودلائلَ
الأحوالِ، فلا يَغمُضُ عليه معنىً، ولايَنْستِر عليه مرادُ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنطقِ.
والسابعُ: أن يكونَ أحدُهما أحسنَ سياقاً للحديث، فيُقدمُ
لحُسْنِ عِنايتِه.
والثامن: أن يكونَ أحدُهما مُتأخراً، فيُقدمُ لأنه يَرْوي
[آخرَ] (2) الأمرَيْنِ.
والتاسعُ: أن يكونَ أحدُهما لم يَضْطَرِبْ لفظهُ، (3 والآخرُ
اضْطَرَبَ، فمن لم يَضْطَرِبْ 3) لفظهُ، يُقدمُ لأنه أضبطُ.
والعاشرُ: أن يكونَ أحدُهما أوْرعَ وأشد احتياطاً في الحديث،
__________
(1) انظر "المعونة في الجدل" ص 274، و" التبصرة" ص 348،
و"البحر المحيط " 6/ 150 - 151.
(2) ليست في الأصل، وانظر "المعونة في الجدل" ص 274، و"شرح
الكوكب المنير" 644/ 4.
(3 - 3) كرر الناسخ هذه الجملة في الأصل.
(2/352)
فيُقدمُ لأنه أوثقُ.
والحادي عشر: أن يكونَ أحدُهما من رواةِ أهلِ الحَرَمَيْنِ،
فيُقدم على غيرِه؛ لأنهم أعرفُ بما دامَ من السنَن، قال زيدُ
بن ثابتٍ: إذا وَجَدْتُم أهلَ المدينةِ على شيءٍ، فهو
السُّنَّةُ. وأشارَ إلى ذلك الوقتِ.
فأمَّا زمانُنا هذا، فنعوذُ بالله من انتشارِ البِدعِ
بالحَرَميْنِ.
والثالي عشر: أن يكونَ أحدُهُما لم تَختلِفْ عنه الروايةُ،
والأخرُ اخْتلَفَتْ عنه الروايةُ، وفي ذلك وجْهانِ لأصحابِ
الشافعي (1):
أحدُهما: تتعارضُ الروايتانِ (2) وتَسْقُطانِ، وتبقى روايةُ
مَن لم تَختلِفْ عنه الروايةُ.
والثاني: يُرجحُ؛ لأن الروايةَ التي لم تَختلِفْ عاضدَتْها
الأخرى بما وافقَتْها فيه.
فصل
وأما الترجيحُ في المَتْنِ فَمِن وجوهٍ
أحدها: أن يكونَ أحدُ الخَبَريْنِ موافقاً لدليل آخرَ من أصل
أو معقولِ أصلٍ يُقوِّيهِ.
والثاني: أن يكونَ عَمِلَ به الأئِمةُ، فيكونُ أوْلى؛ لأنه
آخرُ ما مات عنه من السنَنِ.
وألثالثُ: أن يكونَ أحدُهما نطقاً والأخرُ دليلًا، فالنُّطْقُ
أوْلى؛ لأنه
__________
(1) انظر "المعونة في الجدل" ص 275، و"البحر المحيط" 6/ 160 -
161.
(2) أي: عمن اختلفت عنه الرواية.
(2/353)
مُجمَع عليه، ودليلُ النطْقِ مُختلَف فيه.
والرابعُ: أن يكونَ أحدُهما قولًا والآخرُ فعلاً، ففيه ثلاثةُ
مذاهبَ:
أحدُها (1): أنهما سواء؛ لأن فعلَه كقوله - صلى الله عليه وسلم
- في إفادةِ الأحكامِ.
والثاني:- أن الفعلَ أوْلى؛ لأن الفعلَ لا يَحتمِلُ التأويلَ،
ولا فيه مجاز ولا احتمال.
والثالثُ: أن القولَ أوْلى؛ لأن له صيغةً تَتَعدى بلفظِه.
والخامسُ: أن [يكونَ] (2) أحدُهما قُصِدَ به الحكمُ، فيكونُ
أوْلى مما لم يُقْصَدْ به الحكمُ؛ لأنه أبلغُ في المقصودِ.
والسادسُ: أن يكونَ أحدُهما أظْهرَ في الدلالةِ على الحكمِ،
فيُقدمُ لأنه أقوى.
والسابعُ: أن يكونَ [مع] (2) أحدِهما تفسيرُ الراوي، فيُقدمُ؛
لأن الراويَ أعرفُ بالمرادِ.
والثامنُ: أن يكونَ أحدُهما ورَدَ على غير سببٍ، فهو أوْلى مما
وردَ على سببٍ؛ لأن ما وردَ على سببٍ مُختلف في عمومِه، وما لم
يَرِد على سببٍ مُجمَع على عمومِه.
والتاسعُ: أن يكونَ أحدُهما ناقلاً، فهو أوْلى؛ لأنه يُفِيدُ
حكماً
__________
(1) في الأصل: "أحدهما".
(2) ليست في الأصل.
(2/354)
شرعياً (1)
والعاشرُ: أن يكونَ أحدُهما إثباتاً والأخرُ نَفْياً،
فالإثباتُ أوْلى؛ لأن مع المُثبِتِ زيادةَ حكم ليست (2) مع
النافي.
والحاديَ عشرَ: أن يكونَ أحدُ الخَبَريْنِ مُتأخراً، فيكونُ
أوْلى؛ لأنه أحدَثُ الأمرَيْنِ، وقد قال ابنُ عباس-رضي الله
عنه-: كنا نَأخُذُ من أوامرِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم
- بالأحدَثِ فالأحدَثِ (3).
__________
(1) أي: أن يكون أحد الخبرين ناقلًا عن حكم الأصل والبراءة،
والآخر مقرراً ومبقياً لمقتضاهما، فيقدم الناقل، لأنه يفيد
حكماً شرعياً ليس موجوداً في الآخر. انظر "منهاج الوصول" مع
شرحه "نهاية السول"4/ 501، و"البحر المحيط" 6/ 169، و"شرح
الكوكب المنير" 4/ 687، و"التمهيد" 3/ 209.
(2) في الأصل: "ليس".
(3) هو طرف من حديث، وليس في شيء من رواياته: "كنا نأخذ"،
وإنما الذي فيها: "كانوا يأخذون"، أو "كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأخذون"، أو"إنما يؤخذ بالآخر فالآخر"، أو ما
شاكلها. والصحيح: أنه مدرج من قول الزهري في حديث ابن عباس كما
سيتبين ذلك من تخريجه.
وقد أخرجه مالك 1/ 294، والشافعي 1/ 271، وعبد بن حميد (648)،
والدارمي 2/ 9، ومسلم (1113)، والطبري في "تهذيب الآثار" 1/
101 و 101 - 102 و102، والطحاوي في" شرح معاني الآثار"2/ 64،
وابن حبان (3003) و (3563) و (3564)، والبيهقي في "السنن" 4/
245، وفي "الدلائل" 5/ 21، والبغوي في"شرح السنة" (1766) من
طرق عن ابن شهاب الزهرفي، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن
عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في
رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيد، ثم أفطر، وكان =
(2/355)
والثاني عشرَ: أن يكونَ أحدُهما أحوَطَ،
فهو أوْلى.
والثالثَ عشرَ: أن يكونَ أحدُهما حاظراً والآخرُ مُبيحاً، ففيه
مذهبان، قد قَدمْنا ذكْرَهما:
__________
= صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث
من أمره. كذا بإدراجه في الحديث من غير فصل.
وأخرجه مسلم (1113)، والبيهقي 4/ 246 من طريق يونس بن يزيد
الأيلي، عن ابن شهاب، به. وفي آخره: قال ابن شهاب: فكانوا
يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، ويرونه الناسخ المحكم.
وأخرجه الطيالسي (2718)، والحميدي (514)، وابن أبي شيبة 3/ 15،
و 14/ 500، وأحمد 1/ 219، ومسلم (1113)، والنسائي 4/ 189،
والطبري في" تهذيب الآثار"1/ 100 - 101، وابن خزيمة (2035)،
والبيهقي في" السنن "4/ 246 من طرق عن سفيان بن عيينة، عن
الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن النبي صلى
الله عليه وسلم خرج يوم الفتح، فصام، حتى إذا كان، بالكديد،
أفطر، وإنما يؤخذ بالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وزاد بعضهم في آخره: قيل لسفيان: قوله: "إنما يؤخذ بالآخر" من
قول الزهري أو قول ابن عباس؟ قال: كذا في الحديث.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9738)، ومن طريقه أخرجه عبد بن
حميد (645)، والبخاري (4276)، ومسلم (1113)، والبيهقي في
"السنن" 4/ 240 - 241، وفي "الدلائل" 5/ 21 - 22 عن معمر، عن
الزهري، به وسياقه أتم. وفي آخره: قال الزهري: و"نما يؤخذ من
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر.
قال الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبْر الخَبَر"1/ 85: وجَزْم
معمر ويونس وابن إسحاق بفصل المرفوع من الموقوف، فقَدمَ على
تردُّد سفيان، وعلى إدراج من أدرجه، والله أعلم.
(2/356)
أحدُهما: أنهما سواءٌ.
الثاني: أن الحاظرَ أوْلى وهما وجهان لأصحابِ الشافعيِّ (1)
فصل
في ترجيح المعاني
وذلك من وجوه:
أحدُها: أن يكونَ أصلُ أحدهما منصوصاً عليه، فهو أوْلى، لأنه
أقوى.
والثاني: أن يكونَ أصلُ أحدِهما ثبتَ بدليل مقطوع به، فيُقدمُ
على ماثبتَ بدليل غيرِمقطوع به.
والثالثُ: أن يكونَ لأحدِهما أصولٌ، فهو أوْلى، لأنها أقوى في
النَظَر؛ لكثرةِ شواهدِها.
والرابعُ: أن يكونَ أحدُهما قِيسَ على أصل نُص على القياسِ
عليه، فهو أوْلى، لأنه قياسُ الشرْعِ.
والخامسُ: أن يكون أحدُهما مقيساً على جنسِه، فهو أولى، لأنه
أقربُ إليه.
والسادسُ: أن تكونَ إحدى العِلتَينِ منصوصاً عليها، فهو أوْلى،
لأنها أقوى.
والسابعُ: أن يكونَ وصفُ إحداهما محسوساً، ووصفُ الأخرى
__________
(1) انظر "المعونة في الجدل" ص 277، و"نهاية السول" 4/ 502 -
503.
(2/357)
حُكْمياً، ففيه مذهبان، ولأصحابِ الشافعيِّ
فيه وجهان:
أحدُهما: المحسوسُ أوْلى، لأنه أثبتُ، وهو الغايةُ التي يُرَد
إليها المعلومُ، والحِس أدَل على الحكمِ.
والثاني: أن الحكميَّ أوْلى، لأن الحكمَ من جنسِ الحُكمِ،
والجِنْسُ أدل على جِنْسِه وأقربُ إليه.
والثامنُ: أن يكونَ أحدُهما إثباتاً، والأخرُ نفياً، فالإثباتُ
أوْلى، لأنه مُجمَع على جوازِهِ، والنفيُ مُختلَف فيه.
والتاسعُ: أن يكونَ وصف إحداهما اسماً، ووصفُ الأخرى صفةً،
فالصفةُ أولى، لأنه مُجمع عليها، والاسمُ مُختلَف فيه.
والعاشرُ: أن تكونَ إحداهما أقل أوصافاً، ففيه مذهبان، قد،
قَدمْنا ذِكْرَهما:
أحدُهما: القليلةُ الأوصافِ أوْلى، لأنها أسلمُ.
والثاني: الكثيرةُ الأوصافِ أوْلى، لأنها أقوى في التشبيهِ
بالأصلِ.
والحاديَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما تَطرِدُ وتَنعكسُ، والأخرى
تَطرِدُ ولا تَنعِكسُ، فالتي يَجتمعُ لها الطرْدُ والعكسُ
أوْلى.
والثاني عشرَ: أن تكونَ إحداهما تُوجِبُ احتياطاً، فهي أولى،
لأنها أسلمُ.
والثالثَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما تَوجِبُ الحَظْرَ، والأخرى
تُوجِبُ الإِباحةَ، فقد ذكرنا فيما سبقَ مذهبين، ووَجهْناهما.
(2/358)
والرابع عشرَ: أن تكونَ إحداهما ناقلةً،
فهي أولى.
والخامسَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما تُسقِطُ الحَد، والثانيةُ
تَوجِبُ الحد، وتُوجِبُ الجِزْيةَ، والأخرى تُسقِطُها، ففيه
مذهبان:
أحدهما: هما سواءٌ.
والثاني: ما يُسقِطُ الحد أوْلى، وُيوجِبُ الجِزية أوْلى.
والسادسَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما توافقُ دليلاً آخرَ لأصل أو
معقولِ أصل، فهي أوْلى، لأنها أقوى.
تَم جدلُ الفقهاءِ، والله المحمود.
(2/359)
فصول الخطاب
فصل
اعلمْ وفقكَ الله أنه لما كان مبنى أصول الفقه على خطابِ الله
سبحانَه وخطاب رسوله، وفحواهما ودليلهما، ولحنِهما ومعناهما
المستنبط منهما، وقياس المسكوتِ عنه على المنطوقِ به بما
يوجبُه الاستنباطُ من التعليلِ، وجبَ تقديمُ بيانِ الخطابِ
واستيفاءِ القولِ فيه، لاشتمالِه على أبواب الأوامر والنواهي
والأخبار، وما تفرعَ عليهما من الإيجابِ والندبِ والكراهةِ
والحظرِ، والتقييدِ والإطلاقِ والعمومِ والخصوصِ، والناسخ
والمنسوخِ، وفحوى الخطاب ودليلهِ ومعناه، فذلك كلهُ فرعٌ لهذا
الأصل.
فصل
اعلمْ أنَ الخطابَ من الله سبحانه لمن خاطبه من خلقِه من
ثلاثةِ طرق:
سماعٌ منه سبحانه بلا واسطةٍ، كخطابِه لموسى ومحمدٍ صلى الله
عليهما وسلم.
وخطابٌ بواسطةِ الملَك؛ كخطابِه لجماعةٍ من الأنبياء صلواتُ
الله
عليهم.
وكل ذلك حروفٌ وأصواتٌ تنتظمُ معاني الخطاب، الذي هو استدعاءٌ
لفعلٍ أو تركٍ أو إخبارٍ عن ماضٍ أو مستقبلٍ، متلقى من لدنِ
الله جلتْ عظمتهُ، أو من الملَكِ على ما نطقَ به الكتابُ
العزيزُ.
(2/360)
والثالثُ: ألقيَ إلى قلوبِ الرسلِ، إمّا
إلهاماً في اليقظةِ، وإما مناماً.
والثلاثة اجتمعتْ لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، قال له
كفاحاً وسماعاً منه بلا واسطةٍ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285] إلى آخر ما
وردَ به الحديث (1)، ثم قال: فألهمني أن قلت. ففرق بين قال لي،
وألهمني فى حال واحدة.
وقال له بواسطةٍ، هو جبريلُ عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [سورة العلق: 1] {يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1
- 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ}
[المدثر: 1 - 2]. وأخبرَ - صلى الله عليه وسلم - فيما صحَت به
السنَنُ الصحاحُ عنه: "فقال: لي كذا فقلت كذا"، "حيث انقطعَ
جبريلُ عني". وكان كما قالَ سبحانه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ
أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}
[النجم: 9 - 10].
وقال مما ألقاه في نفسِه وروعِه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ
__________
(1) روى أبو حيان والقرطبي عن الحسن ومجاهد وابن سيرين وابن
عباس -في رواية- أنَ هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل وسمعهما
النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج بلا واسطة. انظر
"البحر المحيط" 2/ 364، و"الجامع لأحكام القراَن" 3/ 425.
وأخرج مسلم في صحيحه (173) عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول
الله صلى الله عليه وسلم انتُهيَ به إلى سدرة المنتهى ... قال:
فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أُعطي الصلوات
الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من
أمته شيئاً المقْحِمات.
(2/361)
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:
193]
وقال النبيُ - صلى الله عليه وسلم -: "إن روحَ القدسِ قذفَ في
روعي أن لا تخرج نفسٌ من دارِ الدنيا حتى تستوفيَ ما قسمَ
اللهُ لها من رزقٍ وأجلٍ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (1).
فكانَ في أولِ الأمرِ يرى المناماتِ، فتأتي كفلقِ الصُبح على
ما روى في السننِ الصحاح (2).
فهذه طرقُ الخطابِ من الله سبحانَه لهُ، وقد دلَّ على هذِه
الأقسامِ الثلاثة قولُه سبحانَه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}
[الشورى: 51] ولا يجوزُ أن يكونَ الكلامُ من وراءِ حجابٍ وحياً
أيضاً؛ لأنهُ يخرجُ أن يكونَ التقسيمُ صحيحاً، ويدلُّ على ذلك
قولُه تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا
إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]،
وذكر ثلاثةَ عشرَ نبياً كلهم بسياقِ الوحي، فلما انتهى إلى
موسى قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:
164]، فثبتَ أن تكليمَ موسى بغير واسطةٍ، لتخصيصه بالتكليمِ
بعد ذكرِ ثلاثةَ عشرَ نبياً من الرسلِ بالوحي.
__________
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم، القضاعي في "مسند الشهاب" 3/ 185 (1151)،
والحاكم في "المستدرك" 2/ 4، والبغوي في "شرح السنَة" (4112)
14/ 304.
(2) أخرجه أحمد 6/ 232، والبخاري (3) و (3392) و (4953)، و
(4955) و (4957) و (6982)، ومسلم (160) و (253) و (254)، وابن
حبان في صحيحه (33).
(2/362)
فصل
فأمَّا طرقُ الخطابِ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنا:
فبالنطقِ والإشارةِ المفهومةِ للحاضرينَ، وبالمكاتبةِ
للغائبين: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ...} الى قوله {فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل
عمران: 64] والإقرارُ الذي جعلَته الدلالةُ كالقولِ، والإذنِ
في القولِ والفعلِ اللذَين يقر عليهما.
وقد جَمع اللهُ سبحانَه فوائدَ الخطابِ في قولِه تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
ففائدة منثورِ الخطابُ ومجموعِه: بيانُ ما كلفهم.
فصل
وأوَّل متلقى به الخطابُ، الإصغاءُ، ثم الفهمُ، ثم الاعتقادُ،
ثم العزمُ، ثم الفعلُ، أو التركُ، والانتهاءُ إن كان الخطابُ
أمراً أو نهياً، والتصديقُ إن كان خبراً، والرجاءُ الزائدُ على
التصديقِ بالوعدِ، والخوفُ الزائدُ على التصديقِ بالوعيدِ.
قال الله سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، فالحضورُ للسماع والإنصاتُ
للفَهِم، والإنذار تبليغاً لمبدأ الأمر: {يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2]
والائتمارُ واجبٌ. ولا يوصَلُ إليه إلا بالإصغاء والفهم بعد
السمع، وما لا يتوصلُ إلى الواجبِ إلا به فهو واجبٌ.
(2/363)
فصل
وقد اختلفَ الناسُ في أصلِ الخطابِ الموضوعِ للتفاهمِ بينَ
الناسِ من أسماءِ الأشياءِ في كلِ لغة (1):
فقال قومٌ: هو مأخوذٌ ومتلقى من جهة التوقيفِ الإلهي: إمَّا
الوحي، أو المكالمةُ لمن تولى خطابَه أو إلهامه ذلك لخلقه. وهم
أهل الظاهِر، وجماعةٌ من الفقهاءِ، وبعضُ المتكلمينَ.
وقالَ قوم: هو متلقى من جهةِ مواطآتِ أهلِ اللغاتِ وتواضعِهم
عليه. وهم جماعةٌ من المعتزلةِ، وغيرهم من المتكلمينَ.
وقال المحققونَ: الكُل طرق للخطاب، فبعضُه بوضعِ الشرع وإلهامِ
الله سبحانَه لبعضِ الخلقِ، وبعضُه بالقياسِ المستنبط
بقرائِحهم، وإلحاقِ ما لم يوضع له اسمٌ بما وضِعَ لهُ اسمٌ،
وإشراكه بِهِ في الاسمِ، لما اجتمعا فيه من نوعِ خصيصةٍ أو
صورةٍ، وبعضُها
__________
(1) ارجع في هذه المسألة إلى "العدة" 1/ 190، و"التمهيد" 1/
72، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 471، و "شرح الكوكب المنير" 1/
285، و"المستصفى" 1/ 318، و "المحصول" 1/ 181، و "البحر
المحيط" 2/ 16، و"إرشاد الفحول" ص (12).
(2/364)
بالمواضعةِ، ولعل المواضعةَ توافقُ ما جاءَ
من جهةِ التوقيفِ والِإلهام، فيتواطأ الوضعُ الذي أحدثَه
الناسُ والوضعُ الإلهامي أو لا يواطِئهُ.
وهذا بابٌ لا يمكن سدُّه ولا جحدُه، لأن كلًا من الطرقِ قد دل
عليه دليل من النقلِ.
فدليل التعليمِ لمن علمه قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، وهذا صالح للإلهام
أيضاً، فإن تعليمَ الله سبحانه لمن علمه يَقعُ بالإلهامِ
تارةً، وبالمكالمةِ تارةً، بدليلِ قولِه سبحانَه:
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] وكان تعليم داودَ لصناعةِ الحديدِ
في قولِه تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ
اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10 - 11].
ودليلُ الوضعِ بالتواضع، استعاراتُ العربِ للأسماءِ المجازيةِ
من الحقائقِ الأصليةِ، من طريقِ المشاكلةِ والمقاربةِ بين
المستعارِ له والمستعار منهُ، مثلُ تسميتِهم الكريمَ والعالمَ
والفرسَ الجوادَ: بحراً، لمكان الفَيض والنيلِ والاتساعِ.
وتسميتِهم المقدام: أسداً وشجاعاً، وما ذلك إلا وضع ناقل
للأسماءِ الموضوعةِ إلى غير ما وضعتْ له، بنوع من قياسِ
المقايسةِ. وهذا منقولٌ عنهم مستفاضٌ في نثرهِم ونظمِهم.
فصلٌ
وذهبتْ طائفةٌ من القائلينَ بأنَ الخطابَ مواضعةٌ، أنَ
مواضعتَهم سابقةٌ لخطاب الله سبحانَه لهم، إذ لو لم يسبقْ منهم
مواضعةٌ، لما فهموا خطابً الله سبحانَه لهم، لكن لما عهدتْ
مواضعتُهم فهموا
(2/365)
خطابَ الله سبحانَه بما قد استقر بينَهم
وعندَهم من التفاهم للمعاني بدليلِ الخطابِ،
فالدلالةُ على فسادِ قوِلهم: أنَ الله سبحانه قادر على أن
يضطَرهم إلى فهمِ ما يخاطبهُم به ويلهمَهم فهمَ معانيه، وإذا
تحققَ ذلك وصحَ، بطلَ القول باشتراطِ سبقِ المواضعةِ منهم
لخطابِه سبحانَه لهم.
وآيةُ ذلك: أنه سبحانَه ألهمَ من الهدايةِ إلى أشياءَ، لا
يخرجُ بالعلوم الاستدلاليةِ مثلها، من ذلك: إلهامُ الطفلِ
تناولَ الثدي ثم التقامَه إَياهُ، لا يرشدهُ أنّ ما فيهِ من
اللبنِ ممتنغ عن الجري إلا بنوع جذب ومص، فألهمَه اللهُ
سبحانَه الالتقامَ ثم المص، وألهمَ النحلَ عمل المسدساتِ التي
يعجزُ عنها كثير من أهلِ الخبرةِ بالهندسةِ، والهامُ البهائم
التداوي بالحشائشِ المنتفعِ بها في أوقاتِ الفصولِ التي يختصُ
بمعرفِتها بعضُ الناسِ من العلماءِ، وإلهامُها زق أفراخِها
زمنَ العجزِ عن النهوضِ، وفطامَها حينَ نهضتها، وإلى أمثالِ
ذلك.
وهذا إلقاء من اللهِ سبحانه، فهذا يوضحُ أن إلقاءَ الفهمِ
لمعاني الخطاب لا يعزبُ عليه سبحانَه، فلا حاجةَ بنا مع معرفةِ
الجملةِ، أن نشترطَ سبقَ المواضعةِ من الخلقِ لخطابهِ لهمْ بما
يخاطبُهم بهِ في مصالحِهم، لأنَ الفَهم ليس بأكثرَ من الإلقاءِ
إلى قلوبِ المخاطبين وجدانَ المعاني المقصودةِ من الخطاب، وذلك
بعينه هو إلهامُ القلوبِ ما فاضَ على الأدواتِ من الصنائعَ
والأعمالِ والتروكِ والاجتنابِ، بحسب المصالحِ الحاصلةِ
للحيوانِ اَلملهمِ ولنوعهِ.
ثم إنَا ندخلُ عليهم من نفسِ المواضعةِ فنقولُ: أليسَ قوةُ
(2/366)
المواضعةِ من جهةِ الله سبحانَه؟ فإذا كان
هو الممد بالقوةِ التي تتحصل بها، وتصدرُعنها المواضعةُ للخطاب
الذي يحصلُ به التفاهمُ فيما بينَهم، كان إمدادُه لهم فهوماً
لما يخاطَبهُم به، مغنياً عن اشتراطِ سبقِ مواضعتهم للمخاطبةِ.
وفي الجملةِ والتفصيل: أنَّ جميعَ الفهوم التي صدرتْ عنها
المصالحُ، هو الذي أمد الخلقَ بها، فكما أنهُ خلقَ الأشياءَ
المنتفعَ بها وألهَم الخلقَ الفهومَ للتسبب إليها، وبلوغِ
أغراضِهم ومآربهم منها، هو الذي أنزَل الخطابَ وألهمهَم الفهمَ
لمعاني الخطابِ.
فكما لا يشترطُ تقدمُ التجارب على إمدادِ الله سبحانه بمعرفةِ
المصالح والتوصلِ إلى الأغراضِ، كذلك لايشترطُ تقدمُ التخاطبِ
بينهم على ما ورد إليهم عنهُ من الخطابِ.
وما هذا القولُ من هذهِ الطائفةِ، إلا كقولِ من قَال: بأنَه لا
سبيلَ لنا إلى العلمِ بالخطاب من الله سبحانه، إذا لم يسبقْ
لنا معرفة له، بمثلها نعلمُ الصوتَ الذيَ نسمعهُ عنة، ولارؤية
منّا لهُ مقارنة، نعلم أنّهُ هوَ المخاطِبُ، فلا صلةَ إلى
العلم بخطابه. ولا جوابُنا عن هذا القولِ إلا كجوابِنا لهُ
-لذلكَ القائِل- وهو: أن في قدرةِ اللهِ سبحانَه، أن يقيمَ لنا
من الدلاْئلِ على أنَ الخطابَ خطابهُ، بمثلِ ما دلنا بهِ عليه
من الأفعالِ التي لا ينبغي للخلقِ فعلُها من الأفعالِ
الخارقةِ، كدك الجبلِ، وإصعاقِ موسى، وقلب العصا ثعباناً. فدل
ذلك موسى على أن القائلَ له: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] هو الذي صدر عنه تلك
الأفعالُ التي لا تنبغي إلا لله. ودل ما جاء
(2/367)
به من الآياتِ لقومهِ على أنه رسولُ الله.
فكما لم نعرفْ في القدرةِ إقامةَ الدلالةِ على أنَّ الخطابَ
خطابهُ، لم نعرفْ في القدرةِ تفهيمَ السامعينَ لخطابِه، ما
وجهه نحوهم من خطابِه، فيوقعُ لهم الفهمُ عقيبَ الخطابِ.
ومما يدل على ذلك: أنَّ الإنسانَ مع كونه خلقا من خلقِ الله،
وصنعةً من صنائعِه، قد توصلَ إلى تفهيمِ الحيوانِ البَهيمِ ما
يريدهُ منه من الصنائعِ والأعمالِ والاصطيادِ، والسعي والوقوفِ
بحروفٍ وأصواتٍ يشيرُ بها فيقفُ إذا أوقفهُ، ويسعى إذا
استسعاهُ، ويقدمُ على الصيدِ تارةً إذا أرادَ منهُ الِإقدامَ،
ويحجمُ إذا أراده بالِإحجام.
وكذلكَ خطابُهم الأطفال بكَخْ للقذرِ، وماح للحَلوِ، وواوا
للمؤلمِ، وداح للمليحِ، ولكل شيء نطق يفهمونَ منه.
وكذلكَ: ما يتواضعُه الخرسُ من الإِشاراتِ من بعضِهم لبعض، ومن
الناطقين لهم، كلُّ ذلك يُعْقِبُه الله سبحانَه بإلقاءِ
التفهيمِ إليهم وعنهم مع عدمِ سابقِ مواضعةٍ منهم للإِشارةِ،
بل الإشارةْ يتبعها الفهمُ، فأولى أنْ يكونَ اللهُ سبحانه
يعقبُ خطابَه لمن خاطَبَه بإفهامِه معنى ما خاطبهُ، وهو
الخالقُ الصانعُ القادرُ.
فصل
والدلالةُ على إفسادِ قولِ من قالَ: بأنَّ الخطاب والتخاطب
والأسماءَ كلها توقيف، وأنه لولا ذلك لما تمتْ لهمْ مواطأةٌ
على خطابٍ، ولا تخاطبَ يتخاطبونَ به، هو:
أنَّ الله سبحانه لما خلَقهم أحياءَ ناطقين، كما خلقهم أحياءَ
(2/368)
قادرينَ، وكان في قوةِ خلقِهم وصحةِ
قرائِحهم تواضعُ صورٍ اكتسبوها في الأجسامِ، بحسب دواعيهم
وعوارضِ حوائِجهم، مثلُ نجارةِ الباب والدولاب، وصناعةِ
الَسيفِ والمنشارِ، وفتلِ الحبالِ أسباباً موصلةً إلىَ إصعادِ
الَمياهِ من قعورِ الآبارِ، وأشباهِ ذلك، كان في قوةِ ما وضعهُ
فيهم من النطقِ، أنْ يصوغوا من الأصواتِ والحروف صيغاً توصلُهم
إلى الأغراضِ من التفاهمِ والتخاطب، بما يعرضُ لهم من الدواعي
الواقعةِ من بعضِ إلى بعضٍ، واستعانةِ بعضِهم ببعضٍ.
وقد قال العقلاءُ الأولُ: الحاجةُ تفتق الحيلةَ. وهذا كلام
حسن، لأنَّ الدواعيَ إلى الأشياءِ تحملُ الحى على التوصلِ،
فالجائعُ يدري كيفَ يُحصِّلُ الطعامَ، ولعلَّ الحاجةَ إلى
الطعام تفتحُ له أبواباً لتحصيلهِ، ولذلكَ ترى أولادَ
المترَفين أبطأ في الشهامَةِ والفراهةِ من أولادِ المرتادين
للمعاشِ، لما وطنوا أنفسَهم عليه من الغنى بغيرهمِ عنهم، ولله
في خلقِه جواهرُ كامنةٌ أصليةٌ لا تظهرُها إلا حاجتُهم ولا
تكشفُها إلا ضرورتُهم.
ولما كان من ضرورةِ الأحياءِ إلى التفاهمِ والتخاطبِ، كما كان
من- ضرورتِهم تحصيلُ المآكلِ والمشارب وجميعِ المآربِ، وكان
فْي قريحتهم ما يحصلونَ به أغراضَهم من أنوَاعِ حاجاتِهم من
غير تقديم تعليمٍ، ولاتفهيمٍ من غيرِهم لهم، كانَ في قوةِ
نطقهم ما يلجئهم إلىَ مواضعةِ ما احتاجوا إليه من التخاطب
للتفاهِم، إذ كانت حاجةُ بعضِهم إلى بعضٍ، كحاجةِ الحى إلى ماَ
يستمدهُ للبقاءِ من تناولِ الشراب والغذاءِ والوطاء والوِقَاءِ
والكن (1) ودفعِ الأذى، وغيرِ ذلك من الأوطارِ (2).
__________
(1) الكِن: وقاءُكلِّ شيءٍ وستره.
(2) في الأصل: "عن الأوطان".
(2/369)
حتى إنّهم وضعوا الخطابَ بالمناجاةِ
للحاضِر القريب، والمناداة (1).
للحاضِر البعيدِ، والمكاتبةَ للغائِب الذي لا ينتهي إليه
الصوتُ في الهواءِ، فلا ينكرُ لهؤلاءِ اكتسابُ تخاطبٍ
للتفاهمِ.
ومما يدلُّ على صحةِ ذلك: أننا نجدُ اليومَ من تجدد لصنائعَ
محدثةٍ أِنتجتْها القرائحُ، آلاتٍ وأدوات لم تكنْ، ونضع لها
أسماءً بالاصطلاحِ، فيُفْهَمُ بذلكِ الوضع، المرادُ من
المستدعي لها، كما تَجددَ من الحوادثِ، وتجددت لها أحكام
استخرجها متأخرو الفقهاءِ، لم تكنْ في ابتداءِ الإسلام، وما
أحدثوا من المباني والصورِ والملاهي وغيرِ ذلك مما حددوا له
أَسماءَ بحسب تجدده، وحركوا سواكنَ الطباعِ الأربع باستخراجِ
أصواتٍ.
ثم وَضعُ الموسيقى؛ فطريقة لإيقاظ الحزن، وطريقة لإيقاظِ
السرورِ، وطريقةٌ للتشجيع والإقدام على الحرب (2)، هذا
وأمثالُه مما يوضَحُ ما ذكرناه من القدرةِ والنحَيزة (3).
فصل
يجمع شُبهَ القائلينَ بأن الكل توقيفٌ.
قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
[البقرة: 31] فلم يبقَ لنا اسمٌ تقدحُه القريحةُ، ولا تتيحهُ
الغريزةُ، ولا يضعهُ المتواضعون.
وقال سبحانه للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}
[البقرة: 31] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا
مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ} [البقرة: 32] فدلَّ على أنَ
آدمَ والملائكةَ لا يعلمونَ إلا بالتعليمِ بهاتين الآيتين، فلم
يبقَ كلامٌ يضعهُ الأحياءُ من
__________
(1) في الأصل: "المناجاة".
(2) الضرب بالآلات المطربة محرم، لأنها تصد عن ذكر الله، إلا
الضرب بالدف في النكاح فهو مباح. انظر "الكافي" لابن قدامة 6/
199.
(3) النحيزة: الطبيعة.
(2/370)
تلقائِهمِ. وقال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا
فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] {تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}
[العلق: 3 - 5]، فأضافَ تعليمَ النطقِ والكتابةِ إَليه، فلم
يبقَ منطوق به ولا مكتوب يفتعلهُ الإنسان أو يكتسبهُ.
وقد كانت الملائكةُ قبلَ خلقِ آدمَ متفاهمةَ مخاطبةَ بدليلِ
قولهِ سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا
...} [البقرة: 30]، الآيات. فقد كانوا يفهمون الخطابَ
ويخاطبون، ومع ذلك نفوا العلومَ عن نفوسِهم، واستثنوا ما
علّمهمْ سبحانَه، فدل بهذِه الآياتِ أن لا شيءَ من الكلامِ
بمواضعةٍ، وأنّ جميعهَ تعليم من الله سبحانه.
فصل
يجمعُ الأجوبة عن جميعِ ما ذكروه.
وهو أنّه لا حجةَ في الآيةِ على مقالتنا ولا لمقالتِهم، لأنّا
لا ننكرُ أن يكونَ الله سبحانه علمَ آدمَ الأسماءَ، لكنْ من
الذي خصَّ التعليمَ بالخطابِ والإسماع له أسماءَ الأشياءِ؟،
وما المانعُ من أن يكونَ التعليمُ بالخطاب وبالتفهيمَ
والإلهام؛ وجعلُه على صفةِ من يحددُ أسماءَ بالمقايسةِ على ما
علمه بالمخاطبةِ، أو يحدث أسماءَ بالمواضعةِ مزيدةً على علمه
بالإلهام والمخاطبة. والمدحة لآدمَ بالطريق الذي نقولُه أوفى
من المدحةِ والتفضيلِ بما يقولُه المخالفُ.
والآية خرجتْ مخرج التفضيلِ لآدمَ عليهم في العلمِ، فالطريقُ
الذي نقولُه استخراجُ آدمَ للأسماءِ استنباطاً من صورِ
المسمياتِ وإحداثُ أسماءٍ لما لم يسمَّ بالقياسِ على ما سمي،
وإلحاقُ كلُّ اسم بمحلٍ يشاكلُ المحَل المسمى بالتوقيفِ.
(2/371)
وذلك يعطي قوةَ الرأيِ والاجتهادِ
والتشبيهِ، وهو أوفى من الحفظِ بالتلقينِ.
ولذلك مدحَ المعقولاتِ فقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا
الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43] والفهومَ، فقال:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وذَمّ الذي لم
يحظَ من الكتابِ إلا بالتلاوةِ فقال: {لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] يعني، تلاوةً،
وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}
[العنكبوت: 43]. فالفضيلةُ الكليةُ في علمِ الأشياءِ بطريقِ
فهمِ المعنى، والقدرةِ على إلحاقِ ما لم يسم بما سمّي بمعناه
المشاكلِ لهُ به، وما هذا في باب الأسماءِ إلا بمثابةِ فقهِ
الحديثِ بالِإضافةِ إِلى حفظهِ، فإنَّ الفقيه بمعانيه الذي
يُعدّي الأحكامَ بالمعاني، ويفرِّعُ على الأصولِ، أفضلُ من
الحافظِ لنطقِ الأحاديثِ.
ومن وجهٍ آخر: وهو أن سؤالَهم كانَ. عن الفسادِ في الأرضِ،
عندَ إعلامِهم أنهُ جاعل في الأرض خليفةً، فالحفظُ للأسماءِ
نطقاً، ليس بالمنافي لإيقاعِ الفسادِ والمنع منه، لكن الفهمُ
للمعاني ووضعُ كلِ مسمى موضعه، هو الدالُّ على فضيلةِ العلمِ
المانعِ من جري الفسادِ في الأرض. مع كونِ المستخلفِ عارفاً
بمصالحِ أهلِ الأرض. على أن الآيةَ لوَ دلتْ على تعليمِ آدمَ،
لم يكُنْ فيها مانعٌ من كونِ أهلِ الأرضِ بعد آدمَ تواضعوا
الأسماءَ والتخاطبَ، بما وافقوا بهِ ما علمه آدمُ بقرائِحهم،
أو وضعوا لنفوسِهم وضعاً، إمَّا لما كانَ في زمنِ آدمَ، أو لما
تجدّدَ بعدَ آدمَ من الأغراضِ، فزادهم الله طريقاً، وجعلَ لهم
سبيلًا بحسب ما تجدَّد لهم من الحوادثِ، التي لم تكُنْ في زمن
آدمَ كما جدد اللهَ سبحانه لأمةِ مُحَمدٍ - صلى الله عليه وسلم
- دفةَ الاجتهادِ، لِإحداث الأقيسة
(2/372)
لما حدثَ، ولم يردْ فيه نطق على ما نطقَ به
- صلى الله عليه وسلم -، حتى لوِ رآهُ النبي صلى الله عليه
وسلم أو سمعَ به لاستحسنةَ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم
غنياً عنه، بما كان ينزلُ إليهِ من الوحي من اللهِ سبحانَه،
فصارتِ الأسماءُ المتجددةُ المتسعةُ باتساع حوائج بنَي آدم،
كالأقيسةِ المتسعةِ والعلومِ المتجددةِ بعد موتِ نبينا - صلى
الله عليه وسلم - فليسَ هاهنا تمانعُ تقابلِ الَآيةِ في حقِ
آدمَ، بقولِه في حقِ نبَينا - صلى الله عليه وسلم -:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
[النحل: 89]، ثم إنَّهُ لما حدثتِ الحوادثُ بعدهُ، نهضتْ
قرائحُ القائسينَ بإلحاق المسكوتِ بالمنطوقِ، وكان الكمالُ
الأولُ غيرَ مانع من استنباطِ الأواخِر، كذلكَ في بابِ
الأسماءِ مع ما علِمهُ آدمُ من الأسماءِ.
ولا اختلافَ بين نطقِ الآيةِ وحقيقةِ المذهب الذي ذهبنا إليه
بحمدِ الله ومنّه، ولا فيها ما يثبتُ مذهبَ المخالفِ، من نفي
ما أثبتناهُ من إحداثِ التخاطبِ واكتسابِ التفاهمِ، بالمواضعةِ
المزيدةِ على المتلقاةِ من وضعِ الشرعِ وإفادةِ الوحي.
جواب ثالثٌ: وهو أنة يجوز أن يكونَ قولُه: {الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا} راجعاً إلى ما كانَ قد خلقة الله في السماءِ من
الملائكةِ والجَنةِ وما فيها وذكرها باسمِ "كلُّ"، لأن
المسمياتِ الحاضرةَ التي كان خَلقها سبحانه هي الكلُّ، إذ لم
يكنْ من صنائعِ الآدميين وأوانِيهم وآلاتِ إعمالهمِ شىِء حاضر،
ووَكلَ تسميةَ ما تجددَ من أسماءِ المسمياتِ إلى أولاد [آدم]
عند انفتاحِ أبوابِ قرائِحهم، لاستخراجِ تلكَ الأشياءِ، ثم
جعلَ في
(2/373)
قواهم أنْ جدًدوا لها أسماءَ بنطقِهم، كما
كان في قواهم التي منحَهم أن جددوا صورَها وأعمالَها الدقيقةَ،
والأعمال الدقيقة التي جددتها قرائحهم عند احتياجِهم إليها،
كان في قوةِ نطقِهم التي منحهم أن صاغوا لها أسماء، وضَعوها
لها وسموها بها، واللهُ أعلم.
فصل: لبيانِ الفرقِ بين تفهيمِ اللهِ سبحانه للخطاب، وبين
تفهيمِ المخلوقين بعضِهم بعضاً.
فصل
لبيانِ الفرقِ بين تفهيمِ الله سبحانه للخطابِ، وبين تفهيمِ
المخلوقين بعضِهم بعضاً.
اعلمْ وفقكَ الله، أنا لما جعلنا أحدَ طرقِ وضعِ الخطاب
المواضعةَ، وجبَ علينا أن نبيِّن كيفَ يبتدا الإنسانُ
بالتفهيمِ لصيغ مبتكرةٍ، لم يسبقْ من مخاطبه تفهيمُ معناها،
فإَنا لما بينا بالدلالةِ قدرة الله سبحانه على اضطرارِ من
خاطبهُ من خلقهِ، إلى فهمِ ماخاطبَه به، وكان ذلك يعزبُ في
قدرةِ المخلوقِ، إذ لا قدرةَ له إلا على إنشاءِ الصيغِ التي
وضعَها لأمورٍ أرادَها بها ووضَعها لها، فأمَّا إنشاءُ الفهمِ
لمن خاطَبه بمعاني مرادِه منها فلا قدرةَ لهُ على ذلك، وجبَ
علينا بيانُ الطريقِ الذي يحصلُ به تفهيمُ خطابهِ كما بينا
طريقَ قدرتِه على وضعِ صيغِ خطابهِ، ونظمهِ للحروفِ المعبرةِ
عن مرادهِ.
فنقولُ وبالله التوفيق: إن الواضعَ لصيغِ الخطاب لا يزالُ
يخاطبُ بالاسمِ نطقاً، ويشيرُ إلى المسمى بتلك الصيغةِ
إشارَةً، تنبه المخاطبَ أن هذهِ الصيغةَ لهذا المشارِ إليه،
ولا يزالُ كذلكَ، إلى أن يستقرَ في نفسِ المخاطب بهذا الخطاب
وهذا الاسمِ، أنه اسم لذلك المشارِ إليه، وهذا دأبُ الأباءِ
والأمهَاتِ مع الأطفالِ، والمعلمينَ للبهائم الصنائع،
والناقلينَ من اللغاتِ إلى غيرِها بالتراجم.
(2/374)
فصل
واعلمْ أنَّ الله سبحانَه، غيرُ محتاج إلى إقامةِ الدلالةِ على
كلامِه لمن كلَّمه، بل هو القادرُ على إيقاعَ ذلك في نفس من
خاطبهُ، واضطرارهِ إلى ذلك، لكنه إن أقامَ دلالةً من أفعالٍ
خارَقةٍ، فإنما يفعلُ ذلك ليثيبَ المستدلينَ باستدلالِهم، كما
أنّه كان قادراً على اضطرارِ الخلقِ إلى معرفتِه، من غيرِ
استدلالٍ، بافعالِه، ثم إنه جعلَ السبيلَ إلى معرفتِه والطريقَ
إلى إثباتِه، ما ذرأ وبرأ، وما ضمَّن مخلوقاتِه من الدلائلِ
على حدثِها واحتياجها إلى صانعٍ، ووضعَ فيها من إحكام الصنعةِ
ما دل به على حكمتِه وعلمهِ، فكذلك وضعَ الأدلةَ على أنهُ هو
الَمتكلمُ لمن كلمهُ مكافحةً، كموسى دكَّ له الجبلَ، وقلبَ
عصاهُ ثعباناً، ومحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أسرى بهِ ليلاً
في بعضِ ليلةٍ، وقطع به المسافاتِ البعيدةَ، فهذهِ الدلائلُ
إمّا لمجردِ المشيئةِ، أو لإظهارِ جواهرِ الرجالِ بعلوم
الاستدلالِ، وإثابتهم على ما يلحقهُم في الاستدلالِ من الكلفِ،
كماَ كلفهم سائرَ الأعمالِ مع غنائِه عنها.
وقد دل على قدرتِه علىٍ اضطرارِ الخلقِ كلّهم إلى معرفتِه، أنه
قد وضعَ في عقولهم ما عرفوهُ بديهة بأولِ وهلَةٍ، مثلُ العلوم
الضروريةِ، وعرَّفهم بعضَ الأشياءِ بأدنى فكرةٍ، وعرفهم بعضَها
بالاستدلاَلِ الغامض، والبحثِ الدقيقِ، والوسائط البعيدةِ
المسافةِ، فلا يعتاصُ عليه فعلُ ما فعلُه بوسيطِه أن يفعلَه
مبادأةً بغيرِ تلكَ الوسيطةِ.
فصل
واعلمْ أنَ أمرِ اللهِ سبحانه ونَهيه لمن أمرهُ ونهاهُ حقيقةٌ،
وكلامه لمن كلمهُ حقيقة، وأنَ المأمورَ والمنهيَ محدثٌ، ولا
يقف كونُه أمراً، على وجودِ المأمورِ والمنهي، لما أجمعَ عليه
أهلُ اللغةِ والعقلاءُ في الشاهِد، أن الموصيَ آمرٌ وناهٍ
بوصيتِه، لما كان مضيفاً للكلامِ إلى
(2/375)
من يوصيهِ، فالله سبحانهَ أحق بهذِه
الحقيقةِ، لأن الموصي يجوزُ أن تحولَ بينَ وصيتهِ والموصى لهُ
العوائقُ، وتقطعَ عنها القواطُع، واللهُ سبحانه العالمُ بكونِ
ما يُكَوَّنُهُ، وخلقِ ما يخلقهُ، فيتناولُه أمرهُ ونهيهُ، ولو
تَعَذرَ ذلك في الشاهدِ، ولم يتحققْ في حق أحدٍ من المخلوقين،
أن يكون آمراً ناهياً مكلماً، إلا بوجودِ من يأمرهُ ويخاطبهُ،
لما جازَ أن يقفَ كلامُ الله وأمرهُ سبحانَه ونهيهُ، على وجودِ
من يكلمهُ ويأمُره وينهاهُ، كما أن أسماءَ المخلوقينَ، لا
تتحققُ إلا بايجادِ الأفعالِ، واللهُ سبحانَه سمى نفسه بأسماءٍ
مشتقةٍ من أفعال مستقبلةٍ، وأسماؤهُ لم تفارقْه ولا تزايلُه،
فهو سبحانه الإِلهُ ولا مألوهَ، والربُّ ولا مربوبَ، ولا أحدَ
من المسلمينَ استجازَ أن يقولَ في تشميةِ الباري إلهاً ورباً:
إنهُ مجازٌ، أو إنه لم يكنْ رباً قبلَ الخلقِ ولا إلهاً. فثبتَ
أنهُ آمرٌ ناهٍ، مخبرٌ متواعدٌ لم يزلْ، كما أنه لم يزلْ
متكلماً، ومن طلبَ لأمرِه وجودَ المأمورِ ولنهيهِ وجودَ
المنهي، وادّعى أنهُ متى كان آمراً ولأ مأمورَ، لم يكُ مفيداً،
وإنَّما يكون مفيداً إذا تعلقَ بالمأمورِ المنهي، فإنما تطلبُ
الفائدةُ من حيثُ جعلَ كلامهَ فعلاً، ولا يتحققُ هذا إلا من
قائلٍ بحدثِ الكلام وخلقهِ، فأمَّا من لم يَطلبْ لكونهِ
متكلماً فائدةً، كذلك يلزمهُ أن لا يطَلبَ لكونه آمراً ناهياً
فائدة.
فإن قال:- لسنا نطلبُ لكونهِ متكلماً متعلقاً، ءوإنما نطلُب
لكونِه متكلّماً مخاطباً.
قيلَ لهُ: فهلْ أثبتَه متكلماً لا آمراً ولا ناهياً ولامثْبتاً
لهُ بكونهِ متكلماً أقسامَ الكلامِ؛ فإن قال: نعم، فقد خرجَ عن
حد المثبتينَ للكلامِ، وليسَ ذاك
(2/376)
مذهَبهُ، ولا مذهبَ أحد من أهلِ اللغةِ،
ولا مذهبَ أحدِ من العقلاءِ على اختلافِ لغاتِهم.
وإن قالَ: بلْ أثبتهُ متكلماً بأقسامِ الكلامِ.
قيلَ: ففي أقسامِ الكلامِ ما لا بدّ لهُ من متعلقٍ، وهو الأمرُ
يفتقرُ إلى مأمورٍ، والنهى يفتقرُ إلى منهي، ومع ذلكَ لم
تجعلْه آمراً بعد أن لم يكن آمراً، كذلك كونُه مخاطباً
ومتكلماً، ولا فرقَ.
فصل
ولا يجوزُ على كلامِ الله الاختلافُ ولا المناقضةُ، ويجوزُ
منهُ وعليهِ المجازُ والاشتباهُ.
ولا بُدٌّ أن يوضح معنى كلِّ واحدٍ من هذين المنفيين
والجائزين، فالاختلافُ والمناقضةُ تدخُل على الألفاظِ
والمعاني، فدخولُها في الألفاظ، مثلُ قوله: زيدٌ حيٌ لا حيٌ،
وعمروٌ عالمٌ لا عالمٌ.
والمناقضةُ في المعنى: فلانٌ حيٌ ميتٌ، أو عالمٌ جاهلٌ. وهذا
القبيلُ قد نفاهُ الله سبحانه عن كلامهِ بقوله: {وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].
ونفاهُ دليلُ العقلِ عنه، لما وجبَ لذاتِه سبحانَه وصفاتِه من
الكمالِ وعدمِ النقائصِ، والكلامُ من صفاتِه، وقد نفى سبحانه
التفاوتَ عن أفعالِه بقولِه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، فكانَ ذلك تنبيهاً
على نفيِ النقائِص عن صفاتِه.
وأما المتشابهُ: فما تردَّد بين معنيين، أو معانٍ عدةٍ مختلفةٍ
في وضعِ اللغةِ، ودخلَ ذلك على أحكامِه، وبين أفعالَه وصفاتِه.
(2/377)
واختلفَ الناسُ في أعيانِ المتشابهِ، وفي
المرادِ بهِ في اصلِ الخطاب بهِ وفي عين المرادِ منهُ، وهل كله
معلوم أو بعضُه معلوم؟
واختلفوا أيضاً في إطلاقِ المجاز على كلامِه سبحانه، وفي عين
المجازِ.
مثالُ أصلِ المتشابه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ
أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:
237] {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]
{أو لمستُم- أو لامستم- النساءَ} [النساء: 43] (1).
فالقروءُ تترددُ بين الحيضِ والطهرِ، والعفوُ يترددُ بينَ
البذلِ والإسقاطِ، واللمسُ والملامسةُ مردد بينَ اللمسِ باليدِ
أو الجماعِ، ويصرفُ إلى أحدِهما بدلالةٍ توجبُ أنهُ أولى
بصرفِه إليه، بما قد ذكرناهُ في حجاجَ الفقهاءِ وجدلهم.
وأعيانهُ هو ما صرفَ إليه بدلالةٍ، فيصيرُ ما تصرفُ إليهِ
الدلالةُ من القروءِ والعفوِ واللمس، هو المرادَ باللفظِ،
ويزولُ الاشتباه بقيام الدلالةِ.
فهذا تشابهٌ في الكلامِ، لكن في قبيلِ الأحكامِ.
__________
(1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {أَوْ
لَامَسْتُمُ} بألف في [النساء: 43] و [المائدة: 6].
وقرأ حمزة والكسائي: {لمستم} بغير ألف.
انظر "الحجة للقرأء السبعة" لأبي عليّ الفارسي: 3/ 165. و"حجة
القراءات" لابن زنجلة ص (205).
(2/378)
فأمَّا المتشابهُ في باب الأفعالِ والصفاتِ
(1)، فمثلُ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:
11] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {يَا
حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، {فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا} [الكهف: 80]، {فَلَمَّا آسَفُونَا
انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقوله في حق آدم:
{فَوَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وفي- حقِّ
موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]، وقولهُ في
حقِّ عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، {فَنَفَخْنَا فِيهَا
مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]، {رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171].
ويدخلُ في هذا القبيلِ من المتشابهِ، الحروفُ المقطعةُ في
أوائل السورِ (2).
فقد اختلفَ الناسُ في هذا، فقومٌ سلكوا فيهِ وبهِ مسلكَ
المترددِ في بابِ الأحكامِ، مثلُ القروءِ والعفوِ واللمس،
فصرفوهُ بدلائلَ من كتابِ الله ودلائلِ العقولِ، إلى أنَّها
إضافات يصرفُها اَلدليلُ هي أحقُّ بالأفعالِ، فقالوا: لأنَّ
الاستواءَ الى السماءِ بنفس الذاتِ هو الذهابُ نحوها، وهو في
الحقيقةِ عينُ التحركِ إلى فوقِ السماَء صعوداً، والاستواءُ
على العرشِ هو التمكُّن والاستقرارُ الذي يكونُ للجسمِ على
الجسمِ، كاستواءِ نوحٍ على سفينته، والراكب على دابتِه،
وبالنصَ النافي للتشبيهِ ينتفي ذلك عنهُ، وهو قولُه: {لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وبدليلِ العقلِ الذي نفى
كونَه جسماً، وهو الوحدانيةُ في الذاتِ والجسم المؤلف بدليلِ
إدخالِ أهلِ اللغةِ عليه لفظة: أفعلْ، وهي أجسمْ، وليسَ ذلك
إلا لتزايدِ التأليفِ بزيادةِ الجواهرِ.
وبالدليلِ الذي نفى عنه الخروجَ من حالي إلى حالٍ، وهو التغيرُ
__________
(1) انظر الحاشية رقم (1) في الصفحة (169) من الجزء الأول.
(2) انظر الحاشية رقم (2) في الصفحة (169) من الجزء الأول.
(2/379)
الذي لا يجوزُ على القديمِ بحالٍ، وهو الذي
ذكرهُ اللهُ عن خليلهِ إبراهيم ورضيهُ له دليلاً على حدَثِ
النجوم، حيثُ استدل بالُأفولِ بعد الطلوع، فأشعرَ ذلك عن الله
سبحانه أنهُ لا بهذه الأوصافِ حيثُ قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}
[الأنعام: 79] بعد أن قال في حق المغيراتِ: {لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، فدل على أنهُ إنما صرفَ الصناعةَ
والإلهيةَ إلى مَن ليسَ على هذهِ الحالِ، وهو التغيرُ
والزوالُ.
فلمّا عدلوا عن حقيقةِ الاستواءِ في الأجسامِ، انقسموا فيما
صرفوهُ إليه فقال قومٌ: يعنى قصدَ إلى السماءِ وهي دُخانٌ،
يعني بخارَ الماءِ، وقولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
[الأعراف: 54]: استولى على الملك.
وقال قومٌ بعد صرفهِ عن الوجهِ الأولِ: لا ندري ما معناهُ في
حقِ. الله تعظيماً لأمرِ الله وشأنهِ عن التأويلِ، خوفاً من
مزلةِ قدمٍ، كما نزهوُه عن التشبيهِ، ولهم في ذلك أئمة من
السلفِ كأبي بكرٍ الصديقِ وعمرَ بن الخطاب، هذا يقول عندَ
سؤالهِ عن الكلالةِ: أي سماءٍ تظلني وأي أرض تقلُّنيَ إذا قلتُ
في كتابِ الله برأي (1)، وتأويلُ الكلالةِ غايتهُ
__________
(1) يظهرُ أن ابن عقيل قد دمجَ بينَ أثرين وردا عن أبي بكر رضي
الله عنه، من غيرِ مراعاةٍ للموضع الذي ورد فيه الأثر، ذلك أن
قولَه: "أيُّ سماءٍ تظلني، وأي أرض تُقلني" لم يرد في تفسيرِه
لمعنى الكلالة، بل الذي وردَ في الكلالةِ منسوباً إلى أبي بكر
يفيدُ مشروعيه التفسير بالرأي، وذلك ما حدَّث به الشَّعبي قال:
سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة، فقال: إني سأقولُ فيها
برأيي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يك خطأ، فمني ومن
الشيطان، أراه ما خلا الولدَ والوالدَ. فلما استُخلفَ عمرُ رضي
الله عنه، قال: إني لأستحي الله، أن أرد شيثأ قاله أبو بكر. =
(2/380)
خطأ من وارثٍ إلى غير وارثٍ.
