الواضح في أصول الفقه فصلٌ
في الأمر المطلق، هل يقتضي الفور أو التراخي، أو الوقف؟
اعلم أن شيخنا -رضي الله عنهُ- أخذ من إيجاب صاحبنا الحج على
الفور، أن الأمرَ على الفور (1)، وقد أخذ جماعة من الفقهاء مثل
هذا الأخذِ.
__________
(1) ذكرَ أبو يعلى في "العدة" 1/ 281، بأن الأمرَ المطلق يقتضي
فعلَ المأمور به على الفور عقيب الأمر، واستفاد ذلك من كلام
الإمام أحمد رضي الله عنه في أن الحج على الفور.
(3/16)
واعلم أني ذاكر في ذلك فصلًا ينتفعُ به
الفقيهُ، وذلكَ أن المحققينَ من أهلِ الأصولِ عابوا أخذَ
الأصولِ من الفروعِ، واعتلّوا في ذلكَ بتحقيقٍ واقعٍ يوقعُ
ايجابَ القبولِ منهم.
فقالوا: إنَّ الفروعَ يحسنُ أن تبنى عليها الأصول، فلا يحسنُ
بناءُ الأصول على الفروع لما قد استقر من أن الفرعَ ما ابتنيَ
على غيرهِ، والأصلُ ما ابتني عليه غيرُه.
قالوا: ولأنَّ المسألةَ من مسائل الفروعِ يجبُ فيها الفورُ،
لدليلٍ أوجبَ القولَ فيها بالفور، فلا يجوَزُ أن يوجدَ الأمرُ
المطلقُ بحكمِ اللغةِ الفورَ من فرعٍ مقيدٍ بقرينةٍ أو دلالةٍ
أوَجبت له الفورَ، ولكنني أخذتُ هذا الأصلَ من أن أصلَ مذهبهِ
الاحتياطاتُ في أُصولهِ وفروعهِ، ومن الاحتياط؛ التقديُم
والفورُ، فمن ذلك قوله: الصلاةُ تجبُ بأوَّلَ الوقت وجوباً
مستقراً، وإنَ الزكاةَ تجب عليه بالحولِ، ولا يُعتَبرُ إمكان
الأداءِ، ويجبُ الحج على الفورِ، وصومُ يوم الشك تعجيلًا،
فنحنُ نستدلُّ بهذهِ المسائلِ الكثيرةِ أنها جاءت مَن أصل له،
وهو قولُه بالتعجيل والاحتياطِ والفورِ من ذلك القبيلِ،
والفرعُ ان لم يبنَ عليه لكنه يكونُ دليلًا على أصلِ الرجلِ،
سيما إذا عُلل بالاحتياطِ، فيصير تعليلُه أصلًا.
فهذا تحقيقُ مذهبنِا، وهو مذهبُ أكثرِ أصحابِ أبي حنيفة (1)،
__________
(1) هذا قول أبي الحسن الكرخي وأبي بكر الجصاص من الحنفية، حيث
قالا: بأن الأمر المطلق على الفور لا التراخي.
وخالف في ذلك السرخسي والبزدوي، حيث قال السرخسي: "والذي
(3/17)
ومذهب أبي بكر الصيرفي، والقاضي أبي حامدٍ
(1).
وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي (2)، والأقلون من أصحاب أبي
حنيفة إلى أنَه على التراخي، وهو مذهبُ المعتزلةِ، واختيارُ
القاضي الإمام أبي بكر بن الباقلاني.
وذهب جمهورُ الأشعريةِ إلى أنَه على الوقف.
فهذا جملة ماظهر لنا من الخلاف.
وعن أحمد رواية أنَّه على الترّاخي (3).
__________
= يصحُ عندي من مذهب علمائنا رحمهم الله أنه على التراخي فلا
يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر". وعلى ذلك فإن
لأصحاب أبي حنيفة رأيين في اقتضاء الأمر المطلق للفور أو
للترَاخي. انظر "الفصول في الأصول" 2/ 103، و" أصول السرخسي"
1/ 26، و" كشف الأسرار"1/ 113.
(1) نقل عنهما ذلك الشيرازي في "التبصرة" ص (52)، وأبو حامد هو
أحمد بن بشر بن عامر العامري المروذي أحد علماء الشافعية توفي
سنة (362) هـ. انظر "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 12.
(2) قاله الشيرازي، والغزالي، والآمدي، وأبي حامد الإسفراييني،
وأبي بكر القفال، وغيرهم من الشافعية. انظر "التبصرة" ص (52) و
"المستصفى" 2/ 9، و" الإحكام"2/ 242، و"البحر المحيط" 2/ 396،
و"مختصر ابن الحاجب" 2/ 83.
(3) ذكر هذه الرواية عن أحمد القاضي أبو يعلى، واستفادها من
رواية الأثرم وقد سئلَ عن قضاء رمضان، يفرق؟
فقال: نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
قال أبو يعلى:" فظاهرُ هذا انه لم يحمل الأمر على الفور، لأنه
لو حمله على =
(3/18)
فصل
في الدلالةِ على الفورِ
آياتُ الله دلَّت على إيجابِ المسارعةِ.
من ذلك: قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:
148] وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
[آل عمران: 133]، وامتثالُ الأمرِ من الخيراتِ لما فيه من
حصولِ الثوابِ، واغتنامِ الوقت الصالحِ للفعل قبل الفوات.
وقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] , ولو كان على التراخي لما حسن
العتبُ.
ومن ذلكَ: عتبُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على من دَعاه
وهو في الصلاة فلم يُجبه، واحتجاجُه عليه بقوله: "ألم تسمع ...
إلى قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24]
(1) ". فما فسحَ له في التأخيرِ إلى انقضاءِ
__________
= الفور منع التفريق" اهـ."العدة"1/ 283. والمذهب عند
الحنابلة: هو أن الأمرَ على الفور وفق ما تقتضيه الرواية
الأولى عن أحمد.
انظر "التمهيد" 1/ 215، و"المسودة" ص (24 - 26)، و" شرح مختصر
الروضة" 2/ 386، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 48.
(1) ورد هذا من حديث أبي سعيد بن المعَلَّى، قال: كنت أصلِّي
في المسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم
أجبْهُ، فقلت: يا رسول الله، إنى كنت أُصلِّي.
فقال: "ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] " ثم قال:" ألا أعلمك سورة هي
أعظم سورة في القرآن"؟ فقلت: بلى، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني،
والقرآنُ الذي أوتيتُه".
أخرجه أحمد 4/ 211، والبخاري (4647) و (4703) و (5006)، وأبو
داود =
(3/19)
صلاتهِ، وهذا غاية في الفور.
ومن ذلكَ أن النهيَ استدعاءُ التركِ والكف عن أفعال مخصوصةٍ،
كما أن الأمرَ استدعاءٌ الفعل لأفعال مخصوصة، ثم النهيُ يقتضي
التركَ على الفورِ، كذلكَ الأمر ولا فرق.
ومن ذلكَ: أن الأمرَ بالشيءِ نهى عن ضدّه معنىً، وذلكَ انه لا
يتحققُ المأمورُ ذوُ الضدّ الواحدِ إلا بتركِ أضدادِه،
كالمأمورِ بالسكونِ، لا يمكنُه ذلكَ إلا بتركِ الحركةِ، أو
بالقيامِ، فلا يمكنُه الامتثالُ إلا بالكفِ عن الجلوسِ
والاضطجاعِ اللذينَ هما ضدُّ القيام، والنهيُ يقتضي الفورَ،
فاقتضى فعلَ ضدِّه الذي لا يصحُّ التركُ إلاَ به على الفورِ.
ومن ذلِك: أن الأمرَ يقتضي ثلاثةَ أشياء:
اعتقاد الوجوب.
والعزم على الفعل.
وفعل المأمور.
ثم إنَّ الاعتقادَ والعزمَ على الفورِ، فكذلك الفعل.
ومن ذلكَ: أنَ الأمرَ يقتضي الفعلَ، لكونِه استدعاءً له،
والتراخي تأخير ليس في اللفظِ، وتخيِير بين وقتٍ ووقتٍ ليس في
صيغةِ الأمرِ، فلا وجهَ لإثباتِ معنىً لا يتضمنُه اللفظُ ولا
يظهرُ فيه.
ومن ذلكَ: أن الوقتَ الأولَ الذي يلي الأمرَ، وقت يحصل فيه
__________
= (1458)، والنسائي 2/ 139، وابن ماجه (3785)، والبيهقي 2/
368، وابن حبان (777).
(3/20)
الإِجزاءُ، ويقطعُ على انَّه لا مفسدةَ
فيه، وأنه يجوزُ النقلُ فيه، ويكونُ ممتثلًا، والثاني والثالثُ
من الأوقاتِ تجردَ الفعلُ فيه بين أن يكونَ مفسدةً أو غير
مجزىء، أو غيرَ مُوافقٍ لإرادةِ الأمر وعْرضِهِ، ولا يجوزُ أن
يطاعَ الأمرُ الموجبُ إلا بفعلٍ متحقق فيه ما قصد به، وذلكَ في
الوقتِ الثاني والثالث مقدر.
ومن ذلك: أن الله سبحانه لما خصَّ هذا الوقت بإظهار صيغةِ
الأمرِ فيه مع إمكانِ التأخيرِ، دل على انه استدعى الفعلَ
عقيبه بلا فصلٍ، إذ لو أرادَ الفصْلَ لأخر الصيغةَ إلى الوقتِ
الثاني.
فصل
يجمع الاعتراضاتِ والأسئلةَ على ما ذكرنا
قالوا: أما الآياتُ، فإن المغفرةَ ليس إليها طريق معلومٌ
فيُسارَع
إليها، لكنِ الإضمارُ: سارعوا إلى ما يوجبُ لكم المغفرةَ،
وذاكَ هو التوبةُ من الذنوب، وتلكَ على الفورِ بإجماع، لأنها
النزوع عن الذنوب. وأما قولهَ: {فَاسْتَبِقُوا} [البقرة: 148]،
فإنه أمرٌ مقيد بالتعجيلِ، وكلامُنا في أمرٍ مطلقٍ، وقولُه في
حق إبليس: {مَا مَنَعَكَ} [الأعراف: 12]، عساه كانَ أمراً مع
قرائن تعطي الإيجابَ على الفورِ، وهذا هو الظاهر.
قالوا: وأمَّا النهيُ، فمنه يقتضي التركَ على الدوام، فتناولَ
الوقتَ الأول كما تناولَ سائرَ الأوقاتِ، وليس كذلكَ الأمرُ،
لأئه لا يقتضي إلا وقتاً واحداً، وليس الأوَّل بأولى من الوقتِ
الثاني، فكانت الأوقاتُ كلها سواءً.
(3/21)
قالوا: وقولكم: يقتضي النهيَ عن ضده،
فاقتضِى الدوامَ من حيثُ
إنه نهى، باطل بقوله: افعلْ أيَّ وقت (1) شئت، فإنَه يجوز له
التاخيرُ،
وإن أدَّى إلى ما ذكره.
ولأنَّه لو كان من حيث اقتضى النهيَ، لكانَ على الدوام، حيث
كان النهيُ على الدوامِ، فلمَّا لم يكُ على الدوام، بطلَ أنَ
يكونَ العملُ به بحكمِ النهي المطلقِ، لكن إن علَّق عليهَ
التحريم بحكمِ النهي، فإنه يقتضي تحريماً بحكم نهى يفوتُ به
الفعلُ، وذلكَ لا يقتضي المسارعةَ، لكن يقتضي أن لا يفوتَ به
الفعلُ. ومع الايجابِ المجرَّدِ وإن كانَ على التراخي لا يفوتُ
به الفعلُ.
