الواضح في أصول الفقه فصل
إذا أمر الله تعالى نبيّهُ صلى الله عليه وسلم بعبادةٍ، نحو
قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الممتحنة: 12] أو فعل فعلاً عُرِفَ انه
واجب أو ندبٌ أو مباحٌ فتشركُه أمّته في حكمِ ذلك الأمرِ حتى
يدُلَّ الدليلُ على تخصيصه (1).
وكذلك إذا أمر النبيُّ واحداً من أمته بأمرٍ تبعه الباقون من
الأمّة في حكم ذلك الأمر، وإن حكم عليه بحدٍ في جريمةٍ أو
كفارةٍ، كان
__________
(1) انظر: "العدة" 1/ 318، و "التمهيد" 1/ 277 و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 218، و"المسودة" من (3231) و"شرح مختصر الروضة" 2/
411
(3/100)
ذلك عاماً في حق كل من ارتكب تلك الجريمة،
كقطعهِ لسارقِ رداء صفوان (1) ونحوه، أشار إليه أحمد في مسألة
الحرام في الطعام، إذا قال الرجلُ في طعامه: هو علي حرامٌ.
فجعل حكمه حكمَ تحريم النبي صلى الله عليه وسلم العَسَل
الذيمما شربه، فقالت عائشة: أجدُ منك رائحة المغافير (2)،
وبتحريم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية (3).
فقد جعل حكمنا حكمه (4)، وإن كانت تحلةُ اليمينِ نزلت في
النبيّ خاصة.
وكذلك قال أحمد: لا يُصلى قبل العيد ولا بعدَها، لأنَّ النبيّ
صلى الله عليه وسلم لم يصلّ قبلها ولا بعدَها.
وقالت الأشاعرةُ وبعض الشافعيةِ: ذلك يختص النبيَّ صلى الله
عليه وسلم إلى أن تقوم دلالةُ التعميمِ لأمته، وكذلك يختص من
خاطبه من أمّته إلى أن تقوم دلالةُ العموم (5)، وإليه ذهب أبو
الحسن
__________
(1) سيأتي تخريجه في الصفحة 219.
(2) أخرجه البخاري (5267)، ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي لله
عنها.
(3) ورد في الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل
الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}
[التحريم: 1].
أخرجه النسائي 7/ 71، والحاكم في "المستدرك" 2/ 493، وقال: هذا
حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4) في قوله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
(5) انظر ذلك في "الإحكام" للآمدي 2/ 379 - 386 "التبصرة"
للشيرازي =
(3/101)
التميمي من أصحابنا.
فصلٌ
في الدلالة على دخولِ غيرهِ صلى الله عليه وسلم في حكمِ خطابِه
هو أنه صلى الله عليه وسلم جُعل مناراً للأحكام، وعَلَماً
عليها، وقدوةً يُقتدى به فيها، فصارَ خطابُ الله سبحانه له
خطاباً لجميع من دعاه إلى الِإسلام، وكذلك حسن قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولم يقل:
فطلِّقْهن، وهذا يدُلُّ على أنه إذا خاطبه فقد خاطب أمتهُ وجعل
خطابُه له نائباً مناب خطابهم.
ومن ذلك قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 37]، فأخبر أنه إنّما أباحَهُ ذلك ليكونَ
مبيحاً لجميع الأمةِ، ولو كان الأمر يخصُّهُ لما انتفى عنهم
الحرجُ بنفي الحرجِ عنه، فصارَ كأنَّه يقول: أرخصنا لكَ في
تزويجِ أزواجِ أدعيائكَ لنرخِّص لأمتكَ بذلك اقتداءً بك،
ونزولاً على ما شُرع لك، فثبت بهذا أنهم مشاركوه في الحكم الذي
يُخاطب به.
