الواضح في أصول الفقه

فصول في متعلّقاتهم في نفي التكرار
فصل
في متعلقات القائلين بالوقف، وهم الأشاعرة (1)
قالوا: لا خلافَ بين أهل اللسانِ في استحسانِ الاستفهام لمن قال له المطاعُ: اضرب، بأن يقولَ: أضرب واحدة، أمَ عددا محصوراً، أو دائماً؟
ولو أمرَه بضربٍ محصورِ العددِ، لقُبحَ الاستفهام، وما ذلكَ إلا لترددِ الأمرِ بين الضربةِ الواحدةِ والعددِ اليسيرِ، والكثيرِ والدائمِ، فلترددِه حسُنَ الاستفهامُ، ولتخضُصِ العددِ المحصورِ قبحَ الاستفهامُ، يوضحُ هذه الطريقةَ ويؤكدُها حديثُ الأقرعِ بن حابس (2) [و] سُراقة بن مالك
__________
(1) وهو ما ذهب إليه أبو بكر الباقلاني، واختاره الجويني، فقال: "الصيغة المطلقة تقتضي الامتثال، والمرة الواحدة لا بُد منها، وأنا على الوقف في الزيادة عليها، فلست أنفيه ولست أثبته، والقول في ذلك يتوقف على القرينة".
انظر أدلتهم في: "البرهان" 1/ 229 - 231 و"التبصرة" ص (41 - 46) و"الإحكام" للآمدي 2/ 229 - 235.
(2) حديث الأقرع بن حابس: وردَ من حديث ابن عباس أن الأقرع بن حابس سال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله الحج في كلِّ سنة أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع". =

(2/560)


وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج؛ ألِعامِنا هذا، أم للأبد؟ فقال: "للأبد، ولو قلت: نعم لوَجَبَت، ولو وَجبَ، لم تستطيعوا" (1)، واقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الاستفهام دلالة على حسنه شرعاً ولغةً.
وما حسنت إلا لترددِ الأمرِ بين التكرار والمرةِ الواحدة.
قالوا: ولأنه لو كان يقتضي الفعلَ مرةً، لما حسُنَ تقييدُه بها بأن يقول: افعلْ مرَةً.
ولو كان يقتضي التكرار لما حسُنَ أن يصرح بالتكرار فيقولُ: اضرب مئةً مئةً، أو ألفاً، أو أبداً. فلما حَسُن ذلكَ، دل على أنه ما اقتضاه إطلاقُ اللفظ، ألا ترى أن العددَ إذا صرَح به لما كان مقتضى اللفظِ كفى ذلكَ من غير تصريح ثانٍ، وإذا ثبتَ هذا كانَ المذهبُ في هذا هو الوقفَ، إلى أن تردَ دلالةٌ تصرفُه إلى أحدِ محتَمليه، إما اقتضاءُ دفعةٍ واحدةٍ، أو أكثر.
__________
= أخرجه أبو داود (1721)، والنسائي 5/ 110، وابن ماجه 2886، وأحمد 1/ 291.
(1) هذه الصيغة وردت في حديث، طويل لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينه سبعاً لم يحج، فذكر الحديث، وفيه فقال: "اجعلوا حجَّكم عمرة" وفيه فقال سراقة بن مالك: ألعامنا هذا يا رسول الله أو للأبد؟ فقال:"بل للأبد" أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، والنسائي 5/ 267 و 274، وابن ماجه و (3074)، والطيالسي (991).

(2/561)


فصلٌ
في الجواب عن متعلقاتِ الواقفيةِ
وهو أنَ حُسنَ الاستفهام غيرُ مقصورٍ على المتردِّدِ بين حقيقتين، كما أنَ التأكيد لم يدل على نَفي الوضعِ، وهو قولُ القائلِ: دخل زيدٌ الدارَ نفسُه، وأكلتُ رطلًا من الطعامِ وازناً، ورأيتُ الأمير بعينِه.
ولذلكَ لم يقف تحسين الاستفصالِ والاستفسارِ على المشتركاتِ من الألفاظِ كجون (1)، ولون (2)، وقُرْء (3)، وشفق (4)، بل حسُنَ الاستفهامُ عن ألفاظٍ يَنصرفُ إطلاقُها إلى حقائقَ هي موضوعةٌ لها، لمكانِ التجوُّزِ فيها، ودخولِ الاستعارةِ عليها حُكماً؛ فإنَّ العَرَب اسْتَحْسَنَت قولَ القائلِ لمن قال: اصبغ ثوبي لوناً، وائتني عند غيبوبة الشفق: أي لونٍ أصبغ الثوب؟، وعند غيبوبة أي الشفقين (5)؟ واستحسنت استفهامَ قول القائل: دخلَ السلطانُ البلدَ، وجاءَ الغيث، وماتَ زيدٌ، هل دخل بنفسه، أم
__________
(1) يطلق الجون على اللون الأحمر، والأبيض، والأسود، كما يطلق على النهار، فهو من الألفاظ المشتركة المترددة بين أكثر من معنى، ولا يحمل على أحد هذه المعاني إلا بقرينة.
انظر "لسان العرب"، و"القاموس المحيط": (جون).
(2) لون كل شيء هو ما فصل بينه وبين غيره، كالسواد، والبياض، والخضرة، والحمرة، انظر "لسان العرب" مادة "لون".
(3) يستعملُ القرء بمعنى الحيض والطهر، فهو متردد بين هذين المعنيين.
(4) يطلق الشفق على الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء، وعلى النهار، والخوف، والرديء من الأشياء "القاموس المحيط": (شفق).
(5) أي الشفق الأحمر أو الأبيض.

(2/562)


عسكرِه ورَجِلِه؛ وهل هطلَ المطرُ؟ وزهقت نفسُ زيدٍ، أم قاربَ مجيءُ الغيثِ، وكادَ أن يموتَ زيدٌ؟
إذ كان الاستعمال للمجاز في ذلك لا تتحصل به حقيقة الأمرِ فيه.
قال بعضُ الأئمةِ: وكما حسُنَ في لغتِهم من القائلِ، وإن كان المؤكدُ مستقلًا، حَسُن الاستفهام من السامع، وإن كان الكلام مستقلًا.
فإذا ثبتَ هذا: وجدنا أنَّ الظاهرَ هاهنا ليس بأكثرَ من العموم في الأعيانِ الذي يُرادُ به شمولُها، لأحكام، ثم لما جاءَ بمعنى الخصوَصِ حسُن الاستفهامُ، كذلكَ في مسألتنا، الذي يقتضيه الظاهُر دوامَ الفعلِ المأمورِ به، وقد يجيءُ والمرإدُ به المرةُ، فلذلكَ حسُنَ الاستفهامُ.
ولهم أن يقولوا: قد قررتم أنَ الاستفهامَ إنما حَسُنَ بالترددِ والاحتمالِ، وتبينتبم أن جهتي التردُّدِ الاشتراك في الأسماءِ المشتركةِ، كجون، ولَوْن، وقرء، أو الترددُ بين حقيقةٍ: واتساعٍ باستعارةٍ ومجازٍ، ونفيتم الاشتراكَ هاهنا بين المرةِ والتكرارِ، فلم يبق لتحسينِ الاستفهام هنا إلا الحقيقة والمجازُ، فبينوا أنَ استعمالَه في المرةِ مجازٌ، ولنَ يستطيعوا ذلك لما بيَّنا من كونِهما سواءٌ، وما يأتي من أدلةِ من يعتقدُ أنَّ المقتضي فعل مرةٍ واحدةٍ.
قيل: أدلتُنا هي التي أوجبت كونَ الِإطلاقِ يقتضي الدوامَ والتكرارَ، فلا حاجةَ بنا إلى إعادتِها.
وأما تعلُّقُهم بأنه لو كان يقتضي دفعةً، لما حَسُن أن نقيده بها، ولو

