الواضح في أصول الفقه

فصل
إذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته بأمرٍ شرعي، دخل هو في ذلك الأمر (1)، وبه قال أصحاب الشافعى في أحدِ الوجهين (2)،
__________
(1) انظر ذلك في "العدة" 1/ 339، و"المسودة" ص (32 - 34)، و"التمهيد" 1/ 269، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 222.
(2) وهو ما اختاره الجويني في "البرهان" 1/ 364، والغزالي في "المستصفى" 2/ 88 - 89، والرازي في"المحصول" 2/ 150، بشرط عدم وجودِ قرينة تفيدُ خروجَ المخاطِبِ من عموم خطابه.

(3/114)


خلافاً للوجه الأخر (1)، ولأكثر الفقهاء والمتكلمين (2)، وقد حكى شيخنا الإمام أبو يعلى بن الفراء كلامَ أحمد في عدة مواضعَ بما يعطي دخوله في أمره الشرع.

فصلٌ
يجمع أدلتنا في ذلك
فمنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأمرُ أصحابَه بالأمرِ فإذا تخلَّفَ عنه سألوه: ما بالُكَ لم تفعله؛ ولو لم يعقلوا دخولَه في الأمر لما سألوه.
فمن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ولم يفسخ، فقالوا له: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ، فلم يقل: وأين أنا منكم، وكيف يلزمني أنا ما أمرتكم به، بل عدل إلى الاعتذار بالأمر الذي يخصه، وهو سوقه للهَدي، فقال: "إني قلدت هدي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر" (3) وروي: " لو
__________
(1) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وعليه أكثر الشافعية، وفق ما قرره الشيرازي في التبصرة ص (73)، والزركشي في "البحر المحبط" 3/ 192 فلا يدخل المخاطِبُ في عموم خطابه إلا بدليل.
(2) ذهب بعضُ الأُصوليين إلى مذهب توفيقي، يجمع بين القولين ومفاده: أنه إذا نظر إلى اللفظ بحسب وضعه اللغوي وعمومى المستغرق فمنه يشمل المخاطِب، واذا نظرَ إلى العرف والاستعمال اللغوي اقتضى خلاف ذلك.
انظر "البحر المحيط" 3/ 193.
(3) تقدم تخريحه 2/ 26.

(3/115)


استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرةً" (1)، وهذا يدُل على أن حكمه وحكمَهم في المشروعِ سواء.
ومن ذلك: أن حقيقةَ الأمرِ الصادرِ من جهتِه في أحكامِ الشرع أنه مخبر لا آمرٌ، ألا تراه كيف تلا: {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق: 1]، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف: 110]، كما قيل له، والحاكي منا لكلامِ الأمرِ له بحذف: قل؛ لأنَّها أمرٌ بالبلاع، فيتشاغل بالبلاعِ لما أمِرَ به، ويدع كلمةَ الأمرِ وصيغتَه. والنبي صلى الله عليه وسلم أدَى كلمةَ الأمرِ له كما جاءت, ومن كانَ كذلكَ صارَ بالأمرِ الذي جُعل جهةً له آمراً له ولِمن بلغه من أمته، فكانَ تقدير كلِ صيغةٍ تردُ على لسانِه الكريم تشريعاً، والشرعُ شاملٌ له والكل متبع، فصارَ تحقيقُ ذلك أنَّه جهةٌ للأمر، لا آمرٌ حقيقةً، إذ المستدعي غيرَه بلسانِه وقوله. فمن هاهنا كان داخلاً، ومتى تحقق هذا كذا كان الخلافُ زائلًا مرتفعاً لأنه ليس أحد يقول: إنً الأمر يأمرُ نفسَه، وكيف يقول عاقلٌ ذلك، وشريطةُ الأمر أن تصدَر الصيغةُ من أعلى خِطاباً لأدنى، والواحدُ لا يكونُ أعلى من نفسه وأدنى منها، فلم يبقَ إلا ما ذكرنا أنَّه جهة لأمرِ الله ومبلغ عنه، لا آمر حقيقةً.
وأيضاً: فإنَّ الإلقاءَ من الله سبحانه إليه، وفي روعه آكدُ من اجتهادِه واستثارته، ثمً إنه إذا كان مجتهداً أفتى الغيرَ وكانت فتواه لنفسه وعلى نفسِه، قال صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسكَ وإن أفتاك
__________
(1) أخرجه من حديث جابر أحمد 3/ 325، والبخاري (1651)، ومسلم (1216) وأبو داو (1784)، والبيهقي 5/ 7، 8، 9.

(3/116)


المفتون" (1)، فما بلّغه الله إليه، ويعلم به غيره أولى في أن يدخل فيه ويكونَ إخباراً لنفسه وإعلاماً لها.

فصلٌ
في جمع شبههِم
فمنها أن الأمرَ استدعاءٌ وطلبٌ من الأعلى للأدنى، وهذا لا يتحققُ في الواحدِ أن يكونَ مستدعياً ومستدعىً فيه باستدعائه، ولا أعلى من نفسه. وأدنى.
ومن ذلك: أنَّ صيغةَ الأمرِ لنفسهِ على طريق الوحدةِ لا تصحُّ، ولا علّة في نفي صحّتها، إلا أنَ حقيقة الأمر لا تتسلط على الأنسانِ إلا من جهةِ غيره، كالمخبر لا يكونُ مخبراً لنفسه، ولا ناهٍ يها، ولا منادٍ بها، كذلكَ لا يكون آمراً لها. وإذا ثبتَ فسادُ ذلك في حق أمرِه لنفسِه على الوحدة، ثبتَ فسادُ القولِ بأنه أمرٌ لها في جملةِ غيرها من المأمورين.

فصلٌ
في الأجوبةِ عنها
أما الأول: فإنَّنا قائلونَ بموجبهِ، وأنَّه ليس بآمرٍ لنفسهِ، إنَّما هو مخبِرٌ بأمرِ الله سبحانَه، وأنَّ ما أخبر به فهو شرعهُ، وهو أوَّلُ داخلٍ في التزام ما شرعه اللة له ولأمته، وقد أوضحنا كونه مخبراً من حيث أنه يؤدي صيغةَ القول له أو الملقى في رُوعه بالوحي إلى قلبه، فيقول:
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 161.

(3/117)


قيل لي: قل كذا، هذا هو الحقيقة، لا أنه مبتدىءٌ باستدعاءٍ أوطلبٍ من جهة نفسه، ولهذا أعاد صيغ الأوامر بقوله: قل، واتل ما أوحي، ولو لم يكن مخبراً لوسعه أن يتلو ولا يحكي قول الملك له: اتلُ، ولا يقول: قل، بل يبتدىء فيقول: (أعوذ بربِّ الناس)، (أعوذ بربّ الفلق)، (إنما أنا بشر) ولا يقل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف: 110]، وإلى أمثالِ ذلك في كتابِ الله.
وأمَّا إفرادُه لنفسه بالأمرِ، فبالصيغة التي تَرِدُ من قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64]، كذاك نقولُ وأنه يحسُنُ وقد كان ذلك، فأمَّا أوامرُه من غير الكتاب، فما هي إلا بطريقِ الكتاب، وهو الوحي إليه، فينطقُ تارةً بقرآن، وتارةً بكلامٍ يُضاف إليه إضافةً لا إضافةَ إنشاء، وكيف يُظن بأن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحكمٍ شرعيٍ من قِبَلِ نفسِه، فإذا بَطَلَ هذا، لم يبقَ إلا أنَّه مخبرٌ وحاكٍ، سواء كان ما ينطقُ به قرآناً أو غيره.
فإن قيلَ: فعندكم أنه قد يأمرُ بالحكم من طريقِ الاجتهاد، فإذا قالَ ذلكَ كَان أَمَراً من جهة نفسه، فيجبُ أن لا يدخلَ عندكم فيما يصدرُ عنه منَ اِلأمرِ الذي يقولُه عن اجتهاده.
قيل: اجتهادُه لا يُقَر فيه على خطأ، فمتى اجتهدَ ولم يُرد بالوحي كان إقرارهُ عَلى ما اجتهدَ فيه حُكمُ الله الذي جرى على قلبه ولسانِه صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ اختياره مستند إلى المنطوق به، فيأخذُ المسكوت عنه من المنطوق به، ومن تعلّق بمثالِ السيد مع عبيده، وأنَه لا يدخل في أمره لهم معهم، فقد أبعد النجعة، لأنَّ السيد أمرَ بنفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم على ما سبق من أدلتنا، يخبر

(3/118)


عن غيره عن أمرٍ بنفس لنفسِه، فلا يلزم المثال ولا يشابه ما نحن فيه بحالٍ، لكنَّ المثال المسند للنبي أن يكون قد أمر بعضَ عبيده على بعضٍ، فإذا قال الآمر: (قيل اركبوا)، دخلَ الآمر في الجملةِ.