ومن ذلك: أنَّه كان إذا سُئل عن الحكمِ أجابَ بما يخصُّه،
وأحال على نفسه وفعلهِ. فلما سئلَ عن الاغتسال، قال لأمَ سلمة:
"أما أنا فأفيض الماء على رأسي" (1). ولما سأله الرجلُ عن
القُبلة في
__________
= ص (73)، و"البحر المحيط" للزركشي: 3/ 186 - 191.
(1) الذي ورد في سؤال أُم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، أنها
قالت له صلوات الله وسلامه =
(3/102)
الصوم؛ قال: "أنا أفعل ذلك" (1).
ولما اختلف الصحابة رضوانُ الله عليهم في الإكسال والإنزال،
رجعوا إلى عاثشة رضي الله عنها، فأخبرتهم بفعله صلى الله عليه
وسلم وأنّه كان يغتسلُ من التقاءِ الختانين (2).
__________
= عليه: إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي، أفاحلهُ لِغُسْلِ الجنابة؟
فقال صلى الله عليه وسلم:" إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث
حثيات من ماء، ثم تفيضي عليك الماء وإذا أنت قد طهرت".
أخرجه: أحمد 6/ 289 و 314 و 315، ومسلم (330)، وأبو داود (251)
و (252)، والترمذي (105) والنسائي 1/ 131، وابن ماجه (653)،
وابن حبان (1198) والبيهقي 1/ 181، والدارمي 1/ 263.
أمَّا إفاضةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسهِ من
الماءِ في الغُسل فقد ثبت بأحاديث أخرى في كيفية غسله عليه
الصلاة والسلام منها حديث عائشة رضي الله عنها، وقد جاء فيه "
... ثم يفيض على رأسه ثلاثاً، ثم يُصب عليه الماء".
أخرجه أحمد 6/ 143 و 173 ومسلم (321) (43) والنسائي 1/ 132،
وابن حبان (1191).
(1) ورد قريباً من هذا من حديث عُمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم، أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "سل هذه- أم سلمة-" فأخبرته أن رسول الله يصنع
ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفرَ الله لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخر، فقال له رسول الله: "والله إني أتقاكم لله وأخشاكم له".
أخرجه مسلم (1108)، وابن حبان (3538) والبيهقي 4/ 234.
(2) ورد ذلك من حديث عائشة أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل
الماء، قالت:" فعلتُ ذلكَ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم،
فاغتسلنا منه جميعاً"
أخرجه الشافعي 1/ 36، وابن الجارود (93)، والبيهقي في "السنن"
1/ =
(3/103)
وقولها: قَبَّل رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم بعض نسائه فصلَّى ولم يتوضأ (1).
وإذا ثبت أنَّه مطلع الأحكام، صار خطابة خطاباً لهم، ولهذا كان
يَتَراءى لهم في العبادات، فقالَ للأعرابيّ السائل عن الصلاة:
"صلِّ
__________
= 164، وابن حبان (1175).
كما ورد عن عائشة أنها قالت: إذا جاوز الختانُ الختانَ، فقد
وجبَ الغُسلُ، فعلتُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم،
فاغتسلنا.
أخرجه أحمد 6/ 47 و 112 و 135 و 161، وابن أبي شيبة 1/ 86،
والترمذي (108)، وابن ماجه (608)، وابن حبان (1176).
(1) ورد من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي
صلى الله عليه وسلم -: "أنه قبل بعض نسائه ثم خرجَ إلى الصلاة
ولم يتوضأ، فقلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت"
أخرجه أبو داود (179)، والترمذي (86)، والنسائي 1/ 104، وابن
ماجه (502)، وأحمد 6/ 210، والبيهقي 1/ 126، والدارقطني 1/
139، وقد أعله أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري،
والدارقطني، والبيهقي، بعلة هي: أن حبيبَ بن ثابت لم يسمع من
عروة شيئاً.