وعمرُ يقولُ: هذه الفاكهةُ، فما الأب؛ ثم يستغفرُ الله ويقولُ:
ماذا عليكَ يا ابنَ الخطاب؟ (1).
فالتحرّجُ عن التأويلِ مذهب، والإقدام على نفي التشبيهِ كلُّ
المذهبِ، وأما قولُه: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:
30]، فراجعٌ إلى حسرتهم على أنفسِهم، يُصدقُه قولُه: {أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ} [الزمر: 56] يعني في حقِّ الله. {فَخَشِينَا} [الكهف:
80] يرجع إلى الخضرِ، وأنهُ لما اطلعَ على ما يكونُ منه، خشيَ
أن يبلغَ فيكفرَ ويُكفِّرَ أبويه.
وقولُه: {آسَفُونَا} [الزخرف: 55] يرجعُ إلى موسى، بدليلِ
قولهِ: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ
أَسِفًا} [الأعراف: 150] وهو النهايةُ في الغضبِ، وأبداً يضيفُ
الباري إضافةً، ظاهرُها أنها إليه بنونِ العظمةِ وغيرِها،
ويريدُ به الإِضافةَ إلى خلقهِ، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245]، والمرادُ بهِ فقراءُ عبادِ
الله.
وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57]
والمرادُ به أنبياءُ الله وأولياءُ اللهِ، وهذا لغةُ العرب
ودأبُهم في حذفِ المضافِ، وإقامةِ
__________
= أخرجه عبد الرزاق 10/ 354 (19191)، والدارمي 2/ 264، وابن
جرير (8745) و (8746) و (8747)، والبيهقي 6/ 223 و 224.
وأما قوله: "أي سماءٍ تُظلني وأي أرض تقلني" فذكره ابن عبد
البر منسوباً إلى أبي بكر رضي الله عنه، كما ذكره منسوباً إلى
علي رضي الله عنه. انظر "جامع بيان العلم وفضله"2/ 64.
(1) أخرجه الطبري في التفسير 30/ 38، والحاكم في المستدرك 2/
514.
(2/381)
المضافِ إليهِ مقامهُ.
وقولهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] روحُ ملك، وإضافةُ
تجميلٍ وتقريبٍ كقو لِه في الكعبةِ: {بَيْتِيَ} [البقرة: 125]،
وتسميته روحَ آدم: {رُوحِي} [الحجر: 29]، لا أن البَيت مسكنهُ،
ولا الروُح صفتهُ، لكن خلقهُ، وبجَّلَهما بالإضافةِ إليه، وكفى
بذلك تعظيماً وتشريفاً.
وأما قولُه: {لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]: على
مرأى منّي بدليلِ قولِه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
(46)} [طه: 46].
والحروفُ المقطعةُ؛ فقد فسرَها قومٌ بالاشتقاقِ، كالكافِ من
كافي، والهاء من هادي (1).
وقال قومٌ: لا يعلمُ تأويلُها إلا الله (2)، كما قالتْ جماعةٌ
من أهلِ السُّنةِ في التشابهِ بينَ الأفعال والإضافاتِ.
وليس في آياتِ الأَحكامِ اشتباهٌ يُعْجِمُ على العلماءِ بحيثُ
يمنع الحكمَ والعملَ، إذ ليسَ المقصودُ بآياتِ الأحكامِ إلا
الأعمال. وأما آياتُ الاعتقادِ، فإنه يجوزُ أن يكونَ أحدُ
أقسامِ التكليفِ فيها التسليمَ للهِ، ورَدَّ معناها إليه، وهو
الأشبهُ بقولِه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
[آل عمران: 7] أنه سَلْبٌ للعلماءِ الراسخين عِلْمَ تأويلِ
المتشابه، لأنَه قال: {يَقُولُونَ آمَنَّا} [آل عمران: 7] ولم
يعْطِفْ إيمانَهم بالواوِ، ولو كانوا علموا، لعطفوا إيمانَهم
على علمِهم بواوِ العطف، وقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
[آل عمران: 7]، توطئةٌ للقلوب على تسليم المتشابهِ لمن جاءَ من
عندِه المحكمُ. وإنّما يتجاذَبُ المختلَفون من أهلِ الاجتهادِ
المعانِي بحسب ما حظي كلٌ منهم مِن الفهمِ، فهذا يحملُ الآيةَ
على ما أرادهُ اللهُ منها بالحجةِ،
__________
(1) انظر "الإتقان" للسيوطي 2/ 24 - 27.
(2) انظر "البرهان" للزركشي 1/ 173، و"الإتقان" 2/ 24 والصفحة
169 من الجزء الأول.
(2/382)
وهذا يصْرِفُهُ إلى غيرِ الحق بالشُّبهةِ،
وللمصيب أجرُ الاجتهادِ وأجرُ الإصابةِ، وللمخطِىءِ أجرُ
الاجتهادِ، ولا مأثَمَ علَيه في الخطأ، وهذا فرضُ المجتهدين في
المتشابهِ في آي الأحْكامِ.
(2/383)
فصل
في تقديمِ ذكرِ الحقيقةِ قبلَ المجازِ
واعلمْ أنَّ قولَ القائلِ: حقيقة، ينصرفُ إلى حد الشيءِ، نقول:
ما حقيقةُ العالَمِ، وما حَد العالَمِ، وما حقيقةُ الجسمِ، وما
حَد الجسمِ؛ فتبْدل الحقيقة بالحد، ويتحدُ الجوابُ عنهما بذكرِ
خَصِيْصَةِ المسؤولِ عنهُ.
فأمَّا الحقيقةُ في الكلامِ: فهي عبارة عن قول اسْتُعْمِلَ
فيما وُضِعَ له في الأصلَ.
وأما المجازُ: فهو استعمالُ الكلامِ أو القولِ في غيرِ ما وضعِ
لة.
وتنفصلُ حقيقةُ الشيء التي هي حده عن حقيقةِ القولِ، بأن
حقيقةَ الشيءِ لا نقيضَ لها ولامجازَ فيها، وحقيقةُ القولِ لها
نقيضٌ من المجازِ، وهو مشتق من المجاوزةِ به إلى غيرهِ، من
قولك: جزْتُ النَهْرَ والساقِيةَ. إذا تجاوزتَه، فهذا معنى
الحقيقةِ والمجازِ.
فصلٌ
في أنواعِ المجازِ وأعيانهِ
وهو منقسمٌ إلى: زيادةٍ، إذا حُذفتْ ظَهرتْ مِن الكلامِ
حقيقتة،
(2/384)
كقولِه سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشورى: 11]، الكافُ زائدة، والمرادُ بهِ ليسَ مثلَه شيء،
وإذا انحذفتِ الكافُ ظهرت الحقيقةُ.
وإلى نُقْصَانٍ، وذلك مثلُ قولِه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}
[يوسف: 82]، ومعناه: سلْ أَهْلَ، فحذفَ أهلَها، المراد سؤالهم،
وأقامَ القريةَ وكذلك قولُه تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، وحَذَفَ حُبَّ العِجْلِ،
ولو ذكرَ حُبَّ العجلِ لكان هو الحقيقةَ.
وإلى استعارةٍ بضربِ من القياسِ؛ كقولِهم في، الرجلِ البَليدِ:
حمارٌ، لنوع مُشابهةٍ في اَلبَلادَةِ، وفي الكريمِ والعالِمِ:
بحرٌ، لضربٍ من المُشاكَلةِ في الفَيْضِ.
ومنه تسميتُهم الشيءَ بما يَؤولُ إليه، واستبقاءُ اسمِ الشيءِ
لما كانَ عليه، كقولِهم في المَولودِ: يَهْنيْكَ الفارسُ،
تفاؤلًا بأن يكونَ فارساً، وقد قالَ سبحانه: {إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، ويريدُ به ما يصيرُ خَمراً
وإِنما يَعصُر عصيراً، وقولُه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، والمرادُ به ستموتُ وَيمُوتونَ.
ومن أقسامهِ أيضاً: تسميةُ الشيءِ بضدِّهِ تفاؤلًا، مثل قولهم
في الطَريقِ المَخُوفِ: مَفَازَةً، وفي اللَّسيعِ واللَّديغِ:
سليم.
(2/385)
فصل (1)
وقد نص أحمدُ -رضي الله عنهُ- على كَوْنِ بعضِ القُرآنِ
مَجازاً، فقال في قولِه: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)}
[الشعراء: 15]: هذا في مجازِ اللُغَةِ، فقد أعطى هذا القولُ
منه تأويلَ ما أضافه إلى نفسِهِ سبحانه من كونه مع خلقِه،
وأَنّه بعلمهِ لا بذاتِه، وقال أيضاً في قوله: {مَا يَكُونُ
مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:
7]: بعلمه، وهذا يُعطي التأويلَ والمجازَ.
وقد تعاطى قومٌ من الرَّافِضَةِ وأَهلِ الظَّاهرِ تنزيهَ
القرآنِ من المجازِ، وزعموا أَنَ جميعهَ حقيقةٌ، وأَن الذينَ
ذهبوا إلى القولِ بالمجازِ ضاقتْ عليهم طُرُقُ الحقيقةِ،
وخفِيتْ عليهم الحقائقُ لجَهْلِهِم بها، وأَخذوا في بيانِ كلِّ
آيةٍ وأنها حقيقةٌ مع عدمِ حذفِ التقديرِ، وعدمِ حذفِ الزيادة
والنُّقصانِ، وأَخذوا في إعطاءِ كلِّ آيةٍ حقيقتَها، وذهبَ
إليه بعضُ أَصحابنا، فقالوا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} لا
تحتاجُ أَنْ تُحْمَلَ على أهلِها، بل القريةُ في الأَصلِ هو
المجمعُ مِن الناسِ، لأَنَّ الِإقراءَ، والاقتراءَ والقروءَ
والقراءةَ والقرآنَ كلُّ ذلك اسمٌ للجمع، تقولُ العرب: مَا
قَرَأتِ النَاقَةُ سَلاً قطُّ، يريدون مَا جمعتْ في رحمها
جنيناً قط، وقَرَأتُ الماءَ في الحَوضِ، يريدُ به جمعته، و
{فَإذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18] جَمَعْناهُ، فإذا ثبتَ هذا
كانت القريةُ مَجْمَعَ النَّاسِ، والسؤالُ لجماعةِ النَّاسِ
سؤال لحقيقةٍ هي القريةُ، فأَمَّا أَنْ يكونَ المرادُ بالقريةِ
الجدارَ، ويُحملُ السؤالُ على أهلِ ذلك الجدارِ، فلا.
وقولُه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ وهو أَنَ
العجلَ حَرقَهُ ونَسَفَهُ موسى في اليمِّ نَسْفَاً، فكان
عُبادُهُ يأخذونَ سُحَالَة (2) العجلِ مع الماءِ
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 695، و"التمهيد" لأبي الخطاب 1/ 80.
(2) ما سقط من الذهبِ والفضةِ إذا بُرِدَ، انظر "لسان العرب":
(سَحَل).
(2/386)
فيشربُونها، ويقولون: إنَ هذا أحبُ إلينا
من موسى وإلههِ، كذا وردَ في التفسير (1).
وقولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فالمرادُ
بالمثلِ هاهنا هو مثلُ قولهِ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي
وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15]، وسَاقَ
ذكرَها، وكأنَّ ما ذكرهُ منها هو نعتُها، كأنَّه يقولُ: ليس
كنعتهِ وصِفتهِ شيءٌ.
وقولُهْ {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:
40]، ليسَ المرادُ به مواضعَ الصلواتِ، لكنَّ الهياكلَ التي
يُصلون فيها تُسمى صلوات، فهي اسم مشتركٌ بين الفِعلِ
والمسجدِ، واعتلّوا لهذه المَقالةِ بأَن المجازَ لا يَسلكُهُ
أهلُ اللُغةِ إلا ضرورةً وحاجةً منهم إلى الاستعارةِ والحذفِ
والزيادة، والباري ليس بمحتاجٍ.
قالوا: ولو تَكلَّم بالمجازِ، لجازَ أَنْ يُسمَّى
مُتَجوِّزَاً، وقد أجمعنا على أَئه لا يجوزُ تسميتُه بذلك،
فدلَّ علي أنه لا يجوزُ عليه التكلم بالمجازِ.
قالوا: ولأَنَّه لما لم يَجُزْ أَن يتكلم بغيرِ الحقِ، بل كان
كلامهُ كلهُ حقاً، وجَبَ أَنْ لا يتكلمَ بالمجازِ ويكونَ كلامه
كلهُ حقيقةً، ولا فرقَ عند العقلاءِ بَيْنَ قولِ القائل: ليس
هذا الكلامُ حقاً. وبينَ قوله: ليس هذا الكلامُ حقيقةً. فيقولُ
العالِمُ من أهلِ اللغةِ، في استثباتِ الكلامِ الذي يَسمَعهُ
من غيرهِ: أحقاً تقولُ؟ كما يقولُ: أحقيقةً تقول؟.
فصل
يتضمنُ الدلالةَ على ما ذكرنا، وهو ردٌّ لجميعِ ما ذكروا،
وكلام عليه
__________
(1) "تفسير القرطبي" 2/ 32، "تفسير ابن كثير" 1/ 126.
(2/387)
لا يجدون عنه محيصاً، وايرادُه على وجهٍ لا
يمكنُ التعرضُ بسؤال ولا إلزام ولا مقابلةٍ تنفعهُم.
فنقولُ: لو أنَكم تكلمتمْ على كلُّ آيةٍ ذكرهَا الموافِقُون
لَنا، حتى تبقى معنا آيةٌ واحدةٌ تعطي المجازَ، لا نطلب
مقالتَكم، لأنَ مقالتكم تتضمن النفيَ، فأدنى إثباتٍ يبطل
نفيكُم، وقد قالَ تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ
أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] فهل تتحقق للجدارِ إرادةٌ؟ فِمنْ
قولِكم: لا، لم يبقَ إِلا أنَّ تقديرَه: فوجدَا فيهاجدارَاً
مائِلًا كأنه المرِيْدُ من الحيوانِ للانقضاضِ.
وقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:
34] ,
وعيسى ليس بقولٍ حقيقة، بل هو شخصٌ لحمٌ ودمٌ وأعصابٌ وعروقٌ،
وكلام الحقِّ إما حروفٌ وأصواتٌ، كما قال بعضُ المثبتين،
وبعضُهم يقول: صفةٌ في النَفسِ، وبعضُهم يقول: أصواتٌ
محْدَثَةٌ، ولا أحدَ قال: إنَ كلمةَ اللهِ لحمٌ ودمٌ وعظامٌ.
وقوله لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وهو حيٌّ ناطقٌ: {إِنَّكَ
مَيِّتٌ} وأصحابُه أحياءٌ {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]
وإِنَّما أرادَ به: ستموتُ. وقال سبحانَه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]
والذي أَخبر به عنهم حال التِقاطِهِ أنْ قالوا: {عَسَى أَنْ
يَنْفَعَنَا} [القصص: 9] لكنَّ اللامَ هاهنا كانت لامَ عاقبةٍ
كقولِ العرب (1): ولِلْمَوتِ ما تَلِدُ الوالِدَه.
__________
(1) هو من أبيات أوردها ابن الأعرابي في (نوادره) لنهيك بن
الحارثِ المازني، من مازن فزارة، وتمام البيت: =
(2/388)
وقالوا:
له مَلَكٌ يُنادِي كُل يَوْمٍ ... لِدُوا لِلمَوْتِ وابنُوا
لِلخَرابِ (2)
ومعلومٌ أَنَّ المُرادَ به العاقبةُ، لا أَنّهم يلدونَ للموتِ
ويبنونَ للخَراب، لكنهم لَما ولَدُوا مَنْ يَموتُ وبَنوا ما
يَخْرُبُ، سُمُوا بذلك في الحال لتحققهِ في مُستقبلِ الحالِ.
فلو سَلِمَ لكم ما ادعَيْتم في تلك الآيات، ثَبَتَ لنا ما
نُريدُ من إِثباتِ المجَار بهذه الآياتِ، وانعدمَ مذهبُكم،
لأَنَ وجودَ ذلك في كتاب الله سبحانَه، ولَو في آيةٍ واحدةٍ،
يبطلُ به مذهبكم لأنكم تدّعونَ النفيَ على الإطلاقِ.
على أنَا لا نتركُ ما ذكرتُموه على الآياتِ بل نُبطلُه بعونِ
الله:
فأمَّا قولُكم: القريةُ مجمعُ النَاسِ وجمعُهم. فإن كانَ هذا
هو الأصلَ فنُحاجُّكم بقولهِ: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ
قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77]، فتراه أراد به:
حتى إِذا أتَيَا جمعاً مَن النَاسِ استطعما أهلَ ذلك الجَمْعِ،
وهل للجمعِ أهل؟ وذِكْرُ الأهْلِ مرتين يدلُّ على أنَّ المرادَ
بالقريةِ البُنْيَانُ الذي يسكُنهُ الجَمْعُ، لذلك قال:
أهلَها.
وأمَّا قولُهم: وأشرِبوا في قلوبِهم عينَ العجلِ وبُرادتهِ،
فَهَبْ أنَّ البُرادَةَ تبِعتِ الماءَ فشرِبُوه، أوَصَلَ
العِجلُ إلى قلوبِهم عجلاً أم تكونُ
__________
= فإن يكن القتل أفناهمُ ... فللموتِ ما تلدُ الوالده
ونَسبه المفضَّل بن سلمة (في كتاب الفاخر)، لشُتَيم بن خويلد
الفزاري.
انظر "خزانة الأدب" 9/ 533.
(2) تستشهد به كتبُ الترغيب والترهيب، دون أن تنسبه لقائل
معيَّن.
(2/389)
برداة ذهبٍ كان عجلأَ، فتفرقتْ صورتُه
عجلاً؟
فإنْ قالوا: نعم. تجاهلُوا.
وإِنْ قالوا: لا. قيل: فقد صارَ تقديرهُ، وأُشْرِبُوا في
قلوبهم أجزاءَ ذهبٍ كان عجلاً، وهل وصلتْ بُرادتهُ إلى حبّاتِ
قلوبِهم؟، وهل تصلُ سُحالةُ الحُلي إلى القلوبِ مباشرةً أو
استحالةً، مع كونِ الذهبِ لا يستحيلُ كاستحالةِ الطعامِ, فيصلُ
إِلى القلوبِ وصولَ المستحيلاتِ مِن الأغذيةِ، بل يَرْسبُ في
المعدةِ، وهل يقالُ في عينِ الشيء: مثلُه إِلا مجازاً؟!
وقولكم: المرادُ بمثلهِ هو. فهذا عينُ المجازِ، إِنْ قُدِّرَ
في قولِه سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْله شَيْءٌ} ولأَنَّه لَيْسَ
المِثْلُ من المِثْلِ بشيءٍ، لأن المِثلَ الشَّبَهُ، والشَّبهُ
غيرُ، والمِثْلُ النَّعْتُ، وقولُه: {مثَلُ الجَنَّةِ} ليس مِن
بابِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ}، فهذا قدرُ مَا سَمِعْتهُ
منهم في المناظرةِ.
وأَمَّا تعلقهم بأَن المجازَ مِن ضَرورةِ اللَّفظِ، والباري
سبحانه لا تتَطَرَّقُ عليهِ الضرورةُ، فهذا كلامٌ ضعيفٌ جداً،
ولأن العربَ تتعمدهُ لتحسنَ كلامَها وتزينَ به حقائقَ الكلامِ،
وتَعُده من القُدرةِ على النطقِ، ويَعُدونَ المقتصر على
الحقائقِ مِن غيرِ توسعٍ، ضيِّقَ العبارةِ قصيرَ اللسانِ،
والقرآنُ نزلَ بلغتهِم فجاءَ بطريقتهم.
ولأَنَّ الموضوعاتِ في الأصلِ كلها منا حاجاتٌ أو ضروراتٌ،
وليستْ مِن الله سبحانه كذلك، فِمن ذلك الكلامُ نفسهُ على قولِ
مَن أَثْبَتَه حرفاً وصوتاً (1)،
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 12/ 244:
"إن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس
ذلك كأصوات العباد، فإن الله ليس كمثله شيء، فكما لا يشبه علمه
وقدرته وحياته علمَ المخلوق وقدرتَه وحياتَه، فكذلك لا يشبه
كلامه كلام المخلوف ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه
حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد".
(2/390)
والخِطابُ عند مَن جعلَ الكلامَ في
النَّفسِ (1) ما وقَعَ ولا استُعملَ في حق المخلوقين إلا
ضرورةً وحاجة لفهمِ ما في نفوسِهم، وتفهيمِ المُخَاطَبِ
بأَغراضِهم، حتى لو أَمْكنَهم إيصالُ الأغراضِ بغير خِطابٍ
لأوصلوا، ولذلك إذا تعذرَ الخطابُ عليهم عَدَلوا إلى المكاتبةِ
بالخطِ، ثم إِنّ الله سُبحانَه خاطبَ، ولم يكُ خطابهُ على وجهِ
الحاجةِ، فهذا على أصلِ قولهم في المجازِ: إِنَّه حاجةٌ مِنَّا
وضرورةٌ.
وأمَّا قولُهم: إِنَّ الحقيقةَ حقٌ أو كالحق، والمجازُ ضِد
الحقيقةِ أو نقيضها، واللهُ سبحانَه لا يتكلمُ بغيرِ الحقيقةِ.
ليس بكلامٍ صحيِح، لأَنَّ الحق مِن الكلامِ صدقهُ وموافقتهُ
للعدلِ والجائز، وأَنْ لا يكون باطلاً.
والحقيقةُ هي الموضوعُ، فيما وُضِعَ له في الأَصلِ وإِنْ كان
باطلاً، ألا ترى أَن قول القائلِ مقالة النَّصارى، وكل باطلٍ
قالَه مُبْطِل، هو حقيقةٌ فيما وُضِعَ له مِن الباطلِ، وليس
بحقٍ، فالكاذبُ والكافرُ غيرُ محِقين فيما قالاه، بل مبطلان،
لكن ليس قولُهما إلا الموضوعَ في أصلِ اللغةِ للباطلِ، ولذلك
لا تَعُدُّ العربُ من قال في البليدِ: حمارٌ، وفي اللسيعِ:
سليمٌ. كذَّاباً، ولا يقال لمن قال في الكريمِ: رأيتُ بحراً:
كذبتَ، ويقالُ لمن قال: ليس زيدٌ في الدارِ وهو فيها: كذبتَ،
وإِن كان نفيُ كونه في الدارِ، ليس بأكبرَ من تسميتِه بالماءِ
الكثيرِ الغامرِ، وذلكَ ليس هو في الحقيقةِ، وما الحقُّ
والحقيقةُ إلا كالتزويرِ والاستعارةِ، ومعلومٌ أن المُزَوِّرَ
على خطِ غيره، والمتشبِّهَ به في أخذِ مالا يستحقهُ مذمومٌ،
والمستعيرُ للأسماءِ واللُغاتِ ليسَ بمذمومٍ، ما هذا إلا لأَنّ
هذا لغةٌ تستعملُ، وليس هذا مستعملاً.
__________
(1) المتفلسفة يزعمون أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفوس
الأنبياء، تفيض عليهم المعاني من العقل الفعال، فيصير في
نفوسهم حروفاً وهو زعمٌ باطل. انظر "مجموع الفتاوى" 2/ 244.
(2/391)
وكذلك الرَّامي، إذا أصابَ بِنْتَه أو
أَباهُ، لم يكن مُصيباً في موافقةِ الحقِّ بل مخطِئاً غايةَ
الخطأ، مرتكباً أكبرَ الحرامِ، وهو مصيبٌ في باب الرمايةِ
وبحكمِ الرُّماةِ، فكذلكَ الكذبُ. وتركُ الحقِ كتركِ مقتضَى
الشرع في رمي الأب، والتوسعِ الذي هو موضوعُ صناعةِ الكلامِ،
كالِإصَابةِ في الرمي، فبانَ تباعدُ ما بينهما.
فصل
واعلمْ أنَّ كلُّ مجازٍ فلا بُدَّ لهُ من حقيقةٍ، لأنَّ
قولَنا: مجازٌ، مثلُ قولِنا: استعارةٌ، ولا بُدَّ للاستعارةِ
من مستعارٍ منه، ولا بدّ للمغيرِ من مغيرٍ عليهِ ومُغَير عنهُ،
كما لابدَّ للمقيسِ من مقيس عليه، ولابد للمشبهِ من مشبهٍ بهِ.
فلو لم يكنْ لنا بحر هو الحقيقةُ، وهو الماءُ الغامرُ الكثيرُ،
لمَا كانَ لنا ما يُسمى بحراً بنوعِ عِلْمٍ أوجُودٍ أو سرعةٍ
في سعي، ولو لم يكنْ لنا حيوانٌ هو أسد له اسمُ الأسدِ حقيقةً،
لمَا أمكننا أن نتَجوَّزَ في الرجلِ المِقْدَامِ في الحربِ
باسمِ أسدٍ.
فصل
فأمَّا الحقيقةُ فلا تفتقرُ إلى مجازٍ، بل لنا حقائقُ مستقلةٌ
لايستفادُ منها ولايتجوزُ فيها، وهي ضربان من الأسماءِ:
وهي الأسماءُ العامةُ التي لا عمومَ فوقَها بل هي أعمُ العموم،
مثلَ قولنا: معلومٌ ومجهولٌ، مظنونٌ ومسهوٌّ عنهُ، ومشكوكٌ
فيهِ ومدلولٌ عليه، ومُخبَر عنهُ ومذكورٌ، فهو أوْقَعُ على
المعدوم والموجودِ والقديم والمُحْدَثِ، فليسَ شيءٌ إلا
ويَصِحُّ كونهُ معلوماً ومنَكوراً مخْبَراً، حتى
(2/392)
ما ليس بشيءٍ وهو المعدومُ، فلا يبقى شيء
يقعُ عليه هذا الاسمُ استعارةً ومجازاً، وِإنَما يُتجوز بما
تحتهُ مِن الأسماءِ، التي ليستْ أعمَّ العمومِ لوقوعِها على
بعض المُسمياتِ، فيُستعارُ بمسمى آخرَ.
والضربُ الآخرُ من الأسماءِ: أسماءُ الأعلامِ نحو قولِنا: زيدٌ
وعمرو، لأنه اسم موضوع للفرقِ بين الأشخاصِ، لا للفرقِ في
الصفاتِ، وإفادة معنى في المسمَّى، حتى إذا أجْريَ على من
ليستْ له تلك الصفاتِ قيل: مجاز، نحو قولنا: ضاربٌ وظالمٌ، إذا
أُجْرِيَ على من لا ضَرْبَ له ولا ظُلْمَ قيل: إنه مجازٌ، ولا
يكون كذباً، وإذا قلنا في زيد: إنه عَمْرٌو كان كذباً، ولم يكن
مجازاً، لأنا أوقعنا التسمية على محلٍّ لم تُوقعْ عليهِ بحالٍ،
ولا فيهِ ما يُستعارُ إذ لم يُوضعْ لمعنى فيُستعارُ لهُ بوجودِ
ذلك المعنى، بخلافِ البلادةِ في الحمارِ المستعارةِ للرجلِ
البليدِ، فيحصلُ إيقاعُ اسم زيدٍ على عمروٍ، واسمِ عمروٍ على
زيدٍ كذباً، وإشكالًا يزيلُ المقصود الذي وُضِعَ له، وهو
الفرقُ.
قالوا: وقد يجوزُ في موضعٍ أن يُتجوزَ بالاسمِ العلمِ،
ويستعارَ بما عُرِفَ بهِ صاحبهُ من خصيصةٍ يَشْتَهِرُ فيها،
ويصيرُ بها كالحيوانِ الموضوعِ له الاسمُ لمعناه وخصيصتِه،
وهذا كقولِنا: سيبويه (1)، صار
__________
(1) هو أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قُنبر الفارسي ثم البصري،
الملقب بسيبويه، إمامُ النحو وحجةُ العرب، وأولُ من بسط علمَ
النحو، لزمَ الخليلَ ابن أحمد، وحضرَ مجلسَ أبي زيدٍ الأنصاري،
وصنفَ كتابه المسمّى "كتاب سيبويه" في النحو، توفي سنة (180)
هـ، وقيل غير ذلك.
وانظر ترجمته: "طبقات النحويين" 66 - 74، و"تاريخ بغداد" 12/
195، و "نفح الطيب" 2/ 387، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 311 -
312.
(2/393)
مشهوراً في النحوِ، وعلي صار مشهوراً في
الإِقدامِ والضربِ والطعنِ والثباتِ في الحربِ، وسَحْبَانُ (1)
المشهورُ في الفصاحةِ، وباقلٌ (2) المشهورُ بالفَهاهة (3)،
وحاتمٌ المشهورُ بالسخاوةِ، وأبو حنيفه (4) بالفقهِ، وجالينوس
(5) بالطب.
__________
(1) هو سَحبانُ بن زُفَر بن إياس الوائلي، من باهلةَ، خطيبٌ
يضربُ به المثلُ في البيانِ، يقال: أخطبُ من سحبان، وأفصح من
سحبان.
انظر: "تهذيب تاريخ دمشق" 6/ 67، و"خزانة الأدب" 10/ 371
"الأعلام" 3/ 79.
(2) هو باقلُ الِإيادي، انظر الصفحة (139).
(3) الفَهاهة: العِي والحمق. "اللسان": "فهه".
(4) هو أبو حنيفة، النعمانُ بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي،
فقيهُ الملةِ وإمامُ العراق، وأحدُ الأَئمةِ الأَربعة عند أهل
السنّة، روى عن عطاء بن أبي رباح، وعن الشعبي، ونافع مولى ابن
عمر، وتفقّه على حماد بن سليمان، والأخبار كثيرة في فقهه،
وورعه، توفي سنة (150) هـ وله سبعون سنة.
انظر ترجمته: "تاريخ بغداد" 13/ 323، "وفيات الأعيان" 10/ 419
- 423، و"تهذيب الكمال" 1417،1414، و"تهذيب التهذيب" 10/ 449 -
452، و "سير أعلام النبلاء" 6/ 390 - 403.
(5) طبيبٌ يوناني، ليسَ يدانيه أحدٌ في صناعةِ الطِّب، صنَف في
ذلك كتباً كثيرة، كشفَ فيها عن مكنون هذه الصناعة، ولم يجىء
بعده من الأطباءِ إلا من هو دونه، كانت مدة حياته سبعاً
وثمانين سنة. انظر "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي
أصيبعة 1/ 108.
(2/394)
فصارَ الناسُ يستعيرونَ للنحوي المُجَودِ
اسمَ سيبويه، فيقولونَ، هذا سيبويهُ زمانِه، وللشجاع: هذا
عليٌ، وللجوادِ: هذا حاتمُ طَيىءٍ، وللعيّي: هذا باقلٌ،
وللفقيهِ: هذا أبو حنيفةَ زمانه، وللطبيبِ: هذا جالينوسُ
زمانِه، كما استعاروا أسماءَ الحيوانات لخصائِصها ومعانيها
لِمَنْ وُجِدَ في حقِّه ما يُدانيها من أوصافِها وخصائصها،
وهذا الضربُ كاَنَّه قياسٌ على الوضعِ اللغوي بالمعنى الذي
سَلكه أهلُ اللغةِ.
فصلٌ
في الفرقِ بينَ الحقيقةِ والمجاز
اعلم أن طريقَ العلمِ بذلك عدةُ أمورٍ:
أحدُها: أنَّ الحقيقةَ من الكلام جارٍ في جميع ما وُضِعَ
لإفادتهِ نحوُ قولكِ: ضاربٌ وعالمٌ وقادرٌ، الوَاقعُ على كلُّ
من لْه ضربٌ وعِلمٌ وقُدْرَةٌ.
وكذلك قولُك: إنسانٌ وفرسٌ. المفيدُ للصورةِ المخصوصةِ، تابعٌ
أبداً لها أينما وُجِدَتْ مِن غيرِ تخصيص، وإلاَ بطلت دلالةُ
الكلامِ وانتقضتْ المواضعةُ.
فأمَّا المجازُ فمقصورٌ على موضعهِ لا يقاسُ، فلا يقالُ: سل
البساطَ والسريرَ، قياساً على قولِهم: سل الربْعَ القريةَ
والعيرَ.
والثاني: أنْ يكونَ ما جرى عليه الاسمُ حقيقةً يُسْتَحَق منه
الاشتقاق، فإذا امتنعَ الاشتقاق منه عُلِم أنه مجازٌ، نحو
تسميةِ الفعلِ والحالِ والشأنِ أمراً على وجهِ المجازِ،
والأمرُ على الحقيقةِ بالشيءِ
(2/395)
إنَّما هو نقيضُ النهي عنهُ، وهو اقتضاءُ
الفعلِ بالقولِ من الأعلى للأدنى، وُيشْتَقُّ منه اسمُ أمرٍ،
ولا يُشتقُ من القيام والقعودِ اسمُ أمرٍ، ولا مِن شيء من
الأفعال، فوجبَ أن يكونَ تسمية الحال والشأنِ أمراً واقعاً
عليه مجازاً، واتساعاً لا حقيقةً، ومنهُ قولُه تعالى: {وَمَا
أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] وقوله: {حَتَّى إِذَا
جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40] وكيف أمَرُ فلانٍ؟ يعنونَ حاله.
والثالثُ: افتراقُهما في الجمعِ، فيقالُ لجمع الأمرِ الذي هو
الشأنُ والحالُ: أمورٌ، ويُقال في جمع الأمرِ الذي نقيضُ
النهي: أوامرُ، فيقال في الحال أو الشأنِ: كيفَ أُمُور فلان؟
ولا يقال: كيف أوامرهُ؟ فيقال: صالحةٌ. ويقال في أمرِ
الاقتضاءِ: كيف أوامرهُ؟ فيقال: سديدةٌ حازمةٌ.
والرابعُ: أن يكونَ ما جرى عليهِ الاسمُ حقيقةً، يتعلقُ بغيرِه
وما يجري مجرى العزْلَةِ، كالعلمِ والقدرةِ، والأمرِ الذي
لكلِّ شيء منه تَعلُّقٌ بمعلومٍ ومقدور ومأمورٍ به، وذلك
اتفاق، فإذا سمَّى ما لا تعلقَ له، بأنَّه علمٌ وقدرةٌ وأمرٌ
كان ذلك مجازاً، ومنهُ قولُهم في الأمرِ العجيبِ الخارقِ
للعاده، كالمطرِ والجرادِ والرياحِ العاصفةِ والزلازل: هذا مِن
[أمرِ] اللهِ وعلمِ اللهِ وقدرةِ الله، وإنَما يعنونَ به
معلومَهُ ومقدورَه ومأمورَه وفعلَه.
(2/396)
فصلٌ
في القول في إثبات الأسماء بالقياس
اختلفَ الفقهاءُ والأصوليون في ذلك:
فذهب أصحابُنا إلى جوازِه (1)، وهو ظاهر مذهبِ أحمدَ حيثُ جعل
النَّبِّاشَ سَارقاً، والنبيذَ خمراً، وجعل اللِّواطَ زنىً،
وسمَّى اللائطَ زانياً.
قيلَ لأحمدَ: كلُّ نبيذ غَيَّرَ العقلَ فهو خمرٌ؟ قال: نعم.
وبهذا قالَ أكثُر أصحابِ الشافعي (2).
وقالَ أصحابُ أبي حنيفة وكثيرٌ من المتكلمينَ وبعضُ أصحابِ
الشافعي: لا يجوزُ إثباتُها قياساً، وهو مذهبُ القاضي أبي بكر
الباقلاني وجماعةٍ من المتأخرين (3).
__________
(1) انظر ذلك في "العدة" 4/ 136، و"التمهيد" 3/ 454،
و"المسودة" ص (394)، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 476 و"شرح الكوكب
المنير" 1/ 223.
(2) ممن قال بذلك من أصحاب الشافعي: أبو إسحاق الشيرازي، وابن
سريج، وابن أبي هريرة، والإسفراييني والرازي.
انظر "التبصرة" ص (444)،"المحصول" 5/ 311 - 312، و"البحر
المحيط" 5/ 130.
(3) وهو اختيارُ الجويني، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب،
انظر "البرهان" 1/ 172، و"المستصفى" 1/ 331. و"الإحكام" 1/ 87.
وانظر قولَ الحنفيةِ في منع إثبات الأسماء بالقياس: "أُصول
السرخسي" 1/ 156، و"مسلم الثبوت" 1/ 185.
(2/397)
فهذا مِن طريقِ الجملةِ، ولا يُسْتَغنى عن
ذكرِ تفاصيل الأسماءِ قبل إيرادِ الحجاجِ في إثبات ما يثبتُ
منها قياساً. فنقولُ وبالله التوفيق.
الأسماءُ على ضربن:
فضرب منها: أسماءُ أعلامٍ مَحْضة، وألقابٌ وضعتْ للفرقِ بيْنَ
الذواتِ والأشخاصِ، دونَ إفادةِ المعاني والصفاتِ، وهي مثلُ
قولكَ:
زيدٌ وعَمْرٌو. وكلُ اسمٍ لا يُفيدُ معنى ولا صفةً في المسمى،
فهذا الضربُ مما أجمعوا على أنَه لا يَدْخُلُه القياسُ، فلو
وضَعُوا زيداً لرجلٍ طويلٍ، وعمراً لرجلٍ قصيرٍ، لم يَجُزْ أن
نُسمِّيَ رجلًا آخرطويلًا بزيدٍ لطوله، لأنَّ الاسمَ لم
يُوضَعْ على ذلك زيد لطولِه، ولا لصفةٍ فيه أصلاً، وكذلك لا
نقيسُ رجلًا قصيراً على عمروٍ القصير فنسميه عمراً.
الضربُ الآخر: مفيدٌ للفرقِ في هذه الصفة، نحو قولِنا: قَاتِلٌ
وضارِبٌ وعَالِمٌ وقَادِرٌ وخَلُّ خَمْرٍ، وما أشبهَ ذلكَ مما
وُضِع لإفادةِ معنى في الموصوفِ، وهذا الضربُ الذي وَقَعَ
النزاعُ فيه، فإن من نوعهِ ما قيس منه النبيذُ على الخمرِ،
واللائطُ على الزاني، والنَباشُ على السارقِ، فالحُجَّةُ لمن
جوزَ القياسَ في هذا النَّوع من الأسماءِ أن قال:
إنَا وجدنا العربَ وأربابَ اللسانِ، وضَعُوا وضْعَيْنِ دالين
على القياس:
(2/398)
أحدُهما: قولُهم: الخمرُ ما خَامَرَ
العقلَ، قالَ ذلك عمرُ -رضي الله عنه- (1)، وعن ابن عباس: كلُّ
مخمَّرٍ خَمْر (2). ولَحظُوا أشكالًا وصوراً وَضَعَت العرب
لأمثالِها أسماء فوضَعُوا لها تلكَ الأسماءَ كالصَّهالِ مِن
الحيوانِ، سَموهُ فرساً، والنّهاق سموة حماراً، والنعاب سموه
غُراباً، وليس شيءٌ من هذهِ الحيواناتِ كانت في وقتِهم، لكن
أمثالُها، فَسَاغَ لِمنْ بعدهم أن سموا ما كان في وقِتهم مِن
الحيواناتِ بالأسماءِ التي سمى مَن قبلَهم به أمثالَها، وهذا
عينُ القياسِ، وليس مع نُفاةِ القياسِ نقل عن أهلِ اللغةِ انهم
وضَعُوا ذلك لما يتسلسل من أنواعِها، ويتناسلُ قبيلًا بعدَ
قبيلٍ.
الوضْعُ الثاني: أنَّهم استعاروا للآدمي أسماءً دَلتْ على
لَحظْهم المعاني فيها، فقالوا للبليدِ: حمارٌ، وللمقدام: أسدٌ
شجاعٌ، وللكريمِ: بحرٌ، وكذلك العالِمُ، وإنَما استعارواَ هذه
الأسماءَ من موضوعاتِها لغير ما وُضِعتْ له، التفاتاً منهم إلى
المعنى الذي لحَظُوُه، والوصفِ الذي وجدوا مثلَه في الآدمي، من
بَلَادَةِ الحمارِ، وإقدامِ
__________
(1) ورد ذلك من حديث ابن عمر، قال: سمعت عمرَ على هذا المنبر
يقول: أيها الناس، إنما نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمسةٍ: من
العنب، والتمر، والعسلِ، والحنطةِ، والشعير، وما خامرَ العقلَ
فهو خمرٌ.
أخرجه: البخاري (5581) و (5588)، ومسلم (3032) (32) (33)، وأبو
داود (3669)، والترمذي (1874)، والنسائي 8/ 295، والدارقطني 4/
248 و 252، وابن حبان (5353).
(2) أخرجه أبو داود (3680) والبيهقي 8/ 288، من حديث ابن عباس
مرفوعاً الى النيي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سكت عنه أبو
داود.
(2/399)
الأسدِ، وفيضِ البحر، وهل هذا إلا عين
القياس؟!
وهذا بعينهِ هو الذي يَلْحظ الفقهاء من المعاني في المنطوقِ
التي عَدَّوا به أحكامَها إلى المسكوتِ، وهي الطُّعْم في
الحِنطةِ الذي وجدوه في الأرُزَ والذُّرَةِ، فعدّوا به تحريمَ
التفاضلِ إليهما، فقد بَانَ بهذه الطريقةِ أنَّهم عَدَوا
أسماءَ الحقائقِ من الحيواناتِ الماضيةِ، إلى الحيواناتِ
الحادثةِ بالخصيصة، واستعاروا أيضاً بعضَ الأسماء لبعض
المسَمَياتِ بالخَصيصة.
فإن قيلَ مقابل هذا الوضْعِ: بأنهم وضعوا على خِلافِ
المُقَايَسةِ، وملاحظة المعنى بخلافِ عللِ الأحكام الشرعية:
إنَّ اجتماعَ السوادِ والبياضِ في الحيوانِ، سمَّوا به الغرابَ
أَبقعاً، والفرسَ أبلَقاً، والآدمي أبرَصَاً، وسمَّوا الفرسَ
الأبيض أشْهبَ، والأسودَ من الخيلِ أدْهَمَ، ولم يوقِعوا على
كلِّ حيٍ لونه أسود هذا الاسم، فَبانَ أنَ الوضعَ على خلافِ ما
ظننتم.
قِيل: هذا النوعُ مِن الوضْعِ لا يَمْنَع القياسَ، فإِنَ
الشريعةَ أيضاً قد غايرت الأحكامَ بَيْنَ المتَشاكِلَيْنِ، كما
غايرت بين دم الحيْضِ والاسْتِحاضَةِ، وبَيْنَ المنيِّ
والمذيِّ, وهما ينحلان عن الشهوة واللذة بالقبلة والملامسة,
وفرقت بين مَيتةِ المسمكِ والجرادِ، وبين مَيتةِ الطائرِ
والسارحِ، ولم يمنعْ هذا التحكم من قياسِنا، المسكوت على
المنطوق الذي لم يتحكمْ فيه بالفرقِ بيْنَ المتشاكلَين، ولا
الجمع بين المختلفَيْن.
فإن قيلَ: ففيما وضَعَتِ اللُّغة للنبيذِ من الاسمِ غنىً عن
طلبِ
(2/400)
اسم آخرَ بالقياس على الخمرِ، يُوازيه من
الأحكام الشرعيةِ؛ أنْ نضعَ حكماً للمسكوتِ عنه، فلا نَطْلُبُ
له حكماً من اَلمنطوق به.
قيل: وَضَعَتْ له اسْماً من النَّبْذِ كما وضعوا للخمرِ أسماءَ
من العصيرِ؛ فقالوا: عصيرُ العنب، ولم يمنعْ ذلك من وَضْعِهِم
لها اسماً لتغطيةِ العقلِ، كذلك لا يمنعُ القائسينَ من وضعهم
للنبيذِ، اسمَ خمر لتغطيته بشدتهِ العقلَ، على تسميتهِ بما
اشتق لهُ من النبيذِ.
فإن قيلَ: الوضعُ الذي تَعَلقْتُم به مِن تسميةِ الحيواناتِ
ليس بوضعِ قياس، لكن ذلك وُضِعَ لكلِ نوع، فلا يبقى من النوعِ
ما يحتاجُ ويفتقرُ إلى القياسِ، وما قولُهم للصّهال: هذا فرسٌ،
إلا كقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أشارَ إلى الذهبةِ
والحريرةِ، فقالَ: "هذان حرام على ذكورِ أُمَّتي حِلٌ لأناثها"
(1)، ومعلومٌ أنَّ عينَ تلكَ الذهبةِ والحريرة من
__________
(1) ورد هذا من حديث علي بن ابي طالب، أن النبى - صلى الله
عليه وسلم - أخذ حريراً، فجعله في يمينه، وذهباً، فجعله في
شماله، ثم رفع يده وقال: "هذان حرامٌ على ذكورِ أمتى".
أخرجه أحمد 1/ 96 و 115. وأبو داود (4057) والنسائي 8/ 160،
والبيهقي 2/ 435، وابن أبى شيبة 8/ 351، وابن حبان (5434) من
حديث علي رضي الله عنه.
وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند الطيالسي (2253)، وابن ماجه
(3597). وعن عبد الله بن عباس عند البزار (3006)، والطبراني
(10889) وعن أبي موسى عند أحمد 4/ 394، 407 والطيالسي (506)،
والترمذي (1720)، والنسائي 8/ 161، والبيهقي 3/ 275.
(2/401)
النوعِ، ليس بمحرَّمٍ بالقياسِ عند أهلِ
الشرعِ، فكذلك يجبُ أنْ لا نجعل إشارةَ أهلِ اللُّغة إلى
أعيانِ هذه المُسَمَّياتِ بأسمائِها، التي وضعوها لها، اسمَ
تخصيص لها، حتى يحتاجَ مَنْ بَعْدَهُمْ إلى وضْعِ أسمائها
لأمثالها قياساً، بل الإشارة منهم إذنٌ منهم وتنصيصٌ على الوضع
لأسمِائها.
قيل: هذه دَعوى وتشبيهٌ بمجردِها، وإلا فأينَ النقلُ عنهم،
المُقتضي للوضعِ أنْ يكونَ للنوع كلِه؟ وليس إشارةُ النبي -
صلى الله عليه وسلم - إلى الذهبةِ والحريرةِ من هذا بشيء،
لأنَّ القرينةَ دَلّتْ على أنه أرادَ النوْعَ، إذ ليس في
الحريرة ما يَعُم ذكورَ أمتِهِ وإناثِها، ولا في الذهبةِ،
فَضِيقُ المُشَار إليهما عن الحُكمِ، قرينةٌ دَلتْ على أنَّ
المنهيَّ عنه متسعٌ لكلِ ذكورِ أُمتِه، والإباحةُ لكل إناثِها،
ولا يتسعُ كذلك، إلا النَوعُ كله دُوْنَ الذهبةِ والحريرةِ،
اللتين أشارَ إليهما بالحُكْمَيْنِ: الإِباحَةِ لقبيل الإناثِ،
والتحم يمِ لقبيلِ الذكورِ.
ومما اسْتدَل به مَنْ جَوزَ إثباتَها بالقياسِ؛ أنَّ أهلَ
العربيةِ -وهم النحاةُ- جعلوا كلَّ فاعل مرفوعاً، وكل مفعولٍ
به منصوباً، ولم يستندوا إلى نقلٍ عن العرب، أنَّها نطقت بذلك،
لكن عَرَفُوا ذلك بالقياسِ والاستدلالِ، وذلك أنهم لما رأوهم
استمروا على الرفع لكلِ فاعلٍ، والنصب لكلِّ مفعولٍ، جعلوا ذلك
عِلَّةً، فقالوا: إنما رفعوا الفاعلَ لكونهِ فاعلاً، ونصبوا
المفعولَ لكونهِ مفعولاً، فحمَلوا عليه كلَّ فاعلٍ ومفعولٍ،
وإن لم يكْن مما نطقت به العربُ من اللغات المحْدَثَة، وكذلك
فَعَلُوا في جميعِ وجوهِ الِإعرابِ من جرِّ المُضافِ [إليه]،
والنَصبِ بالحال، والتمييز وما شاكَلَ ذلك.
(2/402)
فصلٌ
في ذكرِ ما تَعَلَّقَ به المانعونَ من إثباتِ الأسماءِ
بالقياسِ
إن جَمِيْعَ المُسَمياتِ قد وُضعَ لها أسماءُ أعيانها، وذواتها
وأعراضِها، وأحكامِها، إمَّا بوَضعِ الشرع، كما قال سبحانه:
{وعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، أو بوضعِ
أهلِ اللغةِ، وما أعقبوا شيئاً حتى أفرَدُوا للمفرداتِ أسامي،
وللمُرَكباتِ أسامي، فقالوا في المفرادتِ: حلوٌ، وحامضٌ،
وفرسٌ، وحمارٌ، وذئبٌ، وضَبُعٌ، وذكرٌ وأنثى، وأسودُ، وأبيضُ.
وقالوا للمركّباتِ بَيْنَ الحُمُوْضَةِ والحلاوة: مُرٌّ،
وللمتولَدِ من بَيْنِ الحمارِ والفرسِ: بَغْلٌ، وللمتولدِ من
بين الذئب والضَّبُعِ: سمعٌ.
وقالوا للمجتمع فيه صورةُ الأنوثةِ والذكورةِ: خنثى، وللمركبِ
بين الأسودِ والأبيضِ من الكحلِ: أغْبَر.
ومَنْ قال: إنها موضوعةٌ بالطريقين للتعليمِ والوَضْعِ، فقد
جَمَعَ بَيْنَ القولينِ، واذا استُوعبَت الأشياءُ بالأسماءِ
وَضْعاً سمعياً، غَنِينَا عن القياس، إذ لم يبق شيءٌ يحتاجُ
إلى اسمٍ، وما ذلك إلا بمثابةِ ما شَمِلَتْهُ أحكامُ الشرعِ
السمعيَّة بنصوصِ الكتابِ والسنةِ، فإنه لا يبقى فيه للقياسِ
مَسَاغ.
ومن ذلك قولُهم؛ إن الوَاضِعِيْنَ للأسماءِ، لم يضعوها على
القياسِ، وذلك أنَهم خالفوا بَيْنَ المُتَشَاكِلَيْنَ في
الصُّورةِ، فوضعُوا لهما اسمينِ مختلفينِ.
(2/403)
ومن ذلك أن قالوا: إنَّ القياسَ إنما
يُعْلَمُ بأن يَأذنُوا فيه، أو يضعوه على المعنى، فإذا لمُ
ينقلْ عنهم إذنٌ، ولا وضع على المعنى، بل على مخالفةِ المعنى،
بطل تجويزُ إثباتِ الأسماءِ بالقياسِ، كما أن صاحبَ الشريعة
إذا أخْرَجَ الحُكْمَ مَخْرجَ التعليلِ، أو أذِنَ في القياسِ
سَاغَ القياسُ، ومع إخراج الحُكْمِ على غيرِ المعنى، وعدم
إذنه، لا يجوزُ القياسُ لإِثباتِ الأحكام.
ومن ذلك أن قالوا: لو جازَ أثباتُ الأسماءِ المشتقةِ بالقياسِ،
لجازَ إثباتُ أسماءِ الألقابِ بالقياسِ، ولَمَّا لم يَجُزْ
إثباتُ تلكَ قياساً، كذلك هذه.
ومِن ذلك ما عَيَّنُوه في الأسماءِ التي قَصَدَها أصحابُنا
بقياسِ الأسماءِ، مثلُ تسميةِ النبيذِ خمراً، والنَّبَّاشِ
سارقاً، واللائطِ زانياً، فقالوا: رأيناهم سَموا بعضَ ما
حَدَثَتْ فيه الحموضةُ خَلاً، وإْنْ كان مادتُهما واحدةً،
كماءِ الحِصْرِمِ مع خل الزبيب والعِنب، فلا يُستدل من
تسميتهِم المُشْتَد من عصيرِ العنب خمراً، عَلى تسمَيةِ
المُشْتَد من نقيعِ أو طبيخِ التمرِ المُشْتَدِّ خمراً، لأنه
يكونُ خروجاً عن وضعهم.
ومن ذلك أنْ قالوا: لا يخلو أن يكونوا وضعوا الأسماءَ لأفادةِ
المعنى، فما وضعوهُ إن كانوا قد وضعوا للبعضِ ذلك الاسمَ،
فيجبُ أن لا نُجريَ ذلك الاسمَ على غيرهِ، لأنَهم وضعوُه
للإفادةِ، والفرقُ إفادة لصفتِه في ذاتِه خاصةً، وللفرقِ بينه
وبين غيرِهِ، أو يكونوا إنما أجروهُ إجْرأءً على كلِّ محل قامَ
به ذلك الوصفُ، فيكون ذلك وصفاً مُطَّرداً لا يدخلُ عليه نقص
بإجرائِه على كلُّ ما فيه تلك الصفةِ، فيكون ذلك منهم
كالتوقيف، ولنا على إلحاقِ الاسم بكل ما فيه ذلك الوصفُ،
فلايبقى للقياسِ
(2/404)
مساغ مع النصَ منهم، وما جرى مجري النصِ،
فهذا جملةُ ما وجدناهُ عنهم.
فصل
في جَمْع الآًجوبةِ عن مُتعلقات المانِعينَ من إثباتِ الأسماءِ
قياساً، وهي خمسة (1).
فالأولُ: دعواهم أنَ في الوَضْعِ السمعي شَرعاً ووضْعاً، ما
يُغْنِي عن القياسِ، كالنُّصوصِ من الأحكامِ، وليس بصحيحٍ من
وجْهَيْن:
أحدهُما: أنه ليس في الآيةِ أنه علمَ آدمَ بطريقِ السَمع
خاصةً، بل بطريقِ السمعِ وطريقِ الاجتهادِ، ينطبقُ عليهِ اسمُ
التعليم؛ لانَّهُ هو المُلْهِمُ لسلوكِ القياس باستخراج
المعاني المُشتق منها الأسامي، ولا يَمْنَعُ إضافةُ التعليم
إليه، أن يكونَ بعضُها مَوْكُولاً إلئ علماءِ أولادِه
القائسينَ، كما قالَ سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
[الأنبياء: 79] وإنما كان إيقاعاً على استخراجِ المعنى، وكما
قالَ سبحانه في حَقِّ نبينا - صلى الله عليه وسلم -:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقالَ
في القرآنِ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وكانَ بعضُ ذلك سَمْعاً، وبعضُه
قياساً أخْرجَه الاجتهادُ في وقتِه، وبعضُه خرَجَ بالقياس بعدَ
وفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، فكان التمامُ والتِّبْيَانُ،
راجعاً إلى ما ضَمنَه مِن المعانيَ التي خُزجَتْ باستنباطِ
علماء أمتِه، وإن كانت الإضافةُ إليه والِإنزالُ عليه، كذلك
إضافةُ التَّعليمِ إلى آدمَ لا يَمْنَع أن يكونَ ذلك له سمعاً
وقياساً، ولِذُرِّيتِه قياساً.
على اننا لو سامحنا في أنَّ الأسماءَ عَمَّتْ سَمْعَاً
ووضعَاً، لم يمنعْ
__________
(1) في الأصل: "ستة"، والمثبت هو الصواب؛ لأن المانعين تعلقوا
بخمسة أمور، وسيورد المصنف عليها خمسة أجوبة.
(2/405)
ذلك من أنْ يَشْفَعَ الاسمَ السمعِيَّ
الوضعي اسمٌ قياساً، لأنَ الشيءَ الواحدَ قد تَسَمَى باسمين،
كما أنَّ الاسمَ المُشْتَرَكَ يقعُ على مُسَمَّييْنِ وأكثر،
فإن الأسماءَ لا تتنافى، فإذا وضعوا للنبيذِ، وهو نقيعُ
التَّمرِ والزبيبِ والذرةِ والشعيرِ، اسماً من النَّبْذِ،
ووجدناهم سَمَّوا عصيرَ العِنَبِ المُشتدِّ اسمَ خَمْرٍ،
لتغطيةِ العَقْلِ مضافاً إلى ما سَمَّوهُ به من العصيرِ لأجلِ
العصرِ، حَسُنَ بنا أَن نُعْطِي النبيذ بالقياس على عصيرِ
العنبِ المُشتدِّ اسمَ الخمرِ، لما فيهِ من تخميرهِ للعقلِ
وتغطيتهِ لهُ، وفارقَ الأحكام، فإِنَّه لا يجوزُ أن يَثْبُتَ
للعينِ الواحدةِ حُكمان مُتَضادَّانِ: حُكْمٌ هو التحريم، بكون
الوعيد (1)، فيثبت له بالقياس إيجاب الحد، وهو حكم يُعْطي ما
أعطاهُ الأولُ، من الصرْفِ عنهُ والمنعِ.
ولأن اللغةَ قد تأتي باسمين ضدّينِ ومتنافيين للذاتِ الواحدةِ،
من طريقْ التوقيف، كقولِهم: لسيعٌ وسليمٌ، ومهلكةٌ ومفازةٌ،
هذا في المجازِ والحقيقةِ، فأمَّا في الحقيقة ...... (2).
ولا يأتي توقيفُ الشَرعِ في شيءٍ واحدٍ لحكمينِ مختلفينِ،
فافترقا.
