الواضح في أصول الفقه

فصل
والأمرُ يتناول المعدومَ ويتعلَّقُ به
فأوامرُ الشرعِ التي نَطقَ بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والتي نزلت في كتابِ اللهِ تعالى، تناولت جميعَ أمَّتِه من لدن بعثتِه - صلى الله عليه وسلم - إلى قيامِ الساعة. قال أحمدُ: لم يزل اللهُ سبحانه يأمرُ بما شاءَ ويحكم. وبذلكَ قال الأشعريُّ (1) ومن تابعه من أصحابِ الشافعيِّ (2)، وذهبت المعتزلةُ ومَن تابعهم من أصحاب أبي حنيفة فيما ذكره الجُرجاني في "أصوله" إلى أنَ الأمرَ لا يتعلقُ بالمعدومِ (3)، وأنَ أوامرَ الشرعِ الواردةَ في عصرِ النبيَّ تَخْتصّ بهم، وأن من بعدهم تناولَه بدليل، ثمَّ إنَّ القائلين بتعلُّقِ الأمرِ با لمعدومِ اختلفوا؛ فقال بعضهم: فمذهبنا أنه أمرُ إلزامٍ وإيجابٍ حقيقة، كأمرِ الموجودين، لكن بشرطِ وجودِ المأمورِ على صفات التكليفِ، وإزاحةِ العلل، وتكاملِ الشروطِ من البلوغِ والعقلِ والسلامةِ التي يصحُّ معها استئنافُ الخطاب أن لو لم يتقدَم الخطابُ، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني.
وقال قوم: إنه ماموو بشرطِ وجودِه، وزوال (4 ....................... .......................................... 4) فلايجوز.
__________
(1) يعني أبا الحسن الأشعري.
(2) انظر رأي أبي الحسن الأشعري ومن تبعه من الشافعية في: "البرهان" 1/ 270، و"المستصفى" 2/ 81، و"المحصول"2/ 255.
(3) انظر هذا في "أصول السرخسي"1/ 66.
(4 - 4) طمسٌ في الأصل، والذي ظهر لنا أن المحذوف هو تتمة عرض الاختلاف في مسألة "تناول الأمر للمعدوم"، وقد تبين أنَّ المذهب في هذه المسألة أنه أمر إلزام وإيجاب على الحقيقة، بشرط وجوده على صفة يصحُّ تكليفه بها. سواء كان في الحال موجوداً يتوجه الخطاب إليه أو لم يكن.
والأقوال الأخرى في المسألة: =

(3/177)


فصل
في جمع الأدلة على جواز ذلك
فمنها: أنَ الصحابةَ رحمة اللهُ عليهم، وجماعةَ التابعين بعدَهم كانوا يحتجون في المسائلِ بألفاظِ النبيَّ في أوامرِه ونواهيه في عصرِه صلى الله عليه وسلم، ويَرجعون في الحوادثِ إلى قضاياه وأحكامِه وبالآي التي نَزلت عليه، وقد ثبتَ بالإجماعِ تقدمُ كلامِ الله بها، ولو كان الأمرُ لأهلِ عصره خاصَّاً لما كان في ذلك حجةٌ على من حَدث بعده؛ لأنه كان معدوماً حين وجودِ الأمرِ ونزوله وتلفظهِ به.
ومن ذلكَ: أنَ الأمرَ إذا عُلق على العاجزِ بشرط إِقْداره، والعادمِ للآلة بشرطِ حصولها، وفي الوقتِ الذي يضيقُ عن الفعل لما يتسعُ من الوقت في ثاني الحال؛ كان أمراً صحيحاً مشروطاً، ولو صرح به الآمر لَحَسُنَ ذلك عند كُلِّ عاقلٍ من أهلِ اللغةِ بأن يقول للنَجار اعمل لهذه الدارِ باباً، ولهذا القَراح (1) دولاباً. والنَجارُ مع الأمرِ له في مكانٍ لا آلةَ معه فيه، فيكون المعقولُ من ذلك: اعمله إذا أحضرتَ الآلة واتّسع الوقت، وكانَت أعضاؤك سليمةً، حتى لو كان مَريضاً أو معطَّل الأعضاءِ التي يقعُ بها العملُ، كان المعقولُ من أمره: إذا صحَت أدواتُك وتمكَنْتَ من الفعلِ، فافعل. وتعذّرُ الفعلِ بالعدم كتعذّرِه بالعجز (2 ......................................... 2 ..............................) يوجب تقدمها على الفعل، بل يصح تقدم الفعل.
__________
=
1 - أن الأمر للمعدوم يكون أمرَ إعلام، إذا كان كيف يكون، وليسَ بأمرِ إيجاب وإلزام.
2 - أنه يتعلق الأمر با لمعدوم، إذا كان هناك مخاطبٌ ببلاغه، فأمَّا إن لم يكن من يتوجه الخطاب إليه، فلا.
انظر "العدة" 2/ 386، و"التمهيد" 1/ 352، و"المسوَّدة": 44.
(1) القَراح: الماء الخالص الذي لا يخالطه ثُفل من سويق ولا غيره. (اللسان) (قرح).
(2 - 2) طمس في الأصل.

(3/178)


ومما يوضِّحُ أنَ الأمرَ إنما هو المتقدِّمُ دون ما عساهم يدَّعونه من تجددِ أمرٍ ثانٍ: أنه يحسنُ بإجماعِ العقلاءِ أن يقولَ لعبدِه والمأمورِ في الجملة عند حضور الآلة وزوالِ العائقِ في الأعضاءِ: إني كنتُ قدَّمتُ إليكَ الأمرَ بكذا، فإن كان قد أخَره مع زوالِ الأعذار وحصولِ الآلات، حَسُن أن يَعتبه ويؤنِّبه على تأخّرِه عن الفعل مع تقديم أمره، ولو كان الأوّلُ ليس بأمرٍ، لم يتجه نحوه عَتْبٌ ولا لومٌ ولا توبيخٌ إلا بعد تجديد أمرٍ ثانٍ.
ومن ذلك: إجماعُ الأمة على جواز وصية الموصي، وهي أمرٌ حقيقةً لمعدومٍ، حتى إنه لو نطقَ بها أو كتَبها وأشهدَ على ذلك الشهودَ، كان ذلك أمراً لازماً لمن يحدثُ من ولده بعدَ الوصية، ومن يولدُ بعد موته، ومن تتجدد له ولاية من الولاة، ومن يكونُ صغيراً فيكبر أو مجنوناً فيعقل، ولا أحدَ يقول: إنها مجاز بل تتعلقُ بالوصي تعلّقَ حقيقة.
ومن ذلكَ: ما يفسدُ به قولُ من اشترط مخاطباً بالأمرِ يكون مبلغاً (1) أنه قد ثبتَ أنَ أمْرَ اللهِ سبحانه من كلامِه، وأن كلامَه قديم، فما دل على قِدَم كلامِه دل على قِدَم أمره؛ لأنه أحدُ أقسام الكلامِ، وقد استوفينا ذلكَ في أصولِ الدين، وكذلك الوصية (2 .................................. 2)

فصل
في جمع أسئلتهم على أدلتنا
منها: أن كل الصحابة أمِروا، الذين لم يكونوا موجودين حالَ أمره ولا في عصرهِ بقرائنَ دلَت على أن أولئك مأمورون، ودلائل تضمنت مشاركةَ المعدومين
__________
(1) تقديرُ الكلام: أنه يفسدُ قولُ من اشترط وجودَ مخاطَبٍ، يتوجه الخطابُ إليه حتى يصحَّ تعلقُ الأمرِ بالمعدومِ.
(2 - 2) طمس في الأصل.

