الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
إذا أمرَ الله سبحانَه بعبادةٍ، وعلقها على وقتٍ يتسع سعةً توفي على فعلها؛ كالصلاةِ تجبُ لدلوكِ الشمس إلى غَسَق الليل، كما قال اللهُ سبحانه (1)، فإنَّ الوجوب يتعلق بجميعِ الوقتِ وجوباً موسّعاً (2).
ومعنى قولنا: وجوباً موسّعاً، هو أنَّ الصلاةَ وجبت بأوَّلِ الوقتِ، وجعل أوله وأوسطَه وآخره وقتاً لأدائها، فلا يأثمُ المكلفُ بتركِها في
__________
(1) في قوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
(2) تقدم بحثُ هذه المسألةِ وبيانُها في الصفحة: 43.

(3/90)


وقتٍ إذا كان عازماً على فعلها، فيما بقي في الوقت متّسعاً لها، فمن أخلّ بالعزم كان آثماً بإهماله أمرَ الله سبحانَه حيث تركَ تلقيّه بتعبدٍ ما لا فعلاً ولا عزماً، وبه قال القاضي أبو بكر الأشعري (1)، وأصحاب الشافعي.
وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة: يتعلّقُ بآخرِ الوقتِ الذي لا يتَسعُ إلا لفعلِ العبادةِ.
وقال أبو الحسن الكرخي: يتعلق بوقتٍ غير معين، ويتخير المكلّفُ بين فعلِها في أوَلهِ وأوسطِهِ وآخرهِ، ويتعيّن بالفعل.
وقال بعضُهم؛ أعني أصحابَ أبي حنيفة: إنْ فعلهَا في الوقتِ الأول وقعت نفلاً، يمنعُ وجوبَ الفعل وتقع مراعاة إن بقىَ المكلفُ على تكليفه إلى آخره تبيّنا أنها وقعت واجبةً، و [إن] لم يبق إلى آخره كانت نفلاً.
وقال بعض المتكلمين: إنَه مخيّر بين الأوقاتِ في إيقاعِ الفعل فيها، كما يتخيّر بينَ الأعيان في كفارةٍ للتخييرِ في التكفيرِ بها.

فصلٌ
مجموعُ أدلِتنا على تعلق الوجوب بالوقتِ الأوّلِ والأوسطِ والأخيرِ، وإفسادِ قولِ من خصصّ الوجوبَ بَالوقتِ الأخير، وإفسادِ قولِ من جعلَ الفعلَ في الوقتِ الأولِ نفلاً، ومذهبِ من جعله مراعىً بحالِ المكلف في آخرهِ.
فالدليلُ لصحةِ مذهبنا وأن فعلَ العبادةِ في الوقتِ الأولِ والثاني
__________
(1) يعني: الباقلاني، كما تقدم في الصفحة: 45.

(3/91)


والأخيرِ حصلَ بحكم الأمرِ، لأنَّ الله سبحانه حيث قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، أجمعنا عَلى أنَّه
لم يُرِدِ امتدادها بالتحريمِ عند الدلوك، والتسليم عند غسقِ الليل، فلم يبقَ إلا أنَه أراد امتداد الوقتِ والساعةِ لفعلِها أيً وقتٍ شاء من هذهِ الأوقاتِ التي أوَّلُها دلوكُ الشمسِ، وآخرها غسق الليل، ومحال إخراجُ وقتٍ منها عن تناولِ الوجوب مع اتجاهِ الأمرِ إليه، وليسَ يتلقى الوجوب إلا من صيغةِ الأمرِ التى تناولت هذا الوقتَ الممتد، ولا سيّما مع تفسيرِ الشرع لذلك، فإن جبريلَ صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في الوقتين، الأول والأخير، وقال له: يا محمد، "الوقت ما بين هذين" (1)، ولا يجوزُ أن يكون المراد بقوله: الوقت ما بين هذين، الوسط الذي لم يصلَ فيه هو وقت الوجوب، فلم يبقَ إلا أنَه أراد تعميم الطرفين والوسطَ بالوجوب، وإيقاعَ الفعلِ الواجب فيها.
ومن ذلك: أنَ المأمورَ المكلف إذا أوقعَ الفعلَ المأمورَ به في الوقتِ الأولِ أو الأوسطِ أو الآخرِ، أسقطَ به الفرضَ، وخرجَ به من عهدةِ الأمر، وما خرحَ به المكلف من عهدةِ الأمرِ فهو الواجب بالأمرِ، والأوقات متساويةٌ في ذلكَ من الأولِ إلى الآخرِ، فَدلَّ على أنْ الوجوب عمَّ الأوقاتِ.
ومن ذلكَ: إفسادُ قول من خص الوجوبَ بآخرِ الوقت، أنَّ تعليقَ
__________
(1) أخرجه من حديث طويل عن جابر:
أحمد 3/ 330 و 351، والترمذي (150)، والنسائي 1/ 363، والدارقطني 1/ 256 و 257، والبيهقي 1/ 268، والحاكم 1/ 195 - 196.