والثاني: قولُهم: وضعوا الأسماءَ وضعاً يخالفُ القياسَ، مثلُ
تسميِتهم المُتَشَاكِلَيْن في الصورةِ باسمَيْنِ مخْتلفينِ،
فغير مُسَلمٍ لهم الوَضْعُ، بدليلِ ما قَدَّمنا من استعارتِهم.
للاسمِ بالخصيصةِ والمعنى، ونقلهِم الاسمَ من موضوعٍ إلى
مثلهِ، وهذا وضع على القياسِ، وما ورَدَ مما ذكروه، غيرُ مانعٍ
لنا من أَنْ نَسْلُكَ مسلَك القياس فيما وجَدْنا
__________
(1) كذا العبارة في الأصل، ولم يتضح معناها.
(2) في الأصل طمسٌ بمقدار سطر، وأشار له الناسخ بقوله: كذا في
الأصل.
(2/406)
مِن التشاكلِ في المعنى، كما لم يمنعْنا
مثل ذلك من وضع الشرْعَ، مِن أنْ نقيسَ مهما وجدنا للقياسِ
مَسَاغَاً.
وهذا المَسْلَكُ مسلكُ أهلِ الظَّاهِرِ من منْعِ القياس، حيثُ
قالوا: إنا رأينا الشرعَ خالفَ بَيْنَ الأحكام في المتساوياتِ،
كَميتةِ السمكِ والجرادِ، وميتةِ الأنعام والطيورِ كلَّهَا،
فالموتُ سواءٌ بين الجميعِ، وجَعَلَ حُكْمَ السمكِ وَالجرادِ
الإباحةَ، وحُكْمَ سائرِ الميتةِ الحَظْرَ.
فكذلك خالف بين حكم الكبدِ والطِّحالِ، وسائرِ الدماء، فأباحَ
وطَهرَ الكبدَ والطحالَ، وحَرمَ ونَجسَ سائرَ الدماء وعند بعض
الفقهاءِ القائسينَ جعل بعضَ الدم طاهراً، وهو دمُ السمكِ،
ومأكولًا إلحاقاً بالكبدِ، وسائر دماءِ الحيوَانِ نجسة، وحَرمَ
قتلَ الصيودِ في الحَرَم وجعلَ إراقةَ دَمِ بهيمةِ الأنعامِ
قُرْبةً إلى الله سبحانه في الحَرَمِ.
ولم يمنعْنا ذلك من القياس، كما مَنَعَ أهل الظاهرِ، بل جرينا
عليهِ في سائرِ المُتشاكلاتِ في العللِ، فجعلنا حكمَ
المتشاكلين واحداً،
كذلك لا يَمْنَعنا وصفهُمِ للفرسِ الجامعِ بَيْنَ السوادِ
والبياضِ أبلق، والغُراب أبْقعَ، من أن نضَعَ للمُسكِرِ من
النبيذِ خمراً، كالمُسْكِرِ من عصيرِ العَنب، وكان هذا لمعنى؛
وذلك أن للشرعِ وواضعِ الأسماءِ التحكمً، ولا يمنعُنا جوازُ
تَحكُّمهِ من أن نَعْملَ بمقتضى العقولِ فيما لم يَتحكمْ فيه.
والثالثُ. قولُهم: لو جازَ إِثباتُ المشتقةِ [به] جازَ إثباتُ
الألقابِ به، لا يَلْزَمُ؛ لأن الألقابَ لا تتضمنُ المعاني،
فليس فيها شيءٌ يُلْحَقُ به غيرُها بها، فلو سَمَّينَا مَن ليس
اسمهُ زيدٌ بزيدٍ، لأجلِ تَسْميَتهِم ذلك
(2/407)
الرجل بزيدٍ، لكنا مُلحِقيْنَ لهُ به في
الاسمِ لا لمعنى ولا لخصيصةٍ، وليس هذا طريقَ القياس، إذ كان
حيٌّ (1) مثله قد سُمِّي بعمرو، فليس بأنْ نُسميه عمراً أو
بكراً، بأولى من تسميتنا له بزيدٍ، بخلافِ ما نحنُ فيه مِن
النبيذِ المُشتدِّ، لأننا إذا ألحقناهُ بالعصيرِ المُشتدِّ،
كان لمعنى هو أخصّ بهِ مِن غيرهِ، فلذلك لم يُسَمَ بهِ الخَلُّ
والمُريُّ (2) إذ لا شِدةَ فيها، فَوِزَانُه من مسألتنا، أن
يكونوا وضَعُوا زيداً لزيادةٍ في جسمِه أو عِلْمِهِ، فكان
يَلزمُنا أن نُسَمِّي كلُّ من شاركهُ في تلك الخَصِيْصةِ
بزيدٍ، وصارت أسماءُ الألقاب لما لم يَظْهرْ فيه معانٍ مِن
أوضاعِ الشَّرع، التي لا يظهرُ فيها تعليل بل نتِبعُ بمجردِ
التوقيفِ، لا يمنعُنا منعُ القياسِ عليها من القياسِ على
ماظهَرَ لها المعاني.
الرابعُ: تَعلقُهم بأَنَّهم لم يُسمُّوا كلَّ حامضٍ حدَثَ من
الكرمِ خلاً، كماءِ الحِصْرمِ، ونقيعِ الزبيبِ، فهو من نَمَطِ
الثاني. وقد مضى جوابهُ، وإِنَّما غَيروُا العبارةَ، فذاك
ذكروهُ لمخالفةِ الاسمينِ بَيْنَ المتَشَاكِلَيْنِ، وهذا تحته،
وفي ضمنِه، لأنَهم ذكروا حامضيْن اتَّفقا في الحُموضةِ فسمَّوا
أحدَهما خلا، وسموا الآخرَ بغيرِ الخلِّ.
الخامسُ: ممّا تعلقوا به أخلُّوا فيهِ بقسمٍ؛ لأنّهم قالوا:
إمَّا أنَّ يكونَ وضعوه للمسمَّى الذي وضعوه له بعينهِ، فليس
لنا أن نتعدَّاهُ، أو
__________
(1) في الأصل: "حبر".
(2) اُلمرّي: إدام يؤتدم به، يُتخذ من الخمر التي طرح فيها
السمك والملح وتوضع في الشمس، فتتغير عن طعم الخمر، وتصير
حلالاً، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه وجماعة يقولون بحله.
انظر "فتح الباري" 9/ 617 - 618.
(2/408)
قصدُوا وَضْعَاً مُطَّرِدَاً، فقد طردوهُ
وأوْجَبُوا طردَه، فصار ذلك كالنَّصِّ منهم، وليس يمتنعُ أن
يكونَ وضعُهم للاسمِ في النّباشِ لأجلِ نبشهِ، فاشتقوا مِن
نبشِه، وسكتوا عن سرقتهِ، تعويلاً على أن الاسمَ العامَّ،
يُلْحَقُ به؛ لما وجِدَ فيه مِن المعنى الذي سُمِّيَ به سارقٌ
أحياناً سارقاً، ولا يكونُ ذلكَ مِنهم، كالنصِّ المانعِ من
إلحاقِه باسمِ السارقِ قياساً.
وقولُهم: إِنَّهم لم يأذنوا، فإذا استقْرَينا وَضْعَهم،
فوجدناهم وضعوهُ على المعنى واستمروا عليهِ، فلا حاجةَ بنا إلى
إذنهِم، كما لا نَحتاجُ في القياسِ الشرعي لِإثباتِ الأحكامِ
إلى إذنِ المُشَرِّعِ، مع كوننا نَجِدُ الحُكْمَ مَوضوعاً على
المَعنى.
(2/409)
فصلٌ
في معنى قولِهم: الأسماءُ العُرفية
اعلمْ وفقكَ الله، أنَ معنى ذلك هو غلبةُ استعمالِ القومِ له
في بعض ماوُضِعَ له أو ما جرى عليه مجازاً لا حقيقةً.
مثالُه: أن الرؤوسَ اسم لكلِّ ما علا على حيٍّ أو غيرهِ، ثم إن
العُرْفَ قد يَغْلِبُ استعمالَهم له في رؤوسِ الأنعام،
واستعمالَ اسم الجاريةِ في الحَدَثَةِ من الآدميات والإماءِ،
وإنْ كانَ واقعاً على السفينةِ أيضاً، وكذلكَ اسمُ سِرَاجٍ
ووتدٍ تقَعُ على كلِ مستضاءٍ به، وكل ماسِكٍ، كالشمسِ والجبلِ،
والعرفُ صرَفَ ذلك إلى سُرُجِ الآدَميِّيْن وأوتادِهم.
وكذلك تسميتُهم بالفقيهِ مَنْ عَلِمَ الأحكامَ الشرعيةَ خاصةً،
ومُعَلمٍ مَنْ عَلَّمَ الخط خاصةً، وانْ كان كلُّ مَنْ تفقهَ
عِلماً فقيهاً بحُكْم الاشتقاقِ، وكل من عَلَّمَ صناعةً غير
الخطِّ أيضاً مُعَلماً، لكن غَلَبَ الاستعمالُ في البعضِ،
فكانَ ذلك الاسم العُرْفيِّ، ولا يجوزُ أن يكونَ الاسمُ
العرفيُّ هو ما ابْتُدِىءَ بوضعِه، لأنه يُوجبُ أن تكونَ جميعُ
الأسماءِ عُرْفِيَّةً، حيث كانت كلها قد سبَقَ لها ابتداءُ
وضْعٍ وتجَدُّدٍ وحُدُوثٍ، ما خلا الأسماءَ في كلامِ الله
سبحانه، ولا يجوزُ أن يكونَ
(2/410)
معنى ذلك الأسماءَ التي وضعهَا غيرُ أهلِ
اللُّغةِ من العلماءِ لضروب المُسَمَياتِ المعلوماتِ، وأهلُ
الصنائع لأدَوَاتِهم التي قَد حَتْها قرائِحهُمَ لأعمالِهم،
وما جدَّده أهلُ الحِرَفِ والمِهَنِ، لأن ما يَضَعُونَه من ذلك
بمثابةِ ما يضعُه أهلُ اللغةِ من الأسماءِ، فما بال هذا الوضحِ
لحوائج هؤلاءِ وأغراضِهم، سُمَّيتْ عُرفيةً، وما وَضَعَه أهلُ
اللغةِ لأغراضِهم لم تُسَم عُرفيةً؟ وللجَميعِ عُرف، ووضع
بحَسبهِ وحسب داوعيهِ وأغراضهِ، وهَلَأ انقلبَ فكان ذلك
عُرفياً وهذا لغوياً، أو كانَ الجميعُ عرفياً؟!
ولا يجوزُ أنْ يكونَ معنى العُرفِ أنه المنقولُ من غيرهِ، فذاك
هو المجازُ، وهو باسمِ المجَازِ أحقُّ وأخصُّ منهُ باسمِ
العُرف.
فإن قيل: فما الدَّاعي للعرب إلى أنْ جاءت إلى أسماءٍ وُضِعَت
في لُغتهم للعموم، جعلوها بكثرةِ الاستعمالِ للخصُوصِ،
والعاقلُ لا يُغَيرُ وضْعاً أصَلياً لغيرِ ضرورةٍ ولا حاجةٍ
ولا داعِ معقولٍ، فأوجدوا ذلك المعنى؟.
قيل: إمَّا أن الوجودَ أغنانا عن تَكَلفِ ذِكْرِ الدواعي،
والقومُ قد استعملوا على ما نقلنا عنهم، وغَلبُوا الاسمَ
للبعضِ مما شَمِلَه الاسمُ الكلى العام، وإنْ تكلفنا ذلك، فقد
يجوزُ أن يكونوا استهجنوا قولَهم: وَطْئاً وجِمَاعاً، واسمَ
ذلك الفعلٍ، فقالوا في الجماعِ: مَسيساً، وإن كان اسماً عاماً
لكلِ تلاقي بَشرَتيْنِ، وقد أشارَ ابنُ عَبَّاس إلى ذلك حيثُ
قال: إنَّ الله حَيِيٌّ كريمٌ يَكْنِي، ومما كَنَى أن كنى عن
الجِماع باللمْسِ (1). وتنكَّبوا عن ذِكرِ الحَدَثِ إلى
المكانِ، فقالوا: الغائِط
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (504)، والطبري (9581) والبيهقي 1/ 125.
(2/411)
والعَذرة، أو اقتطعوا الأهمَّ والأقربَ إلى
استعمالِهم من الأبْعَدِ، كاقتطاعِهم السراجَ والوتدَ إلى
موضوعِهم فيما بينهم، دون ما وضَعَه الله سُبحانه من الشَمس
والجبالِ. وخَف عليهم قولهم: دابة، وهو الأعمُّ فكان أسهلَ من
القَولِ فيه: فرسٌ جوادٌ وطِرْف (1).
فصل (2)
واعلم أَنّه ليس في القرآنِ ما ليس بلغةِ العربِ، وإِنَّما
أَشْكلَ على قوم بلغاتٍ مُواطِئَةٍ لما عدا العربيةِ، وليس
تخلو لغة من مواطأةِ لغةٍ في كلمات وأسماءٍ شاذةٍ، فأمَّا انْ
تكونَ مستعملةً من لغةِ غيرِ العرب، فبخلافِه قال جماعةُ
الفقهاءِ والأصوليينَ، وذكَرَهُ أبو بكرٍ من أصحابِنا.
ورُويَ عن ابن عباسٍ وعكرمةَ، أنَّ فيه بغيرِ العربيةِ نحو، طه
والمشكَاةِ وقِسْطاس (3).
والدَلالةُ على ما ذهبنا إليه: ما استدلَّ به العلماءُ من آي
الكتاب، إلا أَنَّ آكَدَها قولُه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] فنفى انْ يكونَ
أعجمياً، وقَطَعَ اعتراضَهم بتنوعِهِ بين أعجميٍ وعربي. ولا
ينتفي الاعتراضُ وفيه أعجميٌ.
وقولهُ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58]،
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
__________
(1) هو الكريم من الخيل، والجمعُ طُروف وأطراف، "القاموس
المحيط": (طرف).
(2) سيتناول المصنف هذا الموضوعَ أيضاً في الصفحة 46 من الجزء
الرابع، مظهراً أدلته وشبهات المخالفين، فارجع إليه.
(3) انظر "شرح الكوكب المنير" 1/ 194.
(2/412)
مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 195].
ولأنَّه تحدَّاهم بِه، فقالَ لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، فلو كان فيه أعجميٌ لما قَطَعَ
حُجتَهم في كذبِهم؛ لأَنَّه يكون تحدياً لهم بما ليس من
صناعتِهم.
ولَأنَ القومَ كانوا اتَهموه بأَنَه يَتَلَقَّفُ ذلك من يسار
(1)، وكان أعجمياً حتى نفى ذلك عنه بقولِه: {لِسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]، فلو كانت فيه ألفاظٌ أعجميةٌ، أو
بغير العربيةِ، لكان تقويةً لتهمتِهم لهُ، وقد نفَى عنهُ
الاختلاطَ بالعجُمةِ؛ ليصرفَ عنه قولهم: لقالوا:
{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} كمانفى عنه الكِتابةَ، وقال
سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ
وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ
(48)} [العنكبوت: 48] ولا ريبَةَ أقوى من تخَلْطِهِ بغيرِ
العربيةِ، مع تُهْمَتِهم له بأَنه تَلَقَّفَه ممَّن ليس
بعربيٍ، وكان تعريضاً لتهمةٍ أخرى، وهو أَنّهم كانوا يجعلونَ
ما فيه من العجميةِ، سبيلاً إلى جحدِ كثيرٍ من كلماتٍ عربيةٍ،
ويقولون: ليس بعربي، وإِنَّما هو كلامٌ مُخْتَلطٌ، منقول،
وأنتَ تَزْعُمُ أنه بِلُغَتِنَا، فَدعواكَ لا تطابقهُ، ومَنْ
نفى عنه الشُّبهةَ لا يُعَرضهُ للشُبهةِ.
__________
(1) وهو غلم نصراني من أهل عين التمر، كان يقرأ كتباً له
بلسانه، فزعمَ كفارُ قريش أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم -
تعلَّمَ منه، ومن غُلامٍ آخر اسمه جَبر، فأنزل اللهُ سبحانه ما
يُبطل دعواهم، وبكشفُ أباطيلهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} انظر
"تفسير الطبري" 8/ 178، و"أسباب النزول" للنيسابوري ص (190)
(2/413)
فإنْ قيلَ: إِنَما نفَى عن القرآنِ
العجميةَ وغيرَ العربيةِ، على الوَجْهِ الذي يُشكِلُ به
الكلامُ وَيعمى عن الفهمِ لمعانيهِ، فأمّا الكلماتُ المنثورُة
بَيْنَ الكلام المديدِ، فلا تُؤثرُ ولا يكونُ له حكمٌ، وكذلك
أجمعنا على انً التحَدي لا يقعُ بالأيةِ والكلمةِ والكلماتِ،
وانَما يقعُ بالسورةِ التي يَبِيْنُ فيها عُوارُ العجزِ من
القدرةِ، والفرقُ بيْنَ القادرِ والعاجزِ.
قيلَ: هذا إِنَّما يكونُ صحيحاً، أنْ لو كانت العربُ قادرةً
على نظمِ العربي إلى العَجميِ، والنَظْمُ فرعٌ على فهمِ
المنظوم والنطقِ به، ولو لم يكنْ منهم تهمةٌ بأنَّ الذي عَلمَه
أعجمى، فأمَّا إذا كَانوا هم لا يُحسنونَ ذلك، قَل أو كَثُرَ
وكان هو مُتَّهماً عندهم، بأنه تَلَقَّفَه مِن المعروفِ بيسار
مولىً مِن موالي العَجَمِ، فإِنَّه لا ينبغي أن يَفْتَحَ لهم
باباً بإدخالِ كلماتٍ قَلتْ أو كَثُرَتْ، ألا تراهُ لم
يَعْلَمْ مِن الخطِ، ولا معرفةَ كَتْبِ اسمِهِ، ولا فَهْمِ
اسمِه، حتى إنَّه سألَ علياً عنه يومَ عُمرةِ القضاءِ حتى
محاهُ متابعةً لشرطِهم (1)، ومن يَحْسِمُ مادةَ التهمةِ
بَدْءاً في
__________
(1) ورد هذا من حديث البراء في صلح الحديبية، وفيه: أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليّ: "اكتب الشرط بيننا:
هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"،
فقال المشركونَ: لو علمنا أنكَ رسولُ الله بايعناك، ولكنِ اكتب
محمدَ بنَ عبدِ الله، فقال رسوُل الله: "أمْحُهُ واكتب: محمدَ
بنَ عبدِ الله"، فقال عليّ: لا أمحوهُ، فقال رسولُ الله - صلى
الله عليه وسلم -: "أمحه، واكتبْ محمدَ بنَ عبدِ الله" فقالَ
عليّ: لا أمحوه. فقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أرني
مكانه حتى أمحوَه" فمحاه وكتبَ محمدُ أبن عبد الله .... أخرجه
من حديث البراء:
أحمد 4/ 289 و 291، والبخاري (2698) ومسلم (1783) وأبو داود
(1832) وابن حبان (4869).
(2/414)
باب الخطِّ، لا يفتحُها في بابِ اللفظِ،
ولأنه يكونُ إعناتاً لهم أيضاً، إذ لَيس عندهم فَهْمٌ لغيرِ
العربيةِ قليلٌ ولا كثيرٌ يعم، والكلمةُ من غيرِ اللغةِ
تَحرِمُ النظمَ، وتعجِز عنه، فإدخالة على لغتهِم ما يعجزهم
خروجٌ عن تعجيزهم في صناعِتهم، كمَنْ تحدى بَنَّاءً ببناءٍ
يتضمن نجارة، ومُتَرسلاً برسالةٍ ضمنها المُتَرَسِّلُ بأبيات
من شعرٍ، أو تحدى خطاطاً يَخُط الحروفَ العربيةَ بأنْ يَخُطَّ
في خلالِها كلماتٍ وأسطراً بالسريانيةِ أو العبريةِ، فإنه يكون
مُعْنِتاً، كذلك ها هنا.
فإن قيلَ: فقد جاءهم بحروفٍ تشابهُ العجْمةَ بإعجامِها، ولم
يكُ ذلك قَدْحاً في بيانهِ، ولا إعناتاً لهم في إِعجامهِ، وهي
المقطعةُ في أوائلِ السُّورِ، فكذلك كلماتٌ منثورةٌ في خلالِ
السُّورِ، لا يكون مُؤدياً إلى ما ذكرت من الإِعناتِ.
قيل: هذا لا يلْزمُ لوجهين:
أحدُهما: أنَه لغةُ القوم، وقد جاء هذا في كلامِهم وأشعارِهم
فقال قائلُهم:
يناشِدُني حاميم والرمْحُ شَاجِرٌ ... فهلاّ تلا حاميمَ قبلَ
التقَدُّم (1)
__________
(1) البيتُ من قصيدة مؤلفةٍ من أربعةِ أبيات، قيلت في حق محمدِ
بن طلحة بن عبيد الله القرشي، المعروف بالسَّجاد، لكثرة عبادته
حين قتل في معركةِ صفين، وهي:
وأشعثَ قوامٍ بآيات ربهِ ... كثيرِ التُّقى فيما ترى العينُ
مسلِمِ
شككتُ له بالرمحِ جنبَ قميصهِ ... فخر صريعاً لليدينِ وللفمِ
على غير ذَنْبٍ غيرَ أنْ ليسَ تابعاً ... علياً ومن لا يتبعِ
الحق يظلم
يذكرني "حاميمَ"والرمحُ شاجرٌ ... فهلاّ تلا حاميمَ قبلَ
التقدمِ =
(2/415)
وقال الآخرُ: قُلْتُ لها قِفي فَقَالتْ
قافْ (1)
أي: وقَفْتُ. فَقَطْعُ حرفٍ من الكلمةِ يُنْبِىءُ عن الكلمةِ
لغة القوم، كذلك إذا أتى بكافٍ عن كافي، وهاء من هادي لا يكون
خروجاً عن لغتِهم. وقالَ الآخر:
لما رَأيْتُ أمْرهَا في حُطِّي ... وأزْمَعَتْ في لدَدي
وَلَطَي
أخَذْتُ مِنْها بقُروُن شُمْطِ (2).
__________
= وقد تنازعَ الأبياتَ عددٌ من الشعراء، منهم كعبُ بن حُدير
النقدي، وفق ما قاله الجواليقي في أدب الكاتب (361)، وقيل:
للمكعبر الضبي، وقيل: إنَه لشريح بن أوفى العبسي، وقيل: إنه
لعصام بن المقشعر العبسي، وذكر ابن شَبه: أنه للأشعث بن قيسٍ
الكندي.
انظر: "شرح أبيات المغني" (4/ 289، 290) و"الكشاف" للزمخشري
(1/ 13)
(1) هو أولُ رجز للوليدِ بن عقبة بن أبي معيط، وتتمته:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لاتحسبينا قد نسينا الإيجاف
والنشوات من معتق صاف ... وعزفَ قيناتٍ علينا عزاف
انظر: "شافيه ابن الحاجب" (4/ 271)، و"تفسير الطبري" 1/ 212
و"الأغاني (5/ 131).
(2) أوردها الطبري في تفسيره (1/ 209 - 210)، ونسبها لبعضِ
الرجاز من بني أسد وهي:
لما رأيتُ أمرها في حطي ... وفتكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمطِ ... فلم يزل صوبي بها ومعطي
حتى علا الرأسَ دمٌ يغطي
ولطَّ الحق: أي جحدَه ومنعه وخاصمَ فأحمى الخصومة. والقرون:
جمع قرن، وهي الضفيرة، وشمط، جمعُ أشمط: وهو الذي اشتعل رأسُه
شيباً. =
(2/416)
يعني بحُطِّي: أبا جاد (1)، لأَن هذا حرفٌ
منها.
على أنَّ بعض السَّلفِ، كابنِ عباس وعكرمةَ، ذهبوا إلى أنَّ
لكل حرفٍ دلالةً على ما اشْتُقَ منه مثلُ: كافٍ مِن كافي،
وصادٍ من صادق، وهاءٍ من هادي، وق من قادر وحاءٍ من رحيم
ورحمان، فما خلا ذلك مِن معنى لغوي، وما خرجتْ هذهِ الحروفُ عن
لغتهم، واللهُ أعلم.
فصلٌ
جامع لِشُبَهِهِم
فمنها دعوى وجود ذلك، كالمشكاة، قيل: لفظةٌ هنديةٌ، واستبرق
وسجيل بالفارسيةِ، وطه: يا رجلُ بالنَّبَطِيةِ، وقِسطاس: كلمةٌ
روميةٌ، والأب: كلمةٌ لا يعرفها العرب، ولذلك رُوي عن عمرَ
أنَّهُ لما تلاها قالَ: هذهِ الفاكهةُ، فما الأب (2)؟.
وبَعدُوا أن يكونَ إستبرقَ من لغةِ العربِ، لأنَّه على وزنِ
استفعل، وليس للعربِ اسمٌ على وزنِ ذلك، ولا يُعْرَفُ أيضاً
اشتقاقُه من أي شيءٍ هو.
قالوا: ولأنَّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - ليس بمخصوص
بالرسالةِ إلى أهلِ لسانٍ
__________
= صوبي، من صابَ يصوبُ صوباً: إذا انحدر من علوّ إلى سفل.
والمعط: المد والجذبُ، وعنى بذلك إصعادهَ بها وهو يجذبُ
ضفائرها، وذلك في انحداره بها وصعوده. انظر تعليق الشيخ أحمد
شاكر في حاشية تفسير الطبري 1/ 210
(1) يعني أحرف الهجاء المنظومه في: أبجد هوّز حُطي ....
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (381).
(2/417)
واحدٍ، بل بُعِثَ إلى الكُل، فلا يُنْكَرُ
أن يكونَ الكتابُ الذي جاء به جامعاً للغةِ الكُلِّ، ليكونَ
خطاباً للكل وتعجيزاً للكل.
قالوا: ولأنَ النبىِء - صلى الله عليه وسلم - لم يَدعِ أنَّه
كلامُه، بل هو كلامُ من أحاط عِلماً باللغاتِ كلَّها، وهو
المُنْطِقُ بسائِر اللُّغاتِ، فنظمهُ للغاتٍ عدةٍ، لا يُنْكَرُ
في حقَه، وهو مما يَبْعُدُ عن أن يكونَ مِن عنده مع كونهِ لم
يُخَالِطْ من أهلِ اللغاتِ إلا العربَ، فالغرابةُ في الألفاظِ،
كالغرابةِ في ذكرِ النَّبيين، وقد ضُمَّنَ الكتابُ من النبيين
ما لم تعرِفْه العربُ، فإذا ضُمِّنَ من الألفاظِ ما لاتعرِفهُ،
دَل على أنه من عندِ من اطلعَ على اللغاتِ كلِّها، كما دَل على
أنه من جهةِ العَالمِ بالسير جميعِها، فهذا مؤكدٌ للإعجازِ من
هذا الوجهِ، ومُبْعد للتهمةِ عنهُ أنْ يكونَ من عندهِ.
فهذا جملةُ ما عرفنا من شُبَهِهِم.
فصل
يَجْمَعُ الأجْوِبَةَ على مَا ذَكَرُوا
أمَّا الأولْ: فدعواهم وجودَ كلماتٍ من غيرِ العربيةِ، فليس
كما ظنوا، بل هي كلماتٌ وافَقَتْها الفُرْسُ والنَّبطُ والرومُ
فيها، وكم من كلماتٍ اتفقت فيها اللغاتُ، فلا تُنْسَبُ إلى
لغةٍ دون لغة.
من ذلك قولُهم: سِروالٌ مكانَ سَراويل، والفُرْسُ تُسَمِّي
السّما، السماءَ لا غير، وقيل: السور اسم تتفقُ فيه اللغاتُ،
ويقولونَ بالفارسيةِ: جِراخ مكان سِراج، وكذلك صابون صابونٌ في
كلُّ لغةٍ، ويجوزُ أن تكونَ العَربُ سبقتْ إلى ذلك وتَبعَهم
الأعاجمُ والهندُ، ولهذا تقولُ العربُ: باذنجان، ويقول
الأعاجمُ: بانكان، كأنَه اسم مُغَيَّرٌ عن صيغتهِ
(2/418)
إلى صيغةٍ تُفارِقُها.
على أن في لغةِ العرب من السَّعَةِ ما يكونُ بعضُها بالإضافة
إلى بعضٍ كالعُجمةِ لغرابَتها، ولَذلك غُبيَ عليهم الأبُّ،
فلمْ يَدْرِ عمرُ ما هو، وقال ابنُ عباس: ما كنتُ أدري ما معنى
{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]، حتى سمعتُ
امرأةً مِن العربِ تقول: أنا فطرتُه، أي ابتدأتُه، فعَلِمْتُ
أنّه أرادَ مُنْشِىءَ السمواتِ والأرض أو مبتدىء السمواتِ
والأرض (1).
وأما تبعيدهُم الإِستبرقَ عن لغةِ العرب، لكونهِ لا يُعْرفُ
اشتقاقهُ، ولكونهِ على وزنِ استفعل، مثل استفرغَ، واَستنفذَ،
واستخبرَ، واستبرد، واستنفرَ، واستغفر، واستعلن، فلا يلْزمُ،
فإِنَهُ ليس يَلْزَمُ الاشتقاقُ في الأسماءِ؛ وقد أنكرَ
المطالبةَ به جماعة من أهلِ العلمِ، وكذلك فيهم مَنْ أنكرَ
الاعتبارَ بالأوزانِ، وقالوا: يجوزُ أن يكونَ فيها ما ليس
بمشتقٍ من شيءٍ، ولا موزونٍ بشيءٍ، ولا على وزنِ غيرِه، فمدّعي
نَفْيَ جوازِ ذلك لا يجدُ عليه دليلاً.
وبرهانُ ذلك: أَنّه لو كان كلُّ اسمٍ مشتقاً من شيءٍ غيرهِ
لتسلسل، وما يتسلسلُ لا يتحصلُ، كما استحالَ ذلك في الحركاتِ
التي ادَّعَتْ المُلْحِدَةُ العدميون، أَنّهُ لا حركةَ إِلاَّ
مثلُها حركةٌ، ولا صورةَ إلا مثلها صورة،
__________
(1) الذي وردَ عن ابن عباس في ذلك أنه قال:
"لم أكن أعلمُ فاطرَ السماوات والأرض، حتى اختصمَ أعرابيان في
بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يُريدُ استحدثت حفرها".
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 258 وعلَّقه في "الأسماء
والصفات" ص (27)، والطبري (13111).
(2/419)
فكذلك يقالُ هاهنا، إذ لو كان لا اسمَ
إِلأَ مشتقٌ، فالمشتقُ منهُ مِمَّ يُشْتَقّ؟ على أنَّكم إن
أنكرتم استبرق، لأنُّه على وزنٍ استفعل واستعجل، فقد سُمعَ مِن
لُغَتِهم ما يُزِيْلُ تَعَجبَكم وينفي استغرابَكم، فقالوا:
يثرب وهو اسمٌ لبلادٍ {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13]،
وهو على وزْنِ يَضْرِبْ، وفلانٌ اليَشْكُرِيُ مِنْ يَشْكر،
ولعلها قبيلةٌ أو بلدٌ. وقالوا: رجلٌ عَدْلٌ. والعدلُ فِعْلُه،
ومن ذلك قولهم: أفكل، وهو اسمُ فعلٍ من الأمراض (1)، وقيل: هو
رِعْدَةُ الحمَّى، وقيل: هو نفسُ الحمَّى، قال يزيدُ بن
حُجيّةَ حين انصرافِه من عسكرِ علي عليه السلام إلى معاويةَ
-رضي الله عنه-:
وقالُوا عليٌّ لَيْسَ يقْتُلُ مُسْلِماً ... فمَن ذا الذي
يَسْحي الرقابَ (2) ويقْتُلُ
وقَالوا الهُدَى هذا فإن نكرَ الهُدَى ... فشَفَتْ يَمِيْني
واعْتَرىَ الجِسمَ أَفْكَلُ (3)
__________
(1) جاء في "لسان العرب": الأفكل: على وزت أفعل: الرِّعدة، ولا
يبنى منه فعل.
(2) فى الأصل: "يشجي الرقاد" والمثبت من مختصر تاريخ دمشق 27/
332.
(3) يزيدُ بن حُجية صاحب هذه الأبيات، هو يزيدُ بن حجية
التيمي، من بني تيم بن ثعلبة بن بكر وإئل، فارق علياً رضي الله
عنه، والتحقَ بمعاوية رضي الله عنه، وكان علي قد استعمله على
الرّي، فكسرَ الخوارج واحتجنَ المالَ لنفسه، فحبسَه عليّ رضي
الله عنه، وجعلَ سعداَ مولاه، فقرَّب يزيدُ ركائبه، وسعدٌ
نائم، فالتحقَ بمعاوية رضي الله عنه وقال هذه الأبيات. =
(2/420)
يقولُ: اعْتَراهُ الحُمَى، فسقَطَ ما
تعلقوا به.
وأما قولُهم: بُعِثَ إلى الكُل فكان كتابُه جامعاً لخطاب
الكلِّ، ولغةِ آلكُل، ومُعْجِزاً للكُلِّ. فليس بلازمٍ، لأنه
لو رُوْعِيَ هَذا، لكانَ مِن الواجبِ أنْ يجمعَ التركيةَ
والزنجيةَ والسنديةَ والهنديةَ.
على أنَّ الخِطابَ إذا اعتبرَ للبيانِ، لم يقنعْ الرومُ
بكلمةٍ، والفرسُ بكلمةٍ، والنَبَطِيةُ بحرفين، يكونُ كلُّ
خطابهِ لهم: يا رجلُ، وانَّما كانَ يجب أنْ يَمُد الكلامَ
ويُطَوَّلَه جامعَاً للدعاءِ لهم، والإِنذارِ، وبيانِ الأحكامِ
بلُغةِ كلِّ فريقٍ، ولا يخصَّ العربَ بالكلام الجامعِ، ويُفردُ
كلُّ طائفةٍ من غيرِهم بالكَلمِةِ، التي لا يَحْصُلُ بها بيانُ
التكليفِ لهم، فلا فائدةَ في هذا.
وأمَّا الإِعجازُ؛ فليس فيهِ من كلامِهم ما يقتضي التعجيزَ،
فإنَّ غايةَ ما فيه عند المُخَالِفِ الكَلِمَةُ والكلماتُ،
وذلك مما لا يُتَحدّى بمثله، إذْ لا يتضمنُ فصاحةً ولا
تُحُديَت العربُ بمثلهِ، إنَّما تُحُدِّيَتْ بالسورَةِ، حتى
قال بعض النَاسِ بالسُّوَرِ الطوالِ دُوْنَ القِصَارِ.
ولأن تعجيزَ العرب كفى عن تعجيزِ غيرهم، فاذا عَجزُوا وهم أهلُ
الصِّناعةِ كان غيرُهم مِمَّنْ لَيْسُوا من أهل اللسانِ أعجزَ،
كما قُلنا في السَّحرةِ في حق موسى، والطَّبِّ في حق عيسى، لما
عَجزُوا، وكانَ
__________
= ومنها أيضاً:
خادعتُ سعداً وارتمتْ بي ركائبي ... إِلى الشام واخترتُ الذي
هو أفضل
وغادرت سعداً نائماً في عباءة ... سعد غَلام مستهام مُضَلَّلُ
"شرح نهج البلاغة" 4/ 84. و"مختصر تاريخ دمشق" 27/ 332.
(2/421)
عجزهم دليلًا على عجزِ جماعتهم.
وأما قولهم: إِنه لم يَدَّعِ أنه كلام، ولكن ادّعى أنَّه كلام
الله سبحانه، وأنهُ إذا تعددَت منه اللغات، كان أدل على أنه
كلامُ الله الذى يُحيْطُ خَبراً بجميعِ اللغَاتِ، وهو المنشىءُ
لجميعِها. فلا يلْزَمُ، لأنهُ لو كانَ القصدُ ذلك، لم يقتصرْ
على الكلمةِ بعدَ الكلمةِ، وإِنما كان يُطِيْل الكلامَ مِن
كلِّ نوعٍ على وجهٍ يكونُ إعجازاً لأهلِ تلك اللُّغَةِ.
فصل
في الأسماءِ المسمَّى بها الأحكامُ والعباداتُ هل فيها شيءٌ
منقولٌ من اللغَةِ؟
وذلك مثلُ: وُضوء وصلاةٍ وحجٍ ونكاحٍ.
وقد اختلفَ فيها أهل العِلمِ من الفقهاءِ والأصولينَ: فذهبتْ
طائفةٌ إلى أنها لم تنْقَلْ عَمَّا وُضِعتْ عليه مِن اللّغةِ
وهم الأشاعرةُ (1)، وهو يَحْكي بعضَ أصولِنا في قولنا: بأن
الزنا ينشرُ تحريمَ المُصاهرةِ، ومُستَندُنا قولُه تعالى:
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وأخذَ
صاحبُنا بها دُوْنَ حَمْلِها على العقْدِ (2).
وقولُه: إنً اللمس راجعٌ إلى اللَّمْسِ باليدِ، وهو أحدُ
الوَجْهيَنْ لأصحابِ الشَافِعي.
__________
(1) وهو ما نُقِلَ عن القاضي أبي بكرٍ الباقلاّني انظر "العدة"
1/ 189.
(2) أي حملَها على الوطءِ دونَ العقد، وعلى ذلك يكون الزّنى
موجباً تحريمَ المصاهرةِ، لتحقّقِ الوطء فيه انظر "المغني" 9/
339 وما بعدها.
(2/422)
وذَهَبَ قوم إلى أنَّ فيها ما نُقِلَ عن
اللُّغَةِ إلى وضْعٍ شَرْعي، وهم المعتزلةُ والخوارجُ وجمهورُ
أصحابِ الشافِعي (1).
ويُخرَّجُ مِن كلام صاحبنا وأصحابِه مثلهُ، مثلُ قَوْلِهم في
الصلاةِ: إنّها إيمان بقولِه سبحاَنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: صلاتكم إلى بيتِ
المَقْدِس، وجعلُوها إيماناً يحصلُ الإِسلامُ من الكافرِ
بفعلِها، ويَخْرُجُ المُسلِمُ من الإِيْمَانِ بتركِها، وجعلوا
الأعمالَ كُلها مِن جملةِ الإيمانِ، وجعلُوا أفعالَ الحَجِّ
وجملتَه مع إحرامِه حَجَّاً، مع عِلْمِنا بأن أصلَ الإِيمانِ
في اللغةِ هو نفسُ التصديق، والحجُّ هو القصدُ، والصلاةُ مجردُ
الدعاءِ، وهذا من صاحِبنا وأصحابهِ يُعطي جواز نقلِ الأسماءِ
والقول به (2)، وعليه حَمَلُوا قولَه سبحانه: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
__________
(1) هذا ما قرره جمهورُ الشافعية، حيث صرّحوا بأن الأسماء
الشرعية منقولةٌ من اللغةِ إلى معانٍ وأحكام شرعية.
انظر "التبصرة" ص (195)، و "البرهان" 11/ 177 و"المستصفى" 1/
326.
(2) وخالفَ في ذلكَ القاضي أبو يعلى، حيث بيّن أن الأسامي
الشرعية، واُن ثبتَ وجودُها، فهي غيرُ منقولةٍ عن الوضع
اللغوي، بل المعاني اللغويةُ باقيةٌ وزيدَت شروطٌ، عليها،
وقال: "فهو في الشَريعةِ كما كان في اللغة، وضُمَّت إليه شروطٌ
شرعيةٌ، ولا نقولُ بأنها منقولةٌ من اللغة إلى معاني أحكام
الشريعة" "العدة" 1/ 190 وذهب أبو الخطاب. وابنُ قدامة،
والطوفي، وغيرهم إلى أن الأسماءَ الشرعيةَ منقولة من معانيها
اللغوية، إلى معانٍ جديدةٍ، وهذا ما اختاره ابن عقيل كما هو
ظاهر.
انظر "التمهيد" 1/ 88 - 89، و"نزهة الخاطر العاطر شرح روضة
الناظر" 2/ 10 - 11، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 490 - 495.
(2/423)
وتحت هذا الاختلافِ للأصوليين مذاهبُ
مبْتَدَعةٌ تتفرعُ عنْ قَوْلِهم بالنقلِ، فإِنَهم لَمَّا
قالوا: بأن الِإيمانَ اسم لأعمال وتَرْكُ أفعالا وأقوالٍ،
أوجبَ أصْلُهم سَلْبَ اسمِ االِإيمانِ عَن تاركِ الأعمالِ،
ومُرْتَكِب المَناهي، فَسَلَبَتْهُ المعتزلةُ اسمَ الإِيمانِ،
ولم تدْخِلْة فى الكُفْرِ، بل جعلتْه على منزلةٍ بَيْنَ
منزلتين، مع بقائهِ على الأصلِ اللُّغوي، وهو التصديقُ،
وسَلَبَتْهُ الخوارج اسمَ الإيمانِ وأكسبتْهُ اسمَ الكفْرِ،
وحُكِيَ عن الحَسنِ (1) أنَّه سَمَّى الفُسَّاقَ باسمِ
النَفاقِ، قال أحمدُ فيه: كان يُعَظم الذنوبَ، وقال في
الخوارجِ؛ وقد سُئلَ عنهم: هَلْ هُم كُفَار؟ فقالَ: مارقةٌ،
اتِّباعاً منهُ للحديثِ المرفوع: "يَمْرقُون من الدينِ كمروقِ
السهمِ من الرمية" (2)، وعلى عليه السلاَمُ لما سُئِلَ عنهم
نفى عنهم الكفرَ والنَفاقَ، واختبطتْ هذهِ المذاهب التي
أثْبَتَتْ النقلَ غايةَ الاختباطِ، فبعضهم جعلَ نَفْلَ
الطاعاتِ وفرضَها، من
__________
(1) هو أبو سعيد الحسنُ بن أبي الحسن يسار البصري، مولى زيدِ
بن ثابت، سيّد أهلِ زمان علماً وعملاً، ومن كبار التابعين، حيث
أدرك عثمان وطلحة وروى عن المغيرةِ بن شعبة، وسمرة بن جندب،
وابن عباس، وأنس بن مالك وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم،
وخرَّج له الجماعة. توفي بالبصرة سنة (110) هـ.
انظر ترجمته في:
"طبقات ابن سعد" 7/ 156، "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص (87)،
و"تهذيب التهذيب" 2/ 263، "تذكرة الحفاظ"1/ 66، "وسير أعلام
النبلاء" 4/ 564.
(2) قطعةٌ من حديث على بن أبي طالب الذي أخرجه أحمد 1/ 81 و
113 و131، والبخاري (3611) و (5057) ومسلم (1066)، وأبو داود
(4767)، =
(2/424)
الإيمانِ، كأبي الهذيلِ العلافِ (1).
وبعضُهم أجرى هذا الاسمَ على فرائِضه دونَ نوافِلِه، وقسموا
الإيمانَ أقساماً، فكفروا مَنْ تَرَكَ المعرفةَ والتصديقَ،
وفَسقُوا مَنْ تركَ فرائضَ الأفعالِ وارتكبَ نواهِيهَا، ولم
يكفِّروه، ولم يُكفروا ولم يُفَسقوا مَنْ ترك نوافلَ الطاعاتِ،
وجعلوا أعمالَ الفرائض غيرَ مُحْبطةٍ للمعاصي الموجبةِ للفسقِ،
وشَرَطُوا في كونِ أعمالِ الطَّاعاتِ إيمَاناً أن يكون تاركاً
للكبائرِ، فإن ارتكبَ كبيرةً حَبطَتْ طاعاتُه، وخَرَجَتْ أن
تكونَ مُوجِبةً لإِيمانِ الفاعِل لها.
وذَهَبَ أصحابُنا نحنُ، إلى أنَّه لا شيءَ من الطاعاتِ يُكَفرُ
بمجرَّدِ تَرْكِهِ مع اعتقادِ وجوبِه سوى الصلاةِ.
وبعضُ المتأخرينَ في مُصَانَعته في مسائلِ النَّظَرِ، ومجالسِ
الجَدَلِ، يُجري المذهبَ على الكُلِّ، وليس بصحيح عن صاحبِ
المَقَالةِ، بل الصحيحُ تخصيصُه الصلاةَ. للتسميةِ
الشرْعِيَّةِ، ولخصائصَ خَصَّها بها من السنَنِ الواردةِ فيها،
وجعلوا جميعَ المعاصي غيرَ مُحْبِطَةٍ لشيءٍ من الطاعَاتِ،
واستثنوا مِنْ ذلك ما كان مِنَ المعاصي في نفس شَرْطٍ،
كالستْرةِ بالثوبِ المَغْصُوبِ، واستقرارِ القَدَمِ على
البُقْعَةِ
__________
= والنسائي 7/ 119، وابن حبان (6739).
(1) هو محمد بن الهذيل البصري العلاف، رأس المعتزلة، أخذ
الاعتزال عن عثمان بن خالدٍ الطويل تلميذ واصل بن عطاء، له
تصانيف كثيرة، وأقوال غريبة منكرة، توفي سنة (227) هـ، وقيل
غير ذلك.
انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 20 - 23، و"طبقات المعتزلة" 44 - 49،
و"وفيات الأعيان"4/ 265 - 267، و"شذرات الذهب"2/ 85، و"سير
أعلام النبلاء" 10/ 542 - 543.
(2/425)
المُغْضُوبةِ في الصَلاةِ، وهو أحدُ
المذهبين لأحمدَ، وإنما كشَفْتُ ماتفضي إليه مقالةُ القائلِ
بالنقْلِ، تحذيراً من سرعةِ الاتباع للمقالاتِ، من غيرِ تَبيين
ما في تفاصيلِها من الأخطاءِ، ولزومِ ما عَسَاهُ يُفسِدُ
أُصولاً، فإنّ كثيراً من المُتَفَقهَةِ يُسارِعون إلى ذلك،
لعدمِ المعرفةِ بما في مَطاوي ذلك.
فصل
في جَمْع الدلائِلِ على أَن فيها منقولاً من اللغة إلى معانٍ
وأحكامٍ أَن الإيمان (1) في اللغةِ مجردُ التصديقِ بدليلِ قوله
تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وقوله:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}
[البقرة: 285]، و {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]، يعني
صدق بهما، {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقول النبي صلى الله
عليه وسلم: "ما آمَنَ بالقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَل مَحَارِمَه"
(2)، ومعلومٌ أنَّه صارَ في الشَرع اسماً لا تقَعُ إطلاقُه ولا
يفهَمُ منهُ إلا اجتماعَ التصديقِ والأعمالِ التي هي فروعهُ
ودلائلُه وتروكهُ، ولاْ يقالُ في الصدق إلا مُقَيداً، ولا
يُسمى تاركُ جميعِ الفروضِ، ومرتكبُ سائرِ الفجورِ مؤمناً، إلا
بأنْ نُقَيدَ أنَّهُ مؤمنٌ الله، أو يُتْبَع ذلك بأنه فاسقٌ،
فإنَّ الإطلاقَ اسمُ مدْحَة، وقد نَطَقَ القرآنُ بذلك حين قال
سبحانه:
__________
(1) والراجح في تعريف الإيمان عند أئمة السلف: أنه تصديق
بالجَنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، فهو اعتقاد وقول
وعمل. انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 459 وما بعدها.
(2) أخرجه الترمذي (2918)، والطبراني في الكبير (7295)، 8/ 36،
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 177، وقال فيه الترمذي:
هذا حديث ليس إسناده بالقوي.
(2/426)
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ,
وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
[البقرة: 143]
وعَنَى: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ، وكان أصحابُ رسولِ الله -
صلى الله عليه وسلم - يقولون: قوموا بنا نُؤْمِنْ ساعةً (1).
يعنون: الصلاةَ وأفعالَ الخير، والسُّنَن في ذلك ظاهرة عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإِيمانُ بضْغ وسَبْعُونَ
خَصلَةً، أعلاها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذَى
عن الطريق" (2).
والصلاةُ اسم للدعاءِ المُجَردِ، ومعلوم انها إذا أطْلِقَتْ لم
تَقَعْ على دعاءٍ في الشرعِ، لكنها تقعُ على تحريمةٍ، وأفعالٍ
تتلوا التحريمَة حتى يُقالَ: إنَّه في الصلاةِ بنفسِ التكبيرةِ
المُرتبةِ على شروطِها التى لا دعاءَ فيها، حتى إن للأخرسِ
صلاةً ولا دعاءَ في صلاتِه، ولأن الزكاةَ في أصلِ اللغةِ هي
الزيادةُ، تقولُ العربُ: زَكَا المالُ يزكو إذا نَما وزادَ،
وهي في الشرع: تنقيص وتَخْسيرٌ في المالِ، لأنها إخراجُ بعضهِ
على وجهٍ، بقصدِ طاَعةِ اللهِ، بإغناءِ الفقيرِ ومواساتهِ،
فهذا منقولٌ إلى الضدَّ لا محالةَ، وما وُجدَ فلا يجوزُ
جَحْدُه، وهذا كلُّه قد وُجِدَتْ تسمِيتُه في أشياءَ ليست
الَأشياءُ التي وُضِعَتْ لها الأسماءُ اللغوية، ومِمَّا يدلُّ
على ذلكَ أن الله سبحانه قد حَدَدَ لنا عباداتٍ لم تكنْ لأهلِ
__________
(1) أوردَ هذا الأثرَ عن معاذ بن جبل البخاري (1/ 45)، وابن
أبي شيبة، في كتاب الإيمان. (105) ووردَ عن عبدِ الله بنِ
رواحة، عند ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (106).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 379 و 414 و 445، ومسلم
(35) (58)، وأبو داود (4676)، وابن ماجه 57، والترمذي (2614)،
والنسائي 8/ 110، وابن حبان (166) و (191).
(2/427)
اللغةِ، ولا عَرفُوها فيضعونَ لها اسماً،
فاحتيجَ إلى وَضْعِ أسماء شرعية لهذهِ الأشياءِ المُحْدَثَةِ،
كما أنَّ أهلَ الصنائعِ قد حَددُوا أدواتٍ وآلاتٍ لم تكن
وحددوا لها أسماءَ، كذلك هاهنا في العباداتِ المُحْدَثَةِ يجبُ
أن يُحْدثَ لها أسماء.
فصلٌ
يجمعُ أسئِلَتَهم على هذهِ الأدِلةِ
قالوا: الإيمانُ غيرُ منقول بل هو التصديقُ على ما كانَ.،
وإنما المرادُ بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] فإنهُ لم يُرِدْ به صلاتَكم، وما
الذي أحوجنا إلى ذلك، وإنما أراد بظاهرِ الآيةِ: ومَا كانَ
الله لُيضيعَ تصديقَكُم بالصلاةِ إلى بيتِ المقدسِ.
على أنَّه قد قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، وأرادَ بهِ صلاةَ الفجرِ، فسمَّى
الصلاة قُرآناً؛ لأن فيها قرآناً، ولا يقالُ: إن القرآنَ اسمٌ
نُقِلَتْ إليه الصلاةُ، كذلك تسميتُه الصلاةَ إيماناً لا يُعطي
أنه نقَلَ إليها اسمَ الإيمان، وإنما سمَّاها إيماناً، لكونِها
من شواهدِ الإيمانِ.
وقولُكم رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمانُ
بضْعٌ وسبعونَ جُزءاً أعلاه قولُ: لا إله إلأَ الله، وأدناهُ
إماطةُ الأذى عن الطريقِ"، فإنَما هو خبرُ واحد، ونحنُ في أصلٍ
عظيمٍ لا يجوزُ الخلافُ فيه، ولا العملُ بخبرِ واحدٍ.
ولو ثبتَ أنَّه قولُ النبي عليه الصلاة والسلام، وكان طريقُه
تواتراً خارجاً عن
(2/428)
الآحادِ لما كان حجةً؛ لأنَ قولَه:
"الإيمانُ بضغ وسبعونَ جُزءاً أعْلاهُ قولُ: لا إلهَ إلا الله
" نحنُ مُجْمعُونَ على خلافِ الظاهر، لأنَ الإيمانَ عندنا هو
التصديقُ بالقلب، وأَنً جميعَ ما ذُكِرَ من القولِ والأفعالِ
شواهدُ لو تجرًدت عن اعتقاَدٍ لكانت مُنْحَبِطَةً، وعندكم أنَّ
الاعتقادَ إِنْ لم يكنْ ايماناً، وإِنَما هو بعضُ ايمانٍ،
فإنهُ أعلى الشُعَبِ، فلم يبقَ إلا أنه ذكَرَ الخِلالَ
المعدودةَ من الأفعالِ باسمِ الِإيمان، لأنها شواهدُ على
الإيمانِ، كما سُمِّيَ النبى صلى الله عليه وسلم باسم ما بعثَ
به: {ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو} [الطلاق:10 - 11]،
وسُمَّيَ عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، وهذا وأمثالُه
تجوُّزٌ واتساع في الكلامِ.
والذي يُوضِّحُ هذا: نقيضُ الإيمانِ، وهو الكفْرُ، فإِنَهُ
الاعتقادُ، وجميعُ الأفعالِ من سجودٍ للصَّنمِ والصليب ولزوم
السَّبتِ، أو الأحدِ، على ذلك دلائلٌ وشواهدٌ، وليست منَ
الكُفر (1)، ولأنَ الكفرَ ما أعدم الاعتقادَ، فلمّا زالَ
الإيمانُ عُلمَ أنّه ليس هو إلاّ التصديق.
وأمَّاقولُكم: إنً لنا عِباداتٍ تتجددُ، فلا بُدَّ لها من
أسماءٍ؛ سِيَّما ونبينُا صلى الله عليه وسلم بُعثَ إلى
الكافَةِ مَن في زمانِه، وكل عصرٍ بعده، إلى يومِ القيامةِ.
فليس بلازمٍ؛ لأنه لم يتجددْ في الشرعِ شيء لم يكنْ له في
اللغةِ اسم موضوع، وإلا فبَيِّنوا، ما الذي تجدد من المسميات،
كعبادةٍ لم يكنْ لها اسمٌ، أو عقد لم يكنْ له اسمٌ؟ ولن يجدوا
إلى ذلك سبيلاً.
قالوا: ولأنَّ منْ يُسلِّمُ لكم أن اسمَ الصلاةِ جرى على
الأركانِ والأفعالِ، بل لم يَجُزْ عندنا إلا على الدعاءِ فقط،
وما خَلَتْ مِن دعاءٍ،
__________
(1) بل هي من الكفر.
(2/429)
ولو ما تضمنته الفاتحةُ، وهي ركن لا بُدَّ
منها، والتشهُّدُ الأخيرُ ركن، وما خلا من دعاءٍ واجبٍ أو
ركنٍ، وأمًا الأدعيةُ المسنونةُ والمندوبةُ فكثيرة، ويكفي أن
يكونَ فيها دعاء، فتُسمّى به لا لأجلِ الأفعالِ، وما ذلك إلا
بمثابةِ الصوم الذي سُميَ به الإِمساكُ عن الأكلِ والشرب
والجماع لا لأجلِ النَيةِ، وَالحجُ سُميَ بالقصدِ، ولا ينفكُ
الحجُّ من قَصدٍ، لأنه عِدَةُ مناسكَ في أمكنةٍ مختلفةٍ، لا
بُدَّ من المضيِّ اليها، والقصدِ نحوها، إذا كان في غيرِها،
فَالآفاقي تقْصِدُ مِن دُويرةِ أهلهِ إلى ميقاتِه، ثُمَّ مِن
الميقاتِ إلى موقفِ عرفةَ، ثم مِن عرفةَ إلى المزدلفةِ، ثم إلى
منى، ثم الى الكعبةِ، ثم السعي بَيْنَ الصفا والمروةِ، ثم
العَوْد الى منى، للبيتوتةِ والرمي، وهذه كُلها قُصودٌ،
ويندرجُ في إثباتِها الأذكارُ والتروك والتجنباتُ التي وَقَعَ
عليه لأجلِها إحراماً، والاعتكافُ ملازمةُ مكانٍ مخصوصٍ بنيةٍ،
والايمانُ اعتقاد وتصديق، يستتبعُ أعلاماً ودلائلَ عليه تظهرُ
على الأركانِ، ولذلك قال: "بُنِيَ الِإسلامُ على خمسٍ" (1)
وذَكَرَ الأقوالَ والأفعالَ، ولو كانت مِن ذاتِ الإِيمانِ لم
تكنْ مَبْنيةً عليهِ؛ لأنَّ الشيءَ لايُبْنَى على نفسِه.
قالوا: ولو سلَّمنا لكم أن الأعمالَ نفسَها تُسمى صلاةً، لم
تكنْ لكم فيه حجةٌ، لأنها لا تخرجُ عن وضعِ اللغةِ، وذلك أن
هذه الأفعالَ متبعٌ بها فعلَ الإمامِ ومُقْتَفٍ بها على أثرهِ،
والتالي للسابقِ يُسمى في
__________
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن عمر:
البخاري (8)، ومسلم (16)، وأحمد 2/ 26 و 93 و 120 و 143،
والحميدي (703)، والترمذي (2609)، والنسائي 8/ 107 وابن حبان
(158) و (1446).