واستدرك ابن عبد البر عليهم ذلك مبيناً صحة الحديث وقال:" لا
ينكر لقاؤه عروة لروايته عمن هو أكبر منه وأجل وأقدم موتاً"
وقال في موضع آخر:" لاشك أنه أدرك عروة". انظر "الاستذكار" 1/
323 كما بيَّن الحافظ الزيلعي ورود هذا الحديث من طرق أخرى غير
طريق حبيب بن ثابت عن عروة، وهذه الطرق يعضدُ بعضها بعضاً فيصح
الحديث بها.
انظر "نصب الراية"1/ 73.
(3/104)
معنا" (1)، وطافَ راكباً ليقتديَ النّاس به
في المناسك (2).
ومن ذلك: ورودُ تخصيصه صلى الله عليه وسلم في أحكام، مثل قوله
تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، ولو لم يكن خطابُه
المطلقُ يقتضي دخولَ أمتهِ ومشاركتهم، لم يكن لبيان تخصيصهِ
ببعضِ الأحكام معنى إذا كان كُلّ خطابٍ يتوجّه نحوه حالصاً له،
فلما خصَّه ببعضِ الأحكام، عُلم أنَ بقيةَ الأحكامِ المتّجهةِ
نحوه عامّةٌ لأمته.
ومن ذلك: أنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم عقَلت ذلك، فقالوا:
نهيتَنا عن الوصالِ وواصلت، وأمرتَنا بفسخ الحج وما فسخت.
حتى بيّن الفرق فقال: "لست كأحدكم، إني أظلُّ عند ربي فيطعمني
ويسقيني" (3)، "إني قلدت هديي"، وروي: "سقتُ الهدي، فلا أحلُّ
__________
(1) جاء ذلك من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجلٌ فسأله عن وقت الصلاة فقال: "صلّ معنا
هذين الوقتين".
وتقدم تخريجه 1/ 194.
(2) عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيتِ
على راحلتهِ يستلم الركنَ بمحجن.
أخرجه البخاري (1607)، ومسلم (1272)، وأبو داود (1877)،
والنسائي 5/ 233، وابن ماجه (2948)، والبيهقي 5/ 66.
(3) تقدم تخريجه 2/ 26.
(3/105)
حتى أنحرَ" (1)، فلو لم يُعلم أنَّ خطابَ
الشرعِ لهم خطاب يدخلُ تحته، لما عابوا عليه ذلك، ولَما
أجابهم.
فصل
في الدلالةِ على أن خطابه للواحِد من أمته وصحابته وحكمُه فيه
خطابٌ لجميعهم، وحكم للجميع غير مختصٍّ بمن خاطبه وحكمَ فيه
قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:
19]، وقوله: "بُعِثْتُ إلى الأسود والأحمر" (2)، وقوله صلى
الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطابي للجماعة، قولي لامرأة
قولي لمئة امرأة" (3). وقال:"حكمي على الواحد حُكمي على
الجماعة" (4).
__________
(1) ورد ذلك من حديث حفصةَ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما شأنُ الناس حلّوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إنّي
لبدتُ رأسي وقلدت هديي، فلا أحِلُّ حتى أنحرَ".
تقدم تخريجه في 2/ 26.
(2) ورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:" أُعطيتُ خمساً لم يعطهن نبيٌّ قبلي: بُعثت
إلى الأحمر والأسود .... ".
أخرجه أحمد 5/ 145 و 148، ومسلم (521)، وأبو داود (489)،
والحاكم 2/ 424، وقال ابن حجر هذا حديثٌ صحيح.
انظر "موافقة الخُبرِ الخبرَ" 1/ 525.
(3) تقدم تخريجه 2/ 121.
(4) سلف تخريجه 2/ 121.