(2/563)


كانَ يقتضي الدوام، لما حَسن تقييده به، ليس بتعلق صحيح؛ لأن الِإطلاقَ يعطي الدوامَ بظاهرهِ، فإذا نطق به أعطى ذلك بصريحه، ولا يجوز جحد حسنِ الترقي من الظاهرِ إلى النصّ، بل لا يحسن حجد التصريحِ بالحقيقةِ مع كونِ الِإطلاقِ ينصرف إليها، مثل قول القائل: رأيت زيدأ نفسَه. فمن حيث حسن الاستفهام، لإِزالةِ الشبهةِ عن المستفهمِ، حسنَ التصريحُ الذي هو أعلى من رتبةِ الظاهرِوالتأكيدِ بذكرِ الحقيقةِ الذي هو أصرحُ من الإِطلاقِ، لِإغناءِ المخاطَب عن كلفةِ الاستفهامَ.

فصل
يجمعُ ما تعلق به من ذهب إلى أنه يقتضي مرة واحدة (1)
قالوا: قوله: صلِّ. أمرٌ، بينما قولُه: صلى. خبرٌ عنه، ثم ثبتَ أن قولَ القائلِ: صلى زيدٌ. لا يقتضي التكرار، كذلكَ قوله: صل يا زيد. لا يقتضي التكرارَ.
قالوا: قوله: صَلِّ، وصُمْ. لا يقتضي أَكثرَ من إيجادِ ما يقعُ عليه اسم صلاة وصوم، ويقع على فاعلهِ بأنه صلى أو صامَ.
يوضحُ هذا: أنه إذا فعلَ صلاة حَسن أن يقول: قد صليتُ. وإذا صامَ يوماً، حَسُن أنْ يقول: صمت، فهذا غايةُ ما في قوة
__________
(1) انظر أدلة جمهور الأصوليين القائلين بأنَّ الأمرَ لا يقتضي التكرار في: "البرهان" 1/ 227 - 231، و"التبصرة" ص (41 - 46)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 228 - 229، و"المحصول" ص (98 - 107)، و "أصول السرخسي" 1/ 25.

(2/564)


الصيغة، فلا وجهَ لإيجابِ الزيادةِ على الفعلةِ المسماةِ صلاةً وصوماً، إلا بزيادةِ قرينةٍ أو دلالةٍ تزيدُ على الصيغةِ، وإلا فليسَ في الصيغةِ أكثرُ من استدعاءِ صلاةٍ أو دع (1)، فإذا قال: صلِّ، كان استدعاء لذلك، وتكريرُ الفعلِ أمرٌ زائدٌ على، الفعلِ، وإعادة له، وليسَ في جوهرِ اللفظةِ اقتضاءان ولا مقتضيان، فمِن أين يجيءُ التكرارمن لفظٍ متحد؟
يوضَح: هذا أنَه لو نفى، صلاةً، انتفى الأمرُ رأساً، وصار نَسخاً، مثل أن يقولَ: صلِّ لا صلاةً واقتل لا نفساً، كانَ ذلكَ كقوله: صَلّ لا تُصلِّ، اقتُل لا تقتُل. ولو قال: صل ولا تُكرّر، لم يكنْ نسخاً ولا رفعاً، فبانَ أن الذى اقتضاه من اللفظةِ صلاة واحدة، إذ بنفيها انتفى أصلُ الاستدعاءِ من اللفظةِ، وبنفيِ التكرارِ لم ينتفِ، فدل على أنَّ التكرارَ زائدٌ، والفعلةُ الواحدةُ أصلُ الاقتضاءِ بها.
وقال بعض الفقهاءِ في هذه المسألةِ: لو أن رجلًا قال لوكيلٍ أو نائبِ: طلق زوجتي، لم يملك ان يطلَق إلا طلقةً واحدةً بإطلاقِ هذه الصيَغةِ، ولو كان مقتضى الصيغة التكرارَ لملكَ أن يُطلِّقَ الثلاثَ، كما يملكها إذا قال له: طلق ما شئت، وأوقع جميعَ ما أملكه عليها من الطلاقِ، وإذا بانَ هذا في الطلاقِ، ثبتَ مثلُه في الصلاة والصيام.
قالوا: ولو حلفَ لأدْخُلَن الدار، ولأصلين أو لأصُومن، برَّ في يمينهِ بدخلة وصلاةٍ وصوم يومٍ، وإلبر في اليمين كالامتثالِ في الأمرِ، فكما لا يقتضي البر التكرارَ، كذلك إمساكُ الإمر لا يقفُ على التكرار.
__________
(1) كذا في الأصل.

(2/565)


فصل
في الأجوبة عما تعلقوا به (1)
أما تعلّقهم بالخبرِ في قولهِ: "صلى"، فلا يشبه الأمرَ، لأن الخبرَ لا يكونُ إلا عن ماضٍ، والماضي منقطغ غير دائمٍ، ولو كانَ دائماً، فإنما تغيرَ الخبر عنه بأن يقول: هو يصلّي، ولم يقل: صلى، وفي مسألتِنا أمر، وهو استدعاء لفعل يتسع المستقبل لدوامهِ، وتكرارِه.
يوضح الفرقَ بينهما: أنه لو كانَ الأمرُ مقيداً بوقتٍ معينٍ، بأن يقول: قمْ نهارَ هذا اليومِ، فابتدأ القيامَ والامتثال، حسُنَ الخبر بأنه قد قامَ، وإن كان الامتثال ما حصل فقد [بطلت الفائدة] (2) من الخبر.
وأما قولهم: إن قوله: صُم، لا يقتضي إلا صومَ يوم، ولهذا يَحْسُن أن يقول: قد صمتُ. بصوم يوم. واحدٍ، فلا يسلم، بل هذا محض الدعوى، وشرحُ المذهب، وقد كشفنا ذلك من قوله: قم، لا يجوز أن يجلسَ عقيب قومة واحدة، إلا ويحسن الأمرُ له أن يقول له: أمرتك بالقيامِ، فما الذي أوجبَ جلوسَك، وانقُل ذلكَ إلى الجلوسِ والدخولِ والخروجِ تجده مستمراً، لا تجزىء فيه الفعلة أو الساعة، إلا والأخرى تقتضي.
وأما قوله: قد قمت، أو صمت، أو صليت. فإنما حَسن؛ لأنه على
__________
(1) انظر هذه الأجوبة في: "العدة" 1/ 266 - 275، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 43 - 45.
(2) ما بين معقوفين طمس في الأصل، وانظر: "العدة" 1/ 272.