قالوا: وأمَّا أخذكم إيجابَ الفورِ من العزم والاعتقادِ، فلا
يصحُّ، لأنهما يجبان على الفورِ مع كونِ الفعلِ مؤخراً بصريحِ
النطقِ، وهذا يدلّ على أنَ الفورَ فيهما ليس بمأخوذٍ من جهةِ
اللفظ، وإنَّما استفيدَ من جهةِ أنَّ التكليفَ لا ينفكُّ عن
اعتقادٍ وعزمٍ، إذ لو كانَ منفكاً منهما، لكان جاحداً أو
مهملاً.
قالوا: وأمَّا قولُكم: ليسَ في الأمرِ تخيير ولا تأخير، فمن
أينَ جاءَ القولُ بالتراخي؟ فإنَّه باطل بقوله: اذبحْ أو
اقتلْ، فإنه لا يتعين عليه عين من أعيانِ المقتولينَ، ولا
حيوانٌ من حيواناتِ الذبحِ، ويكون مخَّيراً بين الأعيانِ لعدمِ
التعيينِ، كذلكَ الإطلاقُ في الأزمانِ، لا يقتضي تعيينَ وقتٍ.
قالوا: وينقلبُ عليكم، فيقالُ: ليسَ في اللفظِ تعيين بالوقتِ
__________
(1) في الأصل: "قرب".
(3/22)
الأوَّلِ، فمن أينَ أخذتُم التعيينَ له من
بينِ سائرِ الأوقات؟ والزمانُ ليسَ بمذكورٍ في الفعلِ، وإنما
يدخلُ شرطاً من حيثُ استحالةُ وقوعهِ في غير زمانٍ، فيجبُ أن
يكونَ تابعاً للفعلِ، والفعلُ مطلقٌ غيرُ معينٍ، فكانَ الزمانُ
بحسبه مطلقاً، فلا وجهَ لتعيينه إذا لم يكن لنا تعيين من
ناحيةِ اللفظِ.
فصل
في الأجوبةِ عن هذهِ الأسئلةِ
أمَّا دعواهم أنَّ الأمْرَ بالمسارعةِ عاد إلى التوبةِ لأنها
هي التي تحصلُ بها المغفرةُ، فغيرُ صحيح، لأنَ الله سبحانه
يقول: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا
بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] فليس
غفرانه مقصوراً على التويةِ، فالطاعاتُ مكفَرةٌ توبةً وغيرَ
توبةٍ، قال سبحانه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، قيل في التفسير: الصلوات الخمس
يكفرن ما بينهن (1)، والأحاديث في ذلك كثيرة (2).
__________
(1) ورد هذا التفسير لمعنى الحسنات، عن ابن عباس، وعثمان بن
عفان، وأبي مالك الأشعري، ومحمد بن كعب القرظي، والضخاك،
ومجاهد ومسروق.
انظر "تفسير الطبري" 15/ 509 - 519.
(2) ومن هذه الأحاديث: حديثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم
-: "أرأيتم لو أنَ نهراَ بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمسَ
مراتِ ما تقولون؟ هل يُبقي من درنه شيئاً"؟ قالوا: لا يبقى من
درنه شيءٌ، قال: ذلك مثلُ الصلوات الخمسِ يمحو الله بهنَّ
الخطايا" أخرجه من حديث أبي هريرة:
أحمد 2/ 379، والبخاري (528)، ومسلم (667)، والترمذي (2868)، =
(3/23)
وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
[البقرة: 148]، مقيّد، وكلامنا في المطلقِ، فإنه مقيَّد يوجب
المسابقةَ والمسارعةَ في كل أمرٍ يرِدُ مطلقاً، كما إذا قال
السيدُ لعبيدِه: سابقوا إلى طاعتي إذا أمرُتكم، صارتْ هذه
تقدمةً توجبُ المسارعةَ إلى كلِّ أمرٍ يردُ منه في الثاني
مطلقاً.
وأمَّا قولهم: النهى يقتضي التركَ على الدوام، فكذلك الأمرُ
عندنا، على أنه إنما اقتضى التركَ في كل حال، لأنهَ استدعاء
مطلق للتركِ، وهذا موجودٌ في الأمر.
وأمَّا قولُهم: إنَّه يبطل التعلق باقتضاءِ النهى عن الضدّ،
بما إذا قال له: افعل أي وقتٍ شئت، فذاكَ لا يقتضي إلا النهيَ
عن التركِ في الوقتِ الذي يشاءُ الفعلَ، وأمَّا قولُكم: كان
يجبُ أن يقتضيَ الدوامَ، فكذا نقول.
وأمَّا قولهم: إنَّ العزمَ والاعتقادَ يجبُ على الفورِ وإن كان
الفعل مُتراخياً، لأنه متى لم يقدم العزمَ والاعتقادَ كان
مهملًا. فلا يلزمُ، لأن الاعتقادَ والعزمَ تابعان للفعل، إذ
لأجلهِ وجبا، وإنَّما فتعجّلا مع تقييدِ الفعلِ، لأن الأمرَ
بهما مطلق فتعجّلا واختص الفعلُ دونهما بالتقييد، ولو قيّدهما
الشرعُ لتقيّدا.
وأمَّا قولهم: إنَ تركهما إهمالٌ، فَتَرْكُ الفعلِ مع حصولِ
الاعتقادِ والعزمِ تسويفٌ وتمادٍ.
ولأنَّه يبطلُ بما لو قيَد الاعتقادَ والعزمَ، فقال: حُجَّ في
سنةِ كذا
__________
= والنسائي 1/ 230 - 231، والبغوي (342)، والبيهقي 1/ 361،
وابن حبان (1726).
(3/24)
حِجّة. ولا يعتقدُ وجويَها، ولا يعزمُ على
فعلِها إلاحينَ أشهُرِ الحج من تلكَ السنةِ، ولهذا من لم توجد
في حقِّه شروطُ الحج لا يلزمه اعتقادٌ ولا عزمٌ لما لم يخاطب
بالفعلِ، ولا يكون بالِإخلالِ بهما مهملًا.
وأما قولُهم على قولنا: ليسَ في اللفظِ تخييبرٌ. باطلٌ بالأمر
بالذبح، فإنَّه يتخير بين الأعيانِ، ولا تخيير، فإنَه لا عينَ
أخص من عين، إذ أغنامُ القطيعِ متساويةٌ، فأمَّا في مسألتِنا،
فإن الوقتَ الذي يلي الأمرَ أخص من حيثُ إنه يتضمّنُ إيقاعَ
الفعلِ فيه إِجزاءٌ ومصلحة وإرادةٌ بالإِجماعِ، والوقتُ الثاني
لا نعلم أنَه صالحٌ، بخلافِ الأعيانِ، ولأنه لا يُخافُ
بالعُدولِ عن عينٍ إلى غيرها فواتُ الفعلِ في العين الأخرى،
وهنا يُخافُ فوات الفعلِ رأساً، وليس على الاحترام أمارة
تُتَوخى وتنتظر.
وأما قولهم: ونقابلِكم بأنَّه ليس في الأمرِ تعيينٌ. فلا
يصحُّ، لأن الأمرَ يقتضي إيجادَ الفعلِ، وإيجادُه تَضَمَنَ
إيجابَه، والوقتُ الذي يلي الأمرَ مع إزاحةِ عللِ المأمورِ فيه
وصلاحيته لفعله وجوداً ووقوعاً موقعَ الإجزاء، وهذا صالحٌ
لإِيجاب التعيين، فأمَّا التراخي والتأخير، فلا وجَه له،
ولذلكَ لا يحسُن اللومُ على فعلِه في أوَّلِ وقتٍ، ويحسُن
العتب والتوبيخُ على تأخيرهِ مع تكاملِ شروطِ الفعلِ.
(3/25)
فصل
في الدلالة على فساد قول أهل الوقف، وذلك من عدّة وجوه: أحدها:
الكتاب؛ وهو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فتمادوا بقولهم: ما هيَ، ما
لونُها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "شدَّدوا، فشدّد
عليهم" (1) فقال الله سبحانه في آخر أمرهم: {فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71] وما كان سوى
التوقف والاستفسار، وقد ذمَّهم عليه.
فإن قيل: ظاهرُ حالِهم أنهم توقفوا من غير عزم ولا اعتقاد،
لأنهم قالوا في الأول: {وَأَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:
67] وفي الأخيرِ قالَ سبحانه: فذبحوها {فَذَبَحُوهَا وَمَا
كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] قيل: النقلُ يمنعُ ذلكَ،
فإنَه رويَ في التفسير أنَهم بلغوا بثمنها ملءَ جلدِها، ورويَ
مسكها ذهباً، روي: لو أنًّ بني إسرائيلَ ذبحوا بقرةً من بقرِهم
لأجزأتهم، لكنْ شددوا. ولم يَذكر سوى تعمقِهم في السؤالِ، ولو
كانَ
__________
(1) أخرج هذا الحديث مرسلاً عن ابن جريج الطبري في "تفسيره" 2/
205.
ولفظ الحديث كما أخرجه عن ابن جريج قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -:"إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا
على أنفسم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما
بُينت لهم آخر الأبد".
قال الشيخ أحمد شاكر: وهو مرسلٌ لا تقوم به حجة.
وذكر ابن كثير في تفسيره ورودَ هذا الحديث عن أبي هريرة
مرفوعاً، ثم عقب عليه بقوله: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه،
وأحسنُ أحوالهِ أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدم مثله عن
السدي، والله أعلم"، "تفسير ابن كثير"، 1/ 159.
(3/26)
هناك ما هو أوفى من السؤالِ لما علَّق
بالتشديدِ على سؤالِهم وتردّدِهم في صفاتِ البقرةِ، لم يحدث
سوى التأخيرِ والتوقف، لأنَ المتوقفَ في ذلكَ إنما يتوقفُ لطلب
الدليل على جوازِ تأخيرِه وزوالِ المأثم بذلك، وليس يتوقف
لطلبَ الدليلِ على سلامةِ تعجيل الفعْل، ويأمن من المأثمِ
والعقابِ، والقولُ بانَ تقديم فعلِه حرامٌ، لأنَّ من قاَلَ
بالفورِ وبالتراخي جميعاً يقولونَ: إنَّ تقديمَ فعلِه حسنٌ
جميلٌ، وإنَّ القائلَ بوجوبِ تقديمه يقول: إنَّه يأثم
بالتأخيرِ، والقائلونَ بالتراخي يقولون: إنْ قدمه فقد أدّى
الواجب وبرئت ذمتُه، والأحوطُ له في حيازِة المثوبةِ وإبراءِ
الذمَّةِ تقديمُه، فإنَّه لا يأمن الفواتَ بمفاجأة الموتِ،
وإذا ثبتَ ذلكَ ثبتَ أن مقدم فعلِه ممتثلٌ للمأمورِ به بإجماعِ
الأمَّةِ قبلَ القائلين بهذا، فبطَلَ ما قالوه من الوقفِ.
ويوضِّح هذا أنَّه لو وجبَ الوقفُ في ذلكَ، لكانَ المقدِّمُ
لفعلهِ عقيبَ الأمرِ، مع اعتقادِ وجوبهِ وبراءةِ ذمتِه مخطئاً
مأثوماً، لأنَه لا يعلمُ ذلكَ، بل يجوزُ أن يكونَ المرادُ به
التأخير [و] في هذ أيضاً خلاف الِإجماع، فلو احتملَ الأمرُ في
أصلِ الوضعِ الفورَ والتراخي لكان هذا الِإجماعُ من الأمةِ على
أنَّ تقديمَ فعلهِ ليس بمحظورٍ ولا حرامٍ موجباً لحمله بدليلِ
السمعِ على أنَّ سائرَ الأوقاتِ وقتٌ له، من عقيبِ الأمرِ إلى
ما بعده.
فإن قالَ قائلٌ: بأن تقديمَ فِعله حرامٌ لموضعِ الاحتمالِ فيه.