(3/179)


للمخاطَبين المعاصِرين له - صلى الله عليه وسلم -، ولم تُنقلْ تلكَ الدلائلُ والقرائنُ. وأما أمرُ العاجز فإنه ممن يصحُّ خِطابُه ويصرفُ الأمرُ إليه؛ لكونه عاقلاً يَفهمُ الخطاب، نعمْ ولا يخلو بفهمِه وعقلِه من فائدةٍ يَحسُن معها الخطابُ، وهي تلقي الأمرِ باعتقادِ وجوبه، والعزمِ على امتثاله، فهذان سببان للثواب، ويحصلُ ما يَحْسُن لأجله من الآمِرِ (1) الخطابُ، فأمَّا المعدومُ، فلا فائدةَ في خطابهِ، والأمرُ إذا خلا من فائدةٍ عُدَّ هَذياناً ووَسوسةً، فإنه من باب المتضايفات، يقال: آمر ومأمور، وضاربٌ ومَضروبٌ، ونداءٌ ومُنادى، ومحَبوبٌ ومُحبٌّ، فأمَّا آمر ولا مأمورَ له، فلا يعقل.
ومنها: أن قالوا: الوصيَّةُ إعدادُ قولٍ وأمنٍ لخائفٍ من الفَوْتِ بالموت، ولولا ذاك لما حَسُنت الوصيَّة لما ذكرنا، وأنها خطابُ غيرِ مخاطَب، ولهذا حُسنَ تعليقها على الوقتِ الذي يُخرجُ الآمرَ عن صفة الآمرين، وهو الموتُ والعَدَم، واللهُ سبحانه لا يخشى الفوْتَ، ولا يحتاجُ إلى الإعدادِ، فيصير تقديمُ أمرٍ على وجود المأمورين لغواً، واللهُ سبحانه لا يجوزُ عليه ذلك.
ومنها: قولُهم: إنه أمر بشرطِ الوجودِ، فينبغي أن توقفوا تسمية الأمر أمراً على شرطه وهو المأمور من باب المتضايفات (2 ................................ ......................................................................) إليها الاسم إلا بعد وجودِ شرطيها، لاسيِّما المتضايفات، والأمرُ كما لا بُدَّ له من آمرٍ لا بُدّ له من مَأمور.
__________
(1) في الأصل "الأحم"، والذي يظهر أنها محرفة عن "الآمر".
(2 - 2) طمسٌ في الأصل، والذي يفهم من شُبْهتهم، أنه لا يصح تعلُّقُ الأمرِ بمعدومِ، لأن من شرطِ الأمرِ وجودَ المأمورِ ووجودَ الآمر وكما يستحيل وجودُ أمرِ بغير آمرِ كذلكَ يستحيلُ وجود أمرِ بغيرِ مأمور.

(3/180)


فصل
في جمع الأجوبة عن أسئلتهم
أمَّا دعوى القرائنِ والأدلةِ، فلو كان هناك دلالةٌ أو قرينة لنُقلت كما نُقل الأمر ودعوى القرينةِ للأمرِ للمعدوم، كدعوى القرينةِ للأمر للمخاطَب الموجود.
وأما كونُ العاجزِ يصحّ خطابُه، لكن لا يصحّ امتثاله بما يخاطب به، فصحَ خطابُه معلَّقاً على وجود قدرتهِ على ما أُمرَ به، كذلك المعدومُ يتعلق الخطابُ عليه بشرط وجودهِ.
وأمَّا قولُهم: وفي خطابِ العاجز فائدةُ تَلَقيه للخطابِ بعزمٍ واعتقادٍ، والمعدومُ لا فائدةَ في خطابِه. لا يصحُّ؛ لأنه لو كانت فائدةُ الكلامِ تثبت بسماعِ سامع، لكان كلامُ الطفلِ والمبُرْسَم (1) إذا سمعه العقلاءُ أن يكونَ خارجاً عن الهذيان؛ لأجلِ سماعِ من سمعه، ولأنَّ أهلَ الإثبات مجمعونَ على أنه لا متكلّمَ منا بكلامِ إلا واللهُ سبحانه سامعٌ لكلامِه، فقولُهم: أيُّ كلامِ لم يكن له سامعا لا تقعُ إلا هذياناَ. لا يجدون له أصلاً يستشهدون به، وإذا لم يكن لذلك أصل يُردُّ إليه، فصار ذلك مجرّدَ دعوى بغير دليل.
ولأنَ كلامَ القديمِ سبحانه لا يُطلب له الفوائدُ، إذ ثبت بدليلِ السمعِ والعقلِ أنه صِفةُ القديم (2 [غيرُ مُحدث، وأنه سبحانه لم يزل آمراً، ولا حاضرَ مأمور] 2).
وأما قولهم: إن (3 [وجود الفائدة ينقل الكلام] 3) من الهَذيان إلى حَيَّزِ الأحكام؛
__________
(1) هو من أصابته عِلةُ البِرْسام، وهو مرض يصيب الصدر قال الجواليقي: ولعل الأقرب للصواب أن برسام مركبة من "بر" بمعنى الصدر و"ساما" ورم أو مرض. انظر "المعرب": 93، "قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل" 1/ 270.
(2 - 2) طمسٌ في الأصل، وما بين معقوفين مثبت من "العدة" لأبي يعلى 2/ 388.
(3 - 3) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدر حسب السياق.