(2/430)
اللغةِ المُصلَّي، من حيثُ إنه تالٍ، وذلك
يُسمى في السبقِ أوَّلًا ومُصلياً، والزكاةُ الزيادةُ، وقد
نَطَقَ القرآنُ بالمضاعفةِ لثوابِها، فما أوقَعَ عليها اسمَ
الزكاةِ، إلا بفاعلِ الوضْعِ الذي هو الزيادةُ، وسَقَطَ حكم
النقصانِ من المالِ في الحالِ، نظراً إلى الزيادةِ في المالِ،
والوضوءُ مأخوذٌ مِن الوَضَاءَةِ، وأصلُه في اللغةِ ما أزالَ
الدرَنَ والوَسَخَ، والطهارةُ النزاهةُ، وهذا هو الحقيقةُ مِن
الطهارتين: الوضوءُ وإزالةُ النجاسةِ، فأين النقلُ والحالُ
هذه؟!
فهذا في باب العباداتِ، وأمَّا العقودُ، فإن النكاحَ: الجمعُ
والضمُّ، والعقدُ: جمعٌ بَيْنَ قولين، وجمعٌ بين شَمْلَيْن
وثمرتين، ولا يخلو ذلك العقدُ من اجتماعِ أشخاص، وبعد العقدِ
يُفضي إلى اجتماعِ أشخاص، والسَّلَمُ استسلامٌ، والضربُ
مصارفةٌ، فلا حاجةَ إلى القولِ بالنقلَ.
فصلٌ
يجمعُ الأجوبةَ عن الأسئلةِ على طُرقِنا في نقلِ الأسماءِ.
اما دعواهم أن الإيمانَ مجردُ التصديقِ، وانكارُهم أنَه
منقولٌ، فلا تَصِح، لأن الوضعَ الأصلي ينبغي أنْ يكونَ حقيقةً
لغةً وشرعاً، فإذا كان الوضعُ اللغوي مُعْتدَّا بهِ وضعاً،
فالتسميةُ الشرعيةُ لا يجوزُ أن تَقعَ على أشياءَ أَغْياراً
لما وَقَعتْ التسميةُ اللغويةُ عليه، أو مزيدةً إلا نقلاً، ألا
ترى أن الاستعارةَ والمجازَ لم تكُنْ بوضعِهم لها على ما
استعاروه لها من الأسماءِ، مبقاةً بل مستعارةً، فكذلك الوضعُ
الشرعيُ يجبُ أنْ لا يكونَ مُبقىً على ما أريدَ به في اللغةِ،
مع قولِ الشرعِ: إنهُ الأفعالُ
(2/431)
المخصوصةُ والأقوالُ، ولا تكونُ الصلاةُ هي
الدعاءَ، مع تسميةِ صاحبِ الشريعةِ للأفعالِ صلاةً.
وقولُهم: ما الذي أحوجَنا إلى حَمْلِ الإيمانِ على الصلاةِ؟
فلأنَّ القومَ أظهروا التأسفَ على من ماتَ من أقاربِهم قبلَ
النسْخِ، وقد كان صلى إلى بيتِ المقدسِ (1)، وما كان الموتى
تركوا الإيمانَ والتصديقَ حتى يتأسَّفوا عليهِ، فترجعَ
التسليةُ بنفي الإضاعةِ اليه، بل يندموا على نفي الصلاةِ، فعاد
قولُه سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
[البقرة: 143] إليها دون التصديقِ.
وقولُهم: إن خبرَ شُعب الإيمانِ خبرُ واحدٍ، ونحنُ في أصل عظيم
لا يثبتُ بمثلهِ. لا يَصِح، لأَنَّ الأمةَ تلقته بالقَبولِ،
فصار كخبرٍ متواترٍ، وأصولُ الفقهِ ليس يُطلبُ لها قواطعُ
الأدلةِ، ولا حكمُها حكمُ أصولِ الدينِ، ولذلك لا يفسقُ ولا
يكفرُ مخالفُنا فيها، ولأنَّ خبرَ الواحدِ من الأصولِ الذي
صَلَح للقضاءِ على أصلٍ ثَبَتَ بدليلِ العقلِ، وهو براءةُ
الذِّمَمِ من الحقوقِ، فجاءت البيناتُ وهي آحادٌ، وأخبارُ
الديانات (2)
__________
(1) ورد ذلك من حديث ابن عباس، قال: لما وُجّهَ النبي صلى الله
عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: كيفَ بمن ماتَ من إخواننا وهم
يصلّون نحوَ بيتِ المقدس؟ فأنزلَ الله جلَّ وعلا: {وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143].
أخرجه أحمد 1/ 295 و 304 و 347، والترمذي (2964)، وأبو داود
(4680)، وابنُ حبان (1717). وله شاهد يتقوى به، من حديث
البراء، قال: مات على القبلة قبل أن تُحوَّل رجالٌ قتلوا، فلم
ندرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أخرجه البُخارى (40) والطيالسي (722).
(2) كذ في الأصل، ولعلها: "الديات".
(2/432)
الآحادُ، فشغلت الذِّمَمَ، وأزالت ما كان
ثبتَ من فراغِها وخلوَّها بدلائل العقولَ.
وأما حملُهم لها على أنَّها شواهد ودلائل على التصديقِ،
ودعواهم أن الإجماعَ منا ومنهم حاصل على أن الإيمان وراء ذلك،
هو أمرٌ في القلب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سألَه
جبريلُ عليه السلام عن الإسلامِ فسرة بالشهادتين، وعَجبَتِ
الصحابةُ مِن سؤالهِ وتصديقهِ، فقال: "ذاك جبريلُ أتاكم
يُعَلِّمكُم أمرَ دينكُم" (1)، وما خَرَجَ مَخْرَجَ البيانِ لا
يكونُ على سبيلِ التوسعِ والمجازِ والاستعارةِ، وصَدقَ ذلك
القرآنُ، حيثُ فسرَ الإيمانَ بقولِه: {قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
(2)} [المؤمنون: 1 - 2]، وسَاق أفعالَهم مِن الطاعَاتِ،
وتَجنبهم للمعاصي الموبقاتِ، وقال: "الحَج عَرَفَة" (2)،
وأرادَ به الوقوفَ، وليس الوقوفُ هو القصد، وقالَ:" الحَجُّ
العَجُّ والثَّج" (3) ففسره بالفعلِ والقولِ، وقال:
__________
(1) قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه،
أخرجه مسلم (8)، وأبو داو (4695)، والترمذي (2610) والنسائي 8/
97، وابن ماجه (63)، والطيالسي ص 24، وابن حبان (168) و (173)،
والبغوي في "شرح السنة" (2).
(2) ورد هذا من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحج عرفات، فمن أردك
عرفة ليلة جَمعٍ قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك، .... ".
أخرجه، أحمد 4/ 309 - 310، وأبو داو (1949)، والترمذي (889) و
(890)، والنسائي 5/ 264 - 265، وابن ماجه (3015)، وابن خزيمة
(2822)، وابن حبان (3892)، والبغوي (2001)، والبيهقي 5/ 116.
(3) أخرجه من حديث أيي بكر الصديق رضي الله عنه، الترمذي
(827)، ومن =
(2/433)
"مِفْتاحُ الصَلاةِ الطهُورُ، وتحريمُها
التكبيرُ، وتحليلُها التَسليمُ (1) وقال: {ولا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] وإنما
رَجَعَ ذلك إلى القراءةِ، والأصلُ في كلامِه - صلى الله عليه
وسلم - الحقيقةُ، فمُدَّعِي المجاز عليه الدليلُ.
وأمّا دعواهم أنَّ الكُفر هو الاعتقادُ، فكذلك ينبغي أنْ يكونَ
الإيمانُ هو الاعتقادُ، فهذا دفعُ وضعِ الشريعةِ لاسم الإيمانِ
بالقياس على الكفرِ. ولأنه ليس إذا لم يتخلَّفِ الإيمانُ
بتخلفِ الَأفعالِ، يَدُلُّ على أنَ الأعمالَ ليست من جملةِ
الإيمانُ، ألا ترى أنّ الأعمالَ في الصلاةِ والحجِ، والإمساكَ
في الصوم، لا تتخلَّفُ العبادةُ بتخلفِه مع زوالِ النيةِ، ولا
يَدُل على أن العباداتِ مجردُ نِيةٍ.
وأما جَحْدُهم عباداتٍ تتجددُ، وسؤالُهم عنها، فلا شكَ أنّ
العربَ لم تكُ تعرفُ كيفياتُ هذه التعبدات، كمناسكِ الحجِ
المخْتلفة، وأركانِ الصلاة، والكفاراتِ المختلفة باختلافِ
أسبابِها، ولا الحدودَ المختلفة باختلافِ الجرائمِ، ثُمَ إنّ
الشرعَ أوجَبها، وتَعبدنا بها، فلا بُدَّ مِن أنْ يَضَعَ لها
أسماء نعرفها بها، فسمّى كُلاً منها باسم: إمَّا موضوع لغيرها،
أو جَدّدَ لها اسماً.
__________
= حديث ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجه (2896) والبغوي في
"شرح السنة" (1847).
والعجُّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجُّ: إراقة دم الحيوان في
الحج.
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 290.
(2/434)
وأما تعويلهم على أنَّ الصلاةَ ما خَلَتْ
من دعاءٍ والحج من قصدٍ والزكاةَ من مضاعفةِ أجرٍ، والصَّومَ
من إمساكٍ، فهذا نظر إلى مالا يستَحِق به الاسمُ شرعاً إلا
بانضمام شيء، فلو أتى بالدعاءِ، وتركَ ركناً من الأفعالِ،
وأمسَكَ عن كُلِّ مبَاحٍ ومحظورٍ، وقَصَدَ كل مَنْسَكٍ، وأقامَ
بكلِّ مكانٍ محترمٍ لكنْ بغير نيةٍ، وغيرِ ستارةٍ وطهارةٍ
للصلاةِ، وإلى غيرِ القبلة، لم يَقَعْ الاسم الشًرعي مع وقوع
الاسمِ اللغوي في وَضْعِ القَوْم، ومحال أنْ يَكونَ الوَضْع
اللغوي مبْقى، وهو ينفى في الشرع، لمكانَ اختلالِ ما اعتبرة
الشرع، فما صار الاسم اللغوي بعد وضعَ الشرع ما وضعَ واعتباره
لما اعتبرَ من الشروطِ، إلا بمثابةِ المجازِ الذي يحْسُنُ
نفيهُ، حتى إنَّه يقالُ للمُمْسكِ من غير نِيَّة: ليس بصائمٍ،
وللحاجِّ مع الوطءِ متعمداً: ليس بحاج، لكنه مُفسدٌ للحج،
ونقيسه على هذا في صلاةِ المحْدِثِ، فعلِمَ بأن الوَضْعَ
منقولً إلى معنى آخر.
ألا ترى أن الوَضْعَ اللغويَ الذي لم ينْقلْ، إذا تشعبَ معناة،
لم تَقَع التسميةُ عليهِ إلا مجازاً، كالرُّمح إذا قُلعَ
سنانُه قيلَ: قناةٌ، والمائدة إذا رُفعَ الطعام عنها قِيل:
خِوان، فصَارَ الحجُّ والصلاة إذا رُفع عنهما بعض أنساكِهما
وشرائطِهما، في رفعِ الاسمِ عنهما شرعا بعدما سُمِّيتْ،
كالأسماءِ الموضوعةِ لغةً لأشياءَ مخصوصه، لا تقع عليها إذا
اختلَّت تسمياتها، مع حراسةِ ما وضِعَتْ لأجلهِ في اللغةِ، وهو
القصد في الحج، والدعاءُ في الصلاةِ، والإِمساك في الصومِ.
وأمَّا تعويلهم على أنها سميَتْ صلاة للاتباع، وأن المأمومَ
تالٍ ومُتابع، فهذا إنْ وُجِدَ في المأمومِ، يجب أَن يفْقَدَ
في الإمامِ
(2/435)
والمنفردِ، كما يفقدُ في كلُّ مبتدىٍء في
الرمي والسباقِ وغير ذلك، مما يقالُ فيه: أولُ، ومُصَلِّي،
ودعواهُم بقاء الوُضوءِ من حيثُ الوَضَاءةُ، فالغاسلُ أعضاء
وُضُوئِهِ بماءِ الوردِ، وَضِيءٌ ومُتَوَضِّىءٌ لغةً، فلِمَ
نُفِيَ عَنْهُ الاسمُ شرعاً؟ للإخلالِ بنيةٍ عند قومٍ، وطهورٍ
مخصوص عند قوم، وأبدلَ عِند العَدَم بماءٍ يُلَوثُ ولا يَغْسلُ
دَرَنَاً، وأجِيزَ بماءِ اُلمدَودِ والآسنِ، ولم يَقًعْ عليهَ
الاسمُ، مع حصولِ المعنى اللغوي بالمياهِ المستخرجةِ من
الأشجارِ.
وأما تعلقهم في العُقودٍ بالاشتقاقِ، فإن العربَ تُوقعُ الاسمَ
على من استسلمَ وأسلفَ، وإنْ لم يدفعْ جميعَ ثمنِ السلفِ في
مجلس العقدِ، والنَّكاح يُعقَدُ بَيْنَ مشرقيٍّ ومغْربيه ولا
جَمْعَ، وإن اجتمعا حقيقة ومشاهدةً من غير إيجابٍ وقبول واقع
عليه التسمية في اللغة، وانتَفَتْ عنه تسميةُ النَّكاحِ في
الشرعِ، فأين البقاءُ على الوضعِ اللغوي والحالُ هذا؟.
فصل
يجمعُ ما تعلقوا به من شُبَهِهِم بدعوى ما يحكمُ على أدلتِنا.
فمن ذلك قولُه سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}
[مريم: 97] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ
قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
(195)} [الشعراء: 195] {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ} [الزمر: 28]، وهذا يعني أنَّ القراَنَ جميعهُ عربيٌ،
سِيَّما على قول مَنْ يجعلُ للعموم صيغةً، وأنْتُم مِن جُملةِ
القائلينَ بالعموم، فاقتضى أنَه ليس في القرآنِ غَيرُ العربي،
وجميعُ مادَللتم على نًفيَ اْلنَبَطيةِ والفارسيةِ عنه،
(2/436)
ينبغي أن تستدلوا بهِ على نفيِ نقلِ شيءٍ
منهُ عن العربيةِ، إلى ما ليس منها ولا من وَضْعِها، وأجمعت
الأمةُ قاطبةً على أن الله لم يَبْعَث محمداً صلى الله عليه
وسلم إلا باللغةِ العربيةِ، ولا أنْزَلَ كتابَه إلا بالعربيةِ،
فدعوى نقلِه عنها، أو نقلِ بعضِه أمر يحتاجِ إلى دلالةٍ صالحةٍ
للنسخِ، لأنَ النقلَ مِن لغةٍ إلى لغةٍ، أكثرُ من النَقْلِ من
قِبْلَةٍ إلى قِبْلةٍ، ومن سجودٍ إلى ركوع، وما شاكَلَ ذلك من
هيئاتِ التعَّبداتِ.
ولو كان قد نقلَه الله من لُغتِهم إلى غيرِها، لبينهُ النبى -
صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً، ولو بينهُ كذلك، لنُقِلَ
إلينا نقلًا متواتراً، كما نُقِلَ كلُّ ناسخٍ لمنسوخ، وكل ما
نُقِلَ إليهِ من الأفعال، كما نُقلَ مَسحُ الخُفينِ بعد إيجاب
غَسلِ الرجلين، والجمعةُ رَكعتانِ في وقتِ الظهرِ التي هي
أربعُ، وكما نُقِل قصرُ الصلاةِ في السَّفرِ بعد تمامِها في
الحضِر، بل الهمة بكلامِ الله، وبيانُ نقلهِ عن وضعِ اللغةِ
العربيةِ، من عباداتٍ وأحكامٍ وعقودٍ، أشدُ وأكَثرُ منَ
الهمَّةِ بنقلِ همه في فعل أو مقدارِ فعل متعبدٍ به، فهذه دعوى
عظيمة تحتاجُ إلى نقل يكشفُها، ودليل يوازيها ويصلحُ لها، وإذا
لم نجدْ، فالتمسكُ بما أخبَرَ الله سبحانَه من كونِ كتابهِ
عربياً، ولسانِ نبيه عربياً، واجبٌ لا يجوزُ الميلُ عنهُ
والتسهيلُ فيه، أولا تراهم كيف شحوا بأن يغيروا التابوتَ من
التاءِ إلى الهاءِ، ونافسوا في ذلك من لغةِ هُذيلٍ إلى لغةِ
قُريش، فَمُذْ ظهرت فنقلتْ عنهُ المُشاحةُ في تغييرِ حرفٍ من
لغةٍ عربية إلى لغةٍ عربية أيضاً، تمسكاً بلغةِ قريش، حيث كانَ
النبى منهم، يعلمون أنَ في القرآن منقولًا عن أصل اللغةِ
العربية إلى وضع آخرَ، ولا يكشفوَنه ويتلونه كشفاً ونقلًا
يليقُ به! فلما كان النَبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو
المُخاطبُ بإيجاب البيانِ
(2/437)
بيَّنَ هذا بياناً شافياً، ولا الصحابةُ
الذين لم يُسامحوا في كتاب اللهِ تعالى بحرفٍ، نقلوا ذلك نقلاً
متواتراً، يَقْطَعُ العُذْرَ ويُوجبُ العِلْمً، ولا ظَهرَ عنهم
إجماع يقطعُ به، عُلِمَ أن هذا توهم من قائلهَ ومخاطرةُ من
معتقده.
قالوا: ولأنَه لو جازَ أن يخاطبهم بالصلاةِ، وهي في لغتهم
الدعاءُ، وهو لا يريدُ الدعاءَ، والزكاةِ، وهي في لغتهم
الزيادةُ، وهو لا يريدُ إلا التنقيصَ والتشعيثَ، وخاطبهم
بالحجِّ، وهو لا يريدُ القصدَ، بل الوقوفَ والرميَ والطوافَ
والسعيَ، لجازَ أن يخاطبهم بالقتلِ، وهو يريد منهم قطعَ اليدِ
أو الجلدِ، ويخاطبهُم بالصومِ، وهو يريدُ منهم الأكلَ والشربَ،
وأن يقولَ: اقتلوا المشركينِ، وهو يريدُ المؤمنينَ، فلما لم
يَجُزْ هذا لم يَجُزْ أن يُدعى أنهُ أمرهم بما ليسَ في لغتهم،
بل هذا أحسنُ لأن جميعَ ما غيرت إليهِ من الأسماءِ لغة لهم،
لأنَ قَطْعَ اليدِ الذي نُقِلَ القتلُ إليهِ، والأكلَ والشربَ
الذي أرادَ به الصومَ على ما بينا، كلَّه لغتهُم، والذي جعلتم
النقلَ إليه ليس بلغةٍ رأساً، فإذا لم يَجُزْ فيما ذكرنا،
ففيما ذكرتُم أولى أنْ لا يجوزَ، لأنَّه ليس مِن لغةِ القومِ
رأساً.
وقد تكلفَ قومٌ منهم بأنْ نقلوا الوضعَ الأصلي، واستشهدوا عليه
بقولِ العرِب، فقالوا: إنَّ الصلاةَ الدعاءُ بدليل كتاب الله،
وكلام العربِ في نثرِهم ونظمِهم.
فمن كتاب الله سبحانه قولُه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ
صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله: {وَمِنَ
الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} [التوبة: 99]
ومنه سُمَيتْ الصلاةُ على الميت صلاةً؛ لأنها دعاءٌ
(2/438)
له، وإن لم تَجمعْ رُكُوعاً ولا سجوداً ولا
تَشهداً.
وقال الأعشى يصفُ خَمَّاراً وخَمراً:
لَها حَارِس لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَها ... وإن ذُبِحَتْ
صَلَّى عَليها وزَمْزَمَا (1)
أي: دعا لها بالبركةِ خيفةَ فنائِها.
وقولُ الآخر:
وقابلَها الرِّيحُ في دَنِّها ... وصلى على دَنِّها وارتسمْ
(2)
يريد: دعا لها.
وقولُ الآخر:
تَقُولُ بِنْتي وقَدْ أزمَعتُ مُرْتحلاً ... يارَب جَنِّبْ أبي
الأوصَابَ والوَجَعَا
عليكِ مثل الذي صلَّيت فاغتمضي ... جفناَ فإنَّ لجنبِ المرءِ
مُضطَجعا (3)
__________
(1) انظر ديوان الأعشى الكبيرص (343) طبع مؤسسة الرسالة.
(2) البيت للأعشى والدَّن: هو الراقود العظيم، لا يقعدُ إلا أن
يحفرَ له.
انظر: "لسان العرب" صلا و"القاموس المحيط" باب "النون" فصل
"الدال".
(3) البيتان الأعشى، وقد ورد في ديوانه: "وقد قرَّبت مرتحلاً"
بدلاً من: "وقد أزمعت مرتحلا".
"فاغتمضي نوماً" بدلاً من "جفنا"، انظر ديوانه ص (151).
(2/439)
فصلُ
يجمعُ الأجوبةَ عن ذلك إن شاء الله
أمَّا تعلقهم بالآياتِ المُضمنةِ بأنَ الخطابَ عربيٌ والقرآن
بلغتِهم، فليس فيه حُجةٌ لمنع نقل أسماء منه، كما لم تمنعْ
زياداتٌ لا يمكن إنكارُها، جَعْلَ الاسمِ الذين كان خاصَّا
لغيرِها أو لبعضِ ما فيها شاملاً لها، فقال - صلى الله عليه
وسلم -: "الحج عَرَفَةَ" (1)، "الحجُّ العجُّ والثج" (1)، ولما
سُئلَ عن الصَّلاةِ قال:"صَل معنا" (2)، وقالَ: "صَلوا كما
رَأَيْتموني أصلي" (3)، ووصفَ الصلاةَ بالأفعالِ، وفعلَها على
هذه الهيئاتِ والأركانِ، وحكمَ على من تَرَك ركناً منها
بالِإبطالِ والِإحباطِ، ورفعَ عنها الاسمَ بتركِ شرطٍ من
شرائِطها، وفعلَ أفعالاً مخصوصةً، وقال: "هذا الوُضوءُ الذي لا
يقبلُ الله الصلاةَ إلاّ بهِ"وكررَ وقال:"هذا وُضوئي ووضوءُ
الأنبياءِ من قبلي" (4)، ووقف بعرفة وقال: "مَنْ شهد صلاتنا
هذه ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً ونهاراً
فقدتم حجه وقضى تفثه" (5) وأمر بالنداءِ إِلى الصلاةِ
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 433.
(2) تقدم تخريجه 1/ 194.
(3) ورَدَ هذا في حديثِ مالك بن الحويرث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، أخرجه البخاري (631) و (6008) و (7246) وابن خزيمة
(397) وابن خزيمة (397) وابن حبان (1658) والبيهقي 3/ 120
والبغوي (432).
(4) تقدم تخريجه في الصفحة 172.
(5) لقدم تخريجه في الصفحة 223.
(2/440)
خمسَ دفعاتِ في النهارِ والليلِ، فلمْ يفعل
إلا هذه الأفعالَ المَخصوصةَ، وفي هذا جواب عن مطالبتهم
بالنقلِ، وجواب عن تكلفهِم نقلَ اللغةِ بالآي والأشعارِ، لأنَّ
ذلك يدلُّ على الوضعِ اللغوي، ولم ننكرهُ، وكيف نُنكِرُ الوضع
ونحنُ ندَّعي النقلَ، وهل النقلُ إلا فرعٌ للوضعِ.
وأمَّا إنكارُهم تغييرَ الوضعِ، فذلك دأْبُ القومِ في
مجازاتِهم واستعاراتِهم، نقلُ اسمٍ إلى مسمّى غيرِ ما وُضِعَ
له الاسمُ، فما جاءَهم إلا بما هو عادتهم في مواضعتِهم، ولا
يُشبه ما ذكروه من خطابِه بالقتلِ يريدُ الجلدَ، وبالصومِ
يريدُ الأكلَ، لانه لم يَسْبِقْ منه وضْع قبلَ خطابه، وهنا
سبقَ منه الأمرُ بالصلاةِ، ولم يؤخر بيانَ ما أمرَ به منها حتى
صار البيانُ وضعاً منه، فَوِزانه أن ينقلَ أسماء ممّا ذكرت،
فلا يمنعُ من أن ينتقلَ المرادُ من الوضعِ الأول إلى الوضعِ
الثاني، وطلبُ التواترِ وكشفُ النقلِ فلا يلزمُ أكثرَ ممَّا
نقلنا، لأنَّ حجتَهُ عليه السلام كانت ظاهرةً ولم ينقل
نَسْخُها (1)، والأذان كذلك، وقنعَ في نقلِ القِبلةِ بالواحدِ
ينادي أهلَ قباء: ألا إنَّ القِبلةَ قد حُوِّلت (2)، وقنعَ في
تبليغِ الشَّرع
__________
(1) في الأصل: "فحسبها".
(2) رود هذا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: بينما الناس
بقباءَ، في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال لهم: إن رسولَ الله -
صلى الله عليه وسلم - قد أُنزلَ عليه الليلة قراَن، وقد أُمِرَ
أن يستقبلَ الكعبةَ فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى ألشام،
فاستداروا إلى الكعبة. =
(2/441)
والأمرِ بالإسلام بالواحدِ والاثنين يحملون
خطابه وكتابَه، وفيه الدعايةُ إلى الِإسلام، وَإنما لم يَنطبقْ
النقلُ على البيانِ بحسب اشتهارِه، لأن الناقلينَ قليلٌ، وكان
أكثرُ القوم لا ينقلون، ولهم في الَنقلِ مذاهبُ: فقومٌ لا
يَرَوْنَ النقلَ بالمعنى والَلب، فلم تكنْ عادَتهم.
وقوم إذا نُقِلَ إليهم شددوا، حتى إن بعضَهم كان يحلفُ على ما
ينقلُ وَيرْوي، فلذلك لم يقعْ اشتهارُ النقل، كاشتهارِ بيانِه
- صلى الله عليه وسلم -، وشاهدُ ذلك بيانُ الحج منه على رؤوسِ
الأشهادِ، والأذانِ عدةَ دفعاتٍ في الليلِ والنهارِ، وضعفَ
النَّقلُ حتى اختلفَ العلماءُ فيه هذا الاختلافَ، ولو طلبنا من
النقلِ ما يُوازي المنقولَ في الطهورِ، لوجَب أنْ لا نَقْبَلَ
خبرَ الآحادِ في العباداتِ، لاشتهارِها وتكررِها منه - صلى
الله عليه وسلم -.
فصل
جامع في المجازاتِ التي سمتها الفقهاءُ المقدرات
يحتاجُ إلى معرفتها، لأنها واردة في الأوامرِ والنواهي، وجميعِ
خطابِ الشرعِ من الكتابِ والسنةِ، وهي لائقةٌ بهذا البابِ، وهو
بابُ الخطاب.
وهي التعبيرُ عن الأفعالِ بالأعيانِ والأجسام التي يقع فيها،
وهي محالٌّ لها، إمَّا إيقاعاً فيها بالأمر، أو تجنباً لها
بالَنهي، وذلك مثلُ: قولهِ
__________
= أخرجه مالك في "الموطأ"1/ 195، وأحمد 2/ 26 و 105، والبخاري
(7251)، ومسلم (526)، والترمذي (341)، والنسائي 2/ 61،
والبيهقي 2/ 26، 105، والبغوي (445)، وابن حبان (1715).
(2/442)
سبحانه: {حُرمتْ عليكُمْ أمهاتُكم}
[النساء: 23]. وساقَ ذِكْرَ المحرماتِ، والمرادُ به: حُرم
عليكم أفعال وأقوال؛ كالنكاح والجماعِ والاستمتاعِ، وقوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، والمراد به: إمساكُكُم إيَّاها،
وتناولُكم منها أكْلًا واستعمالًا، فعادَ النَّهيُ إلى
أفعالِنا فيها، ومقصودِنا إلى التناولِ لها والانتفاعِ بها،
الذي يَدْخُلُ تحتَ مقدورِنا، إذْ لم تكنْ هي بأعيانِها داخلةً
تحتَ مقدورِنا، فتحرمُ ذواتُها علينا.
ومِن ذلك قولُه: "رُفعَ عنْ أمتي الخطأ والنسيان" (1)،
والمرادُ به بعُرْفِ اللغةِ: رَفعُ حُكْمِ الفِعْلِ العَمْدِ
ومأثمهُ، ويتجوَّز الفقهاءُ فيقولون: رُفعَ مأثَمُ الخطأ،
وإنَّما هو رَفْعُ مأثم الفعلِ والذم عليه والعقاب، وقامَ
الدليلُ على أنه لا يرتفعُ الغُرْمُ والضَمانُ الثابت بالعمدِ،
ولا يجوَزُ أنَّ يكونَ رفعُ عين الخطأ، إذْ عينُ الفعلِ عمداً
وخطأً لا يختلفُ في الوجودِ والفناءِ، لانهما عرضان لهما حكمُ
سائر الأعراضِ.
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (1/ 251 -
252) من حديث أبي بكرة، وقال فيه الحافظ ابن حجر: هذا حديث
غريب. انظر "موافقة الخُبر الخبَر" 1/ 509.
وأخرجه من حديث ابن عباس بلفظ: "إنَّ الله تجاوز عن أُمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ابن ماجه (2045)، والحاكم 2/ 198، والطحاوي في "شرح معاني
الآثار" 3/ 95، والطبراني في "الصغير" 10/ 270، والدارقطني 4/
170 - 171، والبيهقي 7/ 356، وابن حبان (7219). وعند بعضهم
بلفظ: "إن الله وضع" وإسناده صحيح على شرط البخاري، وقال فيه
الحافظ ابن حجر: "هذا حديث حسن". انظر "موافقة الخُبرِ
الخبر"1/ 510، وفي الباب عن أبي ذر عند ابن ماجه (2043).
(2/443)
فصل
مما ألحقه قوم بهذا القبيلِ، وأبى قوم من الأصوليينَ أنْ يكونَ
منه مثلُ قولِه - صلى الله عليه وسلم - "لا صلاةَ إلا بطَهور"
(1) و" إلا بفاتحةِ الكتاب" (2) و"لا صيامَ لِمنْ لم يبيِّت
الصيامَ من الليلِ" (3)، "ولا وضؤَ لمنْ لم
__________
(1) أخرجه من حديث ابن عمر مسلم (224)، وابن ماجه (272) بلفظ:
"لا يقبل- الله صلاةً بغيرطهور، ولا صدقة من غلول".
ورواه من حديث أبي بكرة: ابن ماجه (274).
ومن حديث أنس: ابن ماجه (273).
ورواه من حديث أسامة بن عمير الهذلي، والد أبي المليح أبو داود
(59)، والنسائي 1/ 87 - 88، وابن ماجه (271).
(2) ورد من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه.
أحمد 5/ 316، 321، 322، والبخاري (756)، ومسلم (394)، وأبو
داود (822)، (823)، (824)، وابن ماجه (837)، والترمذي (311)،
والنسائي 2/ 137، 138. وابن حبان (1782)، و (1786)، و (1792)،
و (1793)، و (1848).
(3) روأه أحمد 6/ 287، والطحاوي في "شرح معاني ألاثار" 1/ 325،
والنسائي 4/ 196 و 197، وابن ماجه (1700)، والترمذي (730)،
والدارمي 2/ 6 - 7، والبيهقي 4/ 202، وأبو داود (2454)، وابن
خزيمة (1933). من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن
أبيه، عن حفصة رضي الله عنها، وإسناده صحيح.
إلا أن الأئمة أختلفوا فى رفعه ووقفه، وأكثرهم على وقفه.
انظر "تلخيص الحبير" 2/ 188، و"نصب الراية" 2/ 433 - 434.
(2/444)
يذكْر اسمَ اللهِ عليه" (1) و"لا صلاةَ
لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ" (2) وأمثالُ ذلك، فتضمن اللفظُ
نفيَ عينهِ عما تضمن في المحرمات تحريمَ أعيانِها، وفي عفوِ
الخطأ والنسيانِ عفو عن أعيانِها، ثم إنَ المرادَ به نفيُ
أحكامِ أعيانِها، فمن هذا الوجهِ ألحقه أقوام بالفصلِ الأولَ.
وقال بعضُ الأصوليين: هذا موضوعٌ عند أهلِ الجاهليةِ (3)
ومفهوم لهم قبلَ الرسالةِ إليهم والشريعةِ، لِإزالةِ النفعِ
بالعينِ، من ذلك قولهُم: لا كلامَ إلا ما أفادَ ونفعَ، ولا
عملَ إلا ما أجدى، ولا عشيرةَ إلا ما عصمتْ ومنعتْ، فيكون
المعقولُ من قولي: "لا صلاةَ" و"لا صيامَ" معتدٌ بهما منتفع
بثوابِهما مجدٍ ومجزٍ، إلا ما كانَ بتلك الصفاتِ، فعُقلَ من
ذلك أنه لا تقعُ تلكَ الأعمالُ شرعيةً إلا بالشروطِ والحدودِ
المذكورة التي صيرها بنفيها منفيةً.
فهذا هو الأصلُ، وإنْ جازَ أنْ تصرفنا عنه دلالة، فيحملُ
النفيُ
__________
(1) ورد من حديث أبي هريرة: "لا صلاة لمن لا وضوءَ له، ولا
وضؤَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه".
أخرجه: أحمد 2/ 418، وأبو داود (101)، وابن ماجه (399) والبغوي
(209).
(2) أخرجه الدارقطني (1/ 420)، والحاكم (1/ 246)، والبيهقي (3/
57) من حديث أبي هريرة.
والحديث فيه سليمان بن داود اليمامي، قال ابن معين: ليسَ بشيء،
وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: متروك، ورواه ابن
عدي من حديث أبي هريرة، وضعفه. انظر: "التعليق المغني " 1/
420.
(3) ليست في الأصل.
(2/445)
على نفي الفضلِ، كقولِ العرب: لا رجلَ في
هذا البلدِ. إذا كانت حالُه مختلةً في السياسةِ، وفيه عالمٌ من
الرجالِ. لكنْ قرينة من دلالةِ الحال دلتْ علي نفي رجلةِ
السياسةِ، لا رجلة الذكوريَّةِ، وذلك كقولهِم: لا سيفَ إلا ذو
الفقار، ولا فتى إلا عليٌ، ولا طعامَ إلا البر واللحمُ.
فيكونُ في الشرعياتِ: "لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ"
من هذا القبيلِ، إذا قامَ بذلك دليل يصرفُنا عن حملهِ على نفي
الإجزاءِ إلى نفي الفضلِ، وقد أحالَ القاضي أبو بكر العمومَ في
ذلك، فقال: لا يَصح أن يحملَ على نفي الإِجزاءِ والفضيلةِ،
وذكر أنَ في ذلك إحالةً وتناقضاً، لأنَ النفيَ لكونِها مجزيةً
ومعتداً بها، ينفي كونَها شرعيةً، والنفي لكونِها كاملةً
فاضلةً، يوجبُ كونَها شرعيةً معتداً بها، ومحالٌ أنْ يُرادَ
باللفظِ الواحدِ عمومُ أمرين متناقضين، أو أمورٌ متنافية،
وإنما يحملُ على نفيِ الِإجزاء أو نفيِ الفضلِ، على طريق
البَدَلِ كقولهِ تعالى: {وَإذَا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2] يصلحُ أنَ يُحملَ على الإيجابِ من اللهِ سبحانه
للاصطيادِ تارةً، وعلى الندْب تارةً، أو على الإِباحةِ على
طريقِ البدلِ، فلا يَصِحُ أن يُحملَ علىَ العموم، لما بيْنَ
الإيجابِ والندبِ والإِباحةِ مِن التضادِ والتنافي في
محتملاتِها.
فصل
ويجبُ أنْ يُعلمَ أنَه ليس كلُّ شرعي مجزئاً، كالصلاةِ التي
دخلها بظن الطهارةِ، وبانَ أنه كان غيرَ مُتطهرٍ، وكالحِجةِ
بعد الإفسادِ، يمضي فيها مُضياً شرعياً بمعنى مأموربه، ولايقعُ
الإِجزاءُ في الموضعين، بل يجبُ قضاءُ الصلاةِ والحج.
(2/446)
فصل
ويجوزُ أن يُراد بالكلمةِ الواحدةِ معنيانِ مختلفان (1)،
ومعانٍ مختلفة، وبه قالَ الفقهاءُ والأصوليون مِن أهلِ
السُّنَةِ.
خلافاً لابنِ الجبائي، وفرقةٍ وافقته من أصحابِ أبي حنيفةَ في
قولِهم: لا يجوزُ ذلك إلا أن تتكررَ اللفظةُ أو تَرِدَ في
وقتين مختلفينِ، يُرادُ بها في أحدِ اللفظين، أو في أحدِ
الوقتين معنى وفي الآخرِ خلافهُ.
ومثالُ ذلك فيما يُفيدُ معنىً واحداً، كلونٍ يفيدُ تغييرَ
هيئةِ الجسم، وإنْ اختلفتِ الألوانُ بين سوادٍ وحُمرةٍ، وما
يُفيدُ معانيَ مختلفةَ المنافعِ والمقاصدِ، كجاريةٍ تقعُ على
السفينةِ، والحدثةِ من النساءِ، وعينٍ تفيدُ الذهبَ، وعينَ
الماءِ، والعينَ المبصرةَ، وبيضةٍ تفيدُ بيضَ الطائر،
والخُوذةَ، ونكاح يفيدُ الجماعَ والعقدَ، والقروءِ تُفيدُ
الحيض [والطهر] (2)، والشفقِ يُفيدُ الحُمرةَ والبياضَ.
والدلالةُ على صحةِ جوازِه، أنَّ كلُّ عاقل يعلمُ أنَّ قولَ
القائلِ: لاتنكِحْ ما نَكَحَ أبوكَ، يصحُّ أنْ يُقصدَ به،
لاتعقدْ على ما عقدَ عليه أبوك ولا تطأ منْ وطأ أبوكَ، وإذا
نهى عن مَسَاسِ النساءِ، حَسُنَ أن يُقْصَدَ به الوطءُ واللمسُ
باليدِ، فإنَّ ذلكَ ليس بمُستقبحٍ في النُطقِ، ولا مُستحيلٍ في
العقلِ، فمن ادَّعى امتناعَ ذلك فقد ارتكبَ ما يدفعهُ الوجودُ.
__________
(1) في الأصل معنيين مختلفين، والصواب هو ما أثبتناء.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(2/447)
ويقالُ لهُ أيضاً: لِمَ أنكرتَ القصدَ إلى
ذلك؟ فإن قالَ: يتعذرُ القصدُ باللفظةِ الواحدةِ إلى معنيين
مختلفين، قيل: فقد دَللنا على جوازِه، فانتفاءُ التعذُّرِ ينفي
الاستحالةَ.
وإن قال: لأنه لما لم يجُزْ أن يُرادَ بالقولِ "افْعل"
الإباحةُ والحظرُ والزجرُ والإيجابُ والندبُ، كذلك هاهنا.
قيلَ له: إنما استحالَ ذلك لأجلِ تضادِّ كلِّ أمرين من هذا
القبيل، وعَلِمْنا باستحالةِ القصد إليهما.
فصل
في جميع ما تعلقَ به المُخالفُ
فمن ذلك أنْ قالَ: لو جازَ أنْ يُرادَ باللفظةِ الواحدةِ
معنيان مختلفان، لجازَ أن يُريدَ بقوله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، المشركين والمؤمنين، وبقولهِ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] الناسَ والبهائمَ، قال:
ولأنَّه لو جازَ ذلك، لجازَ أن يُرادَ بالكلمةِ الواحدِة التي
لها حقيقة ولها مجازٌ، حقيقتُها ومجازُها، ولما لم يَجُزْ ذلك،
كذلك فيما ذكرتُم من الألفاظِ.
قالَ: ونحنُ نسألكُم عن حقيقةِ هذهِ الدعوى وتفصيلها، فنقولُ:
هل يَجِبُ حملُ الكلمةِ الواحدةِ التي يصح أن يُرادَ بها معنى
واحد، ويَصِحُّ أن يُرادَ بها معنيانِ على أحدِهما، أو عليهما
بظاهِرها وإطلاقِها أم بدليلٍ يقترنُ بها؟
قالَ: وهل يريدُ المتكلمُ بالكلمةِ الواحدةِ، المعنيين إذا
أرادهما
(2/448)
بإرادةٍ واحدةٍ أو بإرادتين؟
فصلٌ
في جميعِ الأجوبةِ
فأمَّا الأولُ: فإنما لم يَصِح، لأنه إنما يصح أنْ يُرادَ مِن
اللفظِ ما يصح أنْ يجريَ عليه من المعنى في حقيقةٍ أو مجازٍ
إذا لم تكنْ متضادَّةً، واسمُ الناسِ لا يجري على البهائمِ في
حقيقةٍ ولا مجازٍ، وكذلك اسمُ المشركينَ لا يقعُ على المسلمين
في حقيقةٍ ولا مجازٍ، ولو وَقَعَ على ذلك لصح أنْ يُرادَ.
وأمَّا الثاني: فغيرُ مستحيلٍ، وكذلك صلحَ حَمْلُ قولِه تعالى:
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] على
العَقْدِ والوطءِ، وكان مجازاً في أحدِهما، اللَّهُم إلا أنْ
يريدَ قَصرَ اللفظِ على حقيقتهِ وتعدِّيهِ إلى مجازهِ، فإن ذلك
متضادٌّ لا يصحُّ القصدُ إليه.
وأما سؤالهُم الأول: فالجوابُ عنه أنَه بدليلٍ يقترنُ بها،
وإنَما اعتبرنا دليلًا، لمكانِ التردُّدِ والاحتمالِ، وذلك
سبيلُ كلُّ مُحتمل مُترددٍ لا يُصرفُ إلى أحدِ مُحَّتَمَلَيْهِ
إلَا بدليلٍ.
وأما سؤالهم الثاني في الإرادةِ: فإنْ كان المتكلمُ بها هو
الله سبحانه فإنَه يريدُه، ويريدُ جميعَ مُراداتِه بإرادةٍ
واحدةٍ، كما يعلمُ سائرَ المعلوماتِ بعلمٍ واحدٍ، وإنْ كانَ
المُتكلِّمُ باللفظةِ المرادِ بها المعنيَانِ محدثاً فإنَهُ
يريدُهما جميعاً بإرادتينِ غير متضادين، وإنَما وَجَبَ ذلك
فيه، لصحةِ إرادتهِ لأحدِهما وكراهتِه للآخرِ، فلو كانَ
يريدُهما بإرادةٍ واحدةٍ، لاستحالَ أنْ يريدَ أحدَهما دون
الآخر.
(2/449)
فصول الكلام في الأوامر
فصل
في حقيقةِ الأمرِ
وهو الصيغةُ الموضوعةُ لاقتضاءِ الأعلى للأدنى بالطاعةِ ممَّا
استدعاهُ منه، وعينُها: افعل كذا أو قُلْ كذا (1).
وقال أبو الحسن الأشعري: هُو قِسمٌ من أقسام الكلام، وهو
المعنى القائمُ في النفسِ الذي هو في حقِّ القديمِ واحَدٌ،
أمرٌ ونهيٌ وخبرٌ، إلى غيرِ ذلك، وهو في حقِّ المُحدَثِ معانٍ
مختلفةٌ، والأمرُ الذي هو قسمٌ منه: ما قولُ القائلِ: افعلْ.
عبارة عنه في حقِّ القديم والمُحدث، وحَده عنده المقتضى به
الفعل من المأمورِ.
وقيل: ما كانَ الممتثِلُ له مُطيعاً والمؤتمِرُ له مُطيعاً،
وخاصيةُ الفعلِ عنده أنَّه اقتضاءُ الطاعة والانقياد بالفعل.
قالوا: وإنْ قيلَ: طلبُ الفعلِ على غيرِ وجهِ المسألةِ، وكان
ذلك صحيحاً، ليفرقوا بينَ الرَّغبةِ والسؤالِ، وبينَ الأمرِ.
__________
(1) ينظر في هذا الفصل في "العدة" 1/ 157، و"التمهيد" 1/ 66، و
124 و"شرح مختصر الروضة" 2/ 348، وشرح الكوكب المنير" 3/ 10.
(2/450)
والدلالةُ على هذا، هو الدليلُ على إثباتِ
الكلامِ حروفاً وأصواتاً.
ونَخُصُّ هذا الفصل بما يحتملُه الكتابُ مِن الدلالةِ، فنقول:
بأن العربَ قسمتِ الكلامَ أقساماً، فقالوا: اسم وفعلٌ وحرفٌ،
ووَسَمُوه بسماتٍ لا يحتمِلُها إلا النطقُ، دون ما قامَ في
النفسِ.
فقالوا: الاسمُ ما دخلَه الألفُ واللامُ، وما كان عبارةً عن
شخصٍ، وما حَسُن فيه التصغيرُ، وما حَسُن فيه التَّثْنيةُ، وما
إخبِرَ بهِ أو عَنهُ.
وهذا كلُه لا ينطبق إلا على النُّطقِ، ولما جاؤوا إلى ما
تَحْتَ هذه الثلاثة الأنحاء قالوا: أمرٌ ونهيٌ وخبر واستخبارٌ
ونداء وتمن، ثم قالوا: فالأمرُ: قول الأعلى للأدنى: افعلْ،
والنهيُ: قولُه له: لا تفعلْ، والخبرُ: زيد في الدارِ،
والاستخبارُ: أزيدٌ في الدارِ؟ والتمني: ليتَ وليتني،
والنداءُ: يا زيدُ أقبلْ، وصرفوا مِن هذا الكلامِ أنواعَ
التصريفِ، وقالوا في الترخيمِ: يا فُلْ مِن فلان، ويا صاحِ من
يا صاحبي، فحذفوا في الترخيمِ حرفاً أو حرفين أو حُروفاً من
آخرِ الاسم. وقالوا في النُّدبةِ: يا سَيِّداه يا أبتَاه،
فزادوا حرفَ الهاءِ، فطلبوا بالأولِ التعجلَ، وبالثاني
التفجعَ، لأنَ حرفَ الهاءِ يخرجُ من الصدرِ وهو محلُ الحزنِ
والكمدِ.
وقالوا: لعلً للترجّي، وما أحسنَ زيداً للتعجب، وليتَ للتمني،
وهذا كلُه مبنيٌّ من حروفٍ وأصواتٍ، ولأنً العربَ لا تصفُ
بالعاهةِ في محلٍّ إلا وصحةُ ذلك المحلِ يُضَادُّ العاهةَ،
كقولهم: أعمى لِمَنْ كانت العاهةُ في محلِ بصرهِ، وأطروش
لِمَنْ كانت العاهةُ في محلِّ سمعهِ، وقد قالوا: أخرسُ لمن
كانت العاهةُ في محلِّ نطقهِ، والخَرَسُ ضد
(2/451)
الكلام، كما أن العَمى ضد صحةِ البصرِ،
فثبتَ أنَّ الكلامَ ما كان في محَلِّ الخَرَس، وهو النطقُ.
ولأنَّ الإجماعَ منهم حاصلٌ على أنَّ للكلام صفاتِ مدح وصفاتِ
ذمٍ، فالمدحُ كقولهِم: فصاحةٌ وبيانٌ، وفي المَتكلمِ، فصيح
ومبين وناطقٌ وخطيبٌ ومِصقَعٌ، والاختلالُ فيه والذمُّ،
اللكنَةُ والفَهَاهَةُ والعِيّ، والمتكلمُ، عييٌ وألْكنُ،
والكُلُّ إنما يرجعُ إلى الحروفِ والأصواتِ وإلى مَنْ جَوَّدَ
في النُّطقِ وقَصر فيه، دون أن يُعادَ إلى النفس أو إلى ما
فيها.
وقسموا ما في النفسِ إلى هاجس وخاطر، وفكرٍ، وأَجْروا اسمَ
الأمرِ على النطقِ والاستدعاءِ بالقولِ خاصةً، فقالَ دريدُ بن
الصِّمَّة (1):
أمَرْتُكُم أمْرِي بمُنْعَرجِ اللِّوى ... فلم تَسْتَبْيِنوا
الرشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فقلتُ لهم ظُنوا بَألْفَيْ مدجَّج ... سَرَاتهم في الفارسيِّ
المُرَدَّدِ (2)
__________
(1) هو دُريد بن الصِّمة بن جشم بن معاويةَ بن بكر، يكنى أبا
قُرَة، وهو من الشجعان المشهورين،. وذوي الرأي في الجاهلية
شهِدَ حنين وقتِلَ فيها.
انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة 2/ 750.
(2) وقد رود البيت الثاني في الأصمعيات بصيغة:
علانية: ظنوا بألفي مدجحٍ ... سراتهم في الفارسيِّ المسرد
وورد في "خزانة الأدب":
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّحٍ ... سراتهم في الفارسيِّ المسرد
انظر: "الأصمعيات" ص (107)، و"خزانة كالأدب" 11/ 279 وعلى كلا
الأمرين، فهو "الفارسى المسرد" لا "المردد"كما جاء في الأصل.
والفارسى: هو الدرعُ الذي يصنعُ بفارس.
والمسرد: المحكم النسج، وقيل: هو الدقيق الثقب.
(2/452)
وقولُ عمرو بن العاص لمعاويةَ رحمة الله
عليهما:
أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتني ... وكان من التوفيق قتلُ ابنِ
هاشم (1)
وقول الحُبَاب بن المنذر ليزيدَ بنِ المهلب:
أمرتُكَ أمراً حَازِماً فعصيتَني ... فأصبحتَ مَسْلوبَ
الامارِة نادما (2)
والمعصيةُ لا تُقَابَلُ، ولاتصحُ إلا في الأمرِ الذي هو
النطقُ، وليس يجوزُ أن يكونَ هذا التوسعُ والمجازُ، ويكونُ
الحقيقة قولهم: (إنَّ الكلامَ من الفؤاد) هو الحقيقةُ، كما أن
جميعَ الصنائع لاتجذب إلى محالِّها من الأجسامِ صوراً وأبنيةً
ونجارةً، إلا بعد أن تُشَكَّل في النفسِ صورُها ومقاديرها، وكم
تضاف الأفعالُ إلى آلات ومَحَال، والحقيقةُ في ذلك لغيرِها،
فمن ذلك إضافتُهم القتلَ إلى القلمِ، كإضافتِه إلى السيفِ،
وقولُهم: قَتَلَ فلانٌ فلاناً بقلمِه، والمرادُ به: تسببَ
بالقلمِ والسعيِ عليه، والحقيقةُ للسيفِ، ويُقال للساعي: قتلَه
بلسانهِ، وجارحةُ القتلِ يدُ المباشرِ دونَ لسانِ الساعي، فليس
قولُهم: إن
__________
(1) انظر "الكامل" للمبرد: 1/ 345.
وابن هاشم هذا، كان قد خرجَ على معاويةَ رضي الله عنه، فأمسكه،
فأشار عليه عمرو بن العاص رضي الله عنه بقتله، ولكن معاوية
أطلقه، فخرجَ عليه مرة أخرى، ولم يفلح معه العفو، فقال عمرو
هذا البيت.
(2) هذا البيت لحصين بن المنذر، لا للحباب بن المنذر كما ورد
في الأصل، وبعده:
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجعَ سالما
وقد قاله حصين ليزيدِ بن المهلَّب بعد عزله من الولاية.
انظر "وفيات الأعيان" 6/ 290.
(2/453)
الكلامَ من الفؤادِ إلا من هذا القبيل.
ويَشهدُ لذلك قولُه سبحانه في الأمرِ خاصةً: {إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] فأخبرَ أن أمرهُ حرفان، وقال:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ} [الكهف: 50] ولم يتقدمْ مِن القولِ إلا اسجدوا، فدَل
على أنَه هو الأمر وقال لابليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ
إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقال لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] وقال سبحانه: {وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] فلما أكلَ قالَ
له: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}
[الأعراف: 22] ومقام الأمرِ صيغةُ قوله: {لَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35].
فصل
في جمعَ ما تعلقوا به
قالوا: إذا ثَبَتَ أن الكلامَ معنى قائم في النفسِ، وهذهِ
الحروفُ والأصواتُ عبارة عنه، دَخَلَ الأمر في الجملة، لأنه
ضربٌ من الكلامِ وقِسْم من أقسامِه، والذي يثبتُ به ذلك قوله
تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا
اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة: 8]
وقولُه سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1]
والكذب لا ينطبقُ إلا على الخبرِ، ولو أطبِقَ على القولِ الذي
هو الشهادة، لكان تكذيباً لكلمةِ التوحيدِ، ولا يجوز ذلك، لم
يبقَ إلا أنه عادَ إلى ما في أنفسِهم من الخبرِ. وقال الشاعرُ:
(2/454)
إن الكلامَ مِنَ الفُؤادِ وإنَّما ...
جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دَليلا (1)
والعربُ تقولُ: في نفسي كلامٌ.
فصلْ
في جمعِ الأجوبةِ عَمَّا ذكروه
أمَّا الآيةُ الأولى، فإن فيها ما يقابلُها، وهو قولُه:
{لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]،
يعني بما ننطقُ به، فليس بأنْ يكونَ أَحدُهما الأصلَ، بأولى
مِن أنْ يكونَ الآخرُ، هذا أدنى أحوالِ الجوابِ فيقفُ
استدلالُهم منها، وأعلاهُ أن تكونَ الحقيقةُ هو الثاني، لأنَّه
الذي ينصرفُ الإطلاقُ إليه، فإنهُ إذا قالَ القائلُ: قلتُ،
وقالَ زيد، وقلتُ قولاً، وقيلَ لي. لا يعقلُ منه إلا النَّطقُ،
وإذا عزى إلى النفسِ كان اتساعاً، لتشبيهِ ما يهجسُ في النفسِ،
لأن الهاجِسَ في النفسِ كالناطِقِ، والذي يُوَضحُ صحةَ ما
تعلقنا به من التأويل، قولُه تعالى: {يَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]
{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] فأثبتَ أنهم يقولون
بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وعند هذا القائل أنَّه لا ينطقُ
اللسانُ إلا بعبارةٍ عما في النفسِ.
وأمَّا الآيةُ الأخرى، فإن التكذيبَ عادَ إلى قولِهم الذي
أخْبروا به
__________
(1) يُنسبُ هذا البيت للأخطل، كما في "شرح شذور الذهب" ص (27)،
وليس في ديوانه، وأورده الجاحظُ في "البيانِ والتبيين" (1/
318)، غير منسوبٍ مع بيتٍ آخر هو:
لايعجبنك من خطيب قولهُ ... حتى يكونَ مع البيان أصيلاً
(2/455)
عن معتقدِهم، فكذَّبهم في دعواهم أنَّهم
يُصَدِّقونه فيما جاءَ به، لأنَّ معنى قولِهم: نشهدُ، أي نعلمُ
ونتحققُ إنَّكَ لرسولُ الله، فكذَّبَهم الله في قولِهم، لا في
اعتقادِهم، لأنَّ قولَهم لما تضمنَ الإخبارَ عمَّا في نفوسِهم
من التصديقِ كذبَهم الله في ذلك.
وأمَّا قولُ الشاعرِ: إنَّ الكلامَ مِن الفؤادِ، فصِدْقٌ،
وإنَّه لا يتكلمُ مُتَكَلِّمٌ إلا بعدَ أن يُصَوِّرَ في نفسِه
شيئاً يتكلمُ عنه، وانما كان حجةً أنْ لو قالَ: إن الكلامَ في
الفؤادِ، ولم يقُلْ، ولو قالَ لكانَ مجازاً، مثل قولِ قائلهم:
في نفسي بناءُ دارٍ، ونجارةُ بابٍ، وإدارةُ دولابٍ، وإنما
يريدُ به في نفسي أن أبنيَ داراً، كذلك يكونُ قولُه: في نفسي
كلامٌ، وإنَّ الكلامَ من الفؤادِ، تقديرُه: في نفسي أنّ
أتكَلمَ، وهي القصودُ والعزومُ، وتصديرُ ما يُرادُ أن يظهرَ
مِنَ الأعراضِ النَّفْسانية بالكلامِ، وقد أضافوا النُّطقَ إلى
العينِ، فقال شاعرُهم:
تُخبرُني العَيْنَان مَا القلبُ كاتمٌ ... ولا خيرَ في
الشَّحناءِ والنَّظَرِ الشَّزْرِ (1)
وقالَ الآخرُ:
فقالتْ له العينانِ: سمعاً وطَاعَةً (2).
ويقولونَ: في وجهِ فلانٍ كلامٌ. أي في وجههِ أمارةٌ أنَّه
سيتكلمُ.
ومِن ذلك إضافتُهُم القتل إلى القَلَم، فقولُ القائل: ما قتلتُ
فلاناً إلا بقلمٍ، حيثُ كانَ الكتابُ عاملاً ومُهيئاً لأسباب
أوجبتِ القتلَ،
__________
(1) البيت لأبي جندب الهذلي، انظر "شرح أشعار الهذليين" 1/
367.
(2) البيت في "اللسان": (قول) دون نسبة، وتمامه: "وحدّرتا
كالدرِّ لما يُثقب".
(2/456)
وإذا رجعَ إلى الحقيقةِ كان القاتلُ السيفَ
لا القلم، كذلك إضافةُ الكلام إلى الفؤادِ مع إضافتهِ إلى
اللَّسان، فاللسانُ: هو الآلةُ في الحقيقةَ وما قبلَه من القلب
مجازٌ، وما بعده من إشارةٍ ورمزٍ بالعينِ مجازٌ، والحقيقة
اللسانُ، بدليَلِ ما قدمنا من الدلائلِ.
فصلٌ
واعلم أن الصيغةَ التي حَصَلَ الاتفاق من القائلينَ بأن الأمرَ
صيغةٌ على كونِها أمَراً، هي لفظةُ: افعلْ، إذا صَدَرَتْ
مِمَّن تَلْزَمُ طاعتهُ، وهو المعبَّرُ به عن الأعلى، وذلك هو
قولُ السيد لعبدِه أو السُّلطانِ لآحادِ رعيتهِ: ادخلْ واخرج
وقمْ.