قيل له: فأنتَ إذاً قائل بأنَه إنما يجبُ أن يفعل لا محالةَ في
وقتٍ يكون بعدَ عقيب الأمر.
(3/27)
فإن قال: كذاك أقول.
خالف الإجماعَ الذي وصفناه، وقيل له أيضاً: أفيجوزُ أن يتغير
الأمرُ بطولِ عمرِ المكلفِ من بيان وقته، أو لا يجوز ذلك؟
فإن قال: ذلك جائز.
قيل: فهو إذاً حرامٌ على المكلفِ فعلُه في سائرِ الأوقات،
لأنَّه عارٍ فيها عن دليل وجوبِ فعله من كل وقتٍ منها، كما أنه
عارٍ من ذلك في حال عقيب الأمرِ، وهذا يوجبُ التوقفَ عن فعلِه
في كلِّ حالٍ، وأن يكونَ إيقاعهُ فيها حراماً وبمثابةِ إيقاعهِ
عقيبَ الأمرِ به، وذلك خلافُ الإجماع وإسقاطٌ للتكليفِ، وجعلُ
الأمر محرماً أبداً لإيقاع الفعل، وذلك باطلٌ.
وإن قال: لا يجوزُ أن يؤخر بيانُه في الحالِ التي تلي حالَ
عقيبِ الأمرِ، وأنَّه واجبٌ في الذمةِ إلى حين موتِ المكلَفِ،
أو واجب إيقاعُه في وقتٍ محدودٍ معين.
قيل له: فما معنى الوقفِ مع البيانِ لحالِ المأمورِ، وأنَه في
الذّمةِ أو مؤقّت بوقتٍ محدود؟ والوقفُ لا يسوغُ مع البيانِ.
على أنَّ هذا البيانَ يجبُ أن يكونَ مع الأمر وحين وروده،
فيبين به حالَ عقيب الأمرِ وأنَّها حالٌ له أم لا؟ كما يجبُ
عندَه أن يتبينَ في الحالِ التي تَلي حالَ عقيب الأمرِ ليُعلمَ
حكمُه مِن تعلقه في الذّمة أو توقيتِه، ولا مخرجَ من ذلكَ.
ون قال قائل: يجوزُ تأخيرُ بيانِ ذلكَ أوقاتاً كثيرة.
(3/28)
قيل له: فيجوزُ ذلك الشهورَ والسنين
الكثيرة، وإلا فما الفرق؟ وهذا يوجبُ صحةَ الوقفِ فيه أبداً،
وتحريمَ الإقدامِ عليه في كل وقتٍ، وذلكَ باطل.
ومما يدُل على فسادِ القولِ بالوقف، ودعواه على أهلِ اللغة في
أصل الوضع: علمُنا باتفاقِ أهل اللغةِ على مَدْح المُسارع الى
ما يؤمر به، واعتقادُهم فيه امتثالَ المأمورِ به، هذا معلوم من
حاَلهم وحكمِ مواضعتهم قبل مجيءِ الشرعِ. وقولهم: فلانٌ ممن
يُسارعُ إلى المرسوم، ولا يبطىء، ولا يتراخى فيما يؤمرُ به،
ولذلك ذهبَ كثيرٌ من الناسِ الَى القولِ بالفور دونَ التراخي،
وإن لم يقصد أهلُ اللغةِ عندنا ما ادّعوه، ولكنهم قصدوا الى
زيادة مَدْحِ من سارعَ الى امتثالِ أمرِ الآمرِ وبادرَ إليه،
وإن كان له تأخيرُ ذلك.
ومن هذا الوَجْه مَدحَ الله تعالى قوماً بذلك، فقال:
{يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}
[المؤمنون: 61]، فبطل دعوى أهلِ الوقفِ.
فصل
فيما استفدتُه من الأدَلّةِ على القولِ بالفورِ، مضافاً الى ما
تقدم ومفرداً عنه.
أنَهم قالوا: إنَّ لفظ الأمرِ اقتضى إيجابَ الفعلِ، وكونهُ
واجباً يقتضي إيقاعَ موجَبهِ، فوجب إيقاعُ الفعلِ مع الوجوب،
ولم يجُز تأخيره، ولذلكَ اقتضى إيقاعَ موجبيه الأخرين، وهما:
الاَعتقادُ والعزمُ على الفور.
(3/29)
فكذلكَ الفعلُ، ينبغي أن يقتضي إيقاعه (1)
على الفورِ.
فاعترضَ على هذا بعضُ من لا يرى الفور، فقال: ليس حصولُ الوجوب
مؤذِناً بإيجاب الفعلِ حالَ حُصول لفظِ الأمرِ به وحينَ سماعِ
لفظه، لأنه مُحالٌ، وَإنما يجبُ في الثاني فإذا انفصلَ أحدُهما
عن الآخر، أعني الفعلَ من لفظِ الأمر في حال، جازَ في حالين
وثلاث وأكثر.
وأمَّا قولُكم: إن الأمرَ اقتضى تعجيلَ فعلِ الاعتقادِ الذي هو
أحدُ موجبيِه، فإنه غَلَطٌ من عدةِ وجوه:
أحدها: أنَنا لم نقل: إن الاعتقادَ وجَبَ تقديمُ فعلهِ لأجل
حصول الأمرِ به فقط، ولكنْ لدليل أوجَب ذلك، فإن وُجِدَ في
تقديمِ الفعلِ وما يقوم مقامه، وإلا بطلَ الجمعُ بينهما.
والوجة الثاني: هو أنه لو كانَ الأمرُ المقتضي لفعل الاعتقادِ
وإيقاعِ الفعلِ، موجباً لتقديمِ فعلِ الأمرين -لِإيجابِه
تقديمَ أحَدِهما- لوجَبَ لا محالةَ إيجابُ تقديمِ الفعلِ
المؤقت بما يقتضي تأخيرَه لإِيجابِ الأمرِ به تقديمَ اعتقادِ
وجوبهِ، فلما اتفقَ على أنه لو قال له: قد أوجبتُ عليك إيقاعَ
الصلاةِ في رأسِ الشهر أو الحَوْلِ. لم يَجُز له تقديمُ فعلها
عقيبَ الأمرِ. وإن لزِمَه تقديمُ فعل اعتقادِ وجوبها سقطَ ما
قلتموه هذا.
على أنَه إذا وجبَ عندهم إيقاعُ الفعلِ عقيبَ الأمرِ، امتنعَ
وجودُ
__________
(1) أي الأمر يقتضي إيقاعَ الفعل على الفور.
(3/30)
العزم على أن سيفعل، لأن العزمَ عزم على
المستقبلِ، وتوطين للنفسَ على فعلهِ، وذلك لايصح في الواقعِ
الموجودِ، فلاوجه لقولهم: يجب تقديم الفعلِ كما يجبُ تقديمُ
العزم.
اعترضه من يقولُ بالفورِ، فقال له: فما الدليلُ الموجِبُ
لتقديم فعلِ الاعتقادِ على الفورِ؟
قال المعترضُ الذي لا يرى الفور: الدليلُ عليه أمور:
أحدها: الاتفاقُ على وجوب فعلِ الاعتقادِ على التكرارِ في جميع
الأوقاتِ التي يُذكر فيها الأمر، وأنَّ الأمرَ بذلكَ ليس بأمرٍ
باعتقادٍ وأخذٍ من الجنس واقع في زمنٍ واحد، وإنَّما أمر
بالاعتقاداتِ على الدوامِ، واذا كانَ ذلك كذلك، لَزِمَ إيقاعُه
على الفورِ وفيما بعده، وفي كلِّ وقتٍ ذُكرَ الأمرُ بالفعلِ
ليتمَّ كونُه على التكرارِ، ولما لم يجب الفعلُ المعتقدُ
وجوبُه على التكرار، لم يلزم إيقاعُه على الفورِ وما بَعْده،
وهذا واضح في الفصلِ بين الأمرين.
اعترض عليه من يقول بالفور فقال (1): ولِمَ لَمْ يجب الفعلُ
على التكرارِ كما وجب الاعتقادُ لوجوبِه؟
قال: إنَّما لم يجب لأنَّ الله تعالى لم يوجب ذلكَ، ولو أوجبه
للزمَ تكرارهُ.
قال: وقد يمكن أن يقال: إنَّه إنما لم يجب على التكرار، لكونه
مُضراً، وقاطعاً للحرث والنسلِ والمصالح، وليس كذلك فعل
__________
(1) مكررة في الأصل.
(3/31)
اعتقادِ الوجوبِ كلما ذُكِرَ الأمرُ، لأنه
غيرُ قاطع عن هذه الأمور.
قال: ومما يقتضي الفرقَ بينهما أيضاً؛ أن الاعتقادَ مما يتضمنه
العلمُ، لوجوبِ الفعلِ لا محالةَ، والتصديق للمخبر عن وجوبهِ
وتركِ الإِصرارِ على معصيته؛ وذلكَ أن الأمرَ لا يستقر وجوبه
إلا مع العلمِ بأنه واجب، أو التمكين من العلمِ بذلك، فإذا
أمرَ بإيقاع الفعلِ والتقرّب به مُعَجلاً أو مُؤجلًا، فلا بدَّ
من إعلامِه واشعارهِ بذلكَ، ومتى علم وجوبه، حصل مُعْتقِداً
لذلك، لأن اعتقادَ وجوبهِ ليس بأكثرَ من العلمِ بوجوبهِ، فصارَ
إفهامُ الوجوب متضمناً لاعتقادِ الوجوبِ، وهذا الاعتقادُ
عُلِمَ من فِعل الناظر المستدَل على وجوب ما أُمرَ به، وليسَ
لا يصحُّ له العلمُ بوجوب الفعلِ إلا بعدَ إيقاعهِ فَضلاً عن
تقديمه، لأنَّه لو عَلمَ بوجوبه واعتقدً ذلك لصح أن يتركه
جملةً، ويعصي إذا علمَ وجوبَ ما وقّت بوقتٍ متأخرٍ وجبَ اعتقاد
الوجوبِ معجلاً وتأخير الفعلِ، ومحال كونُه عالماً بوجوب
الواجب عليه مع تأخيرِ اعتقادِ وجوبهِ، لأن نفسَ الاعتقادِ
لوجوبهِ هو العلمُ بالوَجوبِ، فافترق الأمران.
قال: ولأنَ الله سبحانه إذا أوجبَ فعلاً، فقد أخبره باستقرارِ
وجوبهِ عليه، ولزمه عند ذلك اعتقادُ كونهِ واجباً لكي يكونَ
بذلك مصدقاً لخبرِ الله تعالى عن إيجابهِ عليه، والا كان
مُكذباً الله، وشاكاً في خَبرِه، وذلك مُحرم بإجماع المسلمين،
وهو لا يحتاج في تصديقِ الخبر عن إيجابِ الواجبِ إلىَ إيقاعِ
فعلِ الواجب، فافترق الأمران.
قال: ولأنه متى علمَ وجوبَ الفعلِ عليه، واعتقدَ ذلك، لم
يَخْلُ اعتقاده وجوبَ ذلك، وتصديقَ المخبرِ له عن وجوبه من أن
يكونَ عازماً على ما اعتقد وجويَه أو تاركاً هذا العزم، وقد
اتفقَ على تحريمِ تركِ
(3/32)
هذا العزم في كلّ وقتٍ، لأنه لا متركَ له
مع ذكِر العبادةِ إلا بالعزمِ على تركِ الواجب وكلِّ عصيانٍ،
فافترق الأمران.
ومما استدلَّ القائلونَ بالفورِ أنَهم قالوا: إنه لا يخلو
الأمرُ المطلقُ عن التوقيتِ من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يكون بفعلِ الشيءِ على الدوامِ والتكرارِ.
أو يكونَ أمراً بالفعلِ على البدلِ، فيكون أمراً بفعلٍ غير
معين ليوقعَه المكلف أيَّ وقتٍ شاء.