(3/106)
ومن ذلك تخصيصه لآحاد من أصحابه بالحكم
وقصره عليه، كقوله لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة: "تجزئك
ولا تجزىء أحداً، أو تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحدٍ بعدك" (1)،
وقوله لأبي بكرة لما دخل الصف راكعاً: "زادَك اللهُ حرصاً ولا
تَعدُ" (2)، وقوله للذي زوّجه بما معه من القراَن: "هذا لك
وليس لأحدٍ بَعْدك" (3)، وكتخصيصه للزبير بلبس الحرير (4). ولو
كان الحكمُ بإطلاقه خاصّاً لمن يخاطبه به، أو يحكم به عليه
وفيه، لما كان لتخصيص أشخاصٍ عدّة معنى، مع كونِ كل مخاطب
مخصوصاً بما خوطب به.
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 98.
(2) سلف تخريجه 98/ 2.
(3) حديث: "قد زوجتكها بما معكَ من القرآن" وردَ من حديث سهل
بن سعد الساعدي، أخرجه مالك 2/ 526، وأحمد 5/ 236، والبخاري
(2310) و (5135) و (7417)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)،
والترمذي (1114)، والنسائي 6/ 113، والبيهقي 7/ 144 و 236 و
242 وابن حبان (4093).
(4) ورد ذلك من حديث أنس بن مالك قال: "رخَّصَ النبي - صلى
الله عليه وسلم - لعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام في
لبس الخرير، من حكِّةٍ كانت بهما".
أخرجه: أحمد 3/ 255 و 272، والبخاري (2921) و (2922) و (5839)،
ومسلم (2076) (25)، وأبو داود (4056)، والنسائي 8/ 202، وابن
ماجه (3592)، والبيهقي 268/ 3 و 269، وابن حبان (5430) و
(5431).
(3/107)
ومن ذلك: إجماعُ الصحابة على رجوعهم فيما
سئلوا عنه وحدَث من الحوادث، إلى قضاياه صلى الله عليه وسلم في
أشخاص، وخطابه لأشخاص مخصوصين: مثل رجوعهم في حد الزنا إلى
حكمه صلى الله عليه وسلم في ماعز (1). ورجوعهم في الجنين إلى
حكمه في قصة حَمل بن مالك (2)، ورجوعهم في
__________
(1) رواه مسلم (1694)، وأبو داود (4431) من حديث أبي سعيد
الخدري.
ورواه مسلم (1695)، وأبو داود (4433) من حديث بريدة، ورواه
البخاري (5271) ومسلم (6191) وأبو داود (4428)، والترمذي
(1428) من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري (6824) ومسلم (1693)،
وأبو داود (4421) و (4425) و (4426) و (4427) من حديث ابن
عباس، ورواه أبو داود (4419) من حديث نعيم بن هزال.
ورواه مسلم (1692) وأبو داود (4422) و (4423) من حديث جابر بن
سمرة، ورواه البخاري (5270) ومسلم (1751)، والتر مذي (1429)
وأبو داود (4430) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) قصةُ حَمَل بن مالك وردت من حديث أبي هريرة: أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هُذيلٍ اقتتلتا، فرمت
إحداهما الأُخرى بحجر، فأصاب بطنَها وهي حاملٌ، فقتلت ولدها
الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقضى أنَ ديّة ما فى بطنها غُرَّةٌ عبدٌ أو أمةٌ، فقال وليُّ
المرأة التي غرمت: كيف أغرَمُ يا رسولَ الله من لا شربَ ولا
أكل، ولا نَطَق ولا استَهَل، فمثلُ ذلك بَطل. فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم -: "إنَما هذا من إخوان الكُهان".
ووليُ المرأةِ هو حَمَلُ بن مالك بن النابغةِ الهُذَليّ وهو
صحابي نزل البصرة.
أخرجه من حديث أبي هريرة.
البخاري (5758)، ومسلم (1681)، وأبو داود (4576)، والنسائي =
(3/108)
المفوضة إلى قصة بَروع بنت واشق (1)،
ورجوعهم في المجوس في باب الجزية إلى وضعه صلى الله عليه وسلم
الجزية على مجوس هجر (2)، وهذا منهم يدُلُّ على أنّهم علموا
وعقلوا أنَّ حكمَه صلى الله عليه وسلم في الواحد حكمٌ في كلّ
من تَجدَّدَ له مثلُ ذلكَ الأمرِ الذي حكم فيه، ما لم تقمْ
دلالةُ التخصيص.
