الواضح في أصول الفقه فصلٌ
إذا خرج وقت العبادة وفات فعلها، لم يجب قضاؤها إلا بأمرٍ ثانٍ
(1).
وبه قال أكثرُ الفقهاءِ والمتكلمين. وأصحاب الشافعي في أحدِ
الوجهين (2)، والقاضي أبو بكر والمحققون من الأصوليين، وذهب
بعضُ أصحاب الشافعي إلى أنه تجب بالأمر الأول، ولا تسقط بفوات
الوقت.
وظاهرُ كلامِ صاحبنِا أنَه يسقطُ الأمرُ بالجنونِ، ولا يسقطُ
بالإِغماءِ، والحيضِ والمرضِ (3).
__________
(1) هذا ما اختاره ابن عقيل، من أن العبادة التي فات وقتها
تسقط ولا يجب قضاؤها الا بأمر ثان، وهو ما نصره أبو الخطاب في
"التمهيد"، ورجحه ابن تيمية في "المسوَّدة".
وخالف في ذلك القاضي أبو يعلى في "العدة" حيث قال:"اذا كان
الأمرُ مؤقتا" بوقت ففاتَ الوقت، لم يسقط الأمر بفواته، ويكون
عليه فعله بعد الوقت،. وبذلك الأمر الأول".
انظر "العدة" 1/ 293، و"التمهيد" 1/ 205، و"المسؤدة" ص (27).
(2) وهو رأي المحققين من الشافعية وفق ما قرره الآمدي في
الإحكام، انظر "التبصرة" ص (64)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 64،
و"المستصفى"2/ 10.
(3) نقلَ القاضي أبو يعلى في "العدة" (1/ 293)، عن الإمام أحمد
ما يومىءُ =
(3/61)
فصل
يجمعُ الأدلّةَ على أنَه لا يجبُ إلا بأمرٍ ثانٍ، سواءٌ كان
تركهُ لعذرٍ مانعٍ أو لغير عذرٍ.
فمن ذلك: أنَ الله سبحانَه إذا علق العبادةَ بوقتٍ، فلا تخلو
من مصلحةٍ تختص الوقتَ، وخصيصةٍ تعودُ بالنفعِ العاجلِ
والأجلِ، أو لمشيئةٍ وإرادةٍ علقها بذلكَ الوقتِ، ونحنُ لا
نعلم أنَ غيرَ ذلكَ الوقتِ كالوقتِ في حصولِ المصلحةِ في فعلهِ
ونفي المفسدةِ، ولا الإِرادة والمشيئة، فيصيرُ ما بعد الوقتِ
في نفي المصلحةِ وتجويزِ المفسدةِ كما قبلَه من الأوقاتِ،
ويصيرُ مثالُ ما إذا قيد حكيمُ الطبِّ شربَ الدواءِ بوقتٍ
ففاتَ لا نعلمُ أنَ شربَهُ بعَد خروجِ الوقت سادٌّ مسدَّ شربهِ
في الوقت في جلبِ (1) مصلحةٍ ولا نفي مفسدة.
وكذلك إذا عُلَق الأمرُ بشرطٍ مثل استقبالِ قبلةٍ، أو طهارةٍ،
أو ستارةٍ، ففاتَ الشرطُ وتعذّرَ، لم يجز أن يُقدِمَ على
الفعلِ بعد تعذرِ شرطهِ.
وكذلك إذا خُصَّ الفعلُ والعبادةُ بمكان، فتعذرَ المكانُ، لم
يقم
__________
= أن الأمر المؤقت بوقت، لا يسقط بفوات وقته ويجب الفعل بالأمر
الأول، فقال: "وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في الرجل ينسى
الصلاة في الحضر، فيذكرها في السفر: "يصليها أربعاً، تلك وجبت
عليه أربعاً" قال أبو يعلى: فأوجبَ القضاء بالأمر الأول، الذي
به وجبت عليه في الحضر؛ لأنه قال: تلك وجبت عليه أربعاً، معناه
حين المخاطبة. اهـ.
(1) في الأصل: "باب".
(3/62)
غيرهُ مقامَه لتعذُرِه.
وعلّةُ ذلكَ كُله أنا لا نجوّزأن نُقدمَ على إقامةِ وقتٍ مقامَ
الوقتِ الذي نص عليه الشرعُ، لأنَّا لا نأمنُ مواقعةَ المفسدةِ
في ديننا ودنيانا.
وما صارَ إبدالُ وقتٍ بوقتٍ مع عدمِ العلمِ بمساواةِ الوقتِ
الثاني للوقتِ الأول، إلا كمن أقامَ فعلا في زيدٍ مقامَ فِعْلٍ
في عمروٍ، والوقوفَ بمزدلفة بدلًا من الوقوفِ بعرفة، وصومَ
غيرِ رمضانَ بدلًا من صومِ رمضان.
ومن ذلك: أنَ الإِيجابَ يتعلَقُ بأعيانٍ وأزمانٍ، ثم إنَ
الفرضَ لو تعلَقَ بعينٍ عتقاً في رقبةٍ، أو زكاة وتضحيةً في
شاةٍ أو بقرةٍ، لسقطَ الخطابُ بفواتِ العين، ولم يتبدّل بعينٍ
أخرى إلا بدلالةٍ، كذلكَ إذا عُينت العبادةُ بالزمانِ ولا
فَرْق.
والجامع بينهما: المصلحةُ المتحققةُ، أو المشيئةُ عند من لم
يعتبر الأصلحَ، وكلاهما لا يمكنُ تعديتهُ إلا بدلالةٍ تقومُ
مقامَ الدلالةِ الأولى في التعيين.
ومن ذلك: أنَ الأصلَ قبلَ الِإيجاب عدمُ إيجاب الفعلِ في
الزمان، وأما إذا فاتَ الزّمانُ المعيّن عُدنا إلى الأصلِ،
فلَا نعلمُ تعلّقَ الوجوبِ بوقتٍ ثانٍ إلا بدليل.
ومن ذلك: أن الأمرَ استدعاءُ الفعلِ، والنهيَ استدعاءُ التركِ،
ثمَّ إنّه لو عين وقتاً بنهي، ثمَّ فاتَ ذلكَ الوقتُ الذي
عُيِّنَ التركُ فيه، فإنه لا يقوم مقامهَ وقت للترك، كذلكَ
الأمر ولا فرق.
(3/63)
مثالهُ لو قال: اترك البيعَ وقتَ النداءِ
من يوم الجمعة، واترك الاصطيادَ إِذا دخلت الحرمَ أو أحرمت. ثم
إِنه باعَ وقتَ النداءِ، واصطادَ في الإحرام، ففاتَه التركُ
وأراد أن يتركَ البيع بعد خروجِ وقتِ النهي، وكذلكَ أرادَ أن
يصطادَ بعد خروجِ وقتِ تحريمِ الاصطياد، لم يكن هذا سادّاً
مسدَ التركِ الذي فاتهَ في ذلكَ الوقتِ المخصوصِ، كذلك هاهنا.
ومن ذلك: أن الوقتَ الذي عُلقَ عليه الفعلُ مقصود بالفعل،
ولذلك يأثمُ بالتأخرِ عنه، ويحصلُ الِإجزاءُ والثوابُ
والائتمارُ بالفعلِ فيه، فمدّعي أن ما بعده من الأوقاتِ مثلُه
بعَد فواتهِ في قيامهِ مقامه، فعليه الدليلُ.
ومن ذلك: أن الصيغةَ ليس فيها ذكرُ أبدالٍ للوقتِ بغيره عند
الفوات، ولا أمرٍ بالقضاءِ، ولا من ناحيةِ الشرع تُعطي أن
للوقتِ بدلًا، ولا أن الإيجابَ باقٍ بعدَ الفواتِ مع كونه
عَرفَ الفعلَ بوقتٍ معين، فإيجابُ القضاءِ لا دليلَ عليه، ولا
بُد من طلبِ دليل.