فصل
الأمر المطلق يشتملُ على العبيدِ، فلا يحتاج دخولهم فيه إلى قرينةٍ، ولا دليلٍ.
وقد أشار إلى ذلك في عدة مواضع (1)، فأدخلهم في باب الشهادة، والإيلاء، واللعان، وأسند ذلك إلى عموم الآي الوارد في ذلك (2).
__________
(1) أي: وقد أشار أحمد رحمه الله إلى ذلك في عدة مواضع، وانظر إلى هذه المواضع في "العدة" 2/ 348، وراجع المسألة في "التمهيد"1/ 281، و"المسودة" ص (34)، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 242.
(2) يقصد عموم الآية الواردة في الشهادة مثل قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. حيث نقل عن الإمام أحمد القولُ بجواز شهادة المملوك إذا كان عدلًا، أخذاً بعموم الآيات الواردة في الشهادة.
وعموم الآيات الواردة بالإيلاء، بحيث نقل عن الإمام أحمد القول بأنَّ على العبد إيلاءً، وإيلاؤه أربعةُ أشهر، وقال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. فلم يفرِّق بين الحرِّ أو العبد.
وعموم الآيات الواردةِ في اللعانِ في قوله سبحانه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حيثُ يدخل العبيدُ في الخطابِ، وفق ما نقل عن الإمام أحمد.

(3/119)


وإلى هذا ذهبَ أكثر الناس، وهو قول أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الجرجاني الحنفي، وكُل من أنكر العموم من المحققين، وبه قال أصحابُ الشافعيِّ في أحد الوجهين (1).
وقال بعضهم: لا يدخلون في العموم، بل بدلالة تخصْهم.
وحكى أَبو سفيان (2) عن الرازي أنهم لا يدخلون فيما كان من حقوق الآدميين.

فصل
يجمع أدلتَنا على ذلك
فمنها: أنه قد دخلَ في الخطاب، وهو التكليفُ، ومن قال بالعموم وأثبتَه ولم يُدخل العبدَ في عموم الخَطاب، فقد أبعدَ وخلّط، وذلكَ أنَّ العبدَ يدخُل في جملةِ الناس والمؤمنينَ والمكلفين، فإن قال صاحب الشرع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يا أيها المكلَّفون، دَخَلَ في هذه الجُملِ لوقوعِ الاسمِ عليه على الوحدة، وكلُّ من
__________
(1) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، حيث قال أكثر الشافعية إن العبيدَ يدخلون اتباعاً لموجب الصيغة. وهناك وجهان آخران:
أحدهما: أنَّ العبيدَ لا يدخلون الا بدليل لأنهم أتباع الأحرار.
والثاني: إن تضمن الخطابُ تعبداً توجه إليهم، وان تضمن ملكاً أو عقداً أو ولاية لم يدخلوا فيه.
انظر "البرهان" 1/ 356، و"المستصفى" 2/ 77، و "الإحكام" للآمدي 2/ 393، و "البحر المحيط" 3/ 181.
(2) هو محمد بن أحمد السرخسي سترد ترجمته في الصفحة 361.

(3/120)


دخل في اسمِ الواحدِ من الجملةِ، دخلَ في عمومِ الأسماءِ.
وقد ثبت أنه يحْسُن أن يقال له: يا إنسان، يا مؤمن، يا مكلف افعل كذا، أو لا تفعل كذا، وإذا قيلَ لثلاثة أعْبد: يا أيُّها الناس، يا أيها الدين آمنوا، يا هؤلاء المكلّفون. صح أيضاً، فلا وَجْهَ لنفي دخولهم في إطلاقِ قولِ الشرع: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الناس، لأنَ ما استحقوا به الخطاب، وصلحوا له في حالِ الانفرادِ موجود فيهم في حال اجتماعهم مع الأحرار.
ومن ذلك: أنَّ الرِّقَ ليس بمنافٍ للتكليفِ وخطاب الشرع، بل هو بلوى بحقّ ألزمه رقبته، إما امتحاناً أو عقوبةً لأجل الكَفر، وكلاهما لا يمنعُ اتجاهَ خطاب اللهِ سبحانَه إليه، كالمستحق قتلُه بقودٍ، ويدُه بقَطْعٍ في سرقة، وحبسه بدينٍ لآدمي، ومنافعه لعقدِ إجارةٍ عليه، وعقدِ نكاحٍ في حق المرأة، هذا كُلَّه لا يمنع اتجاه الخطاب إليه، كذلك الرّق.
ولذلك صح أن يملكه اثنان، ويتجه نحوه أمرهما ونهيهما، واذا لم يتنافَ ملكُ اثنين وما يوجبه ملكُهما، فأحرى أن لا يتنافى إطلاقُ خطاب اللهِ سبحانَه له وأمر آدميّ مالكٍ له بحكمِ الرّق، لا بحكمِ ملكِ جَواهره وعينِ ذاتِه، مع كونِ الآدمي في تملّكه دخيلًا، ومُلكِ اللهِ هو الأصل سبحانه في ملكِ الأعيانِ والجواهر.

فصل
جامعٌ لشبههم
فمنها: أن منافعَهم التي تحصلُ بها الأعمال، وتمتثل بها الأوامرُ مملوكةٌ عليهم لسادتِهم، فلا يلزمُهم حكم خطابِ خالقِه وخطابِ سيده

(3/121)


الذي ملكه الخالقُ رقِّه وألزمه طاعتَه.
ومن ذلك: أن أكثرَ أوامرِ الشرعِ لا تتجه نحوَه، ولا تلزمه، كالجمعةِ والجهادِ والحجِّ، ولا يصح تبرُّعه ولا إقرارُه بالحقوقِ البدنيةِ ولا الماليةِ ولا له ولا به، ولا يملكُ التصرّفَ في نفسِه، فلا وجهَ لاتجاه الخطاب نحوه.
ومن ذلك: أنه يملك منعَه من التعبُّدِ على وجهِ التطوّع والتنفّل، فلا يتّجه نحوه مطلق الخطاب لأجلِ حقِّ من مَلَك منعَه من التطوع بأمثالِ ما يحصل به خطابُ الشرع للأحرار.

فصل
في جمع الأجوبةِ عن شبههم
إنَ تملُّكَ السادةِ لمنافعِهم لا يمنعُ اتجاهَ مطلقِ أمرِ الله سبحانَه إليهم، كما لم يمنع خاصَّ خطابِه لهم، ولو كانت حقوقُ الموالي وسادة العبيد مانعةً من دخولهم في عموم خطاب الله، لمنعتْ من اتجاهِ أوامرِه الخاصَّةِ إليهم، كآحادِ الأدميين نحو المالكين، لما لم يلزمهم عام أمرهم لأجلِ حقوقِ أموالهم وتملكِ منافِعهم عليهم لم يلزمهم خاصُّ أمرهم لهم، وخطابُهم إيّاهم.
ولأنَّ تمليكَ منافِعهم بلوى من الله، وتكليفٌ منه إياهم طاعةَ سادتِهم في خدمتِهم وصرفِ منافعِهم في امتثالِ أوامرهم، والله سبحانه لا يمنع بعضَ أوامره بعضاً، عقوباتٍ كانت أو عباداتٍ، فإن الرِّق لا

(3/122)


يخلو من أن يكونَ بلوى أو عقوبةً، لأنَّه في الأصلِ أثرُ الكفرِ، وايجابُ الحدودِ والقصاصِ لا يمنعُ من دخولِ من لزمَه ذلك في مطلقِ أوامرِ الله سبحانَه، وان كانت بلوى كانت بمثابةِ الأمراضِ والفقرِ وغيرِ ذلك، وهي غيرُ مانعةٍ من دخولِ الممتَحنِ في عمومِ الخطابِ، وكما لم يمنع كلًّ ذلك اتجاهَ خاصِّ الخطابِ نحوهم.
وأمَّا خروجُهم من بعضِ الأوامرِ كالجمعةِ والجهابِ فما دخلوا فيه من أوامرِ الشرع أكثر، كالصلواتِ والصيام والكفاراتِ والحدودِ، فإنْ تعلقتم بما خرجوا منه، تعلقَ عليكم بمادَخلوا فيه.
على أن الذي خرجوا منه خرجوا بأدلةٍ أوجبت إخراجَهم، وما دخلوا فيه فمطلقُ الأمرِ والخطاب.
ولأنَّ الفقراءَ والزمنى والمرضى والمسافرين أخرجهم العجزُ عن كثيرٍ من العبادات أصلًا تارةً ومقداراً أخرى، ثم دخلوا في مطلق الأمر حيث كان خروجُهم عما خرجوا عنه بعجْزٍ وعذرٍ قامت بإخراجهم لأجله أدلَّة، فكذلك هؤلاء، وأما تملّكُ سيدِه منَعَه من النوافلِ، لا يمنعُ دخولَه في مطلقِ أمرِ الله له بالفرائضِ، كما أنه يمنعُه من سائر النوافل، ولا يمنعُه ذلكَ دخولَه في الأمرِ الخاصّ له بالفرائض، فهو في باب الأوامر الخاصة والفرائض الناجزة كالحر، ولهذا صححنا فرائضه عن حال إباقه ولم تخرجوها في حقَه عن كونِها قربةً، ولم نصحَّح نحن منه النوافلَ رأساً، وأنتم أخرجتموها عن كونها قربة، ما ذلكَ إلا لأنَّه فى الفرائضِ كالحرِّ، وفارقَ بهذا ما أشاروا إليه من أوامرِ الأجانب لأنهم لا مُلكَ لهم ولا حق، والله سبحانه مالكٌ لكلِّ المالكين، فلاَ يمنعُ من ألجاه أمرُه حق أضعفِ المالكين، ومن ملكه أضعف

(3/123)


الملكين، كما لم يمنع اتجاهَ خصوص أمرِه ونهيه، بخلافِ الأجنبي من المخلوقين.