(3/181)


لأن الموصي خاف الموت، والإعدادُ حسن من الله في أفعاله، وإن لم يخَف الفوت، كالإعداد منا، وإن خفنا الفوت، ألا تراه سبحانه أعدَّ في سفينةِ نوحٍ عند الطوفان جَماهيرَ (1) الخلقِ من كُلٍّ زوجين اثنين، وما كان ذلكَ لحاجَةٍ، ولا لعدمِ القدرةِ على إنشاءٍ من غير ذكرٍ وأُنثى، وأمَر عزيزَ يوسفَ بإعدادِ الأطعمةِ للسبع الشدادِ من السِّنين، مع قُدرته على الخلق للرزق المبتدأ من غير إعداد، وكان ذلك حَسَناً منه، كما حَسُن منّا مع خوف الفوتِ، كذلك لا يمتنعُ مساواةُ الأمرِ منه للمعدوم للوصية منا للمعدومِ.
وأما قولُهم: كان يجب أن نَقِفَ تسمية الأمرِ أمراً على وجودِ شرطِه، وهو المأمورُ؛ لأنه من باب المتضايفات، فلا يلزمُ، لأنَ الشرطَ ليس هو وجود المأمور لكن الشرطُ للأمرِ أن ينتهيَ إلى مأمورٍ كالنداءِ من البُعد، يكون نداءً للبعيد المنادى بنفسِ وجودِ صيغة النداء، والقصد بها المنادى، وكذلك الإيصاءُ أمرٌ مشروط بالموصَى إليه، وليس يعتبر في الشرطِ وجودُ الموصَى إليه حالَ الإيصاء، ولأنه سُبحانه إله حقيقةً، ولا مَأْلوه، وربٌ ولا مربوبَ، ثم وُجِد المألوهُ والمربوبُ، ولم يمنع ذلك سَبْق الإلهية لوجود المألوه، وسَبْق الربوبية لوجودِ المربوب.

فصل
جامع شُبَههم
(2 [منها: أن قالوا: إنه من باب التعَلق والمضاف، والمعدوم] 2) كيف يصح التعلق به أو عليه؟!
ومنها: أنهم بحثوا أن يكونَ الأمرُ إلزاماً أو طلباً واستدعاءً، وكُل ذلك لا يكون صحيحاً في حقِّ المعدومِ، ولا لحنةَ عند أهلِ اللغة أقبحُ من قولِ القائل: ناديتُ
__________
(1) أي جماعات. "اللسان": (جمهر).
(2 - 2) طمسٌ في الأصل، والمثبت مقدر حسب المعنى.

(3/182)


المعدومَ، أو أمرتُه، أو طلبتُ منه، أو استدعيته، أو استدعيتُ منه، كل ذلك؛ لأن الصلةَ لا تقع، والإضافةَ لا تحصلُ إلا بين موجودين.
ومنها: أن قالوا: إننا أجمعنا شرعاً وعقلاً على أن المجنونَ والصغيرَ يصلحان لبعض التعلُّقاتِ، فهما أحسنُ حالاً من المعدومِ، لأنَ الصبيَّ يُضرب ويُؤدَّبُ على المخالفةِ لاتجاهِ الأدبِ نحوه، وتقبلُ الهديةَ، فهذا مَن تَحرّك فيه الفَهمُ ولصقَ به الأدبُ، ويقبلُ قولُه في دخولِ الدار وتَعلُّمِ الصنائع، والمجنونُ يُكَف ويُضرب كما تُضربُ البهيمةُ عن الأفعالِ الذميمة وعن الإيذاء، ثم إنَ أمرَ الشرعِ لا يتجهُ نحوه إلا بشرطِ الإفاقةِ والبلوغِ، بل القلمُ مرفوعٌ عنهما، وجُعلَ الأولياءُ ناظرين في أمرهما، فأولى أن لا يتجهَ الأمرُ بحقِ المعدومِ المنفيِّ الذي لا حقيقة له بشرط أن يوجدَ في الثاني، وهذا تنبيهٌ من الشرعِ على أنَ المعدومَ غيرُ مأمور حيث قطعَ الخطاب وحسمَ مادةَ الأمر بين الشرعِ وبينَ المجنونِ والصغير وهما أحسنُ حالاً من الوجوه التي بيّنا.
ومنها: أنه لو كان المعدومُ مأموراً؛ لصحَّ أدق يكون مذموماً وممدوحاً ومتواعداً
(1 ...................................................................... 1)
من جهة المعدوم لا يصح، فكما لا يصح أن يكون الآمرُ معدوماً ولا المعدومُ آمراً، كذلك لا يصحُّ أن يكونَ المعدومَ مأموراً، ولا المأمورُ معدوماً.
ومنها: ما سنح به الخاطر وهو أن يقولوا: إنَ هذه الصيغةَ موقوفةٌ على مخاطَب، فهي من الأسماءِ المستعملة مجازاً، مثل قولهم: يَهْنِيْكَ الفارسُ، وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، والعرب تسمي الشيءَ بما يؤول إليه وما كان عليه استتباعاً وتفاؤلا وإذا كان كذلك صار قولُه: افعلوا، مجازاَ، يوضح هذا أنَّ من شرط الأمرِ أن يكونَ المستدعى منه أدنى، والدُّنُو صفةٌ، والمعدومُ لا تقبلُ الصفاتِ.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، والذي يفهم من العبارة أنه لو جاز أمر المعدوم بالإيجاب والإلزام،
لجاز ذمُّه ولعنُه وتسميته بأسماء المدحِ والذم. انظر "العدة" 2/ 390.

(3/183)


فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم
أما قولُهم: إنه من بابِ التعلقِ والمضافِ، والمعدومُ لا يُضافُ إليه. فلا يَلزمُ؛ لأنه إنما يتعذّر ذلكَ في الخطابِ له في الحالِ التي هو معدوم فيها، فأمَّا إذا كان للمعدوم حال وجودٍ، ولا سيما في علم القَديمِ سُبحانه أنه سَيوجِدُه ويُكلِّفه، فخطابُه له مشروط بوجودِه، ككاتب الكتاب منا على البُعد من المُكاتَب خطابٌ له بشرطِ وصوله، وكذلكَ النداءُ للبعيد بشرطِ سماعه، والأمرُ من الموصي بشرط موته ووجودِ الوصي، ولا أحدَ من أهل اللغةِ والتحقيق ينكرُ الاشتراطَ للتعليق، وهو بابٌ كبيرٌ يُسمَّى باب الإعداد لما إذا وُجد شرط تعلَّقَ عليه وألصقَ به، ولا أقرب إلى ذلك من الأسماءِ المشتقةِ لله سُبحانه ولخلقه، كقولنا: اله ورَب، وخالق، ورازق، ورحيم.
وإن كانت الأشياء (1) (2 ....................................... 2) بما دَلَّ من قديم (3 [صفاته عندنا وعند] 3) من وافقنا في هذا الأصل، وخالفنا في هذه المسألة وبما دللنا من الأدلة اللازمة لمن خالفنا في ذلك الأصل وفي هذه المسألة من المعتزلة، وإذ وجد أن الاستدعاءَ والطلبَ مصروفٌ إلى غايةٍ يَصحُّ أن ينطبق عليها، فقد صحَ التعلُّقُ ولم يُعدم شرطُ الإضافةِ.
فإن قيل: فهذا القولُ يُعطي المجازَ ونحنُ لا نمنعُ من التسمية أمراً مجازاً، ووجهُ المجازِ ونفيِ الحقيقةِ أنه اسم عَجَّلته قبل وجود شَرطه، وصار ما استشهدتَ به من الأسماءِ قبل المتعلقات المشتقةِ منه هو الحُجةَ في معنى الحقيقة؛ لأنه يقال: خالقٌ ورازقٌ، قبلَ وجودِ الخلقِ، بمعنى أنه سيخلقُ ويرزقُ، ونحن لا نمنعُ إن سمَّاها هنا:
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: "الأسماء"
(2 - 2) طمس في الأصل.
(3 - 3) طمس في الأصل.