ومن ذلك: أن أصولَ الشريعةِ منقسمة إلى فعلٍ يجبُ قضاؤه
كالصلوات وصوم رمضان، وفِعل لا يجبُ قضاؤه كالجمعةِ والجهادِ،
فليس يمكنُ حملُ هذا الفعلِ الموقتِ على أحدهما دونَ الآخر إلا
بدلالة.
فإن قيل: المكانُ لا يعدمُ فيفوت، فكذلكَ لم يجب القضاءُ ولم
يجز إيجابُ الفعلِ في غيره، والزمانُ يفوت، فكذلكَ جعلنا غيرَه
قائماً مقامه.
(3/64)
قيل: كلامُنا في زمانٍ، وذلك يفوتُ.
فصل
فيما تعلقوا به
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها،
فليُصلّها إذا ذكرها" (1)، فذلك وقتُها، لا وقتَ لها غيره،
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما
استطعتم" (2)، ومن فاته الوقتُ الأول لعذرٍ، فهو مستطيعٌ
للفعلِ في وقتٍ ثانٍ.
ومن ذلكَ قولَهم: إنَّ أوامرَ الشرعِ كلَّها على إيجابِ قضاءِ
ما فات منها، فدلَّ على أنَّ ذلك يقتضي الأمرَ.
ومن ذلكَ قولُهم: إنَّ المأمورَ به هو الفعلُ، فأمَّا الوقتُ،
فإنه يُرادُ ظرفاً للإيقاع فيه، فلا وجهَ لسقوطِه بفواتِه،
لأنَّ غيرهُ من الأوقاتِ يصلح ظرفاً للفعل.
ومن ذلك قولُهم: إنّه يسمى قضاءً، ولو كانَ ذلك فرضاً مبتدأً
لما كانَ لتسميته قضاءً وجهٌ، وما سُمِّيَ قضاءً، إلا أنه
أقيمَ مقامَ المتروكِ من المأمورِ به، ولو قيل: إنّه نفسُ
المتروكِ ولم يعدم سوى الزمان.
__________
(1) تقدم تخريجه في 2/ 168.
(2) تقدم تخريجه في 2/ 549.
(3/65)
ومن ذلك قولهم: إن العبادةَ الموقَّتةَ
حقٌّ لله سبحانه، تعلَّق بوقتٍ كما أنَّ الدَّين المؤجلَ حقٌّ
تعلَّق بوقت، ثم مُضيُّ وقت الأجل لا يُسقط الدّينَ المؤجّلَ،
كذلك مُضيُّ الوقتِ لا يُسقط الأمرَ المؤقّت.
قالوا: ولأنَّ الأمرَ اقتضى إيجابَ الفعلِ، وفي إسقاطِ القضاءِ
تفويت وإسقاطٌ لما أوجبه الأمرُ، وهو الفعل.
قالوا: لو سقطَ الوجوبُ بفواتِ الوقتِ، لسقط المأثمُ، فلما لم
يسقط المأثمُ -وهو حكم من أحكام الوجوبِ- لم يسقط الوجوبُ.
قالوا: ولأنَ الأصلَ الوجوب، فمن ادّعى إسقاطه بفواتِ الوقتِ،
عليه الدليل.
فصل
يجمع الأجوبةَ عما تعلقوا به
أما الخبر، فإنه حجّة عليهم، لأنَّه لو كان الأمر الأولُ يقتضي
إيجابَ القضاءِ لما احتيجَ إلى أمرٍ، وحيثُ تضمّن الأمر حصلَ
إيجابُ القضاءِ به، ولا خلافَ أنَّه إذا ورد الأمرُ بالقضاء،
وجب القضاء فلا دلاله (1) من الخبر على موضعِ الخلافِ، وموضعُ
الخلافِ: هل الأمرُ الأولُ أفادَ إيجابَ القضاءِ؟
__________
(1) في الأصل فلأدلة.
(3/66)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فأتوا منه
ما استطعتم"، فهذا مبنى على أنَه قد أمر في الزمانِ الثاني،
وما ثبتَ أنَّه أمرٌ إلا في الوقتِ الأول، ولهذا قال: "فأتوا
منه"، فاقتضى أن يكونَ المستطاعُ بعضَ الأمر.
وأمَّا قولهم: إنَ أوامر الشرعِ كلَّها مقضيّة بعد فواتها. ليس
بصحيحٍ، لأنها منقسمةٌ كالجمعةِ والجهادِ وفروضٍ كثيرةٍ من
فروضِ الكفاياتِ لا تُقضى، والصلاةُ والصومُ تقضى، فليس حملُ
الأمرِ على ما يقضى بأولى من حمله على ما لايقضى.
ولأنَّ ما وجبَ قضاؤه منها إنما وجبَ بأدلّةٍ أوجبت القضاءَ،
ولم نوجبه بنفسِ الأمر الأول، فلا تعلُّق لهم بذلك، مع كونه
مقيّداً بوجوب القضاء، وكلامنا في مطلقِ الأمرِ الذي لم يتعقبه
إيجابُ القضاء.
وأمّا قولُهم: إنّ الفعلَ هو المأمورُ به، والوقْت ظرف.
فالجوابُ عنه أنَّ الفعلَ المأمورَ به في الوقتِ المخصوصِ به،
لا أنّ الأمر بفعل مطلق، ألا ترى أن لفظه لا يتناولُ ما بعد
الوقت ولا ما قبله ممن ادعى الوجوب في الوقت.
وأما قولُهم: يسمّى قضاءً، فلأنَّه أقيمَ مقامَ المتروك، وليس
معنا في اللغة ولا الشرع أنَّ القضاء لا يقعُ إلا بالأمر الذي
أُمر به الأداء، ألا تسمع إلى قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}
[البقرة: 200]، والمراد بها: إن أقمتموها.
(3/67)
وأمَّا الدّينُ المؤجلُ، فإنَّه يستحق
ويستقر بانقضاءِ الأجلِ، فكيفَ يقالُ: إنّه يسقطُ، وهذا وقتُ
فعلهِ بهذا الوقتِ، فبينهما تباعدٌ وفرقٌ، وذلكَ لأنَّ الأجلَ
وُضع في الذنوبِ رِفقاً لتأخّرِ المطالبةِ، فإذا زالَ الأجلُ
وانقضى، حَلّت المطالبةُ، فلا وجهَ لإِسقاطِ الدَّين، وهنا
نِيْطت العبادةُ بالزمانِ المخصوص، كما تناطُ بالمكانِ، ثمَّ
إنَّ تعليقها بالمكانِ قد يكونُ لمصلحةٍ تختصُّ البقعةَ،
ولربما كانت في غيرها مفسدةً، كذلكَ الزمانُ والوقتُ، ولا فرق.
وأمَّا قولُهم: إنَّ الأمرَ يقتضي إيجاب الفعل وفي إسقاطِ
القضاءِ إسقاطٌ لما أوجَبه الأمرُ. لا يصحُّ، لأنَّ الأمر
اقتضى إيجابَ الفعل في وقتٍ مخصوصٌ لا في جميع الأوقاتِ،
ولأنَّه يبطُلُ به إذا علقه على شرطٍ، فإنَه لا يجبُ فعلهُ مع
عدم الشرطِ، وإن كان مقتضى الأمرِ الإِيجابَ فلم ينظر إلى
الإِيجاب المَشروطِ مجرداً عن الشرط، كذلكَ لا يُنظرُ إلى
الأمرِ المؤقّت مجرّدَاً عن الوقت.