(2/566)


حُكم العرفِ، ووقوعُه على الشروعِ فيما أمِرَ به، لا أنه فراغ عما أمر به، ولهذا لو أمره بتكرارِ ذلكَ لم يقبح منه أن يقولَ في الفعلةِ الواحدةِ.
وأمَّا اليمينُ والطلاقُ، فإن الأيمانَ والوكالةَ ينصرفُ إطلاقُها إلى العُرفِ، والأمرُ ينطلقُ على الحقائقِ، ولذلكَ ينصرفُ اليمينُ على الامتناعِ من أكلِ الرؤوسِ إلى رؤوسِ بهيمةِ الأنعام خاصة، وفي الأمرِ تعم سائر الرؤوسِ، والوكالةُ في الطلاق تنصرفُ إلى الطلاقِ السُنّي دونَ البِدعي، لأنها نيابة في مشروع، والنيابة في المشروعِ مقيدة بالشرع، غيرُ مطْلقة، ولهذا لا يملكُ بالنيابةِ طلاقَها في الحيض، ولا في الطهرِ المجامَعِ فيه، ولو استنابه في بيعِ دراهمَ بدنانير، أو مكيلٍ بمكيلٍ، أو موزونٍ بموزونٍ، اقتضى التناقضَ في المجلسِ بناءً على الشرطِ الشرعيّ.
وفي مسألتنا: أنَ استدعاءَ الأمورِ العُرفيةِ، مثلُ القيامِ والقعودِ والدخولِ والخروجِ، أقتضاء الإتيان بذلك، ولم يجز الخروجُ منه إلا بإذن، وإن استدعاء العباداتِ والأمورِ الشرعيةِ، فعرفُها الدوامُ، لأن كثر أوامر الشرع على الدوام.
واستدل بعضهم قي النظرِ: بأنَّ أهلَ اللغةِ أجمعوا على تسميةِ المصلي صلاةً واحدةً، والصائمِ يوماً واحداً، عقِبَ الأمرِ المطلقِ بالصلاةِ [والصوم]: مطيعاً، ولو لم يكُ قد أتى بمقتضى الأمر لم يخلعوا عليه اسمَ مطيع.
فقال: هذا موجود فيه إذا قيده بالدوام، فإنه يسمى مطيعاً بذلكَ وكان المعنى فيه أنه لما شرعَ في الفعلَ المأمورِ به سُميَ باسمِ

(2/567)


الطاعة، ولأنه باطل بالنهي، فإنه باطلٌ بالنهي (1)، فإنه يقتضي الدوإم، ومن ترك ببادرة [مرةً فلا يُسمى منتهي] (2) ولا يدل ذلك على أنه قد امتثل كل الامتثال، ولا انتهى كل الانتهاء.

فصل
ولا تختلفُ الأمةُ أنَّه لا يقتضي فعلَ مراتٍ محصورةً، كمرتينِ أو ثلاث، بل النَّاسُ على ثلاثة مذاهب:
من يقفُ فلا يحملُ الأمرَ على مرةٍ ولا على التكرارِ، بل يقول: بحسب ما تردُ به الدلالةُ من الترجيح إلى جانبِ الوحدةِ أو التكرارِ.
وبعضُهم يقول: يقتضي مرةً، ولا يُحمل الأمرُ على زيادةٍ إلا بدلالة.
وبعضهم يقولُ: على الدوام والتكرارِ، فأما على عددٍ محصورٍ فلا أحدَ يقولُ بذلك.
واعلم أنَ أهلَ الوقفِ لا يقولونَ: إنا لا نعقلُ المُرادَ من الأمرِ، وإنه يُرادُ فعلُ مرةٍ، بل يقولونَ: لا نعلمُ هل يُرادُ الزيادةُ عليها أو لا يرادُ؟ فوقفوا عن القولِ بالمرةِ فقط، لاحتمالِ الأمرِ في الزيادةِ، وإلا فمع ثبوتِ كونِ الصيغةِ أمراً بدلالةٍ لابدَّ من مقتضى فعل، لكن ذلك الفعل
__________
(1) هكذا وردت في الأصل، ولعل الصواب أن تكون العبارة: "فإنَّه باطلٌ بالأمر" لأن سياق الكلام يرشد إلى أن المقصود قياس الأمر على النهيّ، فكما أن النهي يقتضي التكرار، فكذلك الأمر.
(2) ما بين معقوفين طمس في الأصل.

(2/568)


لا يعلمُ مَرةً فقط أو زيادةً على المرة.

فصل
وإذا وجبَ الدوامُ، فإنَّه إنما يجبُ بحسب الإمكانِ، فيخرج من الزمانِ أوقاتُ حاجاتِ الِإنسانِ وضروراتهِ، وذلكً لنصِّ الكتاب والسنةِ القاضي على الأمرِ بالتقييدِ، كقولهِ تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (1)، وكذلكَ إن أمَرَ بأمرين مختلفين، فإنَ الزمانَ لا يتّسع لهما إلا على جهةِ القسمةٍ بينهما، فيأتي بهما على وجهِ الإمكانِ، كما إذا قال: صلِّ أبداً، وحجَّ أبداً، فإنَّ الكلَّ يجمعون على قسمةِ الزمانِ بحسبِ الإِمكانِ، كذلكَ مع الإِطلاقِ.

فصل
في الأمر إذا كان مُعلّقاً على صفةٍ أو شرط، فإنَّه على التكرار، على مذهب من جَعَلَ المطلق منه على التكرار، لكن يسقطُ الفعلُ فيما
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 548.

(2/569)


بين الشرطين والصفتين، فلا يدوم مُكرراً إلا بحسب تكررهما، وهم أصحابنا (1).
ومن قال: إنَّ مطلقه على الوقفِ، قال في المعلَّقِ بالصفةِ والشرط: إنَّه على الوقف أيضاً، وهم الأشعرية (2).
وأما الطائفةُ التي قالت: يقتضي فعل مَرة، ولا يقتضي التكرار، فانقسموا في المقيَّدِ بالشرط، وهم أصحاب الشافعي رضي الله عنه، فهم فيه على مذهبين، أحدهما: يقتضي التكرار (3)، والثاني: يقتضي ما يقتضيه المطلق، وهو دفعه (4).
__________
(1) الأمر المعلق على شرط جارٍ مجرى الأمرِ المطلق عند الحنابلة. انظر "العدة" 1/ 275، و "التمهيد" 1/ 204، و"المسوَّدة" ص (23)، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 204.
(2) وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، انظر "البحر المحيط" 2/ 391.
(3) ذكره أبو إسحاق الشيرازى عن بعض الشافعية، انظر: "التبصرة": ص (47).
(4) وهو الأصح والمعتمدُ عند الشافعية، وهو أن الأمرَ المعلق على شرط أو صفة لا يقتضي التكرار، إذا كانت الصفة أو الشرط لم تثبت كونها علةً للفعل المأمور به، فإذا ثبت كونها علةً، فإنها تقتضي التكرار إذ ذاك.
انظر "التبصرة" ص (47)، و "المستصفى" 2/ 8، و"البحر المحيط" 2/ 390، و" الِإحكام " للآمدي 2/ 236 وللفخر الرازي رأي ثالث، وهو أن الأمرَ المعلق على شرطٍ أو صفة، لا يفيد التكرار من جهة اللفظ، وإنما يفيده من جهة القياس، لان ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته. "المحصول" 2/ 107.