وتوهَّم قومٌ أنَّ الرتبةَ قرينة، وقال المحققون: إنها لم تُسم
أمراً إلا لوجودِها من الأعلى للأدنى، فليست الرتبةُ قرينةً،
لكنها شرطٌ، لكونِ الصيغة أمراً، كما لا يكونُ تسميةُ قولِ
الممهدِّدِ: افعلْ ما شئتَ، تهديداً بقرينةٍ.
والفرقُ بينَ القرينةِ وبين نفيِها، أن ما كانَ موضوعاً لشيءٍ،
فصارَ بما انضمً إليهِ لغيرِ ذلك الموضوع، فهو الذي استحقَّ
الاسمَ بقرينةٍ، مثلُ صيغةِ الاستدعاءِ من الأعلى للأدنى إذا
لم نَقُلْ إنها للوجوب، فقارنَها تهديدٌ أو وعيدٌ علىٍ التركِ،
صارت أمراً موجباً بعد أن لم تكن موجبةً، وما لا يكونُ قرينةً،
مثلُ لفظةِ: افعلْ، إذا صَدَرَتْ عن الدونِ للأعلى قيلَ: سؤالٌ
ورغبةٌ، واذا وُجِدتْ من النَّاهي الزَّاجرِ عن الفِعلِ قيلِ:
تهديدٌ، ولا يقال: إن الصيغةَ خَرجَتَ عن الأمرِ بقرينةٍ دونَ
رتبةِ القائل عن الأمرِ إلى السؤالِ والرغبة، ولا خرجتْ عن
الأمرِ بالوعيدِ إلى التَهديدِ، بل هي موضوعةٌ في كلُّ محل
حقيقة لمَا وُضِعَتْ لهُ، فهي من الدّونِ حقيقةُ سؤال، ومن
المُتَوَعدِ حقيقةُ تهديدٍ، ومن
(2/457)
الأعلى للأدنى أمرٌ، وهذا مسموعُنا من
أئمةِ الأصولِ واللغةِ وأهلِ العربية المُعْتَدِّ بأقوالِهم،
ومفهومنا مِن الكتب المُعَوَّلِ عليها، فلا نُصْغي إلى قولِ من
يقولُ: إنَّ الصيغةَ مشتركةٌ. فهذا افتئاتٌ على اللغةِ وخطأ.
ولقد بالغ بعضُ مشايخنا، فقال: مَنْ زَعَمَ أن قولَ القائِل:
افعلْ، صيغةٌ متردِّدةٌ بيْن الأمرِ، والتَّهديدِ، والإيجابِ،
والندب، والرغبةِ، والسؤالِ، بمثابةِ مَنْ قال: إن قولَ
القائل: يا عفيفُ بنَ العفيفةِ، يا كريمُ بن الكريمِ، موضوعٌ
للشتمِ والمدحِ، من حيثُ أنَّ نفسَ الصيغةِ تَرِدُ في التعريضِ
للشتمِ.
فهذا فصل يكفي مؤنةً كثيرةً مِن توهماتِ المتفقهةِ، وُيزيلُ
شُبُهَاتٍ قد تَخَمرَتْ عندهم.
وهذا الذي ذكرهُ هذا الشيخُ دافعٌ للشُّبهةِ، لأن غايةَ ما
يُوهمهم أن الصيغةَ مشتركة، إن الحروفَ واحدةٌ، وبنيةُ افعلْ
بنيةٌ واحدةٌ، وإذا سُمِعَتْ مِن وراءِ حجاب لم يُعقلْ ما
المُرادُ بها، وهل القائلُ لها مهدِد أو آمرٌ أو نادبٌ أوسائل؟
فيُقالُ: إذا رَجَعْتَ إلى أصلِ الوَضْعِ في قولِ القائل:
افعلْ، فإنكَ تَعْقِلُ المرادَ به مِن لفظهِ، وأنَّه مُستدعٍ
للفعل مثلُ سماعِك قولَ القائلِ: يا عفيفُ ويا كريمُ، فإنهُ
موضوعٌ للمدحِ، واستعمالُ مثلِ الصيغة في محلٍّ آخرَ، لا
يُقالُ إنَها تلك اخرِجَتْ إلى ضِدَّها، بل تلك موضوعة في حالِ
الخصومةِ للذم، وفي حالِ الواعدِ للتهديدِ والزجرِ، فأمَّا أنْ
تكونَ اللفظةُ الواحدة أمراً وزجراً، فمعاذَ الله.
(2/458)
فصل
وصيغةُ الأمرِ الصريحةُ: أمرتُكَ أن تفعلَ كَذا، أو افعلْ فقد
أمرتُك.
وأمَّا الصريحةُ في الإِيجاب بإجماع النَّاس، قولُ الأعلى
للأدني: أوجبتُ عليكَ، أو افعلْ فقدَ أوجبتُ عليكَ أَن تفعلَ.
وأصْرَحُ صيغةٍ في النَّدب، افعلْ فقد ندبتُك، أو ندبتُك إلى
كذا وكذا، أو أستحبُ لكَ أنْ تفعَلَ كذا. فهذهِ ألفاط لا يقعُ
الخِلافُ فيها لأنَّها صريحة فيما وُضِعَتْ لهُ.
فصل
فأمَّا إذا وَرَدَتْ هذهِ صيغةُ افعلْ مِن جهةِ المُمَاثِل، لا
مِن أعلى فتكَونُ أمراً، ولا من أدنى فتكون سؤالاً، فإلى
أيِّهما تُمَيَّلُ إنْ مُيِّلَتْ؟
وهل لها اسم يخصُها إن لم تُمَيَّلْ؟ قالَ بعض أهلِ العلمِ مِن
أصحاب الأشعري: تكونُ أمراً.
وقال بعضُ مَن رأينا مِن الأصوليين على مذهب المعتزلةِ: الطلب
والاقتضاء والاستدعاءُ أعمُ مِن قولِنا: أمرٌ وسؤالٌ، فإذا
عَدِمَتَا الرُّتبةَ وتساويا فيها، فزعنا إلى الاسمِ الأعم
فقلنا: إنَّ قولَ المماثل لمماثلهِ: افعل، طلبٌ واقتضاءٌ، فلا
يتخصَّصُ بالسؤالِ ولا بالأمرِ، وهذا قالة اجتهاداً، وهو قولٌ
حسنٌ.
وسمعتُ بعضَ مَن يتكلم في أصولِ الفقه يقول: إنَ نفسَ
الاقتضاءِ مِن المماثِل، يجعل أدونَهما، السائلَ. فقيلَ لهُ:
لو كان هذا صحيحاً، لكانت رتبة السيَّدِ تنحطُّ باستدعائهِ مِن
عبدِه، فيصير مساوياً،
(2/459)
ويخرجُ بدنوِ رُتْبَتهِ عن كونه آمراً.
واعتد القائلُ الأولُ من أصحابِ الأشعري في أنه أمرٌ، بقولِه
تعالى إخباراً عن فرعونَ أنه قالَ لخاصتهِ: {يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
(35)} [الشعراء: 35] وبقول الشاعر:
أمرتُكَ أمراً جازماً فعصيتني.
وعمرو ليس بأعلى من معاوية الذي قال له: أمرتك، وبقول الشاعر:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فسمَّي نفسَه: اَمراً، وليس يخلو مِن أنْ يكون دُوناً أو
مُمَاثِلاً.
واعتلَّ القائلُ الثاني، بأنَّ الكل أجمعوا على [عدم وجودها]
في نفس الآمرِ المخلوقِ، لأن إرادتَه مُحْدثة فيه، وفي حق
الخالق سبحانه لا بُد من تقدم إرادةِ مُحْدثةٍ غيرِ محلٍ.
والتحقيقُ مِن مذهبِ أصحابِنا: أنَّ الصيغةَ بمجرَّدِها إذا
صَدَرَتْ عن الرَبِّ سبحانه -من لَدُنْهُ سبحانَه- أو بواسطةٍ،
فهي أمرٌ، وإذا صَدَرَتْ عن المُحدثِ فكان على صفةِ التحصيلِ
للنُّطقِ، ومن أهل التَعويلِ على كلامِه، فهي أمرٌ ولا تُعتبر
سوى ذلك.
فهذهِ تصفيةُ المذاهبِ عن أكدارِ الحكاياتِ وتطويلِ العباراتِ
وإغماضِها، مِمَّنْ قصَدَ تضليلَ المبتدىء، أو تعظيمَ هذا
الشَّأنِ في نفسِه، أو عَزُبتْ عنه العبارات السَّهلةُ المأخذِ
الواضحةُ المتلقى، والله الموفقُ لصوابِ القولِ وإصابةِ الحقِّ
بالمُعْتقدِ.
(2/460)
فصل
والدلالةُ على أنه ليس الأمرُ إرادةً (1)، ولا يفتقرُ إلى
صدورهِ عن إرادةٍ، خِلافاً لأهلِ الاعتزالِ، إذ قد قدمْنَا
الدلالةَ على أنهُ ليس بمعنى في النَفسِ، خلافاً للأشاعرةِ
(2)، قولُه سبحانه إخباراً عن إبراهيمَ: {إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وهذا يدُلُّ
على أن المَنَامَ تضمن أمراً لإبراهيمَ بذبحِ إسحاقَ أو
إسماعيلَ (3)، والمنامُ وحْيٌ في حق الأنبياءِ،
__________
(1) مقصوده: الدلالةُ على أنه يكون أمراً لصيغته لا لإرادة
الأمر، وقد ذكر هذه الأدلة أيضاً أبو يعلى في "العدة" 1/ 216 -
222 والكلوذاني في "التمهيد" 1/ 134 - 137.
(2) أي خلافاً للأشاعرة الذين قالوا ليسَ للأمرِ صيغةٌ في
اللغة، وإنما صيغةُ "افعل" معنى قائمٌ في الذات، مشتركة بين
الأمرِ وغيره، يحمل على أحدهما بقبرينة.
انظر"البرهان"1/ 212، و"المستصفى"1/ 413، و" المحصول" 2/ 19.
(3) اختلف في الذبيح من كان؟ إسماعِل، أو اسحاق عليهما السلام
فرويَ عن ابن عباس، وابن عمر وعبد الله بن سلام وأبي هريرة
رضوان الله عليهم، أنَّ الذبيحَ كان إسماعيلَ عليه السلام.
كما ذهب الى ذلك من التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير،
والشعبي ويوسف بن مهران، وأبو الطفيل.
ورويَ عن ابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وعليٍّ وضي الله
عنهم، أنَّ الذبيحَ كان إسحاق وهو ما رجحه ابن جرير في تفسيره
12/ 86.
والذي قطع به ابن كثير، وحشدَ كثيراً من النصوص والآثار
لتأييده، أن الذبيح كان إسماعيل عليه الصلاة والسلام. "تفسير
ابن كثير" 7/ 27 - 30.
وانظر هذا الاختلاف أيضاً في "الدر المنثور" للسيوطي 7/ 105 -
107.
(2/461)
ولذلك صمَّمَ على العلمِ به، وإزهاقُ النفس
لا يقدِمُ عليه نبيٌ إلا بوحيٍ، وقد بأنَ بالنَّسخِ أنَّهُ لم
يُرِدِ الذبحَ، فهذا أمرٌ لم يصدرْ عن إرادةٍ (1).
فصل
يجمعُ الأسئلةَ على هذهِ الآيةِ، وهي عُمْدَة لأهلِ السنَةِ في
هذهِ المسألةِ وفي أصولَ الدياناتِ: فمنها قولُهم: إنها لا
تُعطي صيغةَ الأمرِ مِن قولِ إبراهيمَ، ولا ولدِه، لأنَ قولَ
إبراهيمَ: {إِنِّي أَرَى}، ولم يقلْ: رأيتُ أنِّي أذبحُك.
ولم يقلْ: أمِرتُ أنْ أذبحَك، وقولُ الذبيحِ: {افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ}، ولم يَقُلْ: ما أُمرتَ، و {تُؤْمَرُ} لفظُ
الاستقبالِ.
ومنها: أنهُ لو كانَ قد أمِرَ، لكان الأمرُ بمقدماتِ الذبح، من
أخْذِ المُدْيَةِ، والتَلِّ للجبين، وأُبهِمَتْ عاقبةُ ذلك
عليه، فكان بلاءً مبيناً، حيثُ شهِدَتْ الأمَارات المأمورُ بها
بأنْ سيكون الأمرُ بالذبحِ بعد الأمرِ بالمقدّماتِ.
ومنها أن قالوا: قد رُوِي أنَّهُ فَعَلَ الذبحَ، لكنْ كانَ
إبراهيمُ كُلما قَطَعَ جُزءاً أو عِرقاً التَحَمَ بأمرِ اللهِ،
وُيوضِّح هذا أنَه سُمِّيَ الولدُ ذبيحاً، وحقيقةُ الذبيحِ
مَنْ حَلَّ الذبحُ فيه، كما أن حقيقةَ اسم قتيل، مَن حَل
القتلُ فيه.
قالوا: ويُوضِّحُ هذا قولُه سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا
إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104
- 105}، ولا يكونُ مُصَدِّقاً إلا بإيقاعِ الذبحِ.
__________
(1) أمر إبراهيم بذبح ابنه صدر عن إرادة ابتلاءٍ لإبراهيم
وابنِه عليهما السلام.
انظر "تفسير القرطبي" 15/ 102.
(2/462)
فصل
في جَمْعِ الأجوبةِ عَن الأسئلةِ على هذهِ الآيةِ
أما قولُهم: إنَها لا تعطي صيغةَ الأمر، فإنَ قولَه: {أَنِّي
أَذْبَحُكَ} ذَكرَهُ بلفظِ المستقبلِ، لأنً الفعلَ مستقبل
الأمرِ، ولَو لم يكنْ قد قدم على ذِكْرِ الذَبحِ أمْر اللهِ لة
بالذبحِ، لَما قالَ الابنُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فإنَ
رؤيةَ الفعلِ لا تعطي الأمرَ. وقولُه: {مَا تُؤْمَرُ}، ولم
يقلْ: ما أمِرْتَ، قد يَجيء الماضي، قال الله سُبحانه:
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}
[الفرقان: 41] والمراد به، اتخذوكَ هُزواً، وقالَ الشاعر (1):
وإذَا تكون كريهةٌ أُدْعى لها ... وإذَا يُحاس الحَيْسُ يُدعى
جُندَب
والمرادُ به: إذا كانت كريهة [دُعيت]، وإذا حاسَ الحيسُ دُعيَ
جُندَبُ.
ويجوزُ أن يكونَ ذَكَرَهُ بلفظِ المستقبلِ بمعنى: افعلْ بما
يُستدامُ من الأمرِ، فإن استدامَ ما أمِرتَ بهِ، فافعَلْ، كأنه
قولُ مُترجّ من لطفِ الله أنه لا يُسْتَدام الأمر، فعَطَفَ على
الدوامِ بالذِّكْرِ، وجَعَلَة شرطاً
__________
(1) اختلف في قائل هذا البيت، فقيلَ: هُني بن أحمر الكناني،
وقيلَ: لزرافة الباهلي، وقيل: لصخرة بن ضمرة النهشلي.
انظر: "ذيل الأمالي" (3/ 85)، و"حماسة البحتري" (ص 109) و"شرح
أبياتِ مغني اللبيب" (7/ 257). و "خزانة الأدب" (2/ 38).
والحيسُ: هو التمر يخلطُ بسمنٍ وأقطٍ، فيعجن شديداً، ثم يندر
منه نواه.
وأصل الحيس، هو الخلط.
(2/463)
للفعلِ، فقطعَ الله دوامَ الأمرِ بالنسخ،
كما وَقَعَ لهُ من الرجاء.
وأمَّا قولُهم: إنَّه أمرَ بالمقدِّمات، فلو أمِرَ بذلك لما
كان تعجلَ لابنِه الترويعَ بمجرَّدِ الظنِّ بذكْر الذَّبح،
لأنَه ليس من طِباعِ الآباءِ أنْ يُرَوعُوا الأبناءَ بمجردِ
الظنون، ولا يُنَفرُهُ أيضاً بذكر عاقبةٍ لا يعلم حقيقتَها عن
أمرٍ إذا انفردَ كانَ أسهلَ، ولا غَرَضَ في ذلك، لأنَّه إذا
بُلي بالأصعب أوجبَ الحالُ التسهيلَ، فأمَّا أنْ يُبلى
بالأسهلِ فيواجهُه بالأصعب، فلَيس هذا حكمَ العادةِ ولا الشرع،
ولهذا نَدَبَتْ الشرائعُ إلى التسَهيلِ وتركِ التنفيرِ، ولأن
الله سبحانه سَماهُ بلاءً مبيناً، وتأكيدُ البلاءِ يدلُّ على
تأكيدِ المأمورِ به، فلو كانَ بالأمارةِ ما كان بلاءً، فإذا
قالَ: المبين، دلَّ على أنه تعيَّنَ الذبحُ، لا بمقدماتٍ
وأماراتٍ.
وقولُهم: كتَمَ وأبهمَ العاقبةَ. فلو كان كذلك لما صَعُبَ
الأمرُ بكشفِها لابنهِ، لأنه إذا كانَ الله سبحانه ما كَشَفَها
لُطْفاً بإبراهيمَ، كيف يُتَصورُ أنْ يَكْشِفَها إبراهيمُ
بمجرَّدِ الظن تصعيباً على إسماعيل.
وأمَّا قولُهم: إنهُ رُويَ أنه ذُبِحَ والتحمَ، فما أبعدَه!!
مع كونِ الله سبحانَه أخبرَ بالفداءِ، وهل يكونُ الفداءُ إلا
ما قامَ مقامَ المكروهِ دافعاً لهُ، ومانعاً منه؟ فإذا كانَ
إسماعيلُ أو إسحاقُ قد ذُبِحَ، والكبشُ ذُبِحَ أيضاً، فلِمَ
اختُصَّ الكبشُ بأنْ يكونَ فداءً؟
قالوا: كان فداءً عن تَعَقب الذَبح موته، فجُعِلَ الكبشُ
ذبيحاً تعقَبَ ذبحَه الموتُ، وإسماعيلُ ذُبِحَ ذبحاً لم
يتعقبْه الموتُ.
قيل: معظمُ البلاءِ ذوقُ الحديدِ، ومعالجة الآلام، فإذا وقعَ،
فلا فِداءَ، بل هي مساواةٌ، ولو ذُبِحَ الكبش ثم أحياهُ، لمَا
خَرَجَ عن أنْ
(2/464)
يكونَ فِداءً، حيثُ لم يَقعِ الذبحُ بولدِ
إبراهيمَ، وحيثُ وقَعَ فلا فداءَ.
وأما قولُه سبحانه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:
105] وتسميةُ ولده ذبيحاً، فلأن التصديقَ ليس يقفُ على الفعلِ،
بل المُسارعةُ بالطاعةِ مع الاعتقادِ، والعزمُ: تصديق، ولهذا
لا يقفُ اسمُ الإيمانِ على امتثالِ الأوامِر الشَرعيةِ، بل
يَسبقُ أفعالَ العباداتِ اسمُ الإيمانِ بمجرَّدِ الالتزام.
وأمَّا تسميتُهُ ذبيحاً، لأنه أُمِرَ بذبحِه وأطاعَ، وبَذَلَ
نفسَه للذبحِ. قالَ سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}
[التوبة: 29] يعني: يبذلونها، فسمَّي البذلَ إعطاءً، كذلكَ
سمَّى بَاذِلَ النَّفسِ للذبحِ ذبيحاً، وكما سمَّى عيسى قولًا
(1)، وهو توسُّعٌ في موضعِ ثناءٍ ومدحةِ.
على أنَّ الاجتماعَ بيننا وبينهم على أنَ الاسمَ لا يكونُ
حقيقةً إلا حالَ الذَّبح، وما دامَ الذبحُ، ولا وقعَتْ
التًسميةُ عليه إلا بعد الذَّبحِ، والتَسميةُ لِماَ كانَ من
الذبحِ مجاز، كما أن الاسمَ للأمرِ بالذبحِ مجازٌ، فلا فرقَ
بيننا في القولِ بالمجازِ هاهنا.
ولأنَّ الآيةَ تَضَمَّنتْ بيانَ مِدْحَةِ إبراهيمَ في تصميمه
وعزمهِ، وإسماعيلَ في تسليمهِ وصبرِه، وحقيقةُ الذَّبحِ تتضمنُ
بيانَ الإِعجازِ والقدرةِ وكمالَ المدحةِ، فكيف تكتمُ مثلُ
هذهِ الفضائلِ العظيمة، والمعجزاتِ الباهرةِ، ويُذكرُ التَلُّ
للجبينِ، وهو لا يُنسبُ إلى حقيقةِ
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)} [مريم: 34].
(2/465)
الذَّبح، وما يتضمنُه من عِظمِ الصَّبْرِ،
وما زالَ الله سبحانَه يقص فضائلَ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ
عليهم على الاستيفاءِ، تعظيماً لشأنِهم وتخجيلاً لِمَن قصرَ عن
حالِهم، كبني إسرائيلَ شدَّدوا في أمرِ اللهِ لهم بذبحِ بقرةٍ
ذلك التشديدَ، وهذا الكريمُ أسرَعَ إلى طاعةِ اللهِ في هذا
الخَطْب الجسيمَ.
فصل
في الاستدلالات
قال المحققون مِن الفقهاءِ: أجمعنا أنَّ القائلَ: أُريدُ أنْ
تقومَ أو تدخلَ الدَّارَ، يحسنُ في جوابه: صدقتَ أو كذبتَ،
وقولُه: قُمْ وادخلْ الدارَ، يكونُ جوابهُ: أطعتُ أو عَصيتُ،
ومعلوم أنَّهُ لا يُستدلُ على طبعِ الكلمةِ وجوهرها وخَصيصَتها
إلا بمتعلقاتها وأجوبتِها، ومعلوم أنَ الأمرَ ما أطيعَ أو
عُصِيَ، والخبرَ ما صُدقَ أو كُذِّبَ، فلما كانَ التصريحُ
بذكرِ الِإرادةِ، يُعطي الِإخبارَ بدليلِ الجواب الليِّقِ
بالِإخبارِ، والاستدعاءُ من غيرِ ذكرِ الإرادة يُعطي الأمرَ,
بدليلِ الجوابِ بالائتمارِ، عُلِمَ أنَّ الأمرَ ليس بإرادةٍ،
ولا من (1) ضرورته صدرورُه عن إرادةٍ.
ومما استدلوا به أنْ قالوا: لو كانَ الأمرُ هوَ الإرادةَ
للمأمورِ به، أو يقتضي الإرادةَ، لمَا حَسُنَ أنْ يقولَ
الماكر: أمرتُكَ ولم أرِدْ، ويقولَ القائلُ: أردتُ ولم آمُر،
كما لا يحسُن أنْ يقولَ: أمرتُ ولم آمرْ، ولا أردتُ ولم أرِدْ،
لما كانا نقيضين.
__________
(1) في الأصل. "ما".
(2/466)
ومما استدلوا به: أن الأمرَ لو كانَ هو
الإرادةَ، أو كانَ لا يصدرُ إلا عن إرادةٍ، لما عَلِمَ الَآمر
آمراً، إلا مَن عَلِمه مُريداً، فلما رأينا العربَ تُسمي
المُستدعي الفعلَ مِن العبدِ، آمراً، وإن لم تعلمْه مُريداً،
عُلِمَ أنَهُ لا يقتضي الإِرادةَ، ولا هو أرادةٌ.
واستدل بعضُهم لهذا المذهبِ أيضاً، بأن جميعَ ما يصدُرُ من
الحيِّ مِن الأفعالِ، من قيامٍ وقعودٍ، وركوعٍ وسجودٍ، وأكلٍ
وشربٍ، لا يكونُ فعلًا لإِرادةِ الفاعلِ، والكلامُ عند
المعتزلةِ فِعلُ المتكلمِ، فإذا لم يكن القيامُ قياماً،
والمشيُ مشياً؛ لإِرادةِ القائم والماشي، كذلك يجبُ أنْ يكونَ
الكلامُ. فإنْ مانعُوا هذا أحدثوا لغةً لا تعرفُها العربُ ولا
أهلُ العُرفِ على اختلافِ لغاتِهم.
فصل
في جمعِ الأسئلةِ على هذهِ الأدلةِ التي وجدتُها في الكتب،
وسمعتُها في النَّظرِ: قالوا: إن جوابَ: "أريدُ مِنكَ" جوابُ:
افعلْ، فأمَّا إذا لم يَقُلْ: مِنكَ، لكنه قالَ: أريدُ، ولم
يقلْ: مِنكَ، فهو إخبارٌ عن إرادةٍ لا معنى.
فوِزَانُه أن يقولَ: يقومُ لي، أو يدخلُ لأجلي قائمٌ أو داخلٌ،
ولا بقولُ: لتقمْ أنتَ، ولا لتدخلْ أنتَ، فإنَّه إذا لم يُسَم
القائمَ والداخلَ، ولا عيَّنه، فلا يَحْسُنُ أنْ يقولَ واحدٌ:
السَّمْعُ والطاعةُ، أو: العصيانُ والمخالفةُ.
قالُوا: وأمَّا قولُ الماكِر: أمَرْتُ وَلم أرِدْ، فإنَّما
معناهُ: ماكَرْتُ ولَمْ
(2/467)
آمُرْ، وأتيتُ بلفظِ الأمرِ ويصيغتهِ، وما
كان استدعائي صادقاً، فالماكرُ بالصيغةِ، خارج عن الآمرِ إلى
الماكرِ كخروجهِ بها عَنْ الأمرِ إلى التهديدِ، وصيغةُ الأمرِ
في حقِّ الماكرِ، كصيغتِها في حق المستهزىءِ والساخِر.
قالوا: وأما قولُكم: يجبُ أن لا يعلمه آمراً إلا مَن عَلِمَه
مُريداً، فهو كذلك من طريقِ الاستدلالِ، فكلُ من علمه آمراً
علمَ أنه مُريدٌ، حيثُ كانَ حكماءُ العرب الواضعينَ لهذهِ
الصيغةِ، إنما وضعوها ترجُماناً عن دواعي تعرضُ، وَإراداتٍ
تحدُثُ، فصاغوا صيغةً تدلُ السامعَ المستدعى منه على إرادتِهم
لما استدعوه.
قالوا: وأمَّا هيئاتُ الإنسانِ وأفعالُه التي يُحدثُها، مِن
قيامٍ ومشيٍ وحركةٍ، فإنَّما لم تَدل على إرادةِ مَن قامَتْ به
تلكَ الصفاتُ، وصدرت عنهُ تلكَ الأفعالُ، لأنها صُورٌ تستقلُ
بنفوسِها وبالفاعلِ لها، سواء فَعلَها ساهياً أو ذاهلًا، فهي
فعل، فأمَّا صيغةُ الأمرِ فإنها حقيقةُ استدعاءٍ لفعلٍ، من
جهةِ منَ استُدعِيتْ منه، ولا يتحققُ استدعاء من غيرِ مُريدٍ
لما استدعاه.
فصل
في أجوبةِ الأسئلةِ.
أما فرقهم بين أريدُ، وأريدُ منكَ، لا وجهَ له، لأنه لو كانت
الإرادةُ أمراً، لما كان قولهُ: أريدُ خبراً، كما لا يكونُ ما
يوازيها ويساويها خبراً، والذي يساويها أمرآ، ويوازنُ: أردتُ
وأمرتُ.
ولو قال: أردتُ الماءَ، كان جوابُه من حيث اللغة: صدقتَ أو
(2/468)
كذبتَ، ولو قال: أمرتُ بالماءِ، لم يكنْ
جوابهُ: صدقتَ أو كذبتَ.
وأما المكرُ، فلا يكونُ مستحيلًا، ولا خارجاً عن الأمرِ، لأنه
لم ينعدمْ سوى العلمِ بعاقبةِ الأمرِ، هل تحصُلُ من المأمورِ
استجابةً، أو لا تحصلُ؟ والآمرُ ممتحن لحالهِ بأمرِه إيَّاه،
ولو عُدمَ الأمرُ لأجلِ الجهالةِ بالائتمارِ، لوجبَ أنْ يكونَ
من شرطِ الأمرِ علم الآمرِ بطاعةِ المأمورِ، ولا أحدٌ شرطَ
ذلك.
وأما قولُهم: أنَّ أفعالَ الإنسان وهيئاته تقعُ صورةً، ويصح
وجودها مع الذهول، وهذا الأمرُ يحتاجُ إلى استدعاءٍ ولا بُدٌّ
من داعٍ وإرادةٍ، فليسَ بكلامٍ صحيح، لأن كلُّ واحدٍ، من صورةِ
الفعل، وصيغة اللفظ، لا بُدَّ له من إرادةٍ للفظِ والهيئة، إذ
ما يقعُ بغير إرادةٍ له تخصُّه يكَون عبثاً، ومن حيثُ كونُها
صيغةً، وكونُ القيام حالةً، وصورةً لا يحتاجُ إلى إرادةٍ، بل
قد يبقى من السَّاهين والذَّاهلين.
فصل
في جَمْعِ شُبَه المُخالفين فيها
قالوا: ترِدُ هذه الصيغةُ للإيجابِ، وتردُ للنَّدب، وتردُ
للتحدّي وللتعجيز، وتردُ للتهديد، وتردُ للتكوين، فلا يفصْلُ
الأمرُ بها عما ليس بأمرٍ الأ بالإرادةِ، فعلِمنا أنَّ
الإرادةَ شرط في كون هذه الصيغة أمراً، وصارت كالأسماءِ
المشتركة.
قالوا: ولأله لا فرقَ عند حكماءِ العرب بَيْنَ قولِ القائل
لعبدِه: افعلْ. وبَيْنَ قولِه: أريدُ أنْ تفعلَ.
(2/469)
قالوا: ولأنَّه لو بَلَغَ اعتبارُ
الرُّتبةِ في الحدِّ، فقالوا: استدعاءُ الأعلى، وذكروا
المُستدعى منه بالأدنى، ومتى كان القولُ من المُماثل أمراً،
سقَطَتْ الرتبةُ، وصار ذِكْرُ الرتبة في الحد حشواً، والحدُّ
لا يحتملُ الحشوَ.
وإذا بطَلَ هذا لم يَبْقَ إلا أنْ يُقْتَصَرَ في حقِّ المماثل
على الاسم الأعمِّ، فيُقالُ: اقتضى وطَلَبَ.
قال قائل: وإذا تأملتَ القرآنَ وجَدْتَ تَنَكبَ الأمرِ في كلِّ
محلٍّ تَدَنَّتْ فيه الرُّتبةُ، مثلُ قولِه عن بلقيسَ:
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا
كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} [النمل:
32]، وتنكَّبَ تأمرون، وتَنَكَّبَ مُروني، فقالت: "أفتوني"،
و"تشهدون"، لما كانتْ هي الملكةَ، وقالوا: {والأَمْرُ إِليْكِ
فَانْظُرِي مَاذَا تأْمُرِيْنَ} [النمل: 33].
وقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: 46]
وقال في حق الشَّيطان: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ ...} [إبراهيم: 22] إلى قوله: {إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، قيل له: فقد
قال سبحانه عن إبليس، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وسؤى بَيْنَ
الأنبياءِ والأمَمِ في لفظةِ الأمرِ، فقال: أتامرُونَي أنْ
كفرَ بالله وأشركَ به ما ليس لي به علمٌ (1).
قال: قد يَرد ذلك مجازاً، وإلا فالحقيقةُ ما ذكرْنَا، لأنَّه
لا خِلافَ
__________
(1) هذا ما ورد في الأصل، وليس في القرآن الكريم آيةٌ بهذا
اللفظ، وإنما هي {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ
وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر: 42]، ولعل
المصَّنف قصد قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر:
64].
(2/470)
بيْنَ أئِمةِ (1) أهلَ اللُّغة وغيرِهم،
أنَّه لا يجوزُ أنَّ يقَع على الدَّاعي لله سبحانه بقوله:
اغفرْ لي، وهَبْ لي، ولا تَخْذُلْنِي، أنَّه آمر الله، ولا
ناهٍ له، وليس ذلك إلا لدُنُو رُتبةِ الدَّاعي، وعُلُوِّ
رُتبةِ الله سبحانَه على جميع خلقِه، والنُّصرةُ لإسقاطِ
الرُّتبةِ في الصيغة هدمٌ للحدِّ الذي أجمعوا عليه، أعني أهلَ
الصنعةِ القائلينَ بأنَّ امرَ الأمرِ، صيغةٌ تتضمنُ استدعاءَ
الفعل بالقول من الأعلى للأدنى، وكفى بذلك دَليلاً على مَن لم
يَعتبر الرُّتبةَ، ولا أحدَ جَوَّزَ للابن والعبد أنْ يقولا:
أمرْتُ أبي وسيّدي، بل سألناهُما ورَغِبْنا إليهما، ولا
استحسنوا في اللغةِ قولَ السَّيد والأب: سألتُ عبدي وابني، بل
أمرتُهما.
وأما قولُ فِرعونَ (2): فإِنَهم بالحكمةِ والرَّأي والحاجةِ
منه إليهم، جعلهم بهذه الخصيصة أَعلى، والعلو يختلفُ، وكذلك
عمرو (3) لَمَّا كان أَعلى بِبَيانِ (4) الرَّأي، سُمِّيَ
طلبُه فيه أمراً، فالعلو فنونٌ، وليس كله السلطنة.
__________
(1) في الأصل: (الأُمة).
(2) يقصدُ قول فرعون: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)} [الأعراف: 110].
(3) يريدُ قول عمرو بن العاص المتقدم لمعاوية بن أبي سفيان رضي
الله عنهما:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... وكانَ من الوفيق قتل ابن هاشم
(4) في الأصل: "بأن".
(2/471)
فصل
في تحقيق الأمرِ على قَولِ مَن يقول: إن الكتابةَ كلام حقيقةً.
اعلمْ أنَّ الظاهرَ مِن مَذْهب صاحبنا وأصحابِه أن الكتابةَ
كالتلاوة في أصول الدين، وأنَها كالكلاَم في الفروع، فمنْ ذلك
قولُهم: إنَ كاتبَ الطلاق كالمَتَلَفظِ به، وإنه لا يفتقرُ إلى
النِّيَّه، بل كتابةُ الصريح كالنطقِ بالصريحِ، فلا يتحققُ
منهم حد الأمرِ بأنه استدعاءُ الفعل بالقولِ، لأن الكَتْبَ ليس
بقول، وإنما هو تعبير عن القولِ ودلالةَ عليه.
وقالوا في تحديدِ الكلامِ: هو الحروفُ والأصواتُ المَسْموعةُ،
وليس هذا في الكتابةِ، إنما هي حروفٌ مسطورةٌ، فهو في
الصُّحُفِ والمصاحفِ حروفٌ بغير أصواتٍ، وهي في الصدورِ لا
حروفَ ولا أصواتَ، إذ ليس بمسموع ولا مَرْئي، وإنما هو ثبات في
القلب، وهو المُسَمَّى بالحفظِ، وهو دَوامُ الذِّكْرِ له، وليس
يُمكنُ أَنْ يقالَ: اَستدعاءٌ بالمفهوم، لأن الحد يجبُ انْ
يُملى فيه بالأخصِّ، ولأن قولنَا بالمفهوم باطلٌ، لأنَّ
الإشارةَ استدعاء بالمفهوم، وليست أمراً، ولا من أقسام الكلام،
ولا قَسم أحد الكتابةَ والإشَارةَ مِن أقسام الكلام، وإنماَ
استثناها اللهُ سبحانه في حق زكريا لأنَها تُعَبِّر عن اَلكلام
(1)، فهي شبيهةٌ به في المُرادِ بها، فتحققَ مِن هذا أنَّ
الأمرَ حقيقة لاَ ينطلقُ الأ إلى الحرفِ والصوت، وهي صيغة:
افعلْ، دُونَ كَتْبها المُعَبر به عنها،
__________
(1) يشيرُ بذلك الى قول الله تعالى لنبيه زكريا عليه السلام:
{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].
(2/472)
ودون الإشارة المفهومةِ النائبةِ
مَنَابَها.
وإنْ سميت خَبَراً وأَمْراً، فمجازاً، مثل قولهم: تُخَبرني
العينانُ مَا القلبُ كاتُم، وفي وجْهِ فُلانٍ كلام، وقولُهم:
في نفسِه كلام.
فصل
والأمرُ ليس بإرادةٍ، ولا من شرطِ كونِ الصيغةِ أمْراً صُدورها
عن إرادةِ المعنى المأمورِ به.
وقد اختلفَ أهلُ الاعتزالِ:
فقال بعضُهم: لا يكونُ أمراً إلا بإرادةٍ.
وقال بعضُهم: بثلاثِ إرادات: إرادة لإحداثِ الصيغةِ، والثانية:
إرادة للمأمورِ به، والثالثة: إرادة كونهِ أمراً لِمَنْ هو
آمِرٌ له، فقد اجتمعَ أهلُ الاعتزالِ والأشاعرة على أن هذه
الصيغةَ لا بُدَّ لها من مُسْتَنَدٍ، فقال هؤلاء: مُستَنَدُها
معنى في النَفْس هو الأمر، والصيغةُ عبارةٌ عنه ودلالة عليه،
وقال هؤلاء: لا بُدَّ من إرادةَ الآمْرِ أمراً، إلا لحُسْنِ
المأمورِ به، ولا النهي إلا لقُبحِ المنهي (عنه) (1).
فصلٌ
في الأَجوبةِ
والجوابُ: أن حُسْنَ مَا أَمَرَ الله به سبحانَه، وقُبْحَ مَا
نَهى عنه إنَّما عُلِمَ بدلالةٍ هى الإجماعُ، ومَا استند إليه
الِإجماعُ.
فأمّا أَنْ يكونَ لأجْلِ كونهِ أمراً أو نَهياً فلا، ولو جازَ
أَنْ يقال: إن
__________
(1) هكذا الأصل، وربما كان هناك سقط أو تحريف، ولعل صواب
العبارة: "ولا يكون الأمر أمراً إلا لحسن المأمور به ... "
وهذا على قول الأشاعرة.
(2/473)
حُسْنَ المُستدعى المأمورِ به، وقُبْحَ
المَنْهيِّ عنه كان كذلك لأجلِ الأمرِ والنَّهي، لكان القُبْحُ
والحسنُ لأمرٍ يعودُ إلى الفعلِ والتَّركِ، وإِنْ صَدَرَ عن
العقلاءِ، ولَمَّا كانَ القبحُ والحسنُ وراءَ الفعلِ، كذلك هما
وراءَ الأمر والنَّهي، وتعلقُهم بالحكمةِ وبالِإضافةِ إلى الله
تعلُقٌ بالقرينةِ الدَّالةِ على الحُسْنِ، وإلاَّ فمطلقُ
الأَمرِ لا يقتضي إلاّ الاستدعاءَ مِن طريقٍ، وأدلةُ الشَرعِ
دَلَّتْ على حُسنِ أمرِ الله سبحانه، وقُبْحِ بعضِ ما نَهى
[عنه].
وأَمَّا قُبحُ المنهي عنه، فلا يجبُ، فإِنَّه قد نَهى الشَرعُ
عن أشياءَ الأَولى تركُها، لا لقُبحِها، كالنهي عن القِران
بَيْنَ التمرتين (1)، [وكَسَتْرِ البيت] (2) بالخِرقة، والجلوس
في طريق المارَّة (3)، والشُّربِ من ثُلْمةِ الِإنَاءِ (4)،
__________
(1) يشيرُ بذلك إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي
رواه عنه ابن عمر أنَّ النبى صلى
الله عليه وسلم قال: "من أكل مع قوم من تمر فلا يقرن".
أخرجه أحمد 2/ 44 و 46، والبخاري (2489) و (5446) ومسلم
(2045)، والترمذي (1814) وأبو داود (3834) وابن حبان (5231) و
(5232). مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم.
(2) في الأصل: "كتبين الثيب" ولعل المثبت هو الصواب، وانظر
"الإنصاف مع الشرح الكبير" 21/ 332.
(3) في الأصل: "في المنارة"، ولعل المثبت هو الصواب.
(4) وردَ ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسولُ الله -
صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية: أن يشرب من أفواهها.
أخر جه البخاري (5625) و (5626)، ومسلم (2023) وأبو داود
(3720)، والترمذي (1890).
وفي رواية: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من
ثُلْمَةِ القدح، وأن ينفخ في الشراب.
أخرجه أحمد 3/ 80، وأبو داود (3722)، وابن حبان (5315).
(2/474)
والأكلِ في المُنْخُل (1)، وغيرِ ذلك، وليس
ذلك قَبيحاً.
فأَمَّا المقبحاتُ من المنْهيَّاتِ، فلأدلةٍ شرعية إنْ كانت
منهيَّات الشرعِ، أو لأدلةٍ عُرفيةٍ إنْ كانت من حيثُ اللغةُ,
فأمَّا بمجرَّدِ صيغةِ النَّهي فلا، وهذا خلطٌ منهم للكلامِ
باللغةِ، كخلطِهم الأمرَ باقتضاءِ الِإرادةِ وإلا فأيْنَ
التَّحسينُ والتَّقبيحُ من الصِّيغَ اللغوية؟
فصَل
في ذِكرِ مَن تَجِبُ طاعتُه
اعلمْ أَنَّ الواجبَ: هو الأمرُ اللآَزمُ الحتمُ، الذى سقَطَ
على المُكلَّفِ سقوطاً لا يمكنهُ الخروجُ عنه، إلاّ ويُكْسِبهُ
ذلك الذَّمَّ واسمَ العصيانِ.
مأخوذٌ من قولهم: وجَبَ الحائطُ، ووَجبتِ الشَّمسُ، أيمما
سقطا، {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] [أي: سقطت]. والذين
تجبُ طاعتهُ هو اللهُ سبحانه، وَمن أَوجَبَ طاعتهُ مِنْ
رُسُلِه صلواتُ الله عليهم، والأئمةِ وخلفاءِ الأئمةِ،
والوالدين، وسادةِ العبيد الذين مَلكهم رِقَهم، وأَوجَبَ عليهم
بحُكْمِ الشَرعِ طاعتَهم، فأمَّا مَنْ عدا ذلك مِن مُسَلطٍ
بنفسه ومُستعْلٍ بوضعهِ الاستعلاءَ لا بحُكْمِ الشَّرعِ، فليس
بواجبِ الطاعةِ، وإِنْ حَسنتْ متابعتهُ لاستعلائهِ والانقيادِ
له، فذلك مصانعةٌ له، حراسةٌ للنَّفسِ بحكْمِ الشَرعِ أيضاً،
أَلا ترى أنه لمَّا جاءَ الشَرعُ بالنَّهي عن طاعةِ الوالديْن،
حَسنَ عصيانُهما، فقال سبحانَه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}
[لقمان: 15]، وهذا
__________
(1) المنخل: ما يُنخَل به الشعير والقمح، وهو غير منهى عنه،
وإنما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير منخلاً وأن
الصحابة لم يكونوا ينخلون الشعير. انظر البخاري (5410) و
(5413).
(2/475)
الفصل ينبني على أن الحَسَنَ ما حَسنَه
الشرعُ، والقَبيحَ ما قَبحَة الشَّرعُ، خِلافاً للقَدَرِية.
فصل
في الدلائِل على ذلك
وهو أن المخلوقين في الخَلْقِ والجنْسِ والبُنْيَةِ الحيوانيةِ
المُحتاجةِ إلى القوام مِنَ الأغذيةِ سواء، وكذلكَ في تَسَلطِ
المَضَارِّ عليهم، ولا فَضْل لبعضِهم على بعض يقتضي طاعةَ
بعضِهم أمرَ بعض، وانَما رَتَبَهم الشرع مرأتبَ، فجعلَ مِنهم
أنبياءَ، ورُسُلاً، وأئمةً، وخلفاءَ، ووالديْنَ، ومالِكينَ،
وفَضلَ هؤلاءِ على مَنْ دُونَهم مِن المُرسَلِ إليهم،
كالرَّعَايا والأولادِ والعبيدِ، وجَعَلَ لهم تَعَلُّقَ
الرُّتبةِ الشرعيةِ الأمر الواجب، والطاعة اللازمة في
مقابلتهِ، ولولا ذلك لم يكُ لأحدٍ على أحد طاعة، لان ما عدا
هذه الرتَب التي عَظمها اللهُ سبحانه، وجَعلها سبباً لإيجابِ
الطاعةِ، إِنما هي أوضَاع لا لحَقٍ، ولا فَضْلٍ علِمْنَاهُ
سَبَباً للإيجابِ.
فصل
يجمعُ شبهَهُم
قالوا: إنَ أهلَ اللُّغةِ قد حَكموا لِما وَضَعوهُ آمِراً
برُتْبةٍ، وقابلُوه بطاعةٍ أو عصيانٍ، فسمَّوا الممتثل مطيعاً،
والممتنعَ عاصياً، ولو كان الَامرُ لا يُشترط له الإرادةُ،
لكان البهيمةُ إذا وجِدَ منه رَوْمُ (1) العلفِ
__________
(1) الرومُ: الطلب "لسان العرب" و"القاموس المحيط": (رَوْمُ).
(2/476)
والماءِ أنْ يكونَ آمراً، ولَوجَب أنْ
يكونَ المستهزىء والهاذِي المُبَرْسَمُ (1) القاثلُ لعبيده:
افعلوا واصنعوا، آمراً، ولَمَا لم يُسَم آمِراً، وما عُدِمَ
سِوى ما أمرَ به؛ عُلِمَ أن الأمرَ مشروط بالإرادة.
قالوا: ولان النهي لا يكونُ نهياً إلا بكراهةِ الناهي،
والكراهةُ ضِد الإِرادةِ، فوجبَ أنَّ لا يكونَ الأمرُ إلا
بإرادةٍ.
قالوا: لا يخلوا أنْ تكونَ الصيغةُ أمراً لمجردِ كونِها
ووجودِها، أو لقرينةٍ معها، ولا يجوزُ أنْ تكونَ بمجردِها،
لأنها توجدُ مِن المُبَرْسَمِ إلمَصْروع والنائم والطفل، وليست
امراً، ولا يجوزُ أنَّ تكونَ لوجودِ قرينةٍ معهاَ في الجُملةِ،
لأنَ مِن القرائِن ما يخرجُ به عن كونهِ أمراً، وهو التهديدُ
والتعجيزُ، مثلُ قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]،
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]، {قُلْ كُونُوا
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: 50]، لم يبقَ إلأ أنْ
يكونَ لقرينةٍ تَصْلُحُ لجعلِها أمْراً، وليس إلا الِإرادةَ.
وإن قلتم: إِنها إِنما تعتبرُ أنْ تَرِدَ مِن عاقل، فذلك
يُعْرَضُ ويحْرَسُ بالإِرادةِ، لأنَّه ليس يُرادُ العقلُ، ولا
يُشترطُ إلا ليرِدَ الأمرُ عن إرادةِ الآمرِ.
قالوا: ولأنها متى لم تصدرْ عن إرادةٍ، قيل فيمَنْ صَدَرَتْ
عنه: إنه ساهٍ أو ذاهل أو هازل أو ماكر، ولا يُسمَى آمراً،
كالفعل إذا صَدَرَ مِن غيرِ مُريدٍ لِمَا فَعَلَه كان عَبَثاً،
وكان مَن صَدَرَ عنه عابثاً، قال: وهل
__________
(1) المُبَرسَم: هو من أصابته علَّةُ البِرسام، وهي علَّةٌ
يُهذى فيها.
"لسان العرب" و"القاموس المحيط" مادة (برسم).
(2/477)
خَرَجَتْ لفظةُ افعلْ مِن المُهَددِ
والمُعَجِّزِعن كونِها أمْراً، إَلا لعدم إرادةِ مَنْ صدَرَت
عنه!
قالوا: اللُّغةُ تُوجبُ أنْ نَعْرِفَ بظاهرِ خطاب الله سبحانه
مرادَه فيما يستدعيه، والحِكْمَةُ تُوجبُ أنْ لا يأمرَ إِلا
بماَ يُريدُه، وما ذهبتُم إليه يُخالفُ اللُّغةَ والحِكمةَ،
وإِنْ جَازَ دَعْوى ذلك، فهلّا جوزتُم أنْ يكونَ يؤيدُ
بالاستدعاءِ التجنُّبَ، فَيَشْتَبِهُ الأمرُ المُطْلَقُ
بالتهدِيدِ.
فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن شُبَهِهم.
أمَّا القول بأنها تَرِدُ متردِّدةً، فليس بصحيح، بل هي موضوعة
للاستدعاءِ والطلب والاقتضاءِ لا غير، فإذا ورَدَتْ مع قرينةٍ،
كانت بحسَب القَرينة، إمَّا تهديداً، وإما تعجيزاً، وليست في
الترددِ كالصيغِ المُشترَكةِ مثل: لونٌ، وجونٌ، وقُرءٌ، وشفقٌ،
ألا ترى أنَّ تلك إذا وَرَدَتْ لم نَعْقِلْ منها واحداً مِن
الأشياءِ التي اشتركتْ فيها، ويوضِّحُ ذلك أنه إِذا قال لعبده:
اصبغْ ثوبي لوناً، وائتني غروبَ الشَّفَقِ، فإنَّه يحسُنُ
الاستفسارُ عن أيَ الشفقين، وأي الألوان، ولا يَحْسُنُ
استفسارُ القائلِ لعبده: افعل، أتريدُ أنْ يَفعَلَ أمْ لا
تريدُ أنْ يَفعَلَ؟ ولا استعلامُه عن التهديدِ والتعجيزِ، وما
صارتْ إلا بمثابةِ أسماءِ الحقائقِ المَوضُوعةِ لمَا وضِعَتْ
له، تُصْرَفُ إلى غيرِ ما وضِعَتْ له بضرب من الاتَساعِ، ولا
يُعطي ذلك أنَّها عند الِإطلاقِ تحتاجُ إلى إرادةِ النَاطقِ
بها ما وضِعَتْ له، وإِنَما لم تصحَّ مِن البهيمةِ، لأنَّ
القولَ والرتبةَ أبعدُها، وهما شرطا الأمرِ، فلا رتبةَ
للبهيمةِ ولا قولَ، ولربَّما انقلبَ هذا
(2/478)
عليهم، لأن إِشارةَ البهيمةِ بِطَلَبِ
العليقِ والماءِ والحنينِ إلى فصيلِها، وسخلِها، والخروجِ
للرَّعي دالة على إرادةٍ منها ذلك، ولم تكن آمِرةً، فقد تكاملَ
شرط الأمرِ عندهم، وليست آمرة.
وأما دعواهُم أنَّ لا فَرْقَ بَيْنَ قولِهم: أريدُ مِنك أنَّ
تفعلَ، وبَيْنَ قولِهم: افعلْ، غيرُ صحيحةٍ، لأنَ أريدُ منك
إخبار عن إرادتهِ، ولفظةُ: افعل، استدعاءٌ، والخبرُ يَدْخُلُه
الضَدقُ والكذِب.
وأَصَحُّ الاجوبةِ عن هذا ما سمعتهُ مِن إمامٍ في الجَدَل،
أَنَّ: أريدُ، وأودت، صيغتان تتجردان عن ذِكْرِ فرادٍ منه، بل
يكفي فيهما نفسُ المرادِ، فيقولُ القائل: أردتُ كذا، وأريدُ
كذا، فلا يقال: ممن تريدُ؟، ولفظةُ: افعل، وآمُرُ، وأمرتُ، لا
بُدَّ لها مِن مُعَلقٍ عليه الاستدعاء، وأريدُ، وِزَانُ أشتهي
وأحتاجُ، وأردتُ، وِزَانُ اشتهيتُ واحتجتُ، وهما خبران عن أمر
وقَعَ في النَّفْسِ من شهوةٍ، والأمْرُ إِنَما هو استدعاء،
فبانَ الفرقُ بينهما.
وأمًا المُبَرْسَمُ والمَصْرُوعُ، فإِنما لم يكونا آمِرينَ مع
وجودِ الصيغةِ، فلأنهما ما قَصَدا الصيغةَ، لا لأنَهما لم
يُريدا المُستدعى، وقد اتفقنا على أنَ إرادةَ النُطقِ
مُعْتَبَرَةٌ، وإِلا فلا تكونُ طلباً ولا اقتضاءً ولا
استدعاءً، وكذلك ما يَسْبقُ على اللسان وَيغْلِبُ بالبرْسَام
تكون صورتُه صورةَ الكلامِ.
واختلفَ النَاسُ هل هو كلامٌ؟
فعلى مذهبِ المُحَقِّقينَ: ليس بكلامٍ.
(2/479)
ثم اختلفوا في علَّةِ نفي اسمِ الكلامِ
عنه:
فقال قوم: لأنَّه ليس يعَبِّر عَمَّا في النَّفْسِ، وهم
نُفَاةُ الضَيغِ عن كونِها كلاماً، والمُثبتونَ للكلام قائماً
بالنَفْسِ.
وقومٌ نفوه لأنَه لا يصدُرُ عن إرادةٍ لِمَا يتضمنهُ مِن
الاستدعاءِ. ونحنُ نَسْلُبُه (1) اسمَ الكلام؛ لأنَه مدفوعٌ
إليه، فهو كما يخرجُ من الحروفِ عن غَلَبةِ عُطاسٍ أو سُعالٍ
أو تثاؤبٍ.
وأَمَّا النهيُ، فلا نُسَلِّمُ كوَنه نهياً لكراهةِ المَنْهي
عنه، بل لاستدعاءِ التركِ مع الرُّتبةِ، كما أن الأمرَ
استدعاءُ الفعلِ مع الرتبةِ، فلا فرقَ بينهما، وهذا ينبني على
أصلٍ كبيرٍ، وان جميع الأفعالِ والكائناتِ مُرادةٌ، وأنَها لا
تقعُ إلا بإرادةِ القديمِ سبحانه، وان ما شاءَ كان، وما لم يشأ
لم يكن.
وأَمَّا التقسيمُ الآخرُ، فالجواب عنه: أنها أمرٌ بكونِها
استدعاءً بالقولِ مِن الأعلى للأدنى، ولا يفتقرُ إلى ما هو
أكبرُ مِن ذلك، ولا يقتنعُ فيها بدُون ذلك.
والقرائنُ تعملُ عملَها في صرفِها لها عن موضوعِها عند قوم،
والصحيحُ على ما سمعناه مِن الأئمةِ في اللُّغةِ والنحوِ
والأصولِ، أنَ الصيغةَ للتهديدِ وللتعجيزِ تُشَابِهُ صيغةَ
الأمرِ، وليست أمراً صُرفَ إلى غيرِ الأمرِ بقرينةٍ.
وأّمَّا قولُهم: يكون ساهياً أو ذاهلاً فليس بصحيحٍ، لأنَّه
بإرادةِ
__________
(1) في الأصل: (نسبله) وهو تصحيف مما أثبتناه.
(2/480)
الصيغةِ يخرجُ عن كونه ذاهلاً وساهياً، ولو
لَزِمَ اعتبارُ إرادةِ المأمورِ به لكونِ الصيغةِ أمراً،
لوَجَبَ أن يُعتبرَ عِلْمُ الآمرِ بطاعةِ المأمورِ واستجابتهِ،
فلَما صَحَّ كونُ الآمر آمراً، وهو الله سبحانه، مع كونِه
عالماً بأَنَه لا فَرْفَ بَيْنَ الأَمْرِ بما لا يريدُهو
وبَيْنَ الأمرِ بما يَعْلَمُ أَنّه لا يكونُ مراده ومأمور به
(1)، والله أعلم.
وأَمَّا دعواهُم مخالفَتنا للّغةِ والحكمةِ، فغايةُ ما تُعطي
اللغةُ الاستدعاءَ، وقد أثبتناه، وما دعوى الإِرادةِ إلاّ مِن
طريق فى دلائلِ أحوالِ المخلوقينَ، وقد دَلتْ دلائلُ أحوالِهم
على الانتفاعِ بما أُمروا به، والحاجة إليه اقتراناً بشرطِه في
الأمرِ في الجملةِ وفي حقِّ الله سبحانه، وإِنَّما الذي يقتضيه
الإِطلاق إرادة صيغةِ الاستدعاءِ، وما وراء ذلك يقفُ علي
دلائلِ الأحوالِ، فالإرادة للمأمورِ، والحاجةُ إليه والميلُ
وما شاكلَ ذلك، فموقوفٌ على القرائنِ، دلائل الأحوالِ
وتفرُّعها يحتاج إلى دلالة.
فصل
وقال أصحابُنا: والفعلُ لا يسمَّى أمراً حقيقةً، كما لا
يُسَمَّى كلاماً حقيقةً، سواءٌ كانت إشارةً مفهومةً أو غير ذلك
(2).
فعلى هذا فعلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن دلَّ على وجوبِ
الاقتداءِ بالنبي صلى الله عليه وسلم
والمتابعةِ له، فإنّه ليس بأمرٍ.
__________
(1) الإرادة عند أهل السنة نوعان:
1 - إرادة كونية قدرية، وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث،
كقوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253]،
2 - إرادة دينية شرعية، وهي المتضمنة للمحبة والرضا، كقوله
تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:
185].
(2) انظر هذا القول في "العدة" 1/ 223، والمسوّدة ص (16)،
و،"التمهيد" 1/ 139، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 6.
(2/481)
وذهبَ بعضُ أصحاب الشافعي المتأخّرين، إلى
أنه أمر حقيقة (1)، وهو ليق بمذهبنا، حيث قَلنا: الكتابة كلام
حقيقة، وما في النفس من المحفوظ كلام حقيقة.