وأما قولُهم: لو سقطَ لسقطَ مأثمُ التركِ. غيرُ لازمٍ، لأنَ
الإِيجابَ تعلق بالوقتِ، والمأثمَ تعلّقٌ بتحقيقِ التركِ في
الوقت، فشرطُ المأثم تحققَ فيحصل، وشرطُ الإيجاب فاتَ فيسقطُ،
فهما ضدّان في الحقيقةِ.
وأما استصحابُ الحال، فلا يصحُّ، لأنَّ الأصلَ أنْ لا واجبَ
ولا شاغلَ للذّمةِ، فلما جاءَ الأمرُ موقتاً بشرطٍ فمن ادّعاه
مع عدم شرط فعليه الدليلُ.
(3/68)
فصلٌ
ووجدتُ لأصحاب أبي حنيفة خلافاً في الأمرِ المطلقِ إذا لم
يفعلْهُ المأمورُ به عقيب الأمر، هل يسقط؟
فقال أبو بكر الرازي (1): لا يسقط، ويفعله في الزمان الثاني
والثالث، وفي سائرِ عُمُره، بخلاف المؤقت.
وقال غيره من أصحاب أبي حنيفة: يسقط بمُضيّ الوقت الأوّل، كما
يسقط بُمضيّ الوقت في المؤقت (2).
وجهُ قول الرازي: أنَّ الأمرَ المطلق لم يُعيِّن له وقتاً، كما
أنَ
__________
(1) هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصَّاص،
عالم العراق ومفتيها، تفقه بأبي الحسن الكرخي، وكان صاحب حديث
ورحلة، وكان مع براعته في العلم ذا زهد وتعبد، عرِضَ عليه
القضاء فامتنع. إليه المنتهى في معرفة مذهب أبي حنيفة، من
تصانيفه: "الفصول في الأصول" توفي سنة (370) هـ وله خمس وستون
سنة.
انظر "تاريخ بغداد" 4/ 314 - 315، و"الوافي بالوفيات" 7/ 241،
و"شذرات الذهب" 3/ 71، و"الفوائد البنهية" 27 - 28، و"سير
أعلام النبلاء" 16/ 340.
(2) الذي قرره السرخسي أن أكثر مشايخ الحنفية، على أنَّ القضاء
يجب بالأمرِ الذي به وجب الأداء، ورجح السرخسي هذا الرأي.
ونقل عن العراقيين القول بوجوبِ القضاء بأمرٍ آخر غيرِ الأمر
الذي به وجب الأداء. انظر "أصول السرخسي" 1/ 45 - 46، و "ميزان
الأصول" 1/ 340 - 343.
(3/69)
المطلقَ في عينٍ من الأعيان، لم يقتض عيناً
معيّنة، ثم لو قال: اذبح أو اعتق، كان له أن يذبَح ذبيحةً، فإن
كان في ملكه شاة فتلفت غيَّرها، فإنّما مقامها كذلك في
الزمانِ، وليس كذلكَ إذا عيّن وقتَ الفعل، فإنه مخصّص، فصار
بمثابة ما لو قال: اعتق هذه الرقبة، واذبح هذه البقرة، فماتت
سقط الذبحُ والعتقُ.
وكذلكَ في النذرِ للعتقِ والأضحيةِ لا يسقط عن ذمته بموتِ
الرقابِ والأنعام التي في ملكه، وتسقطُ بموتِ ما عينه من
الرقابِ بالعتقِ، ومن الأنعام بالذبح.
ووجه من قال: يسقطُ بمضي الوقتِ الأول: أن الأمرَ تناولَ
الوقتَ الأوَّلَ بالدليلِ الذي أوجبه كونُ الأمرِ على الفورِ،
فصارَ بدلالةِ الفورِ كلفظةِ التعيينِ، فكانَ فواتُ الوقتِ
الأوّلِ كفواتِ الوقتِ المعيّن.
وأجاب عن هذا مَنْ نصر الأول، وهو مذهب الرازي: بأنَّ الأمرَ
وإن كان على الفور، فإنَه ليس لو صرّحَ فقال: صلِّ وعجل، لم
يقتضِ ذلكَ أنَ التأخيرَ يسقطُ ولا يخرجُ الوقتَ عن كونه وقتاً
للفعل، وإنما التعجيلَ صفة تعودُ إلى الوقتِ من غير تعيين،
بدليل أنه إذا قال: "لله عليَّ أنْ أصومَ شهراً معجلاً، لم
يسقُطْ بتأخيرٍ لعذرٍ ولا لغيرِ عذرٍ، بل يأثم لكنه يصومُ
شهراً بعدَ الشهرِ الذي أخلَّ بصيامه، وبمثله لو قال: لله على
أنْ أصومَ هذا اليوم، أو أذبحَ هذه الشاةَ، ففات اليوم، وماتت
الشاةُ، لسقطَ الوجوب.
(3/70)
وكذلكَ كُلُّ حقٍ كان حالاّ أو مؤجلاً لم
يسقط بالتأخيرِ عن التعجيلِ وعن حلولِ الأجلِ، وكُل حق
تَخَصَّصَ بعينٍ، كالجنايةِ المتعلقةِ برقبةِ العبدِ الجاني،
والشهر المعين بالإجارة إذا فاتَ لم ينتقل إلى غيرهِ.
واعترض على هذا معترض فقال: إنَّ من قال بالفورِ فقد عيّنَ
التعجيلَ بدليلِ التعيين، فإذا اقتضي الوقتُ الأوّل من الأصلح
والتخصص بالتعبد بحيثُ يأثمُ في التأخيرِ عنه، فلا وجهَ لبقاءِ
الأمرِ بعد فواتِه، ولا كون الأوقاتِ الباقيةِ مثلَه في
امتثالِ الأوامِر باداءِ الفعل فيها، والله أعلم.
فصلٌ
الأمر يقتضي كونَ المأمورِ به مُجْزياً
وهو قول جماعةِ الفقهاءِ (1)، وأكثرِ المتكلَمين من الأشعريةِ
وغيرِهم (2)، خلافاً لبعض المعتزلة (3) أنَه لا يُعلم ذلكَ
بمطلق الأمر، بل لا يُعلم إلا بدلالةٍ تدلُ على كونه مُجزياً.
__________
(1) انظر في ذلك: "العدة" 1/ 300، و "التمهيد" 1/ 316
و"المسودة" ص (27 - 28)، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي: 2/ 399.
(2) انظر:"الإحكام" للآمدي: 2/ 256، و" البحر المحيط" 2/ 406.
(3) نقل هذا عن أبي هاشم والقاضي عبد الجبار من المعتزلة. انظر
المصادر السابقة. و"المعتمد" لأبي الحسين البصري 1/ 99 - 101.
(3/71)
فصل
يجمع الدلائلَ على كونهِ مجزياً.
إنَّ الأمرَ المطلقَ اقتضى إيجابَ الفعلِ بالأمرِ، وإذا ثبتَ
أنَه إنَما لزمَه الفعلُ المأمورُ به بالأمرِ، وأنه لم يشغل
ذمّته بعْد فراغِها سوى الأمرِ بالمأمور به خاصّة، فإذا أتى
بالمأمور به على حسب ما تناوله الأمرُ، عادت الذمّةُ فارغةً
على حكمِ الأصلِ، وعادَ كما كانَ قبل الأمرِ، ولم يبقَ عليه
شيء من قِبلِ الأمرِ، وهذا معنى الإِجزاء.
ومن ذلكَ: أنَّه لو نهاه عن فعل شيءٍ فتركه ولم يتعرض له، خرجَ
بذلك من عهدةِ النهي، سيما إذا كانَ في وقتٍ معين.