(2/570)


فصلٌ
في جمعَ أدلتِنا
فنقول: إن تعليقَ الحكمِ على الشرطِ، كتعليقِ الحُكمِ على العلةِ، إذ كُل واحدٍ منهما سَبَبٌ فيه، ثم إنَ تكررَ العلّةِ يوجبُ تكرّرَ الحكم، كذلكَ تكرّر الشرطِ.
ويَدُلّ على ذلك أيضاً: أنَ أكثرَ أوامرِ الشرعِ المعلّقةِ بالشروطِ تتكرّرُ بتكررِ شروطِها، فصارَ: لكَ عرفَ الشرع، فوجبَ حملُه عليه، وذلكَ مثل قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، و {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] وإلى أمثالِ ذلك.
ويدل عليه: أنَّ النهيَ المعلقَ بالشرطِ يقتضي التكرارَ، كذلكَ الأمرُ، لأنَ كُلَّ واحدٍ منهما استدعاءٌ للطاعةِ، هذا استدعاءُ طاعةٍ في التركِ، وهذا استدعاءُ طاعةٍ بالفعلِ، وأيضاً فإن تعليقَ الأمرِ على متكرِّر كتعليقهِ على دائم، ولو قالَ: إذا كانَ الليل فاستيقظْ أو احفظ، وإذا كان النهارُ فصُمْ أو تكسب، وجَبَ دوامُ المأمورِ به ما دامَ اسم الليلِ والنهارِ كذلك، وجبَ أن يتكرَّر هاهنا حين علقه بإجابةِ التوالي والتكرار، فيدل عليه أنَّ مطلق الأمرِ اقتضى التكرار على أصلِنا، بما قدّمنا من الأدلّةِ.
فدخول الشرطِ لم يزده إلا المنعَ من التقدم أو التأخرِ، وأنَّه قصرَه عليه دونَ استمرارِه في سائر الأزمان، فبقي مكرراً بتكررِ الأوقاتِ المشروط بها أو الأوصاف.

(2/571)


بيانُ ذلكَ: أنَّه إذا قال له: صم، اقتضى ذلك صوماً دائماً لا يقطعه إلا إذنُه، وإذا قال: إذا كان الاثنين فصُم، وإذا زالت الشمس فصَلّ، اقتضى ذلك تكرر المأمورِ بتكررِ الشرطِ، إذ لا يجوزُ إلغاءُ الشرطِ ودوامُ الفعل.

فصلٌ
يجمع الأسئلة لهم على أدلتِنا
قالوا: لا نسلِّم أنَّ تعلقَ الحكم على الشرطِ كتعلقهِ على العلّةِ، لأنَّ العلةَ موجبه للحكْمِ، أو دلالة عليه، مقتضية له، فلذلكَ تكرّرَ الحكمُ بتكررِها، والشرطُ مصحِّح، وليس بموجب له ولا دلالة عليه، فلم يتكرر الحكمُ بتكرُّرِه.
قالوا: ولا تصح دعواكم في تعليقِ الأحكام الشرعيةِ على الشروطِ وأنَّها تتكررُ، بل هي تنقسمُ، فبعضُها لا يتكرَر، فليس لكم الأخذ بما يتكررُ دونَ أن نعملَ نحن بما لم يتكرَّر، كالأمرِ بالحجّ عندَ وجودَ الشرطِ، وهو الاستطاعةُ: الزادُ والراحلةُ
وما تكرَّر منها، فلأدلّةٍ قارنتها أوجبتِ التكرار، لا بمجرّد التعليقِ على الشروطِ، وتلك الأدلةُ: إما إجماعٌ أو قياسٌ، وليس هاهنا دلالةٌ.
على أن ألفاظَ العموم في القرآنِ أكثرُها مخصوصٌ، ثم لم يجب
حملُ المطلقِ منها على الَمخصوصِ بالأدلةِ.
قالوا: وما تعلقتم به من النهي، فمن أصحاب الشافعي من سوى بين النهي المعلّق بشرط، وبين الأمر المعلّق بالشرط، فعلى هذا لا

(2/572)


يَسلمُ، ولو سلمَ، فإنَّ الأمر غير مُشبهٍ للنهي، ألا ترى أنَّ النهيَ يقتضي الحَظر، وهو مؤكد في الوضعِ يُرجَّحُ على غيرِه، ولأنه يقتضي القُبحَ، والقبيح قبيح في كل وقتٍ، فتكرَّر الزجرُ عنه.
والأمرُ يقتضي الحسنَ، وليس يجب تكررُ كلِّ حسن.

فصل
في الأجوبةِ عن الأسئلةِ
أما المنعُ، فلا وجهَ له، بل الشرطُ عامل عَمَلَ العلّةِ، فإنَّ قولَ القائِل لزوجته: أنت طالق إذا دخلتِ الدارَ، أو أهلَّ الهلال، في حصول الطلاقِ عنده، كقولِ الشارع: إذا اشتدَّ العصيرُ فهو نجس، وإذا انقضت عدّة الرجعية فهي بائن، وليسَ من حيثُ لم يكن الشرطُ موجباً لم يكُ عاملاً في اقتضاءِ الحكمِ عند وجودِه متكرَّراً، كتكرر الحكمِ لالعلّةِ، بدليلِ أنَّ العللَ العقليةَ توجب المعلول، فلا حركة إلا توجبُ تحرِّكَ الجسمِ الذي تقومُ به، وشدة العصير علّة شرعية، وتعملُ فى إيجاد الحكمِ، عملَ العلل العقليه (1) في تكرّرِ الموجب بتكرّرِها في المحل، فلا توجد الشدّ إلا أوجبت تحريماً، كما لا توْجدُ الحركةُ إلا أوجدت تحركاً.
وكذلكَ في باب التكرار يستويان، فلو قال. كلما دخلت الدار فأنتِ طالقٌ، كان في تكرّرِ الطلاقِ بالدخولِ كقولِ الشارع: كلما قالَ الرجل لزوجته: أنتِ طالق، فهي طالق، ففد تساوى الشرط والعلّة مع كون أحَدِهما مصحِّحاً والآخر محصِّلاً.
وكذلك كمال النصابِ مع الحولِ والسَّوم، متى تكرَّر حصول
__________
(1) فى الأصل: "الشرعية"

(2/573)


أحدِهما، تكرّرَ حصولُ الحكمِ، فلا زكوات متكرّرةً، إلا بأنصباءَ متعدّدةٍ وأحوال متكررةٍ، وإن تعددتِ النصبُ فكان له عشرون مثقالَاً، وأربعون شاةً، وخمس من الإِبل، ومئتا درهم، تعددت الزكاةُ، وإن كان له نصاب واحد، فتكررتْ عليه أحوالُ الزكاة لتعدَّدَت لتعدّدِ الحولِ. وإن كان الغنى بالنصاب علةَ الزكاةِ والحولُ شرطَها، فهذا من طريقِ الألفاظِ والأحكامِ جميعاً.
وأما المنعُ الثاني بما ذكروه من الحج، فإن الحج نادرٌ، نَدُرَ من العباداتِ للمشقةِ الحاصلةِ، والحكمُ للغالب دون النادرِ، كنقودِ البلدِ إذا غلبت وندُرَ منها نقدٌ لم يُحمل إطلاقُ الثمنِ عليهِ، هذا في حُكم الشرع، وأما في حكم اللغةِ؛ فإنه لا يُحمل إطلاق الكلامِ إلى ما شذَّ منها، حتى لو قالَ قائل: له علي درهم أو ثلاثةُ دراهم، ثم فسّرها بزعفران أو غزل أو ما يوزن، لم يقبل، وإن كانَ التقديرُ يتسلَطُ على كلِّ موزون يسنح به، لكنْ لما كانَ الغالبُ في الدراهم الوَرِقَ المنقوشَ المضروب، حُمِلَ الإِطلاقُ عليه، وانصرف إليه.
كذلكَ غالبُ أحوالِ العباداتِ، دوامُها بدوام العمرِ، وتكررُها بتكررِ أسبابِها وشروطِها وما شذَّ سوى الحجِ للعمرَ، وكلمةِ الإِيمانِ مع دوامِه حكماً من طريقِ الاعتقادِ واستدامةِ الأركان.
وأما قولهم: لأدلهٍ أوجبت التكرارَ. فهي التي أوجبت إلحاقَ النادرِ منها بالغالبِ، وإجراءَ حكمِ الغالب على الشاذ.
فإن قيل: هذا قد تكررَ منكم، وهو باطلٌ بالمجازِ الذي كثُرَ