قال أصحابنا في القرآن: متلوٌ بالألسن مكتوبٌ فى المصاحفِ،
محفوظٌ في الصدورِ.
فالدلالةُ على أنه (2) ليس بأمرٍ، ما تقدم من أنَ الأمرَ صيغةُ
استدعاءٍ أو اقتضاءٍ، من الأعلى فعْلًا من الأدنى، وليس هذا
منطبقاً على ذلك، وأين الفعلُ من الاستدعاءِ؟!
وكذلكَ جعلُ الأقوالِ مُستدعىً بها، وهذه مُستَدعى إلى
متابعتِها بغيرِها، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلّوا كما
رأيتموني أصلّي" (3)، وقال للذي سألَ عن الصلاةِ: "صَلِّ معنا"
(4)، وقال في الحج: "خذوا عنّي مناسككم" (5).
__________
(1) ممّن ذهب إلى ذلك الآمدي، حيث صرَّح بأنَّ لفظ الأمر من
قبيل المتواطىء في القول المخصوص والفعل، وتسميته له متواطئاً،
يقتضي أن يكون حقيقة في القول والفعل معاً.
غيرَ أن جمهورَ الشافعيةِ يرون أن اسمَ الأمرِ حقيقة في القول
مجازٌ في الفعل.
انظر "المحصول" 2/ 9، و"الِإحكام" للآمدي 2/ 189 و"البحر
المحيط" للزركشي 2/ 343.
(2) يقصد الدلالةَ على أنَّ الفعلَ ليس بامرٍ حقيقة، وأنه إنْ
اطلقَ عليه فعلى سبيل المجاز.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة (440).
(4) لممبق تخرلجه في الصفحة (194) من الجزء الأول.
(5) تقدم تخريجه 1/ 194.
(2/482)
ولو كان الفعل أمراً، لما احتاجَ إلى أمرٍ
من جهة القول باتباعه، مثل قوله: "صلوا كما رأيتموني"، "خذوا
عني مناسككم"، كما لا نقولُ في القولَ.
ولأنه يَحْسُن أن تقول: فعلتُ وما أمرتُ، ولا تقول: أمرتُ وما
أمرتُ، ومن خصائص المجازِ صحةُ نفيه [عن] (1) غيرِ المسمى به.
ولأنهُ لما لم يكنِ التركُ نهياً، لم يكنِ الفعلُ أمراً، ألا
ترى أن استدعاءَ الفعْلِ بالقولِ لما كان أمراً، لا جَرَمَ
كانَ استدعاءُ التركِ بالقول نهياً.
ولأن الفاعلَ قد يفعلُ لا مُستدعَىً من غيره بفعلهِ، لكنه يفعل
لمعنىً يخصه، فإذا كانَ الأمرُ من طبعهِ الاقتضاءَ
والاستدعاءَ، وليس في طبيعةِ الفعلِ ولا جَوْهَرِهِ ذلكَ، بَطل
أنْ يكونَ أمراً سِوى ما كانَ في جوهِره، وليسَ إلا القولُ
الذي يستَدعي به الأعلى من الأدنى فعلًا.
ولأنَّه لا يُشتقُّ لفاعلِه منه اسمُ آمرٍ، ولا الفاعلُ مثله
مطيع، لكنْ يقال: فَعلَ، ولا يُقال: أمَرَ، ويقالُ: فاعلٌ، ولا
يقالُ: آمر، وقد فرقوا بينهما في الجمعِ، فقالوا في جَمعِ
أمْرٍ: أوامِر، وفي جَمْع أمر الشأنِ: أمور.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2/483)
فصل
فيما تعلقوا به
فمن ذلك قولهم: ما أمرُ فلانٍ بسديد، قال سُبحانَه: {وَمَا
أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)} [هود: 97]، وقال سبحانَه:
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال الشاعر:
فقلت لها: أمْري إلى الله كُله ... وإنّي إليه في الِإيابِ
لراغبُ (1)
قالوا: ولأنَّ الأمرَ مأخوذٌ من الأمارة، وهي: العَلاَمة، وفي
الفِعْل أمارَةٌ على ما يُراد، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا
فَعَل فِعلاً، فانما فعله ليُقتدى به.
فصل
في الأجوبة عنه
أما قولُهم: أمْرُ فُلانٍ، فالمرادُ به: حالُه وشأنُه، والحالُ
والشأنُ ليس بأمرٍ حقيقةً، وأما أضافَهُ الله سُبحانَه إلى
فرعون، فلا حاجةَ بنا إلى حَمْلهِ على الفعْل، فإنَه سُبحانه
أخْبَرَ عنه بأن قال: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا
مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}
[غافر: 29]، فكذّبه الله فيما قال، فقالَ: {وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)} [هود: 97] يعني ما يدعو إليه.
على أنه لو كانَ في الجميعِ يُراد به الفعلُ والحالُ والشأنُ،
فإنهُ مجازٌ، ولذلكَ يَحْسُنُ أن يُقالَ: ما أمرتُ ولا أمرَ
فلانٌ، وإن كان فَعَل، وكانَ له حالٌ وشأنٌ.
وأمّا قولُهم: إنه من الأمارةِ، فلا يُعرفُ ذلكَ عن موثوقٍ به
في
__________
(1) البيت دون نسية في مجالس ثعلب 2/ 565.
(2/484)
اللغة، ولو كان منقولًا، احتملَ أنْ يكونَ
مأخوذاً من أمارةٍ على الاستدعاءِ الذي في نفس المستدعي، وهي
القول، وإلا فلو كان عاماً لوقعَ على الكنايةِ والإشارةِ، ولم
يختص بالقولِ.
فصلٌ
فيما وُضعَ له الأمرُ
اعلمْ أنَّ الأمرَ لم يوضَعْ في اللغةِ لإِفادةِ [حُسْنِ]
المأمورِ به أو قُبحِه، وكذلك النهى لا يقتضي قبحَ المنهي عنه،
وإنما وُضِعَ للزجرِ عن فِعْلِ المنهى عنه واستدعاءِ تركهِ،
والتقبيحُ والتحسينُ وراءَ ذلكَ موقوفٌ على دلالةٍ تدلُّ عليه،
هذا مَذْهَبُ أهلِ السُنة، وهو مَذْهَبُنا.
وزعَمتِ القدرية أن مقتضى الأمرِ كَوْنُ المأمورِ به حسناً في
العقلِ، ولولا كونُه في العقلِ حسناً، لما امِرْنا به، ولولا
كونُ المنهى قبيحاً في العقل، لما نهانا الشرعُ عنه.
فصلٌ
في الدلالةِ على ذلك
إنّنا نعلمُ أن الآمرَ من أهلِ اللغة، قد يأمرُ بالظلمِ
والتعدّي، ويعاقبُ على مخالفته في ذلك، ولا تَنافيَ بين الأمرِ
والقبح، يقال: أمرَ بالحسَن، وأمَرَ بالقبيح، وكذلكَ السلطانُ
الجائر، يأمرُ بالجَوْرِ، وينهى عن العَدْل، ولا يصيرُ الجَورُ
بأمرِه حسناً، ولا يخرجُ بأمرهِ بالجورِ، عن كونهِ بذلك آمراً،
فهذا واضحٌ من طريقِ اللغةِ، وما هو إلا بمثابة قولنا: إن
القبيحَ مستدعىً، فلا يخرجُ بكونه مستدعىً عن
(2/485)
كونه قبيحاً، ولا يخرج المستدعى بكون
المستدعى قبيحاً عن كونه استدعاء، كذلك لا يخرج عن كونه أمراً،
ولا يقف الاستدعاء على كون المستدعى حسناً، كذلك لا يقفُ
الأمرُ على كَونِ المأمور به حسناً.
فصل
في شبهةِ المخالفين
قالوا: أجمعنا على أن الله سبحانه ما أمرَ إلا بالحسَن، بل ما
أباحَ إلا الحَسَن، على خلافٍ بين الناس في الإباحةِ، هل هَي
أمرٌ أوْلا؟ ولا نهى إلا عن قبيح.
وثبت في العقلِ أنْ لا اعتداد إلا بأوامِر الحكماءِ العقلاءِ،
من العربِ والآمرين في الجملة، فوجَبَ أنْ لا يكون، ولم يوقفوه
على أمرِ الشرع، ولا الوالِد والنبيّ خاصة، بل عمّوا كلُّ ذي
رتبة، فمِنْ أين لكم تخصيصُ ذلكَ بحُكمِ الله سبحانَه؟ وهذا
تعاطٍ على اللغةِ بمجردِ اقتراحٍ لا يدل عليه دليل.
قالوا: وما تنكرونَ أنْ يكونَ ذلك لوجهٍ هو في العقلِ عليه، أو
بحكمِ بعضِ الخلق ومواضعتِهم ذلكَ؟ كما جازَ وضعُ بعض الخلقِ
أسماءً ولغاتٍ يتخاطبون بها.
قالوا: وبالطريقِ الذي كانَ الشرعُ هو الموجبَ لطاعةِ
الأنبياءِ صلواتُ الله عليهم، والخلفاءِ من قِبَلِهِمْ،
وساداتِ العبيد، والوالِدين،
(2/486)
وجَبَ الحكمُ بوجوبِ ما وضعَ في العقل حسن
الطاعة فيه لذي رتبةٍ من الخلقِ، ولا فَرْقَ بين ما وضعه شرعاً
وما وضَعه في العقولِ، وليس سلوككم لإِيجابِ طاعةِ الأنبياء
صلواتُ الله عليهم ومن ذكرتُم من الخلقِ إلا لرتبةٍ وضعَها
الله، وقد وضعَ الله سبحانَه للعقلِ رتبةً، هي التحسينُ
والتقبيحُ، فإذا أمرَ آمِر من الخلقِ بحُكمِ ما وُضِعَ في
العَقْل، وجَبَت طاعتهُ ولا فَرْق.
فصل
يجمعُ الأجوبةَ
والجوابُ: أن أهلَ اللغةِ وضعوا الأمرَ صيغةً تستندُ إلى
رتبةٍ، فما خرجنا عن وضعِهم في اعتبارِ الرتبة، لكنْ خالفناهم
في عَيْنِ الرتبةِ، ومَعْلوم أن الأممَ على الغايةِ في
الاختلافِ في التحسينِ والتقبيحِ، فالبراهمةُ والهنودُ
والثنوية يحسنونَ أشياء تُقَبحها الشرائعُ، ويستقبحونَ أشياءَ
لا تستقبحُها الشرائعُ بل تُحسنها، وليسَ من يقولُ بأن الله قد
جعلَ اعتقادَ بعضِ هذه الفِرَق لِحُسْنِ الشيءِ أو قُبحهِ،
حُكماً منه بذلك، أولى ممن قال: إنَ اعتقادَ غيرهم من الخلقِ
لقبح ما استحسنه الفريقُ الآخر حُكم منه بقبحه، وهذا يوجبُ أنْ
يكونَ الله سبحانَه قد حَكَمَ بأنَّه حَسن قبيحٌ، واجبٌ ساقِط،
وذلكَ باطلٌ باتفاق.
(2/487)
فصل
في الإباحةِ هل هي أمر؟
اعلمْ وفقكَ الله أنَ الإِباحةَ إطلاقٌ وإذنٌ، وليست استدعاءً
للفعل، وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ من الأصوليين والفقهاء.
خلافاً للبَلخي (1) وأصحابه في قوله: إن الإباحةَ أمرٌ،
والمباحٍ مأمورٌ به، وهو أمرٌ دونَ رتبة الواجبِ والندبِ،
فجعلَ الإباحةَ مرتبة ثالثة، وهي أدنى الثلاثِ مراتب (2).
ولربما كانَ الخلافُ في عبارة، ولربما وقع الخلافُ في معنى:
فأمَّا الخلافُ في العبارة؛ أنْ يقال: معنى قولنا: إن المباحَ
مأمور به، أنه مأذون في فِعْلِهِ، ومطلقٌ ومحلل له ذلك،
ومدلولٌ من جهة السّمْع على أن له فعلهُ، وله تركَهُ، وأن
تركَه وفعلَه سيان، لا ثوابَ ولا عقابَ عليهما، فإن اريد ذلك،
فهو اتفاق على المعنى، وخلاف في عبارة.
فأمَّا الخلاف في المعنى؛ فهو أنْ يقولَ القائل بذلك: إن
الِإباحةَ
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف
بالكعبي، كان على رأس طائفةٍ من المعتزلة تُسمَّى الكعبية،
ويعتبر من نظراءِ أبي عليٍّ الجبائي، له تصانيفُ عديدة في علم
الكلام والأصول. توفي سنة (319) هـ، وقيل غير ذلك.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد"9/ 384، "وفيات الأعيان" 3/ 45
و"سير أعلام النبلاء" 14/ 313، و"شذرات الذهب" 2/ 281.
(2) انظر هذا القول للكعبي في "المسودة" ص (65)، و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 424، و"المستصفى"1/ 74، و"الإحكام" للآمدي 1/ 177.
(2/488)
للفعلِ اقتضاءٌ له، ومطالبة به. واستدعاء
على جهة الإيجابِ أو الندبِ، وأنها نهيٌ عن تركِ المباح، وأن
فعلَ المباحِ خير من تركِه الجاري مجراه، وهذا باطلٌ.
فصل
والدلالةُ على فسادِه: عِلمُ كلُّ عاقل من نفسهِ الفرقَ بين
كونهِ آذِناً ومطلقاً لعبده ومن تلزمُه طاعته في الفعل،
كوَلَدِه وخادِمه، وبين كونهِ آمراً لذلك الذي تلزمهُ طاعتهُ،
ومقتضياً له، وطالباً له، ومستدعياً منه، واذا كانَ ذلك الفرقُ
موجوداً للنفس، ومعروفاً لها، بَطلَ دعوى من قال: إن الإباحةَ
أمرٌ، لأنَّ الحقيقةَ الواحدةَ لا تنفصلُ ولا تنقسِمُ في
النفس، كما لا تنقسمُ حقيقةُ الخبر.
ومما يَدل على ذلك: أن حقيقةَ الإباحةِ تعليقُ المباحِ بمشيئةِ
المأذونِ له في الفعل، وبمعنى القولِ له: افعله إنْ شئتَ.
ومِنْ حقِّ الأمرِ بالفعلِ، أنْ يكونَ اقتضاءً له ومطالبةً به،
واستدعاءً لحصوله، ونهياً عن تركِه على وجهِ ما هو آمر به، على
ما نُبينه من بعد، فافترقَ لهذا حالُ الإباحةِ والأمرِ.
فإِن قيل: وجودُ الفصلِ والفرق في النفس، بينَ الإِباحةِ
والاقتضاءِ المطلقِ، لا يمنع من كون الإِباحة ضرباً من ضروبِ
الأمرِ، بدليلِ الندب والإِيجاب، فإِنَّ بينهما فصلَاَ
وفَرْقاً في النفسَ، ومع هذا فإِنّهما جميعاً أمرٌ، لكنْ
بينهما مرتبة، [فَكَما] تدنو مرتبة الندبِ عن الِإيجاب، كذلك
هاهنا تدنو مرتبةُ الِإباحةِ عن الندب، فلأجلِ الرتبةِ وُجد
الفصلُ في النفسِ، لا لأجلِ أنَّ الِإباحةَ غيرُ الأمر.
(2/489)
قيل: الفصل الذي يجدُه العاقلُ في نفسهِ
بينَ الإباحةِ والأمرِ، فصلٌ يمنعُ أن يكونَ في الإباحةِ نوعُ
اقتضاءٍ، أو مطالبةٍ، أو استدعاءٍ، لكنَّه يجدُ في النفس
تخليةٌ وهي نفيُ التقييدِ والكف والمعارضةِ في الفعل أو
المؤاخذةِ عليه، وهذا يُخرجُ الإباحةَ عن أنواعِ الأمر إنْ كان
متنوعاً. وسنذكرُ مذهَبنا في الندب إن شاء الله.
فصل
صيغةُ الأمرِ بمجودِها تقتضي الوجوبَ لغةً وشرعاً
هو ظاهرُ كلامِه (1)، لأنهُ قال: إذا ثبتَ الخبرُ عن النبيَّ
صلى الله عليه وسلم وجبَ العملُ بهِ.
وبذلك قال جمهورُ الفقهاءِ (2).
وقالتِ الأشعريةُ: إذا دلَّتْ دلالة على أن الصيغةَ للاستدعاءِ
وَجَبَ التوقفُ إلى أنْ تَرِدَ دلالة بإيجابٍ أو ندبٍ (3).
__________
(1) أي ظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبل، وقد ثبت هذا عنه في عدد
من الروايات.
انظر "العدة" 1/ 224، و"التمهيد" 1/ 146، و"المسودة": 14.
(2) انظر "كشف الأسرار" 1/ 50، و"المحصول "2/ 44 و" إحكام
الفصول" 79، و"البحر المحيط" 2/ 352.
(3) انظر "التبصرة" 27، و"العدة" 1/ 229، و"إرشاد الفحول"94.
(2/490)
وقالت المعتزلةُ (1): يقتضي الندبَ، ولا
يُحملُ على الوجوبِ إلا بدليلٍ، وهو قولُ بعضِ أصحابِ
الشافعيِّ (2).
فصل
في الدلائلَ من الكتابِ العربيِّ
والدلالةُ على ما ذهبنَا إِليه قولُه تعالى: {ما مَنَعَك ألا
تَسجُدَ إذْ أمرتُك} [الأعراف: 12] والتوييخُ على التركِ دلالة
على الإيجاب بمطلقِ الأمرِ، وأن مقتضاهُ الوجوبُ، وأيضاً
قولُه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وهذا يَدلُّ على أن أمرَهُ
حتم، لا تخييرَ فيه بين تركٍ وفعل، ولا توقفَ فيه انتظاراً
لدلالةٍ، فهي دلالةٌ على الجميعِ.
وأيضاً قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]، والزجرُ والوعيدُ على مخالفةِ
أمرِه، دلالةٌ على أن مقتضاهُ الإيجابُ.
فصل
يجمعُ الأسئلةَ عليها
قالوا: أمَّا الآيةُ الأولى، فإن القرائنَ المقترنَةَ بالأمرِ
دلتْ على الوجوب، وهو أن الله سبحانَهُ لم يُعْقِبْ تركَهُ
للسجودِ بالوعيدِ، بل أبانَ عن مخَالفتِه بالتَقسيمِ عليهِ:
{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} [ص: 75]
__________
(1) انظر "المعتمد" 1/ 50 - 51.
(2) "المستصفى" 1/ 423، "إرشاد الفحول" 94.
(2/491)
والقصةُ واحدةٌ، فقال: {أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ} [ص: 76]، وأَبانَ عن استكبارٍ.
ومَنْ قابَلَ أمرَ اللهِ سبحانَهُ بالاستكبارِ استحق الوعيدَ،
وقد نطَقَ القرآن بذلك، فقال: {إلا إبليس استكبر وكان منِ
الكافرين} [ص: 74]، ولو لم ينطِقْ بذلكَ لكفى علمُ الله سبحانه
بأنَهُ تركَ الائتمارَ لأمرِه على وجهِ الاستكبارِ، فعِلْمُهُ
في حقَ اللهِ كنطقِ العبدِ بالاستكبارِ على سيدِهِ فيما
أمَرَهُ بهِ، فيصيرُ الوعيدُ منصرفاً إلى استكبارِه عن الندب،
ومَنْ تَرَكَ مندوبَ الشرع بعلةِ الاستكبارِ كَفرَ واستحق
الوعيدَ، كمنْ قال: أنا أكبَرُ وأجلُّ مِنْ أن اقبلَ الحجَرَ،
وأطوفَ بالكعبةِ، لأنني حيٌّ، ناطقٌ، عاقلٌ، وهي جمادٌ.
ولو لم يَكُ هذا، لاحتمَلَ أنْ يكون قرينةً اقْترنَتْ
بالضَيغةِ فاقْتَضَتْ بالمخالفةِ التوبيخَ والوعيدَ.
قالوا: ولأن هذا يدل على وجوب أوامرِ اللهِ سبحانهُ وأوامرِ
رسولِهِ، وكلامُنَا في مُقْتَضى الأمرِ في اللغةِ، ولأنه إنما
دلَّ على الوجوب لِمَا اقترنَ بهِ مِنَ الوعيدِ على مخالفتِه،
ولا يُتَواعَدُ إلا على تركِ واجَبٍ، وكلامُنَاَ على أمرٍ
مطلقٍ.
(2/492)
فصل
في الأجوبةِ
أمَّا قولهم على الآيةِ الأولَة: إِن الوعيدَ كان للقرائنِ
التي ذَكَروَها، فإِنّ استدلالَنا من قوله: {مَالِكِ}، {مَا
مَنَعَكَ} وهذا لا يقعُ إلاّ مَوْقع ما يلزمُ فِعْلُهُ.
وقولُه: {إِذْ أَمَرْتُكَ} بيانُ الموجِب، كقولِ القائلِ: ما
مَنَعَكَ أنَّ تستجيبَ لي إِذْ دعوتُك، ولو كان هناَكَ قرينةٌ
لذكرَها، لأنَّ الموضعَ موضعُ تقريرِ الحجّةِ، وكيفَ يتركُ
مَوضِعَ الحجةِ وَيذكرُ خلقَهُ له بيديهِ، وقد كان الأشبهُ أنْ
يقولَ: ما مَنَعَكَ أنَّ تسجدَ لِما امرتُكَ بالسجودِ لَهُ
بالأمر المُقْتَضِي للإيجابِ؟، أوْ: ما مَنَعَكَ أنْ تسجدَ مع
إيجابِ السجودِ عليك؟.
ولأنَهُ يجوزُ أنْ يعودَ الوعيدُ إلى مخالفةِ الأمرِ، وإلى
الاستكبارِ، كما أخبرَ الله سبحانهَ عن أهل النار حيث قيلَ
لَهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) ,
..}
[المدثر: 42، 43، 44] إلى آخر الآية، وعندنا يجوزُ أنْ
يُعَاقَبَ الكافرُ على كُفْرِهِ ومخالفةِ أمرِ الله، لأن
الخطابَ يتجهُ إليه بالكُل.
ولو لم يكنِ الأمرُ على ما ذكَرْنا، لمَا ذَكَرَ الأمرَ وعلق
عليه الوعيدَ والتوبيخَ، ولو كان هُناك قرائنُ تزيدُ على ما
ذُكِرَ، لما طواها في محل إقامةِ الحُجةِ وتأكيدِ المَعْتَبةِ.
وقولهم: كلامُنا في اللغةِ. فأمَّا أوامرُ الله سبحانَهُ، فقد
يكونُ فيها أمرُ إيجاب بدلالةٍ، فليسَ عندهم أمرٌ يحصل الوعيدُ
بمخالفتِهِ، من حيث كونُهً أمراً لا في حقّ الله، ولا في حق
(2/493)
غيره. والقرآنُ يقتضي تعلقَ الوعيدِ
والتوبيخِ بمخالفتهِ لكونه أمرأ، ولأنَ قولكم: إنّ الوعيدَ هو
الدالُّ على كونِه أنَهُ داخلٌ. لا يَحْسُن، لأنَ الأمرَ
بمخالفته حَصل الوعيدُ، فنحن باستدلالِنا بالوعيدِ على مخالفته
على كونه واجباً، أسعد منكم باستدلالِكم على أنه صار واجباً
بالوعيدِ، لأن الوعيدَ جزاءٌ، فالأشبهُ أن يتأخرَ عن الأمرِ
المستحقِّ به.
فصل
في الدلائلِ من جهةِ الآثارِ والمنن
ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا أنْ أشُق
على أمّتي لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاةٍ" (1)، هذا يَدُل
على أن ما أمرَ به وجبَ، ولو أمرَ به لَوجَبَ وانْ شق.
وقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة في مَعْنى زوجها -أي لمغيث
(2) -: "لو راجعتهِ، فإنه أبو ولدكِ" فقالت: أبأمرِكَ يا رسولَ
الله؟ قال: "إنما أنا شافعٌ" (3) فموضع الدلالةِ أنه أخبرَ
بالشفاعةِ، وشفاعتُهُ ندب، فلو كان الأمرُ يقتضي الندْبَ، لكان
قد نفى ندباً، وأثبتَ ندباً.
وروي أنه مَرَّ برجل يصلي فدعاه فلم يجبه، فلما فرغَ من
الصلاةِ
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التمني (7240)، وأخرجه مسلم في كتاب
الطهارة باب السواك (252).
(2) في الأصل: "أبي المغيث". وعلق الناسخ في الهامش بقوله:
"كذا بخط ابن
عقيل والصواب: مغيث"
(3) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي - صلى الله
عليه وسلم - في زوج بريرة (5283).
(2/494)
قال: "ما مَنعك أن تجيبني؟ " قال: كنتُ في
الصلاةِ، فقال له: "أما سمعتَ الله يقول: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] (1)؟ فوجهُ
الدلالةِ أنه تعلّق عليه بصيغةِ الأمرِ في إيجابِ إجابتهِ -
صلى الله عليه وسلم - حين دعاهُ.
فصل
في أسئلتهم
قالوا: لعل مرادَه: "لأمرتُهم" أَمْرَ إيجابٍ، بأن كان قد
أوحِيَ إليه لو أمرناهم بالسواكِ لكان أمْرُنا لهم أمْرَ
إيجابٍ.
وكذلك أرادتْ بريرةُ: "أبامْرِك"؟ أي: بإيجابك، أو باستدعاءٍ
شرعي يكسبُني ثواباً في الأخرة؟ فقال: "إنما أنا شافع" لزوجك
لا آمرٌ لَكِ بحكم الشرع، لكن بحكمِ الرقةِ عليه أو الشهوةِ،
وذلك مما لا يعود إلى ما نحنُ فيه.
وكذلك قوله: {استجيبوا} لعله اقتضى بالوعيدِ المقترنِ بها، وهو
قولُه: {واعلموا أن الله يحولُ بينَ المرءِ وقلبهِ} [الأنفال:
24].
قيل: لم يُوْجَدْ إلا الأمرُ المجردُ والصيغةُ، وصرفُهُ عن
ظاهرهِ إلى أن المرادَ به الإيجابُ يحتاجُ إلى دليلٍ، والنبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - لا تُحمل شفاعتهُ على ما دون الندب،
لأن شهوتَهُ للأمرِ تكون موافقتُها موجباً ثواباً، بل آحادُ
أمتهِ، فكيفَ في حقّه؟!: وهو الذي إذا أرضاهَ أمرٌ كان من
أعظمِ الطاعاتِ، وشهوةُ الوالِد دونَ شهوتهِ وموافقتُها طاعةٌ.
__________
(1) أخرجه البخاري (4647)، وسيأتي في 3/ 19.
(2/495)
فصل
يجمعُ دلائِلَنا من حيث الاستعمالُ من أهلِ اللغةِ
إنّ القوم فَرقوا بين السؤالِ والأمرِ، فقالواِ في الأدنى اذا
خاطبَ الأعلى بلفظةِ افعل: سائلٌ، وسمَّوْ اللفظةَ سؤالاً:
وقالوا في الأعلى اذا قال للأدنى: افعل: آمر، وسمّوا الصيغةَ
مرحلً، وهذا يَدُل منهم على أنَّ الصيغة مع الرتبةِ اذ لم تك
موجبَةً لمَا كان لفرقِهم بين السؤال والأمِر معنىً، لأنهما
اتفقا في المعنىَ الأعمَّ وهو الاستدعاءُ، لم يبق لفرقِهم معنى
سوى انحتامِ الأمرِ وعدمِ انحتامِ السؤالِ.
ومما يَدُلُّ على أنَّها صيغة تقتضي الإيجابَ، ما نجده من قوةِ
اللفظةِ، ثم من مُتَعَلَّقَاتِها، فأمَّا من قوتها وجَوْهرِها،
فهو أنها استدعاءٌ مجرد عن تخييرِ المستدعى منه، والتوسعةِ له
في تركِ ما أمر به، مثل قوله: إن شئتَ، وإن أحْبَبَتَ، فكان
ذلك جزماً وحتماً, من حيث أنَّ المُستدعي أطلقها إطلاقاً، كما
أطلق قولَه -في الخَبَرِ-: فَعلَ، لما لم يكُ منه تردد من حيث
اللفظُ -بأن يقول: لَعله فعلَهُ، عساه فَعَلَ- كان خبراً جزماً
لا تردُّدَ فيه من طريقِ اللفظِ، وكلُّ من حطَّ هذه اللفظةَ عن
رتبةِ الإيجابِ والحتمِ، احتاجَ إلى قرينةٍ أو دَلالةٍ.
وأما اقتضاءُ الوجوب من حيث التعلُّقُ، فإن المخالفةَ لها تسمى
عصياناً، ويسمّى المخالِفُ عاصياً، فمن قيل له: قُمْ فَلَمْ
يَقُمْ، كمن قيل له: لا تقم فقامَ في تسميةِ العرب إياهُ
عاصياً، ومن ذلك استحسان حكماءِ العرب توبيخَه وذمَّه وتأديبه
على تركِ الائتمارِ، وهو عندهم بمثابةِ من ناداهُ سيدُه فلم
يُجبْهُ، فإنه يكون مُهَوِّناً ويستحق العقابَ على
(2/496)
تركِ إجابةِ النداءِ، فإذا نادى عبدَه
زيداً: يا زيدٌ، فلم يُجبْهُ مع قدرتهِ على الجواب كان
مُهَوناً، فإذا قيل: يا زيدُ أقبِل، فلم يُقبلَ كان عاصياً،
فلو لم تكنَ صيغةُ النداء تقتضي الإجابةَ وصيغةُ أقبِلْ تقتضي
الطاعةَ حتماً، لَما حَسُنَ عقوبةُ العبدِ على تَرْكِها، لأن
الذم والعقابَ لا يحسنانِ إلا على تركِ اللازِم الواجب، ألا
ترى أن قولَه: أقْبِلْ إنْ شئْتَ أوْ إنْ أحببت لما كان أمراً
موسعَاً، لا جَرَم قَبُحَ العَتَبُ والتَوْيِيخُ والعقابُ على
تركِ ما استدعاهُ منه، ولم يحسُن أن يُسمَّى بتركِ ما
استُدْعِيَ منه: عاصياً ولا مخالفاً.
وما يَدُل على ذلك: أن قولَ القائلِ لعبده، والأعلى للأدنى في
الجملة: كُن في هذا المكانِ، هو حَصْرٌ له، وقَصْرٌ على
المكانِ الذي أمَرَهُ بالكوْنِ فيه، ومَنْعٌ عن التَفَسحِ في
غيرِ المكانِ الذي أمَرَه بالكوْنِ فيه، فمدَّعِي الندب ونفي
الوجوب في الجملةِ يدَّعي توسعة في حق المأمور، لا أثَرَ لها
في لفظ الأمَرِ وصيغتِهِ، ومدَّعِي الوقف يعطَلُ الصيغةَ عن
فائدةٍ رأساً، وليس ذلك دَأبَ العربِ.
ومما استدل به بعضُ من وافقنا: أن العَرَب وضَعَت للخَبَرِ
جواباً، وللأمْرِ جواباً، فقالوا في جواب الخبر: صدقتَ أو
كذبت، وفي جواب الأمر: أطَعْتَ أو عَصَيْتَ. ولا تَضَعُ
العصيانَ اسماً للمخالفةِ، إلا وقد ضمَّنت الأمرَ المطلقَ،
انحتامَ الامتثالِ لما أمرتْ به.
ومما يدلُّ على اقتضائِها الإيجابَ، من جهةِ أَن العربَ وضَعَت
لفظة: (افعل) لاستدعاء الفِعْلِ، كما وضعتْا لفظة: (لا تفعل)
لاستدعاءِ التركِ، واستدعاءُ التركِ حتمٌ لا تَخييرَ فيه ولا
توسعةَ، بل يقتضي بمجرد إيجاب
(2/497)
المستدعى، كذلك استدعاءُ الفعل. يوضحُ هذا؛
أنَ كل استدعاءِ لفعلٍ يتضمَّنُ النهيَ عن ضدهِ، والنهيُ يقتضي
قُبْحَ المَنْهِى عنه عندهم، فينبغي وجوبَ المستدعى من حيث
وَجَبَ تركُ ضِدِّه وما لا يُمكن تركُ القبيح إلا به فواجبٌ،
كما أن ما لا يمكن فِعلُ الواجبِ إلا به واجبٌ، ومتى حملناَه
على الندب، جوزنَا تركه، وفي ذلك إسقاطٌ لإيجابِ ما تضمن
اللفظُ إيجابَهُ.
ومما يدكُ على أنها للوجوب، اعتبارُهم واشترَاطُهم لكونها
أمراً أن تَصْدُرَ عن الأعلى للأدنى، وما كان ذلك إلا لكونها
صادرةً ممن تَلزمُ طاعته، وهذا خَصِيْصَةُ الوجوبٌ، وهذا لا
يُسمى قَرِيْنَةَ، بل شَريْطةً، فإن القرينةَ الزائدةُ (1 وما
[عُدت] شرطاَ 1) إلاّ لكونها أمراً، لا معنى زائدِ.
وممَّا يَدلُ على أنَّ اقتضاء لفظة الاستدعاءِ الوجوبُ؛ أنَ
الإيجابَ مما يَهْجِسُ، في نفوس العَرَب، فلايجوزأن يْهْمِلُوا
وضعَ صيغةٍ تخُصه، فلو لى تكن لفظةُ: (فعَل) تقتضي الإيجابَ،
لكانوا قد أهملوا هذا الأمرَ الهاجسَ الذي هو أكثرُ ما يعرضُ
للنفسِ، وهو الاستدعاءُ الجزمُ، فلا يُعطلُوا هذا الأمرَ
العظيمَ الخطر عندهم من لفظةٍ تخضُه، فبطلَ دعوى أصحابِ
الوقفِ، وتعطيلِ صيغةِ الأمرِ مِنْ إيجابٍ.
ولأنهم لم يجيزوا التأكيد إلا بما يقتضيهِ المؤكدُ، فإنَه لما
كان قولهم: رأيت زيداً، يقتضي نَفْسَهُ وذاتَهُ، أكدوه بذلك،
فقالوا: رأيت زيداً نَفْسَه. كذلك هاهنا، أكدوا قولهم: (افعل)،
بقولهم: فقد حتمتُ وأَوْجَبْتُ عليك أن تفعل، فدكَ على أنَّ
أصلَ الأمرِ اقتضى ما أُكَدَ به في الإيجابِ.
__________
(1 - 1) في الأصل:" وما هذا شروطاً".
(2/498)
فصل
في جمعِ أسئلتِهم على الأدلةِ التي ذكرناها
قالوا: تفريقُهم ما بين السؤالِ والأمرِ، لا يَدُل على أنْ لا
فرقَ بينهما إلا بالوُجُوب، بل الرتبةُ أعطتْ الفرقَ في
التسميةِ، كما افترقَ الاسمُ بين موافقةِ الأعلى للأدنى فيما
استدعاه منه، وموافقةِ الأدنى للأعلى فيما استدعاه نَدْباً له،
فيقال: أطَاعَ. ولم يَدلَّ على وجوبِ ما أطاعَ فيهِ الأدنى، بل
استويا في نفي الوجوب مع اختلاف التسميتين.
قالوا: وقولكم: إنها استدعاء مجرد عن تخييرٍ وتوسعةٍ مطلقةً لا
تقييدَ، فهذا يوجبُ حَمْلَها على الاستدعاءِ المجرّدِ عن صفةِ
انحتام أو إيجابٍ، فيكوَن المُقْتَضي لتجردِها واطلاقِها أحدَ
أمرين: إمَّا الوقفُ عن القول بإيجابٍ أو ندب، لأنه الأليقُ
بما اقتضاهُ دليلُكَ من نفي الوصفِ؛ لأن نفي القرينةِ أدْعى
لنفي الصفةِ، أو إنْ حُمِلَ على أمرٍ -على صفة- حُملَ عَلى
أدنى الوجهين، وهو الندبُ، ولا يُحملُ على الوصفِ الأقصى، وهو
الحتمُ، إلا بدلالةٍ تقتضي التضييقَ في الاستدعاءِ والانحتام.
قالوا: وأما تسميةُ المُخالفِ لها: عاصيا، فليس على ما يَقَعُ
لكم من أنه يُقَابِل ذلك بمطلقِ الأمرِ، بل لقرائن ومعانٍ
تتصلُ بلفظةِ الاستدعاء، بعْضُها مُشاهدٌ وبعضُها مفهومٌ من
تصاريفِ القائل، بحيث يختلفُ الحالُ بين السامعِ له مع
العميانِ، وبين السامع له من وراءِ حِجَاب، فتدلُّ تلك
القرائنُ على الوجوب، على أنه لا يَسلمُ لكم أن قولَنا: (عاصٍ)
اسمُ ذم في اللغةِ، إنما صَار في الشرعِ اسمُ ذم، لكثرةِ
(2/499)
استعماله في مخالفة أوامر الله سبحانه،
التي قامت الدلالةُ على تأثيم المخالِفِ لها والمُتَقَاعِدِ
عنها، فقيل: عاصٍ لله، ومخَالف لأمرِ الله، والأ فأصلُها في
اللغة المخالفةُ، قد يُوجِبُ الذم وقد لا يوجِب.
ومن هناك قالوا: أشار عَلَى الأميرِ فَعَصَاهُ، وشاوَرَ فلاناً
وخالَفَهُ، ولا يكون بخلاف المشورة مذموماً، ولا بخلافِ الرأي
يكون ذَماً، إذْ ليس كلُّ رأي ومشورةٍ تقتضي الِإيجابَ، ولا
المشيرُ بمشورتِهِ مُوْجبَاً، والعصيانُ فيً الأصلِ هو
الامتناعُ، وبالإضافةِ يُتَبَيينُ حكمُهُ، فإن كَان لما يثبت
بالدلالة أن مخالفَتَهُ قبيحة، كان موجِباً للذمَ، وما لم
يَثْبُتْ ذلك فيه، وقع عليه الاسم من غير ذم.
قالوا: وأمَّا تعلُّقكُمْ بتركِ إجابةِ السيدِ إذا نادى
عبدَهُ، أو مُخَالفته، فتلكَ أوامرُ واستدعاءات اقترنَتْ بها
قرائنُ من دلائل أحوال، فلا تعَلقَ بها فيما نحن فيه من الأمرِ
المطلقِ، ومقتضاه فيَ أصلِ الوَضْعِ.
قالوا: والخبرُ يخالِفُ الأمْرَ، لأن الخبرَ إسنادٌ إلى مَا
كانَ لا محالةَ، هذا موضوعُه، ولأنه الحُجةُ عليكم، لأنه
يحتمِلُ الصدقَ والكَذِبَ، ولا يُغَلبُ فيه الصِدقُ إلا
بدلالةٍ تقترنُ بالمُخبرٍ، وهو كونه بالِغاً، عاقلًا، عَدْلاً،
لتجتمع فيه شروطُ الصدقِ، فَوِزَانُهُ أن تُقْرَنَ قرائنُ،
تقتضِى انحتامَ الاستدعاءِ.
قالوا: وأما النهيُ وهو استدعاءُ التركِ، فلم يقتضِ إيجابَ
التركِ بصيغتهِ، لكنْ دل على الكراهةِ، فلا يَكْرهُ الحكيمُ
إلا القبيحَ، فوجب التَركُ لكون المتروكِ قبيحاً، وكُل قبيح
يجب تركه، وليس كذلك استدعاءُ الفعل، لأنه يدل على حُسْنِ
المأمور به، وليس كلُّ حَسَنٍ
(2/500)
واجباً فِعلُهُ، بل أقل مراتبهِ الندبُ إلى
فعلهِ، فحملناه على أدنى مراتبه، ولم نُرَقِّهِ إلى المرتبةِ
العليا إلا بدلالةٍ.
قالوا: وأما قولُكُم: إن كلَّ مُسْتَدعى فِعْلُه، لا يتحقق
فعله إلا بترك ضدِّه، فينبغي وجوبُ المُسْتَدعى من حيث وجَبَ
تركُ ضده. فليس بصحيحٍ، لأنه ليس كلُّ ضِدٍ يجبُ تَرْكُه
عندنا، وانما هو بحكم الفعلِ، فإن دلت الدلالة على وجوب الفعلِ
كان تركُ الضد واجباً، وانْ كانَ الفعلُ نَدْباً، كان تركُ
الضدِّ الذي لا يمكن الفعلُ إلا بتركه مندوباً بحَسَبِهِ.
وأما إيجابُ الوضعِ للفظِ الإيجاب على مُقْتَضَى العربيةِ، وهو
أحسنُ الإِيجاب في نفوس العرب، فنقولَ بموجَبهِ، وأنَّهم
وضعُوا لذلكَ: فَرَضْتُ، وأوْجَبتُ، فأمَّا أنْ يَقْتَضِىَ ذلك
أنْ يكَون الوضعُ مجردَ لفظةِ الاستدعاءِ، فليس ذلك إلا مُجرد
التحكمِ، وإلا فما ادعَيْتَهُ من إجلالِهم وتَنْزيهِهم أنَّ
يُنْسَبُوا إلى الأهمال، يزول عنهم، وَيخرجُون عن عُهْدَتِه
بوضعِهم لَفْظَةَ الفرضِ والإِيجاب الصريحةِ في ذلك، ويعود
السؤال عليك فيقالُ: فيما وضعوه للإيجَابِ غِنى لهم عن أن
تُجْعَلَ لفظةُ الاستدعاءِ هي الموضوعةُ للإيجابِ بمجردِها.
فصل
في جمع الأجوبة عن جميع الأسئلة
أما قولُهم: التفرقةُ قد تحصلُ بين الأمرِ والسؤالِ لا من جهةِ
الإيجابِ ونَفْي الإيجاب، غير صحيح؛ لأن استواءَهما في نفي
الإيجابِ يجعلُهما سواءً في المعنى، والتفرقةُ بين الألفاظِ
إنما تقعُ
(2/501)
لاختلافِ المعاني، ومهما أمكن أن يكونَ
لكُلِّ لفظٍ معنىً، فلا يجوز أن يُشرك بين لفظين، سيّما
مختلفين في معنى واحدٍ، فلما قالوا: سأله ورغِب إليه. إذا كان
اللافظُ بالاستدعاءِ أدنى، وقالوا: أمرَهُ. إذا كان المستدعي
أعلى، وجَبَ أنْ يكونَ الفرقُ بمعنىً يعودُ إلى الغرضِ به،
وليس إلا الاستجابة، ومتى استويا فيها من حيث التوسعةُ
والتخييرُ، زالَ الموضوعُ بالفرقِ على مقتضى الأصل.
وإنما قيل في الندبِ للأدنى: أطاعَ، وفي الأعلى: أجابَ.
لدلالةٍ قامَتْ، وما خلا ذلك الفرق من معنى، وهو أن الرتبةَ
تقتضي شيئين: اتحادُ الفعل المستدعى، ومراعاةُ الأعلى أن لا
يدخلَ عليه وهْنُ المخالفةِ بأن يُعصى، بخلاف السؤال.
وأما قولهم: مقتضى التجردِ عن القرائنِ نفيُ الأوصافِ، فلا
ينبغي أن يعتبر (1) إيجاباً، ولا انحتاماً، لأن نفيَ القَرينةِ
أدْعى لنفيِ صفةِ الإيجاب. لا يصح؛ لأن الاستدعاءَ بقوله:
(افْعَلْ) يقتضي بجوهرِ اللفظةِ إيَجادَ المأمورِ به، ولا
يحصلُ الإِيجادُ إلا بالإيجاب، فأمَّا الوقفُ لا يُحصل شيئاً،
والندبُ يوجب تخييراً بين الترك والفعل، وجميعاً يُعِيْقَانِ
عن الإيجادِ الذي اقْتَضَتْهُ الصيغةُ.
وأمّا قولهم: لا يُسمى عاصياً، إلا إذا خالف أمراً مُوجِباً،
دلت عليه دلالة الوجوب. فينقضهُ سؤالُهم الثاني، وقولهم: إنه
قد يقع على مخالفةِ الرأي والمَشورةِ وإنْ لم يَقْتَضيا
الوجوبَ.
على أن أهل اللغة قالوا: أمَرَ فعُصِيَ، وأمَرَ فأطِيْع، كما
قالوا:
__________
(1) في الأصل: "يعتبروا".
(2/502)
نادى فأجيب، أو تخلف عنه، وأخْبَرَ فَصُدق
أوْ كُذبَ، فمدَّعي أنَّ أسماءَ هذه الأجوبةِ وُضِعَتْ لقرائنَ
اقْتَرنَتْ بالنداءِ، والخبرُ يحتاج إلى دلالةٍ، (فهو مَوقوفٌ
على وَضْعِ اللغة) (1) على معانٍ ظاهرةٍ بدعوى معانٍ باطنةٍ لا
دلالةَ عليها، وما هو إلا بمثابة من قال: إنَّ قولَ أهلِ
اللسانِ: اسْتَطْعَمَهُ فأطْعَمه، واسْتَسْقَاهُ فسَقَاهُ، ليس
براجع إلى مجردِ سؤالِ الطعام والشراب وإعطاءِ ذلك لِمنْ
سَألَهُ، لكنه لقرائنَ اقْتَرنَت بذلك وقعتَ التسميةُ
لأجْلِها.
وأّما دعواهُم: القرائن في الأوامِر، وأنها معانٍ تَقِفُ على
المشاهدةِ، وبحسَب الأحوالِ، فإنهُ مِنْ جنسِ دَعْوَى مَنْ
قال: إنما كان أمراً لشهوةِ الَآمرِ ومحبتهِ وشَغَفِهِ بما
أمَرَ به، أو لعدم تهديده ووعيدهِ. وان صرَّحوا بالقرينة
وقالوا: إنها حاجةُ الأحياءِ إلى ما يَسْتَدعونَهُ من عبيدِهم،
فأوامُر الله سبحانه بَعْدَ القرائن، وصريحُ الإيجابِ يخلو من
حاجةٍ، ويكونُ على الإيجاب.
على أنه إن لم يَدع لحاجته، فإنه يستدعي منا الطاعاتِ لحاجتِنا
إلى الإثابةِ في الآخرةِ، ونفي المضرةِ في الدنيا بما يَحصُلُ
من المفاسدِ، والانتفاعِ بعاجلِ المصالحِ.
وليس هذا مُعتبراً عندنا، لكن إنْ جعلتم ذاكَ قرينةً في أوامرٍ
الخلقِ، لتحصيلِ الوجوبِ، فاجعلوا هذه المصالحَ ونفي المفاسدِ
مُرَتِّبَة لإيجابِ أمرِ الشرع.
وأمَّا الخبرُ، فإنه مع رتبةِ المُخْبِرِ، وهي العدالةُ،
يُحْملُ على
__________
(1) في الأصل: "وإلا فهو موقف لوضع اللغة".
(2/503)
الصدقِ بظاهِر الوضعِ، وإنْ جازَ عليه
الكذبُ بعارضٍ وقرينةٍ تقترنُ بالمُخْبِرِ، ولا يمنعُ احتمالُ
الكذبِ فيه مِنْ أَنْ يكون مُطْلقه يقتضي الصدقَ.
وفي الجملةِ، لا يُحْملُ على أقل أحوالِه وهو الكذبُ أو
الشكُّ، بل يُحملُ على أعلى أحوالِه، وهو الصدقُ بطريقِ الظن.
وأمَّا قولُهم: إن النهيَ يقتضي كراهيةَ المنهي عنهُ، وكل
مكروهٍ قبيحٌ. فلا يصحُّ الأمران جميعاً؛ ولأن النهيَ لا يقتضي
الكراهةَ ولا القُبحَ، بل القبحُ والكراهةُ أَعْلى أحوالِه،
وله حالٌ أدنى، وهي الكراهةُ على وجهِ التنزيهِ أَوْ الأَوْلى،
كَنَهْيِهِ عن القِران بين تمرتين (1)، ونهيه عن العَبَثِ
بالحَصَا، أو تقليبِ الحَصَا (2)، والالتفاتِ في الصلاةِ (3)
وإلى
__________
(1) سلف تخريجه في الصفحة 474
(2) يشير إلى ما ورد من حديث أبي هريرة في الجمعة أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى
الجمعة فاستمع وأَنصت غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة وزيادة
ثلاثة أيام، ومن مَس الحصى فقد لغا" مسلم (857) (26). وما ورد
من حديث علي بن عبد الرحمن المعاوي، قال: صليت إلى جنب ابن
عمر، فقلبت الحصى، فقال: لا تقلِّب الحصى، فإنه من الشيطان ...
أخرجه أحمد (4575)، ومسلم (580) (116)، والنسائي 3/ 37.
(3) يشيرُ في ذلك إلى ما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها،
قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في
الصلاة، فقال: "إنما هو اختلاس يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد"
أخرجه: أحمد 6/ 106، والبخاري (751) و (3291)، وأبو داود
(910)، والترمذي (590) والنسائي: 3/ 8، وابن حبان (2287)
(2/504)
أمثالِ ذلك، فكان يجبُ أن تحملوه على أدنى
مراتِبهِ من التنزيه، دون الحظر، كما حَمَلْتُم الأمْرَ على
أدْنى مراتبهِ، وهو الندبُ.
وأمَّا قولُهم: إنه ليس عندنا [كُلُّ] ضد يجب تركهُ، لكنْ
بحَسَب المأمورِ به، فإنْ وجَبَ فِعلُه كان الضد المتروكُ
بحسَبهِ واجباً، وإن لم يجبْ فعلُهُ، لم يكن تركُ ضدِّه
واجباً، وأما الأمرُ المطلقُ في مسألتنا فلا يقتضي إِيجابَ
المأمورِ به، فلا يكون تركُ ضدهِ واجباً، لأنه بحسَبِ المتروكِ
من الفعلِ.
فهذا إنما يُبْنَى على فراغنِا من الدلالةِ على أنَه يَقْتَضِى
الوجوبَ مع الإِطلاقِ، فإذا سلَّمتم أنه يكون التركُ بحسب
المتروكِ، دلتْ دلائِلُنا -الدالةُ على الوجوب- مُوْجِبَةً
تحريمَ الفعَلِ، وهو وجوبُ التركِ، وكان الضدُّ بحسبه علىَ ما
قامَتْ عليه دلالتُنا.
فصل
يجمع شُبَهَ أهلِ الوقف
فمما تعلقوا به: أنَ هذه الصيغةَ تَرِدُ للإِيجاب، والندب،
والتهديدِ، والتعجيزِ، والِإباحةِ، بدليل قوله: {وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، للإِيجاب، وقوله: {وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى} [النور: 32] للندب، وقوله: {اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ} [فصلت: 40] للتهديد، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}
[يونس: 38] للتعجيز، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2]، للإِباحة. فصار حكمُها ومقتضاها الاشتراكَ،
فأوجَبَ عند الإطلاقِ التوقفَ إِلى حينِ تقومُ دلالة
تَصْرِفُها إِلى أحدِ هذه المحتملاتِ، كسائرِ المشتركات من لون
وعين وقُرْء وجَون.
(2/505)
ومن ذلك قولهم: لا يخلو مُدَعي الوجوب
بمجرّدِ هذه الصيغةِ أَنْ يكون عَرَفَ ذلك بعقل أو بنقل، لا
يكون بالعقل، لأنه ليس بطريقٍ لوضعِ اللغاتِ، أوْ بالنقلِ، ولا
يخلو أنْ يكونَ تواتراً أو آحاداً، فلو كان تواتراً لعلمناه
جميعاً ضرورةً، واشتركنا في معرفتِهِ، كسائرِ ما تواترَتْ به
الأخبارُ، وإنْ كان آحاداً، فلا يَثْبُتُ به هذا الأصلُ
العظيمُ الذي ينبني عليه حكمُ الشرع من الإيجاب والحَظْرِ،
ويستند إليه (1) استحقاقُ الوعدِ والِإثمِ، وطريقُ مثله العلمُ
دوَن الظن.
ومما تعلقوُا به، أن هذه الصيغةَ قد وردتْ في الندب أكثرَ مِنْ
ورودِها في الوجوب، ولو كانت للإيجابِ لما غَلَبَ استعمالُهَا
في غيرِ موضوعِها، على اسَتعمالِها فيما وضِعَتْ له.
فصل
في جميعِ الأجوبةِ
أما دَعْواهُم وُرودُها لمعانٍ مختلفةٍ ومقاصدَ متغايرةٍ
ومتضادةٍ، فهي مشتركة كلَوْن وجَوْن، فليس بكلام يتحققُ عند
علماءِ أهلِ اللغةِ؛ لأنَّ الصيغة المُتَجردةَ وهي لفظةُ:
(افعل) من الأعلى للأدنى لم تُوضَعْ عندهم إلّا لاستدعاءِ
الفعلِ خاصّةً.
ودلالةُ ذلك: أنَه لا يَحْسُنُ بالمُستدعى منه الاستفهامُ
والاستفسارُ، بأنْ يقول: هل تستدعي مني الفعلَ، أو تُهدِّدني،
أو تعجّزني؟ بل يقبحُ ذلك من العبدِ والأدنى في الجملة، بخلاف
قوله: اصبغْ ثوبي
__________
(1) في الأصل (إلى).
(2/506)
لَوْناً، واعَتدِّي بالأقراءِ، وأمْسِكْ عن
الطعامِ إذا طَلَعَ الفجرُ، وصَلّ إذا غَابَ الشفقُ، فإنّ ذلكَ
لما كان لفظاً موضوعاً لأقسام مختلفةٍ ومعانٍ متغايرةٍ حَسُنَ
أنْ يقول: أي لونٍ أصْبِغهُ؟، وبأيِّ الأقْراءِ أعْتَد؟، وأيُّ
الفَجْريْنِ الذي أمْسكُ عن الأكلِ عند طلوعهِ؟، وأيُّ
الشَفَقَين أصلّي عند غيبتهِ؟، ولا يقبحُ الاستفهامُ فيه وعنه،
وإنما التَهدُد والتعجيزُ والإباحةُ، ألفاظٌ موضوعةٌ في تلك
الأحوالِ.
ولربّما زعمَ قومٌ من الفقهاءِ أنها مستعملةٌ على سبيلِ
النقلِ، كلفظِ (حِمَار) منقولةٌ مِنَ النهاقِ إلى البليدِ،
ولفظةُ (بحر) منقولٌ من الماءِ إلى العالِم والكريمِ، وليس
يَرْتَضي المحققون ذلك؛ فإن العربَ إنما تَسْتَعيرُ الصيغةَ
بِمَحَل، ولِما فيه بعضُ مشابهةٍ لما وُضعَ له اسمُ الحقيقة،
كبلادة في الإنسان، يُستْعارُ له لأجلها اسمُ حمارٍ، وغزارةِ
علم وفيضِ عطاءٍ، يُسْتَعارُ لصاحبهِ اسمُ بحرٍ، وليس بين
التهديدِ الزاجرِ المانعِ من الفِعْل المزجورِ عنه، وبين
الأمرِ الموضوع للاستدعاءِ واتخاذ الفعلِ المَأمور به، تماثلٌ
ولا تشابهٌ؛ فلذلك لَم نَرْتَضِ تشبيهه بالمجازِ.
لكنْ نقول: إن قولَ المُتَهدِّد: افعل ما شئتَ، وأكْثرِ من
مخالفتكَ إيَّاي ومعصيتك لي، لفظ موضوع عندهم للزجر، كقول
المُعَرِّضِ بالقذف حالَ المسَابّة لغيره: يا عفيفُ ابنَ
العفيفةِ، وقولِ القائل للمشهورِ بالبخلِ: يا كريمُ، وللجاهل:
يا حَكيمُ. هذا موضوعٌ للاستخفافِ، ولا يقال: إنه اسمُ مَدْحٍ
استُعِير للذم، ولكنها بمشابهةِ اللفظةِ، كالمجاز الذي يحملُه
من لا علمَ لَهُ بالحالِ على الحقيقة (1)،
__________
(1) في الأصل: "الاستدعاء".
(2/507)
فإذا خَفِي عليه الحالُ الدالّه على
التَّهدُّد والحالُ الدالّةُ على الذَّمِّ، وسَمعَ قائلًا
يقول: افعل، قال: مستدع، وإذا سَمع قائلًا يقول: يا عفيفُ، ويا
كريمُ، ويا حكيمُ قال: مادحٌ ومُثْنٍ، كما إذا سَمع قائلًا
يقول: بحرٌ وحمارٌ، حَمَلَ الأمرَ على الحقيقةِ الموضوعةِ فيٍ
الأصلِ دون المجازِ، فهو يشابهُ المجازَ والحقيقةَ من هذا
الوجهِ خاصة، فَينْدفعُ بهذا تَشْبيههم صيغةَ الاستدعاءِ
بصيغةِ اللونِ والجوْنِ، من جهةِ أن ذاكَ لو سُمعَ على أيَ
حالٍ لَمْ يُعْقلْ منه السوادُ أو البياضُ إلا بدلالةٍ تصرِفُ
اللفظَ إلى أحدِ محتملاتهِ، على أن دليلَهم باطلٌ بصيغةِ
الايجاب، فإنها قد تَرِدُ والمرادُ بها الندب المؤكدُ، كقوله
صلى الله عليه وسلم: "غُسْلُ الجمعةِ واجبٌ على كلُّ محتلم"
(1)، وكذلك الوعيدُ ورَدَ على مَنْعِ الماعُون، ومَنْع إعارةِ
الدلوِ، ومنْحةِ اللبنِ (2)، ومَنْعِ فَضْلِ الماءِ (2)، وعلى
تركِ إجابة الأَذانِ إلى الجماعةِ (3)، ووردَ على تركِ
الفروضِ، ولَمْ يوجِبْ ذلك الوقتُ عند مجيئهِ مطلقاً، بل حُملَ
على الايجاب في الفعلِ، وإيجاب ما تُوُعدَ على تركِهِ، إلا أنْ
يَصرِفَنا عنه دلالةٌ، فَبَطَل التَعَلُّق بالاشتراكِ.