(3/184)


أمراً، بمعنى أنه سيأمرُ، وكل اسمٍ صحَّ نفيُه فهو من أسماء الاستعاره والمجازِ، ولا يحسُن أن يقالَ: ليس بخالقٍ في القدم، ولا يصحُّ بل يستحيلُ؛ لأنَّ معنى الخلق: الفعلُ، والفعلُ لا يكون إلا في الزمان المستقبَل، والقِدمُ هو عدمُ الأولية وثبوتُ الأزلية، فلا تجتمعُ الحقيقتان؛ لأنهما ضدّان، فكذلكَ الأمرُ إذا كان من بابِ المتضايفات، وكان إنما ينطبقُ على ما سيوجدُ، كان مجازاً لا يتحققُ إلا عند وجودِ ما ينطبقُ عليه، وهو المأمورُ المستدعى منه.
فيقال: إنَّ أمرَ مَنْ لا آلةَ له يَعملُ بها، أو العاجزِ الذي توجده القدرة في الثاني وليس بظافرٍ بها أمر حقيقةً، وإن كان متراخياً إلى حينِ تكاملِ شرطِ المأمورِ من تحصيل آلتِه وحُصولِ قدرته؛ لأن العالم (1 ................................ ........................................................................ 1) ليس بعالم إلا بَعْد وجودِ الأحوالِ التي عَلمَ أنها ستكونُ، بل ويقال: عالم بما يكون في الثاني من أحواله. وكذلكَ الموصي المعلَّقُ لوصيّته على موته، وإعطاءِ أولاده على وجودِ أولاده، والموقِفُ مملِّك لمن وَقَفَ عليه وَقْفاً، وإن كان المُمَلّكُ غيرَ موجود، لكنّه لما كان تمليكاً لمن يوجد في الثاني، لم يكن تمليكه مجازاً.
وأما قولُهم: الأمرُ إلزام أو مطالبة أو استدعاء، والمعدومُ لا يُلزمَ، ولا يُستدعى منه، ولا يمتضى. فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الإلزامَ والاقتضاءَ في الحالِ هذا حُكمهُ، فأمَّا إلزامُ من يحدثُ في الثاني واقتِضاؤُهُ واستدعاؤه، أو الاستدعاءُ منه، فإعادة منهم وَتكرار، وَمَدارُ ما صدرَ عنهم بإحالةِ الاتصالِ والتعلُّق بما هو معدومٌ والإضافةِ إليه، وجميعُه إنما يصحُّ لهم فيما هو معدومٌ في الحالِ، ولا وجودَ له في الثاني والاستقبال، فأما ما قد عُلم وجودُه، فلا يستحيلُ ذهابُ الخطابِ إليه، وانصرافُه نحوه عند وجودِه، فلا إحالةَ ولا استبعادَ، ولهذا يقول العاقلُ مِن أهلِ اللغة: هذا وَقْفي على من يَحدثُ
__________
(1 - 1) طمسٌ في الأصل.

(3/185)


من ولدي، وهذهِ وَصيتي إلى من يكونُ من عَقبي، وهذا كتابي إلى أهلي. وهو على المسافةِ البعيدةِ منهم، وهذا الاستبعادُ منكم هو شرحُ مذهبكم. وإلا فالتعليق والإضافَةُ والخطابُ كُل ذلكَ صَحيحٌ عندنا إذا أُحيلَ (1 ................... ............................................ 1) الخطاب بأن يقول: هذا خطابُ الله لي وأمرُه إيَّايَ. ويقولُ المُوصَى له: هذا أمرُ أبي ووصية أبي، ولا يحسنُ نَفيُه، فيقولُ: ليس هذا أمرَه ووصيتَه، ولا أمَرَني ولا وَصَّاني؛ لأنه حين قالَ، لم أكن بحيثُ أفهمُ عنه، ولا يَصح أن يخاطبَني.
وأمَّا دعواهم أنَّ الصغيرَ والمجنونَ لا يتعلّق عليهما أمرٌ ولا نهيٌ، ولا يُكَّلفان حينَ الصغرِ والجنونِ، اعتماداً على زوالِ الجنونِ والصغَرِ، وأنَّ ذلكَ إجماعٌ، فدعوى باطلةٌ؛ لأن كُلَّ من أجازَ أمرَ المعدومِ بشرطِ وجودِه لم يمتنع من أمرِ المجنونِ بشرطِ إفاقته، والصبيِّ بشرطِ بلوغِه، وإنما حملوا رفعَ القلمِ على أحدِ أمرين (2)، إما نفيُ الخطابِ له مواجهةً ومخاطبةً على ما هو عليه، أو على رفع المأثَمِ والمؤاخذةِ (3)، فأمَّا ما ذهبنا إليه فكلا، وما (4) الذي يُنكَرُ من صرفِ الخطاب إلى مَنِ المعلومُ أنه يَعقِلُ ويَبْلُغُ ويَتكاملُ بشروطِ التكليفِ فيه؟
فأمَّا دعواهم أنه لا ينطلق نحوَ المعدوم ذَمٌ ولا مدحٌ، فما أبعدَها من دعوى على أهلِ السُنّة، مع قولهم بقِدَمِ الكلامِ، وإنَ الله سبحانه قد ملأ كتابَه الكريمَ بذمِّ العُصاةِ التاركين لأوامره، المرتكبينَ لنواهيه، وذلك الذمُّ فإنما انصرفَ إلى من عَلمَ أنه إذا وُجدَ وخوطبَ لم يَمْتَثلْ أمرَه، وكذلك مَلأ كتابه بمدحِ (5 [الطائعين، وذلك ينصرف إلى من علم أنه إذا وُجدَ وخُوطب امتثلَ لما جاءه] 5) من أمر الله، وانتهى عما
__________
(1 - 1) طمسٌ في الأصل.
(2) أي على تقدير أحدِ أمرين.
(3) انظر المسألة في "المستصفى"2/ 62، و"المسودة": 45، و"أصول السرخسي" 1/ 248.
(4) في الأصل "أما"، ولعل المثبت هو الصواب.
(5 - 5) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى.