أو أن يكون أمراً بفعل واحد لا على الجمع ولا على البدل.
قالوا: وقد اتفق على أن ذلك لا يصحُ أن يقال فيما يلزمُ على
التكرار، وإنَما الخلاف في فعلى واحد أو جملةٍ يصحُ أن تقدمَ
ويصح أنْ تؤخر، فسقطَ هذا الوجْهُ، وإن كان أمراً بفعل على
البدل غير معين، بل شائعاً في جميعِ الأوقات، فذلك باطلٌ، لأن
ما هذه حاله إنَما هو أمر بافعال مخيرٌ فيها، كلُّ واحدٍ منها
غيرُ صاحبهِ، يقعُ في أزمانٍ متغايرةٍ، والأمر إنما اقتضى
لفظُه تعلقَه بفعل واحدٍ دون أفعالٍ كثيرةٍ يقع على الضَم أو
على البدلِ والتخيير، فلا سبيلَ إلى حَمْل الأمرِ على غير
موجَبه ومقتضاه، أو أن يكونَ أمراً بفعلٍ واحدٍ معين، فإن كانَ
كذلك وجب أن ينظر أيَ الأزمانِ زمانُه الذي يجب أن يقع فيه،
فإذا عرفنا أنَ ذلكَ الزمنَ وحده هو وقته وأنَه هو المراد
إيقاعه فيه، وجب أن يكون إيقاعه فيه هو المصلحة، وإيقاعهُ في
غيره مفسدة غير مراد.
قالوا -أعني هؤلاء القائلين بالفور-: وقد اتفقَ الكُلُّ على
أَنَّ الأمرَ
(3/33)
المطلقَ بالفعلِ إذا فُعِل عقيبَ الأمرِ،
حَصَل به أداءُ الواجبِ وبراءةُ الذِّمة، وكان فيه المصلحةُ
وموافقةُ المرادِ، وإذا ثبتَ ذلكَ من حكمِ الوقتِ الأوّلِ،
عُلم أن الوقتَ الثاني وما بَعْده من الأوقاتِ ليس بوقتٍ له،
لأن ما يقعُ في الوقتِ الأولِ من أفعالِ العبادِ، لا يصح
تقديمُه على وقته، ولا تأخيرُه، ولا إعادته بعدَ عدمهِ، وما
يقعُ في غيرِ وقتهِ من جنسهِ، فإنَّه غيرُه، وجبَ لزومُ الفعلِ
على الفور.
واعترض عليهم من قال بالتّراخي بأنْ قال: أمَّا دعواكم أنَه لا
يجوزُ أن يكونَ أمراً بفعلٍ غيرِ معين، وأنَ ذلك الفعلَ قد
خُيرَ المكلفُ بين فعلهِ وفعلِ مثلِه في غير وقته، فإنَه عينُ
الخلافِ الواقعِ، فلِمَ قلتم ذلك؟
قال: فإن قالوا: لأنَ أمره بالفعلِ ليسَ في ظاهرهِ أنك
مُخَيّرٌ بينه وبين غيره.
قيلَ لهم: ليسَ في ظاهره أنَك مأمورٌ بواحدٍ من الجنس معيّن
بوقتٍ مخصوصٍ دونَ مثله، فلا يجب أن تقولوا بذلك.
قال: ويقال لهم أيضاً: ما أنكرتم أنَه متى قيل له: صلّ، أو
اضرب. ولم يعَين له وقتاً من وقتٍ، فقد دل بذلكَ على أنَه أمر
بفعلٍ من الجنس غير مُعَين، ولم يكن مبيناً عن إيقاعه في وقتٍ
مخصوص، ولا أُرِيْدَ من الجنس جزءاً مخصوصاً، وإنَّما ارِيدَ
أن يفعل جزءاً من الجنس يقع عليه اسمُ الفعلِ في أيِّ وقتٍ شاء
إن علم أنه سيوقع المأمور به، كما أنَه إذا قيل له: اضرب
رجلًا، وتصدق على فقير. ولم يخص رجلًا من رَجلٍ، ولا فقيراً من
فقير، علم أنَه قصد إلى إيجاب
(3/34)
الفعلِ بغيرِ تعيين أحدٍ بعينه، وإن كُنّا
نعلمُ أنَ كُلَّ ضربٍ يُفعل في شخص، فإنَّه غيرُ الضرب
المفعولِ في غيرهِ، أو ما من سبيله أن يُفْعَل في غيره، وإن لم
يَرد لفظُ التخييرِ بأن يقال له: اضرب من شئتَ، وهذا بيِّنٌ في
سقوط ما اعتمدوا عليه.
قال: فأمَّا قولُهم إِنً الِإجماعَ قد حصل على أنَّ تقديمَ
فعلهِ مصلحةٌ، وأدَاءَ الواجبِ تبرأ به الذِّمةُ، وأنَّ ذلك
دليلٌ على أنَّ ما يقعُ بعدَ ذلكَ ليس بواجبِ ولا مصلحةٍ،
فإنَّه قول ظاهرُ البطلانِ، لأنه ليسِ في الِإجماعِ على أنَّ
تقديمه مصلحة وأداءٌ للواجب، دليلٌ على أنَّ فعلَ مثلِه
وتأخيره ليس بواجبٍ ولا مصلحةٍ، وهذا هو الذي يحتاجون إليه،
ولا إجماعَ فيه، فيسقط ما قالوه.
وممَا استدلَّ به القائلونَ بالفور: قالوا: لو كان على
التَراخي، لم يَخْلُ من أحدِ أمرين إما أنْ يكونَ له تأخيرُ
الفعلِ إلى غايةٍ معلومة.
أو إلى غير غايةٍ.
فإن كان إلى غايةٍ محدودةٍ، فذلكَ يوجبُ توقيته، وأن يكون
كالصلاةِ الموسَعِ وقتُها بوقتٍ مصروفٍ، وذلكَ خلافُ القولِ
بالتراخي، وأنه لا وقتَ يشار إليه.
فيقال: إن إطلاقَ الأمر يقتضي توقيتَه به، وألا تمكن الزيادةُ
عليه والنقصان منه، فبطل القولُ بذلك، وإن كان له تأخيرهُ
أبداً إلى أن يموتَ بغيرِ توقيتٍ، فلا وقتَ إلا وله تركُ
الفعلِ فيه، وهذا يوجب ضُروباً من المحال:
(3/35)
أحدها: أن يكونَ الفعلُ نفلاً، وخلافُنا في
كل أمرٍ واجب، إمّا بصيغته، وإمّا بدليله، وإما بإطلاقه، وما
أخرَجَ الواجب عن كونِه واجباً باطلٌ باتفاقٍ، وليس للندبِ صفة
يختص بها، إلا أنَ له فعلَه مع الثوابِ عليه، وله تركُه، فإذا
كان هذا صفةَ الواجب على التراخى، وجبَ أن يكونَ نفلَاَ، وذلك
باطلٌ.
والوجهُ الآخر: أنَ كثيراً ممن قال بالتراخي، يجعلُ المكلفَ
بموتهِ قبل إيقاع فعله آثماً حَرِجاً، وذلك باطل، لأنَه تركه
عندهم مع أنَ له تركَه، فلم يجبْ تأثيمهُ.
والوجهُ الآخر: أنَه يوجب أن يكونَ اللهُ سبحانهَ قد فرضَ
فرضاً معلومَ العين، مخصوصاً في زمنٍ مجهول الآخر، لا نعرفُ
غايتَه، وذلكَ بمثابةِ تكليفِ المحالِ وما لا يطاق، وإذا قيل
ذلك بَطَل القول بالتراخي، وصحَ أنه على الفور.
فاعترض من قال بالتراخي فقال: جميعُ ما ذكرتموه باطلٌ، سوى
قولِكم: إنَّه إن مات الى المكلّف قبل فعله غير آثم، وقولكم:
إنه لا يجوز أن يكون التراخي إلى غاية مُحدّدة، فصحيح لأنه لا
حد له، ولا نهايةَ يشارُ إليهما، وإنْ ماتَ قبل امتثِاله فهو
عندنا غير آثم، ويخطىءُ من قال: إني أتبيّن بموته أنه كان
مفَرطاً.
وأمّا قولُكم: إنَه لو كانَ له فعلهُ في كل وقتٍ، وله تركُه
إلى أن يموتَ للَحِقَ بالنفلِ، فإنَه باطل؛ لأنَ النفلَ لم يكن
نفلًا لأنَه يحل تركهُ، لأن المباحَ له تركهُ، وليسَ بنفلٍ،
ولا كانَ أيضاً نفلًا، لأن فعله خيرٌ من تركهِ، مع تحليل تركه،
لأن الواجب الموسَّعَ والساقطَ إلى
(3/36)
بدلٍ، فعلُه خيرمن تركه مع تحليل تركه في
وقتِ التوسعةِ، وليس بندبِ لو فعل فيه، بل واجبٌ، فلِمَ زعمتم
أنَ الندبَ إنما يكونُ ندباً لأجل وصفتم؟
وما أنكرتم أن يكونَ إنَما صارَ ندباً لِما قلتم ولأمرٍ آخر
زائدٍ عليه.
قال: وإنْ قال أهلُ الفورِ: وما ذلكَ الأمر الذي لأجله
وبانضمامه إلى ما ذكرنا صار ندباً؟
قال: لا يلزمنا ذكره.
قال: ثم يقالُ لهم: ما أنكرتُم أن يكونَ الندبُ إنَما كان
نَدْباً، لأنَّ فعلهَ قربةً، خيرٌ من تركه، لا بشرطٍ، ولا على
صفةٍ، بل لجوازِ تركهِ على كُلِّ حالٍ، وأن تكون كل قربةٍ
فعلها خيرٌ من تركِها مع جوازِ تركِه لشرطٍ مخصوصٍ أنْ يَدُل
على خلافهِ حرمَ التركُ، فليس بندبٍ، وهذه صفةُ الواجبِ على
التراخي، والواجبِ الموسَعِ وقتهُ، والساقطِ إلى بدلٍ.
وذلك أنه لا يجوز تركُ الواجبِ على التراخي إلابأحدِ شرطين:
إما بأن يقول بفعلِ العَزم على أن سيفعلَه في المستقبل، ولا
يحلُّ تركُه وتركُ العزمِ على فعلِ مثلهِ فيما بعد.
أو بأنْ يتركَه بشريطةِ أنْ يفعلَ مثلَه فيما بعد، ولا يحلُّ
تركهُ إلا على أنْ يفعلَ في المستقبلِ مثله، وكذلكَ حكمُ
الواجب الموسعِ والساقطِ إلى بدلِ؛ إنَما يسوغُ تركهُ على صفةٍ
وبشرطٍ يفارقُ فيها تركَ البدلِ، وإذا كانَ كذلك وضُحَ الفرقُ
بين الأمرين، وبطل ما قالوه في
(3/37)
حدّ الندب.
قال: فإن قالَ منهم قائل: هذان الشرطانِ باطلان، لا سبيلَ إلى
إثباتهما لأجلِ اتفاقِنا جميعاً على أنَّ الأمرَ اقتضاءُ وجوبِ
الفعلِ، إمَّا بنفسهِ أو بقرينتهِ، وأنً ما يقتضي وجوبَ فعل
معين لا يوجبُ فعلَ عزمٍ على فعلِ مثلهِ بدلَاً منه، ولايوجبُ
فعلَ مثلهِ فيما بعد، ولاشيئاً غيره من سائرِ الأجناسِ،
وإنَّما وجبَ فعلُه بعينه، وإذا كان هذا مقتضى الأمرِ بالفعل،
وكانَ الكلام في مقتضاه، سقطَ ما وضعتم، لأنَّ ما قلتموه يوجبُ
التخييرَ بينَ الفعلِ وبينَ مثلهِ فيما بعد، وبينه وبينَ
العزمِ على فعلِ مثلهِ فيما بعد، فلا يقتضي التخيير بينَه
وبينَ مثلهِ أو بينَ خلافهِ، ولا دلَّ أيضاً على ذلكَ دليل
فيصارُ إليه، ولو دل عليه دليلٌ لم يكنْ ذلك من مقتضى الأمرِ
وإنما كان من مقتضى الدليل، فليسَ الكلامُ في مقتضى الدليل،
وإنَّما هو في مقتضى الأمرِ، فبَطَل ماقلتم.