فصل
في اعتراضاتِهم وأسئلتهم على هذه الأدلّة
فمن ذلك قولهم: إن هذه كُلَّها أخبارُ آحاد مظنونةٌ، لا تصلحُ
لِإثباتِ هذا الأَصلِ الذي طريقهُ العلْمُ.
__________
= 8/ 48، والترمذي (1410)، وابن ماجه (2639).
(1) المفوَّضة: هي المرأةُ التي لم يُفرض لها الصَداقَ في
العقد، وقد سئلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حكم
المتوفى عنها زوجها ولم يفرض لها الصداق في العقد، ولم يدخل
بها، فقال: لها الصداق كاملاً، وعليها العدةُ، ولها الميراث،
قال معقل بن سنان: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به
في بروع بنتِ واشق بمثلِ ذلك أخرجه: أبو داود (2114) و (2115)
و (2116)، والنسائي 6/ 121 - 123 والترمذي (1145) وابن ماجه
(1891)، وابن حبان (4098) و (4099) و (4100) و (4101)، والحاكم
2/ 180 - 181. ووافقه الذهبي.
(2) حديث وضع الجزية على مجوس هَجَر:
أخرجه البخاري (3156) و (3157)، وأبو داود (3043)، والترمذي
(1586) و (1587).
(3/109)
ومن ذلك قولُهم: إنما صاروا إلى العملِ
بذلك بدلائلَ قامت وقرائنَ ظهرت أوجبت العمومَ وتعديةَ الأحكام
ممن خوطبَ وحُكمَ عليه إلى غيرهِ، لا بنفس الخطاب والحكم.
فصل
في الأجوبةِ عما ذكروه
أما أخبارُ الأحادِ المتلقاةُ بالقبول، فصالحة عندنا لإثباتِ
أصول الدياناتِ، ولأنَّ أصولُ الفقهِ لا يطلبُ لها القطعياتُ،
ولو كانت كذلك لما سوَّغنا خلافَ المخالفِ، ولفسقنا أو كفرنا
من خالفنا، كما قلنا في الأصولِ المتعلقةِ بالله سبحانه
وبصفاته وما يجوزُ عليه وما يستحيل عليه، ومايجب له.
ولما كانت أدلةُ ذلك قطعية لم نسوَّغ الخلافَ فيها، وفسقنا
المخالفَ لنا أو كفرناه على حسب موضعِ الخلافِ منها.
وأمَّا دعوى الدلائل، فالأصلُ عدمُها، ولو كانت موجودةً لكانت
منقولةً، لا سيّما مع كثرةِ العملِ بذلك والبلوى به، والأصلُ
عدمُها إلى أن يوضِّحوا الأدلة فيها.
فصل
يجمع شبهَهم في ذلك
فمن ذلك قولُهم: إن خطابَ الواحدِ موضوع في الأصل لذلك
المخاطب، كما أن الخبرَ عنه موضوع له، ولما أخبرَ به عنه
خاصةً، بدليلِ أنَّ أمرَ السيدِ لعبدٍ من عبيده لا يكونُ أمراً
لغير من واجهه
(3/110)
بالأمر، وكذلكَ إذا أخبر عن الواحدِ من
عبيدهِ لم يكن خبراً عن غيره، وإذا كان هذا هو أصلً الوضعِ،
فتعديتهً إلى غيرهِ تحتاح إلى دليلٍ، ومتى قام دليل على
التعدية اتفقنا على القولِ به، لأنه يخرجُ عن خصوصهِ بالدليلِ
إلى العموم، كما يخرجُ العمومُ عن عمومهِ بالدليل إلى الخصوص.
