الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
إذا أمرَ الله تعالى بعبادةٍ، كان أمرُه بها نطقاً، نهياً عن ضدها من طريق المعنى، وسواءٌ كان لها ضدٌّ واحد أو أضداد (1).
وتفصيل هذا الكلام: أن كل مأمورٍ به من جهةِ آمر، يقتضي النهيَ عن تركِ ذلك المأمورِ به، وكل فعل يضاد المأمور به لا يصح أن يجمع معه كما لا يجمعُ التركُ، فكانَ حكمُ المضادِ للعبادةِ المأمورِ بها حكمَ الترك، فلا بد أن نقول: إِذا لم يكن الآمرُ قد خير بين فعلها وفعلِ ضدِّها، فأمَّا إِن وُجدَ التخيير بين المأمورِ وبين ضدِه صارَ بمثابةِ
__________
(1) انظر هذا الفصل في "العدة"2/ 368، و"التمهيد"1/ 329، و" المسوّدة" ص (49) و"شرح مختصر الروضة" 2/ 380 و "شرح الكوكب المنير" 3/ 51.

(3/150)


التخيير بين فعلهِ وتركه، فيخرجُ بالتخيير عن أن يكون منهياً عنه من طريق المعنى ونهياً.
قاله أكثر أصحاب أبي حنيفةَ، وأصحابِ الشافعيِّ، وأصحاب الأشعري (1)، وزاد بعض الأشعرية، فقال: هو نهي عن ضده من طريق اللفظ (2).
وقال المعتزلة وبعض أصحاب الشافعى (3): ليس بنهي عن ضدِه لا لفظاً ولا معنىً.
وفائدة قولنا: إنه إذا فعلَ الضدّ كان آثماً بفعل الضدّ من جهة الأمرِ، ولا فرقَ بين كونِ الأمر ندباً أو واجباً.
وقد فصَّل بعض المتكلمين، فقال في الأمرِ الواجبِ: يكون نهياً عق ضده، وأما المندوبُ فلا.
__________
(1) أي أن كثر الحنفية والشافعية قالوا: بأن الأمرَ بالشيء نهى عن ضده من طريق المعنى.
انظر ذلك في "الفصول في الأُصول" 3/ 158، و"أصول السرخسي" 1/ 94، و"التبصرة" ص (89)، و "الإحكام" للآمدى 2/ 251، و"المحصول" 2/ 199.
(2) أي أن بعض الأشاعرة قالوا: بأن الأمرَ بالشيء نهى عن ضده من طريق المعنى واللفظ معاً، وهو قول أبي الحسن الأشعري كما في "البحر المحيط" 2/ 417، وهو مبني على قوله: إن الأمرَ لا صيغة له.
(3) من أصحاب الشافعي الدين قالوا بأنَّ الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده لا لفظاً ولا معنى، الجويني كما في "البرهان" 1/ 252، والغزالي في "المستصفى" 1/ 82 وانظر تفصيل المسألة في "البحر المحيط" 2/ 416.

(3/151)


وذهب المحققونَ والأكثرونَ من أهلِ هذه المقالةِ إلى أنَّ النهي يكونُ بحسبِ الأمرِ، فإن كان أمراً موجباً، كان نهياً عن ضدِه جازماً، وإن كان أمرَ ندبٍ، كان النهي عن ضده تنزيهاً وكراهية.

فصل
في جمعِ الأدلةِ على مذهبنا
فمنها من جهة البناءِ على أصلنا، وهو أنَّ الأمرَ على الوجوبِ على الفورِ، فإذا ثبت هذان الأصلان، وقد حرمَ التركُ بإشغال الوقت الذي يلي الأمرَ بما يضادُّ الأمرَ، التفاتٌ عن المأمور إلى غيره، وذلك محظورٌ من حيث كان إخلالاً بالمأمور.
ومن ذلك: أن فعل المأمورِ به لا يمكنُ إلا بتركِ ضده إن كان له ضدٌّ واحدٌ، وبتركِ جميعِ أضداده إن كان له أضدادٌ، وما لا يمكنُ فعلُ الواجبِ إلا به يكونُ واجباً فعلُه، فما لا يمكن فعلُ الواجب إلا بتركِه يجبُ أن يكونَ واجباً تركُه، ولا يجبُ تركُه إلا وهو منهيٌّ عنه.
مثالُ ذلك: أنَّ الطهارةَ والستارةَ والاستقبال شروطٌ شرعيةٌ لا يمكنُ فعلُ الصلاةِ الشرعيةِ إلا بها، فكانت مشاركةً للصلاةَ في الوجوبِ، فكذلك تركُ هذه الأضدادِ لا يمكن فعل العبادة إلا بها، فكان شرطاً واجباً، ووجوبُ التركِ لا يكونُ إلا بنهي، وما وجدَ سوى الأمرِ بالعبادةِ،

(3/152)


فثبت أنَ في طيهِ النهي عن الضد المعوِّق عن فعلها.
ومثاله من مسألتنا، إذا قال لعبدِه: اخرج من الدارِ. فإنَه يعقل منه الأمرُ بفعلِ الخروج، والنهيُ عن المقام، حتى إن السيدَ إذا رأى العبدَ مقيماً فيها حسُن أن يقول: ألم أنهك عن المقام؟! كما يحسُن به أن يقول: ألم آمُرْكَ بالخروج؟
وكذلك إذا قال له: قمْ، فقعدَ، حَسُن أن يوبِّخه ويعاقبه إن شاءَ على تركِ القيامِ فيقول له: ألم اَمُركَ بالقيامِ؟ وإن شاء على ما ارتكبه من النهي عن القعودِ، فيقولُ له: ألم أنهَكَ عن القعود حيث أمرُتك بالقيامِ؟ ولا يحسُن أن يقول: لم أنهه عن القعودِ، إنما أمرتُه بالقيامِ.
ومن ذلك: أنَّ من مذهبِ المعتزلةِ أن الأمرَ يقتضي إرادةَ المأمورِ به وحسنه، فكانَ تركهُ يقتضي ضدَّ الإِرادةِ والحُسنِ، وهو كراهيتُه وقُبحه، وفعلُ الضدِّ تركٌ في الحقيقة، والقبحُ والكراهيةُ تقتضي حظره، وكل محظور فمنهيٌّ عنه.

فصل
في أسئلتهم على ما ذكرنا من أدلتنا
قالوا: هذا باطل بالنوافل، فإنَها حسنةٌ مرادةٌ، ولا يقال: إن ضدَّها قبيحٌ مكروه.
قيل: إنَما أتينا بالطريقةِ لإِفسادِ مذهبكم، ولا يصحُّ أن يكونَ جوابُه المناقضةَ، والله أعلم.