فصل
ويدخل النساء في مطلق الأمر (1).
وبه قال ابن داود.
خلافاً لأكثر أصحاب أبي حنيفة (2) وللأشعرية، ووافقهم القاضي أبو بكر بن الباقلاني.
وأصحابُ الشَّافعيِّ لا يُدخلون إلا بقرينةٍ أو دلالةٍ (3).
__________
(1) هو رأيُ أكثرِ الحنابلة، وخالفَ في ذلك أبو الخطاب فرأى أن الأقوى عنده هو أن المؤنث لا يدخلُ في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير، إلا أنَّه نصرَ قولَ الحنابلة في الأدلة.
انظر "العدة" 2/ 351، و"التمهيد" 1/ 290، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 334.
(2) مذهبُ الحنفية كما- قرره السرخسي في "الأُصول" 1/ 334 أن جمع المذكر السالم يتناولُ الذكورَ والِإناثَ جميعاً، ولا يتناولُ الِإناثَ المفردات انظر "أصول السرخسي" 1/ 334، وهذا ما يؤكده ابن الهمام في "التحرير" حيث يقول بعد عرضه لأدلة أكثر الأصوليين القائلين بعدم دخول الِإناث في جمع المذكر السالم، ولأدلة الحنابلة القائلين بدخولهن:
"وحينئذ ترجح الحنابلة- أي قولهم- وهو قول الحنفية" انظر "تيسير التحرير" 1/ 334.
(3) هو رأيُ أكثرِ الشافعية وهو الراجح المعتمد عندهم، انظر "المستصفى" =

(3/124)


فصل
في جمع أدلتنا
فمنها: أن عادةَ أهلِ اللغةِ تغليبُ جمعِ التذكير إذا اجتمعَ المذكرُ والمؤنثُ في الخبرِ والأمر، فيقول قائلهُم للنسوة على الانفراد: ادخُلن، وإذا كان معهم ذكور قال: ادخلوا، قال الله سبحانه لآدم وحواء: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، وهذا خطاب الذكور.
وتقول العربُ للمرأةِ: قومي، وللثلاث: قُمْن، وللرجلِ والمرأتين: قوموا، وكذلك عادتُهم تغليبُ جمعِ ما يعقلُ إذا كان معه من لا يعقِل، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] حتى إنه إذا وصفَ ما لا يعقلُ بصفةٍ تختصُ من يعقل غُلِّب فيه جمعُ من يعقل، قال الله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهذا جمعُ ما يعقل لما وصفها بالسجود، وهو فِعلُ من يعقل، جمعها جمع من يعقل.
فإذا ثبتَ هذا من عادةِ العرب، وورد في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] دخلَ فيه المؤنثُ تَغليباً للتذكير، وكذلك في التثنية تقولُ العرب في الرجل والمرأة: قاما، وهذه
__________
= 2/ 79، و"التبصرة" ص (77)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 386، و"البحر المحيط" 3/ 178.

(3/125)


صورةٌ تثنيةِ الذكرين، والله أعلم.
ومن ذلك: أنَّ أكثرَ أوامرِ الشرع خطابُ المذكَّر، والإجماعُ منعقدٌ على دخولهنَّ في الخطابِ، وما ذَاكَ إلا اعتماداً على دخولهنّ في خطابِ المذكر تبعاً.
ومن ذلك: أنَّ العربَ دأبها تُغلبُ الأكثرَ على الأقل، ومعلومٌ أننا غلبنا التذكيرَ على التأنيث، وإن كان عددُ الإناث أكثرَ دلَّ على أنَّه الوضع الأصلي.
ومن ذلك: أنَّ الغالبَ أنَّ النساءَ تابعاتٌ للرجال، وقلَّ أن يختص في الخطاب نساء حلةٍ أو قريةٍ أو بلدةٍ في مكاتبةٍ أو مخاطبة، إنما يُسْتَتْبَعْنَ استتباعاً، ويستهجنُ من العربي أن يقول لأهل بلدٍ: أنتم الآمنون، ونساؤكم آمنات، بل إذا قال: أنتم آمنون، تبعَ النساءُ في ذلك، وكذلكَ إذا كان بحضرته رجال ونساء فقال: قوموا، سَمُجَ في اللغة أن يقول: وقمن.
فعادة أهل اللغة في الاستتباع لهن مغنية عن تخصيصهن بالخطاب، فكان مطلقُ خطابِ الشرع كذلك، حتى إنَ في البهيم من الحيوان يسمجُ أن يقولَ الرجلُ: عندي مئةٌ من الخيل، ومئةٌ من الجمال، كما يقول: مئة من الرقيق معَدّات ومُعَدّون، لتبعهم ولتبعهنّ، بل يُطلِقُ الجمعَ الصالح للذكورِ فقط قنوعاً به وتعويلاً عليه.

(3/126)


فصل
في جمع الأسئلة على ذلك
فمنها: أنْ قالوا: تغليبُ العربِ للتذكيرِ في بابِ الجمع لا يمنعُ انصرافَ جمعِ التذكيرِ إلى ما وُضِعَ له، كما أنهم قد غلبوا أسماءَ المجازِ على الحقائقِ في قولهم: راوية، وغائط، فوضعوه لغيرِ ما وُضع له في الأصل، وكذلك الوطءُ، ولم يعطِ ذلكَ أن نصرف إطلاقَ اللفظِ إلا إلى الوضعِ الأول دونَ ما غلّبوه من الوضع الثاني وهو المجاز والاستعارة.
ومن ذلك: قولهم: إفاضةُ التذكيرِ على التانيثِ حالَ الجمع لا ئعطي أنْ يدخلن في الِإطلاقِ، بدليلِ إفاضةِ السوادِ والقمَرية والعدل لأحد المسميَيْن إلى صاحبه في قولهم: بتنا على الأسودين (1)، وعدل العمرين (2)، ولنا قمراها (3)، وإن كان الأسود وعمر والقمر أحدهما والِإطلاق له حكمه.
ومن ذلك: قولهم: إنَّ لهن خطاباً يَخُصهن، وجمعاً ينفردن به في الواحدةِ والاثنتين، وقد تقاصر عليهنَّ التذكيرُ عند اجتماعهن بالذكورِ، فيقابل الاستعمال في اللغة، وبقي أمرُ التكليفِ واشتغالُ الذمةِ به على مقتضى أصلِ أدلةِ العقولِ من البراءة، إلا أن تقومَ دلالةُ الاشتغالِ للذممِ وإيجابِ الحقوقِ والعبادات.
__________
(1) الأسودان هما التمر والماء.
(2) والعمران: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(3) والقمران: هما الشمس والقمر.

(3/127)


فصل في جمع الأجوبة عن الأسئلة
أمَّا إلزامُنا المجازَ المغلَّبَ استعمالُه، فإننا لو سألنا الواحدَ من أهلِ اللغة: ما أردتَ بقولك: وطئت أمتي؟
لقال: جامعتُ وفعلتُ الفعلَ المخصوص.
فإذا قيل له: فيحسُنُ النفيُ بأن تقول: ما وطئتُها، لكن فعلتُ كيْتَ وكيْت؟
لقال: نعم يحسنُ النفيُ بحكمِ الوضعِ الأصلي.
فأمَّا في مسألتنا، إذا قال في امرأةٍ ورجل قاما، وقيل له: ما أردت؟ قال: الرجل والمرأة.
فهل يحسُن أن يقول: ما أردت المرأة، وتبقى التثنية، فيقول: لا، ولا يحسُن أن يقال: قامتا.
فيفاض التأنيثُ على التذكيرِ، فقد صار وضعاً لا استعارةً ولا تجوزاً.
وأمَّا كوُنهن تخصِّصن بوضع حالَ الوحدةِ والتثنيةِ، فقد سقطَ ذلكَ حالَ التثنيةِ إذا كان مع الواحدةِ رجُل، أو كان مع الكثرةِ فيهن قليلٌ من الذكور، فإنه يُغلب التذكيرُ على التأنيث، وإن كان دأبُ العرب تغليبَ الأكثرِ على الأقلِ في كُلِّ شيء.
وأمَّا إفاضةُ اسمِ القمر على الشمس، والسوادِ في التمر على الماءِ الذي ليس بأسود، ولا سوادَ في الماءِ، وفي الأنثى ما يصلح للتذكيرِ

(3/128)


من حيث إنها شخص وحى وإنسان يحسُنُ لذلك أن تفردَ بالتأنيث لمكان ما فيها من الأنوثةِ، وتجمع بالتذكيرِ لما فيها مما هو مذكر من الشخصيةِ والإنسانيةِ والآدمية، فهي بحدتها إنسانٌ وآدمي وشخص عاقلٌ ناطقٌ.