والدليل الذي يتعدّى إلى غيرِ المخاطَبِ، هو الدليلُ الذي جعل
خطابهَ صلى الله عليه وسلم لأهل عصرِه الموجودين من الأحياءَ
العقلاءِ البالغين، خطاباً لمن لم يأتِ من أهلِ الأعصار
المستقبلةِ المعدومين، وليس ذلك إلا دليلًا يدلّ على التعديةِ
إلى أولئك. كذلك هاهنا.
وانَّما لم ينصرف الخطابُ إلى المعدومين بمطلقِ اللفظِ، لأنه
لا يصلحُ للمعدوم بيا أيها الناس، ويا أيها الذين آمنوا، ولا
باستدعاءِ الأعمال منهم والتَروكِ، كالصلاةِ والصيام، إذ لا
وجودَ لهم، ولا حقيقةَ فضلاً عن أوصاف يصفهم بها من إيمَانٍ
وغيره، ولا أعمال لهم يستدعيها، كذلكَ ليس في خطاب الواحدِ
صلاح لخطاب الجماعة، فإذا جاءت دلالةٌ فصرفته إلى المعدَوم بان
يقول: هذا خَطابي للقرنِ الدين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم،
وَللذين رأوني، ولمن بَلَغ، ممّن بعد عني وعنهم. حينئذٍ صرفنا
ذلكَ إلى من قامت الدلالةُ على صرفِ الأمر إليه وتعديتهِ إلى
خطابه.
فهذا من طريق اللغة واللسان، فأمَّا من طريق المعقول: فمن ذلك:
أنَّ من المعلومِ أنَّ الأمرَ بالشيء قد يكون مصلحةً
(3/111)
لشخصٍ بعينه، مفسدةً لغيره، لاختلافِ
الأشخاصِ في ذلك، فاذا صرفَ الشارعُ الأمرَ إلى شخص بعينه، لم
يجز الإقدامُ على تعديته إلى غيره إلا بعد العلمِ بأنه مصلحة
للآخر، ولا سبيلَ لنا إلى العلم بمساواةِ المخاطَب لغيره إلا
بدلالةٍ تقومُ من جهةِ من صدر الخطابُ عنه سبحانه. وما صارَ
ذلك إلا بمثابةِ حكيم من حكماءِ الطب، أمرَ مريضاً بشرب دواءٍ،
أو وَصَف له حِميةً عن نوعٍ من الغذاء فإنه لا يجوزُ أن يعدي
ذلك الأمرَ، ويعم بذلكَ الدواءِ أو الحميةِ غيرَه إلا بدلالةٍ
أو قرينة من جهةِ الحكيم الواصفِ، لتفاوتِ الأمزجةِ في
الأشخاص، كذلكَ يجبُ هاهنا أن يمنعَ من التعديةِ إلى غيرِ
المخاطب لتفاوتِ ما بين المكلفين من المصالحِ، وقد انكشفَ ذلك
بما ظهرَ من مغايرةِ الشرعِ بين النساءِ والرجالِ والأحرارِ
والعبيد، والمسافرِ والحاضرِ، والمريض والصحيح في صفاتِ
التكاليفِ ومقاديرها، وان اجتمعوا كلُّهم في إرسالِ النبي صلى
الله عليه وسلم إليهم، فلا يلزمُ من تساويهم في إرسالهِ إليهم
تساويهم في خطابهِ لهم، كما أنهم اجتمعوا في التكليفِ واختلفوا
في أحكامِ التكليف.
قالوا: ولاسيَّما ماظهرمن تخصيصِ النبيّ صلى الله عليه وسلم من
أُمته وتمييزه عنهم بإيجاب واجبات واباحةِ مباحات، وحظرِ
محظورات لم يشاركه فيها أحد مَن أمّته، فكيفَ يجوزُ أن يعدى
حكمُ خطابهِ إلى غيرِه من أمته، مع الحالِ المعلومةِ من
تخصُّصه، بل لا يجوزُ ذلكَ إلا بدلالةٍ تعم أمته وتوجبُ تعدي
حكمه إليهم.