(3/92)


الوجوب بالشرطِ يُفيدُ أنه إذا حصلَ الشرطُ حصلَ الوجوبُ، والشرطُ الوقتُ المذكور، وهو مستمرٌ من دلوك إلىٍ غسق، فإذا لم يتعلق بالأوَلِ خاصةً، فلا وجهَ لتعلقهِ بالآخرِ خاصة، فلم يبقَ إلا تعميمُه بالوجوب، وهو ما ذكرناه.
يوضِّحُ هذا: أنَّ الأمرَ المتعلِّقَ بالأشخاص والأماكنِ إذا وردَ كورودِ نصِّ الكتاب في هذه الصلاةِ، لم يتخصصَ أحدُ الأشخاصِ ولا أحَد الأماكن، كذلكَ الأوقاتُ والأزمانُ، ومثال ذلك وقال: احصدوهم من ثنيّة كداء حتى تلقوهم بالصفا. تعلقَ وجوب القتلِ بكل موجودٍ في هذا المكان من الطرفِ الأولِ، وهو الثنيةُ، إلى الصفا، وهو الآخر. ومثالهُ من الأشخاص؛ اقتلوا لدخول بني فلان إلى أن ينتهيَ آخرُهم، أو ينتهيَ دخولُهم، فإن ذلكَ الأمرَ بالقتل لا ينحصر بمكانٍ ولا شخص مما علق عليه الأمرُ، بل يعم جميعَ ما عُلّقَ عليه الأمرُ، كذلك هاهنا.
ومن ذلك: أنها إذا فُعلت في أوَّلِ الوقتِ لم يحلَّ أن تقعَ واجبةً وجوباً مضيّقاً، أو تقعِ نفلاً، أو تقعَ مراعاةً بحالِ الفاعلِ لها في آخرِ الوقتِ، أو تقعَ واجبةً وجوباً موسّعاً، بمعنى أنَّها لم يتخصص وجوبُها بالوقتِ الذي وقعت فيه. ولا يجوزُ أن تكونَ وقعت في الوقتِ المضيّق، كما قال بعض من خالفنا، لأن علامةَ التضييق حصولُ التأثيمِ بالِإخلالِ، وليسَ الأمرُ كذلك في التركِ لفعلِها في الوقتِ الأول.
ولا يجوزُ أن تكونَ وقعت نفلاً، لأنَّه لو كان كذلك، لجازَ أن تنعقدَ بنية النفلِ، لأنها فيه وصفُها وحكمها، ولمّا لم تنعقد بنيّة

(3/93)


النفلِ، بطَلَ أن تكونَ نفلاً كسائرِ الواجباتِ إذا فُعلت في آخر الوقت، بل كان يجبُ أن تكون بنية النفل أخص منها بنية الفرض، إذ كانت نفلاً عند هذا القائل.
ولا يجوزُ أن تقع مراعاةً، لأن عباداتِ الأبدانِ المقصودةَ لا يجوزُ تقديمها على حال وجوبها من غير عذرِ، فإذا بطلت هذه الأقسامُ، لم يبقَ إلا أنها فعلت في وقت وجوبها الموسع، ولأنَه إذا كان جميعُ أجزاءِ الوقتِ منصوصاً على أن للمكلّفِ فعلَه بها، لم يجز أن يكونَ وقوعُه في بعضهِا واجباً مراعاةً لأنه خلافُ موجبِ النصّ، فبطلَ هذا المذهبُ، وفيما دلّلنا به على تعميمِ الوجوبِ للأوقاتِ كلِّها إفسادٌ لمذهبِ من قال: إن الوجوبَ يتعلّقُ بوقتٍ غير معيّن.