فصل
في جمع شبههم في ذلك
فمنها: ما رُويَ عن أمِّ سلمةَ أنها قالت: يا رسولَ الله إنَّ النساء قلن: ما نرى الله يَذْكُرُ إلا الرجالَ، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} الآية (1) [الأحزاب: 35].
ومن ذلك: ما رويَ أنَّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويل للذين يمسّون فروجهم ثم يصلّون ولا يتوضؤون"، فقالت عائشة: يا رسول الله، هذا للرجال، فرأيت النساء (2)؟
وهذا يَدُل على أنهنّ لم يدخُلن في عمومِ الصيغة الموضوعة
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 301، والطبراني 23/ 241، والحاكم في" المستدرك" 2/ 416، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأورده ابن جرير في "تفسيره" 22/ 8، والنسائي في "تفسيره" 2/ 169، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 200، وأخرج الترمذي شاهداً له من حديث أم عمارة (3211)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني من حديث عائشة في "السنن" 1/ 147، وفي سنده عبد الرحمن العمري، وهو ضعيف، وقد وردت أحاديث كثيرة بطرق صحيحة في الوضوء من مسِّ الذكر بغير هذا اللفظ.

(3/129)


للتذكير من حيث سؤال أم سلمة وعائشة، ونساءُ العرب أعرفُ بالوضع، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سيد اللغةِ لم يُنكِر عليها السؤالَ ويقول: إنَّ الصيغةَ موضوعةٌ للجميع، واقرارُه كقوله.
ومن ذلك: قولهم: إنَّ للإناث وحدةً وتثنيةً وجمعاً، ولكل ذلكَ لفظ يخصُّهن، فيقالُ: مؤمنةٌ، ومؤمنتان، ومؤمنات، وللذكورِ اسم يخصُّهم أيضاً في الواحدِ والاثنينِ والثلاثةِ، فيقال: مؤمن في الواحد، وفي الاثنين: مؤمنان، وفي الجمع مؤمنون، فكما لا يدخلُ النساء في تأحيدِ التذكيرِ ولا التثنية، كذلكَ في الجمع، وكما لا يدخلُ المذكرُ في جمع المؤنث، كذلك لا يدخل المؤنث في جمع المذكر.
ولهذا فصَّلَ الباري بينهنّ فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى جميع ما عدَّد من الأوصاف، ولو كنَ قد دخلن في الجمعِ الأولِ لم يكن للإعادةِ معنى، وصار بمثابةِ جمعِ المؤمنين لا يدخل الكفارُ، وجمعِ الأبرارِ لا يدخل فيه الفجارُ، وكذلك جمعُ الذكورِ لا يدخل فيه الِإناثُ إلا بدلالةٍ.
وحرَّره بعضهم قياساً، فقال: مالا يدخلُ في اسمِ الواحدِ والتثنيةِ لا يدخل في الجمعِ: كاسمِ الذكورِ لا يدخلُ في جمعِ الِإناثِ.

فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم
أمَّا سؤالُ أمِّ سلمة وعائشة، فإنَّما وقَع عن عدمِ تخصيصهن بالذكر من طريق الصريح، ولم تقنع بالعمومِ من غيرِ تخصيصهن بالذكر.

(3/130)


ولأنَنا وإن قلنا: إنهن يدخلن، فإنما يدخلن من جهةِ الظاهرِ، فأمَّا من جهةِ الصريحِ والنصِّ فلا، وقد ورَدَ في بعضِ الخطاب خصوصُهنَّ، مثل قوله تعالى: {لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] وعادة العَرب التخصيصُ تارةً، والتعميمُ أخرى.
وأمَّا قولهم: إن للإناثِ اسماً يَخُصّهن في الوحدةِ والتثنيةِ والجمعِ، وكذلك الذكورُ، فلعمري إنه كذاك، لكن العربُ إذا أحَّدت خصت كُل جهةٍ بما يليق بها من التأنيث والتذكيرِ، فأمَّا إذا جمعت فإنها تُغلبُ لفظ التذكيرِ، حتى إنَ عادةَ العربِ تغليبُ اسمِ الأكثرين وإسقاطُ حكمِ النساءِ والنادر والقليلِ، فينسبون من كان أكثرهم بُخلاً إلى البُخل، ومن كان أكثرهم كَرَماً إلى الكرم، ويسقطون حكم الواحد والاثنين والثلاثة في الحلة أو القبيلة.
ومع هذه العادةِ رأيناهم يجمعون الجمع الذي يشتمل على مئة امرأة وثلاثة من الرجال جمعَ الذكور، ويخاطبونهم خطابَ الذكور، فعُلمَ بذلك أنه يُحددُ لهنّ بالاجتماعِ بالذكورِ حالٌ لم يكن لهن حالَ الانفرادِ واسم لم يكن، وغير ممتنع مثل ذلك في تغيرِ الحال بالاجتماعَ.
كما يقال: قامت، في الواحدة، وفي الاثنتين: قامتا، وفي رجُل وامرأةٍ قاما، وفي رجُلٍ وامرأتين: قاموا، ولم يوجد لاجتماعهن بالذكورِ حكمُ الانفرادِ في التثنيةِ والجمعِ، كذلكَ في الخطابِ، وكذلكَ كان

(3/131)


حكمُ الكثرة التغليبَ، فسقط ذلك التغليبُ في حالِ كثرةِ الإِناثِ مع قلةِ الذكور.
وفارق جمعَ المؤمنين والكفار، لأنه ليس في وضعِ اللغةِ تغليبُ أحدهما على الأخرِ إلا مع الكثرةِ الغالبةِ أو السلطنةِ، ونفاذِ الأحكامِ، فيقال: داركفرٍ، ودار إسلامٍ على حسب التسلط في التصرف ونفوذ الأحكام.
وها هنا يغلبُ التذكيرُ مع قلةِ الذكورِ وكثرةِ الإناث، فدلَّ على أنّ الحكمَ للاجتماعِ تغليبُ الذكورِ، فكذلك في باب الخطاب.

فصلٌ
اختلفت الرواية عن أحمد في الكفارِ هل يدخلون في الخطاب العام المطلق بالعبادات، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]، {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [ألحشر:2].
فعنه أنَهم يدخلون (1)، نص عليه في اليهودية والنصرانية تلاعنُ المسلمَ تعلقاً منه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، وبه قالَ أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (2).
__________
(1) وهذا ما اعتمده الحنابلة في هذه المسألة حيث رجّحوا في كتب الأصول دخول الكفار في الخطاب العام المطلق.
انظر "العدة" 2/ 358، و"التمهيد" 1/ 289، و"المسودة" ص (46). و"شرح الكوكب المنير" 3/ 243.
(2) انظر "التبصرة" (80)، و"المستصفى" 2/ 78، و"البحر المحيط" 3/ 182، =

(3/132)


والثانية: لا يدخلونَ في مطلقِ الأمرِ بالعباداتِ، وإنَّما يخاطبون بالإِيمانِ والنواهي، قال في يهودي أسْلَمَ في نصفِ الشهر: يصومُ ما بقي، لأنه لم يجب عليه قبل إسلامِه، إنما وجبَ عليه لما أسلمَ، ولم يكن واجباً حالَ كُفرِه.
واختلف أصحابُ أبي حنيفة، فذهب الكرخي والرازي وجماعةُ أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات (1).
وذهب الجرجاني إلى أنهم غير مخاطبين بها، لكنهم مخاطبون بالنواهي والإيمان (2).
واختلف أصحابُ الشافعيّ أيضاً على مذهبين:
أحدهما أنهم مخاطبون، وهو الأشبه وقول الأكثرين (3).
__________
= و"المحصول" 2/ 237.
(1) صرَّحَ بذلك أبو بكر الرازي في "الفصول" 2/ 156، حيث قال:" والكفار مكلَّفون بشرائعِ الإسلام وأحكامه، كما هم مكلفون بالإسلام، وكذلك كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله".
وهو قول أهل العراق من الحنفية.
(2) وهناك قول ثالث لبعض مشايخ سمرقند: بأن الكفار غيرُ مخاطبين أصلًا لا بالعبادات ولا بالمحرمات، إلا ما قام دليلٌ شرعي عليه تنصيصاً.
انظر تفصيل المسألة عند الحنفية في "أصول السرخسي" 1/ 173 - 78، و"ميزان الأصول"1/ 308.
(3) وهو الراجحُ والمعتمدُ عند الشافعية، اختاره أبو اسحاق الشيرازي كما في التبصرة ص (80)، والغزالي في "المستصفى" 2/ 78، والرازي في "المحصول"2/ 237 ونقل الزركشي في "البحر المحيط" أنه قول الأكثرين 3/ 182.