(2/574)


استعمالُه، كالغائطِ في الخارجِ كثُر استعمالُه، ولم يوجب انصرافَ الإِطلاقِ إليه، وكذلكَ الراويه، كثُرَ استعمالها في المزادة دون الماء، ولم ينطلقْ إليه الإِطلاق.
قيل: ليس كذلك، بل غلَب الاستعمالُ العُرفي حتى لو قال: اشتريت راويةً. لم ينصرف إلى الماء، بل المزادة (1)، ووقع ثوبي على الغائط. لم ينصرف إلا إلى الخارج.
وأما التفريقُ بين الأمرِ والنهي بالقبحِ، فلا وجهَ له، لأنَّ من الأوامرِ ما يعودُ تكراره قبيحاً، ومن المناهي مالا يكون قبيحاً على العمومِ، فإنه لا يجوزُ فعل ظُهرين في يوم، ولا استدامةُ الصوم جميعَ الدهرِ، ولا المواصلةُ بالليلِ، ومن المناهي مالا يقعُ قبيحاً، كالنهي عن القِران بين التمرتين وما شاكَلَه من التنزّهات دون المحظورات.
ومنه مالا يدومُ قبيحاً، بل يتقلبُ حسناً، كالطيب والتقليم والحلق، قبيحٌ في الِإحرام، فإذا تحلّل، واتفق تحلُّله يومَ الجمعةِ عادَ ما كان قبيحاً مندوباً، وهو الزينةُ والطيبُ والحلقُ والتنظّفُ لشعارِ الجمعةِ، فلا قبحَ مستمر، ولا دوامَ في المنهياتِ، كما لا دوامَ في الأوامرِ بحسبِ الأدلةِ الصارفةِ، فوجبَ تساويهما عند الإِطلاقِ، إما تكراراً في الجميعِ، أو عدمَ التكرارِ والقنوع بالمرة في الجميعِ.
__________
(1) هي المزادة التي يوضع فيها الماء، وتطلق الراوية مجازاً على البعير والبغل والحمار الذي يستقى عليه.
"القاموس المحيط": (روي).

(2/575)


فصل
يجمع تعلقاتِهم فيها
من ذلكَ: أنَّ كُلَّ أمرٍ اقتضى الفعلَ مرّةً واحدةً، إذا كان مطلقاً، اقتضى مرّةً إذا كان مُعَلَّقاً على شرطٍ، كالمقيّد بالدفعةِ الواحدةِ، وهو إذا قال: صلِّ صلاةً.
قالوا: وقد دلّلنا على هذا الأصلِ في المطلقِ، فالبناءُ عليه.
ومن ذلكَ: أن الشرطَ أفادَ النهيَ عن تقديمِ الفعلِ عَلَيْه وتأخيرِه عنه، فأما تكرّره بتكرره، فلا وجَه له، ولا يعطيه اللفظُ.
بيانُ ذلك:
قوله: صل إذا زالت الشمسُ، وصُمْ إذا طلعَ هلالُ رمضان وطلعَ الفجرُ من تلكَ الليلة. فإنَه لا يفيدُ إلا منعَ التقدمِ عليه والتأخرِ عنه، فأمَّا التكرارُ فليسَ له أثر في النطقِ، ويبين ذلك في قوله: أنتِ طالق إذا طلعت الشمس. فإنه لا يفيد إلا وقوعَ الطلاقِ عند طلوع واحدٍ، ولا يتكرُر إلا إذا كان في الصيغةِ تكرارٌ ثانٍ، كلما طلعت الشَّمس.

فصل
في الأجوبةِ
فأما الأوّل: فإنَه مبنيٌ على أصل قد خالفناهم فيه، وهو أنَ الإِطلاقَ قد نصرنا فيما تقدم أنَّه يقتضي التكرار، وبنينا أمرَ الشرطِ عليه، فتقابلَ الأصلان، ودلائلنا توجبُ تقديمَ أصلِنا، وما غرضنا إلا التسوية بين المطلقِ والمشروطِ، فإذا سلكوه في اقتضاءٍ مرّة، سلكناه في اقتضاءِ الدوام بما تقدم.

(2/576)


أمَّا قولهم: ما أفادَ الشرطُ. إلا المنعَ من تقدّمهِ والتأخر عنه. فلا يصحًّ، لأنَّ الحُكمَ المُعلقَ على، العلةِ يتكررُ بتكررِها، وان كانَ امتناعُه يحصُلُ بامتناعِها، وزوالُه بزوالِها، كذلكَ الشرط يجوزُ أن يُفيدَ الإيقاعَ عندَ وجودِه أيِّ وقتٍ وُجدَ، والمنعَ من الإيقاعِ، قبلَ حصولِه وبعدَ زوالِه، فلا تمانعَ بين تخصُّصِه بالفعلِ مع الدوامِ، وبينَ امتناعِ إيقاعِه قبلَ حصولِه.
وأمَّا قولُهم: ليسَ في الملفظِ التكرارُ، فراجع عليهم في دعوى المنعِ، لأنَّه ليسَ في قوةِ اللفظِ المنعُ مِنَ الإيقاع، لكنّه عقل المنع من [الشرط عند وجوده] (1)، من حيث عُقِلَ إيجابُ إيقاعِه عندَ وجودِه في الدفعةِ الأولى، كذلكَ عُقلَ تكرُره عند وجودِه دفعةً بعدَ أُخرى، والوجودُ في الدفعةِ الثانيةِ أقرب إلى الوجودِ الأولِ من المنعِ الذي أخذه مخالفُنا من الوجودِ.
__________
(1) في الأصل طمسٌ، وأثبتناها بما يقتضيه السياق، ويفيد تمام المعنى.