فصل
في جمعِ الأسئلةِ على دلائلِ مسألةٍ في الأمرِ الموسَّع
قالوا: حصولُه في الوقتِ واقعاً موقعَ الامتثالِ، لا يدلُّ على وجوبهِ في ذلك الوقت، بدليلِ تقديمِ الزكاةِ وتعجيلها قبلَ الحول، وتقديم الثانيةِ من المجموعين على وقتها (1).
وأما تعلقكم بتناولِ الأمرِ للأوقاتِ كلّها، ليسَ بدلالةٍ على تساويها في الوجوب كما تساوت في الأمرِ، وانفرد أحدها بحصولِ المأثمِ بالتركِ فيه خَاصةً دونَ سائرِ الأوقات.
وأمّا قولكم: لو كان نفلاً لما أسقطَ فرضاً، ولصح بنية النفلِ، ولما
__________
(1) أي تقديم الثانية من الصلاة المجموعة جمع تقديم على وقتها.

(3/94)


وقع مراعى، فالزكاةُ المقدَّمة المعجّلة، فيها خصيصةُ النفل، حيث لا يأثمُ بتركها، ولا يلزمُ دفْعها، ولا يأمره الِإمامُ بإخراجها، ولا يقاتلُ عليها، فجميعُ خصائصِ الوجوب منتفيةٌ عنها، ثم إنّها تُسقطُ الفرضَ إذا حصل شرطُ الوجوب وهو حؤولُ الحولِ، فقد بان أنها وقعت مراعاةً بحؤولِ الحولِ اوعدمِ حؤوله.

فصلٌ
في جمعِ الأجوبةِ عن هذه الأسئلةِ
أما تقديمُ الزكاةِ وتعجيلُ الصلاةِ، فرخصةٌ حصلت لنوعِ منافع وأعذار ودفعِ مضار، لا بمطلقِ الأمرِ والرخصةُ غيرُ أمرِ الإيجاب، فلما اختلفا في السبب الذي أثار الفعلَ في الوقتِ الأولِ والوقتِ الثاني، فكان أحدُهما رخَصةً، والآخرُ بحكمِ الأمرِ والعزيمة.
وأمّا قولُهم: قد يستويان في الأمرِ، ويختلفان في الوجوب، كما استويا في الأمرِ واختلفا في المأثمِ، فغير لازمٍ، لأنَ الوقتَ الأَولَ لم يتعلقْ به المأثمُ، لأنَ العزمَ على الفعلِ فيما بقي من الوقتِ قامَ بدلًا، وناب عن تعجيل الفعل وتقديمهِ، والوقتُ الأخرُ لم يبقَ له خلف ولا بدلٌ، فلذلكَ حصلَ المأثم متعلقاً عنده، ولو انعدمَ العزمُ في الوقت الأول على الفعلِ في الوقتِ الآخر، لأثمَ من حين عزبَ عزمهُ وفرقٌ بينَ أن يبقى زمان تَلافٍ (1) وفعل، وبينَ انقضائِه.
كما أنَ من وجبت عليه كفارةُ تخيير، وكان له رقبة وكسوةٌ وإطعامٌ،
__________
(1) في الأصل: "تلافى".

(3/95)


فلم يعتق العبدَ حتى مات، فعزمَ على الكسوةِ، فلم يكسُ مسكيناً حتى احترقت أو سُرِقت، فعزمَ على الإطعامِ، فلم يُطعمْ حتى أكله الداجن، فإنه يأثم عند عدم الصنف الأخير، ولا يقالُ: أثم لأنَّ الوجوب اختصّ به، بل أثم لأنه فوّت العبادة، حيث أخّرها حتى فاتت الأعيان.
كذلك إذا فاتت الأوقاتُ كلها، وكذلكَ من أخرَ ما عليه من قضاءِ رمضان، لا يمكنُ إلا إذا أخره حتى لم يبقَ ما بينَ رمضانين زمانٌ يتسعُ لقضاءِ الفائتِ مِن صوم رمضانَ، ثم لا يدلّ ذلكَ على أنَّه لم يجب قضاءُ رمضان إلا فيَ ذلكَ الوقتِ الذي يتقدّر بمقدارِ الفائت. بل الصومُ ثابتٌ في ذمته من حين أفطر، وتقديمُ الزكاةِ قبل الحول، وتعجيلُ الصلاةِ في الجمع لا يكونُ به نفلاً، ولهذا لو نوى التطوّع بالزكاةِ المعجّلةِ لم تبرأ ذمته بها، ولا وقعت موقعَ الفرض، وكذلكَ الصلاةُ المجموعةُ، ولو نوى بالمقدمةِ إلى غيرِ وقتها نفلاً لم تنعقد فرضاً، ولا أسقطت الفرض.