ومن ذلك: أنَّ الإجزاءَ ليس بأكثرَ من الخروجِ عن عُهدةِ
الأمرِ، وليس الخروجُ من عهدةِ الأمر إلا الائتمارَ بمقتضى
الأمرِ، ولو لم يقتضِ الِإجزاءَ لكانَ أفضى إلى قولٍ فاسدٍ،
ومعتقدٍ باطل؛ وهو أنْ يقتضي بزياد؛ على ما اقتضاه الأمرُ،
فيقعَ الاقتضاءُ بما ليس فيه، والاقتضاءُ بما ليس فيه اقتضاءٌ
بما لم ترجع عليه دلالة، وذلكَ لا يعلمهُ المكلَّفُ، وتكليفُ
ما يجهله المكلفُ تكليفُ ما لا يطيقه، وذلك ينفى عن الله
نطقاً، قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا
آتَاهَا} [الطلاق: 7].
ومن ذلك: أنَ عدمَ الإجزاء هو العَنَتُ الذى نفاه الله عن
نفسه، فقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ}
[البقرة: 220]، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:
128]،وهذا يعطي أنَّ العَنَتَ محزيز عليه، وأنَه ما أعنتَ، ومن
أثبتَ الائتمارَ لأمرِه ومتابعتَه غير مجزىءٍ، فقد أضافَ إليه
(3/72)
الإِعناتَ.
فصل
في جمع ما تعلَق به من مَنَعَ اقتضاءَ الإجزاءِ
قالوا: إنَّ الأمرَ ليس في صيغته أكثرُ من استدعاءِ المأمور به
من الفعلِ وإرادة له، فأمَّا الِإجزاء وسقوطُ الفرض، فلا يدلُّ
عليه اللفظُ، فافتقر إلى دليل.
قالوا: إن كثيراً من العباداتِ قد ثبتَ جوازُ الأمرِ بما لا
يُعتدُّ به، ولا يحتسبُ للمكلفِ به، بل يوجبُ عليه فعله ثم
إعادته، وإذا عُلم ذلكَ من الشرع، لم يجُز أنْ يحصلَ لنا
العلمُ، ولا غلبةُ الظن بأنَّ الفعلَ مجزىء إَلا بدلالة.
قالوا: وبيانُ ذلك: أنه سبحانَه أمرَ بالمُضيِّ في الحجِّ بعد
إفسادِه بالوطء، وبالإِمساكِ في اليوم الذي أفطرَ فيه يظنُّه
من شعبان ثمَّ بان من شهرِ رمضان، وبالصلاَةِ بغيرِ وضوء ولا
تيمّم عند عدم الماءِ والتراب، وما ذلكَ إلا لحكم الأمرِ،
ويلزمُ القضاءُ في جميعَ ذلكَ لعدمِ الاعتدادِ له بالامتثالِ
الأَول، فلذلكَ احتجنا إلى دلالةٍ هي غيرُ الأمرِ لحصولَ
الإجزاء.
فصل
الأجوبة عما تعلقوا به
أمَّا قولهم: ليسَ في اللفظِ ذكرُ الإِجزاء، فلعمري لكنّ فيه
أنه اقتضاءٌ بما إذا فعله عادَ بفعلهِ إلى الأصل، ويكفي أن لا
يكون فيه
(3/73)
الا استدعاءُ الفعلِ، وقد وُجد، وذِكرُ
الإجزاءِ لا يُحتاجُ إليه مع كونِ الأصلِ براءةَ ذمّتهِ وخلوَّ
ساحته، وما اشتغلت إلا بالمأمور به، وقد فعله، وإذا لم يكن فيه
وجوبُ غيرِ الفعلِ كفى، ولم يحتج أن يكونَ فيه ذكرُ الإِجزاء.
وأما العباداتُ المقضية، فإنَّ المُضى في الحج الفاسدِ والصومِ
والصلاةِ حصل امتثالُ الأمرِ به بفعلهِ واتمامِه والمضيّ فيه،
ولم يجب القضاءُ بذلكَ الأمرِ، وإنّما وجبَ بأمرٍ ثانٍ، ونحنُ
لا نمنعُ أن يوجبَ الشرعُ عبادةً مبتدأة بدلالةٍ، ولا إعادةَ
عبادةٍ بدلالةٍ، وانما كلامُنا في أمرٍ مطلقٍ لم يتعقبه أمر
ثانٍ بإعادةٍ ولا قضاءٍ.
على أن تلك فرّط فيها، ولم يأتِ بها على الوجه المأمور به،
فكانَ إيجابُ القضاء لتلافي المأمورِ به والِإتيانِ به على ما
كان وأخذ بالمضيّ فيما أفسده احتراماً للزمان، وجعلَ كالعقوبةِ
على من أفسدَ، وبعضُ العلماءِ جعل الشروعَ موجباً، والإفسادُ
منعَ الإجزاءَ، والشروعُ أوجب المضيَّ، كالنفلِ إذا شَرَعَ فيه
عند أبي حنيفة، وعلى ما روي عن صاحبنِا في رواية، وبقيَ وجوبُ
الإعادِة بمقتضى الأمر الأول.
فصل
اختلف الناسُ في المريضِ والحائضِ والمسافرِ، هل يلزمُهم
الصومُ أو يجبُ ذلكَ حالَ زوالِ أعذارهم غيرَ مستندٍ إلى
إيجابِ حال قيامَ أعذارهم؟.
فذهب أصحابُنا وأصحابُ الشافعي إلى أن الوجوب يتعلّق بهم حال
قيام أعذارهم، ويجب القضاء عند زوال الأعذار، مستنداً إلى
(3/74)
الوجوب (1).
وفرق صاحبنا (2) بين الجنون والإِغماء، فجعلَ المجنونَ والطفلَ
غيرَ مخاطبينَ، وجعلَ المغمى عليه مخاطباً حال الإِغماءِ
بالأيجابِ.
وقال أصحابُ أبي حنيفة: لا يجبُ على الحائضِ والمريضِ، ويجبُ
على المسافرِ (3).
وقالت الأشاعرةُ: لا يجبُ على الحائضِ والمريضِ والمغمى، ولا
يخاطبون حالَ قيامِ العذرِ، وإنما يخاطبون بالقضاءِ إِذا زالت
أعذارهم، وأما المسافرون فإنهم مخاطبون بالصوم في أحدِ
الشهرين، إمّا شهرُ الأداءِ، أو شهرُ القضاء، وأيهما صاموا
سقطَ الفرض، وكان التخييرُ واقعاً بين الشهرين، كالتخييرِ بين
أعيانِ التكفيرِ في كفاراتِ التخيير (4).
__________
(1) انظر ذلك في "العدة" 1/ 315، و"التمهيد" 1/ 261، و "شرح
الكوكب المنير" 1/ 367، و"المستصفى" 1/ 96، و"الإحكام" 2/ 262،
و"البحر المحيط" 1/ 238.
(2) أي الإمام أحمد، وفق رواية الأثرم عنه في سؤاله عن المجنون
هل يقضي ما فاته من الصوم؟ انظر "العدة"1/ 315.
(3) انظر "فواتح الرحموت" 1/ 85، و"أصول السرخسي" 1/ 35.
(4) وهو ما اختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، ونصره الرازي.
انظر "التبصرة" ص (67)، و"المحصول" 2/ 208.
(3/75)
فصل
في ذكرِ ما تعلَق به من قال بالِإيجاب مع قيام الأعذار
من ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]،
وتقديره بإجماعنا: فافطر، ولو لم يكن الوجوبُ حاصلاً لما كان
الِإفطارُ موجباً أو شرطاً، لأنَّ الِإفطارَ في زمانٍ لم يتعلق
عليه الإِيجابُ، لا يعتبر لإِيجاب الصومِ في زمان خوطب بالصوم
فيه ابتداءً. ألا ترى أنَّ الجنونَ لَما كان يمنعُ الخطابَ لم
يُعلَق علَى ما تفوت به الأفعالُ والعباداتُ الِإيجاب في
مستقبل الحال.