قال: يقال لهم: إنً ما قلتموه ساقطٌ من وجهين (1):
أحدهما: أنَّ إطلاقَ الأمرِ بالفعلِ لا يقتضي إيقاعَ فعل
معيَّن من ذلك الجنسِ المذكور في زمنٍ معيِّن، وإنما يقتضي
إيقاعَ فعل واحدٍ من الجنسِ بغير عينه، وغيرِ تعيين الوقتِ،
كما أنَّ قول الآمرِ: اضرب رجُلَاَ. لا يقتضي ضرباً معيناً في
رَجُلٍ مُعَيّن، وإنما يقتضي فعل جزءٍ من الجنسِ في أيِّ
الرجالِ شاءَ المكلّفُ.
__________
(1) بيين ابن عقيل الوجه الأول، ولم يذكر الوجه الثاني!
(3/38)
فليسَ لأحدٍ أنْ يدفعَ هذا بأن يقول: ليس
للتخييرِ بين فعلِ أيِّ أجزاءِ الضرب شاء، وفي أيّ الرجالِ
شاءَ لفظ، والأمرُ إنما اقتضى أمراً معيناً في رَجُلٍ معيّن،
فلا وجهَ للتخيير، لأنَّنا قد بّينا فيما سلف أنَّه إذا لم
يعيّن جزءاً من الفعل، ولا وقتاً له، فقد خيّره في أي جزء شاء
أنْ يفعله في أيّ وقتٍ شاء بغيروجهٍ، فبطلَ ما قالوه.
قال: وأما قولهم: إنَّ الدليلَ لم يَدُلَّ على أن إثباتَ العزم
بدلًا من الفعل، فليس الأمرُ كذلك، بل قد قامَ الدليلُ عليه،
وإن كانَ الأمرُ به لا يقتضي إثباتَ بدلٍ منه، وهو أنَه إذا
ثبتَ بما قدمناه أن الأمرَ بالفعل لا يقتضي تعجُّله، ولا يوجبُ
تأثيمَ المؤخر له، ولا يقتضي أن يكون أمراً بفعلِ جزءٍ من
الجنسِ في وقتٍ معين، وجبَ أن يكون أمراً بفعلٍ واحد من الجنسِ
بغيرِ عينه، ومتى ثبتَ ذلك وجب تخييرُ المكلّفِ بين الفعلِ في
كل وقتٍ، وبين تركهِ وفعلِ مثلهِ فيما بعد، وإذا كان له تركهُ
في كل وقت لم يكن بُدّ من أن يكونَ له تركه على خلافِ تركِ
النفلَ.
فصلٌ
في الأجوبةِ عمَّا ذكره أهلُ التراخي (1).
أمَّا قولُهم: ليسَ في الصيغةِ ما يقتضي زماناً ولا مكاناً،
فكما لا يختص بمكانٍ، لا يختض بزمانٍ.
__________
(1) تُنظر بعض هذه الأجوبة في "العدة" 1/ 283 - 289.
و"التمهيد" 2/ 235 - 240.
(3/39)
لا نُسَلم (1)، بل فيها اقتضاء بإيجادِ
الفعلِ في الزمانِ الذي يلي الأمرَ بلا فصلٍ، لأنَّ ظاهرَ
اللفظِ يعطي الإِيجادَ، ولا تأخيرَ في اللفظِ، ولا مهلةَ ولا
تخييرَ، فكأنَ الأمرَ الجزمَ من حيث اقتضى الِإيجابَ النافي
للتخييرِ بين الفعلِ والتركِ، اقتضى الِإيجاد عقيبَ الأمرِ بلا
تخييرٍ، فلا يبقى إلا الفورُ.
ولأنَّه ليسَ في اللفظِ ذكرُ الاعتقادِ والعزمِ ووقتهما، ومع
ذلك
يجبانِ على الفورِ، وهما تابعانِ للفعلِ.
وكذلكَ النهيُ المطلقُ، لا ذكرَ للوقتِ فيه، ومع ذلك يجبُ
التركُ على الفورِ.
ولما في الزمانِ الذي يعقب لفظ الأمرِ من الموافقةِ والمصلحةِ
والإِجزاءِ ونفي المفسدةِ، ولِإجماعِ أهلِ اللغةِ والأصولِ على
أنَه وقت لحصولِ الطاعةِ والامتثالِ بإيقاعِ الفعلِ فيه.
ولا نُسَلِّمُ الأصلَ، فإنَ المكان الذي يكون فيه المكلفُ
عقيبَ الأمرِ يختصُ بالفعلِ ما لم يَكُ فيه مانع يمنعُ الشرعُ
من الامتثالِ فيه، كالبقعةِ النجسةِ مع كونِ المأمورِ به
صلاةً، إلى ما شاكلَ ذلكَ من الأمرِ بالاعتكافِ، وهو في بقعةٍ
ليست مسجداً، فيخرج ويفعل وإن كان في بقعةٍ صالحةٍ وجبَ شروعُه
في الفعلِ، لكن يختص المكانُ بالفعلِ تبعاً للزمانِ، إذ لا
ينفكُّ بخروجه عنه من تراخٍ بزمانٍ، فلذلكَ اختص بمكانِ
الأمرِ.
__________
(1) ورد في الهامش ما نصه:"بلغ العرض من أول الكتاب بأصل
المصنف ومنه نقل".
(3/40)
وقصةُ عامُ الحديبيةِ مشتركة، فإن عمر كان
من أهل اللغةِ، وقد تعجّل الوعد (1)، وطلب ذلك، واعترض
بالتأخير والتعذّر.
ولأنَ الوعدَ بالدخولِ يخالفُ الأمر:
فإنَ العِدةَ في نفسِ وضعها تقتضي الاستقبالَ، ومن أراد أن
يُعَجِّلَ لا يعِدْ، وإنَما تحصلُ العِداتُ بالأمورِ في غالبِ
الأحوالِ لنوعٍ تعذَرَ في الحالِ، أو لمصلحةٍ تقتضي التأخيرَ.
والأمرُ اقتضاءٌ، وبينَ العِدةِ والاقتضاءِ ما يشهد به طبعُ
اللفظِ وجوهرُ الكلامَ.
وكذلك لا يحسُنُ الاقتضاءُ بالعِدةِ عقب التلفظِ بها، ويحسنُ
الاقتضاءُ بالائتمارِ والامتثالِ عقيب التلفظ به، ولذلكَ لا
يحسُنُ أن يسمّى من تأخرت عِدتهُ عن مجلس الوعد مخلِفاً، ويسمي
من تأخّر عن امتثالِ الأمرِ مخالفاً وعاصياً في مطَردِ العادِة
العربيةِ، إلا فيما كان فيه دلالةُ حال تقتضي التأخيرَ.
وقد شهدَ لذلكَ القرآن في قصة المأمورين بذبح البقرة لما
توقفوا بنفس الاستعلامِ عن صفاتِها، ذمَّهم الشرع، فقال صلى
الله عليه وسلم "شدَّدوا فشدّدَ عليهم" (2).
__________
(1) حصلَ ذلكَ فىِ الحديبية حيث قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر
رضي الله عنه وقد صدهم المشركون عام الحديبية: أليس قد وعدنا
الله بالدخول فكيف صدونا. وقد تقدمت الإشارة اليه: 2/ 35.
(2) سلف تخريجه في الصفحة: 26.
(3/41)
ولو قال قائل: سنذبحُ بقرةً. لمَا ذُمّ
بتأخُرِها، ولأنَا لا نعلمُ المصلحةَ في تعجيلِ الوعد، بل قد
يكونُ التأخيرُ هو الأصلحَ، وبالإِجماعِ أن التعجيلَ مصلحة،
وما بعده من الأوقاتِ لا يؤمَنُ أن يكونَ مَفْسَدةً.
وأما التعلقُ بالأيمانِ فلا حُجةَ فيه، لأنَ الأيمانَ من قبيل
العِدة، وقد تكلمنا عليها على أنها محمولة على العرفِ، فهي
مقيدة به أبداً، ولذلكَ تقيدت الرؤوسُ فيها بالمأكول عُرفاً،
وكذلكَ اللبسُ والركوبُ وقف على الملبوسِ والمركوبِ عُرْفاً.
فأمَّا الأعيانُ، فلا تتخصَّص على ما قدمنا، والوقتُ الذي يلي
الأمرَ يتخصّصُ بما ذكرنا من كونِه صالحاً وغيرَ مفسدةٍ، وإن
افتعلَ فيه امتثالٌ وقربةٌ، وليس في بقيةِ الأوقاتِ ما هو
[صالح] إلا بتردّد، بخلاف الأعيان، فإنه لا ذبيحةَ تختصُ بمثلِ
ذلكَ دونَ ذبيحةٍ أخرى، ولأنه لا عينَ يعدلُ غيره إلى غيرها
فيعد متوانياً، أو تاركاً، أو متغافِلًا، بخلافِ الوقت
الأوَّلِ، لأنَه تخلى عن الفعل بالتراخي، ولأنَه يجبُ فيه
الاعتقادُ والعزمُ، ولا عينَ يتعلّق بها حكمَ سوى التي يذبحها
ويعتقُها.
فإن قيل: فتخصيصُ الوقتِ الأولِ بما ذكرتم يعطي أنَ بالقرينةِ
الدالّةِ على تخصص الوقت ذهبتم إلى الفور، ونحن لا نمنعُ
الفورَ بقرينةٍ، وهذا ترك لنصرةِ المسألةِ، لأنَا نتكلمُ في
الأمرِ المطلق.
قيل: تخصصُ الوقتِ الأولِ بهذه الخصائصِ ليسَ بقرينةٍ، لكن
شريطة، ولو جاز أن يدعى قرينةً، لكان اعتبارُ الرتبةِ للأمرِ
قرينةً، ومعلوم أنَنا وإياكم نقولُ بوجوبِ الأمرِ لا بقرينةٍ،
وإنْ اعتبرنا الرتبةَ في
(3/42)
ذلك، والله أعلم.
فصل
اختلفَ العلماءُ في أمرِ الله سبحانهَ بالعبادةِ إذا تعلَّق
بوقتٍ موسّع، كالصلاة، فهل يتعلق الوجوب بأوّل الوقت، أو
بآخره، أو بالجميع؟
فذهبَ أصحابنا إلى تعلقِ الوجوب بجميع الوقت، من أوّله إلى
آخره (1)، وأصحابُ الشافعيّ إلى أن الوجوبَ يتعلّق بالوقت
الأول، وأيّ وقتٍ فَعَلَها فيه، من الأولِ والأوسطِ والآخرِ،
كان الفعلُ أداءً للواجبِ (2).
وقال أكثر أصحابِ أبي حنيفة: يتعلق الوجوبُ بآخرِ الوقت (3).
__________
(1) هذا ما نص عليه الحنابلة، انظر "العدة" 1/ 310،
و"التمهيد"1/ 245، و"المسودة" ص (28 - 29)، و"شرح الكوكب
المنير"1/ 369، و"شرح مختصر الروضة"1/ 330 - 333.
(2) أي أن الوجوب يتعلق بأول الوقت وجوباً موسعاً، ففي أي وقتٍ
وقع الفعل كان أدًاء لاقضاءً، سواءٌ أكان بأوله أم بأوسطه أم
بآخره. وهم في ذلك لا يخالفون الحنابلة من حيث النتيجة والمآل.