(3/186)


نهى اللهُ عنه، وإنما لم يَلحقه المدحُ والذمُ قَبل وجوده؛ لأنه عُدمَ الشرطُ في تلك الحال، فلا طاعةَ وجدت، فيمدحُ عليها، ولا معصيةَ تحققت، فيُذمّ عليها، لكن جعل ذمه ومدحَه كأمره، معلَّقَين على وجود الطاعةِ والعصيانِ، كما كان أمرُه معلَقاً على الوجودِ مَشروطاً به.
وما ذلكَ إلا بمثابة سائرِ العباداتِ المشروطةِ في حقِّ المكلف، لا يلحقُه الذمُ والمدحُ بتركِها وفِعلِها قبل وجودِ شرطِها إلا على وجهِ التعليقِ إن تركها بعد تكامل شروطِ وجوبِها عليه، وتضايقِ الأمر في حقه.
فأمَّا قولُهم: لما لم يصح أن يكونَ الأمرُ معدوماً، لم يصح أن يكونَ المأمورُ مَعدوماً. غيرُ صحيح؛ لأنَ الآمر إذا سَبق أمره بإيصاءِ وصيّةٍ، وتقدمِ مكاتبةٍ ثمَ ماتَ قبلَ وصولِ كتابهِ وسَماع الموصَى إليه وصيّتَه أو شرطَه في الوقفِ تمليكَ من يأتي من ولدِ ولدهِ وعَقبِه ونَسلِه، كل ذلك يكون بعد وفاته مَعمولاً به بحُكم أمره، ولا يخرج بموته عن كون أمرِه أمراً حقيقة، فيستند الأمرُ إلى حالِ وجودِ الآمر كما يستند الأمرُ من الآمر إلى وجودِ المأمور، وإن أردت أنَ ابتداءَ الأمرِ لا بُد له من آمرٍ فكذلكَ اتصالُ الأمرِ بالمستدعى منه لا بُد له من مأمورٍ فالانتهاءُ في هذا كالابتداءِ في ذلك، ولا ينتهي الأمرُ إلاّ إلى مأمورٍ موجودٍ، لذلكَ لا يفيدُ الأمر إلا من آمرٍ موجود.

فصل
ويجوزُ أن يأمرَ اللهُ سبحانهُ بما يَعلمُ أن المأمورَ لا يفعله.
نصَّ عليه أحمد بقوله: نَهى اللهُ سبحانه آدمَ عن أكلِ الشجرةِ، مع علمِه بأنه سَيأكلُ، وفي أمرِه لإبليسَ بالسجودِ، مع علمِه أنه لا يَسجدُ، وهذا أمر نطقَ به الكتابُ، وحُكي عن المعتزلة أنه لا يجوزُ ذلك (1).
__________
(1) انظر "المعتمد" 1/ 166 - 167، و"العدة" 2/ 395 - 396.

(3/187)


فصل
والدلالةُ على صحةِ قولنا: أنَ اللهَ سبحانه قد أمَرَ الكُفارَ بالإيمان، ولم يختلف في تكليفهم الإيمانَ اثنان، ولا فَضَلَ أحد من الأئمة، فقال: إنَ المعلومَ إيمانُه هو المأمورُ دون من عُلِمَ أنه لا يُؤمن. والقول المخالفُ للإجماع لا يُلتفت إليه، وقد أخبرَ اللهُ سُبحانه أنه أمرَ إبليسَ بالسجود لآدم، فقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، فأثبت أمرَه له بالسجود، ولم يقع منه السجودُ، وقد أجمع المسلمون على أنه عالمٌ بامتناعه قبل وقوعِ الامتناع منه (1).

فصل
فيما حُكي من الشبهة عنهم
وهو أنَ الأمرَ لمن يُعلم أنه لا يُطيع عَبَث، واللهُ سبحانه مُنزهٌ عن العَبثِ في قوله وفعلِه؛ ولأنَ التكليف، والأمرَ، والنهيَ إنما يكون للمصالحِ والمنافعِ، وهو التعريض للثوابِ، واجتنابِ ما يوجبُ العقاب، فأما إذا صرف بحقّ من لا يتحقق في حقِّه ذلك، خرج عن حَيِّز الأمرِ المشروعِ والقانونِ الموضوع على مقتضى الحكمة.

فصل
في الجواب عما ذكروه
وهو أنَّ هذا كلام يردُّه النصُ، ولا عبرة بما استدلوا به مع كونِ الإجماعِ انعقد على خلافِه، ونَصُّ الكتاب قضى بإبطاله، على أنه فاسدٌ في نفسه لو وردَ مع عدم الإجماع والنص، وهو أن الله سُبحانه قد خلق مَن في معلومه أنه لا يَنتفع بخلقه ولا يُطيعه في أمرِه، فلا يَستحق الثواب، بل لا يَسعى إلا فيما يوجبُ عليه العقاب، ولم يكُ في خَلقه عابثاً، كذلك أمرُه له لا يكون به عابثاً.
__________
(1) انظر "المسودة": 54.

(3/188)


فإن قيل: إلا أنه يجوز أن يكونَ في خلقه مصلحة لغيره من المكلفين، ليكونوا أقرب إلى الطاعةِ وأبعدَ عن المعصية.
قيل: فلعل في أمره الذي يعلمُ أنه لا يَمتثله مصالحَ لكثيرٍ من المكلفين، ولا انفصالَ لهم عن ذلك.

فصل
يجوزُ أن يردَ الأمرُ من اللهِ تعالى مُعَلّقاً على اختيار المكلّف، أو يتركَ مُفوَّضاً إلى اختيارِه.
وهذا يُبنى على أصْلٍ، وهو أنَّ المندوب مأمورٌ به مع كونِ المكلف مخيَّراً بين فعلِه وتركِه، خلافاً للمعتزلة في قولهم: لا يجوزُذلك (1).

فصل
في الدلائلِ على مذهبنا
فمنها: أنَّ اللهَ تعالى لا يخلو أن يكونَ أمرُه مقصوراً على الأصلح، أو يكونَ بحسْبِ المشيئةِ المطلقة، فإن كان على الأصلح، فلا يمتنعُ أن يكون عالماً في بعضِ الأوامرِ أن مشيئةَ المكلف تُوافق الأصلح، واختيارَه يوافقُ ما يختاره اللهُ لهُ، أو تكونَ مشيئة مطلقةً بلا تخصيص.
ومنها: أنه إذا جاز أن يُخيِّره بين الإتمامِ والقصرِ، والإفطارِ والصومِ، وبين الكِسوة والإطعامِ والعِتقِ، فلِمَ لا جاز أن يُخيِّر بين الفعلِ والترك؟
ومنها: أنه إذا جاز أن يجعلَ بعضَ الأحكام موكولةً إلى اجتهادنا، وهي الأحكامُ التي لم ينص عليها في كتابه ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، جاز أن يَكِلَ بعض الأوامر إلى اختيارنا، إذ لا فَرق بين الاختيار والاجتهاد.
__________
(1) "المعتمد" 1/ 166، و"العدة"2/ 396.