(2/577)


الوَاضِح في أصُولِ الفِقه

تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (513 هـ)

تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

الجزء الثالث

مؤسسة الرسالة

(/)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(3/2)


الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
3

(3/3)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م

مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان
تلفاكس: 319039 - 815112
فاكس 603243 ص. ب: 117460

AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039
fax: 603243 - P.O.Box: 117460
Email: Resalah@Cyberia.net.lb

(3/4)


فصول
في معنى الشروطِ والصفاتِ التي يتعلق الأمرُ والنهي عليها
فصل
والشرط الذي أشرنا إليه هاهنا في تعليقِ الأمر عليه، هو كُل أمرٍ عُلقَ وجوبُ إيقاع الفعلِ المأمورِ به أو الكفِّ عن المنهى عنه والاجتناب له به، ولَا يجبُ إيقاعُ المأمور به ولا اجتنابُ المنهيّ عنه إلا بحصوله.
وهو تارةً يكونُ شرطاً بالمكانِ، نحو قوله: صل إذا وصَلْتَ الكعبةَ.
أو بالزمانِ [نحو]: صلِّ إذا زالت الشمسُ.
أو الصفات التي ليست بأفعال العباد، كالصحةِ والقدرةِ وكمالِ العقل، فيقول: صل إذا صح جسمُك، أو أفاقَ ذهنُك.
وتارةً يكونُ الشرط والصفةُ من اكتساب العبد، مثل التطهرِ، فيقولُ: صل إذا تطهَّرت. والسترةِ: صل إذا استتَرتَ، وكفِّر إذا حنِثتَ، واعتكف إذا دخلتَ المسجدَ، وطُفْ إذا وَصَلْتَ الكعبةَ. فهذه الشروطُ والصفاتُ سواءً فيما ذكرنا من التعلقِ عليها وحكم الأمرِ المتعلق بها على ما قدمنا لا يختلفُ الحكمُ باختلافِها (1).
__________
(1) انظر ما تقدم في 2/ 572.

(3/5)


فصل
ومن حُكم الشرطِ أنْ يكونَ مستقبلًا لا ماضياً، ولا مقترناً بالخطاب إذا كان بلفظٍ يقتضي الاستقبالَ، نحو قوله: إذا قامَ زيد فأكرمه، وإذاَ دخَلَ عَمْرو فاستقبله، وإذا وإن: حرفانِ للشرط يقتضيان الاستقبالَ، إذ لا معنى لقول القائل: إذا قامَ زيد فاضربه، وكان حال قولِه قائماً، اللهمَّ إلا أن يُريدَ به: إنِ استدامَ القيام فرجعَ إلى قيام في المستقبلِ، دونَ القيامِ الحاصلِ حينَ وجود تعلقِ الشرطِ (1) على القيامِ.

فصل
ومتى علِّق الأمرُ على معنى مستحيل [لم يكن ذلك] (2) أمراً، مثالُه أن يقول: صلّ إذا كان زيد متحركاً ساكناً. وما هو إلا بمثابةِ قولهِ: كُنِ الآن متحركاً ساكناً. فإنه لا يكون أمراً لاستحالته، كذلك المعلق على المحال، لا يكونُ أمراً لاستحالتهِ، فما أحالَ الأمرَ المنجز أحالَ الأمرَ المعلَّقَ.

فصل
ومن سبيلِ الشرط أن يكون معلوماً متميزاً للمكلفِ، وأنْ يكون له إلى العلم بهِ سبيل، لأنَه لا يجوزُ أن يقولَ له: صل إذا اخترعتَ جسماً في السماءِ، وإذا تشاجرتِ الملائكةُ، وإن كان حملُ المرأة ذكراً أو أنثى، وإن كان زيدٌ مستبطناً للإيمانِ أو الكفرِ، وإلى أمثال ذلكَ من
__________
(1) بياض في الأصل، وهذه اللفظة استظهرناها من السياق.
(2) طمس في الأصل، وأثبتنا هذه العبارة وفق ما يقتضيه تمام المعنى المقصود.

(3/6)


الغيوبِ التي لا سبيلَ إلى علمِها، هذا هو الذي تقررَ عليه حكم الشرعَ.

فصل
ويجب أن يقالَ: إن الصفةَ من جملةِ الشروطِ، هو ما يصحُّ حصولة ويصحُّ كونه قائماً بالمكلفِ أو بغيرِه من الأحياء والموات، وما ليس هذه سبيله فليس بصفةٍ، بل الحقيقة من اختراع الأجسام وما جرى مجرى ذلكَ عن الصفةِ التي هي شرط، قد تكونُ صفةً للمكلفِ وتكونُ من كسِبه ومن غيرِ كسبِه، وقد تكونُ صفةً لغيرهِ، هذا هو الفرق بين معنى الصفة التي هي شرطٌ، وبين الشرط الذي لم يبطل بصفة.

فصلَ
في ذلك يفصل به بين الشرطِ العقلي والشرطِ الشرعي.
اعلم -وفقك الله- أن الاتفاق قد حَصَل بين الأصوليين، على أنّ ما هوشرطٌ لحكم وصفةٍ بحكمٍ عقلي، فإنه لايوجد ومثله (1) إلاوهو شرط، وذلكَ نحو وجودِ الجسم الذي هو شرطٌ لوجودِ حسناتهِ كلّها، وهي الأعراضُ المختصة به، كالأَلوانِ والحركاتِ والسكناتِ والأخذِ في الجهات.
وكالحياةِ؛ التي هي شرط لوجودِ العلمِ والقدرةِ وجميعِ صفاتِ الحيّ من الإدراكات.
فأمَّا الشرط للعباداتِ الشرعّيةِ، لا يجبُ كونه مع مثلهِ شرطاً أبداً،
__________
(1) تقدير العبارة: (لا يوجدُّ مع مثله).

(3/7)


وكذلك جميع ما جُعل شرطاً لعبادة من الأمكنةِ والأزمنة كمكان الاعتكافِ وهو المسجدُ، ومناسكُ الحج، وأوقاتً العباداتِ وأوصافً المكلفين، فلذلكَ لم يجب كونً شروطِ العباداتِ ماخوذةً من الشروطِ العقلية. فاعلم ذلكَ واجتنب التعويلَ على أخذِ إيجاب الدوامِ للشروطِ الشرعيةِ، من إيجابِ ذلك في الشروط العقلية.

فصل
في الأمر إذا تكررتْ صيغته، هل يقتضي تكرارَ المستَدعى وهو المأمور به، أم لا يقتضي التكرار؟
لم أجد عن صاحِبنا ولا أصحابهِ فيه شيئاً، ويقتضي مذهبهم التكرارَ من حيث إنه يقتضي بالصيغة الواحدة، فالتكرار أولى (1).
وعندي أنه يقفُ على بيانِ المستدعي، فإن أرادَ به التأكيدَ والتفهيمَ، لم يقتضِ التكرارَ، وإن قصدَ الاستئنافَ اقتضى التكرارَ، وإن أطلق ولم ينوِ شيئاً اقتضى التكرارَ، وأخذتُه من تكرارِ لفظِ المطلِّقِ للطلاقِ. وفيه اختلاف بين العلماء على عدة مذاهب:
__________
(1) وهو ما صرَّح به القاضي أبو يعلى في "العدة"1/ 279، حيث قال: "لأنَ عندنا الأمرُ الأول اقتضى التكرار، والثاني لم يفد غير ما أفاد الأول".
وخالف في ذلك أبو الخطاب حيث صرح بأن تكرار الأمرِ بشيءٍ واحد مثل قوله: صل غداً ركعتين، صلً غداً ركعتين، لا يقتضي تكرار المأمور به. انظر "التمهيد" 1/ 210.
وسببُ مخالفة أبي الخطاب لجمهور الحنابلة في هذه المسألة: أنه يقولُ بأن الأمرَ المطلق لا يقتضي التكرار ابتداءً، فكان قوله هنا ناشئاً عن قوله هناك.
وانظر "المسوَّدة" ص (210).