انظر"التبَصرة" ص (65)، و"المستصفى" 1/ 69، و"المحصول"2/ 174،
و"البحر المحيط"1/ 208 - 209.
(3) بين الجصَاص في "الفصول" 2/ 121 - 122 أن للحنفية في
الواجب الموسع رأيين:
الأول: أن الأمرَ إذا وردَ مؤقتاً بوقت له أول وآخر، وأجيزَ له
تأخيره إلى آخر الوقت، فقد وجبَ في أول الوقت وجوياً موسعاً،
فإذا انتهى إلى آخر الوقت بمقدار ما يؤدى فيه الفرض صار وجوبه
مضيقاً. وهو معنى ما ذهب إليه محمد =
(3/43)
وقال أبو الحسنِ الكرخي: يتعلَقُ الوجوبُ
بوقتٍ غير معيّن، ويتعين بالفعل، كما قال الفقهاءُ أجمعُ في
الأعيان المخير بينها في الكفارات (1).
وقال بعضُ أصحاب أبي حنيفة: إذا فعلَ العبادة في أوّلِ الوقتِ
كانت نفلًا يمنع وجوبُهاَ في آخره.
ومنهم من قال: يقع مراعاةً (2).
__________
= ابن شجاع الثلجي.
والثاني: أن الوجوب في مثله يتعلق بآخر الوقت، فإن أول الوقت
لم يوجب عليه شيئاً، وما فعله في أول الوقت يكون نفلًا يمنع
لزوم الفرض في آخره.
وهو قول أكثر العراقيين.
وانظر "أصول السرخسي" 1/ 31، و"فواتح الرحموت" 1/ 73 - 74.
(1) هذا ما نقله أبو بكر الجصَّاص عن الشيخ أبي الحسن. انظر
"الفصول" 2/ 123 - 125.
(2) هذه الأقوال ليست منفصلة عن قول أكثر أصحاب أبي حنيفة، بأن
الواجبَ الموسعَ يتعلق بآخر الوقت بل هي لازمة لها، ذلك أن
الدين قالوا: بأن الواجبَ الموسَّعَ يتعلقُ بآخرِ الوقت،
اختلفوا في حكم الواقع في أوله:
فقال بعضهم: إن ما فعله في أوَّل الوقت نفل يمنع لزوم الفرض في
آخره، مثل رجل محدث توضأ قبل مجيءوقت الصلاة فيكون متنفلًا
بطهارته، ويمنع ذلك لزوم فرض الطهارة له عند مجيء وقت الفرض.
وقال الآخرون: ما فعلَه في أول الوقت موقوف على ما يظهر من
حاله في آخر الوقت، فمن لحق آخره وهو من أهل الخطاب بها، كان
ما أداه فرضا، وإن لم يكن من أهل الخطاب بها كان المفعول في
أول الوقت نفلًا.
وهذا ما عناه ابن عقيل بقوله: "ومنهم من قال: يقع مراعاة" أي
مراعاة ما يكون عليه المكلف بالخطاب في آخر الوقت. =
(3/44)
ووافقنا على المذهب الأول القاضي الإِمام
أبو بكر الباقلاني.
وما اختلف أهلُ العلمِ أجمعَ على أنَه لا يأثم بالتأخر عن
أوله؛ من قال بالوجوب، ومن لم يقل.
واتفقوا أنها إذا فعلت بعد خروج الوقت كانت قضاءً، وإذا فُعلت
في أوَّلهِ كانت أداءً لا سَلَفاً، بل واقعةٌ موقع الواجب، من
قال بأن الوجوب يتعلّق بالوقت الأول منهم، ومن قال يتعلق
بالوقت الأخير.
اتفقوا على المذهب وأنها تقعُ أداءً في أوَلهِ، قضاءً بعد
خروجه.
فصلٌ
في اختلافِ القائلين بأنه واجبٌ في جميع أجزاءِ الوقت، وأنَ له
تقديمَه، وله تأخيرهُ، هل له تركُه في أول الوقت إلى وسطِه
وآخِره ببدل يقوم مقامَه، أو لا؟ فقال منهم قائلون: إنَه ليس
له تركُه في أوّل الوقت وما يليه إلى حين وقت التضييق إلا ببدل
يقوم مقامه.
ولأنَه لا شيءَ يصحُ أن يكونَ بدلًا إلا فعل العزم على أدائه
في المستقبل، إن بقي بصفة من يلزمه الفعل، وهو شروطُ التكليفِ
التي يصحُّ مع وجودِها الخطاب به (1).
__________
= انظر "الفصول في الاصول" 2/ 122، و "أصول السرخسي" 1/ 32
(1) هذا ما ذهب إليه القاضي أبو يعلى حيث بين ثمرة الخلاف بينه
وبين من يقول إن الواجب يتعلق بآخر الوقت، فقال:
" ... وليس بخلاف في عبادة، لأنا لا نجيز له تأخيرَ الفعل عن
أول الوقت إلى آخره إلا بشرطِ العزم" أي بشرط العزم على فعله،
انظر "العدة" 1/ 311.
وهو رأيُ جمهور المتكلمين وفق ما قرره الزركشي في "البحر
المحيط" حيث =
(3/45)
وقال آخرون: إنه مراعى إذا فعل في أول
الوقت، لا يقال: إنه فرض ولا نفل؛ فإن دخل آخرُ الوقت على
المكلّف، وهو بصفة من يلزمه الفعل تبيّنا أن ما كان فعَلهَ في
أوّل الوقت فرض واجبٌ.
وإن لم يبق إلى آخر الوقت أو بقي، لكنه لم يكن على صفة من
يلزمه الفعل، كان ما وقع منه في أول الوقت نفلًا لا فرضاً.
وقال قومٌ من أهل العراق: إنه نفل إذا فُعل في أوّل الوقت،
وإنه نائب عن الفرض إذا بقي المكلّفُ بصفةِ من يلزمه الفعلُ في
آخرِ الوقت.
فصل
في جمعِ أدلّتنا وحُججنا، وأدلّةِ من وافقنا في أنَّ الوجوبَ
يعمُّ سائرَ أجزاءِ الوقتِ؛ أوَّله، ووسَطه، وآخرهَ.
من ذلكَ قولُه تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] فالدلوك: وقتٌ علِّقَ
عليه الفعلُ بالأمر المطلقِ، وهو الغروبُ، وسيقَ الأمرُ فيه
إلى غايةٍ، هي الغَسَقُ، وليس يقتضي امتداد فعلِها تطويلاً لها
إلى غسقِ الليلِ، فلم يبق إلا أنه أراد امتداد الوقت لابتداء
فعلها في أيّ أجزاء الوقت الذي ابتداؤه الغروب، وآخره الغسق.
وهو غيبوبةُ الشفق.
__________
= قال:" وجمهور المتكلمين على أنه لا يجوز تركه إلا ببدل وهو
العزم على الفعل في ثاني الحال" "لبحر المحيط"1/ 210.
(3/46)
ومن ذلكَ: أنَ الوقتَ الأول والأوسطَ
والأخيرَ أوقاتٌ متساويةُ الأجزاءِ، في أنَّ فعلَ الصلاةِ فيها
يسقطُ به الفرضُ، ولا يسقطُ الفرضُ فيها إلا لتساويها في
تعلُّقِ الوجوب بها وعليها، فلا يتخصصُ الأخيرُ بالوجوبِ دونَ
الأوَّل مع هذا التساَوي.
فإن قيل: قد يتساويانِ في الإِجزاء، ويختص الوجوب بواحدٍ لا
سيَّما وقد اختَصَّ الأخيرُ بخصيصةِ الوجوب، وهو مأثم التركِ،
وإذا جازَ أن تتساوى أجزاءُ الوقتِ، ويختص أحدُها بلحوقِ
المأثمِ في الترك فيه، جازَ أن تتساوى الأجزاءُ ويختصّ بعضهُا
بالوجوبِ.
قيلَ: الأخيرُ لم يحصل المأثم بالترك فيه، لكن لمّا تعذّر
الفعل بخروجه للترك فيما قبله أيضاً، صار المأثمُ ظاهراً
بالترك في جميع الأوقات عند الإِياسِ والتعذّرِ، وقد يظهرُ
المأثمُ عنده ولا يكونُ بالتركِ فيه خاصّةٌ، كآحادِ المكلفين
في فروضِ الكفايات، ظهر الإِثمُ في تركِ الآخر من القوم، وكانَ
المأثمُ بتركِ الكلِّ، لا بتركِ هذا الذي ظهرَ الإِثمُ بتركِه،
وكَذلكَ الأعيانُ في كفارةِ التخيير، وما صار هذا إلا كأصلين:
أحدهما (1) أعيانُ التكفيرِ المضمنةُ للتخييرِ بأنها تكفر
ويسقط الفرض.
وعندهم أنَ الوجوبَ لا يعم الأعيانَ الثلاثةَ، بل يختصُّ
بواحدٍ منها، وإن كانت سواءً في وقوعِها موقعَ الإِجزاءِ
وتفريغِ الذمّةِ والتكفيرِ للذنب، والمكلفين في فروضِ
الكفاياتِ الفرضُ يسقط عن الكُل
__________
(1) ذكر ابن عقيل أحد الأصلين ولم يذكر الآخر!
(3/47)
بفعلِ كلّ واحدٍ منهم، والوجوبُ لا يعمّ
الجميع.
قالوا: ويقالُ لكم في الأوقات هاهنا ما قلتم لمن عمَّ أعيانَ
التكفير بالإيجاب، وهو: أنه لو كَان الإيجابُ عمَّ سائرَ
الأوقاتِ، لوجَبَ إذا أخَلَّ بالفعلِ فيها أن يأثمَ بتركِ
الصلاةِ في الكُلِّ، كما ادعيتم أنَه لو كانَ الوجوبُ يعمُّ
الأعيانَ، لأثِمَ بتركِ التكفيرِ بالكُلِّ إذا أخلَّ
بالتكفيرِ، وكما يأثم جَميعُ أهلِ القريةِ والمحلّةِ إذا
أخلّوا بفروضِ الكفايات.
قيل: تعليقُ الأمرِ على الوقتِ لا يخلو أن يكونَ تعليقَ سببٍ
أو شرطٍ:
فإذا وجدَ الوقتُ الأولُ، وهو شرط أو سببٌ، حَصل الوجوبُ، لأنَ
الأمرَ هو الموجبُ لكونِ الوقتِ شرطاً أو سبباً، فإذا دخل
الوقتُ ثم حصلَ الاتفاقُ على أنَّه يحصلُ بالفعلِ فيه
الامتثالُ وما يتلوه من الزمانِ، كذلكَ إلى آخر الوقت، فلا
وجهَ لتخصيص وقتٍ من هذه الأوقاتِ.
وكيف يُدَّعى تخصيص وقتٍ مع كونِ النصِّ عمَّ هذه الأوقاتِ،
أعني الأولَ والوسطَ والآخرَ، وهل هو إلا كالعمومِ الذي لا
يتخصصُ الأمرُ فيه بعينٍ من الأعيانِ.
وأمَّا دعواهم أنَ الأخيرَ يُخَصَصُ بالمأثَم، فلا يلزمُ من
وجهين:
أحدهما: أنه لا يمتنعُ أن يقال: إنه لا يتخصصُ المأثمُ عند
خروجِ الوقتِ بالتركِ في الوقتِ الآخرِ، بل يعم المأثمُ
بالتركِ في الأوقاتِ كُلِّها، لأنَ الله سبحانهَ وسعَ الوقتَ
رخصةً، بشرطِ الفعلِ، لأنَّه رخصةٌ
(3/48)
لتسهيلِ الفعلِ على المكلفِ، فإذا قابل
ذلكَ بالتركِ، تبيّنا أنه ليس بأهلٍ للرخصةِ.