(3/112)
فصل
يجمع الأجوبةَ عن شبههم
أمّا خطابُ الواحدِ ومواجهتُه بالأمرِ من طريقِ اللغةِ، فإنه
يختصّ المخاطَب، ولا يقتضي بموجَب اللغةِ تعديتَه الأمرَ إلى
غيره، إذ ليسَ في لفظِ الواحِد وخطابهِ ما يصَلحُ لغيرِه، لكنّ
خطابَ الشرع تمهد تمهُداً صارَ وِزانُهُ من اللغة ما تمهد فيه
العرفُ؛ وهو أنَه جعل مَن أوّل الوحي إليه مناراً ومتبعاً
وقدوةً للأمة، فإذا قيل له: افعل كذا، دخلوا تبعاً، وصار في
باب اللغةِ كالأمرِ بالركوب والمسيرِ ولقاءِ العدوّ لمن
عُقِدَت له الأمارةُ، وجُعل له منصبُ الاقتداءَ به، فإنه اذا
قيل له: اركب الى بني فلان، وحارب العدوَّ، وشن الغارةَ على
بلاد كذا، كان ذلكَ منصرفاً إليه وإلى جيشه وأتباعه، وكذلكَ في
الخبر عنه اذا قيل: ركبَ الأمير، ودخلَ بلدَ كذا، أو فتحَ ثغر
كذا أو حصن كَذا. فإن ذلكَ كُله ينصرفُ إلى الأميرِ وجيشهِ
وأتباعهِ دون اتحاده وتخصصه بما أُمِرَ به، أو أخبَر عنه.
فأمَّا قولُهم: إن المصالحَ والمفاسدَ قد تكونُ بحسب اختلاف
الأشخاص. فذلك ليس بمعتبر، فإنَّ التكليفَ لا يقفُ على الأصلح،
ولأنَّ استواءَ الكل فَي التكليف كافٍ في ذلك. وإن جاز أن
يختلفوا في الأصلحِ، كاستواءِ الأصلِ والفرع في باب القياسِ
لاجتماعهما في أمارةِ الحكم، وليس ما نصبه من الَدلائِل
والآياتِ على كونهِ متبوعاً ومناراً للأحكام بأدونَ من أمارةِ
شَبهٍ، أو لأدلةٍ تجمعُ بين المسكوتِ عنه، وهو الفرعُ،
والمنطوق به، وهو الأصلُ في باب القياس، وإن جاز
(3/113)
أن يكونَ الأصلحُ في الأصلِ المنصوصِ عليه بالحكمِ، والمفسدةُ
في تعديةِ الحكم إلى الفرع، فمن تجاسر على الإلحاقِ والتعديةِ
بأمارةِ القياسِ لا يَجبُن عن إدخالِ الشخصِ المكلفِ الذي لم
يخاطب مع من خاطبَه الشرع في الحكمِ الذي علقه عليه.
وفارقَ خطابَ السيدِ منا لعبيده، فإنَّه لو قال: أكرِم زيداً
لأنه أسود، ولا تأكل السُّكرَ لأنه حلو. لم يوجب ذلكَ التعديةَ
إلى كل أسود وكُل حلوٍ.
ولو قال صاحب الشريعة ذلك لوجبت التعديةُ إلى كل محلٍ وجدت فيه
تلك الصفة. وأما تخصيصُ النبي صلى الله عليه وسلم بأحكامٍ لا
يمنع من دخولنا معه في مطلق الأحكام، كما أن بعضَ الأحكام قد
تقع تحكماً على غيرِ المعقولِ، وتخرج عن القياس، ولا يمنعُ
جوازُ ذلك من عملِنا بالمعقول والقياس ما لم ترد دلالة التخصيص
والتحكم. |