فصلٌ
يجمع شبه المخالفين
فمن ذلك قولهم: لو كانَ الوجوبُ يعمُّ الوقتَ الأول والأوسطَ [و] (1) الأخيرَ لكانت خصيصته شاملة للأوقات الثلاث، وخصيصةُ الوجوب هي مأثمُ الترك، فأمَّا صيغةُ الأمرِ فليست من خصائص الوجوبِ لأنّها تتناولُ المندوبَ والواجبَ.
__________
(1) ليست في الأصل.

(3/96)


ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الوجوبُ متعلِّقاً بالوقتِ الأولِ لما جازَ تأخيرهُ إلى الأوسطِ، ولو تعلَّقَ بالأوسطِ لما جاز تأخيرهُ إلى الأخيرِ، لا إلى بدل، فلما جاز تأخيرُه إلى غير بدلٍ، غلمَ أنه ليس بواجبٍ كسائرِ النوافِل، إذ خصيصةُ النافلةِ ما جاز تركُها لا إلى بَدل.
ومن ذلك: قولُ من ذهبَ إلى أنَّ الوجوبَ يتعلَّقُ بواحدٍ من الأوقاتِ غير معيّن، لأنا وجدناه مخيراً بين فعلها في الوقتِ الأول أو الأوسط أو الآخرِ، وهذه خصيصةُ عدم التعيين، كالمخيرِ في واحدٍ من الأعيان المكفرِ بها، فإنَّه لا يقال: إنَ الواجب معين، كذلك الأوقات هاهنا.

فصل
في جمعِ الأجوبةِ عن شبههم
أمَّا قولُهم: إنَّ الأخيرَ من الأوقات اختَص بالمأثم، وهو خصيصةُ الوجوب، فلا يسلَّم، بل هو خصيصة الوجوب المضيّق، فأمَّا الوجوبُ الموسِّع، فليسَ المأثمُ من علاماتهِ ودلائله، والدليلُ عليه:
أنَّ الديونَ المؤجلة وقضاءَ رمضان واجبان، ولا يأثمُ بتأخيرهِما لكونِ وجوبهما موسعاً، فلأنَه إنما يأثم إذا تركَ الواجبَ إلى غير بدل.
وسنبيّن في جوابهم الثاني أنَّ التركَ هاهُنا إلى بدل، هو العزمُ على الفعلِ في الوقتِ الثاني أو الأخير، على أنَّ وقوفَ المأثمِ [على] (1) الوقت الأخير لا يَدُل على اختصاصِ الوجوب به، كما أنَّ فروضَ
__________
(1) ليست في الأصل.

(3/97)