(3/133)


والثاني غير مخاطبين إلا بالإيمان، وهو اختيار الشيخ أبي حامد رحمةُ الله عليه.

فصلٌ
في جمعِ الأدلةِ على أنّهم مخاطبونَ من طريقِ الآي من القرآن فمن ذلك: قولُه تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6، 7]، فتواعدهم على الكفرِ وترْكِ الزكاة وجحدِ البعث، ولا يتواعدُ إلا على فعلِ محظورٍ أو تْركِ واجب، فكانَ الظاهرُ مقابلةَ الوعيدِ لجميعِ ما عدَّد من الجرائم.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69] فظاهرُ هذه الآيةِ مقابلةُ ما ذكره من العقابِ في مقابلةِ ما عدَّده من الذنوب والجرائم. لا سيما مع قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ} فذِكرُ المضاعفةِ إنما وقَعَ لمكانِ مضاعفةِ جرائمهم جريمةً بعد جريمةٍ، لأنَّ قولهَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} يعودُ إلى الجُمل المتقدّمةِ كُلّها، وما ذِكرُ المضاعفةِ إلا مقابلة.
ومن ذلك: قولُه تعالىِ في أهل الجنة يتساءلون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 42،43، 44،45، 46]، وهذا يدُلّ على أنّهم يؤاخذونَ بتركِ الإيمانِ وتركِ العباداتِ المذكورةِ.

(3/134)


فصل
في جمعِ الأسئلةِ على الآياتِ
فمن ذلك: المرادُ بقوله: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] قول لا إله إلا الله، وردَ التفسيرُ بذلك (1).
ويحتمل أن يكونَ الذين لا يعتقدونَ إيتاءَ الزكاةِ ولا يدينون به ولا يلتزمونها، كما قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]، يعني يلزمونها.
ويحتملُ أن يكونَ الويلُ عادَ إلى كفرِهم، ووصفهم بأنّهم لا يؤتونَ الزكاةَ، ولم يحصُل الويلُ لعدمِ إيتائهم الزكاةَ.
وأمَّا قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] إنما عادَ إلى جميعِ المذكورِ، وهو بمجموعه يوجب ذلك، بدليل أنه قال: {يخلد}، ولا خلودَ إلا على الكفر، فلا يُمكنُ حملُ الوعيدِ على آحادِ هذهِ الأشياء المذكورةِ، إذ ليس فيها ما يوجبُ الخلودَ.
وأمَّا قوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43]، فليس هو من قولِ من يُعتدُ بقولهِ، بل هو قولُ الكفارِ ولا اعتبارَ بقولهم، بدليلِ أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، قال
__________
(1) ورد ذلك التفسير عن ابن عباس، كما في "تفسير الطبري"12/ 92 و"تفسير ابن كثير" 7/ 153.

(3/135)


الله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا} [الأنعام: 24] ومن يكذب يجوز أن يجهل.
ولأنه يحتمل أن يريدوا: لم نَكُ من أهلِ الصلاةِ، كما قال: نُهيتُ عن قتل المصلين، وليس المرادُ به مَن هم في تحريمةِ الصلاة فقط، لكن من يلتزمها وهو أهلٌ لها.
ويحتملُ أن يكونَ هذا قولَ فرقٍ مختلفين، فقومٌ تركوا الصلاةَ، وقومٌ تركَوا إطعامَ المسكين في الزكواتِ والكفاراتِ، وقومٌ كذَّبوا بالبعثِ بعد المماتِ.
يشهد لهذا التأويل: أن الخِلال كلها لا تكادُ تجتمعُ في الكلَ، فإن منهم مَنْ كان يُطعمُ الطعامَ، ويصلُ الأرحامَ تكرماً، ومنهم من يفعل ذلك بعد نسخِ الدين الذي كان عليه تديّناً وتمسكاً؛ كالنصارى واليهود بعد بعثهِ نبياً صلى الله عليه وسلم، وفيهم الرهبانُ الذين لا يخوضونَ مع الخائضين، وفيهم من لا يكذبُ بيوم الدين ممن يثبتُ البعثَ ولكن يكفر بجحد شيءٍ آخر، كجحدِ إيجاب واجب في الشرع، أو حجدِ تحريم محرّم حرمه النصّ، فهذه جملة أسَئلتهم.

فصلٌ
في جمعِ أجوبةِ الأسئلةِ على الآيات الثلاث
أمًا حملُ الزكاةِ على الشهادةِ، فليس بحقيقةٍ، بل الحقيقةُ إخراجُ المالِ المخصوصِ عن المالِ المقدرِ المخصوصِ، على أنَه إذا حُملَ على الشهادةِ، كان إعادةً، فإنَّ الكفرَ بالآخرة كفرٌ، فكانَ يحملُه على تركِ الشهادة، كأنَّه قال:

(3/136)


الذين لا يؤمنون وهم بالأخرة كافرون، وحملُه على عدم اعتقادِ الزكاةِ حمل على الكفرِ أيضاً، ومهما أمْكن حملُ الكلام علىَ حقائقهِ وحَمْل كُلَ جمله منه على معنى غيرِ الأولِ، فلا وجه لحمله على التكرار، ورد الويل إلى الكفرِ خاصةٌ، وإخراج بقيةِ الجرائمِ عن مقابلةٍ خلافُ الظاهرِ، لأنه لو كان غير الكفر من منع إيتاء الزكاةِ ليس بمقابل، لم يكن لذكره معنى.
وأمَّا قولهم: إنَّ الوعيدَ عادَ إلى جمعِ المذكور، ومن جملته الكفرُ، ولهذا أوجبَ الخلودَ، فهذا عينُ ما نريدهُ، لأنَه إذا عادَ إلى الجميعِ، كانت المؤاخذةُ بكُلِّ واحدٍ من الجملةِ المذكورةِ، ولا سيما ذكرهُ للمضاعفةِ في مقابلهِ تَعدُدِ أفعال مضاعفه، فهو أشبهُ من عودهِ إلى الكفرِ، وهو شيءٌ واحد، فيكونُ ذكرُ الخلودِ لأجل الكفر، والمضاعفةُ في مقدارِ العذاب لأجلِ ما ذكره من الذنوب.
وأما قولهم: إنَ قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إنما هو قولُ الكفارِ، فكلُّ قولٍ حكاهُ الله عنهم ولم ينكره، فهو قولٌ صحيح، ألا تراهم لما قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كيف قال: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقولُهم: يُحتمل لم نكُ من أهل الصلاة، فذاكَ هو الكفرُ، وقد ذكره، فلا وجهَ لتكراره، ولا يُحملُ الكلامُ على ما يقتضي التكرارَ، على أنَّ الحقيقةَ خلافهُ، فإن الكلامَ يقتضي تَرْكَ فعل الصلاةِ لا اعتقاد وجوبها.
وأما قولُهم: يحتمل أن يكون قولَ فِرَقٍ. فلا يمنعُ استدلالَنا،

(3/137)


لأنَهم إن كانوا فرقاً من الكفارِ، فقد أخبرَ أنَّ الكفارَ متواعدونَ على ترك هذه الأمورِ التي هي من الفروع، وإن كانوا فِرقاً بعضُهم من أهلِ الإيمان، فلا يمكن، لأن الله سَبحانه قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 48 - 49] وهذا راجعٌ إلى جميع المذكورين.