(3/153)


فصلٌ
في جمع شبهِ من قال: إنّه ليسَ بنهيٍ من طريق المعنى، دونَ من قال: إنه نهيٌ من جهةِ اللفظ والقولِ.
فمنها: أنَّ الأمرَ استدعاءُ الفعلِ بقوله: افعل، والنهي استدعاءُ الكف والترك بقوله: لا تفعل، فلا يجوزُ أن يجتمعا، وهما ضدان لصيغةٍ واحدةٍ، كما لا يجتمعُ الضدان في محلٍ واحدٍ، ولا يجتمعُ لجوهر الواحدِ حركةٌ وسكون في حالةٍ، كذلك لا يجتمعُ للصيغةِ الواحدة، استدعاءُ الفعلِ، واستدعاءُ التركِ.
ومن ذلك: أنه لو كانَ الأمرُ بالشيءِ نهياً عن ضدّه، لكانَ الأمرُ بالنوافل نهياً عن تركها.
وللنهي حالتان:
نهيُ حظرٍ.
ونهيُ تنزيهٍ وكراهة.
ولو كانت النافلةُ منهياً عن تركهِا حيث كانت مأموراً بها ندباً، لكانَ النهيُ عنها إن كان حظراً عادَ بوجوبها، لأنَّ المحظورَ تركُه ليس إلا الواجبَ فعله، وفي إجماعنا على نفي وجوب النوافل إبطال لدعوى النهي عن تركها على وجه الحظر.
وإن كانَ الأمرُ بها نهياً عن تركهِا تنزيهاً وكراهةً، فقد أجمعَ الناس على أن فعلها مستحب وتركَها غيرُ مكروهٍ، كما كانَ غيرَ محظورٍ، فبطَل قَولكم: إنَ الأمرَ بالشيء نهى عن ضده.
ومن ذلكَ قولهم: لو كانَ الأمرُ والنهيُ يتضادان، لتضادَّ العلم،

(3/154)


بالجهل، ولو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضدّه، لكانَ العلمُ بالشيءِ جهلاً لضدَه، فلما لم يكن العلم بالشيءِ جهلًا لضده، كذلكَ لا يكونُ الأمرُ بالشيءِ نهياً عن ضده.
ومن ذلك قولُهم: لو كان الأمرُ بالشيء نهياً عن ضده، لكان النهي عنه أمراً بضده، ولما لم يكن النهيُ عن الشيء أمراً بضده، كذلك لا يكون الأمرُ به نهياً عن ضده.
ومن ذلك: ما اعتمدَ عليه المتكلمون منهم، فقالوا: إنَ النهيَ إنما يتناولُ الممكنَ، فأمَّا ما يُضطر الِإنسانُ إليه، فلا يؤمرُ به ولا يُنهى عنه، والأعلى إذا قال للأدنى: قُم، أو قال له: تكلمْ. كان مستدعياً منه القيامَ والكلامَ الذي لا يمكن معه القعودُ والصمتُ، فصار عدمُ وقوعِ القعودِ منه والسكوتِ منفيين ضرورةً بوجودِ ضدّهما، فالضدُّ ينفي ضده، فلا يبقى للنهي عن الضدِّ مساغ، مع كونه ينتفي بحصولِ الضدّ.
وتفصيح هذا وإخراجُه إلى النطقِ به يكشفُ عن صحته أن هذا المستدعي لقيامه لو قال له: قم، ولا تكن حالَ قيامِك جالساً، وانطق، ولا تكن حال نطقك ساكتاً، لعُدَ لاغياً عابثاً، وما كانَ ذلك لغواً إلا لما ذكرنا من أن قيامه ينفي قعوده، وكلامَه ينفي صماتَه، فلا يبقى ما يقع عليه النهي، ولا يدخلُ تحتَ إمكانِ المأمورِ بالضدَّ فعلُ الضدِّ فنهيَ عنه.
ومن ذلكَ: ما تعلّق به أهلُ الكلامِ منهم: لو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضدّه، لكانَ له متعلّقان، أحدُهما مأمورٌ به، والآخر منهيٌ

(3/155)


عنه، ولوجبَ أن يتعلق بشيئين على جهةِ العكس، وهذا باطلٌ لأن كلَّ ماله تعلق من الصفاتِ لا يصحُ أن يتعلق إلا بمتعلقٍ واحدٍ على وجهٍ واحدٍ.

فصل
يجمع الأجوبةَ عن شبههم
فأمَّا قولهم: إنَّ صيغةَ الأمرِ والنهي ضدّان فلا يجتمعان. فلا تضاد بينهما إذا تغاير ما ينصرفان إليه، فإنَه يحسُنُ أن يقول: لا تقعدْ. مكانَ قوله: قم، وبدلًا منه، فإذا قال: قم، فهو آمرٌ بالقيام، ويندرج فيه النهيُ عن القعودِ معنىً، والذي يتضادُ مضادةً يستحيلُ اجتماعُهما في حق الواحد أن يقول: قمْ اقعدْ، أو قمُ اضطجعْ في حال. فذاكَ الذي لا يجوزُ اجتماعُه في الخطاب، كما لا يصحُ اجتماعُ المأمورِ به في المحل الواحد، وكل عاقلٍ من أهل اللغةِ يفهم من قوله: قمْ أنَه قد نهاه عن أن يقعدَ ويضطجع، وعن كل ضد يخرج باعتمادِه عن القيام المأمور به، كما يعقل للنهي عن ترك ما أمر به، ولا فرقَ بين تركِ ماَ أمره به، وبينَ فعل ضده، إذ لا يُتصور تركُ القيام إلا بفعلِ ضدٍّ من أضدادهِ، مثل قعودَ أو اضطجاعٍ، وقد أوضحَ اللهَ تعالى ذلكَ بقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] هذا أمر بالسعي، ثمَ قال: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} فيفصح بالنهي عما الاشتغال به، يقطعُ عن السعي، ولو سكتَ عنه لكان في قوةِ اللفظِ ما يُعلمُ به أنه نهيٌ عن كل قاطعٍ عن السعي، وإنما اقتصرَ على النهي عن السعي لأنَه أهمُ أشغالِ الناس وهو الذي ذَكَرَ الله تعالى عن

(3/156)


أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم انفضوا إليه وتركوه قائماً (1)، فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] يعني التجارةَ، لكن اللهو الذي كان يُفعل بين يدي القوافلِ تابعٌ لها ومنبه عليها، وهي المقصودةُ بالتجارةِ، فصرفَ النهي إلى البيع لهذه العلةِ، والمعقولُ من ذلكَ: النهيُ عن كل مشغلٍ عن السعي إلى الجمعةِ. ومما يشهد لاندراج النهي في لفظِ الأمرِ وإن لم يكق مصرَّحاً به وأنه لو صرّح به لما كان من المضادِّ له، قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] نهى عن التأفيف، ونبه على ما زاد عليه، فكأنه قال: لا تؤذِهما بأقلِّ الأذى. منبهاً على أكثره، وإن لم يوجد في اللفظ ذلكَ فقد وُجِدَ معناه، كذلك النهيُ هاهنا مندرج، وليس بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدهِ تضادٌ، بل أكثرُ موافقة، وإنما التضادُ بين الأمرِ المطلقِ والنهيِ المطلقِ، والأمرِ بعينِ شيء، والنهي عن عينِ ذلك الشيء، فبطلَ ما تعلقوا به من الِإحالةِ لاجتماعٍ من جهةِ التضاد بين الصيغتين.
ولأنّه إذا كان تركُ الضدين شرطاً لفعلِ المأمور به، حسُن أن يجعلَ الأمر بالمشروطِ أمراً بالشرطِ من طريقِ المعنى، وإن لم يكن من طريقِ اللفظِ، كمن أمرناه بالصلاةِ التي قد ثبت أنَّ من شرطها تقدمَ
__________
(1) وردَ ذلكَ من حديث جابر بن عبد الله: "بينما نَحنُ نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت من الشام عيرٌ تحملُ طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقيَ مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجَلاً، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ...} [الجمعة: 11].
أخرجه البخاري (936) و (2058) و (4899)، ومسلم (863)، والترمذي (3311).