(3/8)


أحدها: أنه يقتضي التكرارَ. وهو أحدُ الوجهين لأصحاب الشافعي، واختاره شيخنا الإمام أبو إسحاق الفيروز آبادي (1) رضي الله عنه.
والثاني: لايقتضي التكرار، وهو اختيار أبي بكر الصيرفي (2).
وقالت الأشعرية فيما حكاه بعضُ الفقهاء عنهم في ذلك: بالوقف إلى أن ترِدَ دلالة بِمَيْله إلى أحد محتمليه: التكرار أو مرة.
وقال القاضي أبو بكر: إنّه يقتضي تكرر الفعل، وأنه ليس على الوقف، بخلاف الأمر والعموم.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان أمرهُ في الثاني بلفظٍ يقتضي تقريرَ الأول مثل أن يذكره بالألف واللام، فيقولُ في الأولِ: صل، ثم يقولُ في الثاني: صَل الصلاةَ، فلا يقتضي التكرار بل تعود الألفُ واللامُ إلى الأول.
وإن كان الأمرُ الثاني تنكيراً من المأمور فيقول: صل صَلاةً، أو صَل. كان مقتضياً لصلاة مستأنفة (3).
__________
(1) انظر رأي أبي اسحاق الفيروز آبادي هذا في "التبصرة" ص (50). وهو رأي جمهور الشافعية، انظر "الإحكام" 2/ 271.
(2) أي أنه حَمله على التأكيدِ ليفيدَ ذات المعنى الأول، ولم يحمله على التأسيس لافادة معنى جديد.
(3) قال الجصَّاص: "تكرار الأمر يوجبُ تكرار الفعل، وإن كان في صورة الأول، ما لم تقم الدلالة على أنَّ المراد بالثاني هو الأول. نحو قول القائل: تصدق بدرهم، ثم يقول له بعد ذلك تصدق بدرهم، فيكون الثاني غير الأول" =

(3/9)


ومن أصحابِ الشافعي من قال بقول الأشعري، وهو الوقف.
والذي يقتضيه ما نصرناه وحكيناه عن أصحابنا التكرار؛ لأن من قال: إن مطلقَ الأمر يقتضي التكرارَ، يقبح أن يتوقفَ عن القولِ في الأمرِ المكررِ بالتكرارِ.
ولا يختلفُ العلماءُ في أنه إذا كانَ الأمرُ الثاني بجنس ثانٍ مثل أن يقول في الأصل: صَل، وفي الثاني: صُمْ، وفي الثالث: تصدقْ، أنه يقتضي امتثال الجميع؛ لأن هذا ليسَ بتكرارٍ، وإنما هذه أوامرُ متتابعة ومتعاقبةٌ، والمخصوصُ باسم التكرارِ هو ما كانَ أمراً بجنسٍ واحد فأما إذا كان أمراً بفعلين غيرين (1) من الجنس لم يكن متكرراً.

فصل
يجمع أدلتناَ على وجوبِ التكرارِ (2)
فمن ذلكَ: أنَ الدلالةَ قد سبقت على أنَ الأمرَ المطلقَ يقتضي تكرارَ المأمورِ بهِ ودوامَه، فإذا بنينا هذا على ذلك الأصلِ كان من طريق الأولى، لأن الأمرَ المكرر آكدُ في اقتضاءِ الدوام من اللفظِ
__________
= فالأصل عندهم إذاً أن تكرار الأمر يوجبُ تكرار الفعل ما لم تقم قرينة تدل على أن المراد بالتكرار التأكيد. انظر "الفصول" 2/ 148.
(1) هكذا وردت في الأصل، ولعل المراد: "متغايرين".
(2) ظاهرٌ من هذا الاحتجاج، أن ابن عقيل يجمع الأدلة التي تؤيد رأي من قال بأنَ تكرار الصيغة يقتضي تكرار الفعل، ولم يذكر الأدلة التي تؤيد رأيه في أنه يفيدُ الوقف.

(3/10)


الواحدِ لأنَّ أقل ما يقتضي التأكيد، وتأكيد ما يقتضي الدوام تأكيد لمقتضاه من الدوام، فصارَ بمثابةِ المقيد بالتكرارِ، وهو أن يقول: أفعل أبداً، أو افعل متَكرراً لمّا تأكد على الاطلاقِ، كان أولى باقتضاءِ التكرارِ الذي اقتضاه الإطلاقُ على أصلنا.
ومن ذلك: [قد عرفنا] (1) أنَّ كل واحد من اللفظين يقتضي إيجابَ فعلٍ عند الانفراد، فإذا اجتمعا وجبَ أن يقتضيا التكرارَ، كما لو كانَ بفعلينِ مختلفين، مثل قوله: صمُ وصلّ.
ومن ذلك: أنَّ المقتضي للفعلِ هو الأمرُ، والثاني كالأوَّل في الإيجابِ، ثم الأول يوجبُ الفعلَ مرّةً، فالثاني يوجبُ الفعلَ أيضاً مرّةً أُخرى.

فصل
ووجهُ ما ذَهَبَ إليه من قالَ بنفيِ التكرارِ: أن أوامر الله سبحانه في القرآنِ قد تكررت، ولم تقتضِ تكرارَ الفعلِ.
قالوا: ولأن اللفظ الثاني يحتملُ الاستئناف ويحتمل التأكيدَ، فلا يوجب فعلًا مستأنفاً بالشكِّ.

فصل
في الجوابِ عما ذكروه: أن الظاهرَ في تلكَ الأوامر الشرعيةِ تركٌ لأدلة.
ولا نسلَّم أن ها هنا شكاً، بل هو ظاهرٌ، ولو كانَ في الثاني شكاً،
__________
(1) في الأصل: "من عربنا"، ولعل المثبت هو الصواب.

(3/11)


لكانَ الأول لا يفيدُ استدعاءَ المأمورِ، لأن اللفظين سواءٌ، فلما أوجبَ الأولُ الفِعْلَ مرةً، كذلك الثاني يغلبُ على الظنِّ أنَّه يوجب ما أوجَبه الأول، والتأكيدُ إنما نذهب إليه ضرورةً، والاستئنافُ هو الظاهر من استئنافِ الأمر.

فصلٌ
وتعلَّقَ من قالَ بالوقفِ من أصحاب الشافعيّ (1) وغيرهم بأن الصيغةَ الثانيةَ تحتملُ التأكيدَ، وتحتمل التكرارً والاستئنافَ، ولا ترجيحَ لواحدٍ منهما على الآخرِ، فلم يجز القولُ بأحَدِهما مع مقابلةِ الآخرِ، فوجب الوقفُ.

فصلٌ
وقال القاضي الإمام أبو بكر (2): إن قال قائل: فهلا وقفتم في تكرار الأمرِ كما وقفتم في لفظِ الأمرِ والعمومِ وسائرِ ما أخبرتم باحتمالهِ. قيل له:
__________
(1) وهو منسوب إلى أبي بكر بن فورك. انظر "إحكام الفصول في أحكام الأصول" للباجي ص (206)، و"البحر المحيط" للزركشي: 2/ 393.
(2) نقل الزركشي في "البحر المحيط": أن كلامَ القاضي أبي بكر الباقلاني في مسألة تكرر لفظ الأمر متردِّد، فتارةَ يميلُ إلى الوقف وهو الصحيح، وتارة يقول: يقتضي إنشاءَ لا متجدداً. وممن حكى الوقفَ عنه أبو الحسين البصري."البحر المحيط"2/ 393 وعلى ذلك فإنَ ابن عقيل قد رجح الرأي الثاني الذي يقتضي التأسيسَ لا التأكيد، على الرغم من أنَّ القول بالوقف هو الذي يتفق مع أصول القاضي أبي بكر.