ثم قوله: {فَعِدًةٌ} تقديره: فليَصُمْ بعدةِ الأيام التي أفطر،
وموازنةُ عدّة أيام الصيام بعدةِ أيام الإِفطار دلالةٌ أيضاً
منَ الآية ومفهومها على أنَه يستندَ إلى الخَطاب في تلك
الأيامِ.
وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، دلالة على أن اليُسر هو
تأخيرُ الأداءِ لأجلِ المرض، ولو كان ابتداءً إيجابٌ، لما ظهرَ
اليسرُ في ابتداءِ الإِيجابِ، لأنه نوعُ تكلّفٍ مبتدأ.
ومن ذلك: أنَه لو كانَ الوجوبُ لا يتعلَّقُ بأوقات الأعذارِ،
لما وَجَبَ عليه الصومُ إلا إذا عادَ وقتُ مثلهِ من الصيام،
كالصَّلاةِ لما لم تخاطب بها الحائضُ، لم تجبْ إلا بعودِ مثلِ
وقتهِا.
ومن ذلك: أنَّ ما يأتي به يسمى قضاءً، وهذا يَدُلّ على أنه
بَدَلٌ عن الفعلِ في الوقتِ الأول، ويتقدرُ بمقداره ركعات في
الصلاة، وأياماً في الصيام، وينوي قضاءً عن صوم رمضان والصلاة
المعينةِ التي فاتت باسمِها الخاصّ، وهذا كُله دلالَة على بدلٍ
عمّا فاتَ من
(3/76)
العباداتِ، إذ لو لم يكن عوضاً عن تلكَ ولا
بدلاً عنها لما تقدَرت بها كالإِيجاباتِ المبتدأة.
فصل
فيما تعلًقَ به الآخرون
قالوا: لو كان واجباً ما جازَ تركُه كالصَّوم فِي حقِّ غيرِ
المعذورِ، ولما ثبتَ جوازُ تركهِ دلَّ على أنَّه غيرُ واجب،
كصومِ النفل.
قالوا: الحائضُ لا يصح منها فعلُ الصومِ، ولا التوصُّلُ إلى
فعلهِ، فلم يجزْ أن تكونَ من أهل الوجوب.
فصل
في جواب ما ذكروه، ما قدمناه في إيجاب الصلاة في أوَّل الوقت.
وأما الثاني: فجوابُه أن المحدِثَ لا يمكنه فعْلُ الصلاةِ قبلَ
الطهارةِ، ثم هو من أهلِ وجوبها، فبطل ما قالوه.
فصل
في الأمرِ إذا وردَ بأشياءَ على سبيلِ التخييرِ، مثلِ العتقِ
والإطعامِ والكسوةِ في كفارة اليمين، أو الهدي، وإطعام
المساكينِ، والصيام في الجزاءِ، فالواجبُ واحد منها لا بعينه،
يتعينُ بفعلِ المكلف.
وبهذا قال الفقهاء والأشعرية (1)، خلافاً للمعتزلة في قولهم:
__________
(1) انظر ذلك في"العدة" 1/ 302، و "التمهيد" 1/ 335 و"المسودة"
ص (27 - 28)، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 379 و"التبصرة" ص (70)،
=
(3/77)
الثلاثة كلّها واجبة (1)
فصل
في جمعِ أدلتنا
فمن ذلك: أنَ التخييرَ على ضربين:
أحدهما: من طريق التخصيص.
والثاني من طريق التعميم.
وقد ثبت بإجماعِنا أنَه لو قال لمن في ملكه عبيد: أعتِق واحداً
من عبيدِك، أو اقتل واحداً من المشركين. اقتضى ذلكَ إِيجابَ
عتق واحدٍ من العبيد، وقتلَ واحدٍ من المشركين لا بعينه،
والتخييرُ حاصلٌ في التنكير، كذلك إذا وردَ التخييرُ من طريقِ
التخصيص.
يوضحُ هذا أن التوضيح لقوله: أعتق واحداً من عبيدك، واقتل
واحداً من المشركين، والمعنى: إِما هذا، وإما هذا، وإما هذا،
وهذا هو بعينه قوله: فتحرير، أو إِطعام ... أو كسوة، ولا فرقَ
بإجماع العقلاء في ذلك، فإذا كان الواجبُ في التخييرِ بالعموم
واحداً لا بعينه، كذلكَ في الخصوصِ، وكُلُّ ما يتعلّق به
المخالفُ في هذه المسألةِ من وجوبِ التساوي في الأصلحِ، موجود
في الأعيانِ الداخلةِ في عمومِ اللفظ، وتعليقِ الأمرِ بواحدٍ
منها.
ومن ذلك: أن التخييرَ قد يحصلُ بين الأشياءِ المختلفةِ في
أعيانِها
__________
= و"المستصفى"1/ 67.
(1) انظر "المعتمد"1/ 87.
(3/78)
ومنافعِها، ولم يجب أن يعم التخييرُ النوعَ
الواحدَ من الأعيانِ، ولا المقصودَ الواحد، فكذلك إيجابُ
تَساويها في الحكُمِ لا وجه له مع جوازِ اختلافها في الجنسِ
والنوعِ والمقصد.
وكذلك يجوزُ التخييرُ بين الضدّين، والبعض والكُلّ، كالإمساكِ
والإِقدام، والكلام والسكوتِ، والصيام والإفطارِ، والإتمام
والقصرِ، والغسلَ والمسح، فما المانع من التخَييرِ بينَ أشياءَ
الواجَبُ واحدٌ منها، وليسَ كلها واجباً؟
ومن ذلك. أن خصائصَ الوجوب لا تعم، فإنَّه لو فعلَ الثلاثةَ
فأعتقَ وكسا وأطعم، سقطَ الواجبُ بواحَدٍ منها لا بالجميع، ولو
تركَ الكُلَّ أثِم بواحدٍ منها لا بترك الجميع، واذا تأخّر عن
الفعلِ خوطبَ بفعلٍ واحدٍ لا بالجميع، واذا لم تعمّ خصائصُ
الوجوبِ، فلا وجهَ للقولِ بعموم الوجوب، كما أنَّ الواحدَ الذي
عُديتْ فيه خصائصُ الوجوب، فلاَ يسقط بفَعلهِ الوجوبُ، ولا
يأثم بتركهِ، ولا يُستدعى منه عند تأخيرهِ عنه، لا يكون
واجباً، كذلكَ الثلاثةُ العاريةُ عن خصائِص الوجوبِ لا تشتركُ
في الوجوب.
ومن ذلك: أن الوجوبَ ينفي التخيير، فلا يصحُّ أن يقول: أوجبتُ
عليك صلاتين، وأيهما شئت فصلِّ، كما لا يقول: أوجبتُ عليك
صلاةً وإن شئت فلا تصلّها، فلما حَسُن هاهُنا أن يقول: بأي
الأنواع شئت فكفر، عُلم أنه ليسَ الواجبُ إلا واحداً.
ومن ذلك: أنَ العربَ لا تعقلُ من قولِ القائل لعبده: أعطِ
زيداً درهماً أو ديناراً، وقوله لوكيله: تصدَّق بدرهمٍ أو
دينار. أنه أوجبَ
(3/79)
عليهما الاعطاءَ لزيدٍ وعمروٍ، ولا إيجابَ
التصدقِ بالدرهم والدينار.
ولا في الخبر أيضاً إذا قال: رأيت زيداً أو عمراً، ولقيتُ
خالداً أو بكراً، يعطي تساويهما في وجوبِ اللقاءِ أو وجودهِ.
فصل
في جمع الأسئلةِ على أدلتنا
قالوا: إذا قال: أعتقْ عبداً، فلا تخييرَ ولا ذكر جُمل تقتضي
المساواةَ، بل لفظ تنكير، وهاهنا ذكر جملًا لو رتبها، لاقتضى
ترتيبُها التساوي في الوجوب، إذ لا يقامُ مقامَ الواجب إلا
واجب، ولهذا أجمعنا على أنه لا يجوزُ التخييرُ بين مندوب
وواجَب ومباح، بل بينَ مباحٍ كُله، أو واجبٍ كُلّه، أو ندبٍ
كُلّه، وما ذاك إلا لأنَّ التخيير يقتضي التساوي بين
المخيَّرات.