وأما التقسيمُ علينا في طُرق إثباتِ الوجوب، فإنَّ ما سَطرة
أهلُ اللغةِ في كتبِهم يجري مجرى التواترِ، وما استقريناهُ من
ألفاظِهم، وما قررناهُ في أدلتِنا، وما تلوناهُ من الآي
والسنةِ، وحكيناه عن أهلِ
__________
(1) أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846).
(2) سيرد الحديث بنصه في الصفحة (515).
(3) سيأتي في الصفحة (516).
(2/508)
اللغةِ من حُسْنِ المعاتبةِ على المخالفةِ،
على أنا لا نحتاجُ إلى تواترٍ بل الأحادُ في هذا تكفي، وخبرُ
الواحدِ المُتَلَقى بالقبولِ تَثبُتُ به مسائلُ الأصولِ عندنا،
وليس تَرتقي أصولُ الفقهِ إلى العلمِ (1)، ولذلك لا نُفَسق
المخالفين فيها، بل نُخَطئُهم فَنُنْزِلهم في ذلك منزلةَ
الفقهاءِ؛ ولأنه يَنْقلِبُ عليهم في قولِهم بالاشتراك، فإنه
نوعُ إثباتٍ، والوقف، فإنه مذهبٌ، فلا يخلو أنْ يكون ثَبَتَ
بالعقلِ أو النقلِ، ويُساقُ التقسيمُ عليهم مَسَاقَتَهم له
عَلَيْنا، فلا يجدونَ فضلاً.
على أنَّا لا نقنعُ بإيقافِ ما ذكروهُ حتى يَرجحَ جوابُنا،
فنقول: إن الوقف لا يكونُ عملًا بمقتَضى الاستدعاءِ المطلقِ،
وإنما هو لأجلِ استعمالِ اللفظةِ في مواضع تَقَيَّدتْ بقرائنَ،
ومواضعَ عُلِم أنه لم يُرَدْ بها الاستدعاءُ، ونحنُ بادرنا إلى
القولِ بالإيجاب، لأنا علِمْنا أنهم استدعوا الفعل للِإيجاد،
ولا يحصل الِإيجادُ إلا بالإيجاب.
وأمّا تَعَلقُهم بأنَ استعمالَها في الندب أكثرُ، فليس ذلك
بدليل على المنعِ من كونها هي الأصلُ في الإِيجاب، ألا ترى
أنَّ لفظةَ الوطْءِ حقيقة في الاعتمادِ بالقدم، واستعمالُها
فيَ المباضَعةِ والجماعِ أكثرُ، وكذلك الغَائِطُ اسم للأرضَ
اللينةِ، واستعمالُها (2) في الخارج أكثر، وإن كان ذلك مجازاً
في الخارجِ.
__________
(1) وقد ذهب إلى قطعية مسائل الأصول عددٌ من المتكلمين،
كالجويني والغزالي والأنباري، وغيرهم، وقد تبعهم في هذا
الشاطبي.
(2) في الأصل: "واستعمال".
(2/509)
فصل
في شبهاتِ المعتزلةِ
قالوا: الأمرُ من الحكيم يقتضي حُسْنَ المأمورِ به، وأقلُ
أحوالِ الحُسْنِ الحث عليه، والندبُ إليه، لأنَه لا يريدُ
الإباحةَ في دارِ التكليفِ، وأعلى أحوالِه الوجوبُ، فلا
يُحْملُ على ما زاد على أقل ما يقتضيهِ اللفظُ إلا بدلالةٍ،
كإطلاقِ العددِ، والجمعُ يُحملُ على الأقل في الإقرارِ
والأمرِ، ولا يحملُ على ما زادَ على الثلاثةِ إلا بدليلٍ.
قالوا: لو كانت هذه الصيغةُ يقتضي الإيجابَ، لَما حَسُنَ
ورودُها من الابنِ لأبيه (1)، والعبدِ لسيِّده، والوضيعِ
للشريفِ، أَلا ترى أنَ لفْظةَ: أوجبْتُ وفرضتُ، لمَّا اقتضت
ذلك لم تحسن من هؤلاء لمن هو أعلى منهم، فلما حَسُن أَنْ يقولَ
الأدْنى للأَعلى: افعل، عُلمِ أنها لا تقتضي الوجوبَ.
قالوا: قولُه لمن هو فوقَهُ: "افعلْ" يقتضي الإرادةَ دونَ
الِإيجابِ، كذلك مَنْ هو دونَهُ، وجَبْ أنْ لا يقتضيَ إلا
الإرادةَ دونَ الوجوبِ.
قالوا: ولأنَّ قولَه: "افعل"، وقولَه: "أريدُ أنْ تَفْعلَ"
واحدٌ في المعنى الموضوع له، وهو استدعاء الفعل، وكل واحدٍ
منهما يقتضي الإرادة، فإذا لم يقتض قوله: "أريد أن تفعل"
إيجابَ الفعلِ عندكم، وجَبَ أنْ يكون: "افعل" مثلَهُ في عدمِ
الإِيجاب.
قالوا: ما ذهبتُم إليه من القولِ بالِإيجاب، يُفْضي إلى أن
تقتضي اللفظةُ الواحدةُ بمعنيين مختلفين: وجوبُ فعلِه
والإثابةُ عليه، وتحريمُ تركهِ والعقوبةُ عليه، وليس لنا في
اللغة ذلك.
__________
(1) في الأصل "لابنه".
(2/510)
قالوا: لو كانت موضوعةً للِإيجاب، لكانت
إذا استعمِلَتْ في الندبِ مجازاً، كسائرِ الموضوعاتِ إذا
نقِلَتَ عما وضِعَتْ له إلى غيره، مثل بحر، متى استعمِلت في
الرجلِ العالِمِ كانت مجازاً، حيث كان وضعها للماءِ الغزيرِ
الفائضِ المتباعدِ الأقطارِ، فلما كانت في الندبِ حقيقةً
عندكم، بطَلَ أن تكون للإيجابِ في أصلِ الوضعِ، بل هي أمر فقط،
والأمر استدعاء يحمل بإطلاقِه على المتيقَنِ من مراتبهِ، وهو
الندب.
قالوا: لو كانت موضوعةً للوجوب لما حَسنَ الاستفهام عن المرادِ
بها عند إطلاقِها، كلفظةِ الِإيجاب الَصريحةِ، لما كانت
موضوعةً، لَمْ يَحْسنْ الاستفهام عندها.
قالوا: لو كانت للوجوب لكانت إذا جاءت دلالة تجعلها للندب
ناسخة، وتكون منسوخةً بِرَفْعِ الإيجابِ عنها.
فصل
يجمع الأجوبةَ عن شبهِ المعتزلةِ.
أما دعواهم الأُوْلَى، وأنها لا تقتضي إلا الحسنَ، فشرِح
لمذهبهم، ولا فضلَ بينهم فيها وبين من قال: تقتضي الِإطلاقَ
والِإذن، فلا نحمله على أكثرَ من ذلك إلا بدليلٍ، وإلا فتحقيق
الكلمةِ أنها تعطي إيجادَ المستَدعى، والحسْن معلوم بدليلِ
العقلِ، وأن الأمر إذا كان حكيماً لا يستدعي إلا الحَسَنَ،
فالحسن أمر زائد على كونِهِ مستدعىً، وذلك من قبيلِ أنة مصلحة
وأنه غير مفسدةٍ، كلُّ هذا قَبيل يعلم بدليل، لا من جهةِ
الصيغةِ، والمعلوم من الصيغةِ ببادرتِها استدعاء إيجادِ الفعلِ
(2/511)
المأمورِ به.
على أن هذا باطلٌ بالنهي، فإنه يدل مِن الحكيمِ على كراهةِ
المنهيِّ عنه، وكراهتُة لا تقتضي التحريمَ، لأنه قد يُكرهُ
كراهية تنزيهٍ، ثمّ لم يحمل على أدنى ما تتناوله الكراهة.
وقد أجابَ مَنْ وافَقَنا في هذا المذهبِ بجوابٍ آخرَ، وهو أن
قال: إنْ كان الأمر يقتضي حسن المأمور به، فهو يقتضي قبْحَ
ضدهِ، ولا يمكنه تَرك ضدهِ إلا بفعلِ المأمورِ به، فوجبَ انْ
يكونَ واجباً، وهذا معْتَرض بتحقيقٍ يكشف عن فسادهِ، وهو أن
الضدَّ إنما يجب -عند القوم- تركة إذا ثبتَ وجوب فعلِ ما
يضادة، فأمّا إذا كان الفعل لم يثبتْ وجوبه، فلاوجهَ لوجوبِ
تركِ ضده، فيصير دَوْراً.
وأمّا تعلقهم: بأنها تَحسنُ من الابنِ لأبيه وليس بأهلٍ
للِإيجابِ عليه، فإنه يبطل بلفظِ النهي، فإنه يحسن من الابنِ
لأبيهِ، والسيّدِ لعبدهِ، وليس بأهلٍ لمنعهِ والحجرِ عليه، ألا
تَرى أنه لا يَحسُن أنَّ يقولَ الابن لأبيهِ، والعبد لسيّدهِ:
حظرت عليكَ، ولا حرَّمت عليكَ، وَيحسن أنْ يقول له: لا تفعلْ،
كذلك لم يحسن أنْ يقولَ: أوجبت عليكَ، أو فرضت، ويحسن أنَّ
يقولَ: افعلْ.
على أنَّ الصيغةَ مع عدم الرتبةِ ليستْ هي المختلفَ فيها،
وإنما الخلاف فيها مع الرتبةِ، وليسَ إذا استعمِلَتْ الصيغة
نفسها في بعض المواضعِ التي لا تحتمل الوجوبَ لا يدلُّ على
أنها غير موضوعةٍ للوجوب، بدليلِ ألفاظِ الحقائقِ، كلفظةِ:
(حمار) تستعمل في الرجلِ البليدِ اَلذي لا يحتمل البهيمةَ، ثم
لا يدل على أنه غير موضوع
(2/512)
للبهيمةِ النَهاقِ، كذلك هاهنا.
وأما دعواهم في لفظةِ: (افعل) أنها تقتضي الإِرادةَ في حقِ
الأعلى والأدنى، وفي صدورِها من الأدنى للأعلى لا تكون موجِبة،
كذلك إذا صدرتْ مِنَ الأعلى للأدنى، فغيرُ صحيحٍ؛ لأن النهيَ
يقتضي الكراهةَ، سواء وجِدَ مِنَ الأعلى للأدنى، أوْ مِنَ
الأدنى للأعلى، ثم لا يقال: إنه لما لم يقتض الحظرَ إذا صَدَرَ
من الأدنى، كذلك إذا صَدَرَ من الأعلى.
على أنه إذا وَرَدَ من الأدنى للأعلى، سُمِّيَ سؤالاً ورغبةً
وطلباً، وإذا ورَدَ من الأعلى للأدنى سُمِّي أمراً، فدل على
أنهما مُفْتَرقانِ.
وأما قولهمْ إن قولَه: (افعل)، وقولَه: (أريد منك أن تفعلَ)
واحدٌ، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يقتضي إرادةَ المأمورِ، فإذا لم
تقتضِ أحدهما الإِيجاب، فكذلك الآخر مثلهُ، فدعوى بعيدةٌ؛ لأنَ
قولَه: افعل استدعاءٌ، وأريدُ أنَّ تفعلَ، خبرٌ، ولهذا حَسُن
في جوابِ أحدِهما: صدقْتَ أو كذبتَ، ولم يَحْسُنْ في جوابِ
الآخرِ.
وإذا قال: أريدُ منك، كان طلباً لا أمراً، ولهذا يَحْسُن أن
يُعلَّقَ على الأعلى والأدنى، بخلافِ افعلْ، فإنه لا يُعلقُ
إلّا على الأدنى دونَ الأعلى.
وأمَّا قولُهم: يُفْضي إلى أنَّ تكون اللفظةُ الواحدةُ تقتضي
شيئينِ مختلفينِ: الإِيجابَ والعقوبةَ على التركِ. فهذا بعيد
عن التحقيقِ؛ لأن الإِيجابَ هو انحتامُ الاستدعاءِ، والعقوبةُ
على المخالفةِ حكم أوجبَهُ الشرعُ في الأوامرِ الشرعيةِ،
والعَرَبُ في الأوامِر العُرْفيةِ، وليس في قوةِ
(2/513)
اللفظةِ إيجاب عقوبةٍ، وما ذلك إلا كما قال
المخالف في لفظةِ الِإيجاب، فإنَّ قولَه: أوجبتُ، لفظةٌ واحدةٌ
اقتضتْ بنفسها انحتامَ الفعلِ الَمستَدْعى، وكان من حكِمها
إيجاب العقوبةِ على المخالفِ لمقتضاها، وكذلك إيجاث الثواب
إنما هو بدلالة لا من اللفظةِ، إذ لو لم يخبرِ الله سبحانه
بالمجازاةِ لمَا اهتدينا إلى مقابلَةٍ منه، بل يجب طاعتة ولا
تجبُ إثابته، فلما أخبرَ صار الثواب حقاً بخبرِهِ، دون لزومهِ
للعوضِ والمقَابلَةِ.
وأما قولُهم: لو كانت للِإيجاب لكانت إذا استعْمِلتْ في الندبِ
مجازاً. فغير لازمٍ؛ لأنه على أحدِ الوجهين ليس بأمرٍ عند
أصحاب الشافعي (1)، وهو الصحيح عندهم، وإن سلِّم على قولِ
صاحِبنا -رضى الله عنه-، فإنما لم يكن مجازاً، لأن تحتها
استدعاءً تاماً، فهي كما يَبقى من العموم يكون خصوصاً
بالإضافةِ إلى مافوقه، عموماً في نفسِهِ، لكونه يَعمُّ ما
تحتَة، لأنَّ الوجوبَ جُملة تَقْتَضي إيجادَ الفعلِ على أشدِّ
استدعاءٍ وآكدِه، فيدخل الندب الذي هو نوع حث فيه، فيصير
__________
(1) هذا ما ذهب إليه الشيرازي ونصره، واختاره الشيخ أبو حامد،
والقاضي أبو الطيب والفخر الوازي.
والوجه الثاني عند الشافعية: أن المندوب مأمورٌ به.
وهو ما ذهب إليه القاضي الباقلاني، والغزالي، والآمدى. وذكر
الزركشي أنه الأظهر.
انظر: "البرهان": 1/ 249، "التبصرة" ص (36)، "المستصفى": 1/
75، و"الإحكام" / للآمدي 1/ 208، و"البحر المحيط": 2/ 364،
و"المحصول": 2/ 210.
(2/514)
كالجموعِ والعموم يخرجُ منه جملةٌ بعد
جملةٍ، والباقي عموم حقيقةً وجَمع حقيقةً، ولوَ بَقِيَ منه
ثلاثةٌ من ألوفٍ من الأعداد.
كذلك إذا بَقِيَ هاهنا على استدعاءٍ غيرِ منحتمٍ، لكنه محثوثٌ
عليه، فهو باقٍ على بعضِ الجملةِ.
وأما إلزامُهم حُسْنَ الاستفهام، فلا يُسلَّم على الِإطلاقِ،
بل إِنْ حسُن فعلى وجهِ التأكيدِ، فكما أنَ القائلَ: دَخَلَ
السلطانُ نفسُهُ. يؤكد بقوله: نَفسُهُ لا لحاجتهِ إلى ذلك،
كذلك يقولُ المستفْهمُ: السلطانُ نفسُهُ أو عسكره؟ مبالغة في
الاستثباتِ، وكذلك يقول هاهنا: أوجبْتَ على، استيضاحاً زائداً
على الحاجةِ، كقولِ المخبرِ: رأيتُ زيداً نفسَهُ.
على أنَ الاستفهامَ لأجلِ التردّدِ بين استعمالِ هذه اللفظةِ
في الندب وبين استعمالِها في الِإيجابِ، وهذا لا يمنعُ كونها
مع الإِطلاقِ منصرفَة إلى الإِيجابِ، كلفظةِ الإِيجابِ يحسُنُ
أن يقولَ فيها: هل أردْتَ به الندبَ لمجيئها في المندوب وهو
غسل الجمعة، وكذلك لفظةُ الوعيدِ والتهديدِ لمجيئهما في تركِ
المندوباتِ، كالماعونِ وما شاكلَ ذلك، كما رُوي: "مَن مَنَعَ
فضلَ مائهِ، مَنَعَهُ اللهُ فضلَ رحمتِه يومَ القيامةِ" (1)
و"من كانت له ما شية إبل أو بقر فمنع حقها بُطح بقاعٍ قَرْقَرٍ
__________
(1) ورد قريباً من هذا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده،
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من منعَ فضلَ مائه، أو فضل
كلئه، منعه الله فضله يوم القيامة".
أخرجه أحمد (6673)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 4/ 125، وقال:
رجال أحمد ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر.
وأصلُ الحديث صحيح، فهو عند البخاري (2369) و (7446)، وفيه
"ورجلٌ =
(2/515)
تنطحُهُ بقرونِها وتطؤه باظلافِها، كلما
نفذَ اخراها عادَ أولاها" قيل: وما حقُها؟ قال: "إعارةُ دلوِها
يوم وردها ومنيحة لبنها وإطراقُ فحلِها" (1)، وكذلك الوعيدُ
على تركِ الجماعاتِ، وقوله: "من سمعَ النداءَ فلم يُجِبْ، صُب
في أذنيهِ الآنكُ" (2) قيل: هو الصفرُ المذابُ، ثم هو مع
الإِطلاق يقتضي الوجوبَ والوعيدَ.
وأما قولهم: لو كانت للوجوب لكانت الدلالةُ الواردةُ برفعِ
الوجوب نسخاً. هذا باطل بالتخصيصِ إذَا وَرَدَ أبان عن أنه لم
يُرَدْ به الشمولُ ولم يكن نسخاً، والنسخُ ما ثبت حُكمهُ ثم
رُفعَ، وهذا الدليلُ أبانَ عن مرادِه بالنطقِ، وأنه الندبُ لا
الإِيجابُ، وما أوجَبَ العملَ بالِإيجاب ثم رفعَ، بل كان
ظاهرُهُ الإِيجابَ ثم كشفَ عن أن المرادَ به الندبُ، فلم يكن
نسخاً، كتخصيصِ العموم.
__________
=منع فضل مائه، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما
لم تعمل يداك".
(1) أخرجه من حديث جابر بن عبد الله، مسلم (988) (27) (28)،
والنسائي: 5/ 27، والبيهقي 4/ 182 - 183، وابن حبان (3255). مع
اختلاف في أللفظ عند بعضهم.
والقاع: المستوي ليس فيه ارتفاع ولا انخفاض.
والقَرقرُ: المستوي الأملس من الأرض.
وإطراق فحلها: أي إعارته للضراب.
(2) لم نجده بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه
موقوفاً على أبي هريرة: "لأن تمتلىء أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً
خير من أن يسمعَ المنادي ثم لا يجيبه" المصنف 1/ 340.
(2/516)
فصل
في الأمرِ هل يقع على الندبِ حقيقةً أو مجازاً؟
اختلف الناس في ذلك، فظاهرُ كلام أحمدَ أنه حقيقةٌ (1)، قال
أحمد: آمين، أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن قولَ:
آمين مندوبٌ إليه، وقد سمّاه أمراً، وعنى بأمره قوله صلى الله
عليه وسلم: "إذا أمنَ القارىءُ فَأَمِّنُوا" (2)، وقال في
الذبيحة: تُقادُ على المذبح قوداً رفيقاً، وتُوارى السكينُ ولا
تُظْهَرُ عند الذبحِ (3)، أمرَ بذلك رسوَلُ الله. فسمى
__________
(1) وهو الأصلُ عند الحنابلة، وفق ما صرح به القاضي أبو يعلى
في "العدة" 2/ 374، وانظر: "المسودة" ص (16)، و"شرح الكوكب
المنير": 3/ 55 - 56.
(2) ورد من حديث أبي هريرة بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إذا أمنَ الإمامُ فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه
تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه".
أخرجه البخا ري (780)، ومسلم (410).
(3) عن شدّاد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
الله كتب الإحسانَ على كلُّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،
وإذا ذبحمَم فأحسنوا الذبح وليحدِّ أحدكم شفرته، وليرح
ذبيحته".
أخرجه: أحمد 4/ 123 و 124 و 125 ومسلم (1955)، وأبو داود
(2815)، والترمذي (1409)، والنسائي 7/ 227، وابن حبان (5883).
وعن ابن عباس قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل
واضع رجله على صفحة شاة وهو يحدُّ شفرته، وهي تلحظُ إليه
ببصرها، فقال: "أفلا قبلَ هذا؟ أو تريدُ أن تميتها موتتان؟! "
أخرجه الطبرانىِ، المعجم الكبير" 11/ 333، و"المعجم الأوسط" 4/
361.
(2/517)
ذلك أمراً وإن كان كلُ ذلك ندباً.
وقال الكرخيُ والرازي (1) من أصحابِ أبي حنيفةَ: لا يكون أمراً
حقيقةً، وإنما حقيقةُ الأمرِ ما أُريدَ به الوجوبُ.
واختلفَ أصحابُ الشافعي، فمنهم من قال: إن المندوبَ حقيقةً
أمرٌ، وبعضُهم قال: إنه ليس بأمرٍ.
فصل
يجمع الحُجَج والأدلةَ على كونهِ أمراً
من ذلك: أنَ الفاعلَ بحكمِ الندبِ مثل القائل لآمين، والفاعل
للسواكِ، والمصلي سننَ الفرائضِ، يُسمى طائعاً، ومن خصائص
الأمرِ ودلائلهِ كونُ امتثالِه طاعةً وانفصالِه عن المباحِ
الذي لا يكونُ بفعلهِ طائعاً، ولا يكون فعلهُ طاعةً، وإنما
يكون مأذوناً فيه، والفصلُ بينه وبين الِإباحةِ يشهد بأنَه
مأمور به؛ لأنه يقال: أمرَه فأطاعَ، كما يقال: دعاهُ فأجابَ،
ولا يقال: أباحَهُ فأطاعَ، ولا أذِنَ له فامتثلَ. وكذلك إذا
فَعَلَ السيدُ ما استدعاه العبدُ منه، لا يقال: أطاعَهُ. لما
كان سؤالاً ولم يكُ أمراً، وما تحققَ الفرقُ بين الندب
والسؤالِ والِإباحةِ، إلا بكون المندوب مأموراً به، والإباحةُ
والسؤالُ ليسا أمرين، وكما يقال: [تكلَّم]
فصَدَق أَوْ كَذَبَ، يقال: أُمرَ فأطاعَ أو عَصى. وتحقيقُ أنه
إنما كان طاعةً وممتثلاً لتعلقِ الأمرِ به؛ لأنه محالٌ أن يكون
طاعة لجنسهِ ونفسهِ أو صفةٍ من صفاتِ نفسِهِ، لصحةِ وجودِه
ووجودِ مثلهِ، وما هو من جنسه
__________
(1) انظر: "الفصول في الأصول": 2/ 82، و"فواتح الرحموت" 1/
377.
(2/518)
غيرُطاعةٍ.
ومحال أن يكون إنما صار طاعةً لحدوثهِ ووجودِه، فإنَ المباحَ
حادثٌ وموجودٌ، وليس بطاعةٍ، ولا يجوزُ أن يكون طاعةً لكونه
مراداً، لأنَ المباحَ مُرادٌ وليسٍ بطاعةٍ، وكذلك جميعُ
الحوادثِ لا تحدث إلا بمرادِه، وليست طاعة، ولا يجوز أن يكون
طاعةً لحصولِ العلمِ به والخبرِ عنه، لأنه قد يشركهُ في ذلك ما
ليس بطاعةٍ من المباحِ والمحظورِ، وليس كلُ ذلك طاعةً.
ولا يجوزُ أن يكونَ إنما صار طاعةً لحصول الثواب ووَعدِ الله
سبحانه في مُقابلَتهِ، لأنه لو أمرَ بفعلٍ ولم يضمنْ عليه
ثواباً، لكان فعلُه طاعةً إذا وقع موافقاً للأمْرِ، لأن ضمانَ
الثوابِ في مقابلتهِ إنما هو بفضلٍ وليس بمستحقٍ عليه سبحانه،
وإنما ضمنه تْرغيباً في الطاعةِ، ولأنَه قد يُحبط المكلفُ
ثوابَ طاعتِه بالكُفْرِ، ولا يخرجُ عن كونه بعد إحباطِ الثوابِ
طاعةً، كما لا يَخْرجُ عن المخالفةِ بالمعصيةِ عن كونها معصيةً
بمغفرتِها والعَفْو عنها، فثبت بهذا التقسيم: أنَه لا يجوز أن
يكون طاعةً إلا لكونه مأموراً به، إذ لا شيءَ يمكنُ تعليلُ
كونهِ طاعةً بشيءٍ سوى ما ذكرنا، هذا هُوَ الذي عليه أهلُ
اللغةِ، ولذلك يُقال: فلان مطاعُ الأمرِ، ومعصي أمرُهُ،
ويقولون: أمرَ فأطيع، وأمرَ فعُصي قال الله تعالى: {قَالَ يَا
هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا
تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: 92, 93].
وقال الشاعر:
ولو كنتَ ذا أمرٍ مطاعٍ لما بدا ... توانٍ من المأمورِ في
حَالِ أَمْرِكا
(2/519)
ولم يقلْ أحد منهم: مطاعُ الِإرادةِ، ولا
أرادَ فأطيع، ولا أباحَ فأطيع، فثبتَ بهذه الجملةِ: أنَّ
الطاعةَ إِنما كانت طاعةً، لكونها مأموراً بها، وإذا كان كذلك
وجَبَ انقسامُ الأمرِ قسمين: واجبٌ، ونفل.
فالواجبُ بالإِطلاقِ، والندبُ مع انحطاطِه بقرينةٍ أو دلالةٍ
عن رتبةِ الإِطلاقِ إِلى التقييدِ بالندبِ.
ومما يدلُّ على أنَه مأمور به: أنَ الواجبَ ما يُعاقبُ على
تركه، وُيثابُ على فِعلهِ، هذا المستقر في حكمِ الشرعِ،
والندبُ ما يثابُ على فعلهِ، ولا يُعاقب على تركهِ، فإذا حملَ
على الندبِ، فقد حُمِلَ على بعضِ ما يشتملُ عليه الواجبُ، وذلك
لا يُمنَعُ به حقيقة، كالعموم إذا خَرَجَ منه بعض ما شمله
بدلالةِ التخصيصِ، بَقي الباقي حقيقةً فيَما يشمله.
فصل
في الأسئلةِ على هذه الأدلةِ
قالوا: إن الواجبَ لم يَصِرْ مأموراً به لكون الفاعل بحكمِه
والممتثلِ له مطيعاً، ولا لكون الفعلِ طاعةً، وإنّما صارَ
مَأموراً به لكونِ مخالفتِه عصياناً. قالوا: ولا نُسلم أنَ
معنى الواجب ما يُثاب على فعلهِ، بل هو ما يُعاقبُ على تركهِ،
وتدخلُ الإثابةُ على فِعْله تبعاً، بخلافِ العمومِ، فإنَ لفظة
تناولَ الجنسَ واشتملَ عليه اشتمالًا واحداً، فإذا خَرَجَ
بعضُه بدليل اللفظِ متناولًا للباقي، فكان حقيقةً فيه، كقولنا:
(2/520)
سوادٌ وبياضٌ، وموضعه (1) يعُمَّ الكثيرَ
والقليلَ.
فصل
في الأجوبةِ عن الأسئلةِ
أما قولُهم: لا نُسلم أنَّ الواجبَ صار مأموراً به، لكونه
طاعةً، ولا لكونِ الفاعلِ له مطيعاً، لكن لكونِ مخالفتهِ
عصياناً، فليس بصحيحٍ؛ لأن المقابلة للأمر بفعلٍ أو تَرْكِ،
فإذا كان الترك يسمى عصياناً، لكونه مخالفة للأمرِ لا غير،
وجَبَ أن تكونَ متابعةُ الأمرِ تسمّى طاعةً، لكونه أمراً لا
غير ذلك، وما تضادُّ العصيانِ والطاعةِ، إلا كتضادِ التصديقِ
والتكذيب، ومَعْلومٌ أن كُل لفظٍ حَسُنَ أن يكون جوابُه:
صدقتَ، خبرٌ، وكل ماَ كان جوابهُ: كذبتَ، كان خبراً، كذلك ما
تضاد العصيان والطاعة، يجبُ أن يكون كُلّ واحدٍ منهما إذا قابل
الاستدعاءَ، كان الاستدعاءُ أمراً.
على أنَّ التاركَ للمندوب، يَحْسُن أن يسمّى عاصياً، هذا قياس
المذهب. قال أحمدُ في تاركِ الوتْرِ: "رجل سوء"، وهو علي مقتضى
اللغةِ كذَلك، لأن كلُّ ما كان بفعلهِ طائعاً، كان بتركه
عاصياً، إذ ليس بينهما واسطةٌ.
ودعواهم أنَ الثوابَ تبعٌ، وأن العقابَ على التركِ هو الأصلُ،
لا تَصحّ؛ (2 لأن المأمورَ به مقَن له رُتبة 2) يكون معاقبا
على تركِه، كانت
__________
(1) في الأصل: "وموضحه".
(2 - 2) في الأصل: "لأن المأمور به رتبة يكون معاقباً ... ".
(2/521)
رتبتهُ من الثواب بحسَبه، نطَقَ بذلك
الكتاب الكريم في حقِّ طاعةِ نساءِ النبِّي صلى الله عليهَ
ومعصيتهِن المقدَّرة، وما من قربة يضاعف عقاب تركِها، إلّا
تَضَاعَفَ ثواب فعلها، فلا وجهَ لجعلِ الثواب تَبَعاً، فإنَّ
كلَ واحد منهما محثوث به، والأصل في الإيجاب انحتام
الاَستدعاءِ، على أن حصول الثوابِ نوعُ ترغيب على وجه الحثِّ،
فكيف يكون استدعاءً، على وجه الخبرِ ولا يكون أمراً؟ وإنّما
العقابُ بالتركِ زائد على الخبر بزيادةِ ردعٍ.
فصل
يجمعُ شُبَهَ المخالفين مما تعلقوا به في أنَّ المندوبَ ليس
بمأمور به.
قولُ النبى صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشُقَّ على أمتي
لأمرتهم بالسواك" (1)، وقد نُدِبَ، فدَلَّ على أنه ليس بآمرٍ
بكونه نادباً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة: "لو راجعتيه، فإنه أبو
ولدك"، فقالت: بأمْرٍ منك يا رسول الله؟، فقال: "لا، إنما أنا
شفيع (1)، فَنَفَى الأمرَ، وأثْبَتَ الشفاعةَ، والشفاعةُ
نَدْب، فدلّ على أنها ليست أمراً.
قالوا: ولأنّه لو كان المندوبُ مأموراً، لحسُنَ أن يسمّى
التاركُ له عاصياً، كالوجوبِ لمّا كان أمراً يُسمى مخالفهُ
عاصياً. وأجمعَ الناسُ على أنّه لا يُطلق على من تركَ
المندوباتِ أنه خَالفَ أمرَ الله.
قالوا: ومن خصائص المجازِ حُسْن نفيهِ. وقد أجمعوا على أنه
يَحسن أن يقولَ: إن الله ما أمَرَني بأنْ أصلّي الضُحى، ولا
أمَرَني بأن
__________
(1) سبق تخريجه في الصفحة: 494.
(2/522)
أزيدَ على صدقةِ زكاةِ مالي. ولو كان
مأموراً لما حَسُنَ نفيُهُ، فإن كلَّ صلاةِ نَفْلٍ وصدقةِ
نَفْل مندوب إليها.
فصل
في جمعَ الأجوبةِ عن شبههِم
أمَّا الحديثان، فالمرادُ بهما النفيُ لأمرِ الإِيجاب، بدليلِ
أنه علل بالمشقةِ، وذلك لا يقعُ إلا بالِإيجابِ، وليس مَعنى
أَن قوله: "أنا شافعٌ" من طريقِ الدِّينِ، لكن من طريقِ
المشورةِ في أمرِ الدنيا، ووكَل ذلك إلى ما يراه من صلاح
شأنِها في إجابتهِ، ومشاورتُه صلى الله عليه وسلم في أمورِ
الدنيا، لا تكون ندباً، وقد خُولِفَ فيها، مثل نزوله بمنزلٍ
أشير عليه بالرحيل عنه لما قيل له: أنزَلْتهُ بوحيٍ أم برأي؟
فقال: "بل برأيٍ"، فقيل له: ليس بمنزل (1)، وكذلك علَّل بأنه
أبو أولادك، ولم يقل: يكون لك [من الأجرِ كذا] (2) كما حَث على
أعمالِ الطاعاتِ بالوعْدِ. وأما تسميته بالترك عاصياً، فإنه لم
يَحْسُنِ الإِطلاقُ، لأنه يعطي الذمَ، وليس في مخالفةِ الندب
ذمٌّ إلا على صفةٍ - وهو إذا أهملَه أوْ داومَ عليه (3) أو
تقيَّد- فيقُال: خالفَ أمرَ الله فيما نَدَبَهُ إليه، ولأنه
يُقابله تسميتهُ -بإجماعِ المسلمين- بالفِعْلِ طائعاً،
وممتثلًا، ولا طاعةَ إلا لأمرٍ، كما لا تصديقَ إلا لِخَبَرٍ،
ولا إجابةَ إلا لدُعاءٍ.
وأما نَفْي الأمرِ، فلا نُسلّمه في سائرِ المندوباتِ، بل يقال:
خالف
__________
(1) يشير في ذلك إلى مشورة الحباب بن المنذر على رسول - صلى
الله عليه وسلم - في معركة بدر، انظر سيرة ابن هشام: 2/ 272.
(2) طمس في الأصل.
(3) أي داوم على الندب ظن فيه الإيجاب.
(2/523)
أمْرَ الله، لكن بتقيد لا بإطلاقٍ، لأن
الإطلاقَ يُوهم الاعلى، وهو الوجوبُ، وهو هاهنا محطوط عن رتبةِ
الوجوب، فلا بُدٌّ من تقييدٍ في النفي، فيقالُ: قد خالف أمر
الله في السنن أَو النوافل، كما لا بُد من تقييدٍ في الِإثبات،
فنقول: أمرُ ندب، لئلا يوهمَ إطلاقهُ الإيجابَ.
فصل
صيغةُ الأمرِ إذا ورَدَتَ بعد الحظر، كانت إطلاقاً وإذناً
وإباحةً، ولا تكون على مقتضى إطلاقِها، وأخذَ أصَحابُنا ذلك من
كلام أحمدَ (1) -رضي الله عنه- من آيات قامتِ الدلالةُ على
أنها للإِطلاقِ، مثل قولهِ سبحانه: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]، وذلك لا يُعطي عندي مذهباً في
مسألتنا؛ لأنَّ المختلفين في هذه المسألةِ، مجمعون على أنَّ
هذه الآياتِ للإِباحةِ، والِإطلاقِ بحسب دلالةِ الِإجماع،
وانما ذهبَ أصحابُنا إليها لدلالةٍ نذكرها، وذهبَ إلى هذا
المذهب الواضعُ لأصولِ الفقهِ من الفقهاءِ، وهو الشافعي رحمة
الله عليه، فظاهرُ مذهبِه أنها للإباحةِ.
واختلفَ أصحابُه على وجهين (2): أحدُهما: مثل هذا، والثاني:
أنها على الموضوعِ الأصلي من الإيجابِ.
وذهبَ أكثرُ الفقهاءِ (3) أنها على حُكم أصلهِا، على اختلافِهم
فيما
__________
(1) انظر: "العدة" 1/ 256.
(2) انظر: "التبصرة" ص (38)
(3) انظر: "البرهان" 1/ 163 - 165، و"المنخول" 131، و"الإحكام"
2/ 265 - 161، و"نهاية السول" 2/ 272.
(2/524)
تقتضيه في الأصلِ، فمن قال: هي على الوقفِ،
قال: هي على الوقفِ، ومن قال: على الندبِ. قال: هي بعد الحظرِ
على الندبِ، ومن قال: هي على الإيجابِ، قال: هي على الإيجاب
(1).
__________
(1) نَسبَ هذا المذهب لأكثر الفقهاء، القاضي أبو يعلى، وابن
تيمية، وابن قدامة، غير أن الآمدي، أفاد بأن مذهب أكثر الفقهاء
القول بالإباحة.
انظر "العدة" 1/ 256، و"المسودة" 16 - 20. "روضة الناظر" 2/
76، و"الإحكام" 2/ 260.
وقد ذكر المصنف قولين في المسألة، وغفل عن بيان بقية الأقوال،
وهي علي النحو التالي:
أولًا: القائلون بأن موجَب الأمر قبل الحظر هو الندب أو
الإباحة، فهو عندهم بعد التحريم كذلك.
ثانياً: أما القائلون بأن موجَب الأمر قبل الحظر هو الوجوب،
فقد اختلفوا فيه على مذاهب ثلاثة:
الأول: الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وإليه مال الشافعي
وبعض أصحابه.
الثاني: الأمر الوارد بعد الحظر للوجوب، واليه مال عامة
الحنفية.
الثالث: الأمر الوارد بعد الحظر يرجع الحكم فيه إلى ما كان
عليه قبل الحظر وهو اختيار ابن تيمية والكمال ابن الهمام.
ثالثأ: القول بالوقف، وإليه ذهب الجويني، والغزالي، والآمدي.
انظر: "البرهان" 1/ 263 - 265، و"المنخول" 131، و"الإحكام" 2/
165، "نهاية السول" 2/ 272، و"تفسير النصوص" 2/ 361.
(2/525)
فصل
يجمعُ الدلائلَ على مذهبِنا
والدلالةُ على أنه يقتضي الإِباحةَ والإطلاقَ دون الوجوب، أن
النهيَ والحظرَ الذي تقدّم كان مانِعاً من الفعل، وبين الحظر
والإيجاب مراتب ثلاثة: الإطلاقُ، ثم الندبُ، ثم الِإباحةُ، ثم
الِإيجابُ، فإذا قال السيدُ لعبده، أو المطاعُ في الجملة
لمطيعهِ ومن هو دونهُ: لا تدخلِ الدارَ، ثم قال له: ادخلْ. لم
يجزْ أنْ نُسْقِطَ درجتين، الِإطلاقَ والندبَ، ثم نرتقي إلى
الإيجاب إلا بدلالةٍ، لأن الأقربَ إلى هذه اللفظةِ بعد المنعِ
الِإطلاقُ فيما كَان مَنَعهُ عنه والتخليةُ مما كان قيَّده به.
ولهذا يحسُنُ أنْ يُقال: أذِنَ له بعد المنعِ، وأطلقَهُ بعدَ
الحظرِ، ولا يُقال في حالِ الابتداءِ ذلك، ولا يَحسُنُ أن
يقالَ لمن قال لعبدهِ ابتداءً: افعل، أنه مطلقٌ، بل هو مُقيّدٌ
بالأمرِ، مستدعىً منه إيجادُ ما أمر به.
ويدل على ذلك أيضاً أن كُلَّ أمرٍ بعد حظرٍ في القرآن على
الإباحةِ، فيجب أن يُحملَ على ما وَرَدَ به القرآنُ، والدلالةُ
على هذه الدعوى قولُه سبحانه: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...} [المائدة: 95]
إلى قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]،
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...}
[الجمعة: 9] إلى قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وقوله سبحانه:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].
(2/526)
ويدل على ذلك: أنَّ تقدمَ الحظرِ كان يقتضي
الكف عن ذلك الفِعْلِ المحظورِ، فإذا جاءَ لفظُ الاستدعاءِ،
وهو صالحٌ لإِزالةِ ذلك الحظرِ، والإذن والإطلاق في فعلِهِ،
وجَبَ أن يُحملَ على ما صَلَح له، كما لو استأذنَ الأدنى
الأعلى، هل أفْعَلُ كذا؟ فقال له: افعل، كان تقدمُ الاستئذان
منه جاعلًا لقول الأعلى له إذناً، وإطلاقاً لا أمراً موجِباً،
ولا ندباً، ولا يُوجِبُ وقفاً، كذلكَ تقدّمُ الحظرِ، بل الحظرُ
آكدُ، لأنَ الاستئذانَ يترددُ بين المنعِ وبين الِإطلاقِ،
والحظرُ يقتضي المنعَ بأصلِ وضعهِ، ويدل على ذلك في حق من قال:
إنَ الأعيانَ في الأصلِ على الإِباحةِ، جعل الأفعالَ على
الإِباحةِ، فإذا ورَدَ الأمرُ بعد الحَظْر، ارتفِع الحَظْرُ،
وعاد إلى الأصلِ، ويَدُل عليه أنَّ تقدمَ الحَظْرِ أو مقارنته
لصيغةِ الأمرِ ولفظةِ: (افعل) يخرجُها عن وضعها، بدليلِ
التهديدِ، فإنَّه بصيغةِ الأمرِ، لكن لما تقدَّمه الحظرُ أو
قارنَهُ الزجرُ جعلهُ موضوعاً آخر. وهو التهديدُ، وقد كان مع
التجردِ والإِطلاقِ يقتضي الإذنَ والإِباحة، مثل قوله:
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وبعضهُ يقتضي الإيجابَ،
مثلُ قولِه: {واستفزز من استطعت منهم بصوتِك} [الاسراء: 64]،
فَعُلِمَ أن تقديمَ الحظر مؤثرٌ.
فصل
يجمعُ الأسئلة
قالوا: إذا حظَرَ ثم أمرَ، جازَ أن يكونَ الحظرُ منسوخاً
بالإباحةِ، ويجوز أن يكونَ بالندب، ويجوزُ أن يكونَ بالإيجاب،
وليس حملُه على أحدِها دون الآخرِ أَولى من العكسِ من ذلك،
فبَقيْنا لفظة الأمرِ على مقتضاها، وأسقطنا المتردِّداتِ.
(2/527)
قالوا: ولأن صيغةَ النهي إذا وردَتْ بعد
الأمرِ حُمِلت على مقتضاها من الحظْرِ، وإن كان أقلُ
احتمالاتِها إسقاطَ الكُلْفَةِ، فإنَّ السيدَ إذا قال لعبدِه:
سافرْ إلى بلدِ كذا، ثم قال له: لا تُسافر، احتملَ: فقد أسقطتُ
عنكَ كُلفةَ السفرِ، لا أنِّي حظرتُ عليك السفرَ، ثم حُمِل بعد
تقدُم الأمرِ على النهي والحظر دون التخفيفِ وإسقاطِ الأمرِ،
فَبَطَلَ ما عولتُمَ عليه من تقدُّمِ الحظرِ، وادعيتموه
قَرينةً مغيِّرةً لموضوعِ الأمرِ ومقتضاه.
قالوا: ولأن القرينةَ ما وَافَقَتْ. دونَ ما ضادتْ وخالفتْ،
وبينَ الحظرِ والاستدعاءِ تضاد، فكيفَ يُدَّعى أنَ أحدَهما
قَرينةٌ للآخرِ؟!
قالوا: وتعويلكم على الأوامر الواردِة في القرآنِ بعد الحظرِ
وأنها على الإِباحةِ ليس بمسلّم (1)، فإنَ قوله سبحانه:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [يقتضي
الوجوب]، (2) وكان هذا أمراً بعد حظرٍ ونهيٍ عن القتلِ في
الحَرَمِ.
على أنّا في هذه المواضعَ صِرْنا إلى الإباحةِ بدلائلَ دلتْ
على الِإباحةِ لا بمجرّد تقدم الحظرِ. ولو كانت على ذلك من غير
دلالةٍ لما مَنَعَنَا ذلك من حملِهَا على الِإيجابِ الذي هو
مقتضاها في الأصلِ دون الِإباحةِ، بدليلِ أنَ أكثرَ عموماتِ
الكتاب على التخصيصِ، ثُمَّ لا تُحْمَلُ بإطلاقِها على الأكثر،
لكن على اَلأصلِ في الوضعِ، وهو العمومُ وإنْ قل.
وقالوا: ولأن الأصلَ في الاصطيادِ الإباحةُ، وكذلكَ البيع،
وكذلكَ
__________
(1) في الأصل: "بمسمى".
(2) زيادة يقتضيها السياق، وهي في "العدة" 1/ 258.
(2/528)
إتيانُ النساء، فلما عَرَضَ الِإحرامُ،
وكان الصيدُ مشغلاً (1) ومُلهياً عنه، والبيغ مشغلًا عن
الصلاةِ مع كونه مباحاً في الأصلِ، والأصل إباحةُ وطءِ
الزوجاتِ لولا عارضُ الحيضِ، فلمّا ثبتَ عارض التحريمِ على
إباحةِ الأصلِ جاءت صيغة الأمرِ بالاصطيادِ والبيع والوطءِ،
كأنَ الظاهرَ أنه لمّا زالَ عارض التحريمِ أعادَهم بصيغة
الأمرِ إلى مقتضى الأصلِ وهي الإِباحة، فهذه قرائنُ صالحةٌ
لجَعْل الصيغةِ إطلاقاً، بخلافِ ما نحنُ فيه من حظرٍ مطلقٍ
يعقبه أمرمطلق.
قالوا: وأما دعواكم أنَ الأصلَ الإِباحةً، فليس بصحيحٍ، لأنَ
عندنا أن الأصلَ على الوقفِ دون الإِباحةِ.
فصل
في الأجوبةِ عن الأسئلةِ
أمَّا الأوّلُ وقولُهم: إذا أمرَ بعد أنْ حظَر جاز أن ينسخَ
الحظر بما شاء من إباحةٍ أو إيجابٍ أو ندبٍ، فهو كما ذكرتم،
لكن أقل ما يزولُ به الحظرُ، وأوَّله من هذه الأقسام، إنّما هو
الإطلاق، ويليه في الرتبةِ الندبُ، والغايةُ هو الإيجابُ، فلا
يجوز حملُ الصيغةِ على غايتها في هذا المحلِّ المحتملِ، وليسَ
كذلك إذا وردت ابتداءً، فإنَّه لا ترددَ فيها ولا احتمالَ مع
أدلةِ الإيجاب المتقدم، وما هو إلا بمثابةِ ما لو تقدمَ
استعلامُ العبدِ، هل يفعل أو لا؟ أو اَستئذانه، فَيَعْقُبُ ذلك
من السيدِ صيغةُ: افعل، كان إذناً، ولو وردتْ ابتداءً كان
أمراً، فقد بانَ أن للتقدّمِ أثراً في التعبيرِ لهذه الصيغةِ.
وأمَّا صيغةُ النهي إذا جاءتْ بعد الأمرِ، فإنها تقتضي على ما
قال
__________
(1) في هامش الأصل: "كذا بخط ابن عقيل، وِ الصواب: شاغلاً".
(2/529)
أصحابُنا التنزيهَ لا الحظرَ، وهذا ليس
بجيدٍ؛ لأنهم إنْ طلبوا وِزانَ الأمرِ بعد الحظرِ فوِزانُه من
النهي بعد الأمر الإطلاق من عهدةِ الأمرِ، فإنَّ الأمرَ
استدعاءٌ حتمٌ، هذا هو المذهبُ، فقوله: لا تفعل. بعد قوله:
افعل. يعطي إسقاطَ الفعلِ لا حظرَه ولا التنزيهَ عنه، ووِزانُ
الحملِ للنهي بعد الأمر على التنزيهِ، حملُ الأمر بعد الحظرِ
على الندب، فاذا لم يُحمل الأمرُ على الندب الذي هوَ أدنى
مراتب الأمرِ، بلَ على الإِطلاقِ بعد الحظرِ، حُمِلَ النَهيُ
على الإِسقاطِ دونَ التنزيهِ، الذي هو أحدُ مراتبِ النهي.
قالوا: وإن سُلِّم وأنه لا يقتضي الإِسقاطَ ولا التنزيهَ، لكن
يقتضي ما اقتضاه الإِطلاقُ، ولأنه يطابقُ الأصلَ وهو الحظرُ،
وهذا عندي ليس بانفصالٍ، لأنَ تأكده ليس بزيادةٍ على مقتضى
الأمرِ، لأن مقتضى الأمرِ إيجابُ الفعلِ، ومقتضى النهي إيجابُ
التركِ، فلا وجهَ لتأكيدِ أحدِهما على الآخرِ، ولأنَه مع تأكده
تعملُ فيه القرينةُ فَيُحطُ عن رتبةِ الحظرِ إلى التنزيهِ، وقد
جعلَ أصحابُنا تقدمَ الحظرِ قرينةً حطًت الأمر عن رتبتهِ، فهلا
جعلوه كسائرِ القرائن في حطِّ النهي عن رتبتهِ، وهي الحظرُ،
إلى أحدِ أمرين: إمَّا إسقاطُ ما أوجبه الأمرُ، أو التنزيهُ
دون الحظرِ، ولا انفصالَ عن هذا عند المنصف.
والمنعُ مذهب حَسَن على الوجه الذي ذكرته، وهو أن يجعل
للإسقاط.
وأمَّا قولُهم:
إنً القرينةَ ما وافقتْ، والقَرينة المؤكدةُ للمقتضى ما
وافقتْ، مثلُ القرائن
(2/530)
المؤكدةِ للأمرِ تؤكدُ ما يقتضيه من
الإيجاب، وتزيلُ الاحتمالَ، مثلَ أن يقرنَهُ بالوعيدِ على
التركِ وذِكر الايجابِ والحَتمِ، فأمَّا القرائنُ المخرجةُ
للصيغةِ عن موضوعها، فإنها لا تكونُ إلا مخالفةً لمقتضاها
لتُخرجها عن موضوعِها في الأصلِ.
وأمَّا قولُهم: إنَّ صيغةَ الأمرِ قد وَرَدَت بعد الحظرِ،
وأرِيدَ بها الإيجابُ، وهو قولُه: {فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:
5] فإنما وجَبَ القتلُ بدلالةٍ وقرينةٍ، وهي قولُه:
{وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] إلى قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا
نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}،
إلى قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} [التوبة: 13]،
وهذا نوعُ وعيدٍ وحث وتذكيرٍ بأفعالٍ تقتضي إيجابَ إعزازِ
الدين بقتالِهم وقتلهم.
وأما المخصوصاتُ من العموم وإن كثرتْ فإنَها ليست استعمالًا
بمقتضى الصيغةِ، بل مقتضاها العموَمُ، وإنْ جاءًا لخصوصُ لم
يَخرجْ عن أنَّ القصدَ التكثيرُ، فإنَّ الإِنسان لا يقولُ:
جاءني سائرُ تميم، وكل ثقيف، إلا ويريدُ به التكثيرَ، فأمَّا
الأمرُ بعد الحظرِ فإنه لا يجيءُ إلا وُيراد به الإِطلاقُ بعد
التقييدِ، والإِباحةُ بعد المنع.
وأما إنكارهم أنَ الأصلَ الإِباحةُ، فهي طريقة خصصنا بها من
سلمها دون من يمانعها.
وأمَّا قولُهم: إنَّ الأصلَ إباحةُ الاصطيادِ والبيوعِ،
فحُرِّمَ لعارضٍ،
(2/531)
فلمّا زالَ العارضُ عادَ إلى الأصلِ، وليسَ
عَوْدُهُ إلى الأصلِ بأولى من تَبْقيةِ صيغةِ الأمرِ على
الأصلِ، فلما تقابلَ أصلانِ، فرددتَ الأمرَ إلى أصلِ
الإِباحةِ، عُلِم أنكَ راعيتَ أصلَ الحِل والإِباحةِ، وأسقطتَ
لأجلهِ وضعَ الأمرِ في الأصلِ، وما كانَ ذلك إلا لتقدم الحظر.
فصل
يجمعُ ما تعلق به من قال: إنها على مقتضاها في الأصلِ
من ذلك قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ ...} [النور: 63] وهذا وعيدْ يشملُ المخالفةَ لكلِ
أمرٍ، سواء تقدمهُ حظرْ أوْ كان مبتدأً لم يتقدمْهُ حظرٌ.
وقوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...} [الأنفال:
24]، وجميعُ العموماتِ في إيجاب الأوامرِ، وهي على ظاهرِها،
إلى أنْ تتحققَ دلالةٌ تصرِفُها عن ظاهِرها.
ومن ذلك قولُهم: إن صيغةَ الأمرِ تقتضي الإيجابَ عندكم، وعند
من وافقكم من الفقهاءِ والأصوليين، فتقدمُ الحظرِ لا يغيرها عن
موضوعِها، كما لو قال: حرَّمتُ، ثم قال: أوجبتُ، فإنه لا
يُخرجُ تقديمُ التحريمِ، لفظةَ الإِيجاب عن مقتضاها إلى
الِإطلاقِ، ولا الندب، وإن كانت قد تَرِدُ والمرادُ بَها
الندبُ، مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعَة واجبْ على
كلِّ محتلم" (1).
ومن ذلكَ قولُهم: إنَ النهيَ استدعى التركَ على وجْهِ الحتمِ،
ثم
__________
(1) سبق تخريجه في الصفحة508.
(2/532)
لو تقدَمهُ الأمرُ لم يكنْ تقدمُ الأمرِ
قرينةً تقتضي إخراجَ صيغةِ النهي عن مقتضاها، وهو الحظرُ،
كذلكَ صيغةُ الأمرِ لما اقتضت استدعاءَ المأمورِ به على وجهِ
الإِيجاب والحتمِ، فإذا وردتْ بعد الحظرِ وجبَ أنْ تكون على
مقتضاها من الَأصلِ، وهو الإِيجابُ أو الوقفُ أو الندبُ.
ومن ذلكَ قولهم: إن صيغةَ الأمر تقتضي إيجاباً عند القائلين
بالإِيجابِ، أوْ ندباً عند القائلين بالندبِ، أو الوقفَ عند
أهلِ الوقفِ، ولا تخرجُ عن مقتضاها إلا بقرينةٍ، وتقامُ الحظرِ
ليس بقرينةٍ، لأن القرينةَ ما يُبيِّن معنى اللفظِ ويماثله،
فأمَّا ما يخالفه ويضادُّه، فلا يكون قرينة.
وحرّروه قياساً، فقالوا: هذه صيغةُ أمرٍ تجرّدت عن القرائنِ،
فكانت على مقتضاها في الأصلِ، كما لو لم يتقدمها حظرٌ.
ومِنْ ذلك قولهم: لو كانَ الأمرُ بعد الحظرِ يقتضي الإِباحةَ،
لكان سائِرُ أوامِر الشرعِ تقتضي الإِباحةَ، لأنَّ الأصلَ
عندكم الحظرُ، فلا أمرَ إلا وهو بعد حظرٍ.
وربما قال قوم: إن العقلَ يقتضي الحظرَ، فإذا جاء الأمرُ من
طريقِ الشرعِ، وجبَ أن يكونَ على الِإباحةِ، دون الايجابِ
والاقتضاءِ رأساً.
ومن ذلك قولهم: إنَ اَلإباحةَ ليستْ قِسماً من أقسام الأمرِ،
وإنما لم تكنْ من أقسامِه، لأنَ أدنى طبقاتِ الأمر أنَه
استدعاءٌ لمَندوبٍ، ليُثابَ عليه، أو واجبٌ أكثرُ ثواباً
وأعظمُ أجراً، فأمَّا المباحُ فإنه إطلاقٌ لا ثوابَ في فعلهِ،
وإذا لم يكنْ من أقسامِ الأمرِ، فلا وَجْه لقولِكم: إن الأمرَ
(2/533)
بعد الحظرِ يقتضي الإباحةَ.
ومن ذلك ما ذكره بعض (1) الأئمةِ في النظر: لو كان تقدمُ
الحظرِ يُحيلُ في صيغةِ الأمرِ إحالة تغيَره (2) عن مقتضاه،
لكان الأحق بأنْ يتغيرَ إليه التهديدُ؛ لأن التهديدَ إلى النهي
أقربُ، وهذا عُرْفُ القومِ، وأنَهم إذا قدَّموا الحظر والزجر
ثم عقَبوه بصيغةِ الأمرِ كان ذلك تهديداً، كقوله: اعملْ ما
شئتَ بعد أن حَظَر عليه. وقولُ الباري سبحانَهُ لإبليس:
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}
[الإسراء: 64]، وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]
فلما لم يكن تهديداً، فأولى أنْ لا يكونَ إباحةً.
ومن ذلكَ قولهم: إذا كان عند أصحاب الوجوب أو الندبِ، يفيد
الِإيجابَ أو الندبَ، لكونه أمْراً، وكان تقدمُ الحظرِ لاَ
يخرجه عن كونه أمراً، وجَبَ لذلك أنْ يكون محمولاً على فائدتِه
في أصل الوضعِ، لأنَ تقدمَ الحظِر لم يُخرجه عمّا لأجله أفادَ
ذلك، وهو كونهَ أمراً، كما أنَ تقدمَ خبرِ الأمرِ، أو
استخبارهِ، أو بعضِ أقسام الكلامِ أو أقسام الأفعال، لما لم
يُحْرج صيغةَ الأمرِ بتقدّمه عليه عن كونِه أمراً لم يكن قرينة
تخرجُهُ عن الِإيجابِ أو الندب إلى الإباحةِ والِإطلاقِ.