(3/12)


لأجلِ أن كُلَّ لفظةٍ من تلكَ الألفاظ لفظةٌ واحدةٌ معرَّضةٌ ومحتملةٌ للأمرين، والأمرَ الثاني بالفعلِ قول غيرُ الأمرِ الأولِ منفصلٌ عنه، ولكل واحدٍ منهما موجِبٌ ومتعلّق إذا انفرد، والاجتماعُ لا يخرجُهُ عن ذلك، فافترقَ الأمران.
ففيما ذكره القاضي الأمام أبو بكرٍ -رضي الله عنه- جوابٌ عما ذكره من اختار الوقفَ من هذا الفصل.

فصل
فيما تعلق به أصحابُ أبي حنيفة (1).
قالوا: إذا قال: صلِّ الصلاةَ، وصُمْ الصيامَ، مع تقدم قوله: صلِّ وصُم، زالَ الإشكالُ بكون الألف واللام ترجعُ إلى المعهودِ، ولا معهودَ هنا سوى ما تقدم، فيصير كأنَّه قال: صمُ ذلك الصوم الذي أمرتك به فيكون اقتضاءً بذلكَ وحثاً عليه، واذا قال: صم وصَلِّ كان أمراً بفعل منكر، فاقتضى الاستئناف والابتداءَ، فهو كالأمرِ الأوَّلِ.

فصل
في الاعتراضِ على ما ذكروه
فيقالُ: إنه لا يزولُ الاحتمالُ لوجوه:
أحدُها: أنهم لم يفرِّقوا بينَ أن يكونَ قد صلَّى تلكَ الصلاةَ، وامتثل الأمرَ الأولَ، وبينَ أن يكونَ ما فَعَلَ، فيجبُ أن يفصِّلوا ليَصْفو
__________
(1) انظر: "الفصول في الأصول" للجصَّاص: 2/ 148 - 149، و "تيسير التحرير" 1/ 361 - 362، و"فواتح الرحموت"، (1/ 391 - 392).

(3/13)


لهم ما يدّعونه من نفي الاحتمالِ.
الثاني: أن قولَه: صلاة. يحتملُ مثل الصلاة، كقوله: عرضها السماوات، كعرض السماوات، وأنه يفيدُ أْن يأتي بصلاةٍ كالصلاة الأولى، فلا يصفو عوده إلى الأولى مع هذا الاحتمالِ أيضاً.
الثالث: أنه يحتمل جنسَ الصلاة، فأين زوالُ الاحتمال؟

فصل
في المأمورات التي يتعذر تكرُرها، فيمتنعُ ورودُ الأمر مكرراً إلا على وجه التأكيدِ.
وامتناعُ ذلكَ من وجوه شتى:
فمن ذلك: ما يمتنعُ من طريقِ العقلِ، كالأمرِبقتل شخصٍ، وذبح شاةٍ، فهذا مما لا يمكن تكراره، إذ لا يقتل الحيُّ إلا مرةً واحدةً، ولا تُذبحُ الشاةُ إلا دفعةً، إذ لا نفس تزهق إلا واحدةً.
فإذا قال: اقتل فلانَ المشركَ، واذبح شاتَك. ثم كررَ الأمرَ، لم يكن في التكرارِ إلا تأكيدَ الأمر بفعل المأمورِ به. لاستحالةِ قتلين في شخصٍ ما لم تعد إليه الحياةُ مَرةً أَخرى.
وكذلك كسرُ الإِناء، وإتلافُ سائرِ ما إذا أتلفَ لم يُتصوَّر إعادةُ الإِتلافِ له.
ومن ذلك: ما يمتنعُ من طريقِ الشرعِ، فجعلَ الشرعُ له كالإتلافِ المقدَّم ذكرهُ، وهو الأمرُ بعتق عبده، فإنه يعتقُ بالإعتاق، ولا يتكرر إعتاقه، إذ لا بقاءَ للرقِّ في العبد بعد العتقِ، كما لا بقاءَ للحياةِ في

(3/14)


الحيِّ بعدَ القتلِ، فإذا تكررَ قولهُ: اعتق، كان الثاني تأكيداً، بغير احتمال.
ومن ذلكَ: امتناعُ التكرارِ لكَوْن الأمرِ الأولِ مستغرِقاً عاماً لجميعِ ما تناوله الأمرُ، مثل قوله: اقتل المشركين، وصم الدهرَ، فإنه لا مشركين لنا بعدَ الاستغراقِ ينصرف الأمر إليهم في الثاني بعدَ استغراقِ الأمرِ الأول لهم، ولا لنا دهران فنكرِّرُ صومَهما، فلم يبقَ للفظِ وجهٌ سوى التأكيدِ.
ومن ذلك: أن تكونَ دلالةُ حالي أو عرف متواضع فيما بين الأمرِ والمأمورِ يدل ذلكَ على أنَ المرادَ بالتكرار الواحدُ غيرُ المتكررِ، أو دلالةُ حالٍ تدلُّ أنَ المرادَ بالثاني التأكيدُ، مثل عطشان يأمر باستقائه الماء، ثم تكرر اللفظةُ، فيعقلُ منها الاستعجالُ دونَ التكرارِ.

فصلٌ
واعلم أن التكرارَ في الندب كالتكرارِ في الواجبِ، فما أوجبَ تكرارَ المأمورِ به في الأمر الواجب، كان تكرارهُ في الندب مؤذناً بتكرارِ المندوب، فكونُ المتكررِ فيَ الندب مندوباً، كما أنَ التكرار في الواجبَ واجب. وإنَّما كان كذلكَ لأن التصريحَ بتكرارِ الندبِ يُفيدُ الندبَ إلى التكرارِ، كذلكَ الإِطلاقُ المفيدُ للتكرارِ بالظاهرِ.

فصلٌ
واعلم -وفّقكَ الله- أنه لا يجوزُ أن يقعَ خلافٌ في أن تكرارَ الأمرِ يقتضي استئنافَ فعل إذا كان بعد امتثالِ الأول، مثال ذلك:

(3/15)


إذا قال: اضرب. فضربَ، ثم قال: اضرب. أن الثاني يفيد ضرباً مُستأنفاً، لأن الأمرَ الثاني لا يعودُ إلى الضربِ الأول، لأن الأولَ وقَع، فلا يحتاجُ في وقوعهِ إلى أمرٍ بعدهَ، ولا يصحُّ بعدَ وقوعهِ من جهةِ الأمرِ إلا التصويبُ، والشكرُ على الطاعةِ، وموافقةُ الأمرِ، فأمَّا بعد الامتثالِ، فلم يبقَ احتمالٌ يقعُ لأجله الخلاف.

فصلٌ
واذا كانَ الأمرُ بفعلٍ ممتدٍّ يستوعبُ للعمرِ، كالإيمانِ، كانَ الأمرُ بماضيه مستحيلاً، فإذا وَرَدَ الأمرُ به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] كان أمراً بمستقبل وهو الاستدامة، وكان تأكيداً، لأنّ الأمر الأول تناول جميع عُمر المكلف فلم يبقَ أن يكونَ الأمر الثاني إلا تأكيداً، وذلك مثل الإيمان، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ..} [النساء: 136] بمعنى استديموا.