قالوا: ولأنَّ الضامنَ والمضمونَ عنه يتخيرُ المضمونُ له
بينهما في المطالبة، والاستيفاءِ، والوجوبُ يعمهما. فبطل قولك:
إنَ التخييرَ بين اثنين ينفي تعميمهما بالإِيجاب، وانما لم
يأثم الكُلّ بالترك، لأن الوجوبَ ليس من طريقِ الجمعَ، لكن على
طريق البدل، وإنما كان يجبُ الإثمُ عن تركِ الكُل أنْ لو كانت
الثلالةُ واجبةً على وجهِ الجمع.
فصل
في جمعِ الأجوبةِ عن الأسئلةُ
أمَّا قولُهم: لا تخييرَ في التكثيرِ، فليسَ كذاك، بل يقتضي
التخييرَ، ويظهرُ ذلك بحُسن تفسيره بالتخيير، فيقول: أعتق
عبداً، أي
(3/80)
عبيدك شئت، ولو لم يكن في اللفظ تخيير لما
حَسُن هذا التفسير، ألا ترى أنَّه إذا قال: أعتق سالماً
وغانماً، أيهما شئت لم يحسن، ولو قال: أعتق سالما أو غانماً
أيهما شئت حسُن ذلك لما فيه من التخيير، والضامن والمضمون
عمّتهما خصيصة الوجوب، وذلك أن أحدَهما التزمَ ثمناً بعقد
بيعٍ، أو أجرةً بعقد إجارةٍ، والآخَرَ التزم بعقدِ ضمان، فإذا
امتنعا جميعاً من أداءِ الدين أثما مأثم المخل بالواجب عليه،
بخلاف مسألتنا، فإنه إذا أخل بالثلاثة لم يأثم إلا بواحدٍ،
فبان بأخذ الخصيصة مأخذ الواجب.
وقولهم: إنما لم يأثم بالكُل، لأنه لم يجب الجمعُ، فإنما هو
واجبٌ على سبيل البَدَل، فباطل بفروض الكفايات فإنه وجب على
سبيل البدل، فأي سابق سبق إلى فعله سقط الفرض عن الباقين، كما
أن هاهنا إلى أي الثلاثةِ سبقَ أجزأه ومع ذلكَ إذا تركَ الكل
أثم.
على أنَّ قولَك: ليس بواجبٍ على الاجتماعِ بل على سبيلِ البدل.
فهذا هو النّافي لإجراءِ اسمِ واجب على كُل واحدٍ، وهل معنى
واجب إلا الاقتضاءُ به على وجهٍ لا يخرجُ عن عهدتهِ الأمرُ إلا
بفعلِه؟ فإن قيل: ففروضُ الكفاياتِ حجة عليكم من حيث إنه من
فعله من الناس كان مسقطاً لواجب، ثم إذا فعله واحدٌ بقي
الباقون غيرَ واجبٍ عليهم، كذلكَ جاز أن تكون الثلاثة هاهنا
واجبةٌ قبل الفعل، فإذا فعل واحداً، خرج الباقي عن الوجوب، ولا
شيءَ من الأصول يشبه مسألتنا على الوجه الذي ذهبنا إليه، إلا
فروضَ الكفايات، فإنها تجبُ على سبيل البدل، أيّ طائفة نهضت
بالفعل، سقطَ ذلكَ عن الباقين ونابَ عنهم، وهي فرض على
الكُلِّ، والكل موصوفون بالخطابِ بها.
(3/81)
قيلَ: ليسَ فروضُ الكفاياتِ من مسألتنا
بشيءٍ، لأنَّه يحسُن أن يقال: يا أهلَ القريةِ؛ صلّوا على
موتاكم، ومُروا بالمعروفِ، وانهَوا عن المنكرِ. ولا يقالُ
هاهنا: لتخرجْ في الكفارةِ العتقَ والاطعامَ والكسوةَ، إذا
تركَ أهلُ القرية ذلكَ أثموا كلُهم، وهنا الإِجماعُ منعقد على
أنه لا يأثمُ إلا بواحدٍ.
فإن قيل: كلامُكم يعطي أنكم لا تعقلونَ الوجوبَ مع التخييرِ،
وليسَ الأمرُ كذلك، فإنكم قد قلتم: إن الصلاةَ تجبُ بأولِ
الوقتِ وجوياً موسّعاً، فلما قيل لكم: ما معنى الوجوب،
فالمكلفُ مخير بينَ فعلِ الصلاةِ في الوقتِ الأوّلِ، وبين
تركهَا لا إلى بدل؟ قلتم: الوجوبُ الموسعُ معقول، وهو قضاءُ
رمضانَ، يتّسعُ وقتُ قضائهِ من رمضانَ إلى مثلِه، فيكونُ ما
بين رمضانين وقتاً لفعلِ القضاءِ، وكذلك الدينُ المؤجلُ واجبٌ،
وهو مخير بين تعجيلهِ فيقعُ عن الواجب، ويين تأخيره، ولم يخرجه
التأخير بين زمانٍ وزمانٍ، عن كونهِ واجباً فيَ الزمان الأول،
كذلك لا يخرجُ تخيير هذا المكلفِ بين عينٍ وعينٍ، وفعلٍ وفعلٍ،
عن كون الأعيَانِ والأفعالِ واجبةً، وليس التخيير هاهنا بأكثرَ
من توسعة ورخصة (1) بين أعيان، كما أنها توسعة ورخصةٌ في
الصلاةِ، وقضاءِ صوم رمضان، والديونِ المؤجّلة بين أزمان، وهو
مثلُ مسألتنا سواء، فإنه إذا أخل بالفعلِ في جميعِ الأوقات
التي خُير فيها، لم يأثم إلا بالتركِ في وقتٍ يتّسع لفعلها،
ولا يكونُ آثماً إثمَ من أخلَّ بفعلٍ واجبٍ يملأ تلكَ الأوقاتِ
كلَّها.
__________
(1) مكررة في الأصل.
(3/82)
قيل: إنا لم ننفِ الوجوبَ لأجلِ التخيير،
لكنْ نفيناه لأجلِ انتفاءِ خصائصَ الوجوب.
من ذلك: أنَها لو كانت كلُّها واجبةً، لوجب إذا فعلَ واحداً أن
يبقى وجوب ما لم يفعلْه منها كسائرِ الواجبات، ألا ترى أن
الصلواتِ الخمسَ، وصومَ أيامِ رمضانَ لما كانت واجبةً كلُّها،
إذا فعل واحداً منها بقيَ الباقي منها على وجوبهِ.
وأمَّا أوقاتُ الصلواتِ، فإن الأول تَعين الوجوبُ به، وأُبيحَ
له التأخيرُ، كما أبيح الامتدادُ والإِطالةُ إلى آخرِ الوقتِ،
وانما لم يحصل المأثمُ بالتأخيرِ لأنه أتى ببدلٍ عن التقديمِ،
وهو العزم على الفعلِ في الثاني، فنابَ منابَ التقديم.
واحتجَّ بعضُهم في النظرِ بأنَّ الثلاثةَ لو لم تكن واجبةً،
لما سقطَ بجميعها الفرضُ إذا فعلَها ثلاثة، فأعتق واحداً،
وأطعم واحداً، وكسا واحداً، فلما سقطت فروضُ الثلاثةِ
بالثلاثةِ، عُلِمَ أن جميعها واجبةٌ، إذ لو كانَ فيها واحدٌ
ليسَ بواجبٍ لكانَ في الثلاثةِ واحدٌ لم يسقط الفرض والواجب
(1).