فصلٌ
في أدلتنا من طريق النظر
فمنها أنهم مخاطبونَ بمعرفةِ الله وتصديق رُسُله صلوات الله عليهم، وأتهم مَأْثومون على تكذيب الرُسُلِ وجحدِ نبوتهم وقتلهم وقتالهم، وأنهم معذبون على الكفر بالله، وهذا مما أجمعت عليه الأمةُ، فلا خلافَ فيه، وإن كانَ التصديقُ بالرُسلِ لا يصحُّ إلا بعد تقدم معرفةِ الله، ومعرفةِ انفرادِه بالقدرةِ على ما أيدهم به من المعجَزاتِ، وأنَه على صفةٍ هو عليها لا يجوزُ عليه تأييدُ كذاب عليه بالمعجزِ، ومتى لم يتقدم هذا لم يصح تصديقُهم بالرسُلِ عليهم السلام، فقد صارَ خطابُهم بتصديقِ الرسُلِ مشروطاً بتقدم معرفةِ الله، ومعرفةُ الله سبحانه بنا ذكرناه من العرفانِ لا تصح إلا بشريطَةٍ هي تقدُمُ النظر الصحيحِ والاستدلالِ المؤديين إلى معرفته، ولم تمنع عدمَ صحة التصديق بالرسُل إلا بتقدُّمِ الشروطِ المذكورةِ من القولِ بخطابِهم بالتصديقِ لهم، كذلك عدمُ صحةِ العباداتِ منهم إلا بشريطةٍ تتقدم، وهرب الإيمانُ لا يمنعُ صحةُ الخطاب بها، وهذا دليل لمذهبنا، وفي قوته، صلاحهُ لإفسادِ كل شبهةٍ يتعلقوَن بها في هذه المسألة.

(3/138)


ونحررُ قياساً فنقول: مَن تناولَه الخطابُ بالإيمانِ تناولَه الامرُ بالعبادات، كالمسلمِ لو ارتدَّ أُمر بالإيمان، والمسلمُ الذي لم يرتدي الامرُ باستدامةِ الإيمان.
ومن ذلك: أنَهم مع تكليفِ الإيمانِ بالرُّسُلِ عليهم السلام، مخاطبون بالمنهياتِ، وأهلُ الذمةِ منهم يُحدّونَ بالزنا والسرقةِ، ويعزّرون بما يوجب التعزير من الجرائم غير الموجباتِ للحدود.
وتحقيقُ هذا أن يقال: لما نُهوا عن أكبرِ معصيةٍ لله، وهو التكذيبُ بآياتِ الله ورُسلهِ، دَخلوا في النهي عما دونة من المعاصي، كذلك لمّا أمروا بأكبرِ طاعةٍ وهي الإِيمانُ، أُمروا بأركانهِ وتوابعهِ من العباداتِ والطاعاتِ.
ومن ذلك: بأنّه لما كان مُزاحَ العلةِ فما أمرِ به من الإيمان، دخلَ في الخطاب به، وهو مزاحُ العلة في باب العبادات، من حيث؛ كان قادراً على تحصيل مقدماتِها وشروطها، وهذا علّةُ دخوله في الخطاب باصلِ الِإيمان، وقد ساوته العباداتُ في ذلك، فدخلَ في مُطلقِ الخطابِ بها.

فصل
يجمعُ أسئلتَهم على أدلتِنا في المسألةِ
فمنها: أن الخطابَ بالإيمانِ إنّما حصل لأنه من أهلِه، ولهذا لو أتى به لصحَّ منه، فأمَّا الصلاةُ والصيامُ، فإنه لا يصح منه أداء، ولا يجبُ عليه بعد فواتِ وقتهِ قضاءٌ، ومحالٌ تأثيم مكلفٍ على تركِ فعلٍ لو فعلهُ لما صحَّ منه.

(3/139)


ولأنَ المنهيِّ عنه يلائم الكفرَ في كونه معصيةً، فحسُنَ أن ينصرفَ الخطابُ إِليه بتركه كما انصرفَ إِليهِ الخطابُ بتركِ الكفرِ، والطاعاتُ بخلافه.
ولأنَّ النهيَ لما تعلق عليه وتناوله الخطابُ به تعلقت عليه أحكامُه وهي الحدود والعقوباتُ والتعازير، والطاعات لا تتعلقُ عليها أحكامها إذا وجدت منه.
وأما النهيُ فإنه يصحُّ منه ترك مع الكفرِ، والطاعةُ لا تصحُّ منه.
وأما قولكم: إنه مزاحُ العلةِ غيرُ صحيح، لأنَّه لو أزيحت علّته، لصحَّت منه، فأمَّا إذا أُتي بها، فلم تقبل ولم يعتد له بها، فلا تصحُّ دعواكم إزاحةُ العلة في حقه.

فصل
في جمعِ الأجوبةِ عن الأسئلةِ
أمَّا إطلاق القولِ بأنها لا تصحّ منه، لا يسلَّم فإنَ العباداتِ تصحُّ منه مع تقديمِ شروطِها، ولو جاز أن يقال: لا تصحُّ منه مع الكفر، فلا يخاطَبُ بها. لجاز أن يقال: لا يصحُ من غيرِ العلم بحدث إثبات صانع، ولا يصحُ من غيرِ العالمِ بالصانعِ إثباتُ أنَه واحد، فلما خوطبَ باعتقادٍ لا يَصُّح إلا بتقدم اعتقاد مثله، كذلكَ جازَ أن يُخاطب بفعل ما لا يصحُّ فيه إلا بتقدّم اعتقادٍ قبله، أوَلا يرى أيضاً أنه لا تصح من المحدِث صلاة، فلا يخَاطبُ بها، بل يقالُ: تصحُّ منه بأداءِ شروطها، وتقديم مقدَماتِها من الوضوء والاغتسالِ، ولا يقال: لا يصح من النجار عملُ بابٍ ولا دولابٍ، إذ ليس معه آلة ذلك، بل

(3/140)


يقالُ: تصح منه النَّجارةُ بشريطةِ تحصيلِ الآلات. فهذا قولٌ باطلٌ موهِمٌ عندَ من لا يفهم أنَّه سَيىء، واذا كشُفَ بالتحقيق تزيَّف.
على أنه لو جازَ أن يقالَ هذا في العباداتِ، لقيلَ في تصديقِ الرُّسل: إنه لا يخاطبُ به، لأنه لا يصح منه إلا بعدَ تقديمِ النظرِ والاستدلالِ المحصّلين لإثباتِ الصانعِ وأنه واحدٌ منفردٌ بخرقِ العادات، والقدرةِ على ما يظهرُ على أيدي الرسلِ صلوات الله عليهم من المعجزاتِ، وإنَّما لم يقل ذلك، لأنَّهم قادرون على تقديم النظرِ المؤدي إلى صحةِ تصديق الرُسُل، كذلكَ الكافرُ قادرٌ على إزالةَ كفرهِ بصائب فكرِه وصدق الاجتهاد من نفسهِ، فإذا زالَ الكفر صَلح للصلاةِ والصيامِ، كما أنَّ الجُنُب إذا اغتسلَ صَلح لأداءِ الصلاةِ والطوافِ وغير ذلك مما يشترطُ له الاغتسالُ، فقد وجبَ التأثيمُ عليه بتركِ ما هو قادرٌ على التوصُّل إليه.
فإن قيل: هذا كلامٌ باطلٌ يوهِمُ أنه ينطبقُ على ما نحن فيه، وليس الأمرُ كذلك، لأن النظر شَرطُ المعرفةِ، والطهارةَ شرطُ الصلاةِ، وليس الإيمانُ شرطاً للعباداتِ، وانما هو أصل بنفسه، إذا صحَّ أوجبَ إلزامَ توابعه، وعُلَقِه، وما هذا سبيلهُ لا يجبُ على المكلفِ تحصيلُه لأجلِ ما يترتبُ عليه.
فيحسُن أن يقال: يجبُ أن يحصّل الغُسلَ ليصلي، لأنَّ الغسلَ لا يجبُ في نفسِه إلا لغيرِه وهو الصلاةُ والطوافُ والاعتكافُ، والنظرُ لا يُرادُ لنفسِه، بل يُرادُ لتحصيل المعرفةِ، فأمّا الإيمانُ فإنه لا يقال: إنه موضوع ليصَلّيَ ويصومَ، بل هو أصل، وانما يصلّي ويصومُ ليقعَ منه بذلكَ موافقةُ التصديق، فأمَّا أن يُصدقَ ليصليَ ويصومَ، فبعيدٌ ذلكَ

(3/141)