وما ذلكَ إلا بمثابةِ من أهملَ فِعْلَ الصلاةِ في السفرِ وتركَ
الطهارةَ ولم يُصلِّ يومَ الجمعةِ الجمعةَ، ولا الظهرَ، وهو من
أهملَ الظهر، ولكنه يصحُ منه فعلُ الجمعةِ، فإنَه إذا فاتت هذه
العباداتُ بتركه أثمَ مأثمَ من تركَ الصلاةَ التامةَ والطهارةَ
التامةَ، ولا تبقى عليه الرخصةُ، ويعاتب على تركِ ركعتين، إذ
كانت الرخصةُ في الفعلِ، فإذا فوَّتَ الفعلَ لم تتحصل الرخصة،
وحوسبَ بالأصلِ.
وكذلكَ الرخص في فروضِ الكفاياتِ، فإذا تركَ الكُل أثمَ
الكُلُّ مأثم الواجب المتعين، وشوى في المأثمِ بينَ من تركَ
تكاسلًا، وبين من تركَ اعتمَاداً على أنَ غيره يفعلُها لا
تكاسلًا منه، ولم نقل: يخص بالمأثم من كسِلَ ولم يفعل دون من
اعتمدَ على غيره، وظن أن غَيره يقوم بها فلم يفعل.
وإنّما لا يأثمُ بالتركِ في الوقتِ الأولِ والأوسطِ قبل أن
يخرجَ الأخير بشرط إن لم يتحصل حَصَل المأثم، وهو أن يكونَ
عازِماً على الفعلِ في الوقتِ الثاني، وهو متّسعٌ للفعلِ،
والعازمُ لا يكونُ تاركاً في الحقيقةِ، لأنَه فاعلٌ للعزم
الممتدِّ الذى هو مقدمةُ الفعلِ، والمقربُ إليه الذى هو
الأفعال المسَتقبلةُ، كالنيةِ للأعمال الحاضرة.
ولو عزبَ العزم في الوقت الأول لأثم بالتركِ، لأنه يفضي إلى أن
يتلقى أمْرَ الله سبحانه بغيرِ امتثالٍ ولا عزم على الامتثال،
مع إزاحةِ العللِ وتكاملِ شروطِ الفعلِ، وذلك غيرُ الإهمال.
(3/49)
وقد قيل: إنَ الِإثم انتفى بالتاخيرِ،
لأنَّ في إيجاب التقديمِ نوعَ مشقّة، لأنَّ الوقتَ يدخلُ
وأكثرُ الناسِ على أشغالٍ تركُهَا يُفسد الأموالَ ويخاطرُ فيه
بالأنفس، وجوازُ التركِ للعذرِ لا يدُلُّ على نفي الوجوب في حق
المُعْسِر والدّين المؤجل.
وأما أعيانُ التخييرِ والأشخاصِ في فروضِ الكفايات، فإنَّ
الحجّةَ فيها ظاهرة لنا، وهو أنَه لم يتخصصِ الوجوبُ بواحدٍ
منها، فليكن هاهنا مثلُه في عدمِ التخصيصِ، وإنّما لم يعم، كما
لم يتعين، لأنَّ التعميمَ يزيلُ معنى توسعةِ التخييرِ في
التكفيرِ، وتوسعةِ قيام بعضِ الأشخاصِ مقامَ بعضٍ في الكفايةِ
بالبعض.
فقلنا: إنَّ الفرض يتعلق بواحدٍ على طريق البدلِ لا بعينهِ،
ويكفي فعلُ شخصٍ، أيَ المكلفين كان ممن هوَ أهل للفرض.
وهاهنا إذا علقنا الوجوبَ على جميعِ الأوقاتِ، لم تزل الرخصةُ،
لأنَّ الوقتَ الأولَ والثاني والثالثَ ظروف لفعلٍ واحدٍ فى
أيِّها فعل أجزأه.
ولا يخلو من فائدةٍ ظاهرةٍ، وهي تعلقُ المأثمِ بالتركِ في
الكُلّ، وحصولُ الثواب في الجميعِ؛ الأولُ إن فعل فيه، فسقوطُ
الفرضِ والثواب، وفضل التقديمِ، والأخيرُ إن فعلَ فيه، فسقوطُ
الفرضِ، وحصولُ الثواب بها، والإِثابةُ بفعلِ العزم عليها من
الوقتِ الأولِ إلى حين فعلِها فيَ الوقتِ الآخرِ المتّسعِ
لهاَ.
وأعطينا تناولَ النص لمجيعها حقَّه من التعميمِ، والاستغراقِ.
(3/50)
فصل
في الدلالةِ على فسادِ قولِ من قال: بأنه يفعل في الوقتِ
نفلاً، لكنَه يسقط الفرض الذي يتعلّق بالوقت الأخير.
أنَّة لو كان نفلاً لوَجَبَ أن تنعقدَ الصلاة بنيّةِ النفلِ،
فإنَ كُل صلاةٍ كانت عند الله سبحانه وفي شرعهِ على صفةٍ صحت
تحريمتُها بنيةٍ يتضمنها على تلك الصفة، كالفرضِ، وسنّةِ
الفرض، والجماعةِ، والجمعةِ، والقصرِ، والإِتمامِ، فلمّا لم
يسقط الفرض بنيةِ النفلِ في أوَّلِ الوقتِ، ولا يسقط الفرض في
آخره إلا أن ينويَ في أوّلِ الوقت فرضاً، بطلَ أن يكونَ نفلاً.
ويَدُل على فسادِ ذلك: أنَه خوطب بفرض، فإذا أدَى نفلاً، فقد
أدَى خلافَ ما أُمرَ به، فهو كما لو خوطبَ بصلاةٍ، فصامَ، أو
بحجةٍ فصلّى.
ويدُل على أنّها ليست نفلاً أنَ النصَّ قد وردَ بأن جميعَ
أجزاءِ الوقتِ وقت لها، فكيفَ يكونُ نفلاً في أوّلِه. وهو جزء
من الموسّع، وليس بأن يكونَ نفلاً في أوّلهِ بأولى من أن يكون
نفلاً في آخره، مع تساوي أجزاءِ الوقتِ.
فإن أعادوا ذلكَ السؤالَ وهو تخصيصُ الأخيرِ بالمأثمِ إذا
تركَها فيه فقد سبقَ الجوابُ عنه.
ويدل على فسادِ هذا المذهبِ أنَّ من عَلِم أنَّ الصلاةَ في
أوّلِ الوقتِ نفل فنواها فرضاً، فإنه لم ينوِ صلاةَ وقتهِ ولا
نواها على صفتها،
(3/51)
وليسَ لنا نّية في أصولِ الشرعِ بتحقّقِ
الفعل المنوي على خلافِ ما هو به.
فصل
في سؤالهم
فإن قيل: تقديمُ الزكاةِ قبلَ الحولِ، والكفارةِ قبلَ الحِنث،
فيهما معنى النفل، وُيجزيانِ بعدَ الِحنث، ومُضي الحول عن
الفرض. وأمَّا النّيةُ، فإنَّ من نوى فرضَ وقتٍ من الأوقاتِ،
وقد كان أدّاه في أوّلِ الوقتِ، وقع نفلاً بنيةِ الفرضِ.
وعندنا إذا نوى صومَ رمضانَ نافلةً، أو نوى حجّةً نافلةً،
وعليه فرضُ الحجِّ، انصرف إلى الفرضِ، فلا تصحُّ دعواكم أنه لا
نية تحصل للمنوي على خلافِ صفته.
قيل: أمَّا الزكاةُ، ففرضٌ قُدَمَ على وقته باسمِ السلفِ،
لمصلحةٍ رآها المشرعُ، هي حاجةُ الفقراءِ، كتقديمِ الصلاةِ في
بابِ الجمعِ لمصلحةِ الجامعين.
كذلك قال صلى الله عليه وسلم في حقّ العباس: "إنا استسلفنا منه
زكاة عامين" (1)، ولم يك نافلة.
__________
(1) هذا الحديث بهذا اللفظ من حديث مقسم عن ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعثَ عمرَ على الصدقة، فرجع وهو يشكو
العباس فقال: انه منعني صدقته.
فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "يا عمرُ أما علمت أن عم الرجل
صنوُ أبيه؟ إنَّ العباس أسلفنا صدقةَ عامين في عام" أخرجه
الدارقطني 2/ 124، وأبو يعلى والبزار،
(3/52)
ولأن سببَ الوجوب تقدّم الإخراج، وهو الغنى
بالنصاب، والحولُ شرطٌ هو أجلٌ وُضع رِفقاً بالأغنياءِ، فعجل
لطفاً بالفقراء، فما تقدّمت الزكاة على سبب وجوبها، ولا صارت
بالتعجيل نفلاً.
وأما الكفارةُ فسبُبها اليمينُ، وقد وُجدت قبل الحِنث. قال
الله سبحانه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]
وما قدمت على الحِنث نفلاً.
وكذلكَ لو نوى بالزكاةِ والكفارةِ نافلةً لما وقع عن الواجب،
وأمّا نيةُ رمضانَ والحج، فلأنّهما خارجتان عن حكمِ النّيات في
أَصولِ العباداتِ، لانقطاعِ العبادتين.
وأما رمضان، فإنه تعين عندكم لصوم الفرضِ، ولذلكَ لم يشترط له
نيةُ التعيينِ. والحج انقطعَ بانعقادِه بمطلق النية ومبهمها،
حتى لو قال: إهلالٌ كإهلالِ زيدٍ، وسأله عن نّية إحرامه، كان
على ما نوى زيدٌ، وتعين بعد انعقادِ الحجِّ بالإبهام، فأسقط من
النية في المحلين، اعتقاد النفل، وانعقد بنيةِ الصومِ والحج.
وفي الصلاةِ تعتبر نيةُ التعيينِ لفرضِ الوقت، ولا تكفي نيةُ
مطلق
__________
= وانظر "مجمع الزوائد" 3/ 79.
وورد من حديث علي بن أبي طالب بلفظ. إن العباس سال رسول الله
صلى الله عليه وسلم في تعجيل الصدقة قبل أن تحل، فرخَّصَ له في
ذلك. أخرجه الترمذي (687) و (679). وأبو داود (1624) وابن ماجه
(1795)، والدارقطني 2/ 123، وأحمد 1/ 104.
(3/53)
الفرضِ، فإذا كانت في الوقتِ نفلاً في
نفسِها، لم يكن لعدمِ انعقادِها مع حصول نيةٍ تضاهي حالَها وما
هي عليه وجة، فلم يبقَ لعدمِ انعقادِها بنيةِ النفل إلا
تَجَزيها فرضاً.
فصل
في الدلالة على فسادِ مذهب من قال بأنه موقوف على آخر الوقت.
فإن وافى وهو حيٌّ من أهلِ الوجوبِ، تبينا أنه كان التعبدُ
واجباً.
فنقول: إن تعليقِ الوجوب بالشرطِ يفيدُ أنه إذا حصلَ الشرطُ
حصلَ الوجوبُ، فإذا تيقنا أن الَشرطَ معدوم لم يوجد، علمنا
بذلكَ واستحال أنَّ الِإيجاب للصلاة قد حَصل وثبت مع تجوز شرطه
الذي علّق وجوبه (1) على وجوده لم يوجد بعد.
إذ هذا إسقاط لخصيصةِ الشرطِ ووضعه.
ويقال لهم أيضاً: إذا (كانت أجزاءُ) (2) الوقتِ جميعُها
منصوصاً على أن للمكلف فعلَ الصلاة فيها لم يجز أن يكون وقوعه
في بعضِها واجباً مراعى، لأنه خلافُ النصّ.
__________
(1) في الأصل: "علق على وجوبه".
(2) في الأصل طمسٌ واستظهرنا اللفظ من سياق العبارة.
(3/54)
فصلٌ
فيما تعلقَ به النافون لتعلُّقِ الوجوبِ بالوقت (1).