ومن ذلك الأمرُ من أحدِ أقسام الكلام، فلا يخرجُ عن مقتضاه في
الأصلِ بتقدم الحظرِ، كالخبرِ وَالاستخباَرِ والنداءِ
والتعجّبِ، فإن
__________
(1) في الأصل: "بعد" وقد ورد فى الهامش. أنه تصحيف عن (بعض).
(2) فى الأصل: "ويغيره"
(2/534)
هذه الأقسام إن ابتدَأ بها كانت على
مقتضاها فى الوضعِ، وان تَلَفظَ بها شافعةً لما قدمه عليها من
الحظرِ كانت على مقتضاها من أصلِ الوضعِ، فما كانَ منها خبراً
قبلَ الحظرِ، كان خبراً بعدَ الحظرِ، وما كان تعجباً أو نداءً،
كان كذلكَ قبلَ الحظرِ وبَعْده، كذلك صيغةُ الأمرِ ولا فرق.
ومن ذلك قولهم: لو كانَ تقدمُ النهي يقتضي تغييرَهُ عن
الإيجابِ إلى الإِباحةِ، وجَبَ أنْ يكونَ السامعُ لصيغةِ
افعَلْ من الأعلى للأدنى، لا يحكمُ بأنها أمر حتى يسألَ هل
تقدمها حظر أم لا؟
فصل
يجمعُ الأجوبةَ عما ذكروه
أما الَاياتُ، فإنها محمولة على ما ثَبَتَ أنه أمرُهُ، وعندنا
أن هذا ليس بامرٍ، إنما هو إباحة واذن، بدليلِ ما ذكرنا،
ولأنّه قارنَه الوعيدُ، فَدَل على الوجوبِ بقرينتهِ لا بمجرّدِ
صيغتهِ.
وأما إذا قال: أوجبتُ بعد قولهِ: حرمتُ، فإن صيغةَ الايجابِ
صريحة في الإيجاب، فجازَ أن لا يؤثرَ بشيءٍ يُغَيِّرُ حكمها،
تقَدُّمُ صيغةِ الحظرِ عليها، لأنها لا تصلحُ للإطلاقِ
والإذنِ، وانما هي الغاية في الاستدعاءِ والانحتام، ولو أراد
الإذنَ لما أتى بصيغةِ الإيجاب، ألا ترى أنه لو استأذنه
اَلعبدُ في الدخولِ، فقال له: أوجبتُ عليكَ الدخولَ، لم يُعد
إذناً، واذا قال له عقيبَ الاستئذانِ: ادخل، كان إذناً.
وأما قولهم: إن النهيَ بعد الأمرِ يقتضي ما اقتضاه في الأصلِ،
كذلك الأمرُ بعد الحظرِ، فلا نسلمهُ، بل يقتضي الإسقاطَ لما
أوجبه
(2/535)
الأمرُ، فأمَّا أن يقتضي الحَظْرَ، فلا،
وكما أن الأمرَ إذنٌ بعد الحظرِ، فالنهيُ تخفيفٌ وإسقاطٌ بعد
الأمر، ولا أقولُ كما قال أصحابُنا: يقتضي التنزيهَ، لأن هذا
القولَ منهم حطّ لرتبةِ النهي عن الحظرِ إلى رتبةٍ ثانيةٍ هي
التنزيهُ، لأن صيغةَ الأمرِ لمّا ورَدَتْ عندنا بعد الحظرِ لم
تكُ باقيةً على الأمرِ، لأنَ الأمرَ ليس من أقسامهِ إطلاقٌ ولا
إباحةٌ، وانما مقتضاهما الاستدعاءُ، إمَّا إيجاباً، وإما
ندباً، واذا أخرجنا الصيغةَ عن جميعِ أقسام الأمرِ، وأخرجنا
صيغةَ النهي عن جميعِ أقسام النهي، فلا تحريم ولا تنزيهَ، لكنْ
إسقاطٌ بعد إيجابٍ وتكليفٍ.
وقد سلم بعض وافقنا في المسألةِ، وفرق بين صيغةِ النهي
والأمرِ؛ بأن النهي يقتضي القبحَ والحظرَ، وهو مغلبٌ ومؤكدٌ،
والمنعُ أصح.
ولأن النهَّي يقتضي الحظرَ بظاهرهِ، من جهةِ أنّه استدعاءٌ
للتركِ لا بصيغةِ الحظرِ، كما أن الأمرَ استدعاءُ الفعلِ لا
بصيغةِ الِإيجابِ، وصُرِفتْ عن وضعِها لتقدُّمِ الحظرِ إلى
الإطلاقِ، فيجب (1) أن تُصرفَ هذه عن الحظرِ إلى الإسقاطِ.
وأمّا قولهم: تقدمُ الحظرِ ليس بقرينةٍ، لأن القرينةَ ما
يُبيّن أو يماثلُ، فليس بصحيحٍ، لأنَّ القرينةَ التي تُبين
وتماثلُ هي التي تؤكدُ حكم ما قارنته، كالوعيدِ على المخالفةِ
مع صيغةِ الأمرِ، يقتضي الإيجابَ ويعضده، لأنّ الوعيدَ على
التركِ من خصيصةِ وجوب المأمورِ به، والقرينةُ التي تخرِجُ
الصيغةَ عن الموضوعِ الأصلَ، تباينُ
__________
(1) في الأصل: "يجب".
(2/536)
وتخالفُ، مثلُ الوعيدِ على فعلِ الشيء مع
صيغةِ استدعائه بتَغيرِ الصيغةِ من الأمرِ إلى التهديدِ.
وأمّا قولهم: إنَ الأصلَ عندكم الحظرُ، فليس كذلك، بل لنا فيه
ثلاثةُ مذاهبَ:
أحدُها: الِإباحةُ.
والثاني: الحظرُ.
والثالث: الوقفُ.
والأشبهُ بمذهبِ أهلِ السنةِ الوقفُ، لأنَّ العقلَ لا يبيح ولا
يحظرُ، وليس قبلَ الشرع سِوى العقلِ، وهو عاطلٌ عن إباحةٍ
وحظرٍ، فلم يبقَ للقولِ بأحدهما إلا وُرُودُ السمعِ.
وإن قلنا بالإِباحةِ، فلا يلزمُ أيضاً، لأنَّه لا يكون أمر بعد
حظرٍ، لكن بعد إباحةٍ.
وإنِ قلنا بالحظرِ، فإنَّه حظر حكميٌ وليس بنُطْقيّ، وفرق
بينهما بدليلِ أن الحظرَ الواردَ من جهةِ النطقِ بعد إباحةِ
الأعيانِ في الأصلِ على قولِ من يقولُ بِالإباحةِ، وورودُ
الإباحةِ بعد حظرِ الأعيان في الأصل لا يكونُ نسخا، وما ذاكَ
إلا لأنَّ اَلنسخَ إنما يكون بحكمَ ثبتَ نطقاً، فكذلكَ ورودُ
الأمرِ نطقاً بعد الحظرِ حكماً، لا يلزمُ أن يكونَ إباحةً، كما
لم يكن نسخاً.
وأمَّا قولُهم: إنَّ هذا ليس من جملةِ أقسامِ الأمرِ، لأنَّ
الأمرَ با لمباح لا يجِوزُ على الله سبحانه، إذ ليسَ فيه تعريض
لإِثابةِ المكلّفِ. فنحنُ قائلون بموجبِ هذا، لأنَّه عندنا إذن
وإطلاق، وليس بأمرٍ، لكنْ هو صيغةُ الأمرِ، ومن لَقّب المسألةَ
بالأمرِ بعد الحظرِ، فإنّما يجوِّزُ بذلك لأجل الصيغةِ، ولا هو
عندنا من أقسامِ الأمرِ وإن كان بصيغته، كقول المُهدِّد: افعل،
صيغتهُ صيغةُ الأمرِ، وهو خارجٌ عن أقسام الأمرِ إلى معنى هو
التهديدُ، كذلكَ هذه خرجتْ بتقدُّمِ الحظرِ عليهاَ إلى معنى هو
الإِطلاق والإِذنُ.
(2/537)
وأمَّا قولهم: لو أثَّر فيه تقدمُ الحظرِ،
لكان يجعله تهديداً، لأنَّ التهديدَ إلى النهي والحظرِ أقربُ.
فلا يلزم، لأنَّا قد جعلنا هذا حجةً لنا، من حيث كانَ تغييرَ
اللفظةِ عن مقتضاها في الجملةِ، وأنت لم تجعلْ تقدُّمَ صيغةِ
الحظر عاملةً ولا مؤثرةً في صيغةِ الأمرِ، وإنما لم نجعلها نحن
تهديداً، لأنَّ التهديدَ زجرٌ، وهو من آكدِ ألفاظِ الحظرِ، فإن
العربيَّ إذا تناهى في الزجرِ، قال لعبدهِ: الآن افعل ما شئتَ،
تقديرُه: فسترى ما أفعلُ بكَ من العقوبة. وإخراجُ صيغةِ الأمرِ
إلى الزجرِ إخراجٌ عن موضوع إلى ضدِّه، لأنَّ الأمرَ استدعاء
والزجرَ كف ومنع، وإخراجُ الشيءِ إلى ضدِّه، لا يقعُ إلا
بضرورةٍ، وهي القرائنُ المتأكدة، وشواهدُ الأحوالِ الظاهرةُ،
وليس في تقدُّمِ الحظرِ من القوةِ ما يخرجُ صيغةَ الأمرِ إلى
ضدِّها من الحظرِ والزجرِ، فأمَّا إخراجُها إلى الِإطلاع، فهو
مما يليقُ بالحالِ، لأنَّ الحظرَ أوجبَ منعاً، فأولُ مرتبةٍ
ينحط إليها الحظرُ الإطلاق، لأنه لا تتقدمه مرتبة، ثمَّ
الندبُ، ثم الإيجابُ، وكُلّه يقتضي إيَجادَ الفعلِ، إلا أنّه
في الإباحةِ إطلاق في الفعلَ، وفي الندبِ حثٌّ، وفي الإيجاب
حتم والزام، فأمَّا التهديدُ فإحالةٌ، وليسَ يقتضى الإحالةَ،
إلا اَلضروَرةُ المحوجةُ إلى ذلك بأقوى الشواهِد، على أنّ
صَيغةَ الأمرِ لا تكون تهديداً، إلا إذا تعقبت النهيَ وكانت في
مجلس النهيِ، فأمَّا مع تطاولِ الزمانِ، فلا يكونُ تهديداً
بحالٍ.
وأمّا دعواهم أنّه ما خرجَ عن كَوْنِه أمراً، فيجبُ أن يكون
على مقتضاهُ. فليس بصحيح لما قدمنا وأنَّ تقدُّمَ الحظرِ
أخرجَهُ عن الأمرِ إلى الإطلاق والِإباحةِ، ولو بقيناه أمراً
لبقيَ على مقتضاه في الأصلِ.
وَأمّا قياسُهم على الخبرِ، وأنّه لم يخرجْ بتقدُّمِ الحظرِ عن
كونه خبراً، والجمعُ بين صيغتي الخبرِ والأمرِ بأنَّه أحدُ
أقسامِ الكلامِ، لا يلزمُ؛ لأنَّ الخبَر لا يُبنى في العادةِ
على الحظرِ بناءً يخرجهُ عن الأمرِ
(2/538)
به، بدليلِ أنَه إذا قال لعبدهِ: لا تقربن
هذه الدارَ ولا تدخلها، ثمّ قالَ بعد ذلك: قد دخلَها عبدي
الآخرُ،. لم يؤثّر هذا في الحظرِ الأولِ، ولو قال له: ادخل
الآن، سُمّي آذناً، وما عُد إذناً إلا لتقدم الحظرِ، ألا ترى
أنَّ العبدَ لو استأذنَ سيِّدهُ في دخولِ الدارِ، فقال لَه
سيّدُهُ: ادخلْ، عُد إذناً، ولو قال له: قد دخلَ غيرُك من
عبيدي، لم يخرُجْ عن كونهِ خبراً، فصحَّ ما قلنا.
وأمّا قولهم: إنه لو كان تقدُّمُ الحظرِ يُغَيِّر مقتضى
اللفظِ، لما جاز أن يُحكمَ بأنه لا يحدث حتى يستبرىءَ ويبحثَ،
هل تقدمَ الحظرُ أم لا؟، فإنّه باطل بالصيغةِ إذا وردَت بعد
النهي والوعيدِ، فمنّها مقتضى التهديدِ، ولا يُقالُ إننا
نحتاجُ أن نسألَ حين بادرَ الصيغةَ بالاستدعاءِ: هل كان قبلَها
حظر أوْلا؟.
فصل
يكثرُ ذكرُهُ بين الفقهاءِ، ولا يُحقَّقُ الكلامُ فيه، بل
يعلقُ تعليقاً.
وهو قولُهم: إنّ ما لا يحصلُ الواجبُ إلا به فهو واجب.
فاعلم -وفقكَ الله- أنَ التحقيقَ في ذلك أن يقال: إنَّ ما لا
يصحُّ فعلُ الواجبِ إلاّ به على ضربين:
أحدُهما: من قِبلِ الله سبحانَهُ.
والثاني: من كسب العبْدِ.
فالذي من قبل الله سبحانَه: إزاحةُ العلّةِ في التمكنِ من
الفعلِ الذي أوجبهُ، ولا يحصلُ ذلك إلا بثلاثةِ أشياء:
عقل تامٌّ، يصلحُ للنظرِ في دلائلِ الغير، وفهمِ الخطاب،
والاستدلالِ بما ينصبُه سبحانه من الأدلةِ على ما أوجَبهُ عليه
من أنواعَ
(2/539)
التكاليف، ويصلحُ لتلقي أمرِه سبحانه،
وإيجابهِ بالاعتقادِ لإِيجابِ ما أوجبه والتزام ما ألزمَه،
والعزم على فعلهِ بحسب طاقتهِ وجُهدِهِ في مستقبلِ حالهِ التي
لا يصحُّ إيقاعُ الفعلِ إلا فيها، وهي ظرفُ الزمانِ لأفعالِ
المُحدثين.
الثاني: أداةٌ يعملُ بها صحيحةٌ سليمة، مثل الجوارح، لأيقاعِ
الأفعالَ من العباداتِ، وكونها على صفةٍ يصح أن يفعلَ بها ما
أمِرَ به من أعمال الأبدانِ، كالصلاةِ والحجِّ وجميعِ
الأنساكِ، وصحتها وجودُ الإستطاعةِ والسلامةِ من الآفاتِ
المحيلَةِ بينها وبين الأفعالِ.
والثالث: الدلائلُ المنصوبةُ على إيجابِ الواجب منها، ونَدْبِ
المندوب إليه، على اختلافِ مراتِبها، من حصولِ الظَّن
بالأماراتِ، واليقينِ باَلاستدلالياتِ الموجِبةِ للعلمِ، فهذهِ
من قِبل الله.
واختلفَ أهلُ الأصولِ في تسميتهِا واجبةً على الله، فلم تتحاشَ
المعتزلةُ من ذلك، بناءً على أصلهِم وقولهِم بإيجابِ العقلِ
ونفي تكليفِ ما لا يُطاقُ.
وتحاشى أهلُ السنّةِ من أصحاب الحديثِ والفقهاءِ عن إطلاقِ
ذلك، لكن قالوا: إنَ الله تفضلَ بالتزاَمِ ذلك، فأخبرَ عن
نفسهِ بأنه لا يُكلفُ نفساً إلا وسعها، وهو الصادقُ في خبره
تفضلاً منه، إذ ليس فوقَهُ موجِب يوجِبُ عليه، ولاقضاءَ للعقلِ
معه.
وأمّا الذي من قِبَلِ العبدِ ومن مقدوراتِه، فما كان طريقاً
إلى فعلِ الواجب أو شرطاً له أو تسبُّباً إلى حصولِ شرطهِ،
وذلكَ مثلُ الطهارةِ للصلاَةِ، وما لا تتمُ الطهارةُ إلا به،
كتحصيلِ الماءِ، إمَّا بعملِ بَدَنٍ
(2/540)
كاستقائهِ من قعرِ بئرٍ أو غدير، أو مالٍ
كابتياعه بثمنِ مثلِه أو زيادةٍ لا تخرجُ عن العُرْفِ، وعند
قومٍ بثمنِ مثلِه فقط، وكذلك الستارةُ والتسببُ إليها بإجارةٍ
أو إعارةٍ أو ابتياعٍ، والتوصّل إلى استقبالِ القبلةِ والوقتِ،
ومراعاة الأظلّةِ والأماراتِ الدالّةِ على الأوقاتِ، كزوالِ
الشمسِ وكونِ الظلِّ مثله أو زيادة، وطلوع الهلالِ للعلم
بدخولِ شهرِ الصيام، وذلكَ إمّا بتوليهِ بنفسهِ إن كان
عَالماً، أو بالسؤال للعالمِ به إن كان مَقلداً، فهذا وأمثاله
من السعي إلى الجمعةِ، والسيرِ لقطعِ طريقِ الحجِ للوصولِ إلى
مكة، وشَرْيِ الرقبةِ للعتق، وخرصِ النخيلِ والثمارِ لإِخراجِ
العُشْرِ، وما شاكلَ ذلك، كُلُّ ذلك واجب على العبدِ، لكونه لا
يُوْصَلُ إلى الواجب إلا به.
والدلالةُ على وجوب ما شرطناه أولًا: أنَ العقلَ أداةُ
الاستدلالِ والنظرِ، ولادلالةَ تتحصلُ إلا بإجهادِ العقلِ
وإعمالهِ في فعلِ الواجب واجتناب المحظور واكتساب المندوب،
والمكلف إنما كُلِّف تعريضاً لهَ بثوابِ الله، ولا ثواب له
إلاَ بأعمال، الطَاعات واجتناب المعاصي، وأما ما يكون من الله
سبحانه، فلأنّه برأ نفسَهُ ونفى عنهاَ تكليفَ ما لا طاقةَ لنا
به ولا وُسْعَ، فقال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولا يَحْصلُ التعريضُ للثواب
ومنعِ المفاسدِ، إلا بإزاحة عِلَلِ المكلفين بالإِقدارِ على
الفعلِ والتركِ، وكذلك لم يَحْسُن بإجماعِنا تكليفُ الميتِ؛
لعدَمِ ما يفعل به ومعه، والأعمى نَقْطَ المصحفِ، وما ذلكَ إلا
لِما فيه من الإِعناتِ، وقد ضمِنَ اللة على نفسهِ أنه لا
يكلِّفُ نفساً إلا وسعَها.
(2/541)
وأمّا وجوبُ الدلالةِ، فلأن العاقلَ لا
سبيل له إلى العلم بالمدلولِ إلا بعد أن يحققَ النظرَ
والاستدلالِ بالدليلِ على المطلوبَ.
وأمَّا الدلالةُ على أنه يجب علينا ما لا يمكن فعلُ الواجب إلا
به، كالطهارةِ والستارةِ، لأن من تركَ صلاةً من يومٍ، خاطبناه
بقضَاءِ صلاةِ يومٍ كاملٍ، ليتحققَ بفعل مالا يمكنُ تحققُ
فَعلِ الواجب إلا به فعلُ الواجب، وإن كُنّا نعلمُ أنَّ أربعةً
منها وجبتْ ليتحققَ فعْلُ الواجب، وليست واجبةً في الأصلِ.
وكذلك غسلُ قصاصِ شعرِ الرأسِ، وليسَ من الوجهِ، ليحصلَ لنا
استيعابُ جميعِ الوجهِ.
وكذلكَ الِإمساكُ في جزءٍ من الليلِ ابتداءً قبل طلوع الفجرِ،
واستقصاءً بعد غروب الشمسِ، ليتحققَ صومُ عامَّةِ النهارِ،
وَقد أساء قوم من المتفقهةِ العَبارة فقالوا: فعلنا غيرَ
الواجب ليتحققَ فعل الواجبِ، والتحقيقُ أَنَّا نوجِبُ الكلَّ،
لعدمِ تحقيقِ العينِ.
فصل
واعلمْ أن مِن هذا القبيلِ: ايجاباً على الشخصِ المكلَفِ،
يَقِف على انضمام مكلّفٍ آخرَ إليه، فمتى لم يحصلْ إجتماعُ
غيرِه به وانضمامهُ إليه، لم يتحصلْ خطابُ الشرعِ له بذلك
التَّعَبُّد، ولا ايجابهُ عليه، كالجمعةِ لا تقامُ حتى يتحصّلَ
مع كلِّ واحدٍ تسعةٌ وثلاثون، وكالجهادِ لا يجبُ حتى يجتمعَ
معه جماعةٌ تحصلُ بهم المنَعَة.
وأمَّا الشاهدانِ اللذانِ تحمَّلا شهادةً، فمتى طالبَ
[صَاحبُ]، الحقِّ كلَّ واحدٍ منهما مجتمعاً بالشاهدِ الآخر، أو
منفرداً، لَزِمَه أداءُ ما عنده من الشهادةِ، لأنَّ الاجتماعَ
ليس بمشروطٍ، ألا ترى أنَّ أداءَ كلُّ واحدٍ
(2/542)
بمفْردِهِ يسمعه الحاكمُ ويجبُ عليه
سماعهُ، ولا يصح شروعُ كلِّ واحدٍ من الأربعين في الجمعةِ، ولا
ينفردُ الواحدُ بالجهادِ من غيرِ منَعَةٍ، واذنِ الإِمامَ.
فصل
منتفع بعلمهِ لا يسعُ الفقيهُ جهلَهُ، وهو من هذا القبيلِ.
وهو أن ما كان شرطاً لحصولِ الوجوبِ على المكلفِ لا يلزمهُ
تحصيلهُ، ولا يجب عليه اكتسابهُ والتوصلُ إلى تحصيلِه بإجماع
العلماءِ، مثل فقيرٍ لا مالَ له، لا يجبُ عليه اكتسابُ نصابٍ
وتحصيلهِ لتجبَ عليه الزكاةُ، ومن لا رقبةَ له وإطعامَ، لا
يجبُ عليه اكتسابُ رقبةٍ ليحصلَ من أهلِ الإعتاقِ في التكفيرِ،
ولا يجبُ على آحادِ المسلمين أن يتسببوا لإِيجابِ الجمعةِ، مثل
جمع أهل قريةٍ لايتمّون أربعين رجلًا، لا يلزمُهم ترغيبُ نازِل
ينزلُ عليهم ويستوطنُ قريتهم ليتم عددُ الجمعةِ، فتجبُ عليه
الجمعةُ، ولا يجبُ على المريضِ الضعيفِ عن القيام في الصلاة أن
يتداوى ويتقوّى ليُصلي قائماً، فتَحقَّقَ من هذا، أنَ التَسببَ
لِإيجابِ العباداتِ على المكلفِ لا يجب.
وفارقَ التسبُّبَ لما وجَبَ وخوطبَ به، مثل تحصيل الطهارةِ،
والستارةِ، واستقبالِ القبلةِ، فإنَ تلك شرائطٌ للواجب الذي
خُوطِبَ به مشروطاً بتلك الشروطِ، وهذا لم يجبْ، فلم يلزمْه
تحَصيلُ معنى يتجه به الخطابُ بالوجوبِ.
(2/543)
فصل
ومن ذلك قياساً عليه وإلحاقاً به، أن العبدَ لا يجبُ عليه أن
يرغِّبَ سيدهُ في عتقهِ بالكتابةِ، وكثرةِ المالِ الذي يبذلهُ،
لتحصلَ له الحرّيةُ، ليتجهَ نحوه خطابُ الأحرارِ بالجمعةِ،
والجهادِ، والحجِ، وغيرِ ذلك من التكاليفِ.
فصل
ومن هذا القبيل ما يُدْخِلُه الإنسانُ على نفسهِ بكسبهِ، مما
يتعذرُ به فعلُ الواجب؛ كالحاملِ تضربُ بطنَها فتنفس، وينقطعُ
دمُ الحيضِ عن المرأة فتشرَب دواءً ليعودَ دمُ الحيضِ، ومن
يكسرُ ساقَه فلا يستطيعُ النَهضَةَ في الصلاةِ، فهم (1) لا
يصيرون في سقوطِ الفرض عنهم كالمعذورين بما يفعله الله سبحانه
فيهم؛ من الزَمانَةِ، والحيضِ، والنّفاسِ، ابتداءً.
فصلٌ
ومن هذا القبيلِ: ما إذا أدخلَهُ المكلفُ على نفسهِ لم يزلْ
خطابهُ، وإن كان مثل ذلك لو جاءَ من قِبلِ الله سبحانه لأسقطَ
التكليفَ، كالسكرِ المغطي للعقل، وتعمّد شرب البنجِ، العامل
عملَ الخمرِ في إزالةِ التمييز والتحصيل، فهذا لا يسَقطُ
الخطابَ، وبمثله لو كان بإغماءٍ أو جنونٍ أسقطَ الخطابَ.
__________
(1) في الأصل: "فهو".
(2/544)
فصل
واعلمْ أنه كما قدمنا أن الواجبَ إذا لم يمتاز عن غيرِ الواجب،
وجب كل ما لا يمكن تحققُ فعلِ الواجبِ إلا بفعله، كفعلِ صلواتَ
جميعِ اليوم والليلةِ لتركِ صلاة منها لا تُعرف عينُها، وغسلِ
قصاصِ شعرِ الرأسِ ليُعلم تحقيقُ غسلِ جميعِ الوجهِ، والإمساكِ
في طرفي النهار من الليلةِ قبلَهُ وبعدَهُ، لتحققِ إمساكِ
جميعه، كذلك إذا اختلطت أعيانٌ؛ بعضها نجس أو غير مذكا بطاهرٍ
ومذكاً، وأعيان يحْرُم الاستمتاعُ بها والتزويج.
وتجب أنْ تقولَ في ذلك: فعلُ غير الواجب مع الواجب، وتركُ غير
المحرّم لأجلِ المحرّمِ، لكنْ يقال: اَلكُلُّ واجب، والكُلُّ
محرم، إذ لَا ميزة فيه بين الأزمانِ والأعيانِ، فصار الكلُّ
واجباً، أو واجباً فيه، والكلُّ محرماً، أو مُحرماً فيه.
فصل
وخَرَجَ من هذا اختلاطُ واحدةٍ من محارمهِ بأهلِ بلدٍ كثيرٍ،
أو بنساءِ أهلِ الدنيا، أنهُ لا يحرم لمَا في ذلك من المشقةِ
الفادحةِ، وهجرانِ الأعيانِ بالكُليةِ، بخلافِ الأعيانِ التي
يقلُّ عددُها.
فصل
في الأمرِ المطلقِ المتجردِ عن القرائن
اختلفَ الناسُ فيه، فَذهَب صاحبنا رضي الله عنه وأصحابُه إلى
(2/545)
أنه يقتضي التكرارَ (1)، سواءٌ كان
معلَّقاً بوقتٍ يتكرر؛ كطلوع الفجر وزوال الشمس أو غروبِها،
مثلَ قوله: صلِّ إذا طلعَ الفجرُ، أو إذا زالَتِ الشمسُ أو
غربتْ، أو كانَ مطلقاً، مثل قوله: صل وصُمْ.
وذهب أكثرُ المتكلمين إلى أنه لا يقتضي إِلا فعلَ مرةٍ، وإليه
ذهبَ أكثرُ الفقهاءِ (2).
ومن أصحابِ الشافعي (3) من قال: إنه يقتضي التكرارَ.
وقال بعضُ الفقهاءِ: إِن كان معلقاً بشرطٍ يتكررُ أو وقتٍ
اقتضى التكرارَ، وإن كان متجرِّداً مطلقاً اقتضى فعلَ مرةٍ
(4).
وقالت الأشاعرةُ: هو على الوقفِ إِلى أن ترِدَ دلالة تقتضي
التكرارَ أو فعلَ مرةٍ (5).
__________
(1) انظر:" العدة": 1/ 264، و"التمهيد": 1/ 186 و"روضة
الناظر": 1/ 199، و"شرح الكوكب المنير": 3/ 43.
(2) انظر: "الاحكام": 2/ 225، و"المحصول": 2/ 98 و"التبصرة" ص
(41)، و"البحر المحيط": 2/ 385.
(3) ممن ذهب إلى ذلك من أصحاب الشافعي، الأستاذ أبو إسحاق
الإسفراييني في جماعة من الفقهاء والمتكلمين.
(4) نُسِبَ هذا القولُ إلى بعض الحنفية والشافعية، وهو ما
اختاره المجد ابن
تيمية، انظر "المسودة" ص (20).
(5) هذا رأي القاضي أبي بكر وجماعة الواقفية، بمعنى أن الأمرَ
المطلق يحتملُ المرة. ويحتمِلُ لعدد محصور زائد على المرة
والمرتين، ويشملُ التكرار في =
(2/546)
فصل
يجمعُ أدلتَنا على أنه يقتضي التكرارَ
ما رُوِي أَنَّ عمرَ بنَ الخطابِ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - لمّا صلى بطهارةٍ واحدةٍ فجمعَ بها بين صلواتٍ عامَ
الفتحِ، قال له عمر بنُ الخطاب: أعمداً فعلتَ هذا يا رسولَ
الله؟، فقال: "نعم" (1)، ولو لم يَعْقِل من قوله تعالى: {إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:
6]، وجوبَ تكرارِ الوضوء لتكرارِ الصلاةِ، لما سألهُ عن ذلك
واستفصلَ عن عمدٍ فَعَلَ، أو على وجهِ السهوِ.
ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه لما أمرهم بضربِ شاربِ الخمرِ،
كرّروا عليه الضربَ.
وروي أن الأقرعَ بن حابس سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -،
فقال: أحجنا هذا في كلِ سنةٍ؟ أو في العُمرً مرّةً واحدةً؟
(2)، فلو كانَ يقتضي مرةً لم يكُ للسؤالِ معنى.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أمرتكم
بأمرٍ فأتوا
__________
= جميع الأوقات، فيتوقف للجهل بالواقع. انظر: "المنخول" ص
(108)، و"البحر المحيط" 38812.
وذهب الجويني، إلى أن صيغة الأمرِ المطلق تقتضي الامتثال،
والمرة الواحدة لا بُدَّ منها، وتحملُ على الوقف في الزيادة
على المرة الواحدة. انظر "البرهان" 1/ 229.
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، حديث رقم (277).
(2) سيرد تخريجه في الصفحة (561).
(2/547)
منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم فانتهوا" (1)،
وهومُستصرح لتكرارِ الفعل، فلا وجهَ لمخالفةِ أمرِه والاقتصارِ
على ما هو دون الطاقة.
ومما يدل على ذلكَ: أن أكثرَ أوامرِ الشّرع على التكرارِ، وإذا
ورَدَ أمر شاذ مُتجرًد، وجَبَ حَمْلُه على مُقتضىَ الأكثرِ،
لأنّه صار بكثرةِ استعمالهِ عرفَ الشرعِ.
ويدل على ذلكَ، أنَ النهيَ استدعاءُ التركِ، والأمرَ اقتضاء
بالفعلِ، واستدعاء له، ثم إنَ النهيَ يقتضي الدوامَ والتكرارَ
لتركِ المنهي عنهُ، فيجبُ أن يكون الأمرُ يقتضي دوامَ المأمور
به.
ويدلُّ عليه: أنَ قولَ الأعلى للأدنى: صلِّ، يحسُنُ تفسيرُه
بصلاةٍ وبصلواتٍ، فدلّ علي أنّه يقتضي الجميعَ، فوجبَ حملُه
على جملةِ مايقتضيه ويحسُنُ تفسيرهُ به.
ويدلُّ عليه: أنَّ قولَ القائلِ لِمنْ هو دونَه: احفظْ هذا
المالَ، واجلسْ في هذا المكان، وصمْ، وقمْ، وادخُلْ، وكُلْ،
واركبْ. يقتضي الشروعَ فيه، ولا يحسُن، الخروجُ عما أمره به من
جلوسٍ بعد القيامِ، وتخليةٍ بعد الحفظِ، وإفطارٍ بعد الصيام،
وخروج بعد الدخولِ إلا بإذنهِ، حتى إنّه يحسُنُ توبيخُه على
مَفارقةِ الحالِ التي أمره بها، حسبَ ما يحسنُ توبيخهُ بتركِ
ذلك إذا قيَّده بالدوامِ.
ويدل عليه: أنَ الأمرَ يقتضي وجوبَ الفعلِ والاعتقادِ والعزمِ،
ثم إنَ الاعتقادَ لوجوبه، والعزمَ على فعلِه يجبُ دائماً
متكرراً عندهم إلى
__________
(1) أخرجه البخاري من طريق أبي هريرة حديث رقم (7288) وأخرجه
مسلم (1337). وصحَّحه ابن حبان (18) - (21).
(2/548)
حين يفرغُ من الأداءِ، وعندنا أبداً يجبُ
أن يكون الفعلُ مكرَّراً، بل وجوبُ (1) الاعتقادِ والعزم لا
يرادان (2) لأنفسهما، بل يرادانِ لأجل الفعلِ، وإذا وَجَبَ
تكرار غيرِ المقصودِ لنفسهِ، فلئن يجبَ تكرارُ المقصودِ لنفسهِ
أولى.
ويَدُلُّ عليه: أن الأمرِ بالصلاةِ عامٌ في جميعَ الأزمانِ،
والدليلُ عليه أنه يحسنُ أن يقولَ الأمرُ: صلِّ إلا في يوم
كذا، أو وقتِ كذا، وصُمْ إلا يومَ العيدِ وأيامَ التشريقِ. ولو
كان يقتضي فعلَ مرةٍ لا على الدوام، لما حسُنَ الاستثناءُ، فإن
المرّةَ الواحدةَ لا يدخلُ في زمنها أيامٌ، فلمَا حسُنَ
الاستثناءُ، عُلِمَ أنها عمتْ الأزمانَ، فحسُنَ أن يخرجَ منها
بالاستثناءِ بعضُها، فإذا ثبتَ أنها تقتضي الدوامَ، وجَبَ أن
تكون على عمومِها وشمولِها إلا أن تصْرفَ عنه دلالةٌ، كلفظِ
العموم، يقتضي شمولَ جميعِ الأعيانِ، إلا ما أُخرِجَ عنه
بدلالةٍ.
ويَدلُ عليه: أنه لو أمرَ بعبادةٍ قيّدها بوقتٍ، فقال: صل وقت
الزوالِ. لتقيَّد ولزمَ فعلُه فيه مرّةً واحدةً، فإذا أطلقَهُ
بغيرِ توقيتٍ له لزمَ فعلهُ في سائرِ الأوقاتِ.
ويدلى عليه أيضاً: أنَّ مطلقَ الأمرِ اقتضى إيقاعَ الفعلِ في
جميعِ الأزمان، لأنَه لا تحديد فيه، فإذا قال: صُم، اقتضى
إيقاع الصومِ في جميعِ الأزمانِ القابلةِ للصيام إلا ما خصَّها
الدليلُ، فهو بمثابةِ قولهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] عام في جميعِ الأعيان.
__________
(1) في الأصل: "يجب"،
(2) في الأصل: "يردان".
(2/549)
فصل
يجمعُ الأسئلةَ منهم على هذه الطرقِ
قالوا: أمَّا قولُ عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أعمداً
فعلتَ؟ يدلُّ على أنَهُ أشكلَ الأمرُ عليه، ولو كان على
التكرارِ لقال له كما قال ذو اليدين (1): أقُصِرَتِ الصلاةُ؛
لَمَّا استقرتِ الأربُع رَكعاتٍ، وقولُ الأخر: ما بالنا نقصرُ
وقد أمِنّا (2)؛ لَمَّا استقر شرط الخوفِ في اْلقصرِ، وهو
قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فقال ما قال.
وأمَّا قولُه فيِ شاربِ الخمرِ: "اضربوه"، عقلوا منه التكرارَ
بقرينةِ دلالةِ الحالِ، وأنَه قصدَ ردعَهُ وإيلامَهُ، ولا يقعُ
ذلك إلا بالتكرارِ.
وأما قولهم: أحجنا لعامِنا هذا أم للأبدِ؟ فلو كان اللفظُ
للتكرارِ لمَا سالَ، وإنما سالَ للإِشكالِ، فهو مشتركُ
الدلالةِ، وإنّما حسنَ السؤالُ للاحتمال، ونحن لا نُنْكرُ أنها
مع كونها لدفعةٍ تحتملُ التكرارَ.
وأمَّا قوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، فأرادَ
به أن العجزَ عن بعضِ المأمورِ به لا يُسقط الكُل، وأما
الدفعةُ الثانيةُ،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب السهو (1227)، وأخرجه مسلم في كتاب
السهو في الصلاة والسجود له (573).
(2) يريدُ بذلك ما رود عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: أرأيت
اقصار الناس الصلاة، وانما قال الله جل وعلا: {إِنْ خِفْتُمْ
أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد ذهب ذاك، فقال:
عجبت منه، حتى سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته".
رواه مسلم (686)، وأبو داود (1199) وأحمد 1/ 36.
(2/550)
فليست داخلةً تحت الأمرِ.
وأما قولكم: إنَ أوامرَ الشريعةِ أكثرُها على التكرارِ،
فبدلالةٍ لا بالإِطلاق، وخلافُنا في الأمرِ المطلقِ، على أنَ
أكثرَ عموماتِ القرآنِ مخضَصَة (1)، ولا يقتضي أن يكونَ
الِإطلاقُ للعمومِ مقتضاه للخصوصِ.
وأما تعلقُكم بالنهي وأنَه يقتضي التكرار، فلا يلزمُ، لأن
النهي منع والأمرَ إيجاب، وفرق بينهما، بدليلِ أنَ اليمينَ على
مَنْعِ النفسِ من الفعلِ، وهو قوله: والله لا دَخلتُ الدارَ.
يقتضي الدوامَ، واليمينُ على الإلزامِ للفعلِ، مثلُ قوله:
واللهِ لأدْخلن الدارَ، تُغْني فيه دخلةٌ واحدةٌ.
قالوا: ولأن النهي يقتضي قُبْحَ المنهى عنه، وتركُ القبيحِ لا
يتخصصُ بزمانٍ دونَ زمان، إذ هو قبيح أبداً، ولأنَ النهيَ
المقيّدَ بوقتٍ يقتضي التكرارَ والدوامَ بخلاف الأمرِ.
قالوا: وأمّا قولُه: صل، فإنه لا يقتضي إلا صلاةً واحدةً على
طريقِ الحقيقةِ، فأما صلواتٌ فلا، ولهذا لو قال في لفظِ
الخبرِ: صليتُ، ما اقتضى إلا صلاةً واحدةً، ويحسُن مِنَ
المصلِّي صلاةً واحدةً أنْ يقولَ: قد فعلتُ ما امرتُ.
قالوا: وأمّا قولُه: احفظ، فدلالةُ الحال تعطي الدوامَ، لأنَه
ليس أحد يحب حِفظَ مالِهِ ساعةً، ثم يضيّعُ، فأما أن يكون تكرر
الحفظِ ودوامه مفهوماً من جهةِ اللفظِ فكلا، ولكنْ من جهةِ
العرفِ القائمِ في
__________
(1) فى الأصل: "يخصصه".
(2/551)
حق كل ذي مالٍ يستحفظه.
فأمّا قوله: صل، فإنَة لا يقتضي إلا تحصيلَ ما يقع عليه اسمُ
صلاةٍ، والتكرارُ لها والاستدامة أمر يقفُ على الدلالةِ.
ولأنَّ البر في اليمينِ المعقودةِ على الحفظِ لا يحصل بحفظٍ
يتعقبُهُ تضييعٌ، ويحصُلُ البر بصلاة واحدة يتعقبها خروج منها
وتسليم.
وأمَّا وجوبُ داومِ ما تضمنه الأمرُ من الاعتقادِ والعزم:
قالوا: فأمَّا قوُلكم: إنَ صيغةَ الأمرِ تتضمن وجوبَ الاعتقادِ
لِإيجاب الفعلِ، والعزمَ على فِعلِه، ثم إِن الدوامَ والتكرارَ
مقتضى الأمر بهما، كذلك الفعلُ؛ فليس بلازمٍ، لأنَّ الاعتقادَ
والعزمَ يجبُ متكرراً دائماً في حقِ الفعلِ المقيدِ بدَفعْةٍ،
وهذا ليس لأجلِ الأمرِ، لكنْ لأنَ الأمرَ يتضمن الإِخبارَ
بوجوبهِ، فإذا لم يعتقدْ كذبَ الخبرِ فتصديقُ (1) الخبرِ يجبُ
دائما، وتكذيبهُ (2) منهيٌ عنه دائماً، وليس كذلكَ الأمر لأنَه
يقتضي الفعَل، وقد يقال (3): إن الفعلَ لا يقعُ دائماً ولا
يقتضي الأمرَ به، إلا على وجهٍ يحصلُ به ممتثلًا، وذلكَ يحصل
بمرةٍ، كما يحصلُ البرُ بمرة.
قالوا: وأما قولكم: إن الأمرَ بالصلاةِ يقتضي فعلَها في جميعِ
الأزمانِ. فلا يُسلم؛ لأن الزمانَ غيرُ مذكورٍ ولا يتناولُه
اللفظُ، لكنَه ظرفٌ يحتاجُ إليه فِعل المحدِثِ، ولئنْ سلمنا
ذلكَ وأنه داخل تحت
__________
(1) في الأصل: "وتصديق".
(2) في الأصل: "وتكذيبه".
(3) طمس في الأصل.
(2/552)
الأمرِ، فإن أردتُم تناولَهُ عموماً لم
نُسلِّم، وان أردتم على طريقِ البدلِ وأنه أي الأزمانِ أوقعَ
فيه الفعلُ جازَ، فصحيحُ مسلمُ، لكنه لا يقتضي ما أردتُم من
التكرارِ والاستمرارِ، كما لو قال: صلِّ في أي وقتٍ شئتَ.
وفارَقَ الأعيانَ، لأنه تناولَها عموماً لا على سبيلِ البدلِ،
وإنّما تعلقكم بحسنِ الاستثناءِ فليس تخصيصُهُ للعموم، بل لو
قال وصرح: صل في أي الأوقاتِ شئتَ. الأ وقتَ الزوالِ كَان
استثناء صحيحاً، وإنْ لم يكن الأمرُ يعم سائرَ الأزمانِ،
ويوضحُ هذا أنه لو حَلَفَ: ليقتُلَنَّ المشركين. لم يبرَّ إلا
بالتعميم، ولو حَلَفَ: ليُصلِّين، برَّ بصلاة واحدة في وقتٍ
واحدٍ، فافترق حكم الأعيانِ والأزمانِ المشار إليها هنا،
وانّما الأزمانُ التي تشابهُ بعمومِها عمومَ الأعيانِ، قوله:
صل الدهرَ، أو صل أبداً، فإذا صرخ باسمِ الزمان على وجهٍ يقتضي
الشمولَ، كان عاماً.
قالوا: وأما قولُكم: لو قيدَ الأمرَ بوقتٍ لَلزِم إيقاعُه فيه
بعينِهِ، ولَحِقَ الإثمُ والتفريطُ بتركِه فيه، واذا أطلقَهُ
بغيرِ توقيتٍ، كانت جميعُ الأوقاتِ وقتاً له، وصار على
التراخي. ونحنُ نقول: إنّه لا توقيتَ في المطلقِ، ولكنْ ذلكَ
لا يوجبُ الدوامَ على ما وقَعَ لكم، فوجبَ أنْ يكونَ فعلُه على
التراخي فقط، إذ لا يُفيدُ عدَمَ التأقيتِ والتَعيينِ إلا
التراخي.
قالوا: وأما قولُكم: إن إطلاقَ الأمرِ اقتضى إيقاعَ الفعلِ في
جميعِ الأزمانِ، لأنه لا تحديدَ فيه، فصارَ بمثابةِ قولِه:
افعلْهُ دائماً في سائرِ الأزمانِ. فهذِا باطلُ، لأنه إذا قال:
صل، أوْ: اضربْ، فلا ذِكْرَ للزمانِ فيه بذكرِ توحيدٍ ولا
تَثْنِيةٍ ولا جمعٍ مُعرفٍ ولا مُنكَرٍ، وإنما المذكور جنس
الفعلِ فقط، وإنما اقتضى دليل العقلِ إيقاعَهُ في وقتٍ ما غيرِ
(2/553)
معيَّنٍ، فدعوى عموم الأزمانِ فيه خطأٌ،
لأنه لا ذكرَ جرىَ للزمانِ في قولهِ: اضربْ وصل، وَإنّما ندعي
العمومَ من لفظِهِ، ولفظُهُ هو أن يُنْزِلَ (صل) في الأزمانِ
معرَّفاً أو مُنكرَّاً، أو صل دائماً سرمداً وما بقيتَ، ونحو
هذه الألفاظِ حتى يجري ذلك مجرى قولهِ: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لأنَ الياءَ والنونَ علامةُ
الجمعِ، وهو اسمُ جَمْع بُنِيَ من لفظةٍ واحدةٍ، ولا ذِكرَ له
في القول: صلَ.
فصلٌ
في جمعِ الأجوبةِ عن أسئلتهم
أما قولُهم: لما سال عُمَرُ دلَّ على أنَّ اللفظَ ليس بموضوعٍ
للتكرار. لا يصحُّ؛ لأنَه لو كان المعقولُ من ذلكَ مرةً لكان
الذي أتى به صلى الله عليه وسلم هو مقتضى الأمرِ، فلا وجه
لقولِه: أعمْداً، لأنَ المقتضى أبداً يعتمدُ إلى العملِ به،
فلا وجهَ لسؤالِ من جاءَ لمَّا استدْعِىَ: لِمَ جئت، ومن
أجَابَ لما نُودِيَ: أعمداً أجبتَ، لكنَّ المحتمِلَ للسؤالِ
والاستعلام مَنْ فَعَلَ بما يُخالِفُ الوضْعَ، فقال له:
أعَمدْتَ إلى المخالفةِ لمعنىَ علمتَهُ من باطنِ الأمرِ
لقرينةٍ، أو دلالةٍ خفيت؟
وأمَّا قولهم: عَقَلُوا قَصْدَ الإِيجاعِ فكرروا الضرب.
فالإِيجاعُ بالضربةِ يحصلُ، والزجرُ بالجلدةِ كافٍ، إلَّا أن
تقومَ دلالةٌ أو تكون الصيغةُ للتكرارِ مقتضيةٌ، وفي الضربةِ
الواحدةِ نوعُ إيجاع، ونوعُ إهانةٍ.
قوله: أحجُّنا لعامِنا هذا؟ لو كانَ الظاهر منه دفعةً، لما
حَسُنَ
(2/554)
السؤالُ مع الظاهرِ، وإنَما يحسُنُ السؤالُ
مع أحد أمرين: إما أن يكون هو الموضوعَ له الأمرُ، أو هو
المقتضى، فيَحْسُنُ السؤال في الحجِ، لمكانِ المشقةِ الحاصلةِ
في التكرارِ، وإما أن يكون موضوعاً للأمرين، فيَسألُ للفصلِ
بين الموضوعين، مثلَ سؤالهِ عن سائرِ المشتركاتِ.
وأمَّا قوله: "فأتوا منه ما استطعتم" فالتكرارُ داخل تحتَ
الاستطاعةِ، وهو عام في هذا وفيما ذكروه، فقصرُهُ على أحدِهما
لا يجوزُ إلا بدلالةٍ، ونحنُ نأخذ الدفعةَ الثانيةَ من اللفظِ،
فإنَّ قولَهُ: افعلْ، أمر بلا خلاف، والثانية مستطاعة، فكانت
مستدعاةً بحكمِ اللفظِ.
وأمَّا قولُهم: إنَ أوامرَ الشريعةِ أكثرُها يقتضي التكرارَ
بالقرائن والأدلةِ لا بالإِطلاقِ، فهذا حجةٌ من وجهٍ، وهو أنَّ
بالكثرةِ صار لنا عرف شرعي، فصرَفْنَا الإطلاقَ إليه.
على أن الدلالةَ هي إجماعُهم، وما أجمعوا إلّا لأن الاستداعاءَ
اقتضاءُ الدوامِ إلّا أنْ تَصْرِفَ عنهْ دلالة.
وأمَّا قولُهم: النهيُ مَنْع، فلذلك اقتضى الدوامَ، فَرْقُ
صورةٍ، وإلا فالمعنى جامعٌ بينهما أنَّه استدعاءُ التركِ
والكف، وهذا استدعاء للفعلَ.
وأما استشهادُهم باليمين فلا يصحُ، لأنَ المُغَلَّبَ فيها
العرفُ، ولذلك تُتْركُ فيها الحقائقُ وُيرْجِح إلى العرفِ،
والاستعمالُ في الحلفِ على الامتناع من أكلِ الرؤوس واللبنِ لا
يحنثُ بأكلِ رؤوسِ غيرِ الأنعامِ، ولاَ بلُبس القميصِ
والسَراويلَ تردّياً بهما وتعمماً، وعلى هذا
(2/555)
المثالِ: لو نَهىَ الله -وقد نَهى- عن لبسِ
الحريرِ والجلودِ النجِسَةِ، فعم النهيُ، ولو أمرَ بأكلِ
الرؤوسِ لعم كلَّ رأس حقيقةً.
وافا قولهم: النهيُ يقتضي القبحَ فَعَمَّ، فليس بصحيحٍ؛ لأن من
المناهى الشرعيةِ مالا يُعلَّلُ بالقبح، كالقِرانِ بين
التمرتينِ، وكل التنزهاتِ.
على أن القبيحَ قد يكون في الشرع في حال وزمانٍ دُونَ حال
وزمانٍ، كقُبحِ الأكلِ نهارَ رمضانَ، وقبح الصوم يومَ العيدِ
وأيامَ التشريقِ، وإلى أمثالِ ذلك من تحريمِ البيعِ وقتَ
الندَاءِ، والصَّيدِ في الإِحرام، وإذا كان أكثر نواهي
الشريعةِ مؤقتةً غيرَ مؤبدةٍ -وإن كانت مقَبحةً- فاينَ وجوبُ
دوام تركِ القبيح ممن عَلَّلَ بالقُبحِ؟ لم يصح تعليلُه، ونحن
نعلِلُ في الَأمرِ والنهي بأنه استدعاءٌ مطلقْ لتركٍ كان أو
لفعلٍ.
ومع هذا البيانِ، فلا يؤمَنُ أن يَستَديمَ التركُ في زمانٍ
يكون التركُ فيه قبيحاً، مثل الإِمساكِ ليلًا، فيدخُلُ في حيزِ
الوصالِ، وهجرانِ اللبسِ والطِيب بعد التحللِ الأولِ في الحج،
فلا يؤمَنُ استدامةُ التركِ في النَهيَ المطلق أنْ يُصادفَ
كراهة الشرع واستقباحَة، ولا يستمرُ حُسنُ العباداتِ أيضاً،
كما لا يستمرُ قُبْحُ المنهياتِ، فإنَّ لنا أوقاتاً تَحْرُمُ
الصلاةُ فيها، والصيامُ يحرم في أوقاتٍ، والطِيْبُ والهيثة
طاعةٌ للجمعة والأعيادِ، وهجرانُهما طاعةْ في الإحرامِ، فأينَ
دعوى استمرارِ قُبْحِ المنهيِّ أو حُسْنِ المأمورِ؟
وأما النَّهيُ المقيّد بوقتٍ معين، إن كان يتكررُ كتكررِ
الشرطِ، مثلَ
(2/556)
قولِه: صُمْ الاثنين، واهجرْ الطيبَ يومَ
السبتِ، يكون كالأمرِ سواءً، فإن الأمرَ المعلقَ بشرطٍ يتكررُ
بتكررِه وتكررِ الوقتِ، وإنْ كانَ متعلقاً على زمان باسمٍ لا
يتكررُ، مثلَ قوله: اهجرِ الأكلَ والطيبَ اليومَ. تخصَّصَ به.
وأمّا قولُهم: إنَّ قوله: صلِّ، لا يقتضي إلا صلاة واحدة.
فكلام لا يصحُّ، ومنعٌ لا وجهَ له، لأنَ قوله: صُمْ وقُمْ، إذا
تركه بعد أن فَعَلَه، حَسُنَ أنْ يُطالَبَ بطريقِ التركِ
والقَطْعِ من أين استفاده؟
فكذلك الصلاةُ إذا تركها بعد أنْ فعلها من أين استفادَ التركَ؟
وقولهم: يحسُنُ أن يقول: صليتُ، فيقابله أنه يحسُنُ إذا كرَّر
أو استدامَ وأطال أن يقول: صليت، بحكمِ الأمرِ، ويجيبُ من
سأله: لِمَ صليتَ؟ بأنَني امتثلتُ الأمرَ.
وأمّا قولهم: أنه يَحْسُنُ أن يقولَ: صلَّيتُ الصلاةَ المأمور
بها، وامتثلتُ الأمرَ، فلا يُسلم، وإن قال: صليتُ، ولم يقل:
الصلاة التي أمرتني، أو امتثلتُ الأمرَ، فلعمري إنه خبرٌ
صحيحٌ، ولكنه يلزم عليه إذا كان الأمرُ مقيداً باعتبارِ
التكرارِ واشتراطِ الدوام، فإنَّه يحسُنُ أن يُخبرَ فيقولُ
عَقِبَ صلاةٍ واحدةٍ: صليتُ، ولا يدل ذلك على أنه جملةُ
المأمورِ به، ولا أنَّه قامَ بمقتضاه.
وأما قولُهم في الأمرِبالحفظ: إنه يقتضي الدوام بقرينةٍ، وهو
أنه لا يريدُ أحد تضييعَ مالِه في حال من الأحوالِ، ولا يؤثرُ
حفظهُ في حالٍ دونَ حالٍ، وفي مسألتِنا لا قرينةَ تشهدُ بدوامِ
الفعلِ إيجاباً بمجردِ الأمرِ. فكلامٌ لا يلزمُ، لأنَّه كما لا
يأتي حالٌ يريدُ فيها ضياعَ ماله، لا
(2/557)
يعلَم هاهنا حالًا أرادَ فيها كون الذي
أمرَهُ بالصوم أنْ يُفطرَ، ولا الذي أمَرَهُ بالحجِ أنْ
يتحللَ، ولا الذي أمَرَه بالصلاَةِ أو القيامِ أن يُسَلِّم
ويجلسَ.
وأما البر في اليمينِ، فَقَدْ سَبَقَ الكلامُ عليه، وأنَه
ينصرِفُ إطلاقُ اليمين إلى العُرفِ، وليسَ الدوامُ من العُرفِ،
بدليلِ أنه إذا حَلَفَ: لأقومنَ على رأس فلانٍ الملكِ، ولأمشين
في ركابِه بر بأيسرِ قيام، وأيسَرِ مشي، ولوَ أن الله سبحانه
قال: قُمْ على رأسِ فلان، وامشِ في رِكابِه، أو قال من يُطاع
من الَاذنين ذلك، فإنه لا يجوزأن يخرج ذلك المأمور من مقتضى
أمرِه إلا بالقيامِ على رأسِه إلى أن ينهاهُ ويمشي في ركابِهِ
إلى أن ينزل.
وأمَّا قولهم في تعلقِنا بإيجاب التكرارِ في الاعتقادِ والعزم:
بأنَ ذاك يقتضي الدوامَ حتى إن تقييدَ الفعلِ لا يوجبُ
تقييدهماَ، فلا يصح، لأنَّ الفعلَ إنما لم يقتضِ الدوامَ
لتقييدِهِ، واقتضى الدوامَ في باب العزمِ والاعتقادِ، فكانَ
إطلاقُ الأمرِ بهما هو الموجب لدوامهما، وتقييد الأمر في
الفعلِ أوجب تخصصه.
وأما قولُهم: إنَ في تركِ الاعتقادِ كفراً وفي تركِ العزم
إهمالًا، ولا يجوزُ ذلك في حالٍ.
فيقالُ: لو كانَ في تأخرِه تكذيبٌ، لما جاز أن يأمرَ الله
سبحانَه باعتقادِ الإِيجاب وقتاً مخصوصاً، وإن كانَ تَركُ
الاعتقادِ تكذيباً، وإن في تركِ الاستدَامةِ قطعاً وتركاً،
ليسَ في اللفظةِ إباحتَه ولا الإِذنَ فيه، ولذلكَ يحسُنُ أن
نقولَ له إذا صامَ ثم أفطر: لم أفطرت؟، وإذا قطعَ
(2/558)
الاستدامةَ: لِمَ قطعتَ؟
وأمَّا قولُهم: إنَّه لا يعمُّ الأزمانَ لكن يعطي التخييرَ بين
الأزمانِ.
فليسَ بصحيح، لأنَّ قولَه: صلِّ أو صُمْ، يعطِي استدعاءَ
الفعلِ مطلقاً، والزمانُ كله صالح للفعلِ فيه، فلا وجَه للبدلِ
والتخييرِ مع كونِ الأمرِ مطلقاً، والزمانِ للفعلِ صالحاً.
وقولُهم: إنَّ الزمانَ غيرُ مذكورٍ، فإنه ظرف لا بد منه لفعلِ
المحدِثِ، فصارَ كالمذكورِ.
وأما قولُهم: إنَ عدمَ التَّقْيد لا يقتضي سوى التراخي، فأما
الدوامُ فلا. فهذا من أكبرِ الخطأ علي اللغةِ، لأنَّ الأمر
استدعاءُ الفعلِ، وظاهرُه الجزمُ والحتمُ، ومن الجزمِ اقتضاءً
إيقاعهِ في الزمانِ الذي يلي الأمر إذ لا توسعةَ في اللفظِ من
طريق التخييرِ بينَ الفعلِ والتركِ، فلا توسعةَ فيه من طريقِ
التأخيرِ عن الوقتِ الذي يلي الأمرَ.
(2/559)
|