عند المحققين، بل محال (1).
على أنَه ليسَ كلما لم يصح الشىءُ إلا بحصولِه يجب تحصيله، لا سيّما إذا كانَ شرطاً للصحةِ، بدليلِ أنَّه لا يَصح إخراجُ الزكاةِ إلا بتقديمِ ملكِ النّصاب المخصوص، ولا تصح التوبةُ إلا بتقدُّم الذنب، ولا يجبُ تحصيلُ النصابِ ليزكي، ولا مقارفة الذنب ليتوبَ، ولا كلَّما لم يجب الشيءُ إلا بحصولهِ يكون واجباً؛ بدليلَ أن تحصيلَ الزاد والراحلةِ، لا يجبُ الحجُّ إلا بحصولهِ، ولا يجبُ تحَصيلهُ، فلا شرطَ الإيجاب يجبُ، ولا شرطَ الصحةِ يجبُ، فبطلَ قولُكم: إن العباداتِ يجبُ تحَصيلُها بتحصيلِ شرطِها، وهو الإيمانُ الواجب.
فيقال: هذا مشاحّةٌ في عبادةٍ، وإن الإيمانَ واجبٌ، لكنه ليس بشرطٍ ولسنا نضايقكم فنقول: إن الإيمان شرط. بل نقولُ: الإيمانُ واجب مقدور على تحصيلهِ، واذا وجبَ تحصيلُه وجبت العباداتُ، فكانَ وجوبُه مع استطاعةِ تحصيلِه صالحاً لإيجاب ما ترتّب عليه، كالنظرِ والاستدلالِ لما وجبا وكان وجوبُهما طريقاً لمَعرفةِ الله، وجبت معرفةُ الله على من لم يعرفِ الله بطريقِ النظر.
فأمَّا قولكم: إنَ النظرَ لا يُراد لنفسِه، والطهارةَ لا تُرادُ لنفسها، فهما شرطان، والواجبُ إنما هو الصلاةُ والمعرفةُ، وهنا الواجبُ: الِإيمانُ والمعرفةُ، لا النظر، فليس الأمرُ كذلك، بل النظرُ المؤدي إلى المعرفةِ طريقُ وشرط، والعبادةُ لله سبحانَه والطاعةُ هي المقصودةُ. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فالأمرُ بالطاعاتِ المقصودةِ، شاملٌ كلَّ مكلفٍ، لأن الله سبحانَه أخبرَ أنه لم يخلق الجنَّ والإنسَ إلا لعبادتهِ، ولما لم تصحَّ عبادةُ من
__________
(1) لأن الإيمان اعتقاد جازم وقول وعمل.

(3/142)


لا يُعرفُ، وجبت المعرفةُ ليُطاع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بنيَ الإسلامُ على خمس" (1)، وساقَ العبادات وقال:" أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" (2)، وساقَ العباداتِ الخمسَ.
وقد أجمعنا على أنَ معرفةَ الله سبحانه التي لا يتعقبها طاعة في سائرِ ما أَمرَ به، منحبطة الثواب، وعباداتُه التي لا تتقدمها المعرفة منحبطةٌ، كما أنَّ الطهارةَ لغير صلاةٍ غيرُ نافعة، والمعرفة لغيرِ طاعةٍ وعبادةٍ غيرُ نافعة، بل من لا يعرف ولم تحصل له المعرفة غير مؤاخذ بتركِ المعرفةِ إلا لإهمالِه شرطَها، وهو النظرُ والاستدلالُ القادرُ عليهما، فكذلكَ التاركُ للعباداتِ مؤاخذٌ بتركِ تقديمِ مالا تتحصّلُ العبادةُ إلا به، وهو الإيمانُ.
وأمّا قولهم في النهي: إنّه يصحُ منه تركهُ. فإن أرادوا به صورة، فالطاعاتُ كلها تصحُ منه صورة، وإن أرادوا به، يصحُ التركُ على وجهِ مكابدةِ النفسِ لأجلِ الاحترامِ للناهي عنه، فذلك أمرٌ حُكمي يقفُ حصولُه على تقدم الِإيمان والتصديقِ، وإلا فالتركُ للمعاصي مع الكفرِ كتركِ المتطبب لشربِ الخمرِ لمضرةٍ عَلِمها فيه تعودُ إلى مزاجه وكتركِ المتصاون عادة لفعلِ الزنا خوفاً من المعرةِ في قبيلته وحزبِه، والتارك للظلم لرِقّةِ طبعه ورِقةِ قلبِه وما يلحقه من الألم بالاستطالةِ على
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 430.
(2) تقدم تخريجه 1/ 190.

(3/143)


المظلوم، إلى ما شاكل ذلك، فهذا فصل محقَّقٌ أغفله جماعة من مصنفي هَذا النوع من العلم.
وأمَّا قولهم: إن المنهيَ لما صحَّ في حقِه وتعلقت عليه أحكامُه، صحَّ أن يتجه إليه الخطابُ بتركِه، بخلافِ العباداتِ. فليس بصحيح؛ لأنَّ إقامةَ الحدودِ على أهلِ الذمةِ لإقامةِ سياسةِ الملةِ حيثُ التزموا أحكامنا، فأمَّا أن يكون لأن أحكام النهي ثبتت شرعاً فلا، لأن الحدودَ لأهلِ الإسلام كفارات لأهلها، أو بلاء، وهي في حق الكفار محضُ عقوبات، وليس الحدودُ المحضةُ عقوبةً من أحكامِ أهل الإسلام، فما تعلقت الحدودُ بالمنهيات في حقهم على الحث الذي تعلقت في حقنا.
وأمّا كون المحظوراتِ تلائم الكفر، فكان يجبُ لما عفونا عن الكفرِ إقراراً لهم عليه أن نقرَّهم على المنهياتِ تبعاً، فلما زجرناهم عنها بطل أن يكونَ النهيُ عنها والزجرُ لأجل الملاءمةِ.
فبانَ أنَّ ما ذكرتم من الملاءمةِ ضدَ المقتضى.
وتفصيحُ هذا وكشفهُ، أنَّه كما لا يقالُ لمن لا يؤمنُ بالله: صل الله. ويُستهجن هذا من قائلهِ، لا يُقالُ لمن يستجيزُ الكفرَ بالله والشركَ: لا تبع بزيادةٍ فتكونَ مرابياً، ولا تطأ أجنبية فتكونَ زانياً، كما لا يُقالُ لمن انغمسَ في حش وبال: امسحْ رأسَ قضيبك بحجر لتكون مُسْتَنجياء. ولا لمن تشككت فيه النصال، ووطىء على شوكةٍ: انقش الشوكةَ من رِجلك، وإنما يتشاغلُ في الأمورِ بالأكبرِ والأهمّ، فإذا كان كفرُ هذا الكافرِ لم يمنع من صرفِ النهي إليه عن جرائمَ دون الكفرِ مع النهي عن الكفرِ، كذلكَ لا يمتنعُ صرفُ الأمرِ إليه بالعباداتِ التي هي دونَ الإيمانِ مع الأمرِ له بالإيمان.

(3/144)


فصلُ
في جمع شبههم في هذه المسألة
فمنها: أن العباداتِ لا تصحُّ منهم حالَ كفرِهم، وعبروا عن هذا بعبارتين:
إحداهما: أنهم لو كانوا مأمورين بها لصحت منهم، كما صح الِإيمانُ منهم.
والعبارُة الثانية: أنَّ الخطابَ لهم بما لا يصحُّ منهم لا فائدةَ لهم فيه، بل فيه الضررُ عليهم بالعقويةِ على الترك. واذا لم تصحَّ منهم هذه العباداتُ على وجهِ القربةِ، لم يصح الأمرُ لهم بها.
ومن ذلك: أنها لو كانت واجبةً على الكافرِ في حالِ كفرِه، وكان مخاطباً بها مع ما هو عليه من جحده، لوجبَ عليه قضاؤها بعد إسلامهِ، كما إذا تركَ المسلمُ الصلاةَ حالَ حدثهِ أو مرضِه أو سهوة أو فسقهِ وتكاسلهِ، وجب قضاؤها، فلمّا لم يجب القضاءُ بعد زوالِ الكفرِ، علم أنّه لم يكُ مخاطباً بها ولا وجبت عليه حالَ الكفرِ، فصار كالحائض.
ومن ذلك: أن الصلاةَ يقابلُ تاركها بعقوبةٍ في الدنيا وهي الضربُ عند قومِ، وبالقتلِ عند آخرين، وعقوبةٍ في الآخرةِ وهي إدخالُ النارِ، ثم إنَ الَكافرَ لا يتعلّق عليه بتركهِا عقوبةُ الدنيا الواجبة الله سبحانه شرعاً، كذلكَ لا تجبُ عليه عقوبةُ الأخرةِ، والعقوبة على التركِ من خصائص الوجوب، فإذا عُدِمت خصيصةُ الوجوبِ دل على نفي الوجوبِ.

(3/145)


ومن ذلك: أنَ الكافرَ جاحد بالأصلِ الذي يُبتنى عليه فعلُ العباداتِ، فيكف يخاطَبُ بالفرع من يجحدُ الأصلَ؟ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا، حيث كتب إلى كسرى وقيصر (1): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]، ولم يذكر فروعَ الإيمان، اعتماداً على حصولِ الاستجابة، فإذا حصلت خاطبَ، وتأخيراً للخطاب المبني على غيره فيما يتقدم وهو التصديق. وكذلكَ لما أنفذ معاذاً إلىَ اليمن، قال له: "ادعهم إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله، فإنْ أجابوك فأعلمهم أنّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" (2)، وإذا كان ترتيبُ الخطابِ هكذا لم يجز تقديمُ الخطابِ على شرطه.