قالوا: لو كان متعلقاً بالأولِ، لأثمَ بتركهِ فيه، وتأخيرِه
عنه بذلك الوقتِ الأخيرِ، لمَّا تحقق تعلّقُ الوجوب به تعلقَ
المأثمِ بتركِ فعلِ الصلاةِ فيه، فلما لم يتعلق المأثمُ بتركِ
الَصلاةِ فيه، وتأخيرِ فعلها عنه، عُلِمَ أنَه لم يتعلَّق به
الوجوبُ.
قالوا: ولأنَّ دعوى تعلّقِ الوجوبِ بالوقتِ الأول، دعوى
مجردةٌ، لادلالةَ عليها، ولا حجةَ لقائلها، ويدُل عليه؛ أنَّ
جميع أجزاءِ الوقتِ وسطاً، وأخيراً، كالوقتِ الأوّل في كونِ
الكُل أوقاتاً وأزمنةً، ولا خصيصةَ في واحدٍ منها إلا الأخير
(2)، ويعنون بذلك خصيصةَ المأثمِ بالتركِ فيه.
__________
(1) يقصدُ تعلق الوجوب بالوقت الأول، والأدلة التي ساقها ترشد
إلى ذلك، والقول بتعلق الواجب الموسع بالوقت الأول، نسبه أبو
الحسين في المعتمد الى بعض الناس، ونسبه آخرون الى بعض
الشافعية، والذي قرره محققوا الشافعية أنَّ هذا القول لا يعرف
في مذهب الشافعي، إذ الوقت موسع، ولا يعتبر قضاءً أداءُ الواجب
الموسع بعد فوات الوقت الأول.
انظر "المعتمد" 1/ 125 و"البحر المحيط" 1/ 213.
(2) أي فله مزية على الوقتِ الأوَل والأوسط كون ترك أداء
الواجب في الوقت الأخير، مدعاةٌ إلى ترتب الإثم، إذ إنَ انقضاء
الوقت الأخير ينبىءُ عن خروج وقت الواجب الموسّع وهذا ما لا
يتحقق في الوقت الأول والأوسط.
(3/55)
فصل
في الأجوبةِ عما تعلقوا به
فمن ذلك: أنا قد بينا علةَ عدم الإِثم من جهةِ أنَّ جوازَ
التأخيرِ توسعةً لمكانِ العذرِ والمشقةِ اللاحقَةِ، مع كونِ
الصلاةِ فرضاً على الأعيانِ، وأشغال الكُل مختلفةً، فلو لم
يوسَّع لهم وقتُ الفعلِ، لشق إن بادروا إلى الفعلِ كافّةً،
وأثموا إن أخَّروا.
ولأنَّ العزمَ على الفعلِ كانَ تعبُّداً شاغلًا للوقتِ، ممتداً
إلى حينِ الفعلِ، وعزمُ المكلّفِ صالح لرفعِ المأثمِ في باب
التروكِ إِذا ندِمَ على الماضي، وعزمُ المكلّف على التركِ في
المستَقبل مُسقط مأثمَ الماضي.
وكذلك قضاءُ رمضان، والدّيونِ المؤجلةِ، لا يأثم بتأخيرها مع
وجود العزمِ على الفعلِ في ثاني الحال، وكذلك الكفارات.
ولأنا لا نخصص الوجوبَ بالوقتِ الأول، فيلزمُنا ما تعلقوا به
من نفي المأثم، بل نقول: الوجوبُ عام في الوقتِ الأوّلِ
والأوسطِ والأخيرِ، وأما الدليل على تعلقِ الوجوب بالوقت
الأول، فقد سبقَ ويتناوله الأمرُ، ووقع الفعل فيه موقعَ
الإجزَاء، وتساوي الأوقات حجّة لنا، حيث عمّمناها بالوجوبِ
لتساويها.
والتخصّص بالمأثم فلا نسلمه، بل يعمُّ الأوقات التي عمها
بالتركِ، ولو سلّمه من خصَّص المأثم، كان جوابهُ عنه: أنه
الوقتُ الذي يضيقُ فيه الأمرُ بالفعلِ، وزالت التوسعةُ، ولم
يبقَ للعزم مجالٌ، لأنه لا يزالُ العزم بدلاً عند قومٍ،
ومتطرقاً به عند قوم، إِلىَ أن لا يبقى
(3/56)
سوى وقتِ الفعل، فلا يبقى خطابٌ إلا
بالفعلِ ونيتهِ المتخصصةِ به، فإذا لم يأتِ بها تحقق المأثمُ
على إخلاءِ الوقتِ عن وظيفته، كما كانَ المأثمُ يلحقُ في
الوقتِ الأوّلِ والأوسطِ بإخلالِ المكلّفِ بوظيفتهِ من العزمَ.
فصل
فيما تعلق به من قال: إنَّ الوجوبَ يتعلَقُ بوقتٍ من الأوقاتِ
غيرِ معين.
قال: لما كانَ المكلفُ مخيّراً في الأوقاتِ كلِّها، صارت
الأوقاتُ كالأعيانِ المخيّر بينها في كفاراتِ التخيير.
يقال: فيما قدمنا من الدلالةِ على تعميمِ الوجوب، كفايةٌ عن
الجواب، وأمَّا أعيانُ الكفاراتِ، فهي الحجةُ عليهم، لأنَّ
الكفارةَ واجبةٌ عليه، وإنْ خيرناه في أعيانِها فيجبُ أن نقول
بأنَ الصلاةَ واجبةٌ وإن خيّرناه في أوقاتها.
فصلٌ
يفرد الكلامِ في العزم فإنَه المعتمد في هذه المسألة.
اعلم أنَ قوماً يجعلونه بدلًا عن الفعل في الوقت الأوّل (1)،
ويقولون: إنه المانع من حصول المأثم بالتأخير.
__________
(1) رأي جمهور المتكلمين أنه لا يجوز ترك الواجب في الوقت
الأول إلا ببدل، وهو العزم على الفعل في ثاني الحال. إنظر
"اَلبحر المحيط" 1/ 210.
(3/57)
فيقال لهم: لو كان بدلًا لسدّ مسدّ البدل،
كسائرِ أبدالِ الشرعِ، كالماءِ عن التراب، والإطعام عن الصومِ،
والصيام عن العتقِ، والصوم عن الدمَ في الِإحرامِ، فلما لم
يسُد مسدَ البدَلِ، بل كان في الذَّمةِ بحالهِ، بطل كوُنه
بدلًا، فقالوا: إنّما هو بَدَلٌ عن تقديم الفعلِ وتعجيله، لا
عن أصلهِ، فإذا عزمَ كانَ عزمهُ بدلًا عن تقديم الفعلِ في كل
وقتٍ كان فيه عازماً على الفعلِ في الوقتِ الذي يليه.
فصارَ كان الشرعَ يقول للمكلّف: لكَ تأخيرُ الفعلِ عن الوقتِ
بشرطِ أن تكون فيه عازماً لا مُهملًا.
قال لهم المعترض عليهم: فأينَ لنا بدلٌ عن وصفِ فعلِ لا عن
أصله، والتقديمُ وصفُ الصلاةِ.
فأجابوا: بأنَّ لنا مثلَ ذلكَ بصحيحِ النقلِ، ولا علينا من
منعَ بمذهبِ من لم يعلم ذلك بالنقل، وهو الفديةُ الواجبةُ على
الحاملِ والمرضعِ إذا خافتا على الجنين والرضيع، ويجب إطعام
مسكين عن كل يوم، والصوم واجبٌ في الذّمّة، فلم تكن الفديةُ
بدلًا عن أصل الصوم، لكن عن تأخيره، فكما لم يخلُ الوقتُ
الأولُ في باب الصلاةِ عن عزم، لم يخلُ زمانُ رمضانَ عن إطعامٍ
هو بَدَلٌ عن الصوَم فيه، لا عن أصلِ الصومِ، وكفاراتُ
الِإحرامِ، وسجودُ السّهوِ بدلٌ وَجُبران عن وصفِ الصلاةِ لا
عن أصلها.
وكذلكَ من وجبَ عليه عبادةٌ يعجزُ عن أدائها، وعن قضائِها إلى
حين الموت، كان عزمه على فعلِها إن صحَ مسقطاً مأثَم الترك،
ولا
(3/58)
يسقطُ أصلُ الخطابِ بها حتى إنه لوصح (1)
وجبَ قضاؤها.
وكذلك سجودُ السهوّ بدل وجبرٌ، قد يجبُ عن تقديمِ واجب أو
تأخيرهِ، لا عن أصلهِ.
قالوا: فإن قيل: أينَ لنا أعمالُ قلوب نابت عن أعمال الأركان؟
وهل العزمُ إلا فعلُ القلب؟!
قيل: وما الذي هوَّن أفعالَ القلوب، وبها تصحُّ الأعمال، وتحبط
الأعمال، وتجب الأعمال؟!، فالنياتُ أعمالُ القلوب، وبها تصح
العباداتُ، والندمُ أعمالُ القلوب، وَيجُب ما قبله من الأَعمال
وتعضدُه العزوم بصحّةِ التوبةِ الماحيةِ لماَ قبلها، واعتقادُ
الكفرِ يُحبطُ كل صالح تقدمه من أعمالِ الجوارح والأركانِ،
فلِمَ لا جاز أن يقعَ بدلًا عن إيقاع الفعل في زمانٍ دون
زمان؟!
فصولٌ
القضاء، والإعادة، والفوات. وهل تجب بأمرٍ ثانٍ، أو بالأمر
الأول؟، وهل يسقطُ الخطابُ بفواتِ وقته؟، وهل يسقط بكل عذرٍ،
أو تختلف الأعذار في الإسقاط وبقاء الخطاب.
فصل
في معنى الفوات
اعلم أنَ الفواتَ اسمٌ لا يستعمل بالاتفاق إلا في فعل مأمور
به،
__________
(1) أي لو تعافى ذاك العاجز عن أداء الفعل، لوجب عليه أداؤه
ولا يسقط عنه.
(3/59)
موقّت بوقت، خرجَ وقتهُ ولم يفعلْه
المأمورُ، فأمَّا الواجبُ على التّراخي والموسَع وقتُه، إذا
تُركَ في وقتِ توسعتِه، فلا يقالُ: فائت.
فتحقق من هذا: أن الفواتَ مضى وقتِ العادةِ المحدودةِ، وهذا
حدٌّ يخصُّ باب العبادة، وإن أردتَ العمومَ قلت: خروجُ وقتِ
الفعل المأمورِ به، الموقَّت.
فصلٌ
والفائتُ: الفعلُ الخارجُ وقتهُ الذي امِر به فيه.
فصل
والِإعادةُ اسمٌ لمثلِ ما بطلَ وفسدَ من العباداتِ على وجهِ
البدلِ عنه، والإِفسادِ لها، إما بسبب من جهته، مثلِ الوطء في
الحج، والصومَ، أو الكلامَ أو الحدثِ في الصلاةِ
أو بسبب يطرأ لا من كسب المكلف.
ولا يوصف هذا الفعل الموقع عن المفسدِ قضاءً، لكونه بدلًا
مفعولًا في وقت العبادة، لكن الغالبُ عليه اسمُ الإِعادة.
فصلٌ
فأمّا القضاءُ: فاسمٌ لفعلِ مثل ما فات بخروجِ وقتهِ المحدَّدِ
به.
فكانَ الفرقُ بين الِإعادةِ والقضاءِ، أنَّ الإِعادةَ فعل مثلِ
ما فسدَ لكنه في وقتِ العبادةِ.
والقضاءَ اسمٌ لفعلٍ، هو مثلُ العبادةِ المؤقته التي خرج
وقتها.
(3/60)
فصلٌ
والأداءُ: فعلُ كل مفعولٍ موقَتٍ في الوقتِ الذي عُرِفَ به،
موسّعاً كان أو مضيّقاً. |