فصلٌ
في جمعَ شبههِم
قالوا: إنَ الله سبحانَه سوَّى بينها في الأمرِ، فكُلُّ واحدٍ
من الثلاثة
__________
(1) في الأصل: "الجواب" وكتب الناسخ أمامها "كذا في الأصل".
(3/83)
مأمور به في الإجزاء، فكلُّ واحدٍ يحصلُ به
الإجزاءُ وبراءةُ الذَمةِ وحصولُ التكفيرِ به، وفي الأصلحِ
والمشيئةِ فكُلُّ واحدٍ منها صالحٌ ومرادٌ، فوجبَ تساويها في
الإيجابِ، إذ لا مزيّةَ لواحدٍ منها على الآخر. كما لو
تناولَها الأمرُ مطلقاً من غيرِ تخيير.
ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لنصبَ الله عليه
دليلاً، وجعل لنا إليه سبيلاً، ولم يبهمه عنا إبهاماً، مع
كونِنا لا نعرفُ الأصلحَ لنا، ولا ما فيه فسادُنا، ألا ترى أن
سائرَ الواجباتِ وقتها بمواقيتَ وقدَرها بمقادير، وعينها بما
امتازت به عن غيرها، ولم يتركْ للمكلفِ، ولا جعلَ إليه إلا
مجرَّد الفعل لذلك المعين الموقّتِ المقدّرِ، فلما لم يعين
هاهنا، بل ذكرَ الجملَ الثلاثَ، عُلِمَ أن جميعَها واجبةٌ،
فأيها فعلَ كانَ مصادفاً للواجبِ الأصلحِ المأمونِ معه
الفسادُ.
ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لكانَ إذا كفر ثلاثةٌ
من المكلَّفين بالثلاثةِ، فكفَّر كُل واحد من الثلاثة، بواحدٍ
عن الذي كفر به الآخر، أنْ يكونَ المكفَرُ بالواجب واحداً منهم
لا بعينه، فلما وقع تكفير كُلّ واحدٍ موقع الوجوب، دل على أنَ
الوجوبَ عمَّ الجميعَ، ألا ترى أنَّ القِبلةَ لما كانت واحدةً،
والصلاةَ المنسيَّةَ الواحدةَ لما كانت واحدةٌ، لا جرمَ إذا
صلَّى ثلاثةٌ إلى ثلاثِ جهاتٍ، أنَّ واحداً منهم صلى إلى
القِبلة، واذا صلَّى ثلاثَ صلواتٍ، إذا كانَ بينهنَّ أنها
صلاةُ نهارٍ لأجلَ المنسية، أو خمس صلواتٍ إذا لم يدرِ صلاةَ
نهارٍ أم ليلٍ، فإنَ الواجبَ منها واحدةٌ، ولا نقولُ الجميع
وقعتْ واجبةً.
ومن ذلكَ قولُهم: إن الوجوبَ قد يعم عدداً من المتعبّدين، ثم
يسقطُ بفعلِ الواحدِ منهم، كذلكَ جازَ أن يعم عدداً من
العباداتِ،
(3/84)
ويسقطُ بفعلِ واحدٍ منها أيّها فعل.
ومن ذلك قولهم: إنَه لو كانَ الواجبُ من المخيرّات واحداً
لا بعينه، وأنه إنما تعين بفعلِ المكلفِ ونيتهِ، مع كونِ
الله سبحانَه عالماً بما يختاره المكلفُ من الثلاثة
وينويه، لكانَ ذلكَ معلوماً لله سبحانه، وهو الواجبُ
عندَه، والمرادُ به له سبحانه، وأن يعلم أن غيره ليسَ
بواجب، فيكونُ تخييره بين ما علم وجوبه، وبين ما علم أنه
ليس بواجب، وما ليس بواجب، فهو النفلُ المتطوعُ به، وفي
هذا خروج من إجماع الأمّة، فإن القائلينَ بأنَّ الواجبَ
واحدٌ من الثلاثةِ لا يقولون: إنّ الواجبَ واحدٌ معين عندَ
الله معلوم، وأنَّ غيرَه ليسَ بواجب.
فصل
يجمعُ الأجوبة عن شبههم
أمَّا تعلًقهم بتسويةِ الثلاثةِ في الأمرِ والإجزاء، فغيرُ
موجب للكُلِّ، ولاللتسويةِ بينها في الوجوب، كما لم يوجب
التسويةَ بينها في العقاب والمأثمِ عند الترك، ولا أوَجبَ
التسويةَ بينها في إسقاطِ ما في الذّمةَ إذا جمع بين
الكُلِّ في الفعل، ولأنَّ التخييرَ بلفظِ العموم، يتساوى
فيه سائرُ الأعيانِ، فإنَّه لا يقول: أعتقْ عبداً من
عبيدِك، واقتَل مشركاً من المشركين. إلا وكل عبدٍ يساوي
غيرَه من العبيدِ، وكذلكَ المشركُ المنكرُ، ثم مع ذلك لم
يقتضِ ذلك مساواتَهم في الإيجابِ، والمعنى في الأصل وهو
المطلقُ، فذاكَ جمعٌ، وهذا تخييرٌ، وفرق بينهما، كما لو
قال: اعتقْ عبيدَك، واقتل المشركين. اقتضى إيجابَ الجميعِ،
ولو قال: اقتلْ مشركاً، وأعتقْ عبداً، لم يقتضِ إلا إيجابَ
(3/85)
قتلِ واحدٍ من العبيد، وقتل واحدٍ من
المشركين.
وأما الجوابُ عن قولهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لنصب الله
عليه دليلاً. فلا وجه للمطالبةِ بالدليلِ عليه، مع كونهِ
قد جعلَ الاختيارَ من المكلَّفِ هو المعين له بالوجوب، كما
إذا جعلَ التخييرَ إليه بلفظِ العموم، فإنَّه لما نكّر
العبدَ فىَ العِتقِ، والمشركَ في القتلِ، صارَ العبدُ
الذَي يبادره بالعتقِ، والمشركُ الذي يبادره بالقتل، هو
الواجبَ عتقه وقتله، كذلك التخييرُ بلفظِ الخصوص.
ولأنَّ هذا باطل بالعقاب على تركه، فإنَّه لم يقم على
المتروكِ المستحق به العقاب دليلًا، وَلا جعلَ إليه
سبيلًا، ومع هذا فهو واحد، وباقي الثلاثة ليست كذلك، وكونُ
المكلَّفِ المختارِ لا يعرفُ الأصلحَ له فيسلكُه ويقصده،
ولا المفسدَ فيجتنبه، ولا يجوز أن يرد الاختيارَ إليه، لا
يمنعُ أن يكونَ الباري لا يخير إلا إذا علم أنه لا يختار
إلا الأصلحَ دونَ المفسد، ولو فصح الباري وصرَّح بذلكَ
بأنْ يقول: أيها المكلف كفَر بأيِّ الثلاثة شئت، فمهما
اخترتَ التكفيرَ به، فهو المختارُ لنا والمصلحةُ لك. وقد
قلنا مثلَ ذلك في جواز ردِّ الاختيارِ والتكليفِ إلى النبي
صلى الله عليه وسلم والتشريع، فيقول الباري له: احكم بما
شئتَ وما ترى، من غير قياسٍ ولا استنباطٍ، بل ما تراه فهو
الحكم عندنا.
ولأنَ طلبَ الأصلح، وخوفَ مواقعةِ الأفسدِ، إنّما يكون
فيما هو معيّن، فأمَّا إذا كان المأمورُ به غيرَ معيَّن،
فإنه لا يجبُ البيان، لأنَّ الجميع متساوٍ.