الكفاياتِ لا يحصلُ المأثمُ على التركِ والإعراضِ ما دام في القرية من يُرجى فعلُه لذلكَ الفرض، مثل صلاةِ الجنازِة، فإذا أعرض الكُلُّ، كان بإعراضِ الأخير منهم ظهورُ الإثمِ أو حصولُه، ولم يَدُل ذلكَ على أنَّ الوجوب لم يعمَّ أهلَ القرية، بل اختصّ بآخرهم إعراضاً عن الفرض وتركاً له.
على أن نفيَ المأثم إنما يدُلُّ على نفي الوجوب إذا خلا التركُ عن عذر، فأمَّا الأعذارُ فمنها تُسقط مأثمَ التُّروَك والتأخيراتِ للواجبات، بدليلِ السفر يؤخِّرُ الصومَ، لأجل أنه عذرٌ (1)، وكذلك تأخيرُ الصلاةِ في الجَمع، وتركُ الجمعةِ للأشغال وخوف (2) تلف الأموال.
وهاهنا عذرٌ ظاهر، وهو أنا لو أثمناه بتأخيرِ الصلاةِ عن أول الوقت، وألزمناه فعلَها فيه، فإنَّ مصادفةَ الزوالِ والغروب لأشغالِهم مانعٌ لهم ومعوِّقٌ عليهم ما بهم إليه أشدُّ حاجة، وإن كلفنَاهم مراعاةَ الوقتِ الأوّلِ بتركِ الأشغالِ والتَّرصُّدِ لدخوله لأحْرَجَ وشقَّ، فلما عَلِمَ اللهُ سبحانَه ذلكَ من أحوالهم أسقط المأثم عنهم بالتأخيرِ، كما أسقطه بسائِر الأعذارِ المعيقة، كالسفرِ لأداءِ صوم رمضان وتوسعةِ ما بين رمضانين لقضائه، بخلافِ آخرِ الوقت، فإنَّ فيمَا سبقه من التوسعة غنىً عن رفع المأثمِ بتركها فيه، وفارقَ الواجبُ النفلَ من هذا الوجه، وهو
__________
(1) بدليل قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
(2) في الأصل: "وجوب".

(3/98)


أنَّه سقطَ المأثمُ لنوع عُذرٍ، والنفلُ يَسقطُ لغيرِ عذرٍ.
وأمّا قولُهم: لو كان واجباً في الوقتِ الأول والأوسطِ، لما جازَ بتركه فيهما وتأخيره عنهما لا إلى بَدَل. فنحن قائلون بموجبه وأنّه ما جازَ لا إلى بدل بل إلى بدل هو العزمُ على الفعل.
فإن قيل: فلو كانَ العزمُ بدلًا لكان يعتبرُ فيه نوعُ تعذرٍ كسائر كالأبدالِ، ولكان يَسقطُ المبدَلُ، لأن البدلَ ما ناب مناب المبدَل، كالأبدالِ في الكفاراتِ والطهاراتِ، ولما لم يَسقط الوجوبُ بالعزم بطل أن يكون بدلًا عن الفعل.
قيل: أمَّا التعذرُ فلا يعتبر لكثيرٍ من الأبدال، بل يُعتبر نوعُ مشقّة، بدليلِ المسحِ على الخفيّن مع القدرةِ على غسلِ الرجلين، والعدولِ عن العتق إلى الكسوةِ، وعن الكسوةِ إلى الإِطعام لا لعُذرٍ، لكنه توسعةٌ، لإِزالةِ مشقةِ التعيينِ للغَسل في الطهارةِ، والعتقَ في الكفارةِ.
وأمَّا كون العزم لا يُسقطُ وُجوبَ الفعل، فليس ببدل عن أصل الفعل، بل هو بدَل عن فضل التقديم وفعله، فإذا كان على الفعل من أولِ الوقتِ إلى أوسطهِ عازماً، ثم فعلَ في الوقتِ الأخير، صار كأنَّه بعزمه بدأ بالصلاة وطوَّلها إلى الوقت الأخيرِ، لأن تحقُّق العزم على الصلاةِ عملٌ بالقلب ممتدٌّ إلى حين فعلها، فصار كتطويلهَا بعد الشروع فيها، وإنَ لم يكن الإِحرامُ بها في الوقت الأوّل مسقطاً الائتمار (1) بها الممتد إلى حين خروج الوقت الأخير في حق من
__________
(1) في الأصل: "لا سيما" وهي تحريف.

(3/99)


طولها.
وعلى أنَّ صوم رمضانَ في السفر، وقضاءه في الحضرِ هو واجبٌ، وإن كان مُخيراً بين فعلِه وتركه لا إلى بَدَلٍ سوى العزمِ على الإتيانِ به في الوقتِ الثاني من وقت الترك.
وأما شبهةُ من جعل الوقت واحداً غيرَ معين، وأنَّه لما تخير بين الفعلِ فيها كان كأعيانِ التكفيرِ في كفارةِ التخيير، فالكفارةُ هي الحجة، لأنَّ التكفيرَ وجب من حين الحِنثِ، وإنما خيّرناه في أعيانِها، فلنقل: إنّ الصلاةَ واجبةٌ بالوقت الأول، وإنما خيَّره في الأوقاتِ لأدائها، فأيّ نوعٍ كفَّر به، فالوجوبُ سابقٌ له.