(3/157)


الطهارةِ، حسُن أن نقول بأنَ الأمرَ بها أمر بالطهارةِ معنى، كذلكَ حسُن أن نقول: إنّ استدعاءَ الفعلِ ها هنا استدعاء لتركِ ضدّه معنىً، إذ كان ذلكَ شرطاً له.
وأمَّا قولهم: لو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضدّه، لكانَ منهياً عن ضدّ النوافل وهو التركُ لها، أو كل فعل يضادها من الخياطةِ والتجارةِ وغيرِ ذلك، ولو كانَ منهياً عنه لكانَ مكروهاً أو منزَهاً عنه. فلا يلزمُ، لأن النهيَ عن الضدّ بحسب الأمر، وإذا قلنا: المندوبُ مأمور، فإن كلَّ ضدٍ لها يستحبُ تركُه إذا لم يكن واجباً لأجلِ قضاءِ دين أو إنفاقٍ على عيال، كما يجبُ تركُ ما يسقطُ بفعلِه الواجب من أضداده، إلا أن يكون الضدّ واجباً فعلُه مقدَّماً وجوبُه على وجوب المأمورِ به، فعلى هذا إذا أمر بصلاةِ التراويح، كان أمرَ استحباب، اَستحببنا له تركَ كلِّ شُغل عنها، ونهيناه على حدِّ الأمر بها عن كل ضدٍّ لها.
وأمَّا قولُهم: لو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضده، لكانَ العلمُ بالشيء جهلًا بضدّه. لا يصحّ، لأنَّنا نقول: وما الجامعُ بين الأمرِ والعلم؟!
على أنَّ الحق أن يقال: يصحُّ أن يعلمَ الشيءَ وضدَّه في حالةٍ واحدةٍ، ولا يأمرُ بالشيء وضدّه، وذلك لأنَّ العلمَ بالشيء لا ينافي العلمَ بضدّه، والأمرُ بالشيء ينافي الأمرَ بضدّه، فلا يكونُ فاعلًا لشيءٍ إلا بتركِ ضدِّه، ويكونُ عالماً بالشيء، وإن لم يكن جاهلاً بضدّه، ولأنهم وافقوا أنَّ كلّ آمرٍ بشيء ناهٍ عن ضدّه، وليسَ يجبُ أن يكونَ كل عالمٍ بشيءٍ جاهلًا بضده.

(3/158)


وأما قولهم: لما لم يكن النهيُ بالشيء أمراً بضدّه، لا يكونُ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضده. فكذلكَ نقول: وإنّه إذا نهاه عن شيءٍ له ضدَّ واحد كالحركةِ، فقد أمرَه بالسكون معنىً، وإن نهاه عما له أضداد، فقد أمره بواحد من تلكَ الأضدادِ، مثل أن ينهاه عن الاضطجاعِ، فيكون آمراً له بالجلوسِ أو القيامِ، وفي الجملة، ما يكون به خارجاً عن الاضطجاعِ أيّ الأضداد كان.
وأمَّا قولهم: يفضي إلى أن يكون للأمر متعلقان، لأن كل ماله تعلُّق من الصفاتِ لا يصحُ أن يتعلّق إلا بمتعلَّقٍ واحد على وجهٍ واحدٍ.
فليسَ بصحيح، لأنَّ صفاتِ القديمِ سبحانه خاصة يصحُّ أن تتعلّق بكل ما يصحُ أن تتعلق به صفاتنا من العلمِ بالعلومِ، تعلق العلم بالمعلوماتِ، وقد بينا ذلكَ في أُصولِ الديانات.
على أنَهم قد ناقضوا هذا بقولهم: إنَ القدرةَ الواحدةَ تكون قدرةً على الشيء ومثله وضده وخلافه. وأوضحنا أنَّ نفسَ الِإرادةِ للشيء كراهيةٌ لضدّه، وأنها تتعلق بشيئين، وتكونُ متعلّقة بأحدِهما على العكس من تعلّقها بالآخر، فبطلَ ما قالوه (1).
__________
(1) ورد هنا في نسخة الأصل ما نصه:
"آخر الأول، يتلوه: الأمرُ بالشيء ليس بنهي عن ضدّه من طريقِ اللفظ.
تممه محمد بن محمود المراتبي، في الثالث من ربيع الثاني سنة ثمانٍ وعشرين وست مئة. وصلى الله على محمدٍ وآله.
يا رب، يا رب، يا رب، يا حي يا قيوم، ياذا الجلال والإكرام، اغفر لي".

(3/159)


فصل (1)
الأمرُ بالشيء ليسَ بِنَهى عن ضدِّه من طريقِ اللفظِ (2) خلافاً للأشعرية (3).
وذكرَ أبو بكر الباقِلاني (4): أنَ ذلكَ في الأمرِ من كلام اللهِ تعالى خاصةً بما قرروه من أصلهم، وأنَ كلام اللهِ شيءٌ واحد، ليسَ بأشياءَ متغايرة، وليس ذلكَ في كلامِ الآدميين؛ لأنه متغايرٌ في النفسِ، كما يتغايرُ عندَ من أثبته صيغاً في النطق.

فصل
في الدلالةِ على ذلك
إن الأمر استدعاءُ الفعل، والنهيَ استدعاءُ الترك، وكما لا يجتمعان في الصيغةِ التي هي حكايةٌ عند المخالف، لا يكونُ المحكيُّ أمراً ناهياً، ولا في محل إلي محل، كالكراهةِ والإرادة، ولأنَ العرب -وهي الأصل في هذا- وضعت الأمرَ استدعاءً للفعل وحثاً عليه، والنهيَ للكف عنه والإبعادِ منه، وإذا فَصَلَتْ بين الأمرينِ لم يُلتفت إلى مخالفِها بما يضعه من مذهب، وصار كالخبرِ بالإثبات مع الإخبارِ بالنفي لمّاَ وضعت له صيغتان تدلُّ على معنيين مختلفين، لم يكن قولها: زيدٌ في الدار, ليس هو قولها: ليس زيدٌ في السوق، لكن نعلمُ ذلك من طريق الاستدلالِ، وأنَ الجسم لا يكونُ في مكانين، فأما من طريق اللفظ، فلا.
__________
(1) من هنا بداية الجزءالثاني من الأصل الخطي.
(2) مقصودُه أن الأمرَ بالشيءِ نهيٌ عن ضده من طريق المعنى لا اللفظ، وهذا مذهبُ الحنابلة كما ذكر ابن تيمية الجذُ في" المسؤَدة" ص 49، وانظر تفصيل المسألة في "شرح مختصر الروضة" 2/ 380، و"التمهيد" 1/ 329، و"العدة"2/ 368.
(3) انظر "البرهان" 1/ 250، و"العدة" 2/ 370.
(4) ذكر قول الباقلاني هذا إمام الحرمين في "البرهان" 1/ 250.

(3/161)


فصل
في شُبههم
فمنها: أنه لا فرقَ بين قولِ القائل: دَنَت الشمسُ من المغربِ، وبين قوله: [21/ 2] بَعُدت من المشرقِ. فكذلك قوله لمن كان من عبيدهِ مقارِباً لزيدٍ: اقترب من عمرو.
(1 ................................................................................ 1)
له دراهم -لفظان: ثمانية وعشرة إلا درهمين- أن هذا غير هذا، كذلك لا يكونُ النطقُ بالأمر بالشيء ليس هو النهيَ عن ضدّه، ولا يقالُ: هو غيره.

فصل
في أجوبة شُبههم
أمَّا دعواه أنهُ لا فرقَ في اللفظِ الأوّل بين البعدِ والقربِ، فلعمري أنه لا فرقَ في المعنى، فأمَّا من طريقِ اللفظ، فبلى، ونحنُ لا نمنعُ أنهما في المعنى سواء، ألا ترى أنَّ زيداً (2) الفقيه الشيخَ العربي، إذا نوديَ بيا زيدُ، أو يا رجُل، أو بيا فَقيهُ، أو بيا شَيخُ، أو بيا عَربي، كان النداءُ في المعنى واحداً وفي الألفاظِ مختلفاً؟ وكلامُنا في النهي من طريقِ اللفظ.
وأمَّا الثمانية، فداخلة في العشرة دخولَ البعضِ في الجملةِ، وليس دخولُ النهي في الأمرِ دخولَ البعض، لأنه ليس في الأمرِ نهي وتحتَ العشرة ثمانية، فإذا أخرجَتْ بالاستثناءِ الدرهمان، بقي ثمانيةٌ لا محالة.
__________
(1 - 1) هنا طمسٌ في الأصل بمقدار سطرين.
(2) في الأصل "زيد"، والصواب ما أثبتناه.

(3/162)


فصل
الفرضُ والواجبُ سواءٌ في أصحِّ الرواياتِ عن أحمد رضي الله عنه (1)، وبها قال أصحابُ الشافعي (2)، وعنه روايةٌ أخرى: أنَّ الفرضَ ما ثبت بدليل مقطوعٍ عليه، والواجبَ غيرُه، وهو ما ثبتَ بخبر واحد، أو قياسٍ.
فالفرضُ على هذه الرواية آكدُ من الواجبِ، وبها قال أبو حنيفة (3).
وعنه (4): أن الفرضَ ما ثبت بقرآنٍ، ولايسمَّى فرضاً ماثبت بسنةِ النبي- صلى الله عليه وسلم -.

فصل
في جمع الأدلة على الرواية الأوَّلة.
فمنها: أنَّ التزايدَ (5 .............................................. 5)
عُلِمَ لنا بمقاديرِ العقوباتِ في واجبٍ دون واجبٍ، وإن وُجِدَ ذلك في شيء منها، كالصلإةِ يقتلُ بتركها، ويُكَفرُ بتركها عند قوم، والصَومِ والزكاةِ والحجّ، فلا يقال: إنَ
__________
(1) انظر تفصيل المسألة في "المسوَّدة" (50 - 51)، و"العدة" 2/ 376، و"شرح الكوكب المنير"
1/ 351، و"تيسير التحرير" 2/ 135.
(2) انظو "المستصفى"1/ 66
(3) "تيسير التحرير" 2/ 135، و"أصول السرخسي" (1/ 110 - 113).
(4) أي رواية أُخرى عن أحمدَ، فحصَلَ بذلكَ أنَه قد رُويَ عن الإمام أحمد ثلاثُ روايات:
الأولى: أنه لا فرقَ بينَ الواجبِ والفرضِ وهو رأيُ جمهورِ الأُصوليين.
الثانية: أن الفرضَ ما ثبتَ بدليلِ قطعي، والواجبَ ما ثبتَ بدليلٍ ظني. وهو في هذا يتفق مع الحنفية.
الثالثةُ: أنَ الفرضَ ما ثبتَ بقرآن. وما لم يثبت بالقرآن لا يُسمى فرضاَ حتى لو كان الدليل عليه قطعياً.
وأصحُّ الرواياتِ عن أحمدَ الروايةُ الأولى، كما سيأتي.
(5 - 5) طمسٌ في الأصل.

(3/163)


الصلاةَ من بينِ الفرائضِ تفضل برتبةٍ تَخْرُجُ بها عن الفرض إلى ما هو أعلى، ولا يخرجُ ما دونها عن الفرضِ، بل تساويها سائرُ العبادات في الفريضة.
ومن ذلك: أنا أجمعنا على أنَ كل فرضٍ واجبٌ، فمن ادعى أن ليس كلُّ واجب فرضاً (1)، يحتاج إلي دليل.
ومن ذلك: أنَ الله سبحانه أطلق اسمَ الفرض على الواجب، فقال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] وعنى به: أوجَبَ فيهن.
ومن ذلك: ان قوَّة الطريق، وكَوْنَ الدليلِ مقطوعاً لا يؤثر إلا علماً بالمنقول، فأمَّا أن يؤثّر في الوجوبِ فلا، ألا ترى أنَ النوافلَ التي تواتَر الخبرُ بها لا تَصير واجبةً بقوة الطريقِ، بل يكونُ العلم بها قَطعياً، وهي سنة أو نافلة -وغايةُ ما يُستدلّ به على الوجوبِ؛ القرائنُ والدلائلُ على أنه مَحتوم على المكلّف مَأثومٌ معاقب على تركه، ولا يبقى بعْد ذلك إلا مراتبُ الواجباتِ في استحقاقِ الذّم والعقوبةِ على الترك، كما في المنهياتِ، تكون متساويةً في الحظرِ والتحريمِ، ولا يبقى بعد ذلك إلا التفاوتُ في عقوبات (2 ............................................................ 2) منها، مع عدمِ المداومةِ عليها ولم بُعتبر في كونِها كبيرةً أن يكون طريقُ تحريمها قطعياً، بل تَضاعُفُ عقابِها في الدنيا بالجزاء، والآخرةِ بالوعيد، أوهما. فكان يجبُ أن تَخُصَّ الفَريضةَ -إن جعلتهاَ أكبَر من الواجبِ- بزيادةِ ثوابٍ على فعلها، وكثرةِ عقابٍ على تركها دون تأكُّد طريقها.
ومن ذلكَ: أنَ مُدّعي اسم الفرض لمِا ثبتَ بدليلٍ مقطوعٍ، كمدعي اسم النفل لما ثبتَ بدليلٍ مظنونٍ، فيخلع على كل أمرٍ وَرَدَ من جهةِ الشارعِ بخبرِ واحد اسمَ نفلٍ، وهذا صحيحٌ؛ لأنَّ الطريقَ المقطوعَ إذا أورث قوةً في الإيجاب ومَزِيَّةً هي الفريضة،
__________
(1) في الأصل "فرض" والصواب ما أثبتناه.
(2 - 2) طمس في الأصل.

(3/164)


وصَلُح للرفعِ والتعظيمِ، وجَبَ أن يُعطى نقيضُه التدوينَ والتقليلَ في الرتبةِ، فيكونُ كُلُّ أمرٍ ثبتَ بطريقٍ مظنونٍ ودليلٍ غيرِ مقطوعٍ نفلاً محطوطاً عن رتبةِ الإيجابِ، فلما لم يُدوّن الدليلُ المظنونُ رتبةَ المأمورِ فيجعله نَفلاً، لم يَرفع قوة الطريقِ للمأمورِ فيجعله فرضاً، وما جُعِل الدليلُ المقطوع للأمر فرضاً إلا تَشَهِّياً ووضعاً بغير دلالة، و (1 لا إحالة فيه رأساً 1) ودعوى بلا برهان لا ثباتَ لها.
ومن ذلك: أنَ لفظةَ الوجوبِ آكدُ من لفظةِ الفرض؛ لأنها تعطي السقوطَ والوقوعَ، يقال: وَجبت الشمسُ، ووجبت جنوبُ الضحايا والهدايا، ووجبَ الحائطُ.
إذا سَقَط، فإذا قيل: وجبت العبادةُ. فالمرادُ به: وقَع الخطابُ بها على المخاطَب، وسَقط كسقوطِ الجدارِ وثباته.
(2 ............................................................................... 2)
و {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38]، يعني: أحل له.
والفرضُ بمعنى الحَزِّ والأثر، من فُرضةِ النهر (3)، وفُرضةُ القَوسِ: مَحَزُ الوَتر، وأثرُ المشي الذي هو المَحَاج من المشَارعِ (4) المطروقةِ. والفرضُ بمعنى التقديرِ، فَرَضَ القاضي [النفقة: أي قدرها] (5).
وإذا كانت مشتركة، والواجبُّ يُتَّخذُ للإلزامِ والانحتامِ، كان الإيجابُ أحقَ بالتأكيد، فإذا لم يتأكد على الفرضِ بالإجماعِ منا، بقي التساوي، وانعدمت بذلكَ
__________
(1 - 1) هكذا وردت العبارة في الأصل.
(2 - 2) طمس في الأصل، والذي يُفهم من سياقِ الكلامِ أنَ العبارة المطموسة هي تكملةٌ للمقارنةِ بين معنى الفرضِ والواجبِ.
(3) هي ثُلْمته التي منها يُستقى."اللسان": (فرض).
(4) جمع مَشْرَعة، وهي المواضع التي يُنحَدرُ إلى الماء منها. "اللسان": (شرع).
(5) ما بين معقوفتين زيادة يستقيم بها المعنى، وقد ذكر المصنف تعريف الفرض والواجب في الصفحة 29 من الجز الأول.

(3/165)


مزية الفرضِ وتأكدُه على الواجب.
ومن ذلكَ: أن قالوا: إن اختلافَ طُرقِ العبادةِ لا يُعطي تَميزاً واختلافاً، ألا ترى أنَ النوافلَ التي تفعلُ ابتداءً مع المسنوناتِ الراتبةِ التي وردت في السننِ والمسانيد يجمعهما اسمُ النَفل، ولا يمتاز بعضها (1) على بعضٍ بقوَّةِ الطرق واشتهارها، كذلك الواجباتُ، إذا امتازَ منها شيء بقوّة الطريقِ لا يمتاز بالفوة واسمِ الفرض.

فصل
يجمعُ أسئلتَهم على حججِنا
فمنها: أنَ الدعوى لتساويهما لا تُسَلَّم، فإن الواضعَ للغةِ جعلَ الوجوبَ اسماً للسقوطِ، والفرضَ اسما للتأثير، ومن ذلكَ سُمَّيت فرضةُ النهر والقوس: فرضةً لمكانِ الأثر، والتأثيرُ آكد من الوجوب، فيجبُ أن يُعطى الاسم حقَه من التأكيد.
ومن ذلك: قولُهم: إنَّ تَساوي الفرضِ والوجوبِ في العقابِ على التركِ لا يمنع تمييز [الطريق التي ثبت بها الفرض عن الطريق التي ثبت بها الواجب، فثبوت الفَرضِ بطريقٍ مقطوعٍ به، والمكذبُ للطريق] (2) القطعيِ يَكفُر، والمكذبُ [للطريق الظني] (2) يفسق. فهذه ميزة حكمية، تشبه الميزةَ التي تعلقتم بها من مضاعفةِ العقوبةِ في الدنيا، والوعيدِ في الأُخرى.
ومن ذلكَ: أن إلزامكم لنا المنهيّات، وأنها ما تأكَّدت بحكمِ تَأكُد طَريقها، لا نُسلِّمه، فإنَّ أحمد قال في المتُعة: لا أقولُ إنها حرام (3). وقال في الجمعِ بين المملوكتين:
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "بعض".
(2) هنا طمسٌ في الأصل، وما بين المعقوفتين من اجتهادنا وفهمنا للسياق.
(3) هذه روايةُ أى بكرِ المروذى عن أحمد، لأنَ ابن منصور سالَ أحمدَ عنها فقال: يجتنبها أحب إليَّ. قال- أي أبوبكر المروذي-: فَظاهرُ هذا الكراهةُ، دون التحريم. وهذا فهم له غير صحيح، وغيرُ أبي بكرٍ من الحنابلةِ يمنعُ هذا، ويحكمُ ببطلانِ نكاحِ المتعةِ، وهو القول الصحيح المقرَّرُ عند عامةِ الصحابةِ والفقهاءِ، انظر "المغني" 10/ 46.

(3/166)


لا أقولُ حرام، لكن منهيٌّ عنه. أو قال: يُنهى عنه (1). وقال أبو بكر (2) -من أصحابنا-: إنَّما وقف لوجودِ الخلافِ (3)، وهذا يُعطي انقسامَ المحظورِ عنده إلى حرامٍ، ومَنْهيٍّ ليس بحرامٍ، كانقسامِ الوإجبِ إلى فرضٍ وغيرِ فرض (4).

فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن هذه الأسئلةِ
أمَّا التأثيرُ في الفرضِ، فما ثبت أنه يرجعُ إلى المضافِ إلى إيجابِ الشرعِ، وإنما ثبت (5 في فُرضةِ5) القوس وفُرضةِ النهر، وعساه ترجعُ العباداتُ من حيث كونُه منزلاً، أو من حيث كونُه مقدراً، ومن الذي خَصَّ من بين المعاني المشتركة التي ذكرناها التأثيرَ منها بفرضِ العياداتِ دون التنزيل والتقديرِ ليكون الوجوبُ آكدَ منها (6)؟
__________
(1) هذه روايةُ ابن منصور عن أحمدَ، أنَّه سأله عن الجمع بين الأختين المملوكتينِ. أحرام هو؟ قال: لا أقولُ حرامٌ، ولكن نَنهى عنه، والمعتمد عند الحنابلة وفق ما نصَّ عليه أحمد أنَّه لا يجوز الجمعُ بين الأختين المملوكتين في الَوطء، وهو مذهبُ أبي حنيفة ومالك والشافعي. انظر "المغني" 9/ 538.
(2) تقدمت ترجمته في الجزء الثاني.
(3) ولقد تعقَب ابن قدامة أبابكر المروذي في هذه الرواية، فقال: "غير أبي بكرٍ يمنعُ هذا ويقولُ في المسألة روايةً واحدةً في تحريمها، وهذا قولُ عامَّةِ الصحابةِ والفقهاء" "المغني" 10/ 46.
(4) فسر الإمام ابنُ القيم هذهِ الروايات وأمثالها، تما لم يصرح فيه بالتحريم، على أنَ المتقدمين كانوا يتورعون عن إطلاق لفظِ التحريمِ وأطلقوا لفظَ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة المتقدمون الكراهة. وهذا غلط من المتأخرين؛ لأنَّ المتقدمين لم يقصدوا المكروه بمعناه الاصطلاحي الحادث، وإنما قصدوا ما استُعملَ فيه في كلامِ اللهِ ورسوله.
انظر "إعلام الموقعين"1/ 39 - 43.
(5 - 5) في الأصل مكرّر
(6) تقصِدُ أنَّ لفظَ الفرض من الألفاظِ المشتركة، التي تتنازعها عدةُ معانٍ، ومن معانيها؛ التنزيلُ والتقديرُ إضافة إلى التأثير وحملُ لفظِ الفرضِ على معنى التأثير دون غيرِه من المعاني الأُخرى المحتَملةِ تحكمٌ من غيرِ دليل.

(3/167)


وأما قولُهم: إنَ تساوي الوجوبِ والفرضِ في حصولِ العقابِ لا يوجبُ تساويهما في الاسمِ، كالندبِ والمستحبِ مع النفلِ، فإنهما استويا في نفي العقابِ بالتركِ. والندبُ والسُنة والمباحُ لا يتساوون، بل للسنة ميزة. (1 ............................................................................. 1) وأما قولهم: إن ثبوت الفرض كونه قطعياً يوجب الميّزة والتأكيدَ؛ لأنه يكفر (2) مُكذبُهُ، فذاكَ ليس بعائد بتأكيد، فإنَ المباحاتِ طُرقها مقطوع بها، ولو كذبَ بطريقها كَفر ولا تَدُلّ على مساواةِ المباحِ للإيجابِ والفرض، حيث تساوت طرقه في حكمِ التكذيبِ بها.
وأما دعواهم القول بموجب تأكيدِ المحظوراتِ بطرقها، وكلام أحمد في المتعة، وقوله بالنهي عنها دونَ التحريم لها، فليس مما نحنُ فيه بشيء؛ لأنه لم يتعلق في ذلكَ بالطريق ولا ميزها بحظرٍ دونَ حظر بل نَفى الحظرَ والتحريمَ، وسوَّى في النهي وليس بَعدَ نفيه للتحريم إلا الكراهةُ والتنزيهُ، فوِزانُه من مسألتنا أن نقول هنا: ليس بواجب، وإنما هو مأمورٌ به، فنشرِّكُ بينَ الفرضِ وغيرِه في الأمر وننفي الوجوبَ الذي هو وِزانُ التحريمِ في المنهيَّات، فبطل القولُ بموجَب ما ذكرنا.

فصل
في ذِكرِ ما تعلَّق به مَنْ نَصَر الروايةَ الأخرى
فمنها: أن كل متدبِّرٍ للمأموراتِ من العباداتِ البدنية والماليّة يجدُ أنَ بعضها آكدُ وجوباً، وبعضَها فَريضة، وبعضَها يدنو عن رُتبةِ الفرضِ. من ذلك أن الإيمانَ
__________
(1 - 1) طمسٌ في الأصل، ويُفهم من سياقِ الكلامِ أنَ السنَة والندبَ وإن كانا قد ساويا المباح في نَفْي العقاب، إلأ أنَ للسنة ميزة على المباحِ، في كونه يثابُ فاعلُ السنَةِ. بخلاف المباح الذي تساوى فيه طرفا الترك والفعل.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "يكون".

(3/168)


بالله وصفاتهِ وكُتبهِ ورُسُلِه أعلى وآكدُ وأوجبُ [(1 من جميع الفرائض والعبادات؛ لأن انتفاء الإيمان يفسد تلك العبادات 1)]، ويُحبطها عن أن تُقابل بالثواب، [(1 ولم يقل أحد 1)]، بخلاف ذلك بالإجماعِ، إلا ما شذّ من المذاهبِ، وكذلكَ ما وجبَ بالنذرِ مع ما وجبَ بأصلِ الشرعِ (2 لا تكون 2) رتبةُ الصدقةِ المنذورةِ رتبةَ الزكاةِ المفروضةِ، ولا رتبةُ الوترِ عند من رأى وجوبَها (3) رتبةَ صلاة من الصلواتِ الخمسِ، ولا رتبةُ الأضحية عند من رأى وجوبَها (4) رتبةَ الشاةِ الواجبةِ في أربعينَ سائمة، أو خمس من الإبل السائمةِ، بل يستويانِ في الاسمِ الأعم وهو الوجوبُ، وينفردُ الواجبُ بأصلِ الشرعِ وإجماعِ الأمةِ، أو بتواترِ النقلِ باسم يخصُّه وهو الفرضُ، ومن ذلك ما يقدَرُ في اللغةِ من أنَّ الواجبَ ما سقط ولم يؤثر والفرضَ ما له وقع وتأثيرٌ من فُرضةِ النهر وفُرضةِ القوسِ، وهي المَحَاج المطروقةُ ومحَزُّ الوَتَر وللأثرِ زيادةٌ على الوقوعِ والسقوطِ بغيرِ أثر، فوجبَ أن تُعطى اللفظةُ حقَها إذا اضيفت إلى العباداتِ والمأموراتِ، وأثرُها تأكُّدُ وجوبِها على المكلف، وتأثير في نفسِه واعتقادِه، فهي أمسُّ وأوقع من لفظةِ الوجوبِ، ولهذا يقال: هذا دَينٌ واجب، ولا يقال: فرضٌ. وعلي صلاةٌ واجبةٌ، إذا نَذَر, ولا تقولُ: فريضة. وتقولُ الناذر: أوجبتُ على نفسي، ولا يقولُ: فرضتُّ على
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، وما بين معقوفتين قدرناه بحسب المعنى والسياق.
(2 - 2) مكرر في الأصلِ.
(3) يعني أباحنيفهَ -رحمه الله- وحُكيَ هذا عن ابن مسعود وحذيفة والنخعي، وهو ما ذَهب إليه أبو بكرِ المروذي من الحنابلة.
وقول أكثر العلماء: إنها سنة مؤكدة. انظر "المغنى" 2/ 591، "البناية شرح الهداية"2/ 488 "المبدع في شرح المقنع" 2/ 3. "المجموع" 4/ 12.
(4) ممن رأى وجوبَ الأضحية أبوحنيفة ومالك والثوري والأوزاعي والليثُ، لحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم "من كان له سَعة ولم يُضحِّ، فلا يقربنَّ مُصلانا" "سنن ابن ماجه" 2/ 1044.
وأكثر أهل العلم يرونَ الأضحيةَ سنَةَ مؤكدةَ، وبهذا قال الشافعي وأحمد وأبو ثورِ وعطاء وإسحاق، انظر "المغني" 13/ 360، "البناية شرح الهداية" 9/ 107، "المجموع" 8/ 383.

(3/169)


نفسي، ما ذلكَ إلا لتخصيصِ الفرضِ با لميزةِ، والتأكيدِ على كل واجبِ .......... (1)
والجوابُ عنه من وجهين:
أحدُهما (2): أنَ الواجبَ غاية لا تقبلُ الزيادةَ، وهو المأمورُ به على الحتمِ والحزمِ الذي لا يُعفى عن تاركِه، ولا يُتقَضَى (3) عن عهدةِ الأمرِ به إلا بفعلِه، ومتى تركَه المأمورُ به استحقَ العقاب، وهذا يعمُ الفرضَ والواجبَ، فدل على أنهما اسمان لمسمَّى واحد، كصيغة الأمرِ بالإيمانِ وبفروعِه من العباداتِ يَشملهما الأمر ولا يقالُ: إنَ الاستدعاءَ والطلبَ لأحدِهما فوقَ الاستدعاءِ للآخر ثم لو سُلم تأكُد أحدِهما على الآخر، لم يكن تأكيدُ الفرض على الواجبِ بأولى من تأكيدِ الواجبِ على الفَرضِ، وقد بينا أنَ اسمَ الواجب لا يُشاركه غيرُه فيه، والفرضَ مشترك.
فإن قيل: الواجبُ يقع على المندوبِ، بدليلِ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غُسلُ الجمعةِ واجبٌ على كُل مُحتلمِ" (4).
قيل: لانُسلم، بل غسلُ الجمعةِ واجبٌ حقيقةَ، ولو سلَمنا فقد يُصرفُ اسمُ الحقائقِ إلى الاستعاراتِ بدلالةِ، ولا يدل على ضعفِ الحقيقةِ فيما وُضعت له لأجْلِ الاستعارةِ، ولان الفرضَ قد يقعُ على ما هو واجب على الكفاية، إذا قامَ به قوم سَقطَ عن الكُل، ويقعُ على التقديرِ وعلى النزولِ، وعلى الوجوبِ، ولفظُ الوجوبِ خاص للأمرِ والمأمورِ المحتومِ، فلا ترجيحَ، فلا يصحُ لك تعيينُ الفرضِ ......... (5). فلا يصح لك الاحتجاج به إلا بعدَ أن تبين أن الفرض
__________
(1) طمسٌ في الأصل.
(2) لم يذكر المؤلف غير هذا الوجه.
(3) أي: يُخرج منها. "اللسان": (فصى).
(4) تقدم تخريجه 2/ 508.
(5) طمس في الأصل، والذي يفهم من سياقِ الكلامِ أنه لا يصح جعل الفرض على معنى التأثير دون غيرِه من المعاني الأخرى المحتملة.

(3/170)


المقصود في العبادات هو المأخوذُ من فُرضةِ القوسِ والنهرِ فأمَّا والفَرضُ قد يقعُ على النزولِ والتقديرِ كوقوعهِ على التأثير فلا وجهَ للتأكيدِ به على اسمِ الواجبِ المتخصص باللزوم، وإيجابِ العقابِ على تركهِ، وهو متخصص بهذا المعنى، غيرُ متردد بينه وبينَ غيره، على أنَ التعويَل على التأثير, لو اتّخد به الفرضُ ولم يشركه فيه تنزيل ولا تقدير لا يصحُّ، ويخرجُ عنه الواجبُ، فإن كُل واجبٍ مؤثر وهو أنه يُجبَرُ على فعلِه، ويعاقبُ على تركهِ، ويشغلُ ذمته في ابتداءِ الخطابِ به، ويلزمُ ذمته القضاءُ له عند فواتِه، ويجبُ اعتقادُه، ويفسُق بتركِه، ويشترطُ في عدالته التزامُه عندَ الخطابِ به، وفعلُه عند دخولِ وقته، فهل في التأثير ما يوفي على هذا؟ فتأثيرُ فُرضةِ القوسِ والنهرِ حَزَة في الجسمِ، وتأثيرُه في التكليفِ حَسْب ما يليقُ به من الآثارِ التي هي الأحكام.
وأمَّا دعواهم الفرقَ بين النذرِ وإلزامِ الشرعِ، فدعوى فارغة، وإلاَّ فالقادرُ يحسنُ أن يقولَ: فرضَ اللهُ فيَ صوم شهرِ رمضان، وفرضتُ النذرَ على نفسي صومَ ذي الحجةِ أو رجبٍ. فلا أحَد يُنكرُ ذلك عليه شرعاً ولا لغةً، والله أعلم.

فصل
يتعلَّقُ على الأول
ويجوزُ أن يقالَ: إنَ بعضَ الواجباتِ أوجبُ من بعض، وإنَ لنا فعلاً أحسن من فعلٍ، وطاعةً أحسن من طاعةٍ .......... (1). إحدى العبادتين أن تركها أشد، وهذا مما لا يمتنعِ منه أحد ممن لم ينسب الحُسْنَ والقبحَ إلا إلى الشرعِ، وسمع آيةً من كتابِ الله، أو سنة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تدُلّ على أنَ الصلاةَ أوفى ثواباً من فعلِ الزكاةِ، وأنها أوفى عقاباً في التركِ من تاركِ
__________
(1) طمس فى الأصل.

(3/171)


الصيام، على أنَ الصلاةَ أوجبُ، بمعنى آكد إيجاباً، وكذلك من سمعَ فضلَ صلاةِ الجماعةِ من الشرائطِ والأركانِ، والتأني في ركوعِها وسجودِها، والترتيل لقراءتها، وسمعَ ذمَ المسيءِ لصلاتِه، والناقرِ لسجودِه، والمفرقعِ لأصابعهِ، والمسدلِ لثوبهِ، حَسُن منه أن يقول: إنَ صلاة المتأني أحسنُ. ومن علم فضائلَ الوترِ والحث عليه، وحث الشرعِ على ركعتي الفجر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلوهما ولو دَهَمتكم الخَيلُ" (1)، علم أنهما أشد ندباً من صلاةِ الضحى وأحسنُ، فهذا مما يشهد له قولُه صلى الله عليه وسلم لعائشةَ -رضي الله عنها-: "ثَوابُكِ على قَدرِ نَصَبكِ" (2)، وقال لماَ سُئِل عن أفضلِ الصلاةِ، قال: "طول القُنوتِ" (3)، وقوله: "تَفْضلُ صلاةُ الجميعِ على صَلاةِ الفَذِّ بخَمسٍ وعشرينَ درجةً" (4). والله أعلم.
__________
(1) رواه أحمد 2/ 405، وأبوداود (1258) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل".
(2) تقدَّم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: 254.
(3) أخرجه أحمد 3/ 302، 314، ومسلم (756)، والترمذي (387)، والنسائي 5/ 58، وابن ماجه (1421).
(4) رواه مالك 1/ 129، وأحمد 2/ 252 و328 و 454 و464 و 475 و 86 و 525، والبخاري (477) و (647) و (648) و (2119)، ومسلم (649)، وأبوداود (559)، وابن ماجه (786) و (787)، (788) والترمذي (216)، والنسائي 2/ 103، وابن حبان (2051) و (2553) من حديث أبي هريرة، وهو عند بعضهم مطولا وروى مالك 1/ 129، وأحمد 2/ 65 و112، والبخاري (645)، و (649)، ومسلم (655)، والترمذي (215)، والنسائي 2/ 103 وابن ماجه (789)، والدارمي 1/ 292 - 293، من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل في جماعةِ تفضلُ على صلاةِ الرجلِ وحده بسعٍ وعشرين درجةَ".

(3/172)


فصل
الأمرُ بالعبادةِ لا يتناولُ فعلَها على الوجهِ المكروهِ شرعاً
وكذلك غيرُ العبادة من الشروطِ التي لا يستباحُ العقدُ إلا بعدَ وجودِها، وذلكَ مثلُ الطوافِ بالبيتِ، لا يدخُل تحت قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
(1 ................................................................ 1)
هذا مذهبُ صاحبنا أحمد، وهو قول أصحاب الشافعي، وإليه ذهب أبو بكر الأشعري (2) واختلفَ أصحابُ أبي حنيفة (3)، فذهب أبو بكرِ الرازي (4) إلى أنه يتناولُ المكروهَ كما يتناولُ غيرَه، واختارَ أبو عبدِ اللهِ الجُرجانيُّ (5) ما ذهب إليه صاحبُنا.

فصل
يجمعُ ما استدلَّ به أصحابُنا ومن وافقهم
فمنها: أنَ الأمرَ استدعاءٌ وطلبٌ، وهو ضربان: واجبٌ، ومندوب مستحبٌ، والكراهةُ: إباءٌ للمكروه، والندبُ: استحبابٌ له، واجتماعُ الاستحبابِ والإباءِ
__________
(1 - 1) طمسٌ في الأصل، ويفهمُ من سياق النص انه لا يدخل في أمرِه تعالى بالطوافِ بالبيت طوافُ المحدِثِ والعُريانِ وغيرِها من الصور المنهيِّ عنها.
(2) هو الباقلاني، تقدمت ترجمته في الصفحة (122) من الجزء الأول.
(3) انظر "أصول السرخسي" 1/ 64.
(4) هو أبوبكر أحمد بن علي الرازي الحنفي، تقدمت ترجمته في الصفحة: 69.
(5) هو محمد بن يحى بن مهدي، أبوعبد الله الفقيه الجُرجاني، من أعلام الحنفية، سكن بغداد وتفقه عليه أبوالحسين القدوري، عدَّه صاحب "الهداية" من أصحاب التخريج، توفي ببغداد سنة (397 هـ)، وقيل غير ذلك. "تاريخ بغداد" 3/ 433، و"الفوائد البهية": 202.

(3/173)


كاجتماع المحبّةِ للشيء والكراهةِ له، ولا يدخلُ المكروهُ تحت الإيجاب، ولا الاستحبابِ، نُحرّره قياساً: أنَّ المكروهَ مَنهي عنه، فلا يدخل تحت الأمرِ كالمحظور، وفي تضادّ الأمرِ والنهيِ ما في تَضاد الإيجابِ والحظرِ والإباحةِ، فكما لا يَجتمعُ الحظرُ والإباحةُ ولا الإيجابُ والحظرُ، كذلكَ لا يجتمع الأمرُ والنهيُ.
ومن ذلكَ: أن المكروهَ غيرُ المأمور به، فإذا فعلَ لم يكن داخلاً تحت الأمرِ كما لو أمرَه بصلاة، فأتى بصومٍ، أو بصوم فأتى بصدقةٍ، فإنه لما كان قد أتى بغير المأمور به لم يُجْزِه، كذلكَ المكروهُ، ولا فرق بينهما.
ومن ذلك: أنه لمّا أمر بالطوافِ، وقال: "ألا لا يَطوفنَّ بالبيتِ عُريان" (1)، وقال: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ" (2) (3 ................................................... 3) فلا يدخل تحت الأمر إذا خلا من شرطيه، بل يكون إطلاقُ الأمرِ منصرِفاً إليه بشرطيه الطهارةِ والستارةِ.
ومن ذلكَ: أن الأمرَ بالطوافِ مع النهي عن التعّري، ومع الأمرِ برفع الحدثِ لا
__________
(1) رواه أحمد 2/ 299، والبخاري (369) و (1622) و (3177) و (س 436) و (4655) و (4656) و (4657)، ومسلم (1347)، وأبوداود (1946)، والنسائي 5/ 234. من حديث أبي هريرة قال: بعثني أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ حِجَّةِ الوداع فى رهط يؤذِّن في الناس، ألا لا يحجَّنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
(2) دواه أحمد 3/ 414، و 4/ 64، و5/ 377، والنسائي 5/ 222 عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الطوافُ صلاة فإذا طفتم فاقلوا الكلام".
وأخرجه الدارمي 2/ 44، والحاكم في" المستدرك" 1/ 459، و 2/ 260 و267 من حديث ابن عباس بلفظ: "الطواف بالبيت صلاة، إلأ أنَ الله أحل فيه المنطِق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير".
(3 - 3) طمسٌ في الأصل، والذي يفهم من سياق العبارة، أن الأمر بالطوافِ بالبيتِ مقيد بتحققِ شروطِه؛ والتي منها الطهارةُ والسِّتارة.

(3/174)


يخلو أن يكونَ؛ لأن فعلَه على وجْه الكراهة مفسدةٌ، وفعلَه بالطهارةِ والستارةِ مصلحةٌ، أو لأنَ المشيئةَ أن لا يفعَله إلا كذلك، وأيُّهما كان لم يعْلم دخولُه تحتَ الأمرِ مع الإخلالِ بهما أو بأحدِهما.

فصل
في جمعِ اعتراضاتِهم على أدلّتِنا وهي شبهُهُم
فمنها: ان الحدثَ مكروه، والطوافَ مأمورٌ به، فلا وجهَ لخروجِ الطوافِ عن الأمرِ لخروجِ المكروهِ عنه. والمكروه (1 معنى غير 1) الطواف، فصارَ كامتثالِ الأمر مع ارتكابِ نهي لا يخرجُ فعلُ المكلَّفِ المأمورِ به عن دخوله تحتَ الأمر؛ لأجلِ ارتكابه للنهي.
ومن ذلك: أنَ الأمرَ بالطوافِ لا يتناولُ إلا الكونَ حولَ البيتِ دوراتٍ معلومةً وأشواطاً معدودةً، وذلكَ قد وُجد في لفظ الأمرِ، فأمَّا الطهارةُ، فلم ينتظمها اللفظُ، فلا يخرجُ من الأمرِ ما تناوله لأجلِ عدمِ ما لم يتناوله.

فصل
في الأجوبةِ عما ذكروه من اعتراضاتِهم وتعلقوا به
فمنها أنَا لا نُسلِّم هذا التوزيعَ، وأنَّ الطوافَ مأمورٌ به، والتعرّي منهي عنه
(2 ................................................................ 2)
على صفة، مشروط بطهارةٍ وستارة (2 ................. 2) والمثابة لا تُوزَع فإن السيِّدَ إذا قال لعبده: ادخل على الأميرِ برسالتي مُتجمِّلاً مُكتسياً، والْقَ فلاناً راكباً. فدخل على الأمير عُرياناً أو متشعّثاً، ولقيص فلاناً راجلاً، لا يقالُ: إنه أطاعه، ولا امتثلَ أمرَه
__________
(1 - 1) في الأصل: "معنى عن"، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2 - 2) طمسٌ في الأصل.

(3/175)


وأتى بما أمَره، لا سيَّما وأوامرُ الله منوطةٌ بالمصالحِ، ولعل في الطواف محُدِثاً من الفسادِ ما يُربي (1) على تركِ الطوافِ رأساً.
ولأنه إذا أمره بالطّواف، وأجمعَ المسلمون على اشتراطِ الطهارةِ، والكراهة (2) ما تناولت الطواف إذ لو كان راجعاً إلى غيرِ شرطٍ في الطَّوافِ ولا صفة له (3)، مثل قوله: لا تغصِب مالَ مسلم، وطُفْ بالبيت، ولا تشرب الخمرَ وطُف، فإذا شربَ الخمر وطافَ، كان بِشُربِ الخمرِ عاصياً وبالطوافِ طائعاً، وهذا قد استوفيناهُ في الصلاة في الثوبِ الغصْبِ والبقعةِ الغصبِ لمَّا ألزمونا: من صلَّى ومعه شيء مغصوبٌ لا يمنعُ صحةَ صلاته، وفرَّقنا بأن السُّترة شرطٌ مأمورٌ بها، فإذا اسْتَتَر (4) بالغَصب الذي نُهيَ عن الاستتار به، صار كالعُريان من حيثُ إنه قيلَ له: لا تَستتر بالغَصبِ، وصلِّ مستتراً. فلما استتر بما نهُيَ عن السُترة به، كان بذلك غير مُمتثلٍ، فأخلَّ بالشرطِ، وهذه جملة كافيةٌ في إبطالِ ما تعلّقوا به.
فإن قالوا: كيف تصحُ منكم هذه المسألةُ (5 ....................................... .............................................................................. 5) ونهى آدمَ عن أكلِ الشجرةِ وأراده منه، فما الذي يمنعُ من أمرِه بما يكرهه؟ وما الفرقُ بين ما يكرهُه وبينَ ما لا يُريدُه (6)؟ بل هو يكره الإيمانَ من فرعونَ عندكم.
قيل (7):
__________
(1) أي يزيد.
(2) غير واضحة في الأصل، ولعل ما قدرناه هو الصواب.
(3) هكذا وردت العبارة في الأصل.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "استقر".
(5 - 5) طمس في الأصل.
(6) انظر ماتقدم في 2/ 481، و"شرح اللمع" 1/ 152 - 153، وما سيأتي في الصفحة 187.
(7) هكذا في الأصل دون ذكر الجواب.

(3/176)