فصلٌ
يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم
فأما قولُهم: إنها لا تصحُ منهم. فلا يُسَلَّمُ على الإطلاقِ، بل
__________
(1) كتابةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر، رردت في عدةِ أحاديث، منها: حديث أنس بن مالك: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى قيصر وكسرى وأكيدر دُومة يدعوهم إلى الله تعالى". أخرجه: مسلم (2092) (58) و (1774) والترمذي (2716)، والبيهقي 9/ 107، وابن حبان (6553).
كَما وردَ من حديث ابن عباس، كتابُه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: أخرجه: أحمد 1/ 263، والمخاري (7) و (51) و (2681) و (2941) و (2978) و (3174) و (4551) و (5980)، ومسلم (1773) والترمذي (2717)، وابن حبان (6555).
(2) لم نجده بهذا اللفظ، وانظر "نصب الراية" 2/ 398 و 3/ 380.

(3/146)


يقالُ: هم من أهلِ الصحةِ لتحصيلها بشروطِها، ومن قدرَ على تحصيلِ الشرطِ لا يقال: لا يصحُ منه فعلُ المشروطِ.
على أنَّنا لو سامحنا وأنها لا تصح، بمعنى مالم يقدموا شرطها، فباطلٌ بالمرتدين، فإنهم كفارٌ ولا تصح منهم العبادات على وجهِ القربةِ وهم مخاطبون.
فإن قالوا: أولئكَ التزموا حكمَ الإِسلامِ قبل، وهؤلاء الزموا حكمَ الإِسلامِ، وإلزامُ الشرعِ كإلزامهم.
فإن قيل: فالمرتدُ لما وجبت عليه حال كفرِه، وجبَ عليه قضاؤها بعد إسلامهِ، قيل: إن صحَّ لك هذا الاعتذارُ مع من يسلم وجوبَ القضاء على المرتد، لم يصح لك مع من لا يوجُبه، فتقف صحةُ اعتراضكَ على تسليم خصمك.
على أنَّ القضاءَ إنما سقطَ عن الكافرِ الأصلي لئلا يؤديَ إلي تنفيره، وسنوضِّحُ العذرَ عن إسقاطِ القضاءِ في الكلامِ على الشبهةِ التي أوردتموها في جملةِ الشبه التي جمعناها في الفصل المختص بها إن شاء الله.
وجواب آخر عن أصل هذه الشبهة: وهو أنَّ عدمَ الصحّةِ لا يمنعُ الإيجابِ، كما أنَّ التصديقَ بالرسلِ لا يصحُّ من جاحدٍ بالصانع، ثم إنّهم قد صرفوا الخطابَ بالإيمانِ بالرسلِ إلى الجاحدِ لكونهِ قادراً على تحصيلِ الشرطِ بطريقهِ وهو النظرُ والاستدلالُ، فإذا حصلت المعرفةُ ترتب حجةُ التصديقِ بالرسل، ولم يقف الخطابُ بتصديقهم على حصول المعرفةِ، بل قنع في إيجابها بالقدرةِ على التسبب إلى المعرفةِ

(3/147)


بالمرسلِ، كذلكَ لا يقفُ الخطابُ هاهنا على حصولِ الإيمان، بل يُقنع بالقدرةِ على تحصيلِ الإيمان.
وأما قولُهم: لا فائدةَ في الأمرِ بها مع عدم صحتها. فليس كما ذكروا، لأن التكليفَ في الجملةِ فائدة صح أو لَم يصح، كان أو لم يكن، لأن علمَ المكلفِ أنه إِذا لم يتبع هذا الشرعَ كان معاقباً على تركِ فروعهِ وأصوله كان أدعى له إلى الاستجابةِ، وينتفعُ به إذاً كسببٍ لحصولِ الشرط، وهو الإيمانُ (1).
وأما جوابُنا عن قولهم: لو كانت واجبةً حالَ كفرهِ لوجبَ قضاؤها حالَ إِسلامهِ، فإنَه لا يصح لوجوهٍ:
أحدُها: أنَ القضاءَ لا يجبُ لأجلِ وجوبِ المقضي، ولا يسقطُ لعدم وجوب المقضي، والله سبحانه أن يوجبَ الأداءَ ثم يسقطَ القضاءَ، ويوجبُ القضاءَ لما لم يجب فيه الأداءُ، بل لم يصح فيه الأداءُ، ولهذا يجبُ قضاءُ الصوم على الحائض ولا يجبُ عليها في حالِ الحيضِ صومٌ، والجمعةُ تجب، ثم إِذا تركَها من تجبُ عليه لم يجب قضاؤها، وإنما يجبُ القضاء بأمرٍ مبتدأ، ولم يردْ دليلٌ بوجوب القضاءِ على الكافرِ، وإن علّل ذلكَ فلأجلِ [عدم] التنفير عن الإسلام عفيَ للكافرِ عما سلَفَ من العبادات لأجل أنَ الشيخ الهِمَّ (2) إذا رأى أنه يحتاج أن يقضي صلواتِ عشرات سنين، ويزكّي عن ماله لمِا مضى حتى يفتقر شحَّ وتكاسلَ فغير عن الإسلامِ.
__________
(1) بعدها في الأصل أربع كلمات غير واضحة.
(2) الشيخ الهِمّ: الكبير الفاني. "القاموس المحيط": (هَمَّ).

(3/148)


وأما تعلقهم بأن الكافرَ لا يجبُ عليه بتركِ صلواتٍ عقوبةُ الدنيا وهي القتلُ أو الضربُ، فكذلك الإثمُ، فليسَ بلازم، لأن الله تعالى قد أسقطَ القتل والاسترقاقَ عن كفارِ أهلِ الذمةِ، دارْ لم يُسقط عقوبةَ الآخرةِ عنهم.
على أنَّ الكافرَ جُعلَ كالمجتهدِ في تحصيلِ الإسلام ليؤدي ما يجبُ عليه بالإسلام. والمجتهدُ لا يُعاقبُ في حالِ اجتهادهَ، والدليلُ على أنه جعل كالمجَتهدِ، أنه جائز إقرارُ أهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب مع كفرهم وما يعتقدونه من دينهم، ولهذا من لم يُقَرّ على كفرهِ بودر بالعقوبةِ وهم المرتدون، ومن لا يجوزُ إقرارُهم على كفرِهم، ومن أمهِلَ وتُركَ مقراً على الكفرِ من غير إزعاج ولا إزهاقٍ أحرى أن لا يزهقَ ويضربَ لأداءِ الصلاة.
وأمّا قولهم: إنَّ الجاحدَ للأصلِ لا يجوزُ أن يُخاطبَ بالفرع.
ليس بكلامٍ صحيحٍ، لأنَّه إذا ثبتَ أنَّ معرفةَ الله تعالى أصل لتصديق رُسُله وقد خوطبَ بتصديقِ الرُّسُل عليهم السلام ونُهيَ عن تكذيبهم، ثبتَ أنَّ تصديق الرسُلِ وإن كان أصلًا للطاعةِ لهم في الأمرِ بالعباداتِ لا يمنعُ من خطابِهم بالعباداتِ بشريطة تحصيلِ التصديق لهم.
على أن قولك: المعرفة أصلٌ، فإنَ المقصودَ من المعرفةِ طاعةُ المعروفِ وعبادته، فيجوزُ أن لا نمنعَ الخطابَ لهم بالمعرفةِ من خطابهم بالمقصودِ بها، وهو تعظيمُ الله تعالى وامتثالُ أمره، وهو تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
على أنَّ المرتدَّ لا يمتنعُ خطابُنا له بالإيمانِ والعودِ إليه ومعالجةِ

(3/149)


شبهِ الكفرِ من خطابهِ بالعباداتِ على قول أصحاب الشافعي ومن وافقهم، والمرتدُّ حالَ ردتهِ غيرُ معتقدٍ ولا ملتزم لِإيمانٍ ولا عبادةٍ أوجبها الشرعُ، ومع ذلكَ ألزمه الشرعُ ذلك.
وأمَّا تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - خطابَ الكفارِ بالإيمان، فإنما كان كذلك ليكونَ تقديمُ معارفِهم بالله مستعملًا وموطئاً لهم على العباداتِ، لأنَّ طاعةَ من لا يعرف لا تتأتى، فما أخرَ الخطاب لأن العباداتِ لم تجب، لكن لم يُكثر عليهم، حتى إِذا عرفوا سَهُلَ عليهم وخف بعرفانِه، تعالت عظمتُه، ومعرفة صحةِ الرسالةِ أثقالُ العبادات، ولأنه عليه السلام لم يذكر المنهيات على قولِ من وافق في خطابهم بها لما ذكرنا، وإن كانت قد دخلت في خطابِهم بالإيمان، والله أعلم.