وأما قولهم: إذا كفر ثلاثة، كلُّ واحدٍ منهم بغيرِ الذي
كفر به
(3/86)
الآخرُ، فاستوعبوا الثلاثةَ أعيان، كانَ
الجميعُ واجباً من حيث إنه سقطَ بها الوجوبُ عن ثلاثةٍ، كل
واحد منهم قد وجب عليه نوع، فلماسقطَ بالثلاثةِ ثلاثُ
كفاراتٍ واجباتٍ. دل على [أنَّ]، الثلاث واجبات، حيثُ سقطَ
بها ثلاثة واجباتٍ، فلا يلزمُ، لأن كونَ الثلاثة في حق
ثلاثةٍ من المكلفين لا يعتبرُ به الثلاثةُ في حق الواحدِ،
فإنه لو أمرَ بلفظِ التنكير فقال: أعتق عبداً، كأعتقَ
كُلُّ مُكَفر عبداً، كانَ جميعُ ما أعتقه المكفرون من
العبيدِا واجباً، وَبمثله لو أعتقَ واحدٌ جميعَ أولئك
العبيد، لم يكن الجميعُ واجباً، بل كانَ الواجبُ منهم
واحداً.
وأمَّا تعلّقهم بفروض الكفايات، فهو الحجّةُ لنا، لأنه لما
كان الفرضُ على الجميع، أثَمَ بتركه الجميعُ، فلو كانَ
هاهنا الواجبُ الجميع، لأثم بتركهِ الجميعُ.
على أن فروضَ الكفاياتِ لو لم تجب على الكافة لاتكلَ
بعضُهم على بعض، فلم يُفعل شيءٌ منها، وهاهنا إذا وجب
واحدٌ لا يفضي تركُ اثنين إلى ترك الجميع، لأنه إذا نابَ
واحدٌ عن آخر في حقِّ المكفِّر الواحِد، لم يخلدْ إلى تركِ
الكل، بل غايةُ ما يخلدُ إلى تركِ الواحد والاثنين، وفي
فعلِ الأخركفاية.
وأما قولُهم: إنَّ هذا يُفضي إلى أن يكونَ ما يختارُه
المكلفُ من الأعيانِ الثلاثةِ هو الواجبَ عندَ الله، وما
لم يختره ليس بواجب، وغيرُ الواجب هو النفل، وأحدٌ لا
يقولُ إنَ الله خيَّر في هذهِ الأعيانِ الثلاثة بين واجَبٍ
ونفل، فهو قولٌ مخالفٌ الإِجماعَ، فلم يبقَ إلا القولُ
بأنَ الثلاثة واجبةٌ. فهذا لا يصحُّ من وجوه:
(3/87)
أحدها: أنا وإن قلنا بان الواجبَ تعين
بالنيةِ، والفعلِ، إلا أنَه قبل الفعل والنيةِ غيرُ متعين،
وليسَ إذا كانَ الله سبحانه عالماً بعين ما يفعلُه المكلفُ
ويختاره ويعتقده وينويه، كان ذلكَ موجباً لتعيينه
بالوجوبِ، كما أنه يعلمِ مَن الناهضُ من الأمة بفعلِ فروضِ
الكفاية، ولا يوجب علمةُ سبحانه بذلك أن التعيين حاصل في
حق من علمَ أنه ينهضُ بذلكَ، بل الفروضُ على مَآبها، فلا
يتعين سقوطُ الفرضِ على الجميع إلا بفعل الناهض بذلك
الفرضِ ونيتهِ واعتقادِه، وكذلكَ من قال له الشرع: أعتقْ
عبداً، أو اقتل مشركاً. فإن الله سبحانَه عالم بمن يُصرف
إليه العتق من العبيدِ، وُيقتلُ من المشركين، ومع ذلكَ لا
يُجعل قبلَ الفعلِ متعيناً.
على أنه لو كانَ علمُ الله سبحانه بعين ما يفعلهُ المكلفُ
ويختارهُ يجعلُه واجباً بعينه، لم يُستنكر أنْ يكون غيرُه
نائباً منابَه، وسادّاً مسدّه، كما زعمَ بعضُ فقهاءِ
أصحابِ أبي حنيفة أنَّ الصلاةَ في أول الوقتِ نفل، تمنعُ
بقاءَ الفرض، وتنوب منابه في الوقت الأخير عند تحقق الفرض.
والمسبوكُ من هذه المسألة أن كُل شيء كان من هذا القبيل من
التخيير بين آحاد عدد: كالشورى في الستةِ في باب الخلافة
(1)،
__________
(1) تقصِدُ بالشورى في الستةِ: ما وردَ عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه بعد أن طُعنَ واشتدَ ألمه فقيلَ له: أوصِ يا
أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أرى أحداً أحق بهذا الأمرِ
من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، وهو عنهم راضٍ، فسمّى علياً، وطلحة، وعثمان، والزبير،
وعبد الرحمن بن عوف، وسعداً رضي الله عنهم. =
(3/88)
والأنواع الثلاثة في الكفارة، والأوقاتِ في
الصلوات: الأول والأوسطِ والآخرِ، وما بين رمضانين لقضاء
ما فات من صوم رمضان، لايحسُنُ أن يقال في ذلك كلّه: إن
الوجوبَ عم الجميعَ، ولا إن الواجب واحد بعينه، بل يقال:
إن الكُل متساوي الآحاد في صلاحيته لأداءِ الواجب به إن
كان فعلًا، أو فيه إن كان وقتاً للفعل وظرفاً، فالخطأ ممن
عمَّهَا بالوجوبِ في اللفظِ، وهذا هو الحاصلُ لنَا. والله
أعلم.
فصل
ويدخلُ في ذلكَ مالا يتحقق أداءُ الواجب إلا به، كفعلِ
صلواتٍ خمسٍ في حقِّ من فاتته صلاة من خمسٍ لَا يعلمُ
عينها، والإِمساكِ في جزء من الليل لتحقق صوم جميعِ بياضِ
اليوم، وغسلِ جزءٍ من قُصاصِ شعرِ الرأس ليتحقّق على جميع
الوجه.
فصل
وممّا يشبهُ ذلكَ ويقاربُه، اشتباهُ الحلالِ بالحرام مما
لا يمكن تركُ الحرامِ إلا بتركِه، مثل أخيه ومرضعته
بالأجانب، اشَتباهاً لا يمكنُ معه التمييز.
فهذا إن كان في دربٍ أو محلّةٍ أو قريةٍ صغيرةٍ، صارَ
نساؤها كلُّهن محرماتِ الاستمتاعِ والنكاحَ في حقّه، لأنَّ
كلَّ واحدةٍ منهن يحتملُ أنْ
__________
= أخرجه من حديث عمرو بن ميمون البخاري (3800)، وابن أبي
شيبة 14/ 574 - 578، وابن سعد 3/ 340 - 342.
ووجهُ الدلالةِ في هذا: أن عمرَ بن الخطاب لم يقصد أن تعم
الخلافة هؤلاء الستة، وانما قصد أن يختاروا واحداً منهم.
(3/89)
تكونَ هي المحرمةَ.
فيقال: الكُلّ محرماتُ: بمعنى لا يباحُ نكاحهنّ ولا
المتعةُ بهن بملكِ يمين إن كن مملوكات، وكذلك المسلوخاتُ
إحداهن ميتةٌ.
فصلٌ
ومن ذلك اشتباهُ الأواني، يُجعل الكُل محرماً استعمالُه
وشربُه إذا لم يمكن التحري، أو أمكن لكنَّ [في]، أحدِها
بولاً، أو كان لا تطلق عليها الِإباحةُ قبل التمييز، ويطلق
على جملتها التحريمُ عند من لم يرَ التحرّي، ولا يطلق
التحريم على جميعها عند من يرى التحري، ومن يرى التحري
فيها يقول: إن فيها حراماً وفيها حلالًا يحصل تمييزه
بالاجتهاد.
|