(3/189)


ألا تَرى أنه سُبحانه وَكَلَ المِثْليةَ في الصيدِ إلى اجتهادِ حكمين مِنّا، وخيّرنا في بدل ذلك بين المثل من النَّعم أو كفارةٌ طعامُ مساكين، أو عَدْلُ ذلك صياماً (1).

فصل
فيما تعلقوا به من الشُّبهة
قالوا: إن أمرَ الشرع لنا يتعلق بمصالحِنا، وليس في قوَّةِ رأي المكلَفِ أن يقع اختيارُه على تجنُبِ المفسدة، وتوخّي المصلحة، فلهذا لم يكِل اللهُ سبحانَه سياساتِ الخلق إليهم، ولم تقنعْ بآرائهم وعقولهِم في أمرِ دنياهم وأُخراهم، بل أرسلَ الرُسُل، وأنزل الكتبَ، وشرعَ الشرائع، فلا يُؤمَنُ إذا رَدَّ (2) الاختيارَ إلينا أن نختارَ الأفسدَ ونتركَ الأصلحَ، ولذلك لم نُجوِّز على الله سُبحانه أن يردَ أمرَه إلينا في اختيارِنا، فنحنُ في باب التكليف كالسفهاءِ الدين قال الله فيهم: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، يعني بحجّة، ونحنُ في بابِ النظرِ للمصالحِ كالسفهاءِ بالإضافةِ إليه، وكما أنه منعَ تفويضَ أمرِ السفهاءِ إليهم، فأحرى أن يمتنع سبحانه من تفويضه للمصالح، ولا طريق لنا إلى معرفتها.
قالوا: وفارقَ ما تعلقتم به من الاجتهادِ؛ لأنه مأخوذٌ من معاني كلامِه سبحانه وكلامِ رسولهِ واستنباطِ معانيه التي أوجبت الأحكامَ، فكان ذلك راجعاً إليه دونَ اختيارنا، ألا ترى أنا نقدم في الأحكام الأدلة بعضَها على بعص؟ فنضع أدلّة الاجتهاد بحسب ما تُعطينا ظواهرُ الألفاظ.
قالوا: وفارقَ التخيير في أعيان المكفر بها؛ لأنَّ اللهَ سبحانه سوّى بين المخيّرات
__________
(1) يشير بذلك إلى العقوبة المترتبة على من قَتل الصيد مُحرماً، وهي العقوبة الواردة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ......} [المائدة: 95].
(2) في الأصل: "أراد"، والصواب ما أثبتناه.

(3/190)


في الأصلح، ووازن كلَّ واحدةٍ بصاحبتها، ثم خيَّر كما يُسوّي الطبيب في الدَّواء بينَ ثلاثةِ أدويةٍ، ويُخيِّر العليلَ بينها بعد فراغِه من مُوازنتِها في الأصلح.

فصل
في أجوبة ما تعلقوا به
أما اشتراطُ الأصلحِ، فليس ذلك مَذهبنا، ونحن نُخالفكم فيه، لكنِ الأصلحُ جائزٌ, فأما مَشروطٌ وواجبٌ، فكلا، وذلك مُستوفىَ في فَصل الأصلحِ فيما بقي من فصول الأوامر إن شاء الله.
على أنه يجوزُ أن يعلمَ اللهُ سبحانه أنَّ الأصلحَ ما تقع اختيارُ المكلَّف عليه، كالتخيير في الكفاراتِ، ولو كان الاختيارُ لا يجوزُ أن يصادفَ الأصلَح رأساً، لَما جاز أن يَكِلَ التخيير إليه في شيءٍ من التعبّدات، من كفارةٍ، ولا غيرِها من تخييره بين القصرِ والإتمامِ، والفِطرِ والصيامِ في حقِّ المسافر.
وأما قولُهم: وفارقَ الاجتهاد. فلا فرقَ؛ لأن الاجتهادَ وإن رجع إلى القرآنِ والسنَّةِ ومعاني الألفاظ، إلا أنه استنباطُ المجتهد، وهو عُرضةُ الخطأ؛ ولأنه سبحانه إذا رد الاختيارَ إلى المكلَّف مَهَّدَ المحلَّ على هيئةٍ لا يُصادفُ اختيارُه إلا الأصلحَ، والله أعلم.

فصل
يجوز أن يرِدَ الأمرُ من الله تعالى بالتكليف أمراً ونَهياً على التّأبيد إلى غَير غايةٍ
مثل أن يقول: صوموا أبداً، وصَلُّوا أبداً. ويكون هذا القول تأكيداً عند من يعتقد أن الأمرَ على التكرار؛ لأنه بمطلقِ الأمرِ يقتضي التكرارَ والدوامَ عنده، وهو الذي نصروه (1) أصحابنا.
__________
(1) كذا الأصل بإثبات الواو، وهي لغة بَنى الحارث بن كعب، يُلحقون بالفعل الواوَ للدلالة على الجمع، والأفصح: نصره، بحذف الواو. انظر "شرح الألفية لابن عقيل مع حاشية الخضري": 1/ 161 - 162.

(3/191)


وقالت المعتزلةُ: لا يجوز أن يَرِدَ الأمرُ من الله إلا بأمرٍ مُؤقتٍ مُنقطع، وإنما يحتملُ ذلك إن وردَ على الحثِّ والتمسك بالفعل (1).

فصل
جامعٌ لأدلتنا
فمنها: أنه ليس بأمرٍ بمُحالٍ، ولا يُستبعدُ من الآمرِ ولا المأمور؛ لأنَ الله سبحانه مالكٌ للمأمورِ مُلكَ عينٍ وإنشاءٍ، قادرٌ على الإمدادِ بالبقاء، والإعانةِ على الفعلِ، وإزاحةِ العلةِ فيه بتكميل شروطه، فلا وجهَ للمنعِ منه.
ومنها: أنَّ الناسَ قائلان:
قائلٌ بوقف الأمرِ على الأصلح، وقد يكون الأصلحُ ذكرَ التأبيد والدوام.
وقائل يقول: إنَ الله يتصرف بحكمِ المشيئة المطلقةِ والملكَة، فعلى هذا لا معنى للمنع، إذ لا آمر ولا ناهٍ دته سبحانه عمّا يريد فعلَه وإيجادَه، أو تركَه والإخلالَ به.
ومنها: أنَ العمومَ على ضربين؛ عمومُ أفعالِ في أعيانٍ، وعمومُ أفعالِ في أزمانٍ، ثم إنه يجوزأن يَرِدَ من جهته سُبحانه الأمرُ بإخراجِ جميعِ ما يملكُه من المال، وذبحِ جميع ما لَه من بهيمةِ الأنعام، كذلك لا يمتنعُ أن يجوزَ تكليفُه أن يَستنفدَ أيامَ عُمُرهِ فيما أُمر به من العبادةِ على الدوام.
ومنها: أنَّ التكليفَ على ضربين: أمرٌ، ونهي، ثم إنه يجوزُ أن يُؤيدَ النهيَ فيقول: لا تَشرب الخمرَ أبداً، ولا تَزْنِ ولا تَلُطْ أبداً. كذلك الأمرُ بالطاعةِ يجوزُ أن يأمرَ بها أبداً، ولا فرقَ بينهما؛ لأنهما أحدُ خطابي التكليف.
__________
(1) انظر "المعتمد" 1/ 104، و"العدة"2/ 398.

(3/192)


فصل
في أسئلتهم على حُجتنا
فمنها: أنهم قالوا: لا نُسلِّم أنه ليس بمحال، بل هو محُال من المخلوقِ، لحاجته إلى الراحةِ والنومِ وما يَعتريه من العوارضِ المانعة، كالمرضِ، والفتورِ للإعياءِ والسهر والإغماء، والجنونِ، والنومِ فيستحيلُ الدوامُ مع هذه العوارض.
وفارق عمومَ الأعيان؛ لأنه لا يتعذّر ولا يتعوّق عن إخراج ما يملكه من المال، فإن تَعوَّق اتَّسعَ (1) له فيما يستقبلُ من الزمان إتمامُ الإخراج والذبح. وكذلك ما تعلقتم به من النهي؛ لأنه تركٌ، فلا كلفةَ في الترك؛ لأنه الأصل، ولا يتعذرُ الترك؛ لأنه حالَ الإعذارِ والاشتغالِ بالأعمالِ التي تخصّه، تاركٌ للمنهيات.

فصل
يجمعُ الأجوبةَ عن الأسئلة
أما منعهم الإحالةَ، ودعواهم أن الأبدَ يستغرِقُ العوائقَ والأعذار فلعمري، لكن الأمر لا يستغرق إلا أوقاتَ السلامةِ والمُكْنَةِ والصحةِ والسلامةِ، وإزاحة العللِ المانعة وعدمِ الأعذارِ القاطعة، كما في الأعيان، فإنه إذا أمِرَ بذبح جميع أنْعامه (2) لم يلزمه ذبح ما ندَّ وشَرَدَ وتوحَّش وامتنع، بل يقع الأمرُ على ما يتمكَن من إيقاعِ الفعلِ فيه، كذلك يرجع الأمرُ إلى التأبيدِ والاستغراقِ لكلِّ زمانٍ يَصحُّ أن يَقَعَ الفعلُ فيه، فلا فرق. كما أن النَّهي قد يَتخلَّل (3) زمانَه أعذارٌ تبيحه، كالنَّهي عن الميتة في الاضطرار والنهي عن استقبال بيتِ المقدسِ بالصلاةِ، وشربِ الماءِ النَّجس، والعملِ في الصلاة، وما شَاكَلَ ذلك يُستباحُ بالأعذار
__________
(1) في الأصل:"واتسع "، ولعل الأولى حذف الواو ليستقيم المعنى.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "العامة".
(3) طمست في الأصل، وقدِّرت حسب المعنى.

(3/193)


فصل
يجمع شُبَههم (1)
فمنها: أن بَنَوْا ذلك على أصلهم، وأنَ الثوابَ على الطاعاتِ واجبٌ، وهو دائمٌ, ولا يجوزُ أن يكونَ ثوابُهم في خلالِ أعمالم؛ لأنه يصيرُ منقطعاً، وإن أدام عليهم التكليفَ، لم يبْق زمانٌ تقَعُ فيه الثوابُ والمجازاةُ على أعمالهم، فلذلك لم يصح الأمرُ بدوامِ الطاعاتِ، وتأبيدِ العباداتِ.
ومنها: أنَّ الأعمالَ لا بُدَّ من انقِطاعها بالموتِ، ولا بُدَّ من الإثابةِ عليها في غير زمنِ التكليفِ، وإذا كان كذلك؛ صارَ قولُه: افعلوا أبداً، مجازاً، فلا يبقى في قوله: "أبداً" سوى المبالغة دون الحقيقةِ.
ومنها: أنَ التأبيدَ مع تخللِ العوارضِ القاطعةِ لا يتحقَقُ ولا يُمْكِنُ، فلا وجهَ لاتّجاه الأمرِ مع عدمِ الإمكان، كما لا يصحُّ أمرُه بما لا يُتصوَّرُ فعله لاستحالته، أو لعدمِ القدرةِ عليه.

فصل
يجمع الأجوبة عن شُبَههم
أما دعوى استحقاق الثوابِ، فلا نُسلّمها، بل أقلُّ نعمةٍ لله تعالى بفضلٍ منه، ولو قوبل بها سائرُ الأعمال لأوْفَت وأربتْ نعمتُه عليها، وهو المالكُ للأعيان، ولا وجة لاستحقاق الأُجرةِ على المولى بعملٍ عنده، فكيف بمالكِ الأعيان، المنعمِ بالإيجادِ والإخراجِ من العَدم إلى الوجود؟
والذي يوضّحُ أن (2 [الثوابَ ليس بمُسْتَحق؛ أنه لو كان مستحقاً لما استحقَ اللهُ الشكرَ] 2) على نعمِهِ، كما لا يستحقُ القاضي لِدَينه، والمُوفي للحقوق اللازمة له الشكرَ
__________
(1) أورد أبو يعلى تلك الشبَه، والردود عليها في "العدة" 2/ 398 - 400.
(2 - 2) طمس في الأصل، وما بين معقوفين تَبيناه من المعنى ومن "العدة" 2/ 399.

(3/194)


والحمدَ على ذلك، فلما أجمعتِ الأمَةُ على وجوبِ شكره -جَلّت عظمتُه- على قليلِ النعمِ وكثيرهِا، بطلَ دعوى وجوبِ الجزاءِ على الله على أعمالِ خلقه؛ ولأنه سبحانه قد استعبدَ الملائكةَ بالتَّسبيحِ والتَمجيدِ والتَّهليلِ والرسالةِ، من غير أن يتخلَّل أوقاتَهم أعذار قاطعة، وأشغالٌ مانعة، وأغناهم عن الأكلِ والشربِ وسائر ما يلتذُّ به الآدميون، وكانَ ذلك مُجَردَ شكرِه سبحانه على إيجاده وإبقائِهِ لهم.
يوضِّح هذا أنه لو قال سبحانه: افعلوا كذا أبداً، فهو الأصلحُ لكم. كان ذلك أمراً صحيحاً عندَ المخالف، وإن كان يقطعُ عن الإثابةِ ويستوعِبُ الزمانَ بالعبادة؛ ولأنه إذا أبقاهم وعافاهم، ومَتَّعهم بنَسيمِ الهواءِ ورَوَّحهم، وأنالهم في خلال أعمالهِم لذاتٍ دائمةً، حَسُن أن يكون ذلك جزاءً وثواباً على أعمالهم، وليس من شرطه إفرادُ زمانٍ للثواب المحض.
وأما الأعذارُ المعترضةُ، فإنَّ زمانَها خارج عن الأمر، بدلالةٍ وقرينه، وهي الدلائلُ التي أسقطت أكثَر الأعمالِ، وأخَرت بعضها لأجلِ الأعذارِ، كالسَّفَر والمرضِ والخوفِ وما شاكل ذلك.

فصل
لا يصحُّ الأمرُ بالموجود
وحُكي عن بعضِ المتكلمين التجويزُ لذلك (1)، مثالُه أن يقولَ للقائم: قمْ، وللقاعِد: اقعدْ، وللصائمِ: صُمْ.

فصل
جامع (2 [لأدلتنا في نفي صحة الأمر بالموجود] 2)
منها: أن الأمرَ استدعاء واقتضاء، والحاصلُ لا يُستَدعى ولا يمتضى به؛ لأن
__________
(1) انظر "البرهان" 11/ 276.
(2 - 2) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مُقدرحسب المعنى.

(3/195)


الموجودَ يُستَغنى بوجوده (1) عن إيجاد، [و] (2) يَستحيل إيجادُ الموجود، كما يستحيل إعدامُ المعدومِ، وهذا يَنبني على أصلٍ قد بانَ بهذا الفصلِ أنَّ أصحابنا ذهبوا إليه، ودانوا به، وهو أنَ الأمرَ بالمستحيلِ لا يَجوزُ، خِلافاً (3) لأبي الحسنِ الأشعري (4).
ومنها: أن المكلَّف إذا أوجد الفعلَ المأمورَ به، سقط فرضُه عنه، فلو كان الأمرُ به جائزاً، لكان ذلك دلالةً على أن الفرضَ لم يَسقط، والمكلفَ لم يمتثل، إذ لا معنى لأمره بما سَبقت به طاعتُه وامتثاله.
ومنها: أن الأفعالَ من المحدِثين مضمنة بالزمان، والآنُ الموجودُ فيه الفعلُ قد استوعبه، فلا بُد للمستدعَى مِن الأفعالِ من زمانٍ تقَعُ فيه، وليس إلا الاستقبال.

فصل
يجمع ماتعلّقوا به من الشُّبَه
فمنها: توهمُهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]، فشهد لهم بالإيمان وأمرهم به.
ومنها: أن قالوا: أجمعنا على ذمَ الكافرِ على كُفرِه، وما جازَ ذَمُّه إلا لمعنى، وما ذلك المعنى إلا كُفْرُه، ولو لم يكن منهياً عنه، لما جازَ ذمُّه، والمستقبل مِن كُفره لم يكن، فلم يكن إلا للكفرِ الذي (5) هو عليه، وذلكَ موجودٌ، وقد صحَ النهيُ عنه، وكذلكَ المؤمنُ يجبُ أن يكون مأموراً بالإيمانِ، ولو لم يكن مأموراً بالإيمان لما اتجه الذَّمُ إليه على
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "بوجوه".
(2) الواو ليست في الأصل، ولا بد منها لاستقامة المعنى.
(3) في الأصل: "خِلاف"، والصواب ما أثبتناه.
(4) ينظر تفصيل قول الأشعري في "البرهان"1/ 102 - 105، و"البحر المحيط" للزركشي 1/ 386.
(5) في الأصل: "والذي"، وبحذف الواو يستقيم المعنى.

(3/196)


تَركِه والخروجِ عنه؛ لأنَ ما ليس بمأمورٍ به لا يُذمُّ على تركِه.

فصل
يجمعُ الأجوبةَ عمّا تعلَّقوا به من الشُّبَهِ
فمنها: أن الآية لا تَعَلّقَ لهم فيها، وإنما الواردُ في [الآية] (1) أنها خطابٌ لكفَّار أهلِ الكتاب، وكأنه يقولُ: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمِنوا بمحمدٍ. وقد قيل: إنَّه خطابٌ لمؤمني أُمته، لكن المرادُ به الأمرُ بالاستدامةِ، وتقديرُه: استَديموا إيمانكم، مثل قوله: {اِهْدِنَا السَّراطَ (2) المُسْتقِيم} [الفاتحة: 6]، والمرادُ به: أدِم لنا ما مَنحتنا مِن هدايتك.
وإذا تقررَ أنه امر باستدامةِ (3) الإيمان، فنحنُ لا نَمنع من ذلك؛ لأنه أمرٌ بإيجاد الفعل في المستقبل، وذلك غيرُ موجودٍ في الحال، فتقديره: يا أيها الذين اَمنوا الآن، لا تكفروا في مستقبلِ الحالِ، بل آمنوا في الحال الثانيةِ كما آمنتُم الآن.
وأما تعلقهم بذم الكافر فلأجلِ إصرارِه على الكفر، مع قدورته على الخروجِ منه بفعل ضده، وهو الإيمانُ، فهو كالقاعدِ يُؤمر بالقيام، والقائمِ يؤمرُ بالقعودِ، بخلافِ الإيمان، فإنَّ المؤمنَ لا يصحّ أن يَفعَله إلا في مستقبلِ الحالِ التي هو فيها مؤمن، فهو كالقيامِ لا يصحّ أن يفعلَه القائمُ لاستغنائه بوجودِه عن موجِد، وأما استحقاقُ الذمِّ للكافر؛ فلأجلِ تركه الإيمانَ، ومُقامه على الكفرِ زماناً بعدَ زمانٍ، وهو الإصرارُ، لا لِسوى ذلك (4).
__________
(1) طمست في الأصل، وقدرناها حسب المعنى.
(2) هذه قراءة ابن كثير المكي في رواية القواس: "السراط" بالسين، وقرأها الباقون بالصاد. انظر "حجة القراءات" لأبي زُرعة محمد بن زنجلة: 80.
(3) في الأصل: "بالاستدامة".
(4) انظر "العدة"2/ 400 - 